زاد المسير في علم التفسير

ابن الجوزي

الجزء الأول

الجزء الأول مقدمة التحقيق (بسم الله الرّحمن الرّحيم) الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله، أرسله على فترة من الرّسل، وضلال من الناس، ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى، وأيّده بالمعجزات الباهرة والآيات الساطعة الدالّة على صدقه وصدق دعوته. ومن أهم تلك المعجزات التي أعزّ الله بها نبيّه، وهذه الأمّة، كتاب الله وكلامه المنزّل على محمد صلّى الله عليه وسلّم. ترجمة ابن الجوزي «1» هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي التيميّ البكري الحنبليّ، الواعظ، ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصدّيق، واشتهر بابن الجوزي نسبة إلى شرعة الجوز، إحدى محالّ بغداد بالجانب الغربي، وقيل: نسبة إلى جوزة كانت في دار جدّه السابع جعفر بن عبد الله بواسط. ولد ابن الجوزي ببغداد سنة 508 هـ وقيل سنة 510 هـ، وقيل سنة 514 هـ. ولما ترعرع حفظ القرآن وقرأه على جماعة بالروايات، ثم طلب العلم على جمع كثير من العلماء. وقد اشتغل بالوعظ وأوتي حظا عظيما وصيتا بعيدا فيه، فكان يحضر مجالسه الملوك والوزراء والأئمة الكبار. وكان مجلسه لا ينقص عن ألوف كثيرة حتى قيل في بعض مجالسه: إنه حزر الجمع بمائة ألف.

_ (1) انظر عنه في: التكملة لوفيات النقلة 1/ 394، 395 رقم 608، ومشيخة النعّال 140- 142، ورحلة ابن جبير 196- 200، والتقييد لابن نقطة 343، 344 رقم 422، ومرآة الزمان ج 8 ق 2/ 481- 502، ووفيات الأعيان 3/ 140- 142 رقم 370، وتذكرة الحفاظ 4/ 1342، 1348، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 399- 433، والوافي بالوفيات 18/ 186- 194 رقم 23، وتاريخ الإسلام للذهبي (591- 600) ص ص 287- 305 رقم 371، وسير أعلام النبلاء له 21/ 365- 384 رقم 192، وشذرات الذهب 4/ 329- 331، ومعجم المؤلفين 5/ 157، 158، ومعجم طبقات الحفاظ والمفسرين 109 رقم 1063.

قال الشيخ موفق الدين المقدسي: «كان ابن الجوزي إمام عصره في الوعظ، وصنّف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، وكان يدرّس الفقه ويصنّف فيه، وكان حافظا للحديث وصنّف فيه..» . وقال ابن رجب: نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم ميله إلى التأويل في بعض كلامه، واشتدّ نكيرهم عليه في ذلك.. ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف وهو وإن كان مطلقا على الأحاديث والآثار فلم يكن يحلّ شبه المتكلمين وبيان فسادها. وكان ابن الجوزي معظّما لأبي الوفاء بن عقيل متابعا لأكثر ما يجده من كلامه، وإن كان قد ردّ عليه في بعض المسائل. وكان ابن عقيل بارعا في الكلام، ولم يكن تامّ الخبرة بالحديث والآثار. فلهذا يضطرب تأويله في هذا الباب وتتلوّن فيه آراؤه. وأبو الفرج تابع له في هذا التلوّن. وتصانيف ابن الجوزي كثيرة جدة بلغت، فيما قيل، خمسين ومائتين كتاب، وقد نقل ابن رجب عن ابن القطيعي أن ابن الجوزي ناوله كتابا بخطه سرد فيه تصانيفه. قال ابن الجوزي: أول ما صنّفت وألّفت ولي من العمر ثلاث عشرة سنة. ومن تصانيفه في التفسير: المغني- تذكرة الأريب في معرفة الغريب- نزهة العيون النواظر في الوجوه والنظائر- عمدة الراسخ في معرفة المنسوخ والناسخ- زاد المسير في علم التفسير وهو الكتاب الذي نقدّم له. وفي التوحيد وعلم الكلام: دفع شبه التشبه- منهاج الوصول إلى علم الأصول. وفي علم الحديث: جامع المسانيد- غرر الأثر- الموضوعات- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية. كما صنف في الفقه وفي التاريخ والوعظ وعلم الرجال «1» . توفي ابن الجوزي ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من شهر رمضان سنة 597 هـ/ 1201 م، وله من العمر سبع وثمانون سنة. وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمع كثيرا جدا، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد بن حنبل. وكان يوما مشهودا حتى قيل: إنه أفطر جماعة من كثرة الزحام وشدة الحر. وكان قد أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات: يا كثير العفو يا من ... كثرت ذنوبي لديه جاءك المذنب يرجو ... الصّفح عن جرم يديه أنا ضيف وجزاء ... الضيف إحسان إليه

_ (1) وضع عبد الحميد العلوجي كتابا بعنوان «مؤلفات ابن الجوزي» طبع في بغداد سنة 1965. كما نشرت ناجية عبد الله إبراهيم رسالة بعنوان «ابن الجوزي- فهرست كتبه» في مجلة المجمع العلمي العراقي، العدد 31، 1980.

زاد المسير في علم التفسير

زاد المسير في علم التفسير أقبل المسلمون على كتاب ربهم وكلام خالقهم دراسة وحفظا وعملا، وألّفوا في علومه كتبا ومؤلفات عديدة في التفسير والقراءات واستنباط الأحكام والإعجاز والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والغريب والمبهمات والفضائل والقصص وغير ذلك. ومن أهم كتب التفسير للقرآن الكريم كتاب «زاد المسير في علم التفسير» لابن الجوزي الذي عمد إلى كتب الذين سبقوه في التفسير فأشبعها دراسة واستفاد من الثغرات التي كانت في تفاسيرهم، ووضع تفسيره هذا مخلّصا إياه من التطويل المملّ ومن الاختصار المخلّ. وقال في مقدمة كتابه: ( ... أني نظرت في جملة من كتب التفسير فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه، والمتوسط منها قليل الفوائد، عديم الترتيب، وربما أهمل فيه المشكل وشرح غير الغريب، فأتيتك بهذا المختصر اليسير، منطويا على العلم الغزير، ووسمته ب «زاد المسير في علم التفسير» ) . فجاء كتابه وسطا بين التفاسير الطويلة والمختصرة الشديدة الاختصار، مع تميّزه بجملة من الخصائص، إضافة إلى أسلوب ابن الجوزي السّلس المتين والسهل الممتنع. ومن هذه الخصائص أنه تحدّث عمن نزلت بعض الآيات فيهم، وذكر القراءات المشهورة والشاذة أحيانا، وتوقف عند الآيات المنسوخة والتي اختلف العلماء حولها أمنسوخة هي أم لا؟ وأورد أقوال العلماء بهذا الصدد، بالإضافة إلى ردّه كل قول إلى مصدره معتمدا على علماء اللغة مثل: ابن قتيبة وأبي عبيدة والخليل بن أحمد الفراهيدي وعلى النحاة مثل: الفرّاء والزجّاج والأخفش والكسائي ومحمد بن القاسم النحوي وعلى القرّاء مثل: الجحدري وعاصم وغيرهم. منهج التحقيق عملنا في هذا الكتاب على: - تخريج الأحاديث المرفوعة، وما له حكم الرفع تخريجا وافيا. - تصدير التخريج بقولنا «صحيح» ، «حسن» ، «ضعيف» ... وذلك تسهيلا على الطالب واختصارا لوقته. - ترقيم الأحاديث المخرجة ترقيما تسلسليا. - تصويب ما وقع فيه تصحيف أو تحريف. - تخريج الآيات وذلك بذكر اسم السورة ورقم الآية. - شرح بعض المفردات الغربية. هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل متقبلا وأن ينفع به المؤمنين إنه خير سميع وخير بصير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

خطبة الكتاب

خطبة الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم) ربّ يسّر وأعن الحمد لله الذي شرّفنا على الأمم بالقرآن المجيد، ودعانا بتوفيقه على الحكم إلى الأمر الرشيد، وقوّم به نفوسنا بين الوعد والوعيد، وحفظه من تغيير الجهول وتحريف العنيد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. أحمده على التوفيق للتحميد، وأشكره على التحقيق في التوحيد، وأشهد أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، شهادة يبقى ذخرها على التأبيد، وأن محمّدا عبده ورسوله أرسله إلى القريب والبعيد، بشيرا للخلائق ونذيرا، وسراجا في الأكوان منيرا، ووهب له من فضله خيرا كثيرا، وجعله مقدّما على الكلّ كبيرا، ولم يجعل له من أرباب جنسه نظيرا، ونهى أن يدعى باسمه تعظيما له وتوقيرا، وأنزل عليه كلاما قرّر صدق قوله بالتحدي بمثله تقريرا، فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1» . فصلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه وأشياعه، وسلّم تسليما كثيرا. وبعد لمّا كان القرآن العزيز أشرف العلوم، كان الفهم لمعانيه أو في الفهوم، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، وإني نظرت في جملة من كتب التفسير، فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه، والمتوسّط منها قليل الفوائد، عديم الترتيب، وربما أهمل فيه المشكل، وشرح غير الغريب، فأتيتك بهذا المختصر اليسير، منطويا على العلم الغزير، ووسمته ب «زاد المسير في علم التفسير» . وقد بالغت في اختصار لفظه، فاجتهد- وفّقك الله- في حفظه، والله المعين على تحقيقه، فما زال جائدا بتوفيقه. فصل في فضل علم التفسير (1) روى أبو عبد الرحمن السّلميّ، عن ابن مسعود قال: كنا نتعلّم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العشر، فلا

_ صحيح. أخرجه الطبري 82 من طريق عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ... فذكره. والسلمي أحد تلامذة ابن مسعود، فهو المراد، وكأنه أراد أنه سمع مثل ذلك عن غير ابن مسعود حيث لم يسمه. وأخرجه الطبري 81 من وجه آخر عن أبي وائل عن ابن مسعود وإسناده صحيح على شرط مسلم.

فصل في مدة نزول القرآن

نجاوزها إلى العشر الأخر حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل. وروى قتادة عن الحسن أنّه قال: ما أنزل الله آية إلا أحبّ أن أعلم فيم أنزلت، وماذا عنى بها. وقال إياس بن معاوية: مثل من يقرأ القرآن ومن يعلم تفسيره أو لا يعلم، مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا، وليس عندهم مصباح، فتداخلهم لمجيء الكتاب روعة لا يدرون ما فيه، فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه. فصل: اختلف العلماء: هل التّفسير والتّأويل بمعنى، أم يختلفان؟ فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى، وهذا قول جمهور المفسّرين المتقدّمين. وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما، فقالوا: التفسير: إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التّجلّي. والتأويل: نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهو مأخوذ من قولك: آل الشيء إلى كذا، أي: صار إليه. فصل في مدّة نزول القرآن روى عكرمة عن ابن عباس قال: أُنزلَ القرآنُ جملة واحدة من اللّوح المحفوظ في ليلة القدر إلى بيت العزّة، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة «1» . وقال الشعبي: فرّق الله تنزيل القرآن، فكان بين أوله وآخره عشرون سنة. وقال الحسن: ذكر لنا أنه كان بين أوّله وآخره ثماني عشرة سنة، أنزل عليه بمكة ثماني سنين، وبالمدينة عشر سنين. فصل: واختلفوا في أول ما نزل من القرآن: (2) فأثبت المنقول أنّ أول ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «2» ، رواه عروة عن عائشة وبه قال

_ صحيح. أخرجه البخاري 3 ومسلم 160 وأحمد 6/ 232- 233. والطيالسي 1467 وابن حبان 33 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 135- 136 من حديث عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ» قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ! قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ! قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» . فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: «زملوني زملوني» ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى- ابن عم خديجة- وكان امرأ تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مخرجي هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي، وفتر الوحي. واللفظ للبخاري.

قتادة وأبو صالح. وروي عن جابر بن عبد الله: أن أوّل ما نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. والصحيح أنه لما نزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ رجع فتدثّر فنزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. (3) يدل عليه ما أخرج في «الصحيحين» من حديث جابر قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجثثت منه رعبا، فرجعت فقلت: زمّلوني، زمّلوني، فدثّروني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» ، ومعنى جثثت: فرقت. يقال: رجل مجؤوث ومجثوث. وقد صحّفه بعض الرواة فقال: جبنت، من الجبن، والصحيح الأول. وروي عن الحسن وعكرمة: أن أوّل ما نزل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. فصل: واختلفوا في آخر ما نزل: (4) فروى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس، قال: آخر آية أنزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، آية الرّبا «1» . (5) وفي أفراد مسلم عنه: آخر سورة نزلت جميعا: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «2» . (6) وروى الضّحّاك عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «3» ، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي صالح. (7) وروى أبو إسحاق عن البراء قال: آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «4» ، وآخر سورة نزلت «براءة» . (8) وروي عن أبيّ بن كعب: أن آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «5» ، إلى آخر السورة.

_ أخرجه البخاري 3238 و 4925 ومسلم 161 والترمذي 3325 وابن حبان 34، وسيأتي في سورة المدثر. صحيح. أخرجه البخاري 4544 عن ابن عباس، ويأتي. يأتي في سورة النصر. يأتي ذكر الحديث عند الآية 281 من سورة البقرة. صحيح. أخرجه البخاري 4654 عن البراء. حسن. أخرجه أحمد 5/ 117 من طريق شعبة عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس عن أبي بن كعب به. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، ويوسف هو ابن مهران لين الحديث، وثقه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ويذاكر، وقال أحمد: لا يعرف. نقله الذهبي في «الميزان» 4/ 474. وقال الحافظ في «التقريب» : يوسف بن مهران، ليس هو يوسف بن ماهك، ذاك ثقة، وهذا لم يرو عنه إلّا ابن جدعان، وهو لين الحديث. وأخرجه الحاكم 2/ 338 من وجه آخر عن شعبة عن يونس بن عبيد وعلي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران به. وقال: حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي!. وليس كما قالا، فقد ظن الحاكم أن الذي في الإسناد هو يوسف بن ماهك، فذاك روى له الشيخان، وقد فرّق بينهما ابن حجر كما تقدم، وكذا الذهبي في «الميزان» 4/ 474. فالإسناد لين، لكن توبع، فقد أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» ص 38 من وجه آخر وفيه أبو جعفر الرازي وهو ضعيف الحديث، لكن يصلح للمتابعة. فالحديث حسن من جهة الإسناد. - ويأتي الكلام على الجمع بين هذه الأحاديث إن شاء الله، والله أعلم.

فصل في الاستعاذة

فصل: لما رأيت جمهور كتب المفسّرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة في كتب، فربّ تفسير أخلّ فيه بعلم النّاسخ والمنسوخ، أو ببعضه، فإن وجد فيه لم يوجد أسباب النزول، أو أكثرها، فإن وجد لم يوجد بيان المكيّ من المدنيّ، وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة إلى حكم الآية، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع في الآية، إلى غير ذلك من الفنون المطلوبة. وقد أدرجت في هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه. وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة، ولم أغادر من الأقوال التي أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ، فإذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره، فهو لا يخلو من أمرين: إِما أن يكون قد سبق، وإِما أن يكون ظاهرا لا يحتاج إلى تفسير. وقد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير، فأخذ منها الأصحّ والأحسن والأصون، فنظمه في عبارة الاختصار. وهذا حين شروعنا فيما ابتدأنا له، والله الموفّق. فصل في الاستعاذة قد أمر الله عزّ وجلّ بالاستعاذة عند القراءة بقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) «1» ، ومعناه: إذا أردت القراءة. ومعنى أعوذ: ألجأ وألوذ. فصل في بسْم اللهِ الرحمنِ الرحيم قال ابن عمر: نزلت في كل سورة. وقد اختلف العلماء: هل هي آية كاملة، أم لا؟ وفيه عن أحمد روايتان، واختلفوا: هل هي من الفاتحة، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان أيضاً. فأما من قال: إِنها من الفاتحة، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إِذا قال بوجوب الفاتحة، وأما من لم يرها من الفاتحة، فانه يقول: قراءتها في الصلاة سنة، ما

_ (1) النحل: 98.

عدا مالكاً فانه لا يستحب قراءتها في الصلاة «1» . واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به «2» ، فنقل جماعة عن أحمد: أنه لا يسن الجهر بها، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن مغفَّل، وابن الزبير، وابن عباس، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم: الحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وابراهيم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وسفيان الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأبو عبيد في آخرين. وذهب الشافعي إِلى أن الجهر بها مسنون، وهو مروي عن معاوية بن أبي سفيان، وعطاء، وطاوس، ومجاهد. فأما تفسيرها: فقوله: بِسْمِ اللَّهِ اختصار، كأنه قال: أبدأ باسم الله، أو: بدأت باسم الله. وفي الاسم خمس لغات: إِسم بكسر الألف، وأُسم بضم الألف إذا ابتدأت بها، وسم بكسر السين، وسم

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 1/ 132: وجملة مذهب مالك وأصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة، ولا في غيرها سرا ولا جهرا. ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور في مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن. وروي عن ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصّلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول: إنه لا بد فيها من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ منهم ابن عمر وابن شهاب. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية كما ظن بعض الجهّال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين، وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور، والحمد لله. وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة، منهم: أبو حنيفة، والثوري وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمّار وابن الزبير، وهو قول الحكم وحمّاد وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد، وروي عن الأوزاعي مثل ذلك. وانظر المغني 2/ 147- 149. (2) قال الإمام الموفّق رحمه الله في «المغني» 2/ 149- 151: ولا تختلف الرّواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون. قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن بعدهم التابعين منهم أبو بكر وعمر وعثمان، وعليّ. وذكره ابن المنذر، عن ابن مسعود، وابن الزبير وعمار. وبه يقول الحكم وحمّاد، والأوزاعي، والثّوري، وابن المبارك، وأصحاب الرأي. ويروى عن عطاء، وطاوس، ومجاهد وسعيد بن جبير، الجهر بها. وهو مذهب الشافعي لحديث أبي هريرة، أنّه قرأها في الصّلاة. وقد صح عنه أنه قال: ما أسمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسمعناكم، وما أخفى أخفيناه عليكم. متفق عليه. وعن أنس، أنه صلّى وجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم. وقال: أقتدي بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولما تقدّم من حديث أم سلمة وغيره، ولأنّها آية من الفاتحة فيجهر بها الإمام في صلاة الجهر، كسائر آياتها. ولنا حديث أنس وعبد الله بن المغفّل، وعن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين. متفق عليه. وروى أبو هريرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال الله: حمدني عبدي» وذكر الخبر. أخرجه مسلم. وهذا يدل على أنّه لم يذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، ولم يجهر بها. وحديث أبي هريرة الذي احتجوا به ليس فيه أنّه جهر بها، ولا يمتنع أن يسمع منه حال الإسرار، كما سمع الاستفتاح والاستعاذة من النبي صلّى الله عليه وسلّم، مع إسراره بهما، وقد روى أبو قتادة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يسمعهم الآية أحيانا في صلاة الظهر. متفق عليه. وحديث أم سلمة ليس فيه أنه جهر بها، وسائر أخبار الجهر ضعيفة، فإن رواتها هم رواة الإخفاء، وإسناد الإخفاء صحيح ثابت بغير خلاف فيه، فدل على ضعف رواية الجهر، وقد بلغنا أن الدارقطني قال: لم يصح في الجهر حديث.

بضمّها، وسما. قال الشاعر «1» : والله أسماك سمى مباركا ... آثرك الله به إيثاركا وأَنشدوا «2» : باسم الذي في كل سورةٍ سمه قال الفراء: بعض قيس يقولون: سمه، يريدون: اسمه، وبعض قضاعة يقولون: سُمُه. أَنشدني بعضهم: وعامنا أَعجبنا مقدّمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سُمُه «3» والقرضاب: القطاع، يقال: سيف قرضاب. واختلف العلماء في اسم الله الذي هو «الله» فقال قوم: إِنه مشتق، وقال آخرون: إنه علم ليس بمشتق. وفيه عن الخليل روايتان: إِحداهما: أنه ليس بمشتق، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن. والثانية: رواها عنه سيبويه: أنه مشتق. وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من: أله الرجل يأله: إِذا فزع اليه من أمر نزل به. فألهه، أي: أجاره وأمَّنه، فسمي إِلهاً كما يسمّى الرجل إِماماً. وقال غيره: أصله ولاه. فأبدلت الواو همزة فقيل: إله كما قالوا: وسادة وإسادة، ووشاح وإِشاح. واشتق من الوله، لأن قلوب العباد توله نحوه، كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ «4» . وكان القياس أن يقال: مألوه، كما قيل: معبود، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علماً، كما قالوا للمكتوب: كتاب، وللمحسوب: حساب. وقال بعضهم: أصله من: أله الرجل يأله إِذا تحير، لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته. وحكي عن بعض اللغويين: أله الرجل يأله إِلاهة، بمعنى: عبد يعبد عبادة. وروي عن ابن عباس أنه قال: «ويذرك وإلاهتك» أي: عبادتك. قال: والتأله: التعبد. قال رؤبة: لله در الغانيات المدَّه ... سبَّحن واسترجعن من تألهي فمعنى الإِله: المعبود. فأما «الرَّحمن» : فذهب الجمهور إِلى أنه مشتق من الرحمة، مبني على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها. وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء: ملآن، وللشديد الشبع: شبعان. قال الخطابي: ف «الرحمن» : ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر. و «الرحيم» : خاصّ للمؤمنين. قال عزّ وجلّ: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «5» . والرحيم: بمعنى الرّاحم.

_ (1) هو أبو خالد القناني كما في «اللسان» 14/ 401، 402 مادة (سما) . [.....] (2) هو لرؤبة بن العجّاج وتمامه: قد وردت على طريق تعلمه. (3) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 1/ 137: قرضب الرّجل: إذا أكل شيئا يابسا فهو قرضاب. وفي «القاموس» القرضاب: الذي لا يدع شيئا إلا أكله. (4) النحل: 53. (5) الأحزاب: 43.

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) (9) روى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال- وقرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن- فقال: «والذي نفسي بيده، ما أُنزل في التوراة، ولا في الانجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» . فمن أسمائها: الفاتحة، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة. ومن أسمائها: أم القرآن، وأم الكتاب، لأنها أمت الكتاب بالتقدم. ومن أسمائها: السَّبع المثاني، وإنما سميت بذلك لما سنشرحه في (الحجر) إن شاء الله. واختلف العلماء في نزولها على قولين: أحدهما: أنها مكية، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وأبي العالية، وقتادة، وأبي ميسرة. والثاني: أنها مدنية، وهو مرويّ عن أبي هريرة، ومجاهد، وعبيد بن عمير، وعطاء الخراساني. وعن ابن عباس كالقولين «1» .

_ صحيح. أخرجه الترمذي 3125 والنسائي 2/ 139 وأحمد 5/ 114 وابن خزيمة 500 وابن حبان 775 وصححه الحاكم 1/ 557 ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وأخرجه الترمذي 2875 والطبري 15889 والبغوي 1183 من حديث أبي هريرة مطوّلا، وإسناده حسن. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ووافقه البغوي وعجزه، أخرجه البخاري 4704 من حديث أبي هريرة أيضا. وفي الباب من حديث أبي سعيد بن المعلى أخرجه البخاري 4474 و 4647 و 4703 و 5006 وأبو داود 1458 وابن ماجة 3785 والطيالسي 2/ 9 وأحمد 3/ 211 و 450 وابن حبّان 777 والطبراني 22/ 303 والبيهقي 2/ 368 وانظر «فتح الباري» 8/ 157.

فصل: فأما تفسيرها: ف الْحَمْدُ رفع بالابتداء، ولِلَّهِ الخبر. والمعنى: الحمد ثابت لله، ومستقرّ له، والجمهور على كسر لام «لله» ، وضمها ابن [أبي] «1» عبلة، قال الفراء: هي لغة بعض بني ربيعة، وقرأ ابن السَّميفع «2» : «الحمد» بنصب الدال «لله» بكسر اللام. وقرأ أبو نهيك بكسر الدال واللام جميعا. واعلم أن الحمد: ثناء على المحمود، ويشاركه الشكر، إلا أن بينهما فرقاً، وهو: أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء، والشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة، وقيل: لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، فتقديره: قولوا: الحمد لله. وقال ابن قتيبة: (الحمد) الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة، وأشباه ذلك. والشكر: الثناء عليه بمعروف أو لاكه، وقد يوضع الحمد موضع الشكر. فيقال: حمدته على معروفه عندي، كما يقال: شكرت له على شجاعته. فأما «الرب» فهو المالك، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالاضافة، فيقال: هذا رب الدار، ورب العبد. وقيل: هو مأخوذ من التربية. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: ربّ فلان صنيعته يربها رباً: إذا أتمها وأصلحها، فهو ربّ ورابٌ. قال الشاعر: يربّ الذي يأتي من الخير إنه ... إذا سئل المعروف زاد وتمُّما قال: والرب يقال على ثلاثة أوجه: أحدها: المالك. يقال: رب الدار. والثاني: المصلح، يقال: رب الشيء. والثالث: السيد المطاع. قال تعالى: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً «3» . والجمهور على خفض باء «ربِّ» . وقرأ أبو العالية، وابن السّميفع، وعيسى بن عمر بنصبها. وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خثيم «4» وأبو عمران الجوني، برفعها. فأما الْعالَمِينَ فجمع عالم، وهو عند أهل العربية: اسم للخلق من مبتداهم إلى منتهاهم، وقد سموا أهل الزمان الحاضر عالما. فقال الحطيئة: أراح الله منك العالمينا «5»

_ (1) سقط من نسخ المطبوع، والاستدراك عن كتب التراجم، و «تفسير القرطبي» 1/ 181 طبع «دار الكتاب العربي» بتخريجنا. وابن أبي عبلة اسمه إبراهيم، تابعي ثقة، توفي سنة 152. (2) كذا في الأصل و «الميزان» للذهبي و «اللسان» لابن حجر، ووقع في «لسان العرب» و «شرح القاموس» «السميقع» . والمثبت هو الراجح، فإن الذهبي ضبطه كذلك، وهو إمام علم الحديث والرجال من المتأخرين. قال الذهبي في «الميزان» 3/ 575: محمد بن السّميفع اليماني، أحد القرّاء، له قراءة شاذة منقطعة السند، قاله أبو عمرو الدّاني وغيره، روى أخباره محمد بن مسلم المكي ذاك الواهي. (3) يوسف: 41. (4) وقع في المطبوع هنا وبعد قليل: (خيثم) والتصويب عن «التقريب» وكتب التراجم. (5) هو عجز بيت، وصدره: تنحي فاجلسي مني بعيدا.

فأمّا أهل النظر، فالعالم عندهم: اسم يقع على الكون الكلي المحدث من فلكٍ، وسماء، وأرض، وما بين ذلك. وفي اشتقاق «العالم» قولان: أحدهما: أنه من العلم، وهو يقوي قول أهل اللغة. والثاني: أنه من العلامة، وهو يقوي قول أهل النظر، فكأنه إنما سمي عندهم بذلك، لانه دالٌ على خالقه. وللمفسرين في المراد ب «العالمين» هاهنا خمسة أقول: أحدها: الخلق كلّه، السّماوات والأرضون ما فيهنّ وما بينهن. رواه الضحّاك عن ابن عباس. والثاني: كل ذي رُوح دب على وجه الأرض. رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم الجن والإنس. روي ايضا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، ومقاتل. والرابع: أنهم الجن والإنس والملائكة، نقل عن ابن عباس أيضا، واختاره ابن قتيبة. والخامس: أنهم الملائكة، وهو مروي عن ابن عباس أيضا. قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) . قرأ أبو العالية، وابن السميفع، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما، وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خثيم، وأبو عمران الجوني بالرفع فيهما. قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) . قرأ عاصم والكسائيّ، وخلق ويعقوب: «مالك» بألف. وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة كذلك، إِلا أنهما نصبا الكاف. وقرأ أبو هريرة، وعاصم الجحدري: «ملْكِ» باسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف، وقرأ أبو عثمان النهدي، والشعبي «مَلِكَ» بكسر اللام ونصب الكاف من غير ألف. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعائشة، ومورَّق العجلي: «مَلِكُ» مثل ذلك إلا أنهم رفعوا الكاف. وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو رجاء العطاردي «مليك» بياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف. وقرأ عمرو بن العاص كذلك، إلا أنه ضمَّ الكاف. وقرأَ أبو حنيفة، وأبو حياة «مَلكَ» على الفعل الماضي، «ويومَ» بالنصب. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو: إِسكان اللام، والمشهور عن أبي عمرو وجمهور القراء «مَلِك» بفتح الميم مع كسر اللام، وهو أظهر في المدح، لأن كل ملك مالك، وليس كلّ مالك ملكا. وفي «الدّين» ها هنا قولان: أحدهما: أنه الحساب. قاله ابن مسعود. والثاني: الجزاء. قاله ابن عباس. ولما أخبر الله عزّ وجلّ في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ أنه مالك الدنيا. دل بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ على أنه مالك الأخرى. وقيل: إِنما خصَّ يوم الدين، لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه. قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو مجلز «يُعْبَدُ» بضم الياء وفتح الباء. قال ابن الأنباري: المعنى: قل يا محمد: إِياك يعبد، والعرب ترجع من الغيبة إِلى الخطاب، ومن الخطاب الى الغيبة كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ «1» ، وقوله: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً «2» . وقال لبيد: باتت تشكى إليَّ النفس مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا وفي المراد بهذه العبارة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى التوحيد. روي عن علي، وابن عباس في آخرين. والثاني: أنها بمعنى الطاعة، كقوله: لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ «3» . والثالث: أنها بمعنى

_ (1) يونس: 22. (2) الدهر: 21، 22. (3) يس: 60.

الدعاء كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «1» . قوله تعالى: اهْدِنَا فيه أربعة أقوال: أحدها: ثبتنا. قاله عليّ، وأبيّ. والثاني: أرشدنا. والثالث: وفقنا. والرابع: ألهمنا. رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس. والصِّراطَ: الطريق. ويقال: إِن أصله بالسين، لأنه من الاستراط وهو: الابتلاع، فالسراط كأنه يسترط المارّين عليه، فمن قرأ بالسين، كمجاهد، وابن محيصن، ويعقوب، فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصاد، كأبي عمرو، والجمهور، فلأنها أَخف على اللسان، ومن قرأ بالزاي، كرواية الأصمعي عن أبي عمرو، واحتج بقول العرب: صقر وسقر وزقر. وروي عن حمزة: إِشمام السين زاياً، وروي عنه أنه تلفظ بالصراط بين الصاد والزاي. قال الفراء: اللغة الجيدة بالصاد، وهي لغة قريش الأولى، وعامة العرب يجعلونها سيناً، وبعض قيس يشمُّون الصاد، فيقول: الصراط بين الصاد والسين، وكان حمزة يقرأ «الزراط» بالزاي، وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين. يقولون في «أصدق» : أزدق. وفي المراد بالصّراط ها هنا أربعة أقوال: (10) أحدها: أنه كتاب الله، رواه عليّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

_ المرفوع ضعيف، والصحيح موقوف. ورد من وجوه متعددة، أشهرها حديث الحارث الأعور، قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أنّ النّاس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن- أي لم يتوقفوا- في قبوله، وأنه كلام الله تعالى إذ سمعته حتى قالوا: إِنّا سَمِعْنا قرآناً عَجَباً يَهدي إِلى الرُّشْد فآمنا به، من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» خذها إليك يا أعور. أخرجه الترمذي 2906 وابن أبي شيبة 10/ 482 والدارمي 2/ 435 والبزار في مسنده 3/ 71- 72 والفريابي في «فضائل القرآن» 81 وأبو بكر الأنباري في «إيضاح الوقف والابتداء» 1/ 5- 6. ومحمد بن نصر المروزي في «قيام الليل» ص 157 ويحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» 1/ 91 والبيهقي في «الشعب» 4/ 496- 497 من طريق حمزة الزّيات بهذا الإسناد، وإسناده ضعيف لضعف الحارث بن عبد الله. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال اه. وورد من طريق سعيد بن سنان البرجمي عن عروة بن مرة عن سعيد بن فيروز عن الحارث الأعور به. عند الدارمي 2/ 435- 436 والفريابي في «فضائل القرآن» 79، والبزار 3/ 70- 71 وأبو الفضل الرازي في «فضائل القرآن» 35. وأخرجه أحمد 1/ 91 وأبو يعلى 1/ 302- 303 والبزار 3/ 70 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث به. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 8/ 321 من طريق أبي هاشم عمن سمع عليا ... وهذا إسناد ضعيف، فيه من لم يسم، والظاهر أنه الحارث، وقال الحافظ ابن كثير في «فضائل القرآن» ص 17- 18 بعد أن ذكر هذه الروايات وتكلم عليها: وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح اه. وله شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 21 وابن الضريس 58 والحاكم 1/ 555 والآجري في «أخلاق حملة القرآن» 11 وابن حبان في «المجروحين» 1/ 100 وأبو الشيخ في «طبقات أصبهان» 4/ 252 وأبو الفضل الرازي 30 وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» 2/ 278 وابن الجوزي في «العلل» 1/ 101- 102 ويحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» 1/ 88 والبيهقي في «الشعب» 4/ 550. وإسناده ضعيف فيه إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو لين الحديث. والحديث صححه الحاكم، وقال الذهبي: إبراهيم بن مسلم ضعيف اه. وقال ابن الجوزي: يشبه أن يكون من كلام ابن مسعود اه. وقال ابن كثير في «فضائل القرآن» ص 17- 18: وهذا غريب من هذا الوجه، وإبراهيم بن مسلم هو أحد التابعين، ولكن تكلموا فيه كثيرا، وقال أبو حاتم الرازي: لين ليس بالقوي. وقال أبو الفتح الأزدي: رفّاع كثير الوهم. قال ابن كثير: فيحتمل- والله أعلم- أن يكون وهم في رفع هذا الحديث وإنما هو من كلام ابن مسعود ولكن له شاهد من وجه آخر والله أعلم اه. - والموقوف على ابن مسعود أخرجه الدارمي 2/ 431 والطبراني في «الكبير» 9/ 139 وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» 2/ 272 وأبو الفضل الرازي 31 و 32 والبيهقي في «الشعب» 4/ 549. - وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبري 7570 وفيه عطية العوفي، وهو ضعيف، والأشبه في هذه الأحاديث كونها موقوفة على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وقد أنكر الذهبي رحمه الله هذا الحديث، كونه مرفوعا، وصوّب ابن كثير فيه الوقف، وهو الراجح، والله أعلم.

والثاني: أنه دين الاسلام. قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وأبو العالية في آخرين. والثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والرابع: أنه طريق الجنة، نقل عن ابن عباس أيضاً. فان قيل: ما معنى سؤال المسلمين الهداية وهم مهتدون؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المعنى: إِهدنا لزوم الصراط، فحذف اللزوم. قاله ابن الأنباري. والثاني: أن المعنى: ثبتنا على الهدى، تقول العرب للقائم: قم حتى آتيك، أي: اثبت على حالك. والثالث: أن المعنى: زدنا هداية. قوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. قال ابن عباس: هم النبيُّون، والصديقون، والشهداء، والصالحون. وقرأ الأكثرون «عليهم» بكسر الهاء، وكذلك «لديهم» و «إِليهم» وقرأهنَّ حمزة بضمها. وكان ابن كثير يصل «1» ضم الميم بواو. وقال ابن الأنباري: حكى اللّغويون في «عليهم» عشر لغات، قرئ بعامّتها «عليهم» بضم الهاء وإسكان الميم «وعليهم» بكسر الهاء وإسكان الميم، و «وعليهمي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة، و «عليهُمو» بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة، و «عليهمو» بضم الهاء والميم وإِدخال واو بعد الميم، و «عليهُمُ» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو، وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القراء، وأوجه أربعة منقولة عن العرب «عليهُمي» بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم، و «عليهُمِ» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياءٍ، و «عليهِمُ» بكسر الهاء وضم الميم من غير إِلحاق واو، و «عليهِمِ» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. (11) فأما «المغضوب عليهم» فهم اليهود و «الضالون» : النصارى. رواه عدي بن حاتم عن

_ صحيح. أخرجه الترمذي 2954 وأحمد 4/ 378- 379 وابن حبان 7206 والبيهقي في «الدلائل» 5/ 339 341 والطبراني 17/ 237 من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال» ، وحسّن إسناده الترمذي. وقال الهيثمي في «المجمع» 5/ 335: رجال أحمد رجال الصحيح غير عباد بن حبيش، وهو ثقة اه. وتوبع عباد عند الطبري 207 وقد تقدم ومن وجه آخر 209 فهو صحيح. ويشهد له ما أخرجه أحمد 5/ 32- 33 والطبري 212 وعبد الرزاق في «تفسيره» 13 عن عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بوادي القرى، وهو على فرسه فسأله رجل من بلقين، فقال: يا رسول الله: «من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم- وأشار إلى اليهود- قال: فمن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضالين- يعني النصارى- قال: وجاء رجل فقال: استشهد مولاك، أو قال: غلامك فلان، قال: بل يجر إلى النار في عباءة غلها» . وإسناده إليه صحيح وجهالة الصحابي لا تضر. وانظر «المجمع» 10809 و 10810. وانظر «تفسير الشوكاني» 1/ 29 بتخريجنا.

النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن قتيبة: والضلال: الحيرة والعدول عن الحقّ. فصل: ومن السّنّة في حق قارئ الفاتحة أن يعقبها ب «آمين» . قال شيخنا أبو الحسن عليّ بن عبيد الله: وسواء كان خارج الصلاة أو فيها. (12) لما روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا قال الامام (غَيْرِ المغْضُوبِ عَليْهم ولا الضَّالين) فقال من خلفه: آمين، فوافق ذلك قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه» . وفي معنى «آمين» ثلاثة أقوال: أحدها: أن معنى آمين: كذلك يكون. حكاه ابن الأنباري عن ابن عباس، والحسن. والثاني: أنها بمعنى: اللهم استجب. قاله الحسن والزجاج. والثالث: أنه اسم من أسماء الله تعالى. قاله مجاهد، وهلال بن يساف، وجعفر بن محمد. وقال ابن قتيبة: معناها: يا أمين أجب دعاءنا، فسقطت يا، كما سقطت في قوله: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا «1» ، تأويله: يا يوسف. ومن طوَّل الألف فقال: آمين، أدخل ألف النداء على ألف أمين، كما يقال: آزيد أَقبل: ومعناه: يا زيد. قال ابن الأنباري: وهذا القول خطأ عند جميع النحويين، لأنه إِذا أدخل «يا» على «آمين» كان منادىً مفرداً، فحكم آخره الرفع، فلما أجمعت العرب على فتح نونه، دل على أنه غير منادى، وإنما فتحت نون «آمين» لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما تقول العرب: ليت، ولعل. قال: وفي «آمين» لغتان: «أمين» بالقصر، و «آمين» بالمد، والنون فيهما مفتوحة. أنشدنا أبو العباس عن ابن الاعرابي: سقى الله حياً بين صارة والحمى ... حمى فيْدَ صوبَ المُدْجِنات المواطر «2» أمين وأَدى الله ركباً إليهمُ ... بخير ووقَّاهم حمام المقادر

_ صحيح. أخرجه البخاري 780- 781- 782- 6402 ومسلم 410 وأبو داود 936 والترمذي 250 والنسائي 2/ 143- 144 وابن ماجة 852 ومالك 1/ 87 والشافعي في «المسند» 1/ 76 وعبد الرزاق في «المصنّف» 2644 وأحمد 2/ 233، والدارمي 1/ 284 وابن حبان 1804 والبيهقي في «السنن» 2/ 57 عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» قال ابن شهاب وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «آمين» . لفظ البخاري.

وأَنشدنا أبو العباس أيضاً: تباعد مني فُطْحُل وابن أمه ... أَمين فزاد الله ما بيننا بعدا وأنشدنا أبو العباس أيضاً: يا رب لا تسلبنّي حبها أبداً ... ويرحم الله عبداً قال آمينا وأَنشدني أَبي: أمين ومن أعطاك منّي هوادة ... رمى الله في أطرافه فاقفعلَّت «1» وأنشدني أبي: فقلت له قد هجت لي بارح الهوى ... أصَاب حمام الموت أَهوننا وجدا أمين وأضناه الهوى فوق ما به ... أمين ولاقى من تباريحه جهدا فصل: نقل الأكثرون عن أحمد أن الفاتحة شرط في صحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصح صلاته وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تتعين، وهي رواية عن أحمد «2» . (13) ويدل على الرواية الأولى: ما روي في «الصحيحين» من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .

_ صحيح. أخرجه البخاري 756 ومسلم 394 وأبو داود 822 والنسائي 2/ 137 والدارمي 1/ 283 وابن ماجة 837 وابن الجارود 185 والحميدي 386 والشافعي 1/ 75 وأحمد 5/ 314- 321 وابن حبّان 1782 و 1786 كلهم من حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . ورواية لمسلم «لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن» . وانظر «تفسير القرطبي» 1/ 154- 157 بتخريجي.

سورة البقرة

سورة البقرة (فصل في فضيلتها) (14) روى أبو هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإنّ البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشّيطان» . (15) وروى أبو أمامة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «أقرأوا الزّهراوين: البقرة وآل عمران، فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صوافّ، اقرءوا البقرة، فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» . والمراد بالزّهراوين: المنيرتين. يقال لكل منير: زاهر. والغياية: كل شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه، مثل السّحابة والغبرة. يقال: غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف، كأنهم أظلّوه به. قال لبيد: فتدلّيت عليه قافلا ... وعلى الأرض غيايات الطّفل ومعنى فرقان: قطعتان. والفرق: القطعة من الشيء. قال الله عزّ وجلّ: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «1» . والصوّاف: المصطفّة المتضامّة لتظلّ قارئها. والبطلة: السّحرة. (فصل في نزولها) قال ابن عباس: هي أوّل ما نزل بالمدينة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل. وذكر قوم أنها مدنية سوى آية، وهي قوله عزّ وجلّ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «2» ، فإنها نزلت يوم النّحر بمنى في حجّة الوداع. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البقرة (2) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) فصل: وأما التفسير فقوله: ألم. اختلف العلماء فيها وفي سائر الحروف المقطّعة في أوائل

_ صحيح. أخرجه مسلم 780 والترمذي 2877، والنسائي في «الكبرى» 6/ 10801. صحيح. أخرجه مسلم 804 من حديث أبي أمامة.

السور على ستة أقوال «1» : أحدها: أنها من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله. قال أبو بكر الصّديق رضي الله عنه: لله عزّ وجلّ في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن أوائل السور، وإلى هذا المعنى ذهب الشعبي، وأبو صالح، وابن زيد. والثاني: أنها حروف من أسماء، فاذا أُلفت ضرباً من التأليف كانت أسماء من أسماء الله عزّ وجلّ. قال علي بن أبي طالب: هي أسماء مقطعة، لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إِذا دعي به أجاب. وسئل ابن عباس عن «آلر» و «حم» و «نون» ، فقال: اسم الرحمن على الهجاء، وإِلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والربيع بن أنس. والثالث: أنها حروف أقسم الله بها، قاله ابن عباس، وعكرمة. قال ابن قتيبة: ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطعة كلها، واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل: تعلمت «أب ت ث» وهو يريد سائر الحروف، وكما يقول: قرأت الحمد، يريد فاتحة الكتاب، فيسميها بأول حرف منها، وإِنما أقسم بحروف المعجم لشرفها، ولأنها مباني كتبه المنزلة، وبها يذكر ويوحد. قال ابن الانباري: وجواب القسم محذوف، تقديره: وحروف المعجم لقد بين الله لكم السبيل، وأنهجت لكم الدّلالات بالكتاب المنزل، وإِنما حذف لعلم المخاطبين به، ولأن في قوله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ دليلاً على الجواب. والرابع: انه أشار بما ذكر من الحروف إِلى سائرها، والمعنى: أنه لما كانت الحروف أُصولاً للكلام المؤلف، أخبر أن هذا القرآن إِنما هو مؤلف من هذه الحروف، قاله الفراء، وقطرب. فان قيل: فقد علموا أنه حروف، فما الفائدة في إِعلامهم بهذا؟ فالجواب أنه نبه بذلك على إِعجازه، فكأنه قال: هو من هذه الحروف التي تؤلفون منها كلامكم، فما بالكم تعجزون عن معارضته؟! فاذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمّد عليه السلام.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 35- 37: قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السّور. فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها. ومنهم من فسّرها، واختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما هي أسماء السور. وقال الزمخشري في «تفسيره» : وعليه إطباق الأكثر ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (آلم) السجدة، و (هل أتى على الإنسان) . وقال سفيان الثوري آلم، حم، والمص، وص، فواتح افتتح الله بها القرآن. وفي رواية عن ابن أبي نجيح أنه قال: آلم اسم من أسماء القرآن. ولعل هذا يرجع إلى معنى القول اسم من أسماء السور فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم السامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم. وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى قال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال: آلم اسم الله الأعظم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى. قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك. قال الزمخشري: وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ... وقد سردها مفصلة ثم قال فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت. وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره. وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. وهو ممن لا يحتج به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرار فأطم وأعظم. والله أعلم.

والخامس: أنها أسماء للسور. روي عن زيد بن أسلم، وابنه، وأبي فاختة سعيد بن علاقة مولى أم هانئ. والسادس: أنها من الرمز الذي تستعمله العرب في كلامها. يقول الرجل للرجل: هل تا؟ فيقول له: بلى، يريد هل تأتي؟ فيكتفي بحرف من حروفه. وأنشدوا: قلنا لها قفي لنا فقالت قاف «1» أراد: قالت: أقف. ومثله: نادوهم أن ألجموا ألا تا ... قالوا جميعا كلّهم بلى فا يريد: ألا تركبون؟ قالوا: بلى فاركبوا. ومثله: بالخير خيرات وإن شراً فا ... ولا أريد الشر إِلا أن تا معناه: وإن شراً فشر ولا أريد الشر إِلا أن تشاء. وإِلى هذا القول ذهب الأخفش، والزجاج، وابن الأنباري. وقال أبو روق عطية بن الحارث الهمدانيّ «2» : (16) كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يجهر بالقراءة في الصلوات كلها، وكان المشركون يصفّقون ويصفّرون، فنزلت هذه الحروف المقطعة، فسمعوها فبقوا متحيرين. وقال غيره: إِنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على استماعه، لأن النفوس تتطلع إِلى ما غاب عنها. معناه: فاذا أقبلوا اليه خاطبهم بما يفهمون، فصار ذلك كالوسيلة إلى الإبلاغ، إلا أنه لا بد له من معنى يعلمه غيرهم، أو يكون معلوما عند المخاطب، فهذا الكلام يعم جميع الحروف. وقد خص المفسّرون قوله «الم» بخمسة أقوال «3» : أحدها: أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله عزّ وجلّ، وقد سبق بيانه. والثاني: أَن معناه: أَنا الله أعلم. رواه أَبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وسعيد بن جبير. والثالث: أنه قسم. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وخالد الحذاء عن عكرمة. والرابع: أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان: أَحدهما: أَن الألف من «الله» واللام من «جبريل» والميم من «محمد» ، قاله ابن عباس. فان قيل: إِذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاءً به، فلم أُخذت اللام من جبريل وهي آخر الاسم؟! فالجواب: أن مبتدأَ القرآن من الله تعالى، فدلَّ على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه، وجبريل انختم به التنزيل والإِقراء، فتنوول من اسمه نهاية حروفه، و «محمد» مبتدأ في الإقراء، فتنوول أول حروفه. والقول الثاني: أَن الألف من «الله» تعالى، واللام من «لطيف» والميم من «مجيد» قاله أبو العالية. والخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد، والشعبي، وقتادة، وابن جريج.

_ لم أقف على إسناده إلى أبي روق، وأبو روق تابعي، فالخبر مرسل، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.

[سورة البقرة (2) : آية 2]

[سورة البقرة (2) : آية 2] ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) قوله تعالى: ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى هذا، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والكسائي، وأبي عبيدة، والأخفش. واحتج بعضهم بقول خفاف بن ندبة: أَقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إِنني أنا ذلكا «1» أي: أنا هذا. وقال ابن الأنباري: إنما أراد: أنا ذلك الذي تعرفه. والثاني: أنها إشارة الى غائب. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أراد به ما تقدم إنزاله عليه من القرآن. والثاني: أنه أراد به ما وعده أن يوحيه إليه في قوله: سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «2» . والثالث: أنه أراد بذلك ما وعد به أهل الكتاب السّالفة، لأنهم وعدوا بنبيّ وكتاب. والْكِتابُ: القرآن. وسمي كتاباً، لأنه جمع بعضه إلى بعض، ومنه الكتيبة، سميت بذلك لاجتماع بعضها إلى بعض. ومنه: كتبت البغلة «3» . قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ. الرَّيب: الشك. والهدى: الإِرشاد. والمتقون: المحترزون مما اتقوه. وفرَّق شيخنا علي بن عبيد الله بين التقوى والورع، فقال: التقوى: أخذ عدة، والورع: دفع شبهة، فالتقوى: متحقق السبب، والورع: مظنون المسبَّب. واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ظاهرها النفي، ومعناها النهي، وتقديرها: لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه. ومثله: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ «4» ، أي: ما ينبغي لنا. ومثله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ «5» ، وهذا مذهب الخليل، وابن الأنباري. والثاني: أن معناها: لا ريب فيه أنه هدىً للمتقين. قاله المبرّد. والثالث: أن معناها: لا ريب فيه أنه من عند الله، قاله مقاتل في آخرين. فان قيل: فقد ارتاب به قوم. فالجواب: انه حق في نفسه، فمن حقق النظر فيه علم. قال الشاعر «6» : ليس في الحق يا أمامة ريب ... إنما الريب ما يقول الكذوب فان قيل: فالمتقي مهتد، فما فائدة اختصاص الهداية به؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه أراد المتقين والكافرين، فاكتفى بذكر أحد الفريقين كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «7» ، أراد: والبرد. والثاني: أنه خصَّ المتقين لانتفاعهم به كقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «8» ، وكان منذراً لمن يخشى ولمن لا يخشى.

_ (1) في «القاموس» تأطّر الرمح: تثنّى وانعطف. المتن من السهم: ما بين الريش إلى وسطه. (2) المزمل: 5. (3) في «القاموس» كتبت الناقة: ختم حياؤها، أو خزم بحلقة من حديد ونحوه. وكتب الناقة: ظأرها فخزم منخريها بشيء لئلا تشمّ اه مع التصرف. [.....] (4) يوسف: 38. (5) البقرة: 196. (6) هو عبد الله بن الزّبعرى. انظر «تفسير القرطبي» 1/ 205. (7) النحل: 81. (8) النازعات: 45.

[سورة البقرة (2) : آية 3]

[سورة البقرة (2) : آية 3] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، الايمان في اللغة: التصديق، والشرع أقره على ذلك، وزاد فيه القول والعمل. وأصل الغيب: المكان المطمئن الذي يستتر فيه لنزوله عما حوله، فسمي كلّ مستتر: غيبا. وفي المراد بالغيب ها هنا ستة أقوال: أحدها: أنه الوحي، قاله ابن عباس، وابن جريج. والثاني: القرآن، قاله أبو رزين العقيلي، وزر بن حبيش. والثالث: الله عزّ وجلّ، قاله عطاء، وسعيد بن جبير. والرابع: ما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، ونحو ذلك مما ذكر في القرآن. رواه السدي عن أشياخه، وإليه ذهب أبو العالية، وقتادة. والخامس: أنه قدر الله عزّ وجلّ، قاله الزهري. والسادس: أنه الايمان بالرسول في حق من لم يره. قال عمرو بن مرَّة: قال أصحاب عبد الله «1» له: طوبى لك، جاهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجالسته. فقال: إن شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان مبيِّنا لمن رآه، ولكن أعجب من ذلك: قوم يجدون كتاباً مكتوباً يؤمنون به ولم يروه، ثم قرأ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ. الصلاة في اللغة: الدعاء. وفي الشريعة: أفعال وأقوال على صفات مخصوصة. وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها سميت بذلك لرفع الصَّلا، وهو مغرز الذنب من الفرس. والثاني: أنها من صليت العود، إذا لينته، فالمصلي يلين ويخشع. والثالث: أنها مبنية على السؤال والدعاء، والصلاة في اللغة: الدعاء، وهي في هذا المكان اسم جنس. قال مقاتل: أراد بها هاهنا: الصلوات الخمس. وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به، روي عن ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: أنه إِدامتها، والعرب تقول في الشيء الراتب: قائم، وفلان يقيم أرزاق الجند، قاله ابن كيسان. قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أي: أعطيناهم يُنْفِقُونَ أي: يخرجون. وأصل الإِنفاق الإِخراج. يقال: نفقت الدابة: إذا خرجت روحها. وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال: أحدها: أنها النفقة على الأهل والعيال، قاله ابن مسعود، وحذيفة. والثاني: أنها الزكاة المفروضة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثالث: أنها الصدقات النوافل، قاله مجاهد والضحاك. والرابع: أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، ذكره بعض المفسرين، وقالوا: إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته. ويفرق باقيه على الفقراء. فعلى قول هؤلاء، الآية منسوخة بآية الزكاة، وغير هذا القول أثبت. واعلم أن الحكمة في الجمع بين الإِيمان بالغيب وهو عقد القلب، وبين الصلاة وهي فعل البدن، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال، أنه ليس في التكليف قسم رابع، إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين اثنين منهما، كالحجّ والصّوم ونحوهما. [سورة البقرة (2) : آية 4] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

_ (1) هو عبد الله بن مسعود، أحد الصحابة السابقين، توفي سنة 33 رضي الله عنه.

[سورة البقرة (2) : آية 5]

قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، رواه الضحاك عن ابن عباس، واختاره مقاتل «1» . والثاني: أنها نزلت في العرب الذين آمنوا بالنبي وبما أُنزل من قبله. رواه أبو صالح عن ابن عباس «2» . قال المفسرون: الذي أنزل إليه، القرآن. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: القرآن وغيره مما أُوحي إِليه. قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني الكتاب المتقدمة والوحي، فأما (الآخرة) فهي اسم لما بعد الدنيا، وسميت آخرة، لأن الدنيا قد تقدمتها. وقيل: سميت آخرة لأنها نهاية الأمر. قوله تعالى: يُوقِنُونَ، اليقين: ما حصلت به الثقة، وثلج به الصدر، وهو أبلغ علم مكتسب. [سورة البقرة (2) : آية 5] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً أي على رشاد. وقال ابن عباس: على نور واستقامة. قال ابن قتيبة: الْمُفْلِحُونَ: الفائزون ببقاء الأبد. وأصل الفلاح: البقاء. ويشهد لهذا قول لبيد: نحل بلاداً كلُّها حُلَّ قبلنا ... ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير يريد: البقاء، وقال الزجاج: المفلح: الفائز بما فيه غاية صلاح حاله. قال ابن الأنباري: ومنه: حيَّ على الفلاح، معناه: هلموا إِلى سبيل الفوز ودخول الجنة. [سورة البقرة (2) : آية 6] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا في نزولها أربعة أقوال: أحدها: أنها نزلت في قادة الأحزاب، قاله أبو العالية. والثاني: أنها نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك. والثالث: أنها نزلت في طائفة من اليهود، ومنهم حيي بن أخطب، قاله ابن السائب. والرابع: أنها نزلت في مشركي العرب، كأبي جهل وأبي طالب وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم «3» ، قاله مقاتل. فأما تفسيرها، فالكفر في اللغة: التغطية. تقول: كفرت الشيء إذا غطيته، فسمي الكافر كافراً، لأنه يغطي الحق. قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ، أي: متعادل عندهم الانذار وتركه، والانذار: إِعلام مع تخويف، وتناذر بنو فلان هذا الأمر: إذا خوّفه بعضهم بعضا.

_ (1) أثر ابن عباس لم أقف عليه، ولا يصح، فإنه من رواية الضّحّاك، وهو لم يلق ابن عباس، والراوي عن الضحاك هو جويبر بن سعيد، ذاك المتروك، وهو إن لم يذكره المصنف، فهو المتعين، لأنه يروي عن الضحّاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا، ولا يصح. وأما أثر مقاتل، فهو واه أيضا، فهو مرسل، ومع إرساله مقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب، وإن كان ابن حيان، فقد روى مناكير، والراجح عند الإطلاق ابن سليمان. والصحيح عموم الآية، والله أعلم. (2) ضعيف. أخرجه الطبري 292 من طريق أبي صالح عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، لضعف أبي صالح، واسمه باذان، ويقال باذام. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 45: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول وهو الأظهر ويفسر ببقية الآيات التي في معناها والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 7]

قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية وردت بلفظ العموم، والمراد بها الخصوص، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم، ولو كانت على ظاهرها في العموم، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص. [سورة البقرة (2) : آية 7] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، الختم: الطبع، والقلب: قطعة من دم جامدة سوداء، وهو مستكن في الفؤاد، وهو بيت النفس، ومسكن العقل، وسمي قلبا لتقلبه. وقيل: لأنه خالص البدن، وإما خصَّه بالختم لأنه محل الفهم. قوله تعالى: وَعَلى سَمْعِهِمْ، يريد: على أسماعهم، فذكره بلفظ التوحيد، ومعناه: الجمع، ونظيره قوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «1» . وأنشدوا من ذلك: كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُم تَعِيْشُوا ... فانَّ زَمَانَكُم زمن خميص أي: في أنصاف بطونكم. ذكر هذا القول أبو عبيدة، والزجاج. وفيه وجه آخر، وهو أن العرب تذهب بالسمع مذهب المصدر، والمصدر يوحد، تقول: يعجبني حديثكم، ويعجبني ضربكم. فأما البصر والقلب فهما اسمان لا يجريان مجرى المصادر في مثل هذا المعنى. ذكره الزجاج، وابن القاسم. وقد قرأ عمرو بن العاص، وابن أبي عبلة: (وعلى أسماعهم) . قوله تعالى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، الغشاوة: الغطاء. قال الفراء: أما قريش وعامة العرب، فيكسرون الغين من «غشاوة» ، وعكل يضمون الغين، وبعض العرب يفتحها، وأظنها لربيعة. وروى المفضل عن عاصم «غِشاوَةٌ» بالنصب على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة. فأما العذاب، فهو الألم المستمر، وماء عذب: إذا استمر في الحلق سائغا. [سورة البقرة (2) : آية 8] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها في المنافقين، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال أبو العالية، وقتادة، وابن زيد «2» . والثاني: أنها في منافقي أهل الكتاب. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن سيرين: كانوا يتخوفون من هذه الآية. وقال قتادة: هذه الآية نعت المنافق، يعرف بلسانه، وينكر بقلبه، ويصدّق بلسانه، ويخالف بعمله، ويصبح على حالٍ، ويمسي على غيرها، ويتكفّأ تكفّؤ السّفينة، كلما هبّت ريح هبّ معها. [سورة البقرة (2) : آية 9] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ. قال ابن عباس: كان عبد الله بن أُبيّ، ومعتب بن قشير، والجدّ بن

_ (1) الحج: 5. (2) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العمري، مولاهم المدني أخو عبد الله وأسامة. قال البخاري: عبد الرحمن ضعفه عليّ جدّا، وقال النسائي: ضعيف. وقال أحمد: عبد الله ثقة والآخران ضعيفان. كما في الميزان.

القيس إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، ونشهد أن صاحبكم صادق، فاذا خلوا لم يكونوا كذلك، فنزلت هذه الآية «1» . فأما التفسير، فالخديعة: الحيلة والمكر، وسميت خديعة، لأنها تكون في خفاء. والمخدع: بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة، ورجل خادع: إذا فعل الخديعة، سواء حصل مقصوده أو لم يحصل، فاذا حصل مقصوده، قيل: قد خدع. وانخدع الرجل: استجاب للخادع، سواء تعمد الاستجابة أو لم يقصدها، والعرب تسمي الدهر خداعاً، لتلونه بما يخفيه من خير وشر. وفي معنى خداعهم الله خمسة أقوال: أحدها: انهم كانوا يخادعون المؤمنين، فكأنهم خادعوا الله. روي عن ابن عباس واختاره ابن قتيبة. والثاني: انهم كانوا يخادعون نبي الله، فأقام الله نبيه مقامه، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «2» ، قاله الزجاج. والثالث: أن الخادع عند العرب: الفاسد. وأنشدوا «3» : [أبيض اللون لذيذ طعمه] «4» ... طيب الريق إِذا الريق خدع أي: فسد. رواه محمد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الاعرابي. قال ابن القاسم: فتأويل: يخادعون الله: يفسدون ما يظهرون من الايمان بما يضمرون من الكفر. والرابع: أنهم كانوا يفعلون في دين الله ما لو فعلوه بينهم كان خداعا. والخامس: أنهم كانوا يخفون كفرهم، ويظهرون الإيمان به. قوله تعالى: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قرأَ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «وما يخادعون» وقرأَ الكوفيون، وابن عامر: (يخدعون) ، والمعنى: أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم. ومتى يعود وبال خداعهم عليهم؟ فيه قولان: أحدهما: في دار الدنيا، وذلك بطريقين: أحدهما: بالاستدراج والإِمهال الذي يزيدهم عذابا. والثاني: باطلاع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين على أحوالهم التي أسروها. والقول الثاني: ان عود الخداع عليهم في الآخرة. وفي ذلك قولان: أحدهما: أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين، وذلك قوله: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ «5» الآية ... والثاني: أنه يعود عليهم عند اطلاع أهل الجنة عليهم، فاذا رأَوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم، فقالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ «6» ، فيجيبونهم: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ «7» . قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ، أَي: وما يعلمون. وفي الذي لم يشعروا به قولان:

_ (1) باطل. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 26 عن ابن عباس إسناده واه جدا فيه محمد بن مروان بن السائب عن الكلبي عن أبي صالح، أطلق العلماء على هذا الإسناد: سلسلة الكذب والأثر ذكره السيوطي في «الدر» 1/ 31 وعزاه للواحدي والثعلبي بسند واه. (2) الفتح: 10. (3) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري. [.....] (4) ما بين المعقوفتين زيادة عن «اللسان» . (5) الحديد: 13. (6) الأعراف: 50. (7) الأعراف: 51.

[سورة البقرة (2) : آية 10]

أحدهما: أَنه إِطلاع الله نبيه على كذبهم، قاله ابن عباس. والثاني: أَنه إِسرارهم بأنفسهم بكفرهم، قاله ابن زيد. [سورة البقرة (2) : آية 10] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، المرض هاهنا: الشك، قاله عكرمة، وقتادة. فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً هذا الإخبار من الله عزّ وجلّ أنه فعل بهم ذلك، و «الأليم» بمعنى المؤلم، والجمهور يقرءون «يكذبون» بالتشديد، وقرأ الكوفيون سوى أبان عن عاصم بالتخفيف مع فتح الياء. [سورة البقرة (2) : آية 11] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها، قاله سلمان الفارسي. وكان الكسائي يقرأ بضم القاف من «قيل» والحاء من «حيل» والغين من «غيض» ، والجيم من «جيء» ، والسين من «سيئ» و «سيئت» . وكان ابن عامر يضم من ذلك ثلاثة: «حيل» و «سيق» و «سيئ» . وكان نافع يضم «سيئ» و «سيئت» ، ويكسر البواقي، والآخرون يكسرون جميع ذلك. وقال الفراء: أهل الحجاز من قريش ومن جاورهم من بني كنانة يكسرون القاف في «قيل» و «جيء» و «غيض» ، وكثير من عقيل ومن جاورهم وعامة أسد، يشمون إلى الضمة من «قيل» و «جيء» . وفي المراد بالفساد ها هنا خمسة أقوال: أحدها: أنه الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: العمل بالمعاصي، قاله أبو العالية، ومقاتل. والثالث: أنه الكفر والمعاصي، قاله السّدي عن أشياخه. والرابع: أنه ترك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، قاله مجاهد. والخامس: أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار، وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله. قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، فيه خمسة أقوال: أحدها: أن معناه إنكار ما عرفوا به، وتقديره: ما فعلنا شيئاً يوجب الفساد. والثاني: أن معناه: إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين، والقولان عن ابن عباس. والثالث: أنهم أرادوا: في مصافاة الكفار صلاح لا فساد، قاله مجاهد وقتادة. والرابع: أنهم أرادوا أن فعلنا هذا هو الصلاح، وتصديق محمد هو الفساد، قاله السّدي. والخامس: أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين، لأنهم اعتقدوا أن الدّولة «1» إن كانت للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقد أمنوه بمتابعته، وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم، ذكره شيخنا. [سورة البقرة (2) : آية 12] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، قال الزجاج: ألا: كلمة يبتدأُ بها، ينبه بها المخاطب،

_ (1) في «القاموس» الدّولة: انقلاب الزمان، والغلبة.

[سورة البقرة (2) : آية 13]

تدل على صحة ما بعدها. و «هم» : تأكيد للكلام. وفي قوله تعالى: وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ قولان: أحدهما: لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم. والثاني: لا يشعرون أن ما فعلوه فساد، لا صلاح. [سورة البقرة (2) : آية 13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا، في المقول لهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: المنافقون، قاله مجاهد، وابن زيد. وفي القائلين لهم قولان: أحدهما: أنهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس، ولم يعيّن أحداً من أصحابه. والثاني: أنهم معينون، وهم سعد بن معاذ، وأبو لبابة وأسيد، ذكره مقاتل. وفي الإِيمان الذي دعوا إليه قولان: أحدهما: أنه التصديق بالنبي، وهو قول من قال: هم اليهود. والثاني: أنه العمل بمقتضى ما أظهروه، وهو قول من قال: هم المنافقون. وفي المراد بالناس ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: جميع الصحابة، قاله ابن عبَّاس. والثاني: عبد الله بن سلام، ومن أسلم معه من اليهود، قاله مقاتل. والثالث: معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وجماعة من وجوه الأنصار، عدهم الكلبي. وفيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال: أحدها: جميع الصحابة، قاله ابن عبَّاس. والثاني: النساء والصبيان، قاله الحسن. والثالث: ابن سلام وأصحابه، قاله مقاتل. وفيما عنوه بالغيب من إِيمان الذين زعموا أنهم السفهاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا دين الإِسلام، قاله ابن عباس، والسُّدي. والثاني: أنهم أرادوا البعث والجزاء، قاله مجاهد. والثالث: أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة من غير نظر في عاقبة، وهذا الوجه والذي قبله يخرج على أنهم المنافقون، والأول يخرج على أنهم اليهود. قال ابن قتيبة: السّفهاء: الجهلة، يقال: سفه فلان رأيه، إذا جهله، ومنه قيل للبذاء: سفه، لأنه جهل. قال الزجاج: وأصل السَّفه في اللغة: خفة الحلم، ويقال: ثوب سفيه: إِذا كان رقيقاً بالياً، وتسفهت الريح الشجر: إذا مالت به. قال الشاعر «1» : مشين كما اهتزت رماح تسفَّهت ... أعاليَها مرُّ الرياح النواسم «2» قوله تعالى: وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ. قال مقاتل: لا يعلمون أنهم هم السّفهاء. [سورة البقرة (2) : آية 14] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) قوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا. اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه، قاله ابن عباس «3» . والثاني: أنها نزلت في المنافقين وغيرهم من أهل الكتاب

_ (1) هو ذو الرّمّة- غيلان بن عقبة. (2) النواسم: الرياح الضعيفة الهبوب، قاله يصف النساء، وهن يمشين. (3) تقدم أنه ورد بسند ساقط.

[سورة البقرة (2) : آية 15]

الذين كانوا يظهرون للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الإيمان ما يلقون رؤساءهم بضدّه، قاله الحسن. فأما التفسير: ف «إلى» : بمعنى «مع» ، كقوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «1» أي: مع الله. والشياطين: جمع شيطان، قال الخليل: كل متمرّد عند العرب شيطان. وفي هذا الاسم قولان: أحدهما: أنه من شطن، أي: بعد عن الخير، فعلى هذا تكون النون أصليَّة. قال أميَّة بن أبي الصَّلت في صفة سليمان عليه السلام: أيما شاطنٍ عصاه عكاه ... ثم يُلقى في السّجن والأغلال عكاه: أوثقه. وقال النابغة: نأت بسعاد عنك نوىً شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين والثاني: أنه من شاط يشيط: إِذا التهب واحترق، فتكون النون زائدة. وأنشدوا: وقد يشيط على أرماحنا البطل «2» أي: يهلك. وفي المراد: بشياطينهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم رؤوسهم في الكفر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، والسّدي. والثاني: إِخوانهم من المشركين، قاله أبو العالية، ومجاهد. والثالث: كهنتهم، قاله الضَّحاك، والكلبي. قوله تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ. فيه قولان: أحدهما: أنَّهم أرادوا: إنا معكم على دينكم. والثاني: إِنا معكم على النّصرة والمعاضدة. والهزء: السّخرية. [سورة البقرة (2) : آية 15] اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ. اختلف العلماء في المراد، باستهزاء الله بهم على تسعة أقوال: أحدها: أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار، فيسرعون إليه فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون. روي عن ابن عباس. والثاني: أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النَّار لهم كما تجمد الإِهالة «3» في القدر، فيمشون فتنخسف بهم. روي عن الحسن البصري. والثالث: أن الاستهزاء بهم: إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فيبقون في الظلمة، فيقال لهم: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً «4» ، قاله مقاتل. والرابع: أن المراد به: يجازيهم على استهزائهم، فقوبل اللفظ بمثله لفظاً وإن خالفه معنى، فهو كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «5» ، وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «6» . وقال عمرو بن كلثوم:

_ (1) الصف: 14. (2) هو عجز بيت للأعشى وصدره: قد نخضب العير في مكنون فائله. - وانظر «المعجم المفصل» . والفائل: عرق من الفخذ يكون في خربة الورك ينحدر في الرجلين، ومكنون فائله: دمه الذي كنّ فيه. وأراد: إنا حذّاق بالطعن. (3) الإهالة: الشحم. (4) الحديد: 13. (5) الشورى: 40. (6) البقرة: 194. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 16]

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا أراد: فنعاقبه بأغلظ من عقوبته. والخامس: أن الاستهزاء من الله تعالى التّخطئة لهم، والتّجهيل، فمعناه: الله يخطّئ فعلهم، ويجهلهم في الإقامة على كفرهم. والسادس: أن استهزاءه: استدراجه إياهم. والسابع: أنه إيقاع استهزائهم بهم، وردّ خداعهم ومكرهم عليهم. ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم الأنباري. والثامن: أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) «1» . ذكره شيخنا في كتابه. والتاسع: أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة، كان كالاستهزاء بهم. قوله: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. فيه أربعة أقوال: أحدها: يمكِّن لهم، قاله ابن مسعود. والثاني: يملي لهم، قاله ابن عباس. والثالث: يزيدهم، قاله مجاهد. والرابع: يمهلهم، قاله الزجاج. والطغيان: الزيادة على القدر، والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة، يقال: طغى البحر: إذا هاجت أمواجه، وطغى السيل: إذا جاء بماء كثير. وفي المراد بطغيانهم قولان: أحدهما: أنه كفرهم، قاله الجمهور. والثاني: أنه عتوهم وتكبرهم، قاله ابن قتيبة. ويَعْمَهُونَ بمعنى: يتحيرون، يقال: رجل عمه وعامه، أي: متحير. قال الراجز «2» : ومَخْفَقٍ من لُهلُهٍ ولُهْلُهِ ... من مهمه يجتنبه في مهمه أعمى الهدى بالجاهلين العُمَّه «3» وقال ابن قتيبة: (يعمهون) يركبون رؤوسهم، فلا يبصرون. [سورة البقرة (2) : آية 16] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى. في نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في جميع الكفار، قاله ابن مسعود، وابن عباس. والثاني: أنها في أهل الكتاب، قاله قتادة والسدي ومقاتل. والثالث: أنها في المنافقين، قاله مجاهد. واشْتَرَوُا: بمعنى استبدلوا، والعرب تجعل من آثر شيئاً على شيء مشترياً له، وبائعا للآخر. والضلالة والضلال بمعنى واحد. وفيهما للمفسّرين ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بها ها هنا الكفر، والمراد بالهدى: الإيمان، روي عن الحسن وقتادة والسدي. والثاني: أنها الشك، والهدى: اليقين. والثالث: أنها الجهل، والهدى: العلم. وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم آمنوا ثم كفروا، قاله مجاهد. والثاني: أن اليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه، فلما بعث كفروا به، قاله مقاتل. والثالث: أن الكفار لما بلغهم ما جاء به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الهدى فردوه واختاروا الضلال، كانوا كمن أبدل شيئا بشيء، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله.

_ (1) الدخان: 49. (2) هو رؤبة بن العجّاج. (3) المخفق: الأرض الواسعة المستوية التي يضطرب فيها السراب. واللهله: الأرض الواسعة أيضا. والمهمه: المفازة المقفرة.

[سورة البقرة (2) : آية 17]

وقوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ. من مجاز الكلام، لأن التجارة لا تربح، وإنما يربح فيها، ومثله قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» ، يريد: بل مكرهم في الليل والنهار. ومثله: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «2» ، أي: عزم عليه. وأنشدوا «3» : حارثُ قد فرَّجْتَ عني همي ... فنام ليلي وتجلى غمّي والليل لا ينام، بل ينام فيه، وإِنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإِشكال ويعلم مقصود قائله، فأما إذا أضيف إلى ما يصلح أن يوصف به، وأريد به ما سواه، لم يجز، مثل أن يقول: ربح عبدك، وتريد: ربحت في عبدك. وإلى هذا المعنى ذهب الفراء وابن قتيبة والزجاج. قوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. فيه خمسة أقوال: أحدها: وما كانوا في العلم بالله مهتدين. والثاني: وما كانوا مهتدين من الضلالة. والثالث: وما كانوا مهتدين إلى تجارة المؤمنين. والرابع: وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة. والخامس: أنه قد لا يربح التاجر ويكون على هدىً من تجارته غير مستحق للذم فيما اعتمده، فنفى الله عزّ وجلّ عنهم الأمرين مبالغة في ذمّهم. [سورة البقرة (2) : آية 17] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً. هذه الآية نزلت في المنافقين. والمثل بتحريك الثاء: ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال. وفي قوله تعالى: اسْتَوْقَدَ قولان: أحدهما: أن السين زائدة، وأنشدوا «4» : وداعٍ دعا يا من يجيب إِلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب أراد: فلم يجبه، وهذا قول الجمهور، منهم الأخفش وابن قتيبة. والثاني: أن السين داخلة للطلب، أراد: كمن طلب من غيره نارا. وفي أَضاءَتْ قولان: أحدهما: أنه من الفعل المتعدي، قال الشاعر: أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه «5» وقال آخر «6» : أضاءت لنا النار وجهاً أغرَّ ... ملتبساً بالفؤاد التباسا والثاني: أنه من الفعل اللازم. قال أبو عبيد: يقال: أضاءت النَّار، وأضاءها غيرها. وقال الزجاج: يقال: ضاء القمر، وأضاء. وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها زائدة، تقديره: أضاءت حوله. والثاني: أنها بمعنى الذي.

_ (1) سبأ: 33. (2) محمد: 21. (3) هو لرؤبة بن العجّاج يمدح الحارث بن سليم. (4) هو لكعب بن سعد الغنوي، يرثي أخاه أبا المغوار. انظر «تفسير القرطبي» 1/ 257 بتخريجي. (5) في «القاموس» : الجزع: الخرز اليماني، تشبّه به الأعين. (6) هو النابغة الجعدي.

[سورة البقرة (2) : آية 18]

وحول الشَّيء: ما دار من جوانبه. والهاء: عائدة على الْمستوقد. فان قيل: كيف وحد، فقال: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، ثم جمع فقال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ؟ فالجواب: أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال: إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان الرجال، وهو مثل للنفاق، وإنما قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين، فجمع لذلك. قال ثعلب: وقال غير الفراء: معنى الذي: الجمع، وحد أولاً للفظه، وجمع بعد لمعناه، كما قال الشاعر «1» : فإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ كلُّ القوم يا أم خالد «2» فجعل «الذي» جمعاً. فصل: اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين: أحدهما: أنه ضرب لكلمة الإسلام التي يلفظون بها، ونورها صيانة النفس وحقن الدماء، فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النَّار ضوءه. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني: أنه ضرب لإِقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول، فذهاب نورهم: إِقبالهم على الكافرين والضلال، وهذا قول مجاهد. وفي المراد ب «الظلمات» ها هنا أربعة أقوال: أحدها: العذاب، قاله ابن عباس. والثاني: ظلمة الكفر، قاله مجاهد. والثالث: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت، قاله قتادة. والرابع: أنها نفاقهم، قاله السدي. فصل: وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم: إحداهنّ: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فاذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم كان نور إيمانهم كالمستعار. والثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب، وهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إِلى مادة الاعتقاد ليدوم. والثالثة: أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء، فشبه حالهم بذلك. [سورة البقرة (2) : آية 18] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. الصمم: انسداد منافذ السمع، وهو أشد من الطرش. وفي البكم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الخرس، قاله مقاتل، وأبو عبيد، وابن فارس. والثاني: أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق، وقيل: إن الخرس يحدث عنه. والثالث: أنه عيب في الفؤاد يمنعه أن يعي شيئاً فيفهمه، فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق. ذكر هذين القولين شيخنا. وقوله تعالى: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يرجعون عن ضلالتهم، قاله قتادة ومقاتل. والثاني: لا يرجعون إِلى الإسلام، قاله السدي. والثالث: لا يرجعون عن الصمم والبكم والعمى، وإنما أضاف الرجوع إليهم، لأنهم انصرفوا باختيارهم، لغلبة أهوائهم عن تصفح الهدى بآلات

_ (1) هو الأشهب بن رميلة. انظر «المعجم المفصّل» . (2) في «اللسان» فلج: اسم بلد وقيل: هو واد بطريق البصرة إلى مكة ببطنه منازل للحاج.

[سورة البقرة (2) : آية 19]

التصفح، ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة، ولكنهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به كانوا كالصّم البكم. والعرب تسمي المعرض عن الشيء: أعمى، والملتفت عن سماعه: أصمّ، قال مساكين الدّارميّ: ما ضرّ لي جارا أجاوره ... ألا يكون لبابه ستر أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر وتصمُّ عما بينهم أذني ... حتى يكون كأنه وقر «1» [سورة البقرة (2) : آية 19] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ، أو: حرف مردود على قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً «2» ، واختلف العلماء فيه على ستة أقوال: أحدها: أنه داخل ها هنا للتخيير، تقول العرب: جالس الفقهاء أو النحويين، ومعناه: انت مخير في مجالسة أي الفريقين شئت، فكأنه خيرنا بين أن نضرب لهم المثل الأول أو الثاني. والثاني: أنه داخل للابهام فيما قد علم الله تحصيله، فأبهم عليهم ما لا يطلبون تفصيله، فكأنه قال: مثلهم كأحد هذين، ومثله قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «3» ، والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله. قال لبيد: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إِلا من ربيعة أو مضر أي: هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين، وقد فنيا، فسبيلي أن أفنى كما فنيا. والثالث: أنه بمعنى: بل. وأنشد الفراء: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح والرابع: أنه للتفصيل، ومعناه: بعضهم يشبه بالذي استوقد ناراً، وبعضهم بأصحاب الصيّب. ومثله قوله تعالى: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «4» ، معناه: قال بعضهم، وهم اليهود: كونوا هودا، وقال النصارى: كونوا نصارى. وكذلك قوله: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ «5» ، معناه: جاء بعضهم بأسنا بياتاً، وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة. والخامس: أنه بمعنى الواو. ومثله قوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ «6» . قال جرير: نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربَّه موسى على قدر «7»

_ (1) الوقر: ثقل في الأذن، أو ذهاب السمع كله، وجاء في القرطبي 1/ 259 حتى يواري جارتي الجدر. (2) البقرة: 17. (3) البقرة: 74. [.....] (4) البقرة: 135. (5) الأعراف: 4. (6) النور: 61. (7) قاله جرير في عمر بن عبد العزيز.

والسادس: أنه للشك في حق المخاطبين، إذ الشك مرتفع عن الحق عزّ وجلّ، ومثله قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «1» ، يريد: الإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون. فأما التفسير لمعنى الكلام: أو كأصحاب صيب، فأضمر الأصحاب، لأن في قوله: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، دليلاً عليه. والصيب: المطر. قال ابن قتيبة: هو فيعل من صاب يصوب: إذا نزل من السماء، وقال الزجاج: كل نازل من علو إلى استفال، فقد صاب يصوب، قال الشاعر «2» : كأنهمُ صابت عليهم سحابة ... صواعقها لطيرهن دبيب وفي «الرعد» ثلاثة أقوال: (17) أحدها: أنه صوت ملك يزجر السحاب، وقد روي هذا المعنى مرفوعا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبه

_ الراجح وقفه. أخرجه الترمذي 3117 والنسائي في «الكبرى» 9072 وأحمد 1/ 274 والطبراني في «الكبير» 12429 وابن مندة في «التوحيد» 48 وأبو نعيم 4/ 305 وأبو الشيخ في «العظمة» 769 كلهم من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال ملك من الملائكة موكّل بالسّحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله، فقالوا فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر، قالوا صدقت. فأخبرنا عما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال اشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلّا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرّمها، قالوا صدقت، قال الترمذي: حسن غريب اه. ومداره على بكير، وهو مقبول، لا يحتج بما ينفرد به، وثقه ابن حبان وحده، وقال أبو حاتم: شيخ. ولم يرو إلّا هذا الحديث. وأخرجه الطبراني في «الكبير» : (12429) مطوّلا، وفيه أبو نعيم ضرار بن صرد، وهو ضعيف، وفيه أيضا، بكير بن شهاب. وقال ابن مندة: هذا إسناد متصل، ورواته مشاهير ثقات!!. كذا قال رحمه الله، والصواب أنه تفرد به راو شبه مجهول، لم يوثقه سوى ابن حبان على قاعدته في توثيق المجاهيل، ولم يرو إلّا هذا الحديث الواحد، فمثله غير حجة، وهو غير معروف بحمل العلم. وقال أبو نعيم: غريب من حديث سعيد- بن جبير- تفرد به بكير. - وله شاهد بإسناد ساقط: أخرجه ابن مردويه كما في «الدر المنثور» 4/ 95 من حديث جابر. - وذكر الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 519 بعض إسناده حيث قال: وفي الطبراني الأوسط عن أبي عمران الكوفي عن ابن جريج وعن عطاء عن جابر، مختصرا فذكر فيه الرعد. سكت عليه الحافظ، وإسناده ساقط، أبو عمران الكوفي لم أجد له ترجمة، وابن جريج مدلس، وقد عنعن. والحديث لم أره في معاجم الطبراني بعد بحث، ولا في «المجمع» مع أنه ذكر حديث ابن عباس، والظاهر أنه تفرد به ابن مردويه كما في «الدر» وبكل حال الإسناد ساقط. لكن ورد في ذلك آثار عن ابن عباس وعلماء التفسير من التابعين. انظر «الدر المنثور» 4/ 94- 97، و «جامع البيان» 419- 442، وذكره الألباني في «الصحيحة» 1872. قلت: المرفوع، لا يثبت، ولا يحتج بإسناده، والأشبه كونه موقوفا، والله أعلم كذا جاء في روايات كثيرة عن ابن عباس في أن الرعد ملك وورد عن مجاهد وعكرمة وغيرهما. ولو صح هذا مرفوعا لما تكلم هؤلاء من تلقاء أنفسهم في ذلك. ومما يدل على عدم ثبوت المرفوع، هو أن البغوي ذكر في «تفسيره» 1/ 53 أثر علي وابن عباس ومجاهد وغيرهم ولم يذكر المرفوع. وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 1365 عن معمر قال: سألت الزهري عن الرعد: ما هو؟ فقال: الله أعلم. الخلاصة: هذا كله دليل على عدم ثبوت المرفوع، وأن الصواب في ذلك هو الموقوف والمقطوع، والله أعلم.

قال ابن عباس ومجاهد. وفي رواية عن مجاهد: أنه صوت ملك يسبح. وقال عكرمة: هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الابل. والثاني: أنه ريح تختنق بين السماء والأرض. وقد روي عن أبي الجلد أنه قال: الرعد: الريح. واسم أبي الجلد: جيلان بن أبي فروة البصري، وقد روى عنه قتادة. والثالث: أنه اصطكاك أجرام السحاب «1» ، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله. وفي البرق ثلاثة أقوال «2» : (18) أحدها: أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب، روي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول علي بن أبي طالب. وفي رواية عن علي قال: هو ضربة بمخراق من حديد. وعن ابن عباس: أنه ضربة بسوط من نور. قال ابن الانباري: المخاريق: ثياب تلفّ، ويضرب بها بعض الصبيان بعضاً، فشبه السوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق. قال عمرو بن كلثوم: كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا وقال مجاهد: البرق: مصع ملك، والمصع: الضرب والتحريك. والثاني: أن البرق: الماء، قاله أبو الجلد. وحكى ابن فارس أن البرق: تلألؤ الماء. والثالث: أنه نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب لسيره، وضرب بعضه لبعض، حكاه شيخنا. والصواعق: جمع صاعقة، وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه. وروي عن شهر بن حوشب: أن الملك الذي يسوق السحاب، إذا اشتد غضبه، طار من فيه النار، فهي الصواعق. وقال غيره: هي نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب. قال ابن قتيبة: وإنما سميت صاعقة، لأنها إذا أصابت قتلت، يقال: صعقتهم، أي: قتلتهم. قوله تعالى: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يفوته أحد منهم، فهو جامعهم يوم القيامة. ومثله قوله تعالى: أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً «3» ، قاله مجاهد. والثاني: أن الإحاطة: الإهلاك، مثل قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ «4» . والثالث: أنه لا يخفى عليه ما يفعلون.

_ لم أره مرفوعا، وإنما ورد عن علي موقوفا، أخرجه الطبري 439 وأبو الشيخ 771 وإسناده ضعيف لجهالة ربيعة بن أبيض، وكرره الطبري 441 وفيه من لم يسم، وكرره أبو الشيخ 772 من وجه آخر، وفيه بشير بن أبي ميمونة وهو مجهول أيضا. الخلاصة: المرفوع لم أجده بهذا اللفظ، وإنما الوارد في ذلك ما تقدم من حديث ابن عباس، وأما الموقوف على علي، فقد ورد بأسانيد واهية، وهو غريب جدا، والصواب أن البرق، هو الضياء كما تقدم.

[سورة البقرة (2) : آية 20]

[سورة البقرة (2) : آية 20] يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) قوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، يكاد بمعنى: يقارب، وهي كلمة إذا أثبتت انتفى الفعل، وإذا نفيت ثبت الفعل. وسئل بعض المتأخرين فقيل له: أنحوي هذا العصر ما هي كلمة ... جرت بلسانيْ جرهم وثمود إذا نفيت والله يشهد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود ويشهد للاثبات عند النفي قوله تعالى: لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً «1» ، وقوله: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها «2» ، ومثله: وَلا يَكادُ يُبِينُ «3» ، ويشهد للنفي عند الإثبات قوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ ويَكادُ سَنا بَرْقِهِ «4» ويَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ «5» . وقال ابن قتيبة: كاد: بمعنى هم ولم يفعل. وقد جاءت بمعنى فعل. قال ذو الرمة: ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه ميّ سافراً كاد يَبرَق أي: لو تعرضت له لبرق، أي: دهش وتحير. قلت: وقد قال ذو الرمة في المنفية ما يدل على أنها تستعمل على خلاف الأصل، وهو قوله: اذا غيَّر النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حبِّ ميَّة يبرح «6» أراد: لم يبرح. قوله تعالى: يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. قرأ الجمهور «يخطف» بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الطاء، وقرأَ أبان بن تغلب، وأبان بن يزيد كلاهما عن عاصم، بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء مخففاً. ورواه الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الطاء، وهي قراءة الحسن كذلك، إلا أنه كسر الياء. وعنه: فتح الياء والخاء مع كسر الطاء المشددة. ومعنى «يخطف» : يستلب، وأصل الاختطاف: الاستلاب، ويقال لما يخرج به الدلو: خطاف، لأنه يختطف ما علق به. قال النابغة: خطاطيف حجْنٍ في حبالٍ متينة ... تمُدُّ بها أيدٍ إِليك نوازع والحجن: المتعقفة، وجمل خيطف: سريع المر، وتلك السرعة الخطفى. قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ. قال الزجاج: يقال: ضاء الشيء يضوء، وأضاء يضيء، وهذه اللغة الثانية هي المختارة. فصل: واختلف العلماء ما الذي يشبه الرعد مما يتعلق بأحوال المنافقين على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التخويف الذي في القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ما يخافون أن يصيبهم من المصائب

_ (1) النساء: 78. (2) النور: 40. (3) الزخرف: 52. (4) النور: 43. [.....] (5) النور: 35. (6) النأي: البعد والمفارقة. والرسيس: الشيء الثابت وابتداء الحب.

[سورة البقرة (2) : آية 21]

إذا علم النبي والمؤمنون بنفاقهم، قاله مجاهد والسدي. والثالث: أنه ما يخافونه من الدعاء إلى الجهاد، وقتال من يبطنون مودته، ذكره شيخنا. واختلفوا: ما الذي يشبه البرق من أحوالهم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما يتبين لهم من مواعظ القرآن وحكمه. والثاني: أنه ما يضيء لهم من نور إسلامهم الذي يظهرونه. والثالث: أنه مثل لما ينالونه باظهار الإسلام من حقن دمائهم، فانه بالإِضافة إِلى ما ذخر لهم في الأجل كالبرق. واختلفوا في معنى قوله: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ، على قولين: أحدهما: أنهم كانوا يفرون من سماع القرآن لئلا يأمرهم بالجهاد مخافة الموت، قاله الحسن والسدي. والثاني: أنه مثل لإِعراضهم عن القرآن كراهية له، قاله مقاتل. واختلفوا في معنى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ على أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: كلما أتاهم القرآن بما يحبون تابعوه، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: أن إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته، قاله قتادة. والثالث: أن تكلمهم بالاسلام، ومشيهم فيه: اهتداؤهم به، فاذا تركوا ذلك وقفوا في ضلالة، قاله مقاتل. والرابع: أن إِضاءته لهم: تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان، ومشيهم فيه: إقامتهم على المسالمة باظهار ما يظهرونه. ذكره شيخنا. فأما قوله تعالى: وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ، فمن قال: إضاءته: إتيانه إياهم بما يحبون، قال: إظلامه: إتيانه إياهم بما يكرهون. وعلى هذا سائر الأقوال التي ذكرناها بالعكس. ومعنى قامُوا: وقفوا. قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، قال مقاتل: معناه: لو شاء لأذهب أسماعهم وأبصارهم عقوبة لهم. قال مجاهد: من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في نعت المنافقين. [سورة البقرة (2) : آية 21] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب على أربعة أقوال: أحدها: أنه عام في جميع الناس، وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه خطاب لليهود دون غيرهم، قاله الحسن ومجاهد. والثالث: أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم، قاله السدي. والرابع: أنه خطاب للمنافقين واليهود، قاله مقاتل. والنَّاسِ اسم للحيوان الآدمي وسموا بذلك لتحركهم في مراداتهم. والنوس: الحركة. وقيل: سمّوا ناسا لما يعتريهم من النسيان. وفي المراد بالعبادة ها هنا قولان: أحدهما: التوحيد. والثاني: الطاعة، رويا عن ابن عباس. والخلق: الإيجاد. وإنما ذكر من قبلهم، لأنه أبلغ في التذكير، وأقطع للجحد، وأحوط في الحجة. وقيل: إنما ذكر من قبلهم، لينبّههم على الاعتبار بأحوالهم في إثابة مطيع، ومعاقبة عاص. وفي (لعل) قولان: أحدهما: أنها بمعنى كي، وأنشدوا في ذلك: وقلتم لنا كفُّوا الحروب لعلنا ... نكفُّ ووثّقتم لنا كل مَوثِق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم ... كلمع سراب في الملا متألق

[سورة البقرة (2) : آية 22]

يريد: لكي نكف، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل وقطرب وابن كيسان. والثاني: أنها بمعنى الترجي، ومعناها: اعبدوا الله راجين للتقوى، ولأن تقوا أنفسكم- بالعبادة- عذاب ربكم. وهذا قول سيبويه. قال ابن عباس: لعلكم تتقون الشرك، وقال الضحاك: لعلكم تتقون النار. وقال مجاهد: لعلّكم تطيعون. [سورة البقرة (2) : آية 22] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً. إنما سميت الأرض أرضاً لسعتها، من قولهم: أرِضت القرحة: إذا اتسعت، وقيل: لانحطاطها عن السماء، وكل ما سفل: أرض، وقيل: لأن الناس يرضونها بأقدامهم، وسميت السماء سماء لعلوها. قال الزجاج: وكل ما علا على الأرض فاسمه بناء، وقال ابن عباس: البناء ها هنا بمعنى السقف. قوله تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ، يعني: من السحاب، ماءً يعني المطر. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، يعني: شركاء، أمثالا. يقال: هذا ند هذا، ونديده. وفيما أريد بالأنداد ها هنا قولان: أحدهما: الأصنام، قاله ابن زيد. والثاني: رجال كانوا يطيعونهم في معصية الله، قاله السدي. قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فيه ستة أقوال: أحدها: وأنتم تعلمون أنه خلق السماء، وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس وقتادة ومقاتل. والثاني: وأنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والانجيل، روي عن ابن عباس أيضاً، وهو يخرج على قول من قال: الخطاب لأهل الكتاب. والثالث: وأنتم تعلمون أنه لا ند له، قاله مجاهد. والرابع: أن العلم ها هنا بمعنى العقل، قاله ابن قتيبة. والخامس: وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه. ذكره شيخنا علي بن عبيد الله. والسادس: وأنتم تعلمون أنها حجارة، سمعته من الشيخ أبي محمد بن الخشّاب. [سورة البقرة (2) : آية 23] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ. سبب نزولها أن اليهود قالوا: هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي، وإنا لفي شك منه، فنزلت هذه الآية. وهذا مروي عن ابن عباس ومقاتل. و «إن» ها هنا لغير شك، لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون، ولكن هذا عادة العرب، يقول الرجل لابنه: إن كنت ابني فأطعني. وقيل: إنها ها هنا بمعنى إِذ، قال أبو زيد: ومنه قوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» . قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، قال ابن قتيبة: السورة تهمز ولا تهمز، فمن همزها جعلها من أسأرت، يعني أفضلت كأنها قطعة من القرآن، ومن لم يهمزها جَعلها من سُورةَ البناء، أي منزلة بعد منزلة. قال النّابغة في النّعمان:

_ (1) البقرة: 278.

[سورة البقرة (2) : آية 24]

أَلم تر أن الله أعطاك سُورة ... ترى كل مَلْك دونها يتذبذب والسورة في هذا البيت: سورة المجد، وهي مستعارة من سورة البناء. وقال ابن الأنباريّ: قال أبو عبيدة: إِنما سُميت السورة سورة لأنه يرتفع فيها من منزلة إِلى منزلة، مثل سورة البناء. معنى: أَعطاك سورة، أَي: منزلة شرف ارتفعت إليها عن منازل الملوك. قال ابن القاسم: ويجوز أَن تكون سميت سورة لشرفها، تقول العرب: له سورة في المجد، أي: شرف وارتفاع، أو لأنها قطعة من القرآن من قولك: أسأرت سُؤراً، أَي: أبقيت بقية. وفي هاء «مثله» قولان: أحدهما: أنها تعود على القرآن المنزّل «1» ، قاله قتادة والفرّاء ومقاتل. والثاني: أنها تعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيكون التقدير: فأتوا بسورة من مثل هذا العبد الأمي، ذكره أبو عبيدة والزجاج وابن القاسم. فعلى هذا القول: تكون «من» لابتداء الغاية، وعلى الأول: تكون زائدة. قوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فيه قولان: أحدهما: أن معناه: استعينوا من المعونة، قاله السدي والفراء. والثاني: استغيثوا، من الاستغاثة، وأنشدوا: فلما التقت فرساننا ورجالهم ... دعوا يال كعب واعتزينا لعامر «2» وهذا قول ابن قتيبة. وفي «شهدائهم» ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم آلهتهم، قاله ابن عباس والسديّ ومقاتل والفراء. قال ابن قتيبة: وسموا شهداء، لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم. وقال غيره: لأنهم عبدوهم ليشهدوا لهم عند الله. والثاني: أنهم أعوانهم، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أَن معناه: فأتوا بناس يشهدون أن ما تأتون به مثل القرآن، روي عن مجاهد. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم: إن القرآن ليس من عند الله، قاله ابن عباس. [سورة البقرة (2) : آية 24] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا في هذه الآية مضمر مقدّر، يقتضي الكلام تقديمه، وهو أَنه لما تحداهم بما في الآية الماضية من التحدي، فسكتوا عن الاجابة قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وفي قوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا أعظم دلالة على صحة نُبوَّة نبينا، لأنه أخبر أنهم لا يفعلون، ولم يفعلوا. والوقود: بفتح الواو: الحطب، وبضمها: التوقد، كالوضوء بالفتح: الماء، وبالضم: المصدر، وهو اسم حركات المتوضّئ. وقرأ الحسن وقتادة: وُقودها، بضم الواو، والاختيار الفتح. والناس أوقدوا فيها بطريق العذاب. والحجارة، لبيان قوتها وشدتها، إِذ هي محرقة للحجارة. وفي هذه الحجارة

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 59/ 60: فأتوا بسورة من مثله يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير الطبري والزمخشري والرازي ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين ورجح ذلك بوجوه أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم وبدليل قوله تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ وقوله لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وقال بعضهم من مثل محمد صلّى الله عليه وسلّم يعني من رجل أمي مثله والصحيح الأول. - وقال القرطبي رحمه الله 1/ 275: والضمير في «مثله» عائد على القرآن عند الجمهور. (2) البيت للرّاعي النميري. واعتزى: انتسب، صدقا كان أو كذبا، وانتمى إليهم مثله.

[سورة البقرة (2) : آية 25]

قولان: أَحدهما: أنها أصنامهم التي عبدوها، قاله الربيع بن أنس. والثاني: أنها حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حراً، إذا أحميت يعذبون بها. ومعنى أُعِدَّتْ: هيئت. وإِنما خوَّفهم بالنار إِذا لم يأتوا بمثل القرآن، لأنهم إذا كذبوه، وعجزوا عن الإتيان بمثله ثبتت عليهم الحجة، وصار الخلاف عناداً، وجزاء المعاندين النار. [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا. البشارة: أول خبر يرد على الإنسان، وسمي بشارة، لأنه يؤثر في بشرته، فان كان خيراً، أثر المسرة والانبساط، وإن شراً، أثر الانجماع والغم، والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير، وقد تستعمل في الشر، ومنه قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) «1» . قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. يشمل كل عمل صالح، وقد روي عن عثمان بن عفان أنّه قال: أخلصوا الأعمال. وعن عليّ عليه السلام أنه قال: أقاموا الصلوات المفروضات. فأما الجنات، فجمع جنَّة. وسميت الجنة جنة، لاستتار أرضها بأشجارها، وسمي الجن جناً، لاستتارهم، والجنين من ذلك، والدّرع جنة، وجن الليل: إذا ستر، وذكر عن المفضل أن الجنة: كل بستان فيه نخل. وقال الزجاج: كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضاً، فهو جنة. قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا، أي: من تحت شجرها لا من تحت أرضها. قوله تعالى: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: هذا الذي طعمنا من قبل، فرزق الغداة كرزق العشيّ، روي عن ابن عباس والضحاك ومقاتل. والثاني: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، قاله مجاهد وابن زيد. والثالث: أن ثمر الجنة إذا جُنيَ خلفه مثله، فاذا رأوا ما خلف الجنى، اشتبه عليهم، فقالوا: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، قاله يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة. قوله تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه متشابه في المنظر واللون، مختلف في الطعم، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والضحاك والسدي ومقاتل. والثاني: أنه متشابه في جودته، لا رديء فيه، قاله الحسن وابن جريج. والثالث: أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم، غير أنه أحسن في المنظر والطعم، قاله قتادة وابن زيد. فان قال قائل: ما وجه الامتنان بمتشابهه، وكلّما تنوعت المطاعم واختلفت ألوانها كان أحسن؟! فالجواب: أنا إن قلنا: إنه متشابه المنظر مختلف الطعم، كان أغرب عند الخلق وأحسن، فانك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفاكهة، كان نهاية في العجب. وإن قلنا: إنه متشابه في الجودة جاز اختلافه في

_ (1) النساء: 138.

[سورة البقرة (2) : آية 26]

الألوان والطعوم. وإن قلنا: إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني كان أطرف وأعجب، وكل هذه مطالب مؤثرة. قوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ. أي: الخَلْق، فانهن لا يحضن ولا يبلن ولا يأتين الخلاء، وفي الخُلُق، فانهن لا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن. قال ابن عباس: نقية عن القذى والأذى. قال الزجاج: ومُطَهَّرَةٌ أبلغ من طاهرة لأنه للتكثير. والخلود: البقاء الدائم الذي لا انقطاع له. [سورة البقرة (2) : آية 26] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا. في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنه لما نزل قوله تعالى: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ «1» ، ونزل قوله: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً «2» . قالت اليهود: وما هذا من الأمثال؟! فنزلت هذه الآية «3» ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل والفراء. والثاني: أنه لما ضرب الله المثلين، وهما قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً «4» ، وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ «5» ، قال المنافقون: الله أجل وأعلى من أن يضرب هذه الأمثال، فنزلت هذه الآية، رواه السدي عن أشياخه. وروي عن الحسن ومجاهد نحوه. والحياء بالمد: الانقباض والاحتشام، غير أن صفات الحق عزّ وجلّ لا يطلع لها على ماهية وإنما تمر كما جاءت. (19) وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم حييّ كريم» ، وقيل: معنى لا يستحيي: لا يترك، لأن كل ما

_ صحيح. أخرجه أبو داود 1488 والترمذي 3556 وابن ماجة 3865 وأحمد 5/ 438 وابن حبان 876 و 880 والحاكم 1/ 497 والطبراني 6130 عن سلمان مرفوعا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله حييّ كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يده أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» . وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وجوّده الحافظ في «فتح الباري» 11/ 143. وورد من حديث أنس أخرجه الحاكم (1/ 497- 498) وإسناده ضعيف لضعف عامر بن يساف وتابعه أبان بن أبي عياش عند البغوي 1386 «شرح السنة» لكن أبان متروك. وله شاهد من حديث جابر عزاه الحافظ في تخريج الكشاف 1/ 113 لأبي يعلى وأعله بيوسف بن محمد وأنه متروك. ولم أره في «مسنده» ولعله في «الكبير» . وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الطبراني (13557) عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم حييّ كريم يستحي أن يرفع العبد يديه فيردهما صفرا لا خير فيهما فإذا رفع أحدكم يديه فليقل: يا حي لا إله إلّا أنت يا أرحم الراحمين، ثلاث مرات، ثم إذا ردّ يديه فليفرغ ذلك الخير إلى وجهه» . وإسناده ضعيف، سكت عليه الحافظ في «تخريج الكشاف» (1/ 113) . وقال الهيثمي في المجمع (10/ 169 ح 17340) : فيه الجارود بن يزيد، وهو متروك اه.

يستحيى منه يترك. وحكى ابن جرير الطبري عن بعض اللغويين أن معنى لا يستحيي: لا يخشى. ومثله: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ «1» ، أي: تستحيي منه. فالاستحياء والخشية ينوب كل واحد منهما عن الآخر. وقرأ مجاهد وابن محيصن: لا يستحي بياء واحدة، وهي لغة. وقوله تعالى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا. قال ابن عباس: أن يذكر شبهاً، واعلم أن فائدة المثل أن يبين للمضروب له الأمر الذي ضرب لأجله، فينجلي غامضه. قوله تعالى: ما بَعُوضَةً. «ما» زائدة، وهذا اختيار أبي عبيدة والزجاج والبصريين. وأنشدوا للنابغة: قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... [إلى حمامتنا أو نصفه فقد] «2» وذكر أَبو جعفر الطبري أن المعنى: ما بين بعوضة إِلى ما فوقها، ثم حذف ذكر «بين» و «إِلى» إِذ كان في نصب البعوضة، ودخول الفاء في «ما» الثانية دلالة عليهما، كما قالت العرب: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملاً، وهي أحسن الناس ما قرناً فقدماً [يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها] . وقال غيره: نصب البعوضة على البدل من المثل. وروى الأصمعي عن نافع: «بعوضةٌ» بالرفع، على إِضمار هو، والبعوضة: صغيرة البقّ. وفي قوله تعالى: فَما فَوْقَها، فيه قولان: أحدهما: أن معناه فما فوقها في الكبر، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، والفراء. والثاني: فما فوقها في الصغر، فيكون معناه: فما دونها، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: وقد يكون الفوق بمعنى: دون، وهو من الأضداد، ومثله: الجون يقال للأسود والأبيض. والصريم: الصبح والليل. والسّدفة: الظلمة والضوء. والجلل: الصغير والكبير. والنّاهل: العطشان والرّيان. والماثل: القائم واللاطئ بالأرض. والصارخ: المغيث والمستغيث. والهاجد: المصلي بالليل والنائم. والرهوة: الارتفاع والانحدار. والتلعة: ما ارتفع من الارض وما انهبط من الارض. والظن: يقين وشك. والاقراء: الحيض والاطهار. والمفرع في الجبل: المصعد، وهو المنحدر. والوراء: يكون خلفاً وقدّاماً. وأسررت الشيء: أخفيته وأعلنته. وأخفيت الشىء: أظهرته وكتمته. ورتوت الشيء: شددته، وأرخيته. وشعبت الشيء: جمعته وفرقته. وبُعت الشيء بمعنى: بعته واشتريته. وشريت الشيء: اشتريته وبعثته. والحي خلوف: غيب، ومتخلفون. واختلفوا في قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، هل هو من تمام قول الذين قالوا: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، أو هو مبتدأ من كلام الله عزّ وجلّ؟ على قولين: أحدهما: أنه تمام الكلام الذي قبله، قاله الفراء، وابن قتيبة. قال الفراء: كأنهم قالوا: ماذا اراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضل به هذا، ويهدي به هذا؟! ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله. فقال الله: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. والثاني: أنه مبتدأ من قول الله تعالى، قاله السّدّيّ ومقاتل.

_ (1) الأحزاب: 37. (2) زيادة عن ديوان النابغة.

[سورة البقرة (2) : آية 27]

فأما الفسق فهو في اللغة: الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها، فالفاسق: الخارج عن طاعة الله إِلى معصيته. وفي المراد بالفاسقين ها هنا، ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: المنافقون، قاله أبو العالية والسّدّيّ. والثالث: جميع الكفار. [سورة البقرة (2) : آية 27] الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ. هذه صفة للفاسقين، وقد سبقت فيهم الأقوال الثلاثة. والنقض: ضد الإِبرام، ومعناه: حل الشىء بعد عقده. وينصرف النقض إِلى كل شىء بحسبه، فنقض البناء: تفريق جمعه بعد إحكامه. ونقض العهد: الإعراض عن المقام على أحكامه. وفي هذا العهد ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما عهد إِلى أهل الكتاب من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم والوصية باتباعه، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: ما عُهد اليهم في القرآن، فأقروا به ثم كفروا فنقضوه، قاله السدي. والثالث: أنه الذي أخذه عليهم حين استخرج ذرية آدم من ظهره، قاله الزجاج. ونحن وإن لم نذكر ذلك العهد، فقد ثبت بخبر الصادق فيجب الايمان به. وفي «من» قولان: أحدهما: أنها زائدة. والثاني: أنها لابتداء الغاية، كأنه قال: ابتداء نقض العهد من بعد ميثاقه. وفي هاء «ميثاقه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله سبحانه. والثاني: أنها ترجع إلى العهد، فتقديره: بعد إحكام التّوثّق فيه. وفي الذي أمر الله به أن يوصل، ثلاثة أقوال: أحدها: الرحم والقرابة، قاله ابن عباس وقتادة والسّدّي. والثاني: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطعوه بالتكذيب، قاله الحسن. والثالث: الإيمان بالله، وأن لا يفرق بين أحد من رسله، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، قاله مقاتل. وفي فسادهم في الأرض ثلاثة أقوال: أحدها: استدعاؤهم الناس إلى الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه العمل بالمعاصي، قاله السّدّيّ، ومقاتل. والثالث: أنه قطعهم الطريق على من جاء مهاجرا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ليمنعوا الناس من الإسلام. والخسران في اللغة: النّقصان. [سورة البقرة (2) : آية 28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، في «كيف» قولان: أحدهما: أنه استفهام في معنى التعجب، وهذا التعجب للمؤمنين، أي: اعجبوا من هؤلاء كيف يكافرون، وقد ثبتت حجة الله عليهم، قاله ابن قتيبة والزجاج. والثاني: أنه استفهام خارج مخرج التقرير والتوبيخ، تقديره: ويحكم كيف تكفرون بالله! قال العجاج: أطرباً وأَنت قنسريّ ... [والدهر بالانسان دواريُّ] «1» أراد: أتطرب وأنت شيخ كبير؟! قاله ابن الأنباري. قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً. قال الفرّاء: أي: وقد كنتم أمواتا. ومثله:

_ (1) ما بين معقوفتين زيادة عن اللسان مادة (قنسر) . [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 29]

أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ «1» ، أي: قد حصرت. ومثله: وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ» ، فقد كذبت، ولولا إضمار «قد» لم يجز مثله في الكلام. وفي الحياتين، والموتتين أقوال: أصحها: أن الموتة الأولى، كونهم نطفاً وعلقاً ومضغاً، فأحياهم في الأرحام، ثم يميتهم بعد خروجهم إِلى الدنيا، ثم يُحييهم للبعث يوم القيامة، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومقاتل والفراء وثعلب، والزجاج، وابن قتيبة، وابن الأنباري. [سورة البقرة (2) : آية 29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، أي: لأجلكم، فبعضه للانتفاع، وبعضه للإتباع. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، أي: عمد إلى خلقها، والسماء: لفظها لفظ الواحد، ومعناها معنى الجمع، بدليل قوله: فَسَوَّاهُنَّ. وأيهما أسبق في الخلق: الأرض، أم السماء؟ فيه قولان: أحدهما: الأرض، قاله مجاهد. والثاني: السماء، قاله مقاتل. واختلفوا في كيفية تكميل خلق الأرض وما فيها، فقال ابن عبَّاس: بدأ بخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماوات في يومين، ثم دحا الأرض وبينها الجبال، وقدر فيها أقواتها في يومين. وقال الحسن ومجاهد: جمع خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام متوالية، ثم خلق السماء في يومين. والعليم: جاء على بناء: فعيل، للمبالغة في وصفه بكمال العلم. [سورة البقرة (2) : آية 30] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ. كان أبو عبيدة يقول: «إذ» ملغاة، وتقدير الكلام: وقال ربك، وتابعه ابن قتيبة، وعاب ذلك عليهما الزجاج وابن القاسم. وقال الزجاج: إذ: معناها: الوقت، فكأنه قال: ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة. والملائكة: من الألوك، وهي الرسالة، قال لبيد: وغلام أرسلتْه أمه ... بألوك فبذلنا ما سأل وواحد الملائكة: ملك، والأصل فيه: ملأك. وأنشد سيبويه: فلست لإِنسي ولكن لملأكٍ ... تنزل من جوِّ السماء يصوب قال أبو إِسحاق: ومعنى ملأك: صاحب رسالة، يقال: مألَكة ومألُكة وملأكة. ومآلك: جمع مألكة. قال الشاعر «3» : أبلغ النعمان عني مألكاً ... أنه قد طال حبسي وانتظاري وفي هؤلاء الملائكة قولان: أحدهما: أنهم جميع الملائكة، قاله السدي عن أشياخه. والثاني:

_ (1) النساء: 90. (2) يوسف: 26. (3) هو عدي بن زيد كما في «اللسان» مادة (ألك) .

أنهم الذين كانوا مع إبليس حين أُهبط إلى الأرض، ذكره أبو صالح عن ابن عباس. ونقل أنه كان في الأرض خلق قبل آدم، فأفسدوا، فبعث الله إبليس في جماعة من الملائكة فأهلكوهم. واختلفوا ما المقصود في إخبار الله عزّ وجلّ الملائكة بخلق آدم على ستة أقوال: أحدها: أن الله تعالى علم في نفس إبليس كبراً، فأحب أن يطلع الملائكة عليه، وأن يظهر ما سبق عليه في علمه، رواه الضحاك عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه. والثاني: أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة، قاله الحسن. والثالث: أنه لما خلق النار خافت الملائكة، فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه؟ قال: لمن عصاني، فخافوا وجود المعصية منهم، وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم، فقال لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قاله ابن زيد. والرابع: أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه. فأخبرهم حتى قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها؟ فأجابهم: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. والخامس: أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده، ليكونوا معظّمين له إذ أوجده. والسادس: أنه أراد إعلامهم بأنه خلقه ليسكنه الأرض، وإن كان ابتداء خلقه في السماء. والخليفة: هو القائم مقام غيره، يقال: هذا خلف فلان وخليفته. قال ابن الأنباري: والأصل في الخليفة خليف، بغير هاء، فدخلت الهاء للمبالغة بهذا الوصف، كما قالوا: علّامة ونسّابة. وفي معنى خلافة آدم قولان: أحدهما: أنه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه، ودلائل توحيده، والحكم في خلقه، وهذا قول ابن مسعود ومجاهد «1» . والثاني: أنه خلف من سلف في الأرض قبله، وهذا قول ابن عباس والحسن. قوله تعالى: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ظاهر الألف للاستفهام، دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق، ومعناها الإيجاب، تقديره: ستجعل فيها من يفسد فيها، قاله أبو عبيدة. قال جرير: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايَا ... وأندى العالَمِينَ بطون راح معناه: أنتم خير من ركب المطايا. والثاني: أنهم قالوه لاستعلام وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض، ذكره الزجاج. والثالث: أنهم سألوا عن حال أنفسهم، فتقديره: أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك، أم لا؟ وهل علمت الملائكة أنهم يفسدون بتوقيف من الله تعالى، أم قاسوا على حال من قبلهم؟ فيه قولان: أحدهما: أنه بتوقيف من الله تعالى، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وابن زيد وابن قتيبة، وروى السدي عن أشياخه: أنهم قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضاً، فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. والثاني: أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم، روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية ومقاتل. قوله تعالى: وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. قرأ الجمهور بكسر الفاء، وضمّها طلحة بن مصرف وإبراهيم بن أبي عبلة، وهما لغتان، وروي عن طلحة وابن مقسم «ويُسَفِّك» : بضم الياء وفتح السين وتشديد الفاء مع

_ (1) ذكر الإمام القرطبي في «تفسيره» 1/ 305 بحثا نفيسا في الإمامة الكبرى وهي الخلافة، فانظره فإنه هام.

كسرها، وهي لتكثير الفعل وتكريره. وسفكُ الدم: صبُّه وإراقته وسفحه، وذلك مستعمل في كل مضيّع، إلا أن السفك يختص الدم، والصب والسفح والإِراقة يقال في الدم وفي غيره. وفي معنى تسبيحهم أربعة أقوال: أحدها: أنه الصلاة، قاله ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أنه قول: سبحان الله، قاله قتادة. والثالث: أنه التعظيم والحمد، قاله أبو صالح. والرابع: أنه الخضوع والذل، قاله محمد بن القاسم الأنباريّ. وقوله تعالى: وَنُقَدِّسُ لَكَ. القدس: الطهارة، وفي معنى تقديسهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: نتطهر لك من أعمالهم، قاله ابن عباس. والثاني: نعظمك، ونكبرك، قاله مجاهد. والثالث: نصلي لك قاله قتادة. قوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. فيه أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: أعلم ما في نفس إبليس من البغى والمعصية، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي عن أشياخه. والثاني: أعلم أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، قاله قتادة. والثالث: أعلم أني أملأ جهنم من الجنة والناس، قاله ابن زيد. والرابع: أعلم عواقب الأمور، فانا أبتلي من تظنون أنه مطيع، فيؤديه الابتلاء إلى المعصية كإبليس، ومن تظنون به المعصية فيطيع، قاله الزجاج. (الإشارة إلى خلق آدم عليه السلام) (20) روى أبو موسى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «إنّ الله، عزّ وجلّ، خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك، والخبيث والطيب» ، قال الترمذي: هذا حديث صحيح. (21) وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعاً» . (22) وأخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «خلق الله آدم بعد

_ صحيح. أخرجه أبو داود 4693 والترمذي 2955 وأحمد 4/ 400 وابن حبان 6160 وابن سعد في «الطبقات» 1/ 26 وعبد بن حميد في «المنتخب» 548 والطبري 645 والحاكم 2/ 261- 262. والبيهقي في «الصفات» ص 385 من طرق عن عوف العبدي عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري. وإسناده جيد، رجاله كلهم ثقات، وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي وقال الترمذي: حسن صحيح. وله شواهد ستأتي. صحيح. أخرجه البخاري 3326 و 6227 ومسلم 2841 وأحمد 1/ 315 وابن حبان 6162. وابن خزيمة في «التوحيد» ص 40- 41 واللالكائي في «أصول الاعتقاد» 711 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 812 والبغوي 3298. الصحيح موقوف، والمرفوع معلول، وهو أحد الأحاديث الضعيفة في «صحيح مسلم» . أخرجه مسلم 2789 وأحمد 2/ 327 والنسائي في «التفسير» 30 والطبري في «التاريخ» 1/ 23 والبيهقي في «الصفات» 383 من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سليم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي فقال: «خلق الله، عزّ وجلّ، التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد. وخلق الشجر يومَ الإثنين. وخلق المكروه يوم الثلاثاء. وخلق النور

[سورة البقرة (2) : آية 31]

العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، ما بين العصر إلى الليل» . قال ابن عباس: لما نفخ فيه الروح، أتته النفخة من قبل رأسه، فجعلت لا تجري منه في شيء إلا صار لحما ودما. [سورة البقرة (2) : آية 31] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها. في تسميته بآدم قولان: أحدهما: لأنه خلق من أديم

_ يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يومَ الخميس، وخلق آدم عليه السّلام بعد العصر من يوم الجمعة. في آخر الخلق. في آخر ساعة من ساعات الجمعة. فيما بين العصر إلى الليل» لفظ مسلم. وأخرجه ابن معين في «تاريخه» 305 وعنه الدولابي في «الكنى» 1/ 175 عن هشام بن يوسف عن ابن جريج، به. وأخرجه الحاكم في «معرفة علوم الحديث» 33- 34 من طريق إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد، وإبراهيم متروك. وعلقه البخاري في «تاريخه» 1/ 413- 414 من طريق أيوب وقال: وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصح. - قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 1/ 99: هذا الحديث من غرائب صحيح مسلم وقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا. وذكره أيضا في «تفسيره» 3/ 422 وقال: فيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» 17/ 236: وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله: «خلق الله التربة، يوم السبت» فهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، قال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار. وقال المناوي في «فيض القدير» 3/ 448: قال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة فمن ذلك: أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن لأن الأربعة خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السماوات في يومين. وقال البيهقي: وزعم بعض أهل العلم أنه غير محفوظ لمخالفته ما عليه أهل التفسير، وأهل التواريخ، وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أيوب بن خالد، وإبراهيم غير محتج به. ثم أسند البيهقي 813 من طريق الحاكم عن أحمد بن محمد عن محمد بن نصر عن محمد بن يحيى الذهلي قال: سألت علي بن المديني عن حديث أبي هريرة «خلق الله التربة ... » . فقال علي: هذا حديث مدني، رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي، قال علي: وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى، وقال لي: شبك بيدي عبد الله بن رافع، وقال لي: شبك بيدي أبو هريرة، وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم، وقال لي: خلق الله التربة ... » فذكر الحديث بنحوه. قال علي المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلّا من إبراهيم بن أبي يحيى. - ويؤيد ما قاله علي المديني، هو ما أخرجه الحاكم في «علوم الحديث» ص 33 في «بحث المسلسل» : من طريق الحسن بن بكر بن الشرود قال: شبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى، وقال إبراهيم ... الحديث. - قلت: فالخبر معلول، وهو غريب جدا، وحسبه الوقف، وأن مصدره كعب الأحبار وعبد الله بن سلام. - ومما يدل على غرابته بل نكارته أنه ليس عند مسلم ذكر خلق السماوات أصلا، وهذا عجيب معارض بقوله تعالى في سورة فصّلت [9- 12] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ.... فمن تأمل الآيات ظهر له الأمر جليا، والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 32]

الأرض، قاله ابن عباس وابن جبير والزجاج. والثاني: أنه من الأدمة في اللون، قاله الضحاك والنضر بن شميل وقطرب. وفي الأسماء التي علَّمه قولان: أحدهما: أنه علمه كل الأسماء، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. والثاني: أنه علمه أسماء معدودة لمسميات مخصوصة. ثم فيها أربعة أقوال: أحدها: أنه علمه أسماء الملائكة، قاله أبو العالية. والثاني: أنه علَّمه أسماء الأجناس دون أنواعها، كقولك: إِنسان وملك وجني وطائر، قاله عكرمة. والثالث: أنه علمه أسماء ما خلق في الأرض من الدواب والهوام والطير، قاله الكلبي ومقاتل ابن قتيبة. والرابع: أنه علمه أسماء ذريته، قاله ابن زيد. قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ. يريد: أعيان الخلق على الملائكة، قال ابن عباس: الملائكة هاهنا: هم الذين كانوا مع إبليس خاصة. قوله تعالى: أَنْبِئُونِي: أخبروني. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فيه قولان: أحدهما: إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا هو أفضل منكم وأعلم، قاله الحسن. والثاني: أني أجعل فيها من يفسد فيها، قاله السدي عن أشياخه. [سورة البقرة (2) : آية 32] قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ. قال الزجاج «1» : لا اختلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو: التنزيه لله تعالى عن كل سوء. والعليم بمعنى: العالم جاء على بناء «فعيل» للمبالغة. وفي الحكيم قولان: أحدهما: أنه بمعنى الحاكم، قاله ابن قتيبة «2» . والثاني: المحكم للأشياء، قاله الخطّابيّ «3» . [سورة البقرة (2) : آية 33] قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) قوله تعالى: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، أي: أخبرهم، وروي عن ابن عباس: «أنبئهم» بكسر الهاء، قال أبو علي: قراءة الجمهور على الأصل، لأن أصل هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه، ألا ترى أنك تقول: ضربهم وأبناءهم، وهذا لهم. ومن كسر أتبع كسر الهاء التي قبلها وهي كسرة الباء. والهاء والميم تعود على الملائكة. وفي الهاء والميم من «أسمائهم» قولان: أحدهما: أنها تعود على المخلوقات التي عرضها، قاله الأكثرون. والثاني: أنها تعود على الملائكة، قاله الربيع بن أنس. وفي الذي أبدوه قولان: أحدهما: أنه قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، ذكره السدي عن أشياخه. والثاني: أنه ما أظهروه من السمع والطاعة لله حين مروا على جسد آدم، فقال إبليس: إن فضّل عليكم هذا ما تصنعون؟ فقالوا: نطيع ربنا، فقال إبليس في نفسه: لئن فضّلت عليه لأهلكنه، ولئن فضّل عليّ

_ (1) هو إبراهيم بن السّري أبو إسحاق الزجاج عالم بالنحو واللغة من كتبه «معاني القرآن» توفي سنة 311. (2) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري توفي سنة 276. (3) هو الإمام العلّامة حمد، ويقال: أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي من مؤلفاته «بيان إعجاز القرآن الكريم» توفي سنة 388.

[سورة البقرة (2) : آية 34]

لأعصينه، قاله مقاتل. وفي الذي كتموه قولان: أحدهما: أنه اعتقاد الملائكة أن الله تعالى لا يخلق خلقاً أكرم منهم، قاله الحسن وأبو العالية وقتادة. والثاني: أنه ما أسره إبليس من الكبر والعصيان. رواه السدي عن أشياخه، وبه قال مجاهد وابن جبير ومقاتل. [سورة البقرة (2) : آية 34] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا. عامة القراء على كسر التاء من الملائكة، وقرأَ أبو جعفر والأعمش بضمها في الوصل، قال الكسائيّ: هي لغة، أزد شنوءة. وفي هؤلاء الملائكة قولان: أحدهما: أنهم جميع الملائكة، قاله السدي عن أشياخه. والثاني: أنهم طائفة من الملائكة، روي عن ابن عباس، والأول أصح. والسجود في اللغة: التواضع والخضوع، وأنشدوا: ساجد المنخر ما يرفعه ... خاشع الطرف أصم المستمع وفي صفة سجودهم لآدم قولان: أحدهما: أنه على صفة سجود الصلاة، وهو الأظهر. والثاني: أنه الانحناء والميل المساوي للركوع. قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ. في هذا الاستثناء قولان «1» : أحدهما: أنه استثناء من الجنس، فهو على هذا القول من الملائكة، قاله ابن مسعود في رواية، وابن عباس. وقد روي عن ابن عباس أنه كان من الملائكة، ثم مسخه الله تعالى شيطاناً. والثاني: أنه من غير الجنس، فهو من الجن، قاله الحسن والزهري. قال ابن عباس: كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدير أمر السماء الدنيا. فان قيل: كيف استثني وليس من الجنس؟ فالجواب: أنه أمر بالسجود معهم، فاستثني منهم لأنه لم يسجد، وهذا كما تقول: أمرت عبدي وإخوتي فأطاعوني إلا عبدي، هذا قول الزجاج. وفي إبليس قولان: أحدهما: اسم أعجمي ليس بمشتق، ولذلك لا يصرف، هذا قول أبي عبيدة، والزّجّاج وابن الأنباري. والثاني: أنه مشتق من الإِبلاس، وهو: اليأس، روي عن أبي صالح، وذكره ابن قتيبة وقال: إِنه لم يصرف، لانه لا سمي له، فاستثقل. قال شيخنا أبو منصور اللغوي «2» : والأول أصح، لأنه لو كان من الإِبلاس لصرف، أَلا ترى أنك لو سميت رجلاً: بإِخريط وإِجفيل لصرف في المعرفة. قوله تعالى: أَبى معناه: امتنع، وَاسْتَكْبَرَ استفعل من: الكبر. وفي وَكانَ قولان: أحدهما: أنها بمعنى: صار، قاله قتادة. والثاني: أنها بمعنى الماضي، فمعناه: كان في علم الله كافراً، قاله مقاتل وابن الأنباري.

_ (1) القول الثاني هو الصواب، والحجة في ذلك قوله تعالى في سورة الكهف وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فهو من الجن إذن، وقال تعالى وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ وقال أيضا خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ومعلوم أن الملائكة لم يخلقوا من نار. فإبليس أصل الجن، وآدم أصل الإنس. والله أعلم. (2) هو الإمام موهوب بن أحمد الجواليقي، عارف باللغة والأدب، توفي سنة 540 ببغداد.

[سورة البقرة (2) : آية 35]

[سورة البقرة (2) : آية 35] وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) قوله تعالى: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، زوجه: حواء، قال الفراء: أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: زوج، ويجمعونها: الأزواج، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: زوجة، ويجمعونها: زوجات. قال الشاعر: فان الذي يسعى يحرّش زوجتي ... كماشٍ إِلى أسد الشرى يستبيلها «1» وأنشدني أبو الجراح: يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم ... أن ليس وصل اذا انحلت عرى الذنب وفي الجنة التي أسكنها آدم قولان: أحدهما: جنة عدن. والثاني: جنة الخلد. والرغد: الرزق الواسع الكثير، يقال: أرغد فلان: إذا صار في خصب وسعة. قوله تعالى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أي: بالأكل لا بالدُّنو منها. وفي الشجرة ستة أقوال: أحدها: أنها السنبلة، وهو قول ابن عباس، وعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وقتادة، وعطية العوفي، ومحارب بن دثار، ومقاتل. والثاني: أنها الكرم، روي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة. والثالث: أنها التين، روي عن الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وابن جريج. والرابع: أنها شجرة يقال لها: شجرة العلم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والخامس: أنها شجرة الكافور، نقل عن علي بن أبي طالب. والسادس: أنها النخلة، روي عن أبي مالك. وقد ذكروا وجهاً سابعاً عن وهب بن منبه أنّه قال: هي شجرة يقال لها شجرة الخلد، وهذا لا يعدّ وجها لأن الله تعالى سمّاها شجرة الخلد وإنما الكلام في جنسها. قوله تعالى: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ. قال ابن الأنباري: الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، ويقال: ظلم الرجل سقاءه اذا سقاه قبل أن يخرج زبده. قال الشاعر: وصاحب صدق لم تربني شكاته ... ظلمت وفي ظلمي له عامداً أجرُ أراد بالصاحب: وطب اللبن، وظلمه إِياه: أن يسقيه قبل أن يخرج زبده. والعرب تقول: هو أظلم من حية، لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه، ويقال: قد ظلم الماء الوادي: إذا وصل منه إِلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى. فان قيل: ما وجه الحكمة في تخصيص تلك الشجرة بالنهي؟ فالجواب: أنه ابتلاء من الله تعالى بما أراد. وقال أبو العالية «2» : كان لها ثفل «3» من بين أشجار الجنة، فلما أكل منها، قيل: أخرج إلى

_ (1) في «اللسان» يستبيلها: يأخذ بولها في يده. والبيت للفرزدق. (2) أبو العالية: هو رفيع بن مهران الرياحي بكسر الراء والتحتانية، قال ابن حجر في «التقريب» : ثقة كثير الإرسال، من الطبقة الثانية، توفي سنة 90 هـ وقيل 93 وقيل بعد ذلك. روى له الجماعة. (3) في «اللسان» : ثفل كل شيء: ما استقر تحته من كدرة.

[سورة البقرة (2) : آية 36]

الدار التي تصلح لما يكون منك. [سورة البقرة (2) : آية 36] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها. أزلهما بمعنى: استزلهما، وقرأ حمزة «1» : «فأزالهما» ، أراد: نحاهما. قال أبو علي الفارسي: لما كان معنى اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ: اثبتا فيها، فثبتا فأزالهما، وقابل حمزة الثبات بالزوال الذي يخالفه، ويقوي قراءته: فَأَخْرَجَهُما. والشيطان: إبليس، وأضيف الفعل اليه، لأنه السبب. وفي هاء عَنْها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعود إلى الجنة. والثاني: ترجع إلى الطاعة. والثالث: ترجع إلى الشجرة. فمعناه: أزلّهما بزلة صدرت عن الشجرة. وفي كيفية إزلاله لهما، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه احتال حتى دخل اليهما الجنة، وكان الذي أدخله الحية «2» ، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: أنه وقف على باب الجنة، وناداهما، قاله الحسن. والثالث: أنه وسوس اليهما، وأوقع في نفوسهما من غير مخاطبة ولا مشاهدة، قاله ابن إسحاق «3» ، وفيه بعد. قال الزجاج: الأجود: أن يكون خاطبهما، لقوله: وَقاسَمَهُما «4» . واختلف العلماء في معصية آدم بالأكل، فقال قوم: إنه نهي عن شجرة بعينها، فأكل من جنسها، وقال آخرون: تأول الكراهة في النهي دون التحريم. قوله تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا، الهبوط بضم الهاء: الانحدار من علوّ، وبفتح الهاء: المكان الذي يهبط فيه. وإلى من انصرف هذا الخطاب؟ فيه ستة أقوال: أحدها: أنه انصرف إلى آدم وحواء والحية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: إلى آدم وحواء وإبليس والحية، حكاه السدي عن ابن عباس. والثالث: إلى آدم وإبليس، قاله مجاهد «5» . الرابع: إلى آدم وحواء وإبليس، قاله مقاتل. والخامس: إلى آدم وحواء وذريتهما، قاله الفراء. والسادس: إلى آدم وحواء فحسب، ويكون لفظ الجمع واقعاً على التثنية، كقوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «6» ذكره ابن الأنباري، وهو العلة في قول مجاهد أيضاً. واختلف العلماء: هل أهبطوا جملة أو متفرّقين؟ على قولين:

_ (1) هو الإمام الحبر حمزة بن حبيب الزيّات القارئ، أبو عمارة، الكوفي، التيمي مولاهم، صدوق زاهد ربما وهم، من الطبقة السابعة، توفي سنة 156 أو 158 هـ. روى له مسلم والأربعة. «التقريب» لابن حجر. (2) هذه الأقوال مصدرها الإسرائيليات، لا حجة في شيء من ذلك. [.....] (3) ابن إسحاق: هو محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطّلبي مولاهم، المدني نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلّس ورمي بالتشيع والقدر، من صغار الخمسة، روى له البخاري تعليقا ومسلم متابعة والأربعة. توفي سنة 150، ويقال بعدها. (4) الأعراف: 21. (5) مجاهد: هو مجاهد بن جبر، بفتح الجيم وسكون الموحدة، أبو الحجاج المخزومي مولاهم، المكي، ثقة إمام في التفسير وفي العلم، من الثالثة، توفي سنة 104، روى عنه الجماعة. (6) الأنبياء: 78.

[سورة البقرة (2) : آية 37]

أحدهما: أنهم أهبطوا جملة، لكنهم نزلوا في بلاد متفرقة، قاله كعب «1» ، ووهب. والثاني: أنهم أهبطوا متفرقين، فهبط إبليس قبل آدم، وهبط آدم بالهند، وحواء بجُدَّة، وإِبليس بالأبلَّة «2» ، قاله مقاتل. وروي عن ابن عباس أنه قال: أهبطت الحية بنصيبين، قال: وأمر الله تعالى جبريل بإخراج آدم، فقبض على ناصيته وخلصه من الشجرة التي قبضت عليه، فقال: أيها الملك ارفق بي. قال جبريل: إني لا أرفق بمن عصى الله، فارتعد آدم واضطرب، وذهب كلامه، وجبريل يعاتبه في معصيته، ويعدّد نعم الله عليه، قال: وأُدخل الجنة ضحوة، وأُخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، خمسمائة عام مما يعد أهل الدنيا. وفي العداوة المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذرية بعضهم أعداء لبعض، قاله مجاهد. والثاني: أن إبليس عدو لآدم وحواء، وهما له عدو، قاله مقاتل. والثالث: أن إبليس عدو للمؤمنين، وهم أعداؤه، قاله الزجاج. وفي المستقر قولان: أحدهما: أن المراد به القبور، حكاه السدي عن ابن عباس. والثاني: موضع الاستقرار، قاله أبو العالية، وابن زيد، والزجاج، وابن قتيبة، وهو أصح. والمتاع: المنفعة. والحين: الزمان. قال ابن عباس: إِلى حِينٍ، أي: إلى فناء الأجل بالموت. [سورة البقرة (2) : آية 37] فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ. تلقّى: بمعنى أخذ، وقبل. قاله ابن قتيبة: كأن الله تعالى أوحى إليه أن يستغفره ويستقبله بكلام من عنده، ففعل ذلك آدم فتاب عليه. وقرأ ابن كثير: (فتلقى آدمَ) بالنصب، (كلماتٌ) بالرفع على أن الكلمات هي الفاعلة. وفي الكلمات أقوال: أحدها: أنها قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» ، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء الخراساني، وعبيد بن عمير، وأبيّ بن كعب، وابن زيد «4» . والثاني: أنه قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسبق رحمتك إِليّ قبل غضبك؟ قال: بلى. قال: ألم تسجد لي ملائكتك وتسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أي ربّ، إِن تبت وأصلحت، أراجعي أنت إِلى الجنة؟ قال: نعم. حكاه السدي عن ابن عباس. والثالث: أنه قال: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، فأنت خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك،

_ (1) كعب: هو كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، كان من أهل اليمن فسكن الشام، توفي في آخر خلافة عثمان، وقد زاد على المائة. وليس له في البخاري رواية إلّا حكاية معاوية فيه. (2) في «معجم البلدان» الأبلة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة. (3) الأعراف: 23. (4) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وانظر تراجم هؤلاء في المقدمة.

[سورة البقرة (2) : آية 38]

وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم، رواه ابن [أبي نجيح] «1» عن مجاهد، وقد ذكرت أقوال من كلمات الاعتذار تقارب هذا المعنى. قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْهِ. أصل التوبة: الرجوع، فالتوبة من آدم: رجوعه عن المعصية، وهي من الله تعالى: رجوعه عليه بالرحمة، والثواب الذي كلما تكررت توبة العبد تكرر قبوله، وإنما لم تذكر حواء في التوبة، لأنه لم يجر لها ذكر، لا أن توبتها لم تقبل. وقال قوم: إذا كان معنى فعل الاثنين واحداً جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «2» ، وقوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى «3» . [سورة البقرة (2) : آية 38] قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً. في إعادة ذكر الهبوط- وقد تقدم- قولان: أحدهما: أنه أعيد لأن آدم أهبط إِهباطين، أحدهما من الجنة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض. وأيهما الاهباط المذكور في هذه الآية؟ فيه قولان. والثاني: أنه إِنما كرر الهبوط توكيداً. قوله تعالى: فَأَمَّا، قال الزجاج: هذه «إِن» التي للجزاء، ضمت إليها «ما» ، والأصل في اللفظ «إِن ما» مفصولة، ولكنها مدغمة، وكتبت على الإدغام، فاذا ضمت «ما» إلى «إِن» لزم الفعل النون الثقيلة أو الخفيفة. وإنما تلزمه النون لأن «ما» تدخل مؤكدة، ودخلت النون مؤكدة أيضاً، كما لزمت اللام النون في القسم في قولك: والله لتفعلن، وجواب الجزاء الفاء. وفي المراد ب «الهدى» ها هنا قولان: أحدهما: أنه الرسول، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: الكتاب، حكاه بعض المفسرين. قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ. وقرأ يعقوب «فلا خوفَ» بفتح الفاء من غير تنوين، وقرأ ابن محيصن بضم الفاء من غير تنوين. والمعنى: فلا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب، ولا هم يحزنون عند الموت. والخوف لأمر مستقبل، والحزن لأمر ماض. [سورة البقرة (2) : آية 39] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، في «الآية» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها العلامة، فمعنى آية: علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها والذي بعدها، قال الشاعر: ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما وقال النابغة: توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع

_ (1) في النسخ «ابن كثير» والمثبت عن الطبري 788 فابن أبي نجيح هو راويه عن مجاهد، بل لمجاهد تفسير مطبوع متداول هو من رواية ابن أبي نجيح. (2) التوبة: 63. (3) طه: 117.

[سورة البقرة (2) : آية 40]

وهذا اختيار أبي عبيد. والثاني: أنها سميت آية، لأنها جماعة حروف من القرآن، وطائفة منه. قال أبو عمرو الشيباني: يقال: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم. وأنشدوا: خرجنا من النّقبين لا حيّ مثلنا ... بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا «1» والثالث: أنها سميت آية، لأنها عجب، وذلك أن قارئها يستدل إذا قرأها على مباينتها كلام المخلوقين، وهذا كما تقول: فلان آية من الآيات أي: عجب من العجائب. ذكره ابن الأنباري. وفي المراد بهذه الآيات أربعة أقوال: أحدها: آيات الكتاب التي تتلى. والثاني: معجزات الأنبياء. والثالث: القرآن. والرابع: دلائل الله في مصنوعاته. وأصحاب النار: سكّانها، سمّوا أصحابا، لصحبتهم إياها بالملازمة. [سورة البقرة (2) : آية 40] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ. اسرائيل: هو يعقوب، وهو اسم أعجمي. قال ابن عباس: ومعناه: عبد الله. وقد لفظت به العرب على أوجه، فقالت: إسرائل، وإسرال، وإسرائيل. وإسرائين. قال أمية «2» : إنني زارد الحديد على النا ... س دروعاً سوابغ الأذيال لا أرى من يعينني في حياتي ... غير نفسي إِلا بني إسرال وقال أعرابي صاد ضبّاً، فأتى به أهله: يقول أهل السوق لما جينا: ... هذا ورب البيت إسرائينا أراد: هذا مما مسخ من بني إسرائيل. والنعمة: المنة، ومثلها: النعماء. والنعمة: بفتح النون: التنعم، وأراد بالنعمة: النعم، فوحدها، لأنهم يكتفون بالواحد من الجميع كقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «3» ، أي: ظهراء. وفي المراد بهذه النعمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: أنها ما أنعم به على آبائهم وأجدادهم إِذ أنجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، وأعطاهم التوراة، ونحو ذلك، قاله الحسن والزجاج، وإنما منّ عليهم بما أَعطى آباءهم، لأن فخر الآباء فخر للأبناء، وعار الآبار عار على الأبناء. والثالث: أنها جمع نعمة على تصريف الأحوال. والمراد من ذكرها: شكرها، إذ من لم يشكر فما ذكر. قوله تعالى: وَأَوْفُوا. قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أوفيت، وأهل نجد يقولون: وفيت، بغير ألف. قال الزجاج: يقال: وفى بالعهد، وأوفى به، وأنشد:

_ (1) في «اللسان» : تزجي السّحاب: تسوقه سوقا رفيقا. اللّقاح: مصدر قولك لقحت الناقة إذا حملت. نوق مطافل: معها أولادها، وفي الحديث سارت قريش بالعوذ المطافيل، أي الإبل مع أولادها. (2) هو ابن أبي الصلت. (3) التحريم: 4. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 41]

أما ابن طوق فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها «1» وقال ابن قتيبة: يقال: وفيت بالعهد، وأوفيت به، وأوفيت الكيل، لا غير. وفي المراد بعهده: أربعة أقوال: أحدها: أنه ما عهده إليهم في التوراة من صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه الإسلام، قاله أبو العالية. والرابع: أنه العهد المذكور في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «2» ، قاله قتادة. قوله تعالى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قال ابن عباس: أدخلكم الجنة. قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، أي: خافون. [سورة البقرة (2) : آية 41] وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ، يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يعني التوراة او الإنجيل، فإن القرآن يصدقهما أنهما من عند الله، ويوافقهما في صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ. إنما قال: أوّل كافر، لأن التقدّم الى الكفر أعظمَ من الكفر بعد ذلك، إذ المبادر لم يتأمل الحجة، وإنما بادر بالعناد، فحاله أشد. وقيل: ولا تكونوا أول كافر به بعد أن آمن، والخطاب لرؤساء اليهود. وفي هاء «به» قولان: أحدهما: أنها تعود إلى المنزّل، قاله ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أنها تعود على ما معهم، لأنهم إذا كتموا وصف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو معهم، فقد كفروا به، ذكره الزجاج. قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. أي: لا تستبدلوا ثمناً قليلاً. وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما كانوا يأخذون من عرض الدنيا. والثاني: بقاء رئاستهم عليهم. والثالث: أخذ الأجرة على تعليم الدين. [سورة البقرة (2) : آية 42] وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ. تلبسوا: بمعنى تخلطوا. يقال: لبست الأمر عليهم، ألبسه: إذا عميته عليهم، وتخليطهم: أنهم قالوا: إن الله عهد إلينا أن نؤمن بالنبي الأمي، ولم يذكر أنه من العرب. وفي المراد بالحق قولان: أحدهما: أنه أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس، ومجاهد وقتادة، وأبو العالية، والسدي ومقاتل. والثاني: أنه الإسلام، قاله الحسن. [سورة البقرة (2) : آية 43] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. يريد: الصلوات الخمس، وهي هاهنا اسم جنس، والزكاة: مأخوذة من الزكاء، وهو النماء والزيادة. يقال: زكا الزرع يزكو زكاء. وقال ابن الأنباري:

_ (1) في «اللسان» قلاص النجم: هي العشرون نجما التي ساقها الدبران في خطبة الثريا كما تزعم العرب. انظر مادة- قلص-. والبيت لطفيل الغنوي. (2) المائدة: 13.

[سورة البقرة (2) : آية 44]

معنى الزكاة في كلام العرب: الزيادة والنماء، فسميت زكاة، لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه، وتوفره، وتقيه من الآفات، ويقال: هذا أزكى من ذاك، أي: أزيد فضلاً منه. قوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ. أي: صلوا مع المصلين. قال ابن عباس: يريد محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه رضي الله عنهم. وقيل: إِنما ذكر الركوع، لأنه ليس في صلاتهم ركوع، والخطاب لليهود. وفي هذه الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع، وهي إحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه. [سورة البقرة (2) : آية 44] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ. قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كان الرجل يقول لقرابته من المسلمين في السر: اثبت على ما أنت عليه فإنه حق «1» . والألف في «أتأمرون» ألف الاستفهام، ومعناه التوبيخ. وفي «البر» هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التمسك بكتابهم، كانوا يأمرون باتباعه ولا يقومون به. والثاني: اتّباع محمّد صلّى الله عليه وسلّم، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: الصدقة، كانوا يأمرون بها، ويبخلون. ذكره الزجاج. قوله تعالى: وَتَنْسَوْنَ، أي: تتركون. وفي «الكتاب» قولان: أحدهما: أنه التوراة، قاله الجمهور. والثاني: أنه القرآن، فلا يكون الخطاب على هذا القول لليهود. [سورة البقرة (2) : آية 45] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. الأصل في الصبر: الحبس، فالصابر حابس لنفسه عن الجزع. وسمي الصائم صابراً لحبسه نفسه عن الأكل والشرب والجماع، والمصبورة: البهيمة تتخذ غرضاً. وقال مجاهد: الصبر هاهنا: الصوم. وفيما أمروا بالصبر عليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أداء الفرائض، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أنه ترك المعاصي، قاله قتادة. والثالث: عدم الرئاسة، وهو خطاب لأهل الكتابين، ووجه الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة، ويزهد في الدنيا. قوله تعالى: وَإِنَّها، في المكنى عنها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الصلاة، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والجمهور. والثاني: أنها الكعبة والقبلة، لأنها لما ذكر الصلاة، دلت على القبلة، ذكره الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثالث: أنها الاستعانة، لأنها لما قال: وَاسْتَعِينُوا دل على الاستعانة، ذكره محمد بن القاسم النحوي. قوله تعالى: لَكَبِيرَةٌ، قال الحسن والضحاك: الكبيرة: الثقيلة، مثل قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ «2» ، أي: ثقل. والخشوع في اللغة: التطامن والتواضع، وقيل: السّكون. [سورة البقرة (2) : آية 46] الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ. الظن هاهنا: بمعنى اليقين «3» ، وله وجوه قد ذكرناها

_ (1) أخرجه الواحدي عن ابن عباس 31، وإسناده ساقط، فيه الكلبي متروك متهم بالكذب. (2) الشورى: 13. (3) قال القرطبي 1/ 418: الظنّ هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين، ومنه قوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ وقوله فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها. وقد قيل إن الظنّ في الآية أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقّعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوي والماوردي. قال ابن عطية: وهذا تعسّف. وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه، وقد يوقع موقع اليقين، كما في هذه الآية وغيرها ولكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحسّ، لا تقول العرب في رجل مرئيّ حاضر: أظن هذا إنسانا. وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحسّ بعد، كهذه الآية. وقد يجيء اليقين بمعنى الظن.

[سورة البقرة (2) : آية 47]

في كتاب «الوجوه والنظائر» . [سورة البقرة (2) : آية 47] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) قوله تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، يعني: على عالمي زمانهم، قاله ابن عباس، وأبو العالية ومجاهد وابن زيد. قال ابن قتيبة: وهو من العام الذي أريد به الخاص. [سورة البقرة (2) : آية 48] وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) قال الزجاج: كانت اليهود تزعم أَن آباءها الأنبياء تشفع لهم يوم القيامة، فآيسهم الله بهذه الآية من ذلك. وفي قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً إضمار، تقديره: اتقوا عذاب يوم، أو: ما في يوم. والمراد باليوم: يوم القيامة. و «تجزي» بمعنى تقضي. قال ابن قتيبة: يقال: جزى الأمر عني يجزي، بغير همز، أي: قضى عني، وأجزأني يجزئني، مهموز، أي: كفاني. قوله تعالى: نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ، قالوا: المراد بالنفس هاهنا: النفس الكافرة، فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاصّ. قوله تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتاء، وقرأ الباقون بالياء، إلا أن قتادة فتح الياء، ونصب الشفاعة، ليكون الفعل لله تعالى، قال: أبو علي: من قرأ بالتاء، فلأنَّ الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنث، فيلزم أن يلحق المسند أيضاً علامة التأنيث، ومن قرأ بالياء فلأنَّ التأنيث في الاسم الذي أسند إليه الفعل ليس بحقيقي، فحمل على المعنى، كما أن الوعظ والموعظة بمعنى واحد، وفي الآية إضمار، تقديره: لا يقبل منها فيه شفاعة. والشفاعة مأخوذة من الشفع الذي يخالف الوتر، وذلك أن سؤال الشفيع يشفع سؤال المشفوع له. فأما «العدل» فهو الفداء، وسمي عدلاً، لأنه يعادل المفدى. واختلف اللغويون: هل «العدل» و «العدل» فتح العين وكسرها يختلفان، أم لا؟ فقال الفراء: العدل بفتح العين: ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل بكسرها: ما عادل الشيء من جنسه، فهو المثل، تقول: عندي عدل غلامك، بفتح العين: إذا أردت قيمته من غير جنسه، وعندي عدل غلامك، بكسر العين: إذا كان غلام يعدل غلاماً. وحكى الزجاج عن البُصريين أن العَدل والعِدل في معنى المثل، وأن المعنى واحد، سواء كان المثل من الجنس أو من غير الجنس. قوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، أي: يمنعون من عذاب الله. [سورة البقرة (2) : آية 49] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

[سورة البقرة (2) : آية 50]

قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تقديره: واذكروا إذ نجيناكم، وهذه النعم على آبائهم كانت. وفي آلِ فِرْعَوْنَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أهل مصر، قاله مقاتل. والثاني: أهل بيته خاصة، قاله أبو عبيدة. والثالث: أتباعه على دينه، قاله الزجاج. وهل الآل والأهل بمعنى، أو يختلفان؟ فيه قولان. وقد شرحت معنى الآل في كتاب «النظائر» . وفرعون: اسم أعجمي، وقيل: هو لقبه. وفي اسمه أربعة أقوال: أحدها: الوليد بن مصعب، قاله الأكثرون. والثاني: فيطوس، قاله مقاتل. والثالث: مصعب بن الريان، حكاه ابن جرير الطبري. والرابع: مغيث، ذكره بعض المفسرين. قوله تعالى: يَسُومُونَكُمْ، أي: يولونكم، يقال: فلان يسومك خسفاً، أي: يوليك ذلاً واستخفافاً. وسُوءَ الْعَذابِ: شديده. وكان الزجاج يرى أن قوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ تفسير لقوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، وأبى هذا بعض أهل العلم، فقال: قد فرق الله بينهما في موضع آخر، فقال: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ «1» ، وإنما سوء العذاب: استخدامهم في أصعب الأعمال، وقال الفرّاء: الموضع الذي فيه الواو، يبين أنه قد مسهم من العذاب غير الذبح، فكأنه قال: يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح. قوله تعالى: وَيَسْتَحْيُونَ، أي: يستبقون نِساءَكُمْ، أي: بناتكم. وإنما استبقوا نساءكم للاستذلال والخدمة. وفي البلاء هاهنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى النعمة، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو مالك، وابن قتيبة والزجاج. والثاني: أنه النقمة، رواه السدي عن أشياخه. فعلى هذا القول يكون «ذا» في قوله تعالى: ذلِكُمْ: عائداً على سومهم سوء العذاب، وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم، وعلى القول الأول يعود على النجاة من آل فرعون. قال أبو العالية: وكان السبب في ذبح الأبناء، أن الكهنة قالت لفرعون: سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه، فقتل الأبناء. قال الزجاج: فالعجب من حمق فرعون، إن كان الكاهن عنده صادقا، فما ينفع القتل؟! وإن كان كاذبا فما معنى القتل؟! [سورة البقرة (2) : آية 50] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) قوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ، الفرق: الفصل بين الشيئين، و «بكم» بمعنى «لكم» . وإِنما ذكر آل فرعون دونه، لأنه قد علم كونه فيهم. وفي قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، قولان: أحدهما: أنه من نظر العين، ومعناه: وأنتم ترونهم يغرقون. والثاني: أَنه بمعنى: العلم كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «2» ، قاله الفراء. (الاشارة إِلى قصتهم) روى السدي عن أشياخه: أن الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل، وألقى على القبط الموت، فمات بكر كل رجل منهم، فأصبحوا يدفنونه، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس، قال عمرو بن ميمون: فلما خرج موسى بلغ ذلك فرعون، فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك، فما صاح ديك ليلتئذ. قال أبو السليل: لما انتهى موسى إِلى البحر قال: هيه أبا خالد «3» ، فأخذه أفكل، يعني:

_ (1) إبراهيم: 6. (2) الفرقان: 45. (3) قوله «أبا خالد» كنية كنّى موسى بها البحر، انظر الطبري 905.

[سورة البقرة (2) : آية 51]

رعدة، قال مقاتل: تفرق الماء يميناً وشمالاً كالجبلين المتقابلين، وفيهما كوىً ينظر كل سبط إلى الآخر. قال السدي: فلما رآه فرعون متفرقاً قال: ألا ترون البحر فرق مني، فانفتح لي؟! فأتت خيل فرعون فأبت أن تقتحم، فنزل جبريل على ماذيانة فتشامت الحصن «1» ريح الماذيانة، فاقتحمت في إثرها، حتى إِذا همَّ أولهم أن يخرج، ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم. [سورة البقرة (2) : آية 51] وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) قوله تعالى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ. قرأ أبو جعفر وأبو عرو: «وعدنا» بغير ألف هاهنا، وفي (الأعراف) و (طه) ، ووافقهما أبان عن عاصم في (البقرة) خاصة. وقرأ الباقون «واعدنا» بألف. ووجه القراءة الأولى: إفراد الوعد من الله تعالى، ووجه الثانية: أنه لما قبل موسى وعد الله عزّ وجلّ، صار ذلك مواعدة بين الله تعالى وبين موسى. ومثله: لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا «2» . ومعنى الآية: وعدنا موسى تتمة أربعين يوما أو انقضاء أربعين ليلة. وموسى: اسم أعجمي، أصله بالعبرانية: موشا، فمو: هو الماء، وشا: هو الشجر، لأنه وجد عند الماء والشجر، فعرب بالسين. ولماذا كان هذا الوعد؟ فيه قولان: أحدهما: لأخذ التوراة. والثاني: للتكليم. وفي هذه المدة قولان: أحدهما: أنها ذو القعدة وعشر من ذي الحجة! وهذا قول من قال: كان الوعد لإعطاء التوراة. والثاني: أنها ذو الحجة وعشر من المحرم، وهو قول من قال: كان الوعد للتكليم. وإنما ذكرت الليالي دون الأيام، لأن عادة العرب التأريخ بالليالي، لأن أول الشهر ليله، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعا لليالي. وقال أبو بكر النقاش «3» : إنما ذكر الليالي، لأنه أمره أن يصوم هذه الأيام ويواصلها بالليالي، فلذلك ذكر الليالي، وليس بشيء. [سورة البقرة (2) : آية 52] ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) قوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ، من بعده، أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل. (الإشارة إِلى اتخاذهم العجل) روى السدي عن أشياخه أنه لما انطلق موسى، واستخلف هارون، قال هارون: يا بني إسرائيل! إِن الغنيمة لا تحل لكم، وإِن حليّ القبط غنيمة فاجمعوه واحفروا له حفيرة «4» ، فادفنوه، فان أحلّه

_ (1) الماذيانة: الفرس. والحصن: جمع حصان. (2) البقرة: 235. (3) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي، ثم البغدادي، أبو بكر النقاش المقرئ المفسّر. روى عن أبي مسلم الكجي، وطبقته، وقرأ بالروايات، ورحل إلى عدة مدائن، وتعب واحتيج إليه، وصار شيخ المقرئين في عصره على ضعف فيه. قال طلحة بن محمد الشاهد: كان النقاش يكذب في الحديث، والغالب عليه القصص. وقال البرقاني: كل حديث النقاش منكر. قال أبو القاسم اللالكائي: تفسير النقاش إشقاء الصدور، وليس بشفاء. الصدور توفي النقاش 351. وانظر «الميزان» للذهبي 7404. (4) في «اللسان» الحفيرة والحفر والحفير: البئر الموسعة فوق قدرها.

[سورة البقرة (2) : آية 53]

موسى فخذوه، وإلا كان شيئاً لم تأكلوه، ففعلوا. قال السدي: وكان جبريل قد أتى إلى موسى ليذهب به إلى ربه، فرآه السامريّ، فأنكره وقال: إن لهذا شأناً، فأخذ قبضة من أثر حافر الفرس، فقذفها في الحفيرة، فظهر العجل. وقيل: إِن السامريّ أمرهم بالقاء ذلك الحليّ، وقال: إنما طالت غيبة موسى عنكم لأجل ما معكم من الحلي، فاحفروا لها حفيرة وقربوه إلى الله، يبعث لكم نبيكم، فإنه كان عارية، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وفي سبب اتخاذ السامري عجلاً قولان: أحدهما: أن السامري كان من قوم يعبدون البقر، فكان ذلك في قلبه، قاله ابن عباس. والثاني: أن بني إسرائيل لما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، أعجبهم ذلك، فلما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً وأنكر عليهم، أخرج السامريّ لهم في غيبته عجلاً لما رأى من استحسانهم ذلك، قاله ابن زيد. وفي كيفية اتخاذ العجل قولان: أحدهما: أن السامري كان صوّاغاً فصاغه وألقى فيه القبضة، قاله علي وابن عباس. والثاني: أنهم حفروا حفيرة، وألقوا فيها حلي قوم فرعون وعواريهم تنزهاً عنها، فألقى السامريّ القبضة من التراب فصار عجلاً. روي عن ابن عباس أيضاً. قال ابن عباس: صار لحماً ودماً وجسداً، فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى قد جاء، وأخطأ موسى الطريق، فعبدوه وزفنوا حوله «1» . [سورة البقرة (2) : آية 53] وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) قوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ، الكتاب: التوراة. وفي الفرقان خمسة أقوال: أحدها: أنه النصر، قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني: أنه ما في التوراة من الفرق بين الحق والباطل، فيكون الفرقان نعتاً للتوراة، قاله أبو العالية. والثالث: أنه الكتاب، فكرره بغير اللفظ. قال عدي بن زيد: فألفى قولها كذباً ومينا «2» وقال عنترة: أقوى وأقفر بعد أم الهيثم «3» هذا قول مجاهد، واختيار الفرّاء والزّجّاج. والرابع: أنه فرق البحر لهم، ذكره الفراء والزجاج وابن القاسم. والخامس: أنه القرآن. ومعنى الكلام: لقد آتينا موسى الكتاب، ومحمداً الفرقان، ذكره الفرّاء، وهو قول قطرب. [سورة البقرة (2) : آية 54] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ. القوم: اسم للرجال والنساء،

_ (1) الزّفن: الرّقص، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها: «قدم وفد الحبشة فجعلوا يزفنون ويلعبون» أي يرقصون. (2) هو عجز بيت وصدره: فقددت الأديم لراهشيه. والقدّ: القطع. والراهشان: عرقان في باطن الذراع. والمين: الكذب. وانظر «اللسان» مادة- مين-. [.....] (3) هو عجز بيت وصدره: حيّيت من طلل تقادم عهده. انظر «تفسير القرطبي» 1/ 440.

قال الله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ «1» ، وقال زهير: وما أدري وسوف إِخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء؟! وإنما سموا قوماً، لأنهم يقومون بالأمور. قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ، قال أبو علي: كان ابن كثير ونافع «2» وعاصم «3» وابن عامر «4» وحمزة والكسائي «5» يكسرون الهمزة من غير اختلاس ولا تخفيف. وروى اليزيدي وعبد الوارث «6» عن أبي عمرو «7» : «بارئْكم» بجزم الهمزة. روى عنه العباس بن الفضل «8» : «بارئكم» مهموزة غير مثقلة. وقال سيبويه «9» : كان أبو عمرو يختلس الحركة في: «بارئكم» و «يأمركم» وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات، فيرى من يسمعه أنه قد أسكن ولم يسكن. والبارئ: الخالق. ومعنى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: ليقتل بعضكم بعضاً. قاله ابن عباس ومجاهد. واختلفوا فيمن خوطب بهذا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خطاب للكل، قاله السدي عن أشياخه. والثاني: أنه خطاب لمن لم يعبد ليقتل من عبد، قاله مقاتل. والثالث: أنه خطاب للعابدين فحسب، أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الإشارة بقوله: «ذا» في: «ذلكم» قولان: أحدها: أنه يعود إِلى القتل. والثاني: أنه يعود إلى التوراة. (الإِشارة إِلى قصتهم في ذلك) قال ابن عباس: قالوا لموسى: كيف يقتل الآباء الأبناء، والإخوة الإخوة؟ فأنزل الله عليهم ظلمة

_ (1) الحجرات: 11. (2) هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ، المدني، مولى بني ليث، أصله من أصبهان، وقد نسب لجده صدوق ثبت في القراءة، من كبار السابعة، توفي 169، وروى له ابن ماجة في «التفسير» . (3) هو عاصم بن بهدلة، وهو ابن أبي النّجود الأسدي مولاهم، الكوفي، أبو بكر المقرئ، صدوق له أوهام حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون، من السادسة، توفي 128. انظر «التقريب» 3054. (4) هو عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم اليحصبيّ، الدمشقي، المقرئ، أبو عمران، وقيل غير ذلك في كنيته، ثقة، من الثالثة، توفي سنة 118 وله سبع وتسعون سنة على الصحيح، روى له مسلم والترمذي. انظر «التقريب» 3405. (5) هو إمام القرّاء، أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي الكوفي، المعروف بالكسائي، النحويّ، مولى بني أسد، أحد الأئمة القرّاء. وقيل له لم سميت الكسائي قال: لأني أحرمت في كساء. توفي سنة 189 في «برنبوية» قرية من قرى الرّيّ. انظر «الأنساب» للسمعاني 5/ 66. (6) هو الإمام القارئ الحافظ، أبو عبيدة التنوري، عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الغبري مولاهم، البصري، ثقة ثبت، رمي بالقدر ولم يثبت عنه، من الثامنة. توفي سنة 180 روى له الجماعة. (7) هو مقرئ البصرة، الإمام أبو عمرو بن العلاء بن عمّار التميمي المازني البصري أحد السبعة، قال أبو عبيدة: كان أبو عمرو أعلم الناس بالقرآن والعربية والشعر وأيام العرب وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف ثم تنسك فأحرقها. وهو في النحو في الطبقة الرابعة. توفي في الكوفة سنة 154. (8) العباس بن الفضل، أحد القراء، توفي سنة 186. (9) هو عمرو بن عثمان، إمام النحو واللغة، توفي سنة 161.

[سورة البقرة (2) : الآيات 55 إلى 56]

لا يرى بعضهم بعضاً، فقالوا: فما آية توبتنا؟ قال: أن يقوم السلام ولا يقتل، وترفع الظلمة. فقتلوا حتى خاضوا في الدماء، وصاح الصبيان: يا موسى: العفو العفو. فبكى موسى، فنزلت التوبة، وقام السّلام، وارتفعت الظلمة. قال مجاهد: بلغ القتلى سبعين ألفاً. قال قتادة: جعل القتل للقتيل شهادة، وللحيّ توبة. [سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً. في القائلين لموسى ذلك قولان: أحدهما: أنهم السبعون المختارون، قاله ابن مسعود وابن عباس. والثاني: جميع بني إِسرائيل إلا من عصم الله منهم، قاله ابن زيد، قال: وذلك أنه أتاهم بكتاب الله، فقالوا: والله لا نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول: هذا كتابي. وفي جَهْرَةً قولان: أحدهما: أنه صفة لقولهم، أي: جهروا بذلك القول، قاله ابن عباس، وأبو عبيدة. والثاني: أنها الرؤية البيّنة، أي: أرناه غير مستتر بشيء، يقال: فلان يتجاهر بالمعاصي، أي: لا يستتر من الناس، قاله الزجاج. ومعنى «الصاعقة» : ما يصعقون منه، أي: يموتون. ومن الدليل على أنهم ماتوا، قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ هذا قول الأكثرين. وزعم قوم أنهم لم يموتوا، واحتجوا بقوله تعالى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً «1» وهذا قول ضعيف، لأن الله تعالى فرق بين الموضعين، فقال هناك: فَلَمَّا أَفاقَ، وقال هاهنا: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ والإفاقة للمغشي عليه، والبعث للميت. قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: ينظر بعضكم إلى بعض كيف يقع ميتاً. والثاني: ينظر بعضكم إِلى إِحياء بعض. والثالث: تنظرون العذاب كيف ينزل بكم، وهو قول من قال: نزلت نار فأحرقتهم. [سورة البقرة (2) : آية 57] وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) قوله تعالى: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ. الغمام: السحاب، سمي غماماً، لأنه يغم السماء، أي: يسترها، وكل شيء غطيته فقد غممته، وهذا كان في التيه. وفي «المن» ثمانية أقوال: أحدها: أنه الذي يقع على الشجر فيأكله الناس، قاله ابن عباس والشعبي والضحاك. والثاني: أنه الترنجبين «2» ، روي عن ابن عباس أيضاً، وهو قول مقاتل. والثالث: أنه صمغه، قاله مجاهد. والرابع: أنه يشبه الرب الغليظ «3» ، قاله عكرمة. والخامس: أنه شراب، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس. والسادس: أنه خبز الرقاق مثل الذرة، أو مثل النَّقي، قاله وهب.

_ (1) الأعراف: 143. (2) الترنجبين: هو ندى شبيه بالعسل يقع من السماء. (3) الرّبّ: بالضمّ دبس الرّطب إذا طبخ. انظر «المصباح» .

[سورة البقرة (2) : آية 58]

والسابع: أنه عسل، قاله ابن زيد. والثامن: أنه الزنجبيل، قاله السدي «1» . وفي «السلوى» قولان: أحدهما: أنه طائر، قال بعضهم: يشبه السماني، وقال بعضهم: هو السماني. والثاني: أنه العسل، ذكره ابن الانباري، وأنشد «2» : وقاسمها بالله جهداً لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا، قال ابن عباس: ما نقصونا وضرّونا، بل ضرّوا أنفسهم. [سورة البقرة (2) : آية 58] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ. في القائل لهم قولان: أحدهما: أنه موسى بعد مضيّ الأربعين سنة. والثاني: أنه يوشع بن نون بعد موت موسى. والقرية: مأخوذة من الجمع، ومنه: قريت الماء في الحوض. والمقراة: الحوض يجمع فيه الماء. وفي المراد بهذه القرية قولان: أحدهما: أنها بيت المقدس، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسّدّيّ والرّبيع، وروي عن ابن عباس أنها أريحا. قال السدي: وأريحا: هي أرض بيت المقدس. والثاني: أنها قرية من أداني قرى الشام، قاله وهب «3» . قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ، قال ابن عباس: وهو أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى:

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 95: والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد. فالمنّ المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا، وإن ركّب مع غيره صار نوعا آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده. والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين) . [.....] (2) البيت للهذليّ هو خالد بن زهير. قال القرطبي رحمه الله 1/ 447: قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين. وقد غلط الهذليّ فقال: وقاسمهما بالله جهداً لأنتم ... ألذ من السلوى إِذا ما نشورها ظنّ أن السلوى العسل. قلت: ما ادّعاه من الإجماع لا يصح وقد قال المؤرّج (وهو مؤرج بن عمر الدّوسي من أصحاب الخليل بن أحمد) أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل، واستدل ببيت الهذليّ، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة، سمّي به لأنه يسلى به. وقال الجوهري: والسلوى العسل، وذكر بيت الهذليّ ولم يذكر غلطا. والسّلوانة (بالضم) : خرزة كانوا يقولون إذا صبّ عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال: شربت على سلوانة ماء مزنة ... فلا وجديد العيش يا ميّ ما أسلو واسم ذلك الماء السلوان. وقال بعضهم: السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمّونه المفرّح، يقال سليت وسلوت، لغتان. وهو في سلوة من العيش. أي في رغد، عن أبي زيد. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 98: يقول الله تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر بصحبة موسى عليه السّلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة، التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره الله تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس.

[سورة البقرة (2) : آية 59]

باب حطة، وقوله: سُجَّداً، أي: ركعاً. قال وهب: أمروا بالسجود شكرا لله عزّ وجلّ إذ ردهم إليها. قوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ قرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة (حطةً) بالنصب. وفي معنى «حطة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: استغفروا، قاله ابن عباس ووهب. قال ابن قتيبة: وهي كلمة أُمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار، من: حططت، أي: حط عنا ذنوبنا. والثاني: أن معناها: قولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم، ذكره الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أن معناها: لا إله إلا الله، قاله عكرمة. قال ابن جرير الطبري: فيكون المعنى: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم، وهو قول «لا إِله إِلا الله» . ولماذا أمروا بدخول القرية؟ فيه قولان: أحدهما: أن ذلك لذنوب ركبوها فقيل: (ادخلوا القرية) (وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطاياكم) ، قاله وهب. والثاني: أنهم ملوا المن والسلوى، فقيل: اهْبِطُوا مِصْراً، فكان أول ما لقيهم أريحا، فأمروا بدخولها. قوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (نغفر لكم) بالنون مع كسر الفاء. وقرأ نافع وأبان عن عاصم «يغفر» بياء مضمومة وفتح الفاء. وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة مع فتح الفاء. [سورة البقرة (2) : آية 59] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. اعلم أن الله عزّ وجلّ، أمرهم في دخولهم بفعل وقول، فالفعل السجود، والقول: حطة، فغير القوم الفعل والقول. فأما تغيير الفعل ففيه خمسة أقوال: (23) أحدها: أنهم دخلوا متزحفين على أوْراكهم. رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أنهم دخلوا من قبل أستاههم، قاله ابن عباس وعكرمة. والثالث: أنهم دخلوا مقنعي رؤوسهم، قاله ابن مسعود. والرابع: أنهم دخلوا على حروف عيونهم، قاله مجاهد. والخامس: أنهم دخلوا مستلقين، قاله مقاتل. وأما تغيير القول ففيه خمسة أقوال: (24) أحدها: أنهم قالوا مكان «حطة» : حبة في شعرة، رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أنهم قالوا: حنطة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، ووهب، وابن يزيد. والثالث: أنهم قالوا: حنطة حمراء فيها شعرة، قاله ابن مسعود.

_ لم أره مرفوعا بهذا اللفظ، وإنما أخرجه البخاري 3403 و 4641 و 4479 ومسلم 3015 والترمذي 2956 وابن حبّان 6251. من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة يغفر لكم خطاياكم فبدّلوا فدخلوا الباب على أستاهم وقالوا حبّة في شعرة» . والرواية التي ذكرها المصنف هي من قول الحسن كما في تفسير الطبري 1027. انظر الحديث المتقدم.

[سورة البقرة (2) : آية 60]

والرابع: أنهم قالوا: حبة حنطة مثقوبة فيها شعيرة سوداء، قاله السدي عن أشياخه. والخامس: أنهم قالوا: سنبلاثا، قاله أبو صالح. فاما الرجز فهو العذاب، قاله الكسائي وأبو عبيدة والزّجّاج. وأنشدوا لرؤبة: كم رأينا في ذي عديد مبزي ... حتى وقمنا كيده بالرجز «1» وفي ماهية هذا العذاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ظلمة وموت، فمات منهم في ساعة واحدة، أربعة وعشرون ألفاً، وهلك سبعون ألفا عقوبة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه أصابهم الطاعون، عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا، قاله وهب بن منبه. والثالث: أنه الثلج، هلك به منهم سبعون ألفا، قاله سعيد بن جبير. [سورة البقرة (2) : آية 60] وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) قوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ. استسقى بمعنى: استدعى ذلك، كقولك: استنصر. وفي «الحجر» قولان: أحدهما: أنه حجر معروف عين لموسى، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، وعطية، وابن زيد، ومقاتل، واختلفوا في صفته على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان حجراً مربعاً، قاله ابن عباس. والثاني: كان مثل رأس الثور، قاله عطية. والثالث: مثل رأس الشاة، قاله ابن زيد. وقال سعيد بن جبير: هو الذي ذهب بثياب موسى. فجاءه جبريل فقال: إن الله تعالى يقول لك: ارفع هذا الحجر، فلي فيه قدرة، ولك فيه معجزة، فكان اذا احتاج إلى الماء ضربه. والقول الثاني: أنه أمر بضرب أي حجر كان، والأول أثبت. قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ. تقدير معناه: فضرب فانفجرت، فلما عرف بقوله: «فانفجرت» أنه قد ضرب، اكتفى بذلك عن ذكر الضرب، ومثله: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «2» ، قاله الفراء. ولما كان القوم اثني عشر سبطا، أخرج الله لهم اثني عشرة عينا، ولأنه كان فيهم تشاحن فسلموا بذلك منه. قوله تعالى: وَلا تَعْثَوْا. العثو: أشد الفساد، يقال: عثي، وعثا، وعاث. قال ابن الرقاع: لولا الحياء وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت أمّ القاسم [سورة البقرة (2) : آية 61] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ، هذا قولهم في التّيه، وعنوا بالطعام

_ (1) في «اللسان» : وقمت الرجل عن حاجته: رددته أقبح الردّ. (2) الشعراء: 63.

الواحد: المن والسلوى. قال محمد بن القاسم: كان المن يؤكل بالسلوى والسلوى بالمن، فلذلك كانا طعاماً واحداً. والبقل هاهنا: اسم جنس، وعنوا به: البقول، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: تذهب العامة إِلى أن البقل: ما يأكله الناس خاصة دون البهائم من النبات الناجم الذي لا يحتاج في أكله إلى طبخ، وليس كذلك إِنما البقل: العشب، وما ينبت الربيع مما يأكله الناس والبهائم، يقال: بقلت الأرض، وأبقلت، لغتان فصيحتان: إذا أنبت البقل. وابتقلت الإبل وتبقّلت: إذا رعت. قال أبو النجم يصف الإبل: تبقلت في أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل وفي «القثاء» لغتان: كسر القاف، وضمها، والكسر أجود، وبه قرأ الجمهور. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء «1» ، وقتادة وطلحة بن مصرف، والأعمش بضم القاف. قال الفراء: الكسر لغة أهل الحجاز، والضم لغة تيم، وبعض بني أسد. وفي «الفوم» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحنطة، قاله ابن عباس، والسدي عن أشياخه، والحسن وأبو مالك. قال الفراء: هي لغة قديمة، يقول أهلها: فوَموا لنا، أي: اختبزوا لنا. والثاني: أنه الثوم، وهو قراءة عبد الله وأبيّ: «وثومها» واختاره الفراء، وعلل بأنه ذكر مع ما يشاكله، والفاء تبدل من الثاء، كما تقول العرب: الجدث، والجدف: للقبر، والأثافي والأفافي: للحجارة التي توضع تحت القدر. والمغاثير والمغافير: لضرب من الصمغ. وهذا قول مجاهد، والربيع بن أنس، ومقاتل، والكسائي، والنضر بن شميل وابن قتيبة. والثالث: أنه الحبوب، وذكره ابن قتيبة والزجاج. قوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى، أي: أردأ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، أي: أعلى، يريد: أن المن والسلوى أعلى ما طلبتم. قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً فيه قولان: أحدهما: أنه اسم لمصر من الأمصار غير معين، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وإنما أمروا بالمصر، الذي طلبوه في الأمصار. والثاني: أنه أراد البلد المسمى بمصر. وفي قراءة عبد الله والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش «مصر» بغير تنوين، قال أبو صالح عن ابن عباس: أراد مصر فرعون، وهذا قول أبي العالية والضحاك، واختاره الفراء، واحتج بقراءة عبد الله. قال: وسئل عنها الأعمش، فقال: هى مصر التي عليها صالح بن علي «2» . وقال مفضل الضبي «3» : سميت مصراً، لأنها آخر حدود المشرق، وأول حدود المغرب، فهي حد بينهما. والمصر: الحد. وأهل هجر يكتبون في عهدهم: اشترى فلان الدار بمصورها، أي: بحدودها. وقال عدي: وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا وحكى ابن فارس أن قوماً قالوا: سميت بذلك لقصد الناس إِياها. كقولهم: مصرت الشاة، إذا حلبتها، فالناس يقصدونها، ولا يكادون يرغبون عنها إذا نزلوها.

_ (1) أبو رجاء هو عمران بن ملحان العطاردي، مخضرم ثقة، توفي سنة 105 وله 120 سنة، روى له الجماعة. (2) هو أول من ولي مصر من قبل أبي العباس السفاح سنة 133 هـ. وفي بعض النسخ «سليمان بن علي» خطأ. (3) هو المفضل بن محمد بن يعلى، أبو العباس، عارف بالأدب والشعر، توفي سنة 168.

[سورة البقرة (2) : آية 62]

قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، أي: ألزموها، قال الفراء: الذلة والذل: بمعنى واحد، وقال الحسن: هي الجزية. وفي المسكنة قولان: أحدهما: أنها الفقر والفاقة، قاله أبو العالية، والسدي، وأبو عبيدة، وروي عن السدي قال: هي فقر النفس. والثاني: أنها الخضوع، قاله الزّجّاج. قوله تعالى: وَباؤُ، أي: رجعوا. وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إِلى الغضب. وقيل: إِلى جميع ما ألزموه من الذّلة والمسكنة وغيرهما. قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ. كان نافع يهمز «النبيين» و «الأنبياء» و «النبوة» وما جاء من ذلك، إلا في موضعين في الاحزاب: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ» ، إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ «2» ، وإنما ترك الهمزة في هذين الموضعين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، وباقي القراء لا يهمزون جميع المواضع. قال الزجاج: الأجود ترك الهمز. واشتقاق النبي من: نبأ، وأنبأ، أي: أخبر. ويجوز أن يكون من: نبا ينبو: إذا ارتفع، فيكون بغير همز: فعيلاً، من الرفعة. قال عبد الله بن مسعود: كانت بنو اسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبيّ، ثم تقوم سوق بقلهم في آخر النهار. قوله تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: بغير جرم، قاله ابن الأنباري. والثاني: أنه توكيد كقوله تعالى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «3» . والثالث: أنه خارج مخرج الصّفة لقتلهم أنه ظلم، فهو كقوله: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ «4» ، فوصف حكمه بالحق، ولم يدل على أنه يحكم بغير الحق. قوله تعالى: وَكانُوا يَعْتَدُونَ، العدوان: أشد الظلم. وقال الزجاج: الاعتداء: مجاوزة القدر في كل شيء. [سورة البقرة (2) : آية 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، فيهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم قوم كانوا مؤمنين بعيسى قبل أن يبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين آمنوا بموسى، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى، فآمنوا به وعملوا بشريعته إلى أن جاء محمد. وهذا قول السدي عن أشياخه. والثالث: أنهم المنافقون، قاله سفيان الثوري «5» . والرابع: أنهم الذين كانوا يطلبون الإسلام، كقس بن ساعدة، وبحيرا، وورقة بن نوفل، وسلمان. والخامس: أنهم المؤمنون من هذه الأمة. قوله تعالى: وَالَّذِينَ هادُوا، قال الزجاج: أصل هادوا في اللغة: تابوا. وروي عن ابن مسعود أن اليهود سموا بذلك لقول موسى: هُدْنا إِلَيْكَ «6» ، والنصارى لقول عيسى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ. وقيل سموا النصارى لقرية نزلها المسيح، اسمها: ناصرة، وقيل: لتناصرهم. فأما «الصابئون» فقرأ الجمهور بالهمز في جميع القرآن. وكان نافع لا يهمز كل المواضع. قال

_ (1) الأحزاب: 53. (2) الأحزاب: 50. (3) الحج: 46. (4) الأنبياء: 112. (5) هو الإمام الفقيه، أمير المؤمنين في الحديث، توفي سنة 161. (6) الأعراف: 156.

[سورة البقرة (2) : آية 63]

الزجاج: معنى الصابئين: الخارجون من دين إلى دين، يقال: صبأ فلان: إذا خرج من دينه. وصبأت النجوم: إذا طلعت، وصبأ نابُه: إِذا خرج. وفي الصابئين سبعة أقوال: أحدها: أنه صنف من النصارى ألين قولاً منهم، وهم السائحون المحلَّقة أوساط رؤوسهم، روي عن ابن عباس. والثاني: أنهم قوم بين النصارى والمجوس، ليس لهم دين، قاله مجاهد. والثالث: أنهم قوم بين اليهود والنصارى، قاله سعيد بن جبير. والرابع: قوم كالمجوس، قاله الحسن والحكم. والخامس: فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور، قاله أبو العالية. والسادس: قوم يصلون إلى القبلة، ويعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور، قاله قتادة. والسابع: قوم يقولون: لا إِله إلا الله، فقط، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، قاله ابن زيد. قوله تعالى: مَنْ آمَنَ، في إعادة ذكر الإيمان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لما ذكر مع المؤمنين طوائف من الكفار رجع قوله: مَنْ آمَنَ إليهم. والثاني: أن المعنى من أقام على إيمانه. والثالث: أن الايمان الأول نطق المنافقين بالإسلام. والثاني: اعتقاد القلوب. قوله تعالى: وَعَمِلَ صالِحاً. قال ابن عباس: أقام الفرائض. فصل: وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟ فيه قولان: أحدهما: أنها محكمة، قاله مجاهد والضحاك في آخرين، وقدروا فيها: إن الذين آمنوا، ومن آمن من الذين هادوا. والثاني: أنها منسوخة بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «1» ، ذكره جماعة من المفسّرين. [سورة البقرة (2) : آية 63] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ. الخطاب بهذه الآية لليهود. والميثاق: مفعال من التوثق بيمين أو عهد أو نحو ذلك من الأمور التي تؤكد القول. وفي هذا الميثاق ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، فكرهوا الإِقرار بما فيها، فرفع عليهم الجبل، قاله مقاتل. قال أبو سليمان الدمشقي: أعطوا الله عهداً ليعملُنَّ بما في التوراة، فلما جاء بها موسى فرأوا ما فيها من التثقيل، امتنعوا من أخذها، فرفع الطور عليهم. والثاني: أنه ما أخذه الله تعالى على الرسل وتابعيهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ذكره الزجاج. والثالث: ذكره الزجاج أيضاً، فقال: يجوز أن يكون الميثاق يوم أخذ الذرية من ظهر آدم. قوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، قال أَبو عبيدة: الطور في كلام العرب: الجبل. وقال ابن قتيبة: الطور: الجبل بالسريانية. وقال ابن عباس: ما أنبت من الجبال فهو طور، وما لم ينبت فليس بطور. وأي الجبال هو؟ فيه ثلاثة أَقوال: أحدها: جبل من جبال فلسطين، قاله ابن عباس. والثاني: جبل نزلوا بأصله، قاله قتادة. والثالث: الجبل الذي تجلى له ربه، قاله مجاهد. وجمهور العلماء على أنه إنما رفع الجبل عليهم لإبائهم التوراة. وقال السدي: لإبائهم دخول الأرض المقدّسة.

_ (1) آل عمران: 85. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 64]

قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ. وفي المراد «بقوّة» أربعة أقوال: أحدها: الجد والاجتهاد، قاله ابن عباس وقتادة والسدي. والثاني: الطاعة، قاله أبو العالية. والثالث: العمل بما فيه، قاله مجاهد. والرابع: الصدق، قاله ابن زيد. قوله تعالى: وَاذْكُرُوا ما فِيهِ، قولان: أحدهما: اذكروا ما تضمنه من الثواب والعقاب، قاله ابن عباس. والثاني: معناه: ادرسوا ما فيه، قاله الزجاج. قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، قال ابن عباس: تتقون العقوبة. [سورة البقرة (2) : آية 64] ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، أي: أعرضتم عن العمل بما فيه من بعد إعطاء المواثيق ليأخذنّه بجد، فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين بالعقوبة. [سورة البقرة (2) : آية 65] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ. السبت: اليوم المعروف، قاله ابن الأنباري: ومعنى السبت في كلام العرب: القطع، يقال: قد سبت رأسه: إذا حلقه وقطع الشعر منه، ويقال: نعل سبتية: إِذا كانت مدبوغة بالقرظ محلوقة الشعر، فسمي السبت سبتاً، لأن الله عزّ وجلّ ابتدأ الخلق فيه، وقطع فيه بعض خلق الأرض، أو: لأن الله تعالى أمر بني إسرائيل بقطع الأعمال وتركها. وقال بعضهم: سمي سبتاً، لأن الله تعالى أمرهم بالاستراحة فيه من الأعمال، وهذا خطأ، لأنه لا يعرف في كلام العرب: سبت بمعنى: استراح. وفي صفة اعتدائهم في السبت قولان: أحدهما: أنهم أخذوا الحيتان يوم السبت، قاله الحسن ومقاتل. والثاني: أنهم حبسوها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد، وذلك أن الرجل كان يحفر الحفرة ويجعل لها نهراً إلى البحر، فاذا كان يوم السبت فتح النهر، وقد حرم الله عليه العمل يوم السبت، فيقبل الموج بالحيتان حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت الخروج فلا يطيق، فيأخذها يوم الأحد، قاله السدي. (الإشارة إلى قصة مسخهم) روى عثمان بن عطاء عن أبيه قال: نودي الذين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات: نودوا: يا أهل القرية، فانتبهت طائفة [ثم نودوا: يا أهل القرية فانتبهت طائفة] «1» أكثر من الأولى، ثم نودوا: يا أهل القرية، فانتبه الرجال والنساء والصبيان، فقال الله لهم: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ، فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برءوسهم: بلى. قال قتادة: فصار القوم قردة تعاوي، لها أذناب بعد ما كانوا رجالا ونساء. وفي رواية عن قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم. وقال غيره: كانوا نحواً من سبعين ألفاً، وعلى هذا القول العلماء، غير ما روي عن مجاهد أنه قال: مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم، وهو قول بعيد، قال ابن

_ (1) زيادة عن بعض النسخ.

[سورة البقرة (2) : آية 66]

عباس: لم يحيوا على الأرض إلا ثلاثة أيّام، ولم يحي مسخ في الأرض فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام، وماتوا في اليوم الثامن، وهذا كان في زمان داود عليه السلام. قوله تعالى: خاسِئِينَ: الخاسئ في اللغة: المبعد، يقال للكلب: اخسأ، أي: تباعد. [سورة البقرة (2) : آية 66] فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) قوله تعالى: فَجَعَلْناها. في المكنى عنها أربعة أقوال: أحدها: أنها الخطيئة، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: العقوبة، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال الفراء: الهاء كناية عن المسخة التي مسخوها. والثالث: أنها القرية، والمراد أهلها، قاله قتادة وابن قتيبة. والرابع: أنها الأمة التي مسخت، قاله الكسائي، والزجاج. وفي النكال قولان: أحدهما: أنه العقوبة، قاله مقاتل. والثاني: العبرة، قاله ابن قتيبة والزجاج. قوله تعالى: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لما بين يديها من القرى وما خلفها، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: لما بين يديها من الذنوب، وما خلفها: ما عملوا بعدها، رواه عطية عن ابن عباس. والثالث: لما بين يديها من السنين التي عملوا فيها بالمعاصي، وما خلفها: ما كان بعدهم في بني اسرائيل لئلا يعملوا بمثل أعمالهم، قاله عطية. وفي المتقين قولان: أحدهما: أنه عام في كل متق إلى يوم القيامة، قاله ابن عباس. والثاني: أن المراد بهم أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قاله السدي عن أشياخه، وذكره عطية وسفيان. [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 68] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. (ذكر السبب في أمرهم بذبح البقرة) روى ابن سيرين عن عبيدة قال: كان في بني اسرائيل رجل عقيم لا يولد له، وله مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله واحتمله ليلا، فأتى به حيّا آخرين، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فأتوا موسى فذكروا له ذلك، فأمرهم بذبح البقرة. وروى السدي عن أشياخه أن رجلاً من بني إِسرائيل كانت له بنت وابن أخ فقير، فخطب إليه ابنته، فأبى، فغضب وقال: والله لأقتلنّ عمي، ولآخذنّ ماله ولأنكحنّ ابنته، ولآكلنّ ديته، فأتاه فقال: قد قدم تجار في بعض أسباط «1» بني إِسرائيل، فانطلق معي فخذ لي من تجارتهم لعلي أصيب فيها ربحاً، فخرج معه، فلما بلغا ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع، فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمّه لا يدري أين هو،

_ (1) في «اللسان» : السّبط من اليهود كالقبيلة من العرب.

[سورة البقرة (2) : الآيات 69 إلى 70]

فاذا بذلك السبط قد اجتمعوا عليه، فأمسكهم وقال: قتلتم عمّي، وجعل يبكي وينادي: وا عمّاه. قال أبو العالية: والذي سأل موسى أن يسأل الله البيان: القاتل، وقال غيره: بل القوم اجتمعوا فسألوا موسى. فلما أمرهم بذبح بقرة قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: «هزؤا» بضم الهاء والزاي والهمزة، وقرأ حمزة، وإِسماعيل، وخلف في اختياره، والفراء عن عبد الوارث، والمفضل: «هزأ» باسكان الزاي. ورواه حفص بالضم من غير همزة، وحكى أبو علي الفارسي أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فمن العرب من يثقله، ومنهم من يخففه، نحو العسر واليسر. قوله تعالى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. وإِنما انتفى من الهزء، لأن الهازئ جاهل لاعب. فلما تبين لهم أن الأمر من عند الله، قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ. قال الزجاج: وإنما سألوا: ما هي، لأنهم لا يعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميت. فأما الفارض فهي: المسنة، يقال: فرضت البقرة فهي فارض: إذا أسنت. والبكر: الصغيرة التي لم تلد، والعوان: دون المسنّة، وفوق الصغيرة، يقال: حرب عوان: إِذا لم تكن أول حرب، وكانت ثانية. [سورة البقرة (2) : الآيات 69 الى 70] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) في الصفراء قولان: أحدهما: أنه من الصفرة، وهو: اللون المعروف، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنها السّوداء، قاله الحسن البصري، ورده جماعة، فقال ابن قتيبة: هذا غلط في نعوت البقر، وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل، يقال: بعير أصفر، أي: أسود، لأن السوداء من الإبل يشوب سوادها صفرة، ويدل على ذلك قوله تعالى: فاقِعٌ لَوْنُها، والعرب لا تقول «أسود فاقع» إنما تقول: «أسود حالك» و «أصفر فاقع» . قال الزجاج: وفاقع نعت للأصفر الشديد الصفرة، يقال: أصفر فاقع، وأحمر قانئ وأخضر ناضر، وأبيض يقق، وأسود حالك، وحلكوك ودجوجي، فهذه صفات المبالغة في الألوان «1» . ومعنى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ: تعجبهم، قال ابن عباس: شدد القوم فشدّد عليهم.

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 1/ 487: قوله (صفراء) جمهور المفسرين أنها صفراء اللون من الصفرة المعروفة، قال مكي عن بعضهم: حتى القرن والظّلف. وقال الحسن وابن جبير: كانت صفراء القرن والظّلف فقط. وعن الحسن أيضا: (صفراء) معناه سوداء قال الشاعر: تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هنّ صفر أولادها كالزبيب قلت: والأول أصح لأنه الظاهر، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلّا في الإبل ولو أراد السواد لما أكده بالفقوع، وذلك نعت مختص بالصفرة وليس يوصف السواد بذلك، تقول العرب: أسود حالك وحلكوك وحلكوك، ودجوجيّ وغربيب. وأحمر قانئ وأبيض ناصع وأخضر ناضر وأصفر فاقع. هكذا نص نقلة اللغة عن العرب.

[سورة البقرة (2) : آية 71]

(25) وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «لولا أن بني إسرائيل استثنوا لم يعطوا الذي أعطوا» ، يعني بذلك قولهم: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ. وفي المراد باهتدائهم قولان: أحدهما: أنهم أرادوا: المهتدون إلى البقرة، وهو قول الأكثرين. والثاني: إِلى القاتل، ذكره أبو صالح عن ابن عباس. [سورة البقرة (2) : آية 71] قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) قوله تعالى: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ، قال قتادة: لم يذلها العمل فتثير الأرض. قال ابن قتيبة: يقال في الدواب: دابة ذلول: بينة الذل. بكسر الذال، وفي الناس: رجل ذليل بين الذل، بضم الذال. تُثِيرُ الْأَرْضَ: تقلبها للزراعة، ويقال للبقرة: المثيرة. قال الفراء: لا تقفن على ذلول، لأن المعنى: ليست بذلول فتثير الأرض. وحكى ابن القاسم أن أبا حاتم السجستاني أجاز الوقف على ذلول، ثم أنكره عليه جداً، وعلل بأن التي تثير الأرض لا يعدم منها سقي الحرث، ومتى أثارت الأرض كانت ذلولاً. ومعنى: وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ: لا يستقى عليها الماء لسقي الزرع. قوله تعالى: مُسَلَّمَةٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: مسلَّمة من العيوب، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل. والثاني: مسلَّمة من العمل، قاله الحسن وابن قتيبة. والثالث: مسلّمة من الشية، قاله مجاهد وابن زيد. والرابع: مسلَّمة القوائم والخلق، قاله عطاء الخراساني. فأما الشية، فقال الزجاج: الوشي في اللغة: خلط لون بلون. ويقال: وشيت الثوب أشيه شية ووشياً، كقولك: وديت فلاناً أدية دية. ونصب: لا شِيَةَ فِيها، على النفي. معنى الكلام: ليس فيها لون يفارق سائر لونها، وقال عطاء الخراساني: لونها لون واحد. قوله تعالى: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، قال ابن قتيبة: الآن: هو الوقت الذي أنت فيه، وهو حدّ الزمانين، حد الماضي من آخره، وحد المستقبل من أوله، ومعنى جِئْتَ بِالْحَقِّ: بينت لنا. قوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ، فيه قولان: أحدهما: لغلاء ثمنها، قاله ابن كعب القرظي. والثاني: لخوف الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قاله وهب. قال ابن عباس: مكثوا يطلبون البقرة

_ ضعيف جدا. أخرجه البزار 2188 «كشف» وابن أبي حاتم كما في «التفسير» لابن كثير 1/ 115 وإسناده ضعيف لضعف عباد بن منصور، وفيه سرور بن مغيرة، قال عنه الأزدي: عنده مناكير. واكتفى الهيثمي في «المجمع» 10834 بقوله: عبّاد بن منصور ضعيف. وقال الحافظ ابن كثير: غريب، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة. وورد من مرسل ابن جريج أخرجه الطبري 1246. وما يرسله ابن جريج ساقط قال الإمام أحمد: هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 151: هو معضل اه. وله شاهد من مرسل قتادة أخرجه الطبري 1248 ومع إرساله هو بصفة التمريض فالخبر واه، والراجح كونه من كلام قتادة ونحوه. أو من كلام أبي هريرة كما اختار ابن كثير، والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 72]

أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل، فأبى أن يبيعها الا بملء مسكها ذهباً، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعبيدة، ووهب، وابن زيد، والكلبي، ومقاتل في مقدار الثمن. فأما السبب الذي لأجله غلا ثمنها، فيحتمل وجهين: أحدهما: أنهم شددوا فشدد الله عليهم. والثاني: لإكرام الله عزّ وجلّ صاحبها، فإنه كان براً بوالديه. فذكر بعض المفسرين أنه كان شاب من بني اسرائيل براً بأبيه، فجاء رجل يطلب سلعة هي عنده، فانطلق ليبيعه إياها، فاذا مفاتيح حانوته مع أبيه، وأبوه نائم، فلم يوقظه ورد المشتري، فأضعف له المشتري الثمن، فرجع إلى أبيه فوجده نائماً، فعاد إلى المشتري فرده، فأضعف له الثمن، فلم يزل ذلك دأبهما حتى ذهب المشتري، فأثابه الله على بره بأبيه أن نتجت له بقرة من بقرة تلك البقرة. وروي عن وهب بن منبه في حديث طويل: أن فتى كان براً بوالديه، وكان يحتطب على ظهره، فاذا باعه تصدق بثلثه، وأعطى أمه ثلثه، وأبقى لنفسه ثلثه، فقالت له أمه يوماً: إني ورثت من أبيك بقرة، فتركتها في البقر على اسم الله، فاذا أتيت البقر، فادعها باسم إله إبراهيم، فذهب فصاح بها، فأقبلت، فأنطقها الله، فقالت: اركبني يا فتى، فقال: لم تأمرني أمي بهذا. فقالت: أيها البر بأمه، لو ركبتني لم تقدر عليّ، فانطلق، فلو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله لانقلع ببرّك لأمك. فلما جاء بها قالت أمه: بعها بثلاثة دنانير على رضىً مني، فبعث الله ملكاً فقال: بكم هذه؟ قال: بثلاثة دنانير على رضىً من أمي. قال: لك ستة ولا تستأمرها، فأبى، ورجع إلى أمه فأخبرها، فقالت: بعها بستة على رضىً مني، فجاء الملك فقال: خذ اثني عشر ولا تستأمرها، فأبى، وعاد إِلى أمه فأخبرها، فقالت: يا بني، ذاك مَلَك، فقل له: بكم تأمرني أن أبيعها؟ فجاء إليه فقال له ذلك، فقال: يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل في بني إسرائيل «1» . [سورة البقرة (2) : آية 72] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً هذه الآية مؤخرة في التلاوة، مقدمة في المعنى، لأن السبب في الأمر بذبح البقرة قتل النفس، فتقدير الكلام: وإِذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها، فسألتم موسى فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. ونظيرها قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً «2» ، أراد: أنزل الكتاب قيماً، ولم يجعل له عوجاً، فأخر المقدم وقدم المؤخر، لأنه من عادة العرب، قال الفرزدق: إِن الفرزدق صخرة ملمومة ... طالت فليس تنالها الأوعالا أراد: طالت الأوعالَ. وقال جرير: طاف الخيال وأين منك لماما ... فارجع لزورك بالسلام سلاماً أراد: طاف الخيال لماماً، وأين هو منك؟ وقال الآخر: خير من القوم العصاة أَميرهم ... - يا قوم فاستحيوا- النساء الجلَّس أراد: خير من القوم العصاة النساء، فاستحيوا من هذا. ومعنى قوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ: اختلفتم، قاله ابن عباس ومجاهد. وقال الزّجّاج: ادّارأتم،

_ (1) هذا الأثر مصدره كتب الأقدمين، فقد روى وهب الكثير عن أهل الكتاب. (2) الكهف: 1- 2.

[سورة البقرة (2) : آية 73]

بمعنى: تدارأتم، أي: تدافعتم، وألقى بعضكم على بعض، تقول: درأت فلاناً: إذا دفعته، وداريته: إذا لاينته، ودريته إذا ختلته، فأدغمت التاء في الدال، لأنهما من مخرج واحد، فأما الذي كتموه فهو أمر القتيل. [سورة البقرة (2) : آية 73] فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) قوله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها . من قال: أقاموا في طلبها أربعين سنة، قال: ضربوا قبره، ومن لم يقل ذلك، قال: ضربوا جسمه قبل دفنه، وفي الذي ضرب به ستة أقوال: أحدها: أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف، رواه عكرمة عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: وذلك العظم هو أصل الأذن، وزعم قوم أنه لا يكسر ذلك العظم من أحد فيعيش. قال الزجاج: الغضروف في الأذن، وهو: ما أشبه العظم الرقيق من فوق الشحمة، وجميع أعلى صدفة الأذن، وهو معلق الشنوف، فأما العظمان اللذان خلف الأذن الناتئان من مؤخر الأذن، فيقال لهما: الخشَّاوان، والخششاوان، واحدهما: خُشَّاء، وخُشُشاء. والثاني: أنه ضرب بالفخذ، روي عن ابن عباس أيضاً، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وذكر عكرمة ومجاهد أنه الفخذ الأيمن. والثالث: أنه البضعة التي بين الكتفين، رواه السدي عن أشياخه. والرابع: أنه الذنب، رواه ليث عن مجاهد. والخامس: أنه عجب الذنب، وهو عظم عليه بني البدن، روي عن سعيد بن جبير. والسادس: أنه اللسان، قاله الضحاك. وفي الكلام اختصار تقديره: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي، فقام فأخبر بقاتله. وفي قاتله أربعة أقوال: أحدها: بنو أخيه، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: ابنا عمه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهذان القولان يدلان على أن قاتله أكثر من واحد. والثالث: ابن أخيه، قاله السدي عن أشياخه وعبيدة. والرابع: أخوه، قاله عبد الرحمن بن زيد. قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب لقوم موسى. والثاني: لمشركي قريش، احتج عليهم إذ جحدوا البعث بما يوافق عليه أهل الكتاب. قال أبو عبيدة: وآياته: عجائبه. [سورة البقرة (2) : آية 74] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، قال ابراهيم بن السري: قست في اللغة: غلظت ويبست وعست. فقسوة القلب: ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه. والقاسي: والعاسي: الشديد الصلابة. وقال ابن قتيبة: قست وعست وعتت واحد، أي: يبست. وفي المشار إليهم بها قولان: أحدهما: جميع بني إسرائيل. والثاني: القاتل. قال ابن عباس: قال الذين قتلوه بعد أن سمى قاتله: والله ما قتلناه. وفي كاف «ذلك» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إشارة إلى إحياء الموتى، فيكون الخطاب لجميع بني إسرائيل. والثاني: إلى كلام القتيل، فيكون الخطاب للقاتل، ذكرهما المفسرون. والثالث: إلى ما شرح من الآيات من مسخ القردة والخنازير، ورفع الجبل وانبجاس الماء، وإحياء القتيل، ذكره الزجاج.

[سورة البقرة (2) : آية 75]

وفي «أو» أقوال، هي بعينها مذكورة في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ «1» ، وقد تقدمت. قوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، قال مجاهد: كل حجر ينفجر منه الماء، وينشق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فمن خشية الله. [سورة البقرة (2) : آية 75] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ. في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم المؤمنون، تقديره: أفتطمعون أن تصدقوا نبيكم، قاله أبو العالية وقتادة. والثالث: أنهم الأنصار، فانهم لما أسلموا أحبوا إسلام اليهود للرضاعة التي كانت بينهم، ذكره النقاش. قال الزجاج: وألف «أفتطمعون» ألف استخبار، كأنه آيسهم من الطمع في إيمانهم. وفي سماعهم لكلام الله قولان: أحدهما: أنهم قرءوا التوراة فحرّفوها، هذا قول مجاهد والسدي في آخرين، فيكون سماعهم لكلام الله بتبليغ نبيهم، وتحريفهم: تغيير ما فيها. والثاني: أنهم التّسعون رجلا الذين اختارهم موسى، فسمعوا كلام الله كفاحاً عند الجبل، فلمّا جاءوا إلى قومهم قالوا: قال لنا: كذا وكذا، وقال في آخر قوله: إن لم تستطيعوا ترك ما أنهاكم عنه فافعلوا ما تستطيعون. هذا قول مقاتل، والأول أصح. وقد أنكر بعض أهل العلم، منهم الترمذي صاحب «النوادر» هذا القول إِنكاراً شديداً، وقال: إنما خص بالكلام موسى وحده، وإلا فأي ميزة؟ وجعل هذا من الأحاديث التي رواها الكلبي وكان كذاباً. ومعنى عَقَلُوهُ: سمعوه ووَعوْه. وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: وهم يعلمون أنهم حرّفوه. والثاني: وهم يعلمون عقاب تحريفه. [سورة البقرة (2) : الآيات 76 الى 77] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) قوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا. هذه الآية نزلت في نفر من اليهود، كانوا إذا لقوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، هذا قول ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وابن زيد ومقاتل «2» . وفي معنى: بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قولان: أحدهما: بما قضى الله عليكم، والفتح: القضاء،

_ (1) البقرة: 19. (2) أخرجه الطبري 1338 عن ابن عباس بإسناد ضعيف، وكرره 1339 وإسناده ضعيف أيضا، الضحاك لم يلق ابن عباس، وأخرجه 1341 عن السّدّي وهذا مرسل، وكرره 1344 عن أبي العالية مرسلا، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 78]

ومنه قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «1» ، قال السدي عن أشياخه: كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم. والثاني: أن معناه: بما علمكم الله. قال ابن عباس وأبو العالية وقتادة: الذي فتحه عليهم، ما أنزله من التوراة في صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقال مقاتل: كان المسلم يلقى حليفه، أو أخاه من الرضاعة من اليهود، فيسأله: أتجدون محمداً في كتابكم؟ فيقولون: نعم، إنه لحق. فسمع كعب بن الأشرف وغيره، فقال لليهود في السر: أتحدثون أصحاب محمد بما فتح الله عليكم؟ أَي: بما بين لكم في التوراة من أمر محمد ليخاصموكم به عند ربكم باعترافكم أنه نبي، أفلا تعقلون أن هذا حجة عليكم «2» ؟! قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى: في حكم ربكم، كقوله تعالى: فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ «3» . والثاني: أنه أراد به يوم القيامة. [سورة البقرة (2) : آية 78] وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ، يعنى: اليهود. والأمي: الذي لا يكتب ولا يقرأ، قاله مجاهد. وفي تسميته بالأمي قولان: أحدهما: لأنه على خلقة الأمة التي لم تتعلم الكتاب، فهو على جبلته، قاله الزجاج. والثاني: أنه ينسب إلى أمه، لأن الكتابة في الرجال كانت دون النساء. وقيل: لأنه على ما ولدته أمه. قوله تعالى: لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ، قال قتادة: لا يدرون ما فيه. قوله تعالى: إِلَّا أَمانِيَّ جمهور القراء على تشديد الياء، وقرأ الحسن، وأبو جعفر، بتخفيف الياء، وكذلك: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ «4» ولَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ «5» فِي أُمْنِيَّتِهِ «6» ، ووَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ «7» ، كله بتخفيف الياء وكسر الهاء من «أمانيهم» ولا خلاف في فتح ياء «الأماني» . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الأكاذيب. قال ابن عباس: إلا أمانيَّ: يريد إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذباً. وهذا قول مجاهد واختيار الفراء. وذكر الفراء أن بعض العرب قال لابن دأب «8» وهو يحدث: أهذا شيء رويته، أم شيء تمنّيته؟ يريد: افتعلته. والثاني: أن الأماني: التلاوة، فمعناه: لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم، قال الشاعر: تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنّي داود الزّبور على رسل

_ (1) الأعراف: 89. (2) عزاه المصنف لمقاتل، وهذا مرسل، وورد نحوه عن ابن عباس، أخرجه الطبري 1343 وفيه راو مجهول، وكرره 1344 من مرسل أبي العالية وبرقم 1345 من مرسل قتادة. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم. (3) النور: 13. (4) البقرة: 111. (5) النساء: 123. (6) الحج: 52. (7) الحديد: 14. [.....] (8) هو أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب الليثي، المدني، كان أخباريا علّامة نسابة، لكن حديثه واه، كان يضع الحديث، وقال البخاري وغيره: منكر الحديث كما في «الميزان» .

[سورة البقرة (2) : آية 79]

وهذا قول الكسائي والزجاج. والثالث: أنها أمانيهم على الله، قاله قتادة. قوله تعالى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، قال مقاتل: ليسوا على يقين، فان كذب الرؤساء أو صدقوا تابعوهم. [سورة البقرة (2) : آية 79] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ. هذه الآية نزلت في أهل الكتاب الذين بدلوا التوراة وغيّروا صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيها. وهذا قول ابن عباس وقتادة وابن زيد وسفيان. فأما الويل: فروى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (26) «ويل: واد في جهنم، يهوي الكافر فيه أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» . وقال الزجاج: الويل: كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة، ويستعملها هو أيضاً. وأصلها في اللغة: العذاب والهلاك. قال ابن الأنباري: ويقال: معنى الويل: المشقة من العذاب، ويقال: أصله: وي لفلان، أي: حزن لفلان، وكثر الاستعمال للحرفين، فوصلت اللام ب «وي» وجعلت حرفاً واحداً ثم خبر عن «ويل» بلام أُخرى، وهذا اختيار الفراء. والكتاب هاهنا: التوراة. وذكر الأيدي توكيد، والثمن القليل: ما يفنى من الدنيا. وفيما يكسبون قولان: أحدهما: أنه عوض ما كتبوا. والثاني: إثم ما فعلوا. [سورة البقرة (2) : آية 80] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، وهم: اليهود. وفيما عنوا بهذه الأيام قولان: أحدهما: أنهم أرادوا أربعين يوماً، قاله ابن عباس وعكرمة، وأبو العالية، وقتادة، والسدي. ولماذا قدروها بأربعين؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا: بين طرفي جهنم مسيرة أربعين

_ ضعيف منكر. أخرجه الترمذي 3164 وأبو يعلى 1383 من طريق الحسن بن موسى والبيهقي من طريق كامل كلاهما عن ابن لهيعة عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلّا من حديث ابن لهيعة. وتعقبه ابن كثير في «تفسيره» 1/ 121 بقوله: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى ولكن الآفة ممن بعده وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعا منكر. قلت: مداره على درّاج أبي السّمح، وهو ضعيف في روايته عن أبي الهيثم خاصة. - وأخرجه الطبري 1387 وابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» 1/ 121 من طريق يونس والحاكم 4/ 596، والبيهقي في «البعث» 466 من طريق بحر بن نصر والحاكم 2/ 507، والبيهقي 465 من طريق أبي عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن وهب. ثلاثتهم عن ابن وهب بهذا الإسناد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، لكن قال الذهبي في مواضع أخرى: درّاج ذو مناكير. وأخرجه ابن حبّان 7467 عن ابن أسلم عن حرملة عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، مرفوعا. - الخلاصة: مداره على درّاج، وهو ضعيف. قال الذهبي في «الميزان» 2/ 24: قال أحمد: درّاج أحاديثه مناكير، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال النسائي: منكر الحديث.

[سورة البقرة (2) : الآيات 81 إلى 82]

سنة، ونحن نقطع مسيرة كل سنة في يوم، ثم ينقضي العذاب وتهلك النار، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم قالوا: عتب علينا ربنا في أمر، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة، ثم يدخلنا الجنة، فلن تمسنا النار إِلا أربعين يوماً تحلّة القسم، وهذا قول الحسن وأبي العالية. والثالث: أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، قاله مقاتل. والقول الثاني: أن الأيام المعدودة سبعة أيام، وذلك لأن عندهم أن الدنيا سبعة آلاف سنة، والناس يعذبون لكل ألف سنة يوماً من أيام الدنيا، ثم ينقطع العذاب، قاله ابن عباس. قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً، أي: عهد إليكم أنه لا يعذّبكم إلا هذا المقدار؟! [سورة البقرة (2) : الآيات 81 الى 82] بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً بلى: بمنزلة «نعم» إلا أن «بلى» جواب النهي، و «نعم» جواب الإيجاب، قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك عليَّ شيء، فقال الآخر: نعم، كان تصديقاً أن لا شيء له عليه. ولو قال: بلى كان رداً لقوله: قال ابن الأنباري: وإنما صارت «بلى» تتصل بالجحد، لأنها رجوع عن الجحد إلى التحقيق، فهي بمنزلة «بل» . و «بل» سبيلها أن تأتي بعد الجحد، كقولهم: ما قام أخوك، بل أبوك. وإذا قال الرجل للرجل: ألا تقوم؟ فقال له: بلى أراد: بل أقوم، فزاد الألف على «بل» ليحسن السكوت عليها، لأنه لو قال: بل، كان يتوقع كلاماً بعد بل، فزاد الألف ليزول هذا التوهم عن المخاطب، ومعنى بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً: بل من كسب. قال الزجاج: بلى: رد لقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً. والسيئة هاهنا: الشرك في قول ابن عباس وعكرمة، وأبي وائل، وأبي العالية، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل. وَأَحاطَتْ بِهِ، أي: أحدقت به خَطِيئَتُهُ، وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع. قال عكرمة: مات ولم يتب منها، وقال أبو وائل: الخطيئة: صفة للشرك، قال أبو علي: إما أن يكون المعنى: أحاطت بحسنته خطيئته، أي: أحبطتها، من حيث أن المحيط أكثر من المحاط به، فيكون كقوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «1» ، وقوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها «2» ، أو يكون معنى أحاطت به: أهلكته، كقوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «3» . [سورة البقرة (2) : آية 83] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، هذا الميثاق مأخوذ عليهم في التوراة. وقوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر: بالتاء على الخطاب لهم. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: بالياء على الإخبار عنهم. قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، أي: ووصّيناهم بآبائهم

_ (1) التوبة: 49. (2) الكهف: 29. (3) يوسف: 66.

وأمهاتهم خيراً. قال الفراء: والعرب تقول: أوصيك به خيراً، وآمرك به خيراً، والمعنى: آمرك أن تفعل به، ثم تحذف «أن» فيوصل الخير بالوصية والأمر. قال الشاعر: عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبي دهماء إذ يوصينا خيراً بها كأننا جافونا وأما الإحسان إلى الوالدين فهو برهما. قال ابن عباس: لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار. وقالت عائشة: ما بر والده من شدَّ النظر إليه، وقال عروة: لا تمتنع عن شيء أحبَّاه. قوله تعالى: وَذِي الْقُرْبى، أي: ووصيناهم بذي القربى أن يصلوا أرحامهم. وأما اليتامى فجمع: يتيم. قال الأصمعي: اليتم في الناس، من قبل الأب، وفي غير الناس: من قبل الأمّ. وقال ابن الأنباري: قال ثعلب: اليتم معناه في كلام العرب: الانفراد: فمعنى صبي يتيم: منفرد عن أبيه. وأنشدنا: أفاطم إِني هالك فتبيَّني ... ولا تجزعي كلّ النّساء يتيم وقال: يروى: يتيم ويئيم، فمن روى يتيم بالتاء أراد: كل النساء ضعيف منفرد. ومن روى بالياء أراد: كل النساء يموت عنهن أزواجهن. وقال: أنشدنا ابن الأعرابي: ثلاثة أحباب: فحب علاقة ... وحب تِملاَّق وحبُّ هو القتل «1» قال: فقلنا له: زدنا، فقال: البيت يتيم، أي: هو منفرد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: إذا بلغ الصبي، زال عنه اسم اليتم. يقال منه: يتم ييتم يُتما وَيَتما، وجمع اليتيم: يتامى، وأيتام. وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة. قال: وقيل: أصل اليتم: الغفلة، وبه سمي اليتيم، لأنه يتغافل عن برّه. والمرأة تدعى: يتيمة ما لم تزوج، فاذا تزوجت زال عنها اسم اليتم، وقيل: لا يزول عنها اسم اليتم أبداً. وقال أبو عمرو، اليتم: الإبطاء، ومنه أخذ اليتيم، لأن البر يبطئ عنه. «والمساكين» : جمع مساكين، وهو اسم مأخوذ من السكون، كأن المساكين قد أسكنه الفقر. وقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر: حُسْناً بضم الحاء والتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي: (حَسَناً) بفتح الحاء والتثقيل. قال أبو علي: من قرأ «حُسْناً» فجائز أن يكون الحسن لغة في الحسن، كالبُخْل، والبَخَل، والرُشد والرشَد. وجاء ذلك في الصفة كما جاء في الاسم، ألا تراهم قالوا: العُرب والعرَب ويجوز أن يكون الحسن مصدراً كالكفر والشكر والشغل، وحذف المضاف معه، كأنه قال: قولوا قولاً ذا حسن. ومن قرأ (حَسَناً) جعله صفة، والتقدير عنده: قولوا للناس قولاً حسناً، فحذف الموصوف. واختلفوا في المخاطب بهذا على قولين: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، وابن جريج. ومعناه: اصدقوا وبينوا صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أنهم أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو العالية: قولوا للناس معروفاً، وقال محمّد بن عليّ بن الحسين عليه السلام: كلموهم بما تحبون أن يقولوا لكم. وزعم قوم أن المراد بذلك مساهلة الكفار في دعائهم إِلى الإسلام. فعلى هذا، تكون منسوخة بآية السيف.

_ (1) في «اللسان» : الملق: الودّ واللطف الشديد. ملق ملقا وتملّق تملّاقا أي تودد إليه وتلطف له.

[سورة البقرة (2) : الآيات 84 إلى 85]

قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، أي: أعرضتم إلا قليلاً منكم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أوّلوهم الذين لم يبدلوا. والثاني: أنهم الذين آمنوا بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم في زمانه. [سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 85] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ، أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضاً من داره. قال ابن عباس: ثم أقررتم يومئذ بالعهد، وأنتم اليوم تشهدون على ذلك، فالإِقرار على هذا متوجه إِلى سلفهم، والشهادة متوجهة إِلى خلفهم. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي: يقتل بعضكم بعضاً. روى السدي عن أشياخه قال: كانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج فكانوا يقاتلون في حرب سمير «1» ، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النّضير، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، فيغلبونهم فيقتلون ويخربون الديار ويخرجون منها، فاذا أسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيِّرهم العرب بذلك فتقول: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟! فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتلهم. فتقول العرب: فلم تقاتلونهم؟ فيقولون: نستحيي أن يستذلّ حلفاؤنا، فعيّرهم الله عزّ وجلّ، فقال: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ إلى قوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فكان إِيمانهم ببعضه فداءهم الأسارى، وكفرهم قتل بعضهم بعضاً. قوله تعالى: تُظْهِرُونَ، قرأ عاصم وحمزة والكسائي (تظاهرون) ، وفي التحريم: «تظهرا» «2» ، بتخفيف الظاء، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بتشديد الظاء مع إثبات الألف. قال أبو علي: من قرأ (تظّاهرون) بتشديد الظاء، أدغم التاء في الظاء، لمقاربتها لها، فخفف بالإدغام. ومن قرأ (تظاهرون) خفيفة، حذف التاء التي أدغمها أولئك من اللفظ، فخفف بالحذف. والتاء التي أدغمها ابن كثير هي التي حذفها عاصم. وروي عن الحسن وأبي جعفر «تظَّهرون» بتشديد الظاء من غير ألف، فالتظاهر: التعاون. قال ابن قتيبة: وأصله من الظهر، فكأن التظاهر: أن يجعل كل واحد من الرجلين الآخر ظهراً له يتقوى به، ويستند إِليه. قال مقاتل: والإثم: المعصية، والعدوان: الظلم. قوله تعالى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ، أصل الأسر: الشد. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أُسارى) ، وقرأ الأعمش وحمزة «أسرى» ، قال الفراء: أهل الحجاز يجمعون الأسير: «أَسارى» وأهل نجد أكثر كلامهم «أَسرى» وهو أجود الوجهين في العربية، لأنه بمنزلة قولهم: جريح وجرحى، وصريع وصرعى، وروى الأصمعي عن أبي عمرو قال: الأسارى: ما شدوا، والأسرى: في أيديهم،

_ (1) اسم رجل سميت بذلك لأنه السبب. (2) التحريم: 4.

[سورة البقرة (2) : آية 86]

إلا أنهم لم يشدّوا. قال الزجاج: «فَعْلى» جمع لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم وعقولهم. يقال هالك وهلكى، ومريض ومرضى، وأحمق وحمقى، وسكران وسكرى، فمن قرأ: أُسارى، فهي جمع الجمع. يقال: أسير وأسرى وأسارى جمع أسرى. قوله تعالى: تُفادُوهُمْ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «تفدوهم» ، وقرأ نافع وعاصم والكسائي: تُفادُوهُمْ بألف. والمفادة: إِعطاء شيء، وأخذ شيء مكانه. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ، وهو: فكاك الأسرى. وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهو: الإخراج والقتل. وقال مجاهد: تفديه في يد غيرك، وتقتله أنت بيدك؟! وفي المراد بالخزي قولان: أحدهما: أنه الجزية، قاله ابن عباس. والثاني: قتل قريظة ونفي النضير، قاله مقاتل. [سورة البقرة (2) : آية 86] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ. قال ابن عباس: هم اليهود. وقال مقاتل: باعوا الآخرة بما يصيبونه من الدنيا. [سورة البقرة (2) : آية 87] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يريد التوراة: وقفَّينا: أتبعنا. قال ابن قتيبة: وهو مأخوذ من القفا، يقال: قفوت الرجل: إذا سرت في أثره. والبينات: الآيات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى. وأيدناه: قويناه. والأيد: القوة. وفي روح القدس ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جبريل. والقدس: الطهارة، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. وكان ابن كثير يقرأ: (بروح القدْس) ساكنة الدال. قال أبو علي: التخفيف والتثقيل فيه حسنان، نحو: العنْق والعنُق، والطنْب والطُنُب. وفي تأييده به ثلاثة أقوال ذكرها الزجاج: أحدها: أنه أيَّد به لإظهار حجته وأمر دينه. والثاني: لدفع بني إسرائيل عنه إذا أرادوا قتله. والثالث: أنه أيد به في جميع أحواله. والقول الثاني: أنه الاسم الذي كان يحيي به الموتى، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه الإنجيل، قاله ابن زيد. [سورة البقرة (2) : آية 88] وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) قوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ قرأ الجمهور بإسكان اللام، وقرأ قوم منهم الحسن وابن محيصن بضمها. قال الزجاج: من قرأ: غُلْفٌ بتسكين اللام، فمعناه: ذوات غلف، فكأنهم قالوا: قلوبنا في أوعية، ومن قرأ «غلُف» بضم اللام، فهو جمع «غلاف» فكأنهم قالوا: قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم وهي أوعية للعلم؟! فعلى الأول يقصدون إعراضه عنهم، وكأنهم يقولون: ما نفهم شيئاً. وعلى الثاني يقولون: لو كان قولك حقا لقبلته قلوبنا. وقوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ فيه خمسة أقوال: أحدها: فقليل من يؤمن منهم، قاله ابن

[سورة البقرة (2) : الآيات 89 إلى 90]

عباس وقتادة. والثاني: أن المعنى: قليل ما يؤمنون به. قال معمر: يؤمنون بقليل مما في أيديهم، ويكافرون بأكثره. والثالث: أن المعنى: فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً. ذكره ابن الأنباري، وقال: هذا على لغة قوم من العرب، يقولون: قلما رأيت مثل هذا الرجل، وهم يريدون: ما رأيت مثله. والرابع: فيؤمنون قليلاً من الزمان كقوله تعالى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ «1» ، ذكره ابن الأنباري أيضا. والخامس: أن المعنى: فإيمانهم قليل، ذكره ابن جرير الطبري. وحكى في «ما» قولين: أحدهما: أنها زائدة. والثاني: أن «ما» تجمع جميع الأشياء ثم تخص بعض ما عمته بما يذكر بعدها. [سورة البقرة (2) : الآيات 89 الى 90] وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يعني: القرآن. ويَسْتَفْتِحُونَ: يستنصرون. وكانت اليهود إذا قاتلت المشركين استنصروا باسم نبيّ الله محمد صلّى الله عليه وسلّم «2» . قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، بئس: كلمة مستوفية لجميع الذم، ونقيضها: «نعم» . واشتروا، بمعنى: باعوا، والذي باعوها به قليل من الدنيا. قوله تعالى: بَغْياً قال قتادة: حسداً. ومعنى الكلام: كفروا بغياً، لأَنْ نزَّل الله الفضل على النبي صلّى الله عليه وسلّم. وفي قوله تعالى: بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ خمسة أقوال: أحدها: أن الغضب الأول لاتخاذهم العجل، والثاني: لكفرهم بمحمد، حكاه السدي عن ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أن الأول

_ (1) آل عمران: 72. (2) ورد في معناه روايات كثيرة منها- وهو ضعيف جدا- ما أخرجه الحاكم 2/ 263 عن ابن عباس قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدّعاء، وقالت: اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلّا نصرتنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان. فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم كفروا به، فأنزل الله تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي بك يا محمد، إلى قوله فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. - وقال الحاكم: أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير، وهو غريب من حديثه. - وقال الذهبي: لا ضرورة لإخراجه في ذلك فعبد الملك متروك هالك. وأخرجه الطبري 1525 عن ابن عباس قال: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، يستنصرون بخروج محمد صلّى الله عليه وسلّم على مشركي العرب- يعني بذلك أهل الكتاب- فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه. - وله شواهد بمعناه، أخرجه الطبري برقم 1523 و 1524 عن ابن عباس وبرقم 1522 و 1528 عن قتادة و 1526 عن علي الأزدي و 1529 عن أبي العالية و 1530 عن السدي و 1531 عن ابن جريج. - الخلاصة: هو خبر صحيح بلفظ الطبري، وذلك بمجموع طرقه وشواهده، وأما ما أخرجه الحاكم، فهو ضعيف الإسناد جدا، والمتن منكر.

[سورة البقرة (2) : آية 91]

لتكذيبهم رسول الله. والثاني: لعداوتهم لجبريل. رواه شهر عن ابن عباس. والثالث: أن الأول حين قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» ، والثاني: حين كذّبوا نبي الله. رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء. والرابع: أن الأول لتكذيبهم بعيسى والإنجيل. والثاني: لتكذيبهم بمحمد والقرآن، قاله الحسن، والشعبي، وعكرمة، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل. والخامس: أن الأول لتبديلهم التّوراة. والثاني: لتكذيبهم محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد. والمهين: المذلّ. [سورة البقرة (2) : آية 91] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، يعني: القرآن، قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، يعنون: التّوراة. وفي قوله تعالى: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ قولان: أحدهما: أنه أراد بما سواه. ومثله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ «2» ، قاله الفراء ومقاتل. والثاني: بما بعد الذي أنزل عليهم، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ يعود على ما وراءه. قوله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ هذا جواب قولهم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، فإن الأنبياء جاءوا بتأييد التوراة. وإنما نسب القتل إلى المتأخّرين لأنهم في ذلك على رأي المتقدّمين. وتقتلون بمعنى: قتلتم، فوضع المستقبل في موضع الماضي، لأن الوهم لا يذهب إلى غيره. وأنشدوا في ذلك: شهدَ الحطيئةُ حين يلقى رَبَّه ... أنَ الوليدَ أحقُّ بالعذرِ أراد: يشهد. [سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 93] وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، فيها قولان: أحدهما: ما في الألواح من الحلال والحرام، قاله ابن عباس. والثاني: الآيات التسع، قاله مقاتل. وفي هاء «بعده» قولان: أحدهما: أنها تعود إلى موسى، فمعناه: من بعد انطلاقه إلى الجبل، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أنها تعود إلى المجيء، لأن «جاءكم» يدل على المجيء، وفي ذكر عبادتهم العجل تكذيب لقولهم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. قوله تعالى: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا، قال ابن عباس: كانوا إذا نظروا إلى الجبل، قالوا: سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا: سمعنا وعصينا. قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ، أي: سقوا حب العجل، فحذف المضاف، وهو الحب، وأقام المضاف إليه مقامه، ومثله قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ «3» أي: وقت الحج. وقوله:

_ (1) المائدة: 64. (2) النساء: 24. (3) البقرة: 197.

[سورة البقرة (2) : الآيات 94 إلى 96]

أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ «1» أي: أجعلتم صاحب سقاية الحاج. وقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» ، أي: أهلها. وقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ «3» ، أي: ضِعف عذاب الحياة. وقوله: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ «4» ، أي: بيوت صلوات. وقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «5» ، أي: مكركم فيهما. وقوله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ «6» ، أي: أهله. ومن هذا قول الشاعر: أُنبئت أنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقدت ... واستبَّ بَعْدَكَ يا كليب المجلس أي: أهل المجلس، وقال الآخر: وشر المنايا ميِّت بين أهله أي: وشر المنايا منية ميت بين أهله. قوله تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ، أي: أن تكذّبوا المرسلين، وتقتلوا النبيين بغير حق، وتكتموا الهدى. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، في «إِن» قولان: أحدهما: أنها بمعنى: الجحد، فالمعنى: ما كنتم مؤمنين إذ عصيتم الله، وعبدتم العجل. والثاني: أن تكون «إِن» شرطاً معلقاً بما قبله، فالمعنى: إن كنتم مؤمنين فبئس الإيمان إيمان يأمركم بعبادة العجل وقتل الأنبياء، ذكرهما ابن الأنباريّ. [سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ، كانت اليهود تزعم أن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وولده، فنزلت هذه الآية. ومن الدليل على علمهم بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صادق، أنهم ما تمنوا الموت، وأكبر الدليل على صدقه أنه أخبر أنهم لا يتمنونه بقوله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ فما تمناه أحد منهم. والذي قدمته أيديهم: قتل الأنبياء وتكذيبهم، وتبديل التوراة. قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ، اللام: لام القسم، والنون توكيد له، والمعنى: ولتجدنَّ اليهود في حال دعائهم إلى تمني الموت أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا. وفي الَّذِينَ أَشْرَكُوا قولان: أحدهما: أنهم: المجوس، قاله ابن عباس، وابن قتيبة والزجاج. والثاني: مشركو العرب، قاله مقاتل. قوله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، في الهاء والميم من «أحدهم» قولان: أحدهما: أنها تعود على الذين أشركوا، قاله الفرّاء. والثاني: ترجع إلى اليهود، قاله مقاتل.

_ (1) التوبة: 19. (2) يوسف: 82. [.....] (3) الإسراء: 75. (4) الحج: 40. (5) سبأ: 30. (6) العلق: 17.

[سورة البقرة (2) : الآيات 97 إلى 99]

قال الزجاج: وإنما ذكر أَلْفَ سَنَةٍ لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعو بها لملوكها، كان الملك يحيّا بأن يقال له: عش ألف نيروز، وألف مهرجان. قوله تعالى: وَما هُوَ فيه قولان ذكرهما الزجاج: أحدهما: أنه كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره، تقديره: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره. والثاني: أن يكون «هو» كناية عما جرى من التعمير، فيكون المعنى: وما تعميره بمزحزحه من العذاب، ثم جعل «أن يعمّر» مبيناً عنه، كأنه قال: ذلك الشيء الدنيء ليس بمزحزحه من العذاب. [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 99] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ. قال ابن عباس: (27) أقبلت اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبريل. فقالوا: ذاك ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا، فنزلت هذه الآية والتي تليها. وفي جبريل إحدى عشرة لغة: إحداها: جبريل، بكسر الجيم والراء من غير همز، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ ابن عامر، وأبو عمرو. قال ورقة بن نوفل: وجبريل يأتيه وميكال معْهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل وقال عمران بن حطان: والروح جبريل فيهم لا كفاء له ... وكان جبريل عند الله مأمونا

_ حسن. أخرجه أحمد 1/ 274 والترمذي 3117 والنسائي في «عشرة النساء» 190 والطبري 1608 والبيهقي في «الدلائل» 6/ 266 وإسناده حسن فيه شهر بن حوشب، صدوق يخطئ. - وورد مرسلا أخرجه الطبري 1609 عن شهر بن حوشب و 1610 من مرسل القاسم بن أبي بزّة. فالحديث حسن إن شاء الله. وأصله أخرجه البخاري 3329 و 3938 و 4480 والنسائي في «التفسير» 12 وأحمد 3/ 108- 271 والبغوي 3769 وابن مندة في «التوحيد» 1/ 229 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 528 عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ، ما أول أشراط السّاعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخبرني بهن آنفا جبريل» قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا أول أشراط السّاعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الشّبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها» . قال: أشهد أنك رسول الله. ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك. فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟» قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا وأخبرنا وابن أخبرنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟» قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: شرّنا وابن شرّنا ووقعوا فيه» . لفظ البخاري. وانظر «تفسير الشوكاني» 198 و 199 بتخريجنا، طبع دار الكتاب العربي.

وقال حسان: وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء واللغة الثانية: «جَبريل» بفتح الجيم وكسر الراء، وبعدها ياء ساكنة من غير همز على وزن: فَعليل، وبها قرأ الحسن البصري، وابن كثير، وابن محيصن. وقال الفراء: لا أشتهيها، لأنه ليس في الكلام فَعليل، ولا أرى الحسن قرأها إلا وهو صواب، لأنه اسم أعجمي. والثالثة: «جَبرئيل» : بفتح الجيم والراء، وبعدها همزة مكسورة على وزن: جَبرعيل، وبها قرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي. قال الفراء: وهي لغة تميم وقيس، وكثير من أهل نجد. وقال الزجاج: هي أجود اللغات، وقال جرير: عبدوا الصليب وكذّبوا بمحمدٍ ... وبجبرئيل وكذَّبوا ميكالا والرابعة: جَبرئِل، بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام، مكسورة من غير مد على وزن جَبرعِل، رواها أبو بكر عن عاصم. والخامسة: «جَبرئِلّ» بفتح الجيم وكسر الهمزة وتشديد اللام، وهى قراءة أبان عن عاصم ويحيى بن يعمر. والسادسة: جبرائيل، بهمزة مكسورة بعدها ياء مع الألف. والسابعة: جبراييل بيائين بعد الألف أولاهما مكسورة. والثامنة: جَبرين، بفتح الجيم ونون مكان اللام. والتاسعة: جِبرين، بكسر الجيم وبنون، قال الفراء: هي لغة بني أسد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن الأنباري قال: في جبريل تسع لغات، فذكرهنَّ. وذكر ابن الأنباري في كتاب «الرد على من خالف مصحف عثمان» : «جبرائل» ، بفتح الجيم وإثبات الألف مع همزة مكسورة ليس بعدها ياء. وجبرئين، بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون. فأما ميكائيل، ففيه خمس لغات: إحداهن: «ميكال» ، مثل: مِفعال بغير همز، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم. والثانية: «ميكائيل» باثبات ياء ساكنة بعد الهمزة، مثل: ميكاعيل، وهي لغة تميم وقيس، وكثير من أهل نجد، وبها قرأ ابن عامر، وابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم. والثالثة: «ميكائل» بهمزة مكسورة بعد الألف من غير ياء، مثل ميكاعِل، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ، وابن الصباح، جميعاً عن قنبل. والرابعة: «ميكئل» ، على وزن ميكعل، وبها قرأ ابن محيصن. والخامسة: «ميكائين» بهمزة معها ياء ونون بعد الألف، ذكرها ابن الأنباري. قال الكسائي: جبريل وميكائيل، اسمان لم تكن العرب تعرفهما، فلما جاءا عرَّبتهما. قال ابن عباس: جبريل وميكائيل، كقوله: عبد الله، وعبد الرحمن، ذهب إلى أن «إيل» اسم الله، واسم الملك «جبر» و «ميكا» . وقال عكرمة: معنى جبريل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله. وقد دخل جبريل وميكائيل في الملائكة، لكنه أعاد ذكرهما لشرفهما، كقوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) «1» . وإنما قال: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ، ولم يقل: لهم، ليدل على أنهم كافرون بهذه العداوة.

_ (1) الرحمن: 68.

[سورة البقرة (2) : الآيات 100 إلى 101]

[سورة البقرة (2) : الآيات 100 الى 101] أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قوله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً، الواو واو العطف، أُدخلت عليها ألف الاستفهام. قال ابن عباس ومجاهد: والمشار اليهم: اليهود، وقيل: العهد الذي عاهدوه، أنهم قالوا: والله لئن خرج محمد لنؤمننَّ به. وروي عن عطاء أنها العهود التي كانت بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهم، فنقضوها، كفعل قريظة والنضير. ومعنى نبذه: رفضه. قوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، يعني اليهود. والكتاب: التوراة. وفي قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني: أنه التوراة، لأن الكافرين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قد نبذوا التوراة. [سورة البقرة (2) : آية 102] وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن اليهود كانوا لا يسألون النبي عن شيء من التوراة إلا أجابهم، فسألوه عن السحر وخاصموه به، فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية. والثانية: أنه لما ذكر سليمان في القرآن قال يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبياً؟! والله ما كان إلا ساحراً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن إسحاق. و «تتلو» بمعنى: تلت، و «على» بمعنى: «في» قاله المبرد. قال الزجاج وقوله: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أي: على عهد ملك سليمان. وفي كيفية ما تلت الشياطين على ملك سليمان ستة أقوال: أحدها: أنه لما خرج سليمان عن ملكه كتبت الشياطين السحر، ودفنته في مصلاه، فلما توفي استخرجوه، وقالوا: بهذا كان يملك الملك، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل. والثاني: أن آصف كان يكتب ما يأمر به سليمان، ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، استخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكذباً، وأضافوه إلى سليمان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: أن الشياطين كتبت السحر بعد موت سليمان، ثم أضافته إليه، قاله عكرمة. والرابع: أن الشياطين ابتدعت السحر، فأخذه سليمان، فدفنه تحت كرسيه لئلا يتعلمه الناس، فلما قبض استخرجته، فعلمته الناس وقالوا: هذا علم سليمان، قاله قتادة. والخامس: أن سليمان أخذ عهود الدواب، فكانت الدابة إذا أصابت إنساناً طلب إليها بذلك العهد، فتخلّي عنه، فزاد السحرة السجع والسحر، قاله أبو مجلز. والسادس: أن الشياطين كانت في عهد سليمان تسترق السمع، فتسمع من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة

الناس، فيجدونه كما قالوا، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتاب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك الكتاب في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان جاء شيطان إلى نفر من بني إسرائيل، فدلهم على تلك الكتاب وقال: إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا ففشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذ بنو إسرائيل تلك الكتاب، فلما جاء محمّد صلّى الله عليه وسلّم، خاصموه بها، هذا قول السّدّيّ. و «سليمان» : اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، وقد جعله النابغة سليماً ضرورة، فقال: ونسج سليم كل قضّاء ذائل «1» واضطر الحطيئة فجعله: سلاَّماً، فقال: فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاءَ محكمة من نسج سلاَّم وأرادا جميعاً: داود أبا سليمان، فلم يستقم لهما الشعر، فجعلاه: سليمان وغيّراه. كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي. وفي قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ دليل على كفر الساحر، لأنهم نسبوا سليمان إلى السحر، لا إلى الكفر. قوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم بتشديد نون (ولكنّ) ونصب نون (الشياطين) . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف النون من «لكنْ» ورفع نون «الشياطين» . قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وقرأ ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والزهري «الملِكين» بكسر اللام، وقراءة الجمهور أصح. وفي «ما» قولان «2» : أحدهما: أنها

_ (1) في «اللسان» : صدر البيت: وكل صموت نثلة تبّعيّة. والصموت: الدروع التي إذا صبت لم يسمع لها صوت. والقضاء من الدروع: التي فرغ من عملها وأحكمت. والذّائل: الدرع الطويلة الذّيل. (2) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 1/ 497. القول في تأويل قوله تعالى وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في تأويل «ما» التي في قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى «لم» . ذكر من قال ذلك: عن ابن عباس قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ، فإنه يقول: لم ينزل الله السحر. وعن الربيع بن أنس: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال: ما أنزل الله عليهما السحر. فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع، من توجيههما معنى قوله وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إلى: ولم ينزل على الملكين-: واتّبعوا الذي تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السّحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر، بِبابِلَ، هارُوتَ وَمارُوتَ فيكون حينئذ قوله: بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ من المؤخّر الذي معناه التقديم. فإن قال قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون معنيا ب «الملكين» : جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهما الله بذلك، وأخبر نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السّحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلّم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمانهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت. فيكون «هاروت وماروت» ، على هذا التأويل، ترجمة على «الناس» وردّا عليهم. وقال آخرون: بل تأويل «ما» التي في قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ- «الذي» . - وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 2/ 50- 51: قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ «ما» نفي، والواو للعطف على قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير، التقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهنّ، قال الله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وقال الشاعر: أعوذ بربي من النّافثات..... إن قال قائل: كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حدّ المبدل منه، فالجواب من وجوه ثلاثة، الأول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع، كما قال تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعدا والثاني: أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون أتباعهما كما قال تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ. الثالث: إنما خصّا بالذكر من بينهم لتمردهما، كما قال تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وقوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله، كقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وقوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وإما لطيبه فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وإما لأكثريته، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا» وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية، والله أعلم. وقد قيل: إن «ما» عطف على السحر وهي مفعولة، فعلى هذا يكون «ما» بمعنى الذي، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا، ولله أن يمتحن عباده بما شاء.

معطوفة على «ما» الأولى، فتقديره: واتبعوا ما تتلو الشياطين وما أُنزل على الملكين. والثاني: أنها معطوفة على السحر، فتقديره: يعلّمون الناس السحر، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين. فإن قيل: إذا كان السحر نزل على الملكين، فلماذا ذكره؟ فالجواب من وجهين: ذكرهما ابن السري: أحدهما: أنهما كانا يعلمان الناس: ما السحر، ويأمران باجتنابه، وفي ذلك حكمة لأن سائلاً لو قال: ما الزنى؟ لوجب أن يوقف عليه، ويعلم أنه حرام. والثاني: أنه من الجائز أن يكون الله تعالى امتحن الناس بالملكين، فمن قبل التعلم كان كافراً، ومن لم يقبله فهو مؤمن، كما امتحن بنهر طالوت. وفي الذي أنزل على الملكين قولان: أحدهما: أنه السحر، روي عن ابن مسعود والحسن، وابن زيد. والثاني: أنه التفرقة بين المرء وزوجه، لا السحر، روي عن مجاهد وقتادة، وعن ابن عباس كالقولين. قال الزجاج: وهذا من باب السحر أيضاً. (الإشارة إلى قصة الملكين) ذكر العلماء أن الملكين إنما أنزلا إلى الأرض لسبب، وهو أنه لما كثرت خطايا بني آدم دعت عليهم الملائكة، فقال الله تعالى: لو أنزلت الشهوة والشياطين منكم منزلتهما من بني آدم، لفعلتم مثل ما فعلوا، فحدثوا أنفسهم أنهم إن ابتلوا، اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا من أفضلكم ملكين،

فاختاروا هاروت وماروت. وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس. واختلف العلماء: ماذا فعلا من المعصية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما زنيا، وقتلا، وشربا الخمرة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهما جارا في الحكم، قاله عبيد الله بن عتبة. والثالث: أنهما هما بالمعصية فقط. ونقل عن عليّ عليه السلام أن الزهرة كانت امرأة جميلة وأنها خاصمت إلى الملكين هارون وماروت، فراودها كل واحد منهما على نفسها، ولم يُعلم صاحبه، وكانا يصعدان السماء آخر النهار، فقالت لهما: بم تهبطان وتصعدان؟ قالا: باسم الله الأعظم، فقالت: ما أنا بمواتيتكما إلى ما تريدان حتى تعلمانيه، فعلماها إياه، فطارت إلى السماء، فمسخها الله كوكباً «1» . (28) وفي الحديث أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لعن الزهرة، وقال: إنها فتنت ملَكين» ، إلا أن هذه الأشياء

_ لا أصل له في المرفوع، وإنما هو من الإسرائيليات. ورد مرفوعا وموقوفا ومقطوعا. - والمرفوع ورد من حديث ابن عمر: أخرجه الطبري 1691 وابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 86 والذهبي في «الميزان» 3567 من طريق سنيد بن داود عن فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع عن ابن عمر مرفوعا، وهذا إسناد ساقط قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، والفرج بن فضالة قد ضعفه يحيى، وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد، ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة، وأما سنيد، فقد ضعفه أبو داود، وقال النسائي: ليس بثقة اه. وقد استغربه ابن كثير في «تفسيره» 1/ 143 جدا. - وورد من وجه آخر أخرجه أحمد 2/ 134 والبزار 2938 «كشف» وابن حبان 6186 والبيهقي 1/ 4- 5 كلهم من طريق يحيى بن أبي بكير عن زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن ابن عمر مرفوعا بنحوه وأتم، وهذا إسناد ساقط، زهير بن محمد مختلف فيه، وقد ضعفه غير واحد، واتفقوا على أنه روى مناكير، والظاهر أن هذا منها، فقد خالفه موسى بن عقبة، وهو أوثق منه وأحفظ، فجعله عن ابن عمر عن كعب الأحبار. كذا أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 97 وعنه الطبري 1687 كلاهما عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وهذا إسناد كالشمس، لا غبار عليه البتة.. وكرره الطبري 1688 عن عبد العزيز بن مختار عن موسى به، وقد قدح في رفع الحديث البزار والبيهقي وغيرهما. قال البزار عقب الحديث: رواه بعضهم عن نافع عن ابن عمر موقوفا، وإنما أتى رفع هذا عندي من زهير لأنه لم يكن بالحافظ. وكذا ذكر البيهقي، وهو الذي اختاره ابن كثير في «تفسيره» 1/ 143 والعجب أن البيهقي أخرجه في «الشعب» 163، عن موسى بن جبير عن موسى بن عقبة به مرفوعا، لكن فيه محمد بن يونس الكديمي، وهو متروك كذاب، والحمل عليه في هذا الحديث. ثم كرره البيهقي 164 عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وصوّبه. - وورد حديث ابن عمر من وجه آخر أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 143 وإسناده ساقط فيه موسى بن سرجس، وهو مجهول، وفيه هشام بن علي بن هشام، وثقه ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل، وسعيد بن سلمة، وإن روى له مسلم فقد ضعفه النسائي، وجهله ابن معين. - ولحديث ابن عمر شاهد من حديث علي أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 185- 186 وقال: موضوع والمتهم به مغيث قال الأزدي: خبيث كذاب. وبهذا الإسناد أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 143. وكرره ابن مردويه من وجه آخر، وفيه جابر الجعفي، وهو متروك، وقد كذبه أبو حنيفة رحمه الله. قال الحافظ ابن كثير: لا يصح، وهو منكر جدا. - وقد جاء موقوفا ومقطوعا، فقد أخرجه الطبري 1684 عن ابن عباس، وفيه أبو شعبة العدوي، وهو

بعيدة عن الصحة. وتأول بعضهم هذا فقال: إنه لما رأى الكوكب، ذكر تلك المرأة، لا أن المرأة مسخت نجماً. واختلف العلماء في كيفية عذابهما فروي عن ابن مسعود أنهما معلقان بشعورهما إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: إن جبّا ملئ ناراً فجعلا فيه. فأما بابل فروي عن الخليل أن ألسن الناس تبلبلت بها. واختلفوا في حدها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها: الكوفة وسوادها، قاله ابن مسعود. والثاني: أنها من نصيبين إلى رأس العين، قاله قتادة. والثالث: أنها جبل في وهدة من الأرض، قاله السدي. قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي اختبار وابتلاء. قوله تعالى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، يريد: بقضائه. وَلَقَدْ عَلِمُوا: إشارة إلى اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ، يعني: اختاره، يريد: السحر. واللام لام اليمين. فأما الخلاق فقال الزجاج: هو النصيب الوافر من الخير. قوله تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، أي: باعوها به، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ العقاب فيه. فصل: اختلف الفقهاء في حكم الساحر «1» فمذهب إمامنا أحمد رضي الله عنه أنه يكفر بسحره، قتل به، أو لم يقتل، وهل تقبل توبته؟ على روايتين. وقال الشافعي: لا يكفر بسحره، فان قتل بسحره وقال: سحري يقتل مثله، وتعمدت ذلك، قتل قوداً. وإن قال: قد يقتل، وقد يخطئ، لم يقتل، وفيه الدية. فأما ساحر أهل الكتاب، فانه لا يقتل عند أحمد إلا أن يضر بالمسلمين، فيقتل لنقض العهد، وسواء في ذلك الرجل والمرأة. وقال أبو حنيفة: حكم ساحر أهل الكتاب حكم ساحر المسلمين في

_ مجهول، وكرره الطبري 1685 عن ابن مسعود وابن عباس، وفيه علي بن زيد ضعيف روى مناكير. - وكرره برقم 1686 عن علي، وقد استغربه ابن كثير 1/ 143 جدا، وأعله ابن حزم في «الملل» بعمير بن سعيد واتهمه بهذا الحديث، وأنه كذب. - وكرره 1689 عن السدي قوله و 1690 عن الربيع قوله و 1692 عن مجاهد قوله، وهو الراجح. فهو باطل مرفوعا، وإنما هو عن كعب الأحبار، وعنه أخذه مجاهد وغيره، ولا أصل له في المرفوع، ولهذا لم يروه البغوي مرفوعا، وقد قدح بصحته ابن العربي في «أحكام القرآن» حيث قال: إنما سقنا هذا الخبر لأن العلماء رووه ودونوه، وتحقيق القول أنه لم يصح سنده. ورده القرطبي أيضا في «تفسيره» 2/ 52 حيث قال: هذا كله ضعيف، وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شيء اه باختصار. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي بتخريجي رقم 231 و «تفسير الشوكاني» 200 بتخريجي، والله الموفق. الخلاصة: هو حديث باطل لا أصل له. والظاهر أنه من أساطير الإسرائيليين وافتراءاتهم، ومصدره كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما ممن يروي الإسرائيليات.

[سورة البقرة (2) : الآيات 103 إلى 104]

إيجاب القتل، فأما المرأة الساحرة، فقال: تحبس، ولا تقتل «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 103 الى 104] وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا يعني: اليهود، والمثوبة: الثواب. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ قال الزجاج: أي: يعلمون بعلمهم. قوله تعالى: لا تَقُولُوا راعِنا قرأ الجمهور بلا تنوين، وقرأ الحسن، والأعمش، وابن محيصن «2» بالتنوين، و «راعنا» بلا تنوين من راعيت، وبالتنوين من الرعونة، قال ابن قتيبة: راعناً بالتنوين: هو اسم مأخوذ من الرعن والرّعونة، أراد: لا تقولوا جهلاً ولا حمقاً. وقال غيره: كان الرجل إذا أراد استنصات صاحبه، قال: راعني سمعك، فكان المنافقون يقولون: راعنا، يريدون: أنت أرعن. وقوله: انْظُرْنا بمعنى: انتظرنا، وقال مجاهد: انظرنا: اسمع منّا،

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 47: واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذميّ فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا، يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني، ولأن الله تعالى سمّى السحر كفرا بقوله وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق، والشافعي وأبي حنيفة. وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 300: قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلّمه وفعله، سواء اعتقد تحريمه أو إباحته. وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر فإن حنبلا روي عنه، قال: قال عمّي في العرّاف والكاهن والسّاحر: أرى أن يستتاب من هذه الأفاعيل كلّها فإنه عندي في معنى المرتد، فإن تاب وراجع- يعني- خلّي سبيله. قلت له: يقتل؟ قال: لا، يحبس، لعلّه يرجع. قلت له: لم لا تقتله؟ قال: إذا كان يصلّي، لعلّه يتوب ويرجع. وهذا يدلّ على أنه لم يكفّره، لأنه لو كفّره لقتله. وقوله: في معنى المرتد. يعني في الاستتابة. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء، كفر، وإن اعتقد أنّه تخييل لم يكفر. وقال الشافعي: إن اعتقد ما يوجب الكفر، مثل التقرب إلى الكواكب السّبعة، وأنها تفعل ما يلتمس، أو اعتقد حلّ السحر، كفر، لأن القرآن نطق بتحريمه، وثبت بالنقل المتواتر والإجماع عليه، وإلّا فسّق ولم يكفّر لأن عائشة باعت مدبّرة لها سحرتها بمحضر من الصحابة. - وحدّ الساحر القتل، روي ذلك عن عمر، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وحفصة وجندب بن عبد الله، وجندب بن كعب وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز. وهو قول أبي حنيفة، ومالك. ولم ير الشافعيّ عليه القتل بمجرد السحر وهو قول ابن المنذر. ورواية عن أحمد ذكرناها فيما تقدّم. ووجه ذلك أن عائشة رضي الله عنها باعث مدبّرة سحرتها، ولو وجب قتلها لما حلّ بيعها، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حقّ» . ولم يصدر منه أحد الثلاثة، فوجب أن لا يحلّ دمه، ولنا ما روى جندب بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «حد الساحر، ضربة بالسّيف» . قال ابن المنذر: رواه إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف وأخرجه سعيد في «السنن» 2/ 90، 91 عن بجالة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية، عمّ الأحنف بن قيس، إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: اقتلوا كلّ ساحر، فقتلنا ثلاث سواحر في يوم وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعا وقتلت حفصة جارية لها سحرتها وقتل جندب بن كعب ساحرا كان يسحر بين يدي الوليد بن عقبة. ولأنه كافر فيقتل، للخبر الذي رووه. وهل يستتاب الساحر؟ فيه روايتان أحدهما، لا يستتاب، وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحرا. (2) هو الإمام المقرئ محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي، المتوفى سنة 123.

[سورة البقرة (2) : آية 105]

وقال ابن زيد: لا تعجل علينا. قوله: وَاسْمَعُوا أي: ما تؤمرون به. [سورة البقرة (2) : آية 105] ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) قوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ. قال ابن عباس: هم يهود المدينة، ونصارى نجران، فالمشركون مشركو أهل مكة. أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ، أي: على رسولكم. مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أراد: النبوة والإسلام. وقال أبو سليمان الدمشقي: أراد بالخير: العلم والفقه والحكمة. وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ. في هذه الرحمة قولان: أحدهما: أنها النبوة، قاله علي بن أبي طالب، ومحمد بن علي بن الحسين، ومجاهد والزجاج. والثاني: أنها الإسلام، قاله ابن عباس ومقاتل. [سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 107] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ. سبب نزولها: أن اليهود قالت لما نسخت القبلة: إن محمداً يحل لأصحابه إذا شاء، ويحرم عليهم إذا شاء فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: النسخ في اللغة: إبطال شيءٍ وإقامة آخر مقامه، تقول العرب: نسخت الشمس الظل: إذا أذهبته وحلت محله. وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال: أحدها: رفع اللفظ والحكم. والثاني: تبديل الآية بغيرها. رويا عن ابن عباس، والأول قول السدي، والثاني قول مقاتل. والثالث: رفع الحكم مع بقاء اللفظ، رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود، وبه قال أبو العالية. وقرأ ابن عامر: «ما ننسخ» بضم النون، وكسر السين. قال أبو علي: أي: ما نجده منسوخاً كقولك: أحمدت فلاناً، أي: وجدته محموداً، وإنما يجده منسوخاً بنسخه إياه. قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها، قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «ننسأها» بفتح النون مع الهمزة، والمعنى: نؤخرها. قال أبو زيد: نسأت الإبل عن الحوض، فأنا أنسأها: إذا أخرتها، ومنه: النسيئة في البيع. وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال: أحدها: نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها، قاله الفراء. والثاني: نؤخر إنزالها، فلا ننزلها البتة. والثالث: نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها، حكاهما أبو علي الفارسي. وقرأ سعد بن أبي وقاص «تنسها» بتاء مفتوحة ونون. وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك «تنسها» بضم التاء. وقرأ نافع: «أو ننسها» بنونين: الأولى مضمومة، والثانية ساكنة. أراد: أو ننسكها، من النسيان. قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها، قال ابن عباس: بألين منها، وأيسر على الناس. قوله تعالى: أَوْ مِثْلِها، أي: في الثواب والمنفعة، فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار. أَلَمْ تَعْلَمْ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التوقيف والتقرير. والملك في اللغة: تمام القدرة واستحكامها، فالله عزّ وجلّ يحكم بما يشاء على عباده ويغيّر ما يشاء من أحكام.

[سورة البقرة (2) : آية 108]

[سورة البقرة (2) : آية 108] أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ. في سبب نزولها خمسة أقوال: (29) أحدها: أن رافع بن حريملة، ووهب بن زيد، قالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا، وفجّر لنا أنهارا حتى نتبعك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. (30) والثاني: أن قريشا سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال: «هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل» فأبوا. قاله مجاهد. (31) والثالث: أن رجلاً قال: يا رسول الله، لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانوا إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فان كفرها كانت له خزياً في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة، فقد أعطاكم الله خيراً مما أعطى بني إسرائيل، فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) «1» الآية. وقال: «الصّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفّارات لما بينهن» فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية. (32) والرابع: أن عبد الله بن أبي أميّة المخزوميّ أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في رهط من قريش، فقال: يا محمد، والله لا أؤمن بك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً، فنزلت هذه الآية. ذكره ابن السّائب. (33) والخامس: أن جماعة من المشركين جاءوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال بعضهم: لن نؤمن لك حتى تفجِّر لنا من الأرض ينبوعاً. وقال آخر: لن أؤمن حتى تسير لنا جبال مكة، وقال عبد الله بن أبي أمية: لن أؤمن لك حتى تأتي بكتاب من السماء، فيه: من الله ربّ العالمين إلى ابن أمية: اعلم أني قد أرسلت محمدا إلى الناس. وقال آخر: هلا جئت بكتابك مجتمعاً، كما جاء موسى بالتوراة. فنزلت هذه الآية. ذكره محمّد بن إسحاق الأنباري. وفي المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قريش، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني:

_ ضعيف. أخرجه الطبري 1780 عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 1783 و 1784 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث. ثم إن السورة مدنية، وسياق الخبر يدل على أنه مكي؟!. ضعيف. أخرجه الطبري 1786 عن أبي العالية مرسلا. والمرسل من قسم الضعيف. لكن قوله: «والصلوات.... بينهن» ورد في أحاديث أخر. وانظر «تفسير الشوكاني» 1/ 150 بتخريجنا. لا أصل له، ذكره الواحدي نقلا عن المفسرين بلا سند في «أسباب النزول» 50. - وعزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وقد كذبه غير واحد، ورواياته ساقطة ليست بشيء. - ثم إن السورة مدنية، وسياق الخبر أنه مكي؟!. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 50 بلا سند نقلا عن المفسرين. فهو كسابقه.

[سورة البقرة (2) : آية 109]

اليهود، قاله مقاتل. والثالث: جميع العرب، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي أَمْ قولان: أحدهما: أنها بمعنى: بل، تقول العرب: هل لك عليَّ حق، أم أنت معروف بالظلم. يريدون: بل أنت. وأنشدوا: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح ذكره الفرّاء والزّجّاج. والثاني: أنها بمعنى الاستفهام. فان اعترض معترض، فقال: إنما تكون للاستفهام إذا كانت مردودة على استفهام قبلها، فأين الاستفهام الذي تقدمها؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه قد تقدمها استفهام، وهو قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ذكره الفراء، وكذلك قال ابن الأنباري: هي مردودة على الألف في: أَلَمْ تَعْلَمْ، فإن اعترض على هذا الجواب، فقيل: كيف يصح العطف ولفظ: أَلَمْ تَعْلَمْ ينبئ عن الواحد، وتُرِيدُونَ عن جماعة؟ فالجواب: أنه إنما رجع الجواب من التوحيد إلى الجمع، لأن ما خوطب به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقد خوطبت به أمته، فاكتفى به من أمته في المخاطبة الأولى، ثم أظهر المعنى في المخاطبة الثانية. ومثل هذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ «1» . ذكر هذا الجواب ابن الأنباري. فأما الجواب الثاني عن أَمْ فهو أنها للاستفهام، وليست مردودة على شيء. قال الفراء: إذا توسط الاستفهام الكلام ابتدئ بالألف وبأم، وإذا لم يسبقه كلام لم يكن إلا بالألف أو ب «هل» . وقال ابن الأنباري: «أم» جارية مجرى «هل» ، غير أن الفرق بينهما: أن «هل» استفهام مبتدأ، لا يتوسط ولا يتأخر، و «أم» : استفهام متوسط، لا يكون إلا بعد كلام. فأما الرسول ها هنا: فهو: محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والذي سئل موسى من قبل قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «2» ، وهل سألوا ذلك نبياً أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنهم سألوا ذلك، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى ... تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «3» ، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم بالغوا في المسائل، فقيل لهم بهذه الآية: لعلكم تريدون أن تسألوا محمداً أن يريكم الله جهرة، قاله أبو سليمان الدمشقي. والكفر: الجحود. والإيمان: التصديق. وقال أبو العالية: المعنى: ومن يتبدل الشدة بالرّخاء. وسواء السبيل: وسطه. [سورة البقرة (2) : آية 109] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (34) أحدها: أن حيي بن أخطب، وأبا ياسر كانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عبّاس.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 1791 عن ابن عباس، وفيه محمد بن أبي محمد، شيخ ابن إسحاق، وهو مجهول.

[سورة البقرة (2) : آية 110]

(35) والثاني: أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدمها، فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالصفح عنهم، فنزلت هذه الآية، قاله عبد الله بن كعب بن مالك. (36) والثالث: أن نفراً من اليهود دعوا حذيفة وعماراً إلى دينهم، فأبيا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى وَدَّ: أحب وتمنى. وأَهْلِ الْكِتابِ: اليهود. قال الزجاج: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ موصول: ب وَدَّ كَثِيرٌ، لا بقوله: حَسَداً، لأن حسد الإنسان لا يكون إلا من عند نفسه. والمعنى: مودتهم لكفركم من عند أنفسهم، لا أنه عندهم الحق. فأما الحسد: فهو تمني زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، وتفارقه الغبطة، فانها تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط. وحد بعضهم الحسد، فقال: هو أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأخيار، ولا يجوز أن يكون الفاضل حسوداً، لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل. وقال بعض الحكماء: كل أحد يمكن أن ترضيه إلا الحاسد، فانه لا يرضيه إلا زوال نعمتك. وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم، ونفس دائم، وعقل هائم، وحسرة لا تنقضي. قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، قال ابن عباس: فجاء الله بأمره في النضير بالجلاء والنفي، وفي قريظة بالقتل والسبي. فصل: وقد روي عن ابن عباس وابن مسعود، وأبي العالية، وقتادة رضي الله عنهم: أن العفو والصفح منسوخ بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ «1» ، وأبى هذا القول جماعة من المفسرين والفقهاء، واحتجوا بأن الله لم يأمر بالصفح والعفو مطلقاً، وإنما أمر به إلى غاية، وما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته، والآخر يحتاج إلى حكم آخر. [سورة البقرة (2) : آية 110] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) قوله تعالى: تَجِدُوهُ، أي: تجدوا ثوابه.

_ مرسل. أخرجه أبو داود 3000 والواحدي في «أسباب النزول» 52 من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، ورجاله رجال الشيخين إلّا أنه مرسل. لا أصل له. ذكره الزمخشري في «الكشاف» 1/ 179، وقال الحافظ في تخريجه: لم أجده مسندا، وهو في تفسير الثعلبي كذلك بلا سند ولا راو. - قلت: عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو كذاب. وخبره هذا لا أصل له.

[سورة البقرة (2) : الآيات 111 إلى 113]

[سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. قال ابن عباس: (37) اختصم يهود المدينة ونصارى نجران عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وكفروا بالتوراة وموسى، فقال الله تعالى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ. واعلم أن الكلام في هذه الآية مجمل ومعناه: قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إِلا من كان نصرانياً. والهود، جمع: هائد. تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ، أي: ذاك شيء يتمنونه، وظن يظنونه، هذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ، أي: حجتكم إن كنتم صادقين بأن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى. ثم بين الله تعالى أن ليس كما زعموا، فقال: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ، وأسلم، بمعنى: أخلص. وفي الوجه قولان: أحدهما: أنه الدين. والثاني: العمل. قوله تعالى: وَهُوَ مُحْسِنٌ، أي: في عمله، فَلَهُ أَجْرُهُ، قال الزجاج: يريد: فهو يدخل الجنة. قوله تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، أي: كل منهم يتلو كتابه بتصديق ما كفر به، قاله السدي، وقتادة. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم مشركو العرب قالوا لمحمد وأصحابه: لستم على شيء، قاله السدي عن أشياخه. والثاني: أنهم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى، كقوم نوح وهود وصالح، قاله عطاء. قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، قال الزجاج: يريد حكم الفصل بينهم، فيريهم من يدخل الجنة عياناً، ومن يدخل النار عياناً، فأما الحكم بينهم في العقد فقد بينه لهم في الدنيا بما أقام على الصواب من الحجج. [سورة البقرة (2) : آية 114] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ، اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في الروم، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا، فخرب وطرحت الجيف فيه، قاله ابن عباس في آخرين. والثاني: أنها في المشركين

_ ضعيف. أخرجه الطبري في «تفسيره» 1813 وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد. وانظر «تفسير القرطبي» 627 بتخريجنا.

[سورة البقرة (2) : آية 115]

الذين حالوا بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين مكة يوم الحديبية، قاله ابن زيد. وفي المراد بخرابها قولان: أحدهما: أنه نقضها. والثاني: منع ذكر الله فيها. قوله تعالى: أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ، فيه قولان: أحدهما: أنه إخبار عن أحوالهم بعد ذلك. قال السدي: لا يدخل رومي بيت المقدس إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية. والثاني: أنه خبر في معنى الأمر، تقديره: عليكم بالجد في جهادهم كي لا يدخلها أحدٌ إلا وهو خائف. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن خزيهم الجزية، قاله ابن عباس. والثاني: أنه فتح القسطنطينة، قاله السدي. والثالث: أنه طردهم عن المسجد الحرام، فلا يدخله مشرك أبداً ظاهراً، قاله ابن زيد. [سورة البقرة (2) : آية 115] وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. في نزولها أربعة أقوال: (38) أحدها: أن الصحابة كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة في ليلة مظلمة، فلم يعرفوا القبلة، فجعل كل واحد منهم مسجداً بين يديه وصلى، فلما أصبحوا إذا هم على غير القبلة، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. رواه عامر بن ربيعه. (39) والثاني: أنها نزلت في التطوع بالنافلة. قاله ابن عمر. (40) والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1» ، قالوا: إلى أين؟ فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. (41) والرابع: أنه لما مات النجاشي، وأمرهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة عليه قالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.

_ حسن بشواهده. أخرجه الترمذي 345- 2957 وابن ماجة 1020 والدارقطني 1/ 272 والبيهقي في السنن 2/ 11 والعقيلي في الضعفاء 1/ 31 وأبو نعيم 1/ 179 والطبري 1843 و 1845 وفيه أشعث بن سعيد، وبه أعله الترمذي وتوبع عند الطيالسي وإنما علته عاصم بن عبيد الله، وهو واه. وورد من حديث جابر أخرجه الدارقطني 1/ 72 والحاكم 1/ 206 والبيهقي 2/ 10- 12 وإسناده ضعيف لضعف أبي سهل. وورد من طرق واهية تبلغ درجة الحسن أو تقرب من الحسن كما قال ابن كثير 1/ 163. صحيح. أخرجه البخاري 1096 ومسلم 700 ومالك 1/ 151 وأحمد 2/ 66 وأبو داود 1224 والنسائي 1/ 243 وابن الجارود 270 وابن حبان 2517 والبيهقي 2/ 4. عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي، وهو مقبل من مكة إلى المدينة، على راحلته حيث كان وجهه قال: وفيه نزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ واللفظ لمسلم. وانظر «تفسير القرطبي» 2/ 78. ضعيف أخرجه الطبري 1849 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف وهو بهذا اللفظ منكر. ضعيف. أخرجه الطبري 1846 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف بهذا اللفظ. وكونه عليه السّلام صلّى على النجاشي دون نزول الآية. أخرجه البخاري 1317 و 1320 ومسلم 952 من حديث جابر.

[سورة البقرة (2) : آية 116]

قوله تعالى: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، فيه قولان: أحدهما: فثم الله، يريد: علمه معكم أين كنتم. وهذا قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: فثم قبلة الله، قاله عكرمة، ومجاهد. والواسع: الذي وسع غناه مفاقر عباده، ورزقه جميع خلقه. والسعة في كلام العرب: الغنى. فصل: وهذه الآية مستعملة الحكم في المجتهد إذا صلى إلى غير القبلة، وفي صلاة المتطوع على الراحلة، والخائف. وقد ذهب قوم إلى نسخها، فقالوا: إنها لما نزلت توجه رسول الله إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك بقوله: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «1» ، وهذا مروي عن ابن عباس. قال شيخنا علي بن عبيد الله: وليس في القرآن أمر خاص بالصلاة إلى بيت المقدس، وقوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ليس صريحاً بالأمر بالتوجه إلى بيت المقدس، بل فيه ما يدل على أن الجهات كلها سواء في جواز التوجه إليها، فإذا ثبت هذا، دل على أنه وجب التوجه إلى بيت المقدس بالسّنّة، ثم نسخ بالقرآن. [سورة البقرة (2) : آية 116] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها نزلت في اليهود إذ جعلوا عزيراً ابن الله، قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في نصارى نجران حيث قالوا: عيسى ابن الله، قاله مقاتل. والثالث: أنها في النصارى ومشركي العرب، لأن النصارى قالت: عيسى ابن الله، والمشركين قالوا: الملائكة بنات الله، ذكره إبراهيم بن السري. والرابع: أنها في اليهود والنصارى ومشركي العرب، ذكره الثعلبي. فأما القنوت فقال الزجاج: هو في اللغة بمعنيين: أحدهما: القيام. والثاني: الطاعة. والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت: الدعاء في القيام، فالقانت: القائم بأمر الله. ويجوز أن يقع في جميع الطاعات، لأنه إن لم يكن قيام على الرجلين، فهو قيام بالنية. وقال ابن قتيبة: لا أرى أصل القنوت إلا الطاعة، لأن جميع الخلال من الصلاة، والقيام فيها والدعاء وغير ذلك يكون عنها. وللمفسرين في المراد بالقنوت هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الطاعة، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنه الإقرار بالعبادة، قاله عكرمة، والسدي. والثالث: القيام، قاله الحسن، والربيع. وفي معنى القيام قولان: أحدهما: أنه القيام له بالشهادة بالعبودية. والثاني: أنه القيام بين يديه يوم القيامة. فان قيل: كيف عمَّ بهذا القول وكثير من الخلق ليس له بمطيع؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن يكون ظاهرها ظاهر العموم، ومعناها معنى الخصوص. والمعنى: كل أهل الطاعة له قانتون. والثاني: أن الكفار تسجد ظلالهم لله بالغدوات والعشيات، فنسب القنوت إليهم بذلك. والثالث: أن كل مخلوق قانت له بأثر صنعه فيه، وجري أحكامه عليه، فذلك دليل على ذلّه لربّه. ذكرهنّ ابن الأنباريّ. [سورة البقرة (2) : آية 117] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ. البديع: المبدع، وكل من أنشأ شيئاً لم يسبق إليه قيل له:

_ (1) البقرة: 144.

[سورة البقرة (2) : آية 118]

أبدعت. قال الخطابي: البديع، فعيل بمعنى: مفعل، ومعناه: أنه فطر الخلق مخترعاً له لا على مثال سبق. قوله تعالى: وَإِذا قَضى أَمْراً، قال ابن عباس: معنى القضاء: الإرادة. وقال مقاتل: إذا قضى أمراً في علمه، فإنما يقول له: كن فيكون. والجمهور على ضم نون فَيَكُونُ، بالرفع على القطع. والمعنى: فهو يكون. وقرأ ابن عامر بنصب النون. قال مكيّ بن أبي طالب: النصب على الجواب ل «كن» ، وفيه بعد. فصل: وقد استدل أصحابنا على قدم القرآن بقوله: كُنْ فقالوا: لو كانت «كن» مخلوقة لافتقرت إلى إيجادها بمثلها وتسلسل ذلك، والتّسلسل محال «1» . فان قيل: هذا خطاب لمعدوم فالجواب أنه خطاب تكوين يُظهر أثر القدرة، ويستحيل أن يكون المخاطب به موجوداً، لأنه بالخطاب كان، فامتنع وجوده قبله أو معه. ويحقق هذا أن ما سيكون متصوّر العلم فضاهى بذلك الموجود، فجاز خطابه لذلك. [سورة البقرة (2) : آية 118] وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ، فيهم ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: النصارى، قاله مجاهد. والثالث: مشركو العرب، قاله قتادة، والسدي عن أشياخه. ولَوْلا بمعنى: هلا. وفي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي عن أشياخه. والثالث: اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، قاله قتادة «3» . تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، أي: في الكفر.

_ (1) لأنه يؤدي إلى حوادث لا أول لها. (2) قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره 1/ 560: وأولى هذه الأقوال بالصّحة والصواب قول القائل: إن الله عنى بقوله: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ النصارى دون غيرهم لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم، وعن افترائهم عليه، وادّعائهم له ولد. وقال ابن كثير رحمه الله 1/ 161: وفي ذلك نظر وحكى القرطبي لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد (قلت) وهو ظاهر السياق والله أعلم. (3) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 161: وقال قتادة في تفسير هذه الآية: هذا قول كفار العرب كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قال هم اليهود والنصارى ويؤيد القول وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب قوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ. وقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا. وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا إلى غير ذلك من الآيات الدّالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به إنما هو الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. وقوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ.

[سورة البقرة (2) : آية 119]

[سورة البقرة (2) : آية 119] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ. في سبب نزولها قولان: (42) أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال يوماً: «ليت شعري ما فعل أبواي!» ، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. (43) والثاني: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا» فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. وفي المراد بِالْحَقِّ هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: الإسلام، قاله ابن كيسان. والثالث: الصّدق. قوله تعالى: وَلا تُسْئَلُ، قرأه الأكثرون بضم التاء، على الخبر، والمعنى: لست بمسؤول عن أعمالهم. وقرأ نافع ويعقوب بفتح التاء وسكون اللام، على السؤال عنهم. وجوز أبو الحسن الأخفش أن يكون معنى هذه القراءة: لا تسأل عنهم فإنهم في أمر عظيم، فيكون ذلك على وجه التعظيم لما هم فيه، فأما الجحيم فقال الفرّاء: النّار على النار والجمر على الجمر. وقال أبو عبيدة: الجحيم: النار المستحكمة المسلّطة. وقال الزجاج: الجحيم: النار الشديدة الوقود، وقد جحم فلان النار: إذا شدد وقودها، ويقال لعين الأسد: حجمة لشدة توقدها. ويقال لوقود الحرب، وهو شدة القتال فيها: جاحم. وقال ابن فارس: الجاحم: المكان الشديد الحر. قال الأعشى: يُعدون للهيجاء قبل لقائها ... غداة احتضار البأس والموت جاحم ولذلك سميت الجحيم. وقال ابن الأنباري: قال أحمد بن عبيد: إنما سميت النار جحيماً، لأنها أكثر وقودها، من قول العرب: جحمت النار أجحمها: إذا أكثرت لها الوقود. قال عمران بن حطان: يرى طاعة الله الهدى وخلافه ... الضّلالة يصلي أهلها جاحم الجمر [سورة البقرة (2) : آية 120] وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) قوله تعالى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى. في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (44) أحدها: أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى قبلتهم، فلمّا

_ ضعيف. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 126 والطبري 1877 و 1878 كلاهما من حديث محمد بن كعب القرظي مرسلا. وذكره السيوطي في «الدر» 1/ 209 وزاد نسبته إلى وكيع وسفيان وعبد بن حميد وابن المنذر وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي ضعيف جدا كما في «التقريب» . وذكره العقيلي في «الضعفاء» وابن حبان في «المجروحين» وضعفه ابن كثير 1/ 162 والسيوطي في «الدر» وقال: هذا مرسل ضعيف الإسناد. وله شاهد آخر أخرجه الطبري 1879 مرسلا عن داود بن أبي عاصم. وذكره السيوطي في «الدر» وقال: والآخر معضل الإسناد ضعيف لا يقوم به ولا بالذي قبله حجة. وعزاه الواحدي في «أسباب النزول» 64 لابن عباس بدون إسناد فالمتن ضعيف. ضعيف جدا، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 65 بلا سند عن مقاتل، فهو واه، وتقدم الكلام على مقاتل. واه بمرة، أخرجه الثعلبي كما في «أسباب النزول» 59 للسيوطي. عن ابن عباس، ولم أقف على إسناده، وتفرد الثعلبي به دليل وهنه، فإنه يروي عن المتروكين والكذابين من غير تعمد، وإنما هو كحاطب ليل كما وصفه بذلك الإمام ابن تيمية في كتابه «مقدمة في أصول التفسير» .

[سورة البقرة (2) : الآيات 121 إلى 124]

صرف إلى الكعبة يئسوا منه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم دعوه إلى دينهم، فنزلت، قاله مقاتل. والثالث: أنهم كانوا يسألونه الهدنة، ويطمعونه في أنه إن هادنهم وافقوه فنزلت، ذكر معناه الزجاج. قال الزجاج: والملة في اللغة: السنة والطريقه «1» . قال ابن عباس: وهُدَى اللَّهِ هاهنا: الإسلام. وفي الذي جاءه من العلم أربعة أقوال: أحدها: أنه التحول إلى الكعبة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه البيان بأن دين الله الإسلام. والثالث: أنه القرآن. والرابع: العلم بضلالة القوم. ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ينفعك وَلا نَصِيرٍ يمنعك من عقوبته. [سورة البقرة (2) : الآيات 121 الى 124] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في الذين آمنوا من اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: في المؤمنين من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله عكرمة، وقتادة. وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله قتادة. والثاني: أنه التوراة، قاله مقاتل. قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أي: يعملون به حق عمله، قاله مجاهد. قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ في هاء بِهِ قولان: أحدهما: أنها تعود على الكتاب. والثاني: على النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، والابتلاء: الاختبار. وفي إبراهيم ست لغات: أحدها: إِبراهيم، وهي اللغة الفاشية. والثانية: إبراهُم. والثالثة: ابراهَم. والرابعة: إِبراهِمْ، ذكرهن الفراء. والخامسة: إِبراهام. والسادسة: إِبرهم. قال عبد المطلب: عذت بما عاذ به إِبرهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم وقال أيضا: نحن آل الله في كعبته ... لم يزل ذاك على عهد ابرهم

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 91: والملّة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله: فكانت الملّة والشريعة سواء. فأما الدين فقد فرّق بينه وبين الملّة والشريعة، فإن الملّة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله، والدّين ما فعله العباد عن أمره. تمسّك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة لقوله تعالى مِلَّتَهُمْ فوحّد الملّة وبقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وبقوله عليه السّلام: «لا يتوارث أهل ملتين» على أن المراد به الإسلام والكفر بدليل قوله عليه السّلام: «لا يرث المسلم الكافر» . وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن الكفر ملل فلا يرث اليهودي النصراني، ولا يرثان المجوسي، أخذا بظاهر قوله عليه السّلام: «لا يتوارث أهل ملتين» .

وفي الكلمات خمسة أقوال: أحدها: أنها خمس في الرأس، وخمس في الجسد. أما التي في الرأس، فالفرق، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك. وفي الجسد: تقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستطابة بالماء، والختان، رواه طاوس عن ابن عباس. والثاني: أنها عشر ست في الإنسان، وأربع في المشاعر، فالتي في الإنسان: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب، والسواك، والغسل من الجنابة، والغسل يوم الجمعة. والتي في المشاعر: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. رواه حنش بن عبد الله عن ابن عباس. والثالث: أنها المناسك، رواه قتادة عن ابن عباس. والرابع: أنه ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، والهجرة، والنار، وذبح ولده، والختان، قاله الحسن. والخامس: أنها كل مسألة في القرآن، مثل قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «1» ، ونحو ذلك، قاله مقاتل. فمن قال: هي أفعال فعلها قال: معنى فَأَتَمَّهُنَّ: عمل بهن. ومن قال: هي دعوات ومسائل قال: معنى فَأَتَمَّهُنَّ: أجابه الله إليهن. وقد روي عن أبي حنيفة أنه قرأ «2» «إبراهيم» برفع الميم «ربه» بنصب الباء، على معنى: اختبر ربه هل يستجيب دعاءه، ويتخذه خليلاً أم لا؟ قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، في الذرية قولان: أحدهما: أنها فعلية من الذر، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر. والثاني: أن أصلها ذرُّورة، على وزن: فعلولة، ولكن لما كثر التضعيف أبدل من الراء الأخيرة ياءً، فصارت: ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء، فصارت: ذرية، ذكرهما الزجاج، وصوب الأول. وفي العهد هاهنا سبعة أقوال: أحدها: أنه الإمامة «3» ، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير. والثاني: أنه الطاعة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الرحمة، قاله عطاء وعكرمة. والرابع: الدين، قاله أبو العالية. والخامس: النبوة، قاله السدي عن أشياخه. والسادس: الأمان، قاله أبو عبيدة. والسابع: الميثاق، قاله ابن قتيبة، والأول أصح. وفي المراد بالظالمين هاهنا قولان: أحدهما: أنهم الكفار، قاله ابن جبير، والسدي. والثاني: العصاة، قاله عطاء.

_ (1) إبراهيم: 35. (2) قال أبو العلاء الواسطي: إن الخزاعي وضع كتابا في الحروف نسبه إلى أبي حنيفة، فأخذت خط الدارقطني وجماعة أن الكتاب موضوع لا أصل له. قال ابن الجزري: وقد رأيت الكتاب المذكور، ومنه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ برفع الهاء ونصب الهمزة، وقد راج ذلك على أكثر المفسرين، ونسبها إليه، وتكلف توجيهها، وإن أبا حنيفة لبريء منها. انظر «النشر في القراآت العشر» لابن الجزري 1/ 16. (3) فائدة: قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» 1/ 211: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وقرئ «الظالمون» ، أي من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة. وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته. ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدّم للصلاة. وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل. فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماما قط. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة. فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم.

[سورة البقرة (2) : آية 125]

[سورة البقرة (2) : آية 125] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ، البيت هاهنا: الكعبة، والألف واللام تدخل للمعهود، أو للجنس، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس انصرف إلى المعهود، قال الزجاج: والمثاب والمثابة واحد، كالمقام والمقامة، قال ابن قتيبة: والمثابة: المعاد، من قولك: ثبت إلى كذا، أي: عدت إليه، وثاب إليه جسمه إذا رجع بعد العلّة، فأراد: أن الناس يعودون إليه مرة بعد مرة. قوله تعالى: وَأَمْناً، قال ابن عباس: يريد أن من أحدث حدثاً في غيره، ثم لجأ إليه فهو آمن، ولكن ينبغي لأهل مكة أن لا يبايعوه، ولا يطعموه، ولا يسقوه، ولا يؤووه، ولا يكلم حتى يخرج، فاذا خرج أقيم عليه الحد «1» . قال القاضي أبو يعلى: وصف البيت بالأمن، والمراد جميع الحرم كما قال: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، والمراد: الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام، وهذا على طريق الحكم، لا على وجه الخبر فقط. وفي مَقامِ إِبْراهِيمَ، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحرم كله، قاله ابن عباس. والثاني: عرفة والمزدلفة والجمار، قاله عطاء. وعن مجاهد كالقولين. وقد روي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، قالوا: الحج كله مقام إبراهيم. والثالث: الحجر، قاله سعيد بن جبير، وهو الأصح. (45) قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت. وفي سبب وقوف إبراهيم على الحجر قولان: أحدهما: أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل، فلم يجده، فقالت له زوجته: انزل، فأبى، فقالت: فدعني أغسل رأسك، فأتته بحجر فوضع رجله عليه، وهو راكب، فغسلت شقه، ثم رفعته وقد غابت رجله فيه، فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته، فغابت رجله فيه، فجعله الله من شعاره، ذكره السدي عن ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أنه قام على الحجر لبناء البيت، وإسماعيل يناوله الحجارة، قاله سعيد بن جبير.

_ صحيح. أخرجه البخاري 402 و 4483 و 4790 و 4916 ومسلم 2399 والترمذي 2959 و 2960 والنسائي في «التفسير» 18 وابن ماجة 1009 رووه عن أنس عن عمر قال: «وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا مقام إبراهيم مصلّى فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وآية الحجاب، قلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنّه يكلّمهن البرّ والفاجر، فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغيرة عليه فقلت لهن: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت هذه الآية» .

[سورة البقرة (2) : آية 126]

قرأ الجمهور، منهم: ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: وَاتَّخِذُوا بكسر الخاء على الأمر. وقرأ نافع، وابن عامر بفتح الخاء على الخبر. (46) قال ابن زيد: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أين ترون أن أصلّي بكم» ؟ فقال عمر: إلى المقام، فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. قال: رضي الله ذلك من أعمالهم. وقال أبو علي: وجه فتح الخاء أنه معطوف على ما أُضيف إليه، كأنه قال: وإذ اتخذوا. ويؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر، وهو قوله: وَعَهِدْنا. قوله تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ، أي: أمرناهما وأوصيناهما. وإِسماعيل: اسم أعجمي، وفيه لغتان: إسماعيل، و: إسماعين. وأنشدوا: قال جواري الحي لما جينا ... هذا ورب البيت إسماعينا قوله تعالى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ، قال قتادة: يريد من عبادة الأوثان والشرك، وقول الزور. فان قيل: لم يكن هناك بيت، فما معنى أمرهما بتطهيره؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه كانت هناك أصنام، فأمر بإخراجها، قاله عكرمة. والثاني: أن معناه: ابنياه مطهراً، قاله السدي. والعاكفون: المقيمون، يقال: عكف يعكف ويعكف عكوفاً: إذا أقام، ومنه: الاعتكاف. (47) وقد روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «إِن الله تعالى يُنزل في كلّ ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة تنزل على البيت: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين» . [سورة البقرة (2) : آية 126] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، البلد: صدر القرى، والبالد: المقيم بالبلد، والبلدة: الصدر، ووضعت الناقة بلدتها: إذا بركات. والمراد بالبلد هاهنا: مكة. ومعنى آمِناً: ذا أمنٍ. وأمن البلدة مجاز، والمراد: أمن من فيه. وفي المراد بهذا الأمن ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سأله

_ منكر بهذا اللفظ. عزاه المصنف لابن زيد، وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو حديث معضل، وهو متروك الحديث إذا وصله فكيف إذا أرسله؟!. وهو بهذا اللفظ منكر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان يسأل أصحابه أين يتوجه، بل الصحيح أن عمر كان يطلب منه التحول، ولم يوافقه حتى نزل القرآن. ضعيف، أخرجه الطبراني في «الكبير» 11475 من طريق يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ساقط، يوسف بن السفر، متروك متهم بالكذب. وقال الهيثمي في «المجمع» 3/ 292: يوسف متروك. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 6310 من طريق عبد الرحمن بن السفر قال حدثنا الأوزاعي به. وعبد الرحمن هذا لم أجد له ترجمة، وأخشى أن يكون قلب اسمه وأن الصواب يوسف بن السفر، وبكل حال، هو في حكم المجهول. وأخرجه الطبراني في «الكبير» 11248 من وجه آخر عن خالد بن يزيد العمري عن محمد بن عبد الله الليثي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس به. وإسناده ساقط، خالد كذاب، وشيخه متروك. وأخرجه ابن عدي 6/ 278 والخطيب 6/ 27. من وجه آخر عن محمد بن صفوان عن ابن جريج عن عطاء به. وإسناده واه، ابن جريج مدلس، وقد عنعن، وابن صفوان مجهول، وعنه محمد بن معاوية، وهو متروك.

[سورة البقرة (2) : الآيات 127 إلى 129]

الأمن من القتل. والثاني: من الخسف والقذف. والثالث: من القحط والجدب. قال مجاهد: قال إبراهيم: لمن آمن، فقال الله عزّ وجلّ: ومن كفر فسأرزقه. قوله تعالى: فَأُمَتِّعُهُ، وقرأ ابن عامر: «فأمتعه» بالتخفيف، من أمتعت. وقرأ الباقون بالتشديد من: مَتَّعت. والإمتاع: إعطاء ما تحصل به المتعة. والمتعة: أخذ الحظ من لذة ما يشتهي. وبماذا يمتعه؟ فيه قولان: أحدهما: بالأمن. والثاني: بالرزق. والاضطرار: الإلجاء إلى الشّيء، والمصير: ما ينتهي إليه الأمر. [سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 129] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ. القواعد: أساس البيت، واحدها: قاعدة. فأما قواعد النساء فواحدتها: قاعد، وهي العجوز. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا، أي: يقولان: ربنا، فحذف ذلك كقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ «1» ، أراد: يقولون. والسَّمِيعُ بمعنى: السامع، لكنه: أبلغ، لأن بناء فعيل للمبالغة. قال الخطابي: ويكون السماع بمعنى القبول والإجابة. كقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (48) «أعوذ بك من دعاء لا يسمع» ، أي: لا يستجاب. وقول المصلي: سمع الله لمن حمده، أي: قبل الله حمد من حمده. وأنشدوا: دَعَوْتُ الله حتَّى خِفْتُ أنْ لاَ ... يَكُوْنَ الله يسمع ما أقول (إشارة إلى بناء البيت) (49) روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «كانت الملائكة تحج إِلى البيت قبل آدم» .

_ صحيح. أخرجه مسلم 2722 عن زيد بن أرقم، قال: لا أقول لكم إلّا كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول كان يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها. اللهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» . وله شاهد أخرجه أبو داود 1549 وابن أبي شيبة 10/ 187، 188 وأحمد 3/ 255- 3/ 192 والطيالسي 1/ 258 وابن حبان 1051 وأبو يعلى 2845 عن أنس. وورد من وجه آخر عند أحمد 3/ 283 والنسائي 8/ 283 و 284 عن أنس. وله شاهد أخرجه ابن ماجة 250 وصححه الحاكم 1/ 104 ووافقه الذهبي وأبو يعلى 6537 عن أبي هريرة. باطل. أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» 3986 عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان موضع البيت في زمن آدم عليه السّلام شبرا أو أكثر علما فكانت الملائكة تحج إليه قبل آدم ثم حجّ آدم فاستقبلته الملائكة قالوا: يا آدم من أين جئت؟ قال: حججت البيت، فقالوا: قد حجته الملائكة قبلك» وإسناده ساقط وعلته سعيد بن ميسرة، وهو متروك متهم، وكذبه القطان، وقال الحاكم: روى عن أنس موضوعات وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، انظر «الميزان» 2/ 160.

وقال ابن عباس: لما أهبط آدم قال الله تعالى له: يا آدم! اذهب فابن لي بيتاً فطف به، واذكرني حوله كما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي. فأقبل يسعى حتى انتهى إلى البيت الحرام، وبناه من خمسة أجبل: من لبنان، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، وحراء، فكان آدم أول من أسس البيت، وطاف به، ولم يزل كذلك حتى بعث الله الطوفان، فدرس موضع البيت، فبعث الله إبراهيم وإسماعيل. وقال علي بن أبي طالب، عليه السلام: لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت ضاق به ذرعاً، ولم يدر كيف يصنع، فأنزل الله عليه كهيئة السحابة، فيها رأس يتكلم، فقال: يا إبراهيم! علّم على ظلي، فلمّا علّم ارتفعت. وفي رواية عنه أنه كان يبني عليها كل يوم، قال: وحفر إبراهيم من تحت السكينة، فأبدى عن قواعد، ما تحرك القاعدة منها دون ثلاثين رجلاً. فلما بلغ موضع الحجر، قال لإسماعيل: التمس لي حجراً فذهب يطلب حجراً، فجاء جبريل بالحجر الأسود، فوضعه، قال: من جاءك بهذا الحجر؟ قال: جاء به من لم يتكل على بنائي وبنائك. وقال ابن عباس، وابن المسيب، وأبو العالية: رفعا القواعد التي كانت قواعد قبل ذلك. وقال السّدّيّ: لمّا أمره ببناء البيت لم يدر أين يبني، فبعث الله ريحاً، فكنست حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل الطوفان. قوله تعالى: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، قال الزجاج: المسلم في اللغة: الذي قد استسلم لأمر الله، وخضع. والمناسك: المتعبدات. فكل متعبد منسَك ومنسِك. ومنه قيل للعابد: ناسك. وتسمى الذبيحة المتقرّب بها إلى الله تعالى: النسيكة. وكأن الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة لله تعالى. قوله تعالى: وَأَرِنا مَناسِكَنا، أي: مذابحنا، قاله مجاهد. وقال غيره: هي جميع أفعال الحج. وقرأ ابن كثير: «وأرنا» بجزم الراء. و «رب أرني» و «أرنا اللذين أضلانا» . وقرأ نافع، وحمزة، والكسائيّ وَأَرِنا بكسر الراء في جميع ذلك. وقرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر كذلك، إلا أنهما أسكنا الراء من «أرنا اللذين» وحدها. قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: «أرنا أذين أضلانا» وكثير من العرب يجزم الراء، فيقول: «أرنا مناسكنا» ، وقرأ بها بعض الثقات. وأنشد بعضهم: قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً ... واشترْ فعجل خادماً لبيقاً وأنشدني الكسائي: ومن يتقْ فان الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغادي «1» قال قتادة: أراهما الله مناسكهما: الموقف بعرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، والطواف، والسعي. وقال أبو مجلز: لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل، فأراه الطواف، ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبعاً، وقال له: ارم

_ (1) في «اللسان» المآب: المرجع، وأتاب مثل آب، فعل وافتعل بمعنى. [.....]

وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به الجمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات. فقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان، ثم أتى به منى، فقال: هاهنا يحلق الناس رؤوسهم، ثم أتى به جمعاً، فقال: هاهنا يجمع الناس، ثم أتى به عرفة، فقال: أعرفت؟ قال: نعم. قال: فمن ثم سميت عرفات. قوله تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، في الهاء والميم من فِيهِمْ قولان: أحدهما: أنها تعود على الذرية، قاله مقاتل والفراء. والثاني: على أهل مكة في قوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ، والمراد بالرّسول: محمّد صلّى الله عليه وسلّم. (50) وقد روى أبو أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قيل: يا رسول الله! ما كان بدء أمرك؟ قال: «دعوة أبي إِبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أُمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» . والكتاب: القرآن. والحكمة: السنة، قاله ابن عباس. وروي عنه: الحكمة: الفقه والحلال والحرام، ومواعظ القرآن. وسميت الحكمة حكمة، لأنها تمنع من الجهل. وفي قوله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ، ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: يأخذ الزكاه منهم فيطهرهم بها، قاله ابن عباس والفراء. والثاني: يطهرهم من الشرك والكفر، قاله مقاتل. والثالث: يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء. قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ، قال الخطابي: العز في كلام العرب على ثلاث أوجه: أحدها: بمعنى الغلبة، يقولون: من عزّ بزّ، أي: من غلب سلب، يقال منه: عزَّ يعُزُّ، بضم العين من يعز، ومنه قوله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «1» . والثاني: بمعنى الشدة والقوة، يقال منه: عز يعَزُّ، بفتح العين من يعز. والثالث: أن يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: عز يعزّ، بكسر العين من يعزّ، ويتأول معنى العزيز على أنه الذي لا يعادله شيء، ولا مثل له.

_ حسن صحيح. أخرجه الطيالسي 1140 وأحمد 5/ 262، وابن سعد 1/ 102 والطبراني 7729 والبيهقي في «الدلائل» 1/ 84 وإسناده ضعيف لضعف فرج بن فضالة، والسياق لأحمد، وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 222: إسناد أحمد حسن. وله شاهد أخرجه أحمد 4/ 127- 128 والبخاري في «التاريخ الكبير» 6/ 68 وابن حبان 6404 وابن أبي عاصم في «السنة» 409 والبيهقي في «الدلائل» 1/ 80 و 2/ 30 عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا، وإسناده حسن في الشواهد لأجل سعيد بن سويد. وصححه الحاكم 2/ 600 ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبّان. وورد عن خالد بن معدان عن نفر من الصحابة مرفوعا أخرجه الحاكم 2/ 600 والطبري 2075 والبيهقي في «الدلائل» 1/ 83 وإسناده قوي كما قال الحافظ ابن كثير في «البداية» 2/ 275 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن في أقل تقدير بل هو صحيح والله أعلم، وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 710 بتخريجنا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 130 إلى 132]

[سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 132] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ. سبب نزولها: أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه مهاجراً وسلمة إلى الإسلام، فأسلم سلمة، ورغب عن الإسلام مهاجر، فنزلت هذه الآية «1» ، قاله مقاتل. قال الزجاج: و «من» لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ. والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه. ويقال: رغبت في الشيء: إذا أردته. ورغبت عنه: إذا تركته. وملة إبراهيم: دينه. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنّ معناها: إلا من سفّه نفسه، قاله الأخفش ويونس. قال يونس: ولذلك تعدّى إلى النّفي فنصبها، وقال الأخفش: نصبت النفس لإسقاط حرف الجر، لأن المعنى: إلا من سفه في نفسه. قال الشاعر: نُغالي اللحمَ للأضيافِ نِيئاً ... ونُرخِصُه إذا نضج القدور والثاني: إلا من أهلك نفسه، قاله أبو عبيدة. والثالث: إلا من سفهتْ نفسُه، كما يقال: غبن فلان رأيه، وهذا مذهب الفراء وابن قتيبة. قال الفراء: نقل الفعل عن النفس إلى ضمير «من» ، ونصبت النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال: ضقت بالأمر ذرعاً، يريدون: ضاق ذرعي به، ومثله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «2» . والرابع: إلا من جهل نفسه، فلم يفكر فيها، وهو اختيار الزجاج. قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، قال ابن الأنباري: لمن الصالحي الحال عند الله تعالى. وقال الزجاج: الصالح في الآخرة: الفائز. قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، وذلك حين وقوع الاصطفاء، قال ابن عباس: لما رأى الكوكب والقمر والشمس، قال له ربه: أسلم، أي: أخلص. قوله تعالى: وَوَصَّى، قرأ ابن عامر وأهل المدينة: «وأوصى» بألف، مع تخفيف الصاد، والباقون بغير ألف مشددة الصاد، وهذا لاختلاف المصاحف. أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا ثابت، قال: أخبرنا ابن قشيش، قال: أخبرنا ابن حيَّويه، قال: حدثنا ابن الأنباري، قال: أخبرنا ثعلب، قال: أملى عليَّ خلف بن هشام البزّاز، قال: اختلف مصحفا أهل المدينة وأهل العراق في اثني عشر حرفاً: كتب أهل المدينة: «وأوصى» ، وأهل العراق: «ووصّى» . وكتب أهل المدينة: «سارعوا إلى مغفرة» بغير واو، وأهل العراق: «وسارعوا» «3» . وكتب أهل المدينة: «يقول الذين آمنوا» ، وأهل العراق: «ويقول» «4» .

_ (1) عزاه المصنف لمقاتل، وهذا معضل، ومقاتل متهم. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» 63 بقوله قال ابن عيينة: وروى بمثله، ولم أره مسندا. الخلاصة: هو أثر واه بمرة، والمتن منكر، والصواب عموم الآية. (2) مريم: 4. (3) آل عمران: 133. (4) المائدة: 53.

[سورة البقرة (2) : الآيات 133 إلى 134]

وكتب أهل المدينة: «من يرتدد» ، وأهل العراق: «من يرتدَّ» «1» . وكتب أهل المدينة: «الذين اتّخذوا مسجدا» ، وأهل العراق: «والذين» «2» . وكتب أهل المدينة: «خيراً منهما منقلبا» ، وأهل العراق: «منها» «3» . وكتب أهل المدينة: «فتوكل على العزيز» ، وأهل العراق: «وتوكل» «4» . وكتب أهل المدينة: «وأن يظهر في الأرض الفساد» ، وأهل العراق: «أو أن يظهر» «5» . وكتب أهل المدينة في «حم عسق» : «بما كسبت أيديكم» بغير فاء، وأهل العراق: «فبما» «6» . وكتب أهل المدينة: «ما تشتهيه الأنفس» «7» بالهاء، وأهل العراق: «ما تشتهي» . وكتب أهل المدينة: «فان الله الغني الحميد» في سورة الحديد، وأهل العراق: «فإن الله هو الغني» «8» . وكتب أهل المدينة: «فلا يخاف عقباها» بالفاء، وأهل العراق: «ولا يخاف» «9» . ووصّى أبلغ من أوصى، لأنها تكون لمرات كثيرة، وهاء «بها» تعود على الملّة، قاله عكرمة والزجاج. قال مقاتل: وبنوه أربعة: إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومدائن. وذكر غير مقاتل أنهم ثمانية. قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، يريد: الزموا الإسلام، فاذا أدرككم الموت صادفكم عليه. [سورة البقرة (2) : الآيات 133 الى 134] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ. (51) سبب نزولها: أن اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه يوم مات باليهودية؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، أي: مضت، يشير إلى إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه. [سورة البقرة (2) : الآيات 135 الى 136] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم، صنف تفسيرا وضع فيه أحاديث كثيرة، وقد نقل عنه المفسرون فيما بعد. وذكره البغوي في «تفسيره» 1/ 118 بقوله: قيل. فالخبر لا شيء.

[سورة البقرة (2) : آية 137]

قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى. معناه: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، تهتدوا. بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، المعنى: بل نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفيته، وفي الحنيف قولان: أحدهما: أنه المائل إلى العبادة، قال الزجاج: الحنيف في اللغة: المائل إلى الشيء، أُخذ من قولهم: رجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. قالت أُم الأحنف ترقصه «1» : والله لولا حَنَفٌ برجله ... ودِقة في ساقه من هزله ما كان في فتيانكم من مثله والثاني: أنه المستقيم، ومنه قيل للأعرج: حنيف، نظراً له إلى السلامة، هذا قول ابن قتيبة. وقد وصف المفسرون الحنيف بأوصاف، فقال عطاء: هو المخلص، وقال ابن السائب: هو الذي يحج. وقال غيرهما: هو الذي يوحّد ويحج، ويضحي ويختتن، ويستقبل الكعبة. فأمّا الأسباط: فهم بنو يعقوب، وكانوا اثني عشر رجلاً، قال الزجاج: السبط في اللغة: الجماعة الذين يرجعون إلى ربّ واحد. والسّبط في اللغة: الشّجرة، فالسّبط: الذين هم من شجرة واحدة. [سورة البقرة (2) : آية 137] فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) قوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا، يعني: أهل الكتاب. وفي قوله تعالى: بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: مثل إيمانكم، فزيدت الباء للتوكيد، كما زيدت في قوله: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «2» ، قاله ابن الأنباري. والثاني: أن المراد بالمثل هاهنا: الكتاب، وتقديره: فان آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم، قاله أبو معاذ النحوي. والثالث: أن المثل هاهنا: صلة، والمعنى: فان آمنوا بما آمنتم به. ومثله قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «3» ، أي: ليس كهو شيء. وأنشدوا: يا عاذلي دعنيَ من عذلكا ... مثليَ لا يقبل من مثلكا أي: أنا لا أقبل منك. فأما الشقاق فهو المشاقة والعداوة، ومنه قولهم: فلان قد شق عصا المسلمين، يريدون: فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إمامهم، فكأنه صار في شق غير شقهم. قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، هذا ضمان لنصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. [سورة البقرة (2) : آية 138] صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ. سبب نزولها: أن النصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد، فأتى عليه سبعة أيام، صبغوه في ماء لهم، يقال له: المعمودية، ليطهروه بذلك، ويقولون: هذا طهور مكان

_ (1) في اللسان: أرقصت الأم صبيها ورقّصته: نزّته. والمنزّ: المهد، مهد الصبي. (2) مريم: 24. (3) الشورى: 11.

[سورة البقرة (2) : آية 139]

الختان، فاذا فعلوا ذلك قالوا: صار نصرانياً حقاً، فنزلت هذه الآية «1» ، قاله ابن عباس. قال ابن مسعود وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والنخعي، وابن زيد: صِبْغَةَ اللَّهِ: دينه. قال الفرّاء: صِبْغَةَ اللَّهِ مردودة على الملة «2» . وقرأ ابن عبلة: «صبغةُ الله» بالرفع على معنى: هذه صبغة الله. وكذلك قرأ: «ملةُ إِبراهيم» بالرفع أيضاً على معنى: هذه ملة إبراهيم. قال ابن قتيبة: المراد بصبغة الله: الختان، فسماه صبغة، لأن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ويقولون: هذا طهرة لهم، كالختان للحنفاء، فقال الله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ، أي: الزموا صبغة الله، لا صبغة النصارى أولادهم، وأراد بها ملة ابراهيم، وقال غيره: إنما سمي الدين صبغة لبيان أثره على الإنسان، كظهور الصبغ على الثّوب. [سورة البقرة (2) : آية 139] قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) قوله تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ، قال ابن عباس: يريد: يهود المدينة، ونصارى نجران. والمحاجة: المخاصمة في الدين، فان اليهود قالت: نحن أهل الكتاب الأول. وقيل: ظاهرت اليهود عبدة الأوثان، فقيل لهم: تزعمون أنكم موحدون، ونحن نوحد، فلم ظاهرتم من لا يوحد؟! قوله تعالى: وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، قال أكثر المفسرين: هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة، ثم نسخ بآية السّيف. [سورة البقرة (2) : الآيات 140 الى 141] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ.. الآية. سبب نزولها: أن يهود المدينة، ونصارى نجران قالوا للمؤمنين: إن أنبياءَ الله كانوا منا من بني إسرائيل، وكانوا على ديننا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «3» . ومعنى الآية: إن الله قد أعلمنا بدين الأنبياء، ولا أحد أعلم به منه. قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو «أَم يقولون» بالياء على وجه الخبر عن اليهود. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: تَقُولُونَ بالتاء لأنّ ما قبلها مخاطبة، وهي أَتُحَاجُّونَنا، وبعدها قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ. وفي الشهادة التي كتموها قولان: أحدهما: أن الله تعالى شهد عندهم بشهادة لإبراهيم ومن ذكر معه أنهم كانوا مسلمين، فكتموها، قاله الحسن، وزيد بن أسلم. والثاني: أنهم كتموا الإسلام وأمر محمد وهم يعلمون أنه نبيّ ودينه الإسلام، قاله أبو العالية، وقتادة.

_ (1) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» عن ابن عباس بدون إسناد، فهو لا شيء. وأخرجه الطبري 2118 عن قتادة. (2) أي بدل منها. (3) عزاه لمقاتل وهو متروك متهم كما تقدم، فهذا السبب ليس بشيء.

[سورة البقرة (2) : آية 142]

[سورة البقرة (2) : آية 142] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله البراء بن عازب، ومجاهد، وسعيد بن جبير. والثاني: أنهم أهل مكة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم المنافقون، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس. وقد يمكن أن يكون الكل قالوا ذلك، والآية نزلت بعد تحويل القبلة. والسفهاء: الجهلة. ما ولاهم، أي: صرفهم عن قبلتهم، يريد: قبلة المقدس. واختلف العلماء في مدّة صلاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس، بعد قدومه المدينة على ستة أقوال: (52) أحدها: أنه ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر، قاله البراء بن عازب. والثاني: سبعة عشر شهراً، قاله ابن عباس. والثالث: ثلاثة عشر شهراً، قاله معاذ بن جبل. والرابع: تسعة أشهر، قاله أنس بن مالك. والخامس: ستة عشر شهراً. والسادس: ثمانية عشر شهراً، روي القولان عن قتادة. وهل كان استقباله بيت المقدس برأيه، أو عن وحي؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كان بأمر الله تعالى ووحيه، قاله ابن عباس «1» ، وابن جريج.

_ صحيح. أخرجه البخاري 4486 و 7252 ومسلم 525 والترمذي 340 وأحمد 4/ 283 وابن ماجة 1010 وابن حبان 1716 عن البراء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا- أو سبعة عشر شهرا- وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلّى صلاة العصر وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلّى معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون قال: أشهد بالله لقد صلّيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل مكّة، فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. واللفظ للبخاري. - وقال الحافظ في «الفتح» 1/ 96- 97 تعليقا على قوله في الحديث «ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا» : رواه أبو عوانة في صحيحه عن عمّار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال «ستة عشر» من غير شك وكذا لمسلم وللنسائي ولأحمد بسند صحيح عن ابن عباس. وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف «سبعة عشر» وكذا للطبراني عن ابن عباس. والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان «سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام» وهو مبني على القدوم الذي كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول. ومن الشذوذ رواية «ثمانية عشر شهرا» وثلاثة عشر شهرا ورواية تسعة أشهر أو عشرة أشهر ورواية شهرين ورواية سنتين، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب. وأسانيد الجميع ضعيفة. والاعتماد على القول الأول.

[سورة البقرة (2) : آية 143]

والثاني: أنه كان باجتهاده ورأيه، قاله الحسن وأبو العالية، وعكرمة، والربيع. وقال قتادة: كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاؤوا، بقوله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. ثم أمرهم باستقبال بيت المقدس. وفي سبب اختياره بيت المقدس قولان: أحدهما: ليتألف أهل الكتاب، ذكره بعض المفسرين. والثاني: لامتحان العرب بغير ما ألفوه، قاله الزّجّاج. [سورة البقرة (2) : آية 143] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. سبب نزولها: أن اليهود قالوا: قبلتنا قبلة الأنبياء، ونحن عدلٌ بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. والأمة: الجماعة. والوسط: العدل، قاله ابن عباس، وأبو سعيد، ومجاهد، وقتادة، وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل الخيار، ومنه قوله تعالى: قالَ أَوْسَطُهُمْ «1» ، أي: أعدلهم وخيرهم. قال الشاعر: همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إِذا نزلت إِحدى الليالي بِمُعْظَم وأصل ذلك أن خير الأشياء أوساطها، والغلو والتقصير مذمومان. وذكر ابن جرير الطبري أنه من التوسط في الفعل، فان المسلمين لم يقصروا في دينهم كاليهود، فإنهم قتلوا الأنبياء، وبدلوا كتاب الله، ولم يغلوا كالنصارى، فانهم زعموا أن عيسى ابن الله. وقال أبو سليمان الدمشقي: في هذا الكلام محذوف، ومعناه: جعلت قبلتكم وسطاً بين القبلتين، فان اليهود يصلّون نحو المغرب، والنصارى نحو المشرق، وأنتم بينهما. قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: لتشهدوا للأنبياء على أممهم.

_ روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل. ويجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه أكثر من ذلك، فيقال لهم: أبلّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال للنبي: أبلّغتهم؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ قال: محمد وأمته فيشهدون أن الرسل قد بلّغوا فيقال: ما علمكم؟ فيقولون: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلّغوا، فصدقناه، فذلك قوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» ، وهذا مذهب عكرمة، وقتادة. والثاني: أن معناه: لتكونوا شهداء لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم على الأمم: اليهود والنصارى والمجوس، قاله مجاهد. صحيح. أخرجه البخاري 3339 و 4487 و 7349 والترمذي 2961 وبإثر حديث 2965 والنسائي في «الكبرى» 11006 و 11007 وابن ماجة 5284 والطبري 2165 و 2166 وابن حبان 7216 و 6477 وأحمد 3/ 9 و 58 مختصرا ومطوّلا، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري. وصدره عند البخاري وغيره «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك ... » .

[سورة البقرة (2) : آية 144]

قوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، وبماذا يشهد عليهم؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بأعمالهم، قاله ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وابن زيد. والثاني: بتبليغهم الرسالة، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: بإيمانهم، قاله أبو العالية. فيكون على هذا «عليكم» بمعنى: لكم. قال عكرمة: لا يسأل عن هذه الأمة إلا نبيها. قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها، يريد: قبلة بيت المقدس. إِلَّا لِنَعْلَمَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لنرى. والثاني: لنميز. رُويا عن ابن عباس. والثالث: لنعلمه واقعاً، إذ علمه قديم، قاله جماعة من أهل التفسير وهو يرجع إلى قول ابن عباس: «لنرى» . والرابع: أن العلم راجع إلى المخاطبين، والمعنى: لتعلموا أنتم، قاله الفراء. قوله تعالى: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، أي: يرجع إِلى الكفر، قاله ابن زيد، ومقاتل. قوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً، في المشار إِليها قولان: أحدهما: أنه التولية إلى الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنها قبلة بيت المقدس قبل التحول عنها، قاله أبو العالية، والزجاج. قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، نزل على سبب: (54) وهو أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، أرأيت إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. والإيمان المذكور هاهنا أريد به: الصلاة في قول الجماعة. وقيل: إنما سمى الصلاة إيماناً، لاشتمالها على قول ونية وعمل. قال الفراء: وإنما أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى: فيمن مات من المسلمين قبل أن تحول القبلة لأنهم داخلون معهم في الملة. قوله تعالى: لَرَؤُفٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «لرؤوف» على وزن: لرعوف، في جميع القرآن، ووجهها: أن فعولاً أكثر في كلامهم من فعل، فباب ضروب وشكور، أوسع من باب حذر ويقظ. وقرأ أبو عمرو وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: «لرؤف» على وزن: رَعُفٍ، ويقال: هو الغالب على أهل الحجاز. قال جرير: ترى للمسلمين عليك حقاً ... كفعل الوالد الرَّؤُف الرحيم والرؤوف بمعنى: الرحيم، هذا قول الزجاج، وذكر الخطابي عن بعض أهل العلم أن الرأفة أبلغ الرحمة وأرقُها. قال: ويقال: الرأفة أخص، والرحمة أعم. [سورة البقرة (2) : آية 144] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

_ صحيح. أخرجه أبو داود 4680 والترمذي 2964. وأحمد 1/ 95- 304 والطيالسي 2673 وابن حبان 1718 والحاكم 2/ 269 من حديث ابن عباس وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وفي سماك بن حرب كلام، لكن توبع عليه، حيث ورد معناه من حديث البراء المتقدم برقم 52.

[سورة البقرة (2) : آية 145]

قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ. سبب نزولها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يحب أن يوجه إلى الكعبة، قاله البراء «1» ، وابن عباس، وابن المسيب، وأبو العالية، وقتادة. وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. واختلفوا في سبب اختيار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكعبة على بيت المقدس على قولين: أحدهما: لأنّها كانت قبلة إبراهيم، روي عن ابن عباس. والثاني: لمخالفة اليهود، قاله مجاهد. ومعنى تقلب وجهه: نظره إليها يميناً وشمالاً. و (في) بمعنى إلى، وتَرْضاها بمعنى: تحبها. و (الشطر) : النحو من غير خلاف. (55) قال ابن عمر: أتى الناس آت وهم في صلاة الصبح بقباء، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وأمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا وهم في صلاتهم. فصل: اختلف العلماء أي وقت حولت القبلة؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها حولت في صلاة الظهر يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، قاله البراء بن عازب «2» ، ومعقل بن يسار. والثاني: أنها حولت يوم الثلاثاء للنصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدمه المدينة، قاله قتادة. والثالث: جمادى الآخرة، حكاه ابن سلامة المفسر عن إبراهيم الحربي. وفي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قولان: أحدهما: اليهود، قاله مقاتل. والثاني: اليهود والنصارى، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ يشير إلى ما أُمر به من التوجه إلى الكعبة، ثم توعدهم بباقي الآية على كتمانهم ما علموا. ومن أين علموا أنه الحق؟ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن في كتابهم الأمر بالتوجه إليها، قاله أبو العالية. والثاني: يعلمون أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم. والثالث: أن في كتابهم أن محمداً رسول صادق، فلا يأمر إلا بحق. والرابع: أنهم يعلمون جواز النّسخ. [سورة البقرة (2) : آية 145] وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) قوله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ. سبب نزولها أن يهود المدينة ونصارى

_ صحيح. أخرجه البخاري 403 و 4491 و 9494 و 7251 ومسلم 526 والنسائي 493 وأحمد 2/ 16- 26- 105- 113 والدارمي 1/ 281 ومالك 1/ 195 والشافعي في «مسنده» 191 وابن أبي شيبة 1/ 335 والترمذي 341 مختصرا وأبو عوانة 1/ 394 وابن حبان 1715 والبيهقي 2/ 2- 11 والبغوي في «شرح السنة» 445 وفي «تفسيره» 100 من طرق من حديث ابن عمر.

[سورة البقرة (2) : آية 146]

نجران قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «1» . قوله تعالى: ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، يريد: الكعبة وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لأن اليهود يصلون قبل المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قبل المشرق وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فصليت إلى قبلتهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، قال مقاتل: يريد بالعلم: البيان. [سورة البقرة (2) : آية 146] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ. في هاء «يعرفونه» قولان: أحدهما: أنها تعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: تعود على صرفه إلى الكعبة، قاله أبو العالية، وقتادة، والسدي، ومقاتل. وروي عن ابن عباس أيضاً. وفي الحق الذي كتموه قولان: أحدهما: أنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد. والثاني: أنه التوجه إلى الكعبة، قاله السدي، ومقاتل في آخرين. وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: وهم يعلمون أنه حق. والثاني: وهم يعلمون ما على مخالفته من العقاب. [سورة البقرة (2) : آية 147] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) قوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. قال الزجاج: أي: هذا الحق من ربك. والممترون: الشاكُّون، والخطاب عامّ. [سورة البقرة (2) : آية 148] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) قوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ ، أي: لكل أهل دين وجهة. المراد بالوجهة: القبلة، قاله ابن عباس في آخرين. قال الزجاج: يقال: جهة، ووجهة. وفي «هو» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الله تعالى، فالمعنى: الله مولّيها إياهم، أي: أمرهم بالتوجه إليها. والثاني: ترجع إلى المتولي، فالمعنى: هو موليها نفسه، فيكون «هو» ضمير كل. والثالث: يرجع إلى البيت، قاله مجاهد: أمر كل قوم أن يصلُّوا إلى الكعبة. والجمهور يقرءون: «مولّيها» ، وقرأ ابن عامر، والوليد عن يعقوب: «هو مولاها» بألف بعد اللام، فضمير «هو» لكلّ، ومعنى القراءتين متقارب. قوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ، أي: بادروها. وقال قتادة: لا تغلبوا على قبلتكم، يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً ، قال ابن عباس وغيره: هذا في يوم القيامة. فأما إعادة قوله: [سورة البقرة (2) : الآيات 149 الى 150] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

_ (1) تكرر عن مقاتل سبب النزول هذا، ومقاتل متروك، فخبره لا شيء.

[سورة البقرة (2) : آية 151]

قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فانه تكرير تأكيد، ليحسم طمع أهل الكتاب في رجوع المسلمين أبداً إلى قبلتهم. قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ، في «الناس» قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل. والثاني: مشركو العرب، رواه السدي عن أشياخه. فمن قال بالأول قال: احتجاج أهل الكتاب أنهم قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما لك تركت قبلة بيت المقدس؟! إن كانت ضلالة فقد دنت الله بها، وإن كانت هدى، فقد نقلت عنها. وقال قتادة: قالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. ومن قال بالثاني قال: احتجاج المشركين أنهم قالوا: قد رجع إلى قبلتكم، ويوشك أن يعود إلى دينكم. وتسمية باطلهم حجة على وجه الحكاية عن المحتج به، كقوله تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ «1» ، وقوله: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ «2» . قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، قال الزجاج: معناه: إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك عليَّ حجة إِلا الظلم، أي: إلا أن تظلمني، أي: ما لك عليّ البتة ولكنك تظلمين. قال ابن عباس: فَلا تَخْشَوْهُمْ في انصرافكم إلى الكعبة وَاخْشَوْنِي في تركها. [سورة البقرة (2) : آية 151] كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ، قال الزجاج: «كما» لا تصلح أن تكون جواباً لما قبلها، والأجود أن تكون معلقة بقوله: فَاذْكُرُونِي، وقد روي معناه عن عليّ، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل. والآية خطاب لمشركي العرب. وفي قوله: وَيُزَكِّيهِمْ، ثلاثة أقوال، قد سبق ذكرها في قصة إبراهيم. والكتاب: القرآن. والحكمة: السّنّة. [سورة البقرة (2) : آية 152] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي. قال ابن عباس، وابن جبير: اذكروني بطاعتي أذكرْكم بمغفرتي. وقال إبراهيم بن السري: كما أنعمت عليكم بالرسالة، فاذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي. قال: فان قيل: كيف يكون جواب: كَما أَرْسَلْنا فَاذْكُرُونِي، فان قوله: فَاذْكُرُونِي أمر، وقوله: أَذْكُرْكُمْ جزاؤه فالجواب: أن المعنى: إن تذكروني أذكركم. قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي، الشكر: الاعتراف بحق المنعم، مع الثناء عليه.

_ (1) الشورى: 16. (2) غافر: 83.

[سورة البقرة (2) : آية 153]

[سورة البقرة (2) : آية 153] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. سبب نزولها: أن المشركين قالوا: سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. وقال ابن عباس: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض، وبالصّلاة، وقد سبق الكلام في الصبر، وبيان الاستعانة به وبالصّلاة. [سورة البقرة (2) : آية 154] وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ. سبب نزولها: أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأُحد: مات فلان ببدر، مات فلان بأحد، فنزلت هذه الآية «1» ، قاله ابن عباس. ورفع الأموات بإضمار مكنى من أسمائهم، أي: لا تقولوا: هم أموات، ذكر نحوه الفراء. فان قيل: فنحن نراهم موتى، فما وجه النهي؟ فالجواب أن المعنى: لا تقولوا: هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنات، ولا تنال من تحف الله ما لا يناله الأحياء، بل هم أحياء، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتاً من جهة خروج الأرواح ذكره ابن الأنباري، فان قيل: أليس جميع المؤمنين منعّمين بعد موتهم؟ فلم خصصتم الشهداء؟ فالجواب: أن الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم مرزوقون من مطاعم الجنة ومآكلها، وغيرهم منعم بما دون ذلك، ذكره ابن جرير الطّبريّ. [سورة البقرة (2) : الآيات 155 الى 157] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. قال الفراء: «من» تدل على أن لكل صنف منها شيئاً مضمراً، فتقديره: بشيء من الخوف، وشيء من الجوع، وشيء من نقص الأموال. وفيمن أُريد بهذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنهم أصحاب النبي خاصة، قاله عطاء. والثاني: أنهم أهل مكة. والثالث: أن هذا يكون في آخر الزمان. قال كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة. والرابع: أن الآية على عمومها. فأما الخوف فقال ابن عباس: وهو الفزع في القتال. والجوع: المجاعة التي أصابت أهل مكة سبع سنين. ونقص من الأموال: ذهاب أموالهم، والأنفس بالموت والقتل الذي نزل بهم، والثمرات لم تخرج كما كانت تخرج. وحكى أبو سليمان الدمشقي عن بعض أهل العلم: أن الخوف في الجهاد والجوع في فرض الصوم، ونقص الأموال: ما فرض فيها من الزكاة والحج ونحو ذلك. والأنفس: ما يستشهد منها في القتال، والثمرات: ما فرض فيها من الصدقات. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ على هذه البلاوي

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر» 1/ 271 ونسبه للثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس، وما قبل ابن عباس سلسلة الكذب. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 158 إلى 159]

بالجنة. واعلم أنه إنما أخبرهم بما سيصيبهم، ليوطنوا أنفسهم على الصبر، فيكون ذلك أبعد لهم من الجزع. قالُوا إِنَّا لِلَّهِ، يريدون: نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، يريدون: نحن مقرّون بالبعث والجزاء على أعمالنا، والثواب على صبرنا. قال سعيد بن جبير: لقد أُعطيتْ هذه الأمة عند المصيبة شيئاً لم يعطه الأنبياء قبلهم الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ. ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، إِذ يقول: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «1» . قال الفراء: وللعرب في المصيبة ثلاث لغات: مصيبة، ومصابة، ومصوبة، زعم الكسائي أنه سمع أعرابياً يقول: جبر الله مصوبتك. قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ. قال سعيد بن جبير: الصلوات من الله: المغفرة، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بالاسترجاع. وقال عمر بن الخطاب: نعم العدلان، ونعمت العلاوة: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) . [سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 159] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ. في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (56) أحدها: أن رجالاً من الأنصار ممن كان يهلُّ لمناة في الجاهلية- ومناة: صنم كان بين مكة والمدينة- قالوا: يا رسول الله! إنا كنا لا نطَّوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما؟ فنزلت هذه الآية. رواه عروة عن عائشة. (57) والثاني: أن المسلمين كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة، لأنه كان على الصفا تماثيل وأصنام فنزلت هذه الآية. رواه عكرمة عن ابن عباس.

_ صحيح. أخرجه البخاري 1790 ومسلم 1277 وأبو داود 1901 وابن ماجة 2986 وابن خزيمة 2769 والطبري 2357 وابن حبان 3839 من طريق هشام بن عروة عن عروة عن عائشة. - وأخرجه البخاري 1643 ومسلم 1277 والترمذي 2965 والنسائي 5/ 237- 238 والحميدي 219 وأحمد 6/ 144 وابن حبان 3840 عن الزهري عن عروة عن عائشة. صحيح. أخرجه الحاكم 2/ 272 من طريق أبي مالك عن ابن عباس، وإسناده حسن في الشواهد، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وأخرجه 2/ 271 من وجه آخر، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري 2346 من وجه آخر، وفيه جابر الجعفي متروك، والحجة فيما تقدم.

(58) وقال الشعبي: كان وثن على الصفا يدعى: إساف، ووثن على المروة يدعى: نائلة، وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحونهما، فلما جاء الإسلام كفوا عن السعي بينهما، فنزلت هذه الآية. (59) والثالث: أنّ الصحابة قالت للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإن الله تعالى ذكر الطواف بالبيت، ولم يذكره بين الصفا والمروة، فهل علينا من حرج أن لا نطَّوَّف بهما، فنزلت هذه الآية. رواه الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن جماعة من أهل العلم. قال إبراهيم بن السري: الصفا في اللغة: الحجارة الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئاً، وهو جمع، واحده صفاة وصفا، مثل: حصاة وحصى. والمروة: الحجارة اللينة، وهذان الموضعان من شعائر الله، أي: من أعلام متعبداته. وواحد الشعائر: شعيرة. والشعائر: كل ما كان من موقف أو مسعى أو ذبح. والشعائر: من شعرت بالشيء: إذا علمت به، فسميت الأعلام التي هي متعبدات الله: شعائر. والحج في اللغة: القصد، وكذلك كل قاصد شيئاً فقد اعتمره. والجناح: الإثم، أخذ من جنح: إذا مال وعدل، وأصله من جناح الطائر، وإنما اجتنب المسلمون الطواف بينهما، لمكان الأوثان، فقيل لهم: إن نصب الأوثان بينهما قبل الإسلام لا يوجب اجتنابهما، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه لا جناح في التطوف بهما، وأن من تطوع بذلك فان الله شاكر عليم. والشكر من الله، المجازاة والثناء الجميل، والجمهور قرءوا وَمَنْ تَطَوَّعَ بالتاء ونصب العين، منهم: ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وقرأ حمزة، والكسائي «يطوع» بالياء وجزم العين. وكذلك خلافهم في التي بعدها بآيات. فصل: اختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في السعي بين الصفا والمروة، فنقل الأثرم أن من ترك السعي لم يجزه حجه. ونقل أبو طالب: لا شيء في تركه عمداً أو سهواً، ولا ينبغي أن يتركه. ونقل الميموني أنه تطوّع «1» .

_ مرسل، أخرجه الطبري 2341 و 2342 و 2343 بسند صحيح عن الشعبي، وهذا مرسل. هو عجز الحديث المتقدم برقم 56.

[سورة البقرة (2) : آية 160]

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى، قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود، كتموا ما أنزل الله في التوراة من البينات والهدى «1» . فالبينات: الحلال والحرام والحدود والفرائض. والهدى: نعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصفته مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ، قال مقاتل: لبني إسرائيل، وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه التوراة، وهو قول ابن عباس. والثاني: التوراة والإنجيل، قاله قتادة. أُولئِكَ إشارة إلى الكاتمين يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ قال ابن قتيبة: أصل اللعن في اللغة: الطرد، ولعن الله إبليس، أي: طرده، ثم انتقل ذلك فصار قولاً. قال الشماخ وذكر ماءً: ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين أي: الطريد. وفي اللاعنين أربعة أقوال: (60) أحدها: أن المراد بهم: «دواب الأرض» ، رواه البراء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول مجاهد، وعكرمة. قال مجاهد: يقولون إنما منعنا القطر بذنوبكم فيلعنونهم. والثاني: أنهم المؤمنون، قاله عبد الله بن مسعود. والثالث: أنهم الملائكة والمؤمنون، قاله أبو العالية، وقتادة. والرابع: أنهم الجن والإنس وكل دابة، قاله عطاء. فصل: وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين، منصوصة كانت أو مستنبطة، وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب فعله. (61) وقد روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال: إنكم تقولون: أكثر أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والله الموعد، وأيم الله: لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحداً بشيء أبداً، ثم تلا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا ... إلى آخرها. [سورة البقرة (2) : آية 160] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. قال ابن مسعود: إلا الذين تابوا من اليهود وأصلحوا أعمالهم، وبيّنوا صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم. فصل: وقد ذهب قوم إلى أن الآية التي قبل هذه منسوخة بالاستثناء في هذه، وهذا ليس بنسخ، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ، وذلك يقتضي التخصيص دون النسخ، ومما يحقق هذا أن

_ ضعيف، أخرجه ابن ماجة 4021 وفيه ليث، وهو ضعيف أعله البوصيري في الزوائد بضعف ليث بن أبي سليم. وانظر «تفسير القرطبي» 773 بتخريجنا. صحيح. أخرجه البخاري 118 من طريق الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة.

[سورة البقرة (2) : آية 161]

الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه. [سورة البقرة (2) : آية 161] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ. إنما شرط الموت على الكفر، لأن حكمه يستقر بالموت عليه، فان قيل: كيف قال: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وأهل دينه لا يلعنونه، فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنهم يلعنونه في الآخرة، قال الله عزّ وجلّ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وقال: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها. والثاني: أن المراد بالناس هاهنا المؤمنون، قاله ابن مسعود وقتادة ومقاتل. فيكون على هذا من العام الذي أريد به الخاص. والثالث: أن اللعنة من الأكثر يطلق عليها: لعنة جميع الناس تغليباً لحكم الأكثر على الأقل. [سورة البقرة (2) : آية 162] خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها تعود إلى اللعنة، قاله ابن مسعود، ومقاتل. والثاني: أنها ترجع إلى النار، وإِن لم يجر لها ذكر فقد علمت. [سورة البقرة (2) : آية 163] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. قال ابن عباس: إن كفار قريش قالوا: يا محمد صف لنا ربك وانسبه، فنزلت هذه الآية، وسورة الإخلاص. والإله بمعنى: المعبود. [سورة البقرة (2) : آية 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. في سبب نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المشركين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اجعل لنا الصفا ذهباً إن كنت صادقاً فنزلت هذه الآية، حكاه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس «1» . والثاني: أنهم لما قالوا: انسب لنا ربك وصفه، فنزلت: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، قالوا: فأرنا آية ذلك فنزلت: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: يَعْقِلُونَ، رواه أبو صالح عن ابن عباس «2» . والثالث: أنه لما نزلت وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، قال كفار قريش: كيف يسع النّاس إله واحد؟

_ (1) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 202، وإسناده لين، وفيه جعفر بن أبي المغيرة، وهو غير قوي وبخاصة في روايته عن سعيد بن جبير. وهذا منها. ثم إن الآية مدنية في قول عطاء وغيره. راجع أسباب النزول للواحدي 84. والمتن غريب، فإن السورة مدنية باتفاق. وانظر «تفسير الشوكاني» 252. وأخرجه الطبري 2412 عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، ولم أره عن ابن مسعود ولا ابن عباس، ولا يصح. (2) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا، انظر ترجمته في المقدمة.

فنزلت هذه الآية، قاله عطاء «1» . فأمّا السَّماواتِ، فتدل على صانعها، إذ هي قائمة بغير عمد، وفيها من الآيات الظاهرة، ما يدل يسيره على مبدعه، وكذلك الأرض في ظهور ثمارها، وتمهيد سهولها وإرساء جبالها، إلى غير ذلك. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ كل واحد منهما حادث بعد أن لم يكن، وزائل بعد أن كان، وَالْفُلْكِ: السفن. قال ابن قتيبة: الواحد والجمع بلفظ واحد. وقال اليزيدي: واحده فلكة، ويذكر ويؤنث. وقال الزجاج: الفلك السفن، ويكون واحداً، ويكون جمعاً، لأن فَعَل، وفُعُل جمعهما واحد، ويأتيان كثيراً بمعنى واحد. يقال: العَجم والعُجم، والعَرب والعربُ، والفلك والفُلك. والفلك: يقال لكلّ مستدير، أو فيه استدارة. و «البحر» : الماء الغزير بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من المعايش. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ، يعني: المطر، والمطر ينزل على معنى واحد، وأجزاء الأرض والهواء على معنى واحد، والأنواع تختلف في النبات والطعوم والألوان والأشكال المختلفات، وفي ذلك رد على من قال: إنه من فعل الطبيعة، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يتفق موجبها، إذ المتفق لا يوجب المختلف، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في قوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «2» . قوله تعالى: وَبَثَّ، أي: فرّق. قرأ ابن كثير الرِّياحِ على الجمع في خمسة مواضع: هاهنا. وفي (الحجر) : وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «3» ، وفي (الكهف) : تَذْرُوهُ الرِّياحُ «4» ، وفي (الروم) : الحرف الأول (الرياح) . وفي (الجاثية) : وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ «5» ، وقرأ باقي القرآن «الريح» . وقرأ أبو جعفر «الريح» في خمسة عشر موضعاً في (البقرة) ، وفي (الأعراف) : يُرْسِلُ الرِّياحَ «6» ، وفي (إبراهيم) : «اشتدت به الرياح» ، وفي (الحجر) : الرِّياحَ لَواقِحَ، وفي (سبحان) «7» ، وفي (الكهف) : تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وفي (الأنبياء) وفي (الفرقان) : أَرْسَلَ الرِّياحَ «8» ، وفي (النمل) . والثاني من (الرّوم) : وفي (سبأ) ، وفي (فاطر) : أَرْسَلَ الرِّياحَ «9» ، وفي (عسق) : «يسكن الرياح» ، وفي (الجاثية) : وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ، تابعه نافع إلا في (سبحان) ، و «رياح» سليمان. وتابع نافعاً أبو عمرو إلا في حرفين: «الريح» في (إبراهيم) و (عسق) . ووافق أبا عمر، وعاصم، وابن عامر. وقرأ حمزة «الريح» جمعاً في موضعين: في (الفرقان) ، والحرف الأول من (الروم) ، وباقيهن على التوحيد. وقرا الكسائي مثل حمزة، إلا إنه زاد عليه في (الحجر) : الرِّياحَ لَواقِحَ، ولم يختلفوا فيما ليس فيه ألف ولام، فمن جمع فكل ريح تساوي أختها في الدلالة على التوحيد والنفع، ومن وحد أراد الجنس. ومعنى تصريف الرياح: تقلّبها شمالاً مرة، وجنوباً مرة، ودبوراً أُخرى، وعذاباً ورحمة، وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ: المذلل. والآية فيه من أربعة أوجه: ابتداء كونه، وانتهاء تلاشيه، وقيامه بلا

_ (1) ضعيف، أخرجه الطبري 2406 والواحدي في «أسباب النزول» 84 عن عطاء مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، والسورة مدنية، فهذا خبر واه، لا شيء. (2) الرعد: 4. (3) الحجر: 22. (4) الكهف: 45. (5) الجاثية: 5. (6) الأعراف: 57. (7) أي سورة الإسراء. (8) الفرقان: 48. (9) فاطر: 9. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 165]

دعامة ولا علاقة، وإرساله إلى حيث شاء الله تعالى. (لآيات) . الآية: العلامة. أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا عاصم قال: أخبرنا ابن بشران قال: أخبرنا ابن صفوان قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثني هارون قال: حدثني عفان عن مبارك بن فضاله قال: سمعت الحسن يقول: كانوا يقولون- يعني أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: الحمد لله الرفيق، الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا ينصرف، لقال الشاك في الله: لو كان لهذا الخلق ربٌ لحادثه، وإن الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات، إنه جاء بضوء طبَّق ما بين الخافقين وجعل فيها معاشاً، وسراجاً وهاجاً، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق، وجاء بظلمة طبَّقت ما بين الخافقين، وجعل فيه شهبا ونجوما، وقمرا منيرا، وإذا شاء بنى بناء، جعل فيه المطر، والبرق، والرعد، والصواعق، ما شاء، وإذا شاء صرف ذلك، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف «1» الناس، وإذا شاء ذهب بذلك، وجاء بحرّ يأخذ أنفاس الناس، ليعلم الناس أن لهذا الخلق رباً يحادثه بما ترون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدّنيا وجاء بالآخرة. [سورة البقرة (2) : آية 165] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً. في الأنداد قولان قد تقدما في أول السورة. وفي قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ قولان: أحدهما: أن معناه: يحبونهم كحب الذين آمنوا لله، هذا قول ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل، والفراء. والثاني: يحبونهم كمحبتهم لله، أي: يسوون بين الأوثان وبين الله تعالى في المحبة. هذا اختيار الزجاج، قال: والقول الأول ليس بشيء، والدليل على نقضه قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، قال المفسرون: أشد حباً لله من أهل الأوثان لأوثانهم. قوله تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «يرى» بالياء، ومعناه: لو يرون عذاب الآخرة لعلموا أن القوة لله جميعاً. وقرأ نافع وابن عامر، ويعقوب: «ولو ترى» بالتاء، على الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به جميع الناس، وجوابه محذوف، تقديره: لرأيتم أمراً عظيماً، كما تقول: لو رأيت فلانا والسّياط تأخذه. فإنّما حذف الجواب، لأنّ المعنى معلوم. قال أبو علي: وإنما قال: «إِذ» ولم يقل: «إِذا» وإن كانت «إِذ» لما مضى، لإرادة تقريب الأمر، فأتى بمثال الماضي، وإنما حذف جواب «لو» لأنه أفخم، لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد. وقرا أبو جعفر: «إن القوة» و «إِن الله» بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، كأنّه يقول: ولا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم «إن القوة لله جميعاً» ، قال ابن عباس: القوة: القدرة، والمنعة. [سورة البقرة (2) : الآيات 166 الى 167] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

_ (1) القرقفة: الرعدة، وقرقف: أرعد.

[سورة البقرة (2) : آية 168]

قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، فيهم قولان: أحدهما: أنهم القادة والرؤساء، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل، والزجاج. والثاني: أنهم الشّياطين، قاله السّدّيّ. قوله تعالى: وَرَأَوُا الْعَذابَ، يشمل الكل. وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، أي: عنهم، مثل قوله: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «1» . وفي الْأَسْبابُ أربعة أقوال: أحدها: أنها المودات، وإلى نحوه يذهب ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الأعمال، رواه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وهو قول أبي صالح وابن زيد. والثالث: أنها الأرحام، رواه ابن جريج عن ابن عباس. والرابع: أنها تشمل جميع ذلك. قال ابن قتيبة: هي الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا، فأما تسميتها بالأسباب، فالسبب في اللغة: الحبل، ثم قيل لكل ما يتوصّل به إلى مقصود: سبب. والكرَّة: الرجعة إلى الدنيا، قاله ابن عباس، وقتادة في آخرين فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، يريدون: من القادة كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا في الآخرة. كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، قال الزجاج: أي: كتبرؤ بعضهم من بعض، يريهم الله أعمالهم حسراتٍ عليهم، لأن أعمال الكافر لا تنفعه. وقال ابن الأنباري: يريهم الله أعمالهم القبيحة حسراتٍ عليهم إذا رأوا أحسن المجازاة للمؤمنين بأعمالهم، قال: ويجوز أن يكون: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم وجزاءها، فحذف الجزاء وأقام الأعمال مقامه. قال ابن فارس: والحسرة: التلهف على الشيء الفائت. وقال غيره: الحسرة: أشدّ النّدامة. [سورة البقرة (2) : آية 168] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت في ثقيف، وخزاعة، وبني عامر بن صعصعة، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرّموا البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم «خُطوات» مثقلة. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة «خُطْوات» ساكنة الطاء خفيفة. وقرا الحسن، وأبو الجوزاء «خَطْوات» بفتح الخاء وسكون الطاء من غير همز. وقرا أبو عمران الجوني بضم الخاء والطاء مع الهمز. قال ابن قتيبة: خطواته: سبيله ومسلكه، وهي جمع خُطوة، والخطوة بضم الخاء: ما بين القدمين، وبفتحها: الفعلة الواحدة. واتباعهم خطواته: أنهم كانوا يحرّمون أشياء قد أحلها الله، ويحلّون أشياء قد حرمها الله. قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، أي: بيِّن. وقيل: أبان عداوته بما جرى له مع آدم. [سورة البقرة (2) : آية 169] إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ، السوء: كل إثم وقبح. قال ابن عباس: وإنما سمي سوءاً، لأنه تسوء عواقبه، وقيل: لأنه يسوء إظهاره وَالْفَحْشاءِ من: فحش الشيء: إذا جاز قدره. وفي المراد بها هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنها كل معصية لها حد في الدنيا. والثاني: أنها ما لا يعرف في

_ (1) الفرقان: 59.

[سورة البقرة (2) : آية 170]

شريعة ولا سنة. والثالث: أنها البخل، وهذه الأقوال الثلاثة منقولة عن ابن عباس. والرابع: أنها الزّنا، قاله السدي. والخامس: المعاصي، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. أي: أنه حرم عليكم ما لم يحرّم. [سورة البقرة (2) : آية 170] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ. اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها في الذين قيل لهم: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، فعلى هذا تكون الهاء والميم عائدة عليهم، وهذا قول مقاتل. والثاني: أنها نزلت في اليهود، وهي قصة مستأنفة، فتكون الهاء والميم كناية عن غير مذكور، ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس. والثالث: أنها في مشركي العرب وكفار قريش، فتكون الهاء والميم عائدة إلى قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً، فعلى القول الأول يكون المراد بالذي أنزل الله: تحليل الحلال، وتحريم الحرام. وعلى الثاني يكون: الإسلام. وعلى الثالث: التّوحيد والإسلام. وأَلْفَيْنا بمعنى: وجدنا. قوله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من الدين، ولا يهتدون له، أيتبعونهم في خطئهم وافترائهم! [سورة البقرة (2) : الآيات 171 الى 172] وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ. في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها: ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي ينعق بها الراعي، وهذا قول الفراء، وثعلب، قالا جميعاً: أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثم شبههم بالراعي، ولم يقل: كالغنم، والمعنى: ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فلو قال لها الراعي: ارعي، أو اشربي، لم تدر ما يقول، فكذلك الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن، وإنذار الرسول، فأضيف التشبيه إلى الراعي، والمعنى في المرعي، وهو ظاهر في كلام العرب، يقولون: فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى: كخوفه الأسد، لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف. قال الشاعر: كانت فريضةُ ما تقول كَمَا ... كَانَ الزِّنَاءُ فريضة الرّجم المعنى: كما كان الرجم فريضة الزنى. والثاني: أن معناها: ومثل الذين كفروا، ومثلنا في وعظهم، كمثل الناعق والمنعوق به، فحذف «ومثلنا» اختصاراً، إذ كان في الكلام ما يدل عليه. وهذا قول ابن قتيبة، والزجاج. والثالث: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي يعبدون، كمثل الذي ينعق، هذا قول ابن زيد، والذي ينعق هو الراعي، يقال: نعق بالغنم، ينعق نعقاً ونعيقاً ونعاقاً ونعقاناً. قال ابن الأنباري: والفاشي في كلام العرب أنه لا يقال: نعق، إلا في الصياح بالغنم وحدها، فالغنم تسمع الصوت ولا تعقل المعنى. صُمٌّ بُكْمٌ إنما وصفهم بالصم والبَكم، لأنهم في تركهم قبول ما يسمعون بمنزلة من لا

[سورة البقرة (2) : آية 173]

يسمع، وكذلك في النطق والنظر، وقد سبق شرح هذا المعنى. [سورة البقرة (2) : آية 173] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ. قرأ أبو جعفر «الميتة» هاهنا، وفي (المائدة) و (النّحل) ، و «بلدة ميّتا» بالتشديد، حيث وقع. والميتة في عرف الشرع: اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة. وقيل: إن الحكمة في تحريم الميتة أن جمود الدم فيها بالموت يحدث أذىً للآكل، وقد يسمى المذبوح في بعض الأحوال: ميتة حكماً، لأن حكمه حكم الميتة، كذبيحة المرتد فأما الدم فالمحرم منه: المسفوح، لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «1» . قال القاضي أبو يعلى: فأما الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح، وما يبقى في العروق فهو مباح. فأما لحم الخنزير فالمراد: جملته، وإنما خص اللحم، لأنه معظم المقصود. قال الزجاج: الخنزير يشتمل على الذكر والأنثى. ومعنى وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ: ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله، ومثله الإهلال بالحج، إنما هو رفع الصوت بالتّلبية. قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ، أي: ألجئ بضرورة. وقرأ أبو جعفر: (فمن اضّطِر) بكسر الطاء حيث كان. وأدغم ابن محيصن الضاد في الطاء. قوله تعالى: غَيْرَ باغٍ، قال الزجّاج: البغي: قصد الفساد، يقول: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد. وفي قوله: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أربعة أقوال: أحدها: أن معناه غير باغ على الولاة، ولا عاد يقطع السبيل، هذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد. والثاني: غير باع في أكله فوق حاجته، ولا متعدٍ بأكلها وهو يجد غيرها. هذا قول الحسن، وعكرمة، وقتادة، والربيع. والثالث: غير باغٍ، أي: مستحلٍ، ولا عاد: غير مضطر، روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل. والرابع: غير باغ شهوته بذلك، ولا عاد بالشبع منه، قاله السدي. فصل: معنى الضرورة في إباحة الميته: أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه. سئل أحمد، رضي الله عنه، عن المضطر إذا لم يأكل الميتة، فذكر عن مسروق أنه قال: من اضطر فلم يأكل فمات دخل النّار. وأمّا مقدار ما يأكل فنقل حنبل: يأكل بمقدار ما يقيمه عن الموت، ونقل ابن منصور: يأكل بقدر ما يستغني. فظاهر الأولى: أنه لا يجوز له الشبع، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وظاهر الثانية: جواز الشبع وهو قول مالك «2» .

_ (1) الأنعام: 145. (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 330: أجمع العلماء على تحريم الميتة حالة الاختيار، وعلى إباحة الأكل منها في الاضطرار. وكذلك سائر المحرمات. والأصل في هذا قول الله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ويباح له أكل ما يسدّ الرمق، ويأمن معه الموت، بالإجماع. ويحرم ما زاد على الشّبع، بالإجماع أيضا. وفي الشّبع روايتان أظهرهما، لا يباح. وهو قول أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين للشافعي. قال الحسن: يأكل قدر ما يقيمه، لأن الآية دلّت على تحريم الميتة، واستثنى ما اضطر إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل، كحالة الابتداء، ولأنه بعد سدّ الرمق غير مضطرّ، فلم يحل له الأكل، للآية، يحققه أنه بعد سدّ رمقه كهو قبل أن يضطر، وثمّ لم يبح له الأكل كذا هاهنا. والثانية: يباح له الشبع. اختارها أبو بكر، لما روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرّة، فنفقت عنده ناقة، فقالت له امرأته: اسلخها، حتى نقدّد شحمها ولحمها، ونأكله. فقال حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فسأله فقال: «هل عندك غنى يغنيك؟» . قال: لا. قال: «فكلوها» ولم يفرّق. رواه أبو داود ولأن ما جاز سد الرمق منه، جاز الشبع منه، كالمباح. ويحتمل أن يفرّق بين إذا ما كانت الضرورة مستمرة، وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة، كحال الأعرابي الذي سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاز له الشّبع، لأنه إذا اقتصر على سدّ الرمق، عادت الضرورة إليه عن قرب، ولا يتمكن من البعد عن الميتة، مخافة الضرورة المستقبلية، ويفضي إلى ضعف بدنه، وربما أدى ذلك إلى تلفه. بخلاف التي ليست مستمرة، فإنه يرجو الغنى عنها بما يحلّ له. والله أعلم. إذا ثبت هذا، فإن الضرورة المبيحة، هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل. قال أحمد: إذا كان يخشى على نفسه، سواء كان من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز المشي، وانقطع عن الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك، ولا يتقيد ذلك بزمن محصور. وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر؟ فيه وجهان: أحدهما يجب وهو قول مسروق، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي. قال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة، ولم يأكل؟. فذكر قول مسروق: فمن اضطر فلم يأكل ولم يشرب، فمات، دخل النار. وهذا اختيار ابن حامد. والثاني: لا يلزمه.

[سورة البقرة (2) : آية 174]

[سورة البقرة (2) : آية 174] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ. قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كتموا اسم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وغيّروه في كتابهم «1» . والثمن القليل: ما يصيبونه من أتباعهم من الدنيا. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، قال الزجاج: معناه: إن الذين يأكلونه يعذّبون به، فكأنهم يأكلون النّار، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ هذا دليل على أن الله لا يكلم الكفّار ولا يحاسبهم. وفي قوله تعالى: وَلا يُزَكِّيهِمْ، ثلاثة أقوال: أحدها: لا يزكي أعمالهم، قاله مقاتل. والثاني: لا يثني عليهم، قاله الزجاج. والثالث: لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم، قاله ابن جرير. [سورة البقرة (2) : آية 175] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ، أي: اختاروها على الهدى. وفي قوله تعالى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: فما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النار! قاله عكرمة، والربيع. والثاني: ما أجرأهم على النار قاله الحسن، ومجاهد. وذكر الكسائي أن أعرابياً حلف له رجل كاذباً، فقال الأعرابي: ما أصبرك على الله، يريد: ما أجرأك. والثالث: ما أبقاهم في النار، كما تقول: ما أصبر فلاناً على الحبس، أي: ما أبقاه فيه، ذكره الزجاج. والرابع: أن المعنى: فأي شيء صبّرهم على النار؟! قاله ابن الأنباري. وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها للاستفهام، تقديرها: ما الذي أصبرهم؟ قاله عطاء، والسدي، وابن زيد، وأبو بكر بن عياش. والثاني: أنها للتعجب،

_ (1) تقدم عند الآية 159.

[سورة البقرة (2) : آية 176]

كقولك: ما أحسن زيداً، وما أعلم عَمراً. وقال ابن الأنباري: معنى الآية التعجب، والله يعجّب المخلوقين، ولا يعجب هو كعجبهم. [سورة البقرة (2) : آية 176] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الوعيد بالعذاب، فتقديره: ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه. وفي «الكتاب» قولان: أحدهما: أنه التوراة. والثاني: القرآن. وفي «الحق» قولان: أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ضد الباطل، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ فيه قولان: أحدهما: أنه التوراة، ثم في اختلافهم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن اليهود والنصارى اختلفوا فيها، فادعى النصارى فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود ذلك. والثاني: أنهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والثالث: أنهم خالفوا سلفهم في التمسك بها. والثاني: أنه القرآن، فمنهم من قال: شعر، ومنهم من قال: إنما يعلّمه بشر. والشقاق: معاداة بعضهم لبعض. وفي معنى «بعيد» قولان: أحدهما: أن بعضهم متباعد في مشاقة بعض، قاله الزجاج. والثاني: أنه بعيد من الهدى. [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ. قال قتادة: (62) ذُكر لنا أن رجلاً سأل عن «البِر» ، فأنزلت هذه الآية، فدعاه رسول الله، فتلاها عليه. وفيمن خُوطب بها قولان: أحدهما: أنهم المسلمون. والثاني: أهل الكتابين. فعلى القول الاول معناها: ليس البر كله في الصلاة، ولكن البر ما في هذه الآية. وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، والضحاك وسفيان. وعلى القول الثاني معناها: ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب، وصلاة النصارى إلى المشرق، ولكن البر ما في هذه الآية، وهذا قول قتادة، والربيع، وعوف الأعرابي، ومقاتل. وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: لَيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء، وقرأ الباقون برفعها، قال أبو عليّ:

_ ضعيف. أخرجه الطبري 2527 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 88 عن قتادة بدون إسناد.

[سورة البقرة (2) : آية 178]

كلاهما حسن، لأن كل واحد من الاسمين اسم «ليس» وخبرها، معرفة، فاذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسماً، والآخر خبراً، كما تتكافأ النكرتان. وفي المراد بالبر ثلاثة أقوال: أحدها: الإيمان. والثاني: التقوى. والثالث: العمل الذي يقرب إلى الله. قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، فيه قولان: أحدهما: أن معناه: ولكن البرّ برّ من آمن بالله. والثاني: ولكن ذا البر من آمن بالله، حكاهما الزجاج. وقرأ نافع، وابن عامر: «ولكن البر» بتخفيف نون «لكن» ورفع «البر» . وإنما ذكر اليوم الآخر، لأن عبدة الأوثان لا يؤمنون بالبعث. وفي المراد بالكتاب هاهنا قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني: أنه بمعنى الكتاب، فيدخل في هذا اليهود، لتكذيبهم بعض النبيين وردهم القرآن. قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ، في هاء «حبه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى المال. والثاني: إلى الإيتاء. وكان الحسن إذا قرأها قال: سوى الزكاة المفروضة. قوله تعالى: ذَوِي الْقُرْبى، يريد: قرابة المعطي. وقد شرحنا معنى: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ عند رأس ثلاث وثمانين آية من هذه السورة. فأما «ابن السبيل» ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضيف، قاله سعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الذي يمر بك مسافراً، قاله الربيع بن أنس، وعن مجاهد، وقتادة كالقولين. وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: هو المنقطع به يريد بلدا آخر وهو الطريق، وابنه: صاحبه الضارب فيه، فله حق على من يمر به إذا كان محتاجاً. ولعل أصحاب القول الأول أشاروا إلى هذا، لأنه إن كان مسافراً، فانه ضيف لم ينزل. والقول الثالث: أنه الذي يريد سفراً، ولا يجد نفقة، ذكره الماوردي وغيره عن الشافعي. قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ أي في فك الرقاب. ثم فيه قولان: أحدهما: أنهم المكاتبون يعانون في كتابتهم بما يعتقون به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وابن زيد، والشافعي. والثاني: أنهم عبيد يشترون بهذا السهم ويعتقون، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس، وأبو عبيد، وأبو ثور. وعن أحمد كالقولين. وأمّا البأساء فهي: الفقر. والضراء: المرض. وحين البأس: القتال قاله الضحاك. أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، قال أبو العالية: تكلّموا بالإيمان وحقّقوه بالعمل. [سورة البقرة (2) : آية 178] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ. روى شيبان عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغي، وكان الحيّ منهم إذا كان فيهم عدد وعدّة، فقتل عبدهم عبد قوم آخرين قالوا: لن نقتل به إلا حراً، تعززاً لفضلهم على غيرهم. وإذا قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين قالوا: لن نقتل بها إلا

رجلا فنزلت هذه الآية «1» . ومعنى «كتب» : فرض، قاله ابن عباس وغيره. والقصاص: مقابلة الفعل بمثله، مأخوذ من: قصّ الأثر، فإن قيل: كيف يكون القصاص فرضاً والولي مخير بينه وبين العفو؟ فالجواب: أنه فرض على القاتل للولي، لا على الولي. قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، أي: من دم أخيه أي: ترك له القتل، ورضي منه بالدية. ودل قوله: مِنْ أَخِيهِ على أن القاتل لم يخرج عن الإسلام، فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي: مطالبته بالمعروف، يأمر آخذ الدية بالمطالبة الجميلة التي لا يرهقه فيها. وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ يأمر المطالب بأن لا يبخس ولا يماطل ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ، قال سعيد بن جبير: كان حكم الله على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد، ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه دية، فرخَّص الله لأمة محمد، فان شاء وليّ المقتول عمداً قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية. قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى، أي: ظلم، فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ، قال قتادة: يقتل ولا تقبل منه الدية. فصل: ذهب جماعة من المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ، لأنه لما قال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر، وكذلك لما قال: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى اقتضى أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب، وذلك منسوخ بقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «2» ، وقال شيخنا علي بن عبد الله: وهذا عند الفقهاء ليس بنسخ، لأن الفقهاء يقولون: دليل الخطاب حجّة ما لم يعارضه دليل أقوى منه «3» .

_ (1) أخرجه الطبري 2567 عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا، وأخرجه عبد الرزاق 163 والطبري 2568 عن معمر عن قتادة. ولم أره عن شيبان عن قتادة، وشيبان هو ابن عبد الرحمن، وهو ممن يروي عن قتادة. وله شاهد من مرسل الشعبي، أخرجه الطبري 2566، فهذا الشاهد يقوي ما قبله، والله أعلم. (2) المائدة: 45. (3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» : ويقتل الذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر، هذا قول عامة أهل العلم، منهم النخعي، والشعبي، والزّهري، وعمر بن عبد العزيز ومالك، وأهل المدينة، والشافعي وإسحاق، وأصحاب الرأي، وغيرهم. وروي عن علي رضي الله عنه، أنه قال: يقتل الرجل بالمرأة، ويعطى أولياؤه نصف الدية. أخرجه سعيد. وروي مثل هذا عن أحمد. وحكي ذلك عن الحسن، وعطاء. وحكي عنهما مثل قول الجماعة. ولعلّ من ذهب إلى القول الثاني يحتجّ بقول عليّ، رضي الله عنه، ولأن عقلها نصف عقله، فإذا قتل بها بقي له بقية، فاستوفيت ممن قتله. ولنا قوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ مع عموم سائر النصوص، وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل قتل يهوديا رضّ رأس جارية من الأنصار. وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والأسنان، وأن الرجل يقتل بالمرأة. وهو كتاب مشهور عند أهل العلم، متلقى بالقبول عندهم، ولأنهما شخصان يحدّ كل واحد منهم بقذف صاحبه، فقتل كل واحد منهما بالآخر، كالرجلين، ولا يجب مع القصاص شيء، لأنه قصاص واجب، فلم يجب معه شيء على المقتص، كسائر القصاص، واختلاف الأبدال لا عبرة به في القصاص بدليل أن الجماعة يقتلون بالواحد، والنصراني يؤخذ بالمجوسي، مع اختلاف دينيهما، ويؤخذ العبد بالعبد، مع اختلاف قيمتهما. ويقتل كل واحد من الرجل والمرأة بالخنثى، ويقتل بهما، لأنه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 209- 210: ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم. قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده لعموم حديث الحسن عن سمرة «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه» . فقالوا لا يقتل الحر بالعبد لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مسلم بكافر» ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا. وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة. قال الحسن وعطاء لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السّلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقال الليث إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.

[سورة البقرة (2) : آية 179]

[سورة البقرة (2) : آية 179] وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ. قال الزجاج: إذا علم الرجل أنه إن قَتَل قتل أمسك عن القتل، وكان في ذلك حياة للذي هم بقتله ولنفسه، لأنه من أجل القصاص أمسك. وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال: أبلغ أبا مالك عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام «1» يريد: أنّهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب. والألباب: العقول، وإنما خصهم بهذا الخطاب وإن كان الخطاب عاماً، لأنهم المنتفعون بالخطاب، لكونهم يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه. وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، قال ابن عباس: لعلكم تتقون الدماء. وقال ابن زيد: لعلك تتقي أن يقتله فتقتل به. فصل: نقل ابن منصور عن أحمد: إذا قتل رجل رجلاً بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجر يقتل بمثل الذي قتل به. فظاهر هذا أن القصاص يكون بغير السيف، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها، وهو قول مالك والشافعي. ونقل عنه حرب: إذا قتله بخشبة قتل بالسيف. ونقل أبو طالب: إذا خنقه قتل بالسيف. فظاهر هذا أنه لا يكون القصاص إلّا بالسّيف، وهو قول أبي حنيفة «2» .

_ (1) في «اللسان» : المغلغلة: الرّسالة. ورسالة مغلغلة: محمولة من بلد إلى بلد. (2) قال الإمام الموفّق رحمه الله في «المغني» 11/ 508: اختلفت الرّواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء، فروي عنه، لا يستوفى إلا بالسيف في العنق. وبه قال عطاء، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجة. ولأن القصاص أحد بدلي النفس، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الأمر إلى الدية، لم تجب إلا دية النفس، ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل، وإتلاف الجملة، وقد أمكن هذا بضرب العنق، فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه، كما لو قتله بسيف كال، فإنه لا يقتل بمثله. والرواية الثانية عن أحمد قال: إنه لأهل أن يفعل به كما فعل. يعني أن للمستوفي أن يقطع أطرافه، ثم يقتله. وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأبي ثور. لقول الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وقوله سبحانه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رضخ رأس يهودي لرضخه رأس جارية من الأنصار بين حجرين. ولأن الله تعالى قال: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. وهذا قد قلع عينه، فيجب أن تقلع عينه، للآية. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حرّق حرّقناه، ومن أغرق غرّقناه» . ولأن القصاص موضوع على المماثلة، ولفظه مشعر به، فوجب أن يستوفى منه مثل ما فعل، كما لو ضرب العنق آخر غيره. فأما حديث: «لا قود إلا بالسيف» . فقال أحمد: ليس إسناده بجيد.

[سورة البقرة (2) : آية 180]

[سورة البقرة (2) : آية 180] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. قال الزجاج: المعنى: وكتب عليكم، إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو. وعلم أن معناه معنى الواو، وليس المراد: كتب عليكم أن يوصي أحدكم عند الموت، لأنه في شغل حينئذ، وإنما المعنى: كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الرجل: إذا أنا متُّ، فلفلان كذا، فأما الخير هاهنا فهو المال في قول الجماعة. وفي مقدار المال الذي تقع هذه الوصية فيه ستة أقوال: أحدها: أنه ألف درهم فصاعداً، روي عن علي، وقتادة. والثاني: أنه سبعمائة درهم فما فوقها، رواه طاوس عن ابن عباس. والثالث: ستون ديناراً فما فوقها، رواه عكرمة عن ابن عباس. والرابع: أنه المال الكثير الفاضل عن نفقة العيال. قالت عائشة لرجل سألها: إني أُريد الوصية، فقالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: هذا شيء يسير، فدعه لعيالك. والخامس: أنه من ألف درهم إلى خمسمائة، قاله إبراهيم النخعي. والسادس: أنه القليل والكثير، رواه معمر عن الزهري. فأما المعروف فهو الذي لا حيف فيه. فصل: وهل كانت الوصية ندباً أو واجبة؟ فيه قولان: أحدهما: أنها كانت ندباً. والثاني: أنها كانت فرضاً، وهو أصح، لقوله تعالى: كُتِبَ، ومعناه: فرض. قال ابن عمر: نسخت هذه الآية بآية الميراث. وقال ابن عباس: نسخها: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. والعلماء متفقون على نسخ الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون، وهم مختلفون في الأقربين الذين لا يرثون: هل تجب الوصية لهم؟ على قولين، أصحّهما أنها لا تجب لأحد «1» . [سورة البقرة (2) : آية 181] فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) قوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ، قال الزجاج: من بدل أمر الوصية بعد سماعه إياها، فانما إثمه على مبدله، لا على الموصي، ولا على الموصى له إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما قد قاله الموصي عَلِيمٌ بما يفعله الموصى إليه.

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 255: اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلّف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون. وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك وهو قول مالك والشافعي والثوري موسرا كان الموصي أو فقيرا. وقال الزهري وأبو مجلز: الوصية واجبة على ظاهر القرآن قليلا كان المال أو كثيرا وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم فواجب أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. أما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر: وهذا حسن. واحتج الأولون بما رواه ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» .

[سورة البقرة (2) : آية 182]

[سورة البقرة (2) : آية 182] فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم (مُوصٍ) ساكنة الواو، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «مُوَصٍ» مفتوحة الواو مشددة الصاد. وفي المراد بالخوف هاهنا قولان: أحدهما: أنه العلم. والثاني: نفس الخوف، فعلى الأول يكون الجور قد وجد. وعلى الثاني: يخشى وجوده. و «الجنف» : الميل عن الحق. قال الزجاج: جنفاً، أي: ميلاً، أو إثماً أي قصد الإثم. وقال ابن عباس: الجنف: الخطأ، والإثم: التّعمّد، إلّا أنّ المفسّرين علّقوا الجنف على المخطئ، والإثم على العامد. وفي توجيه هذه الآية قولان: أحدهما: أنّ معناها: من حضر رجلاً يموت، فأسرف في وصيته أو قصّر عن حقّ، فليأمره بالعدل، وهذا قول مجاهد. والثاني: أن معناها: من أوصى بجور، فردّ وليّه وصيّته، أو ردّها من أئمة المسلمين إلى كتاب الله وسنة نبيّه فلا إثم عليه، وهذا قول قتادة. قوله تعالى: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، أي: بين الذين أوصى لهم، ولم يجر لهم ذكر، غير أنه لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، وأنشد الفراء: وما أدري إذا يَمَّمْتُ أرضاً ... أُريدُ الخَيْرَ أيهما يليني؟! أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني فكنّى في البيت الأول عن الشر بعد ذكره الخير وحده، لما في مفهوم اللفظ من الدّلالة. [سورة البقرة (2) : آية 183] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ. الصيام في اللغة: الإمساك في الجملة، يقال: صامت الخيل: إذا أمسكت عن السير، وصامت الريح: إِذا أمسكت عن الهبوب. والصوم في الشرع: عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع انضمام النية إليه. وفي الذين من قبلنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أهل الكتاب، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس، وهو قول مجاهد. والثاني: أنهم النصارى، قاله الشعبي، والربيع. والثالث: أنهم جميع أهل الملل، ذكره أبو صالح عن ابن عباس. وفي موضع التشبيه في كاف كَما كُتِبَ قولان: أحدهما: أن التشبيه في حكم الصوم وصفته، لا في عدده. قال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام، وهو عليهم ثابت. وقد أرخص لكم. فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ، فإنها بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين. والثاني: أن التشبيه في عدد الأيام. ثم في ذلك قولان: أحدهما: أنه فرض على هذه الأمة صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقد كان ذلك فرضاً على من قبلهم. قال عطية عن ابن عباس في قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، قال: كان ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ برمضان. وقال معمر عن قتادة: كان الله قد كتب على الناس قبل رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. والثاني: أنه فرض على من

[سورة البقرة (2) : آية 184]

قبلنا صوم رمضان بعينه. قال ابن عباس: فقدم النصارى يوماً ثم يوماً، وأخَّروا يوماً، ثم قالوا: نقدم عشراً ونؤخر عشراً. وقال السدي عن أشياخه: اشتد على النصارى صوم رمضان، فجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلمّا رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يوماً نكفر بها ما صنعنا، فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة. قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، لأن الصيام وصلة إلى التقى، إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي، وقيل: لعلّكم تتّقون محظورات الصّوم. [سورة البقرة (2) : آية 184] أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) قوله تعالى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، قال الزجاج: نصب «أياماً» على الظرف، كأنه قال: كتب عليكم الصيام في هذه الأيام. والعامل فيه «الصيام» ، كأنَّ المعنى: كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات. وفي هذه الأيام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر. والثاني: أنها ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء. والثالث: أنها شهر رمضان، وهو الأصح، وتكون الآية محكمة في هذا القول، وفي القولين قبله تكون منسوخة. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ، فيه إضمار: فأفطر. فصل: وليس المرض والسفر على الإطلاق، فان المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار، وإنما الرخصة موقوفة على زيادة المرض بالصوم. واتفق العلماء أن السفر مقدر، واختلفوا في تقديره، فقال أحمد، ومالك، والشافعي: أقله مسيرة ستة عشر فرسخاً: يومان، وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة أربعة وعشرين فرسخاً. وقال الأوزاعي: أقله مرحلة يوم، مسيرة ثمانية فراسخ. وقيل: إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف، يقال: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح: إذا أضاء، فسمي الخروج إلى المكان البعيد: سفراً، لأنه يكشف عن أخلاق المسافر «1» .

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 273: اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد. ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة والقول بالجواز أرجح. وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح، قاله ابن عطية. ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة. واختلف العلماء في قدر ذلك فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا وقال ابن خويز منداد: وهو ظاهر مذهبه وقال مرّة: اثنان وأربعون ميلا وقال مرة: ستة وثلاثون ميلا وقال مرّة: مسيرة يوم وليلة، وروي عنه يومان وهو قول الشافعي. وفصّل مرة بين البر والبحر فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا. وفي المذهب ثلاثون ميلا. وفي غير المذهب ثلاثة أميال. وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام. - واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما: الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجلّ مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه: هو مخيّر، ولم يفصّل وكذلك ابن عليّه لحديث أنس قال: سافرنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، خرّجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمر وابن عباس: الرخصة أفضل، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل لقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.

[سورة البقرة (2) : آية 185]

قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، نقل عن ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، وعلقمة، والزهري في آخرين في هذه الآية أنهم قالوا: كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكيناً، حتى نزلت: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فعلى هذا يكون معنى الكلام: وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية، ثم نسخت. وروي عن عكرمة أنه قال: نزلت في الحامل والمرضع. وقرا أبو بكر الصديق، وابن عباس: «وعلى الذين يطوّقونه» بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو. قال ابن عباس: هو الشيخ والشيخة. قوله تعالى: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة والكسائيّ (فدية) منون طَعامُ مَساكِينَ موحد. وقرأ نافع، وابن عامر: «فدية» بغير تنوين «طعام» بالخفض «مساكين» بالجمع، وقال أبو علي: معنى القراءة الأولى: على كل واحد طعام مساكين. ومثله: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ «1» ، أي: اجلدوا كل واحد ثمانين. قال أبو زيد: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلّة، وأعطانا كلّنا مائة، أي: فعل ذلك بكل واحد منا. قال: فأما من أضاف الفدية إلى الطعام، فكإضافة البعض إلى ما هو بعض له، وذلك أنه سمى الطعام الذي يفدى به فدية، ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها، فهو على هذا من باب: خاتم حديد. وفي قوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً، ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: من أطعم مسكينين، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أن التّطوّع إطعام مساكين، قاله طاوس. والثالث: أنه زيادة المساكين على قوته، وهو مروي عن مجاهد، وفعله أنس بن مالك لما كبر. وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ عائد إلى من تقدم ذكره من الأصحاء المقيمين المخيّرين بين الصوم والإطعام على ما حكينا في أول الآية عن السلف، ولم يرجع ذلك إلى المرضى والمسافرين، والحامل والمرضع، إذ الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم، وقد نهوا عن تعريض أنفسهم للتلف، وهذا يقوّي قول القائلين بنسخ الآية. [سورة البقرة (2) : آية 185] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ. قال الأخفش: شهر رمضان بالرفع على تفسير الأيام، كأنه لما قال: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فسرها فقال: هي شهر رمضان، قال أبو عبيد: وقرأ مجاهد: «شهرَ رمضان» بالنصب، وأُراه نصبه على معنى الإغراء: عليكم شهر رمضان فصوموه كقوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ «2» ،

_ (1) النور: 4. (2) الحج: 78. [.....]

وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ «1» ، قلت: وممن قرأ بالنصب معاوية والحسن وزيد بن علي وعكرمة ويحيى بن يعمر. قال ابن فارس: الرمض: حر الحجارة من شدة حر الشمس، ويقال: شهر رمضان، من شدة الحر، لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التى وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، ويجمع على رمضانات وأرمضاء وأرمضة. قوله تعالى: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أنزل القرآن فيه جملة واحدة، وذلك في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا، قاله ابن عباس. والثاني: أنّ معناه: أنزل القرآن بفرض صيامه، وروي عن مجاهد، والضحاك. والثالث: أن معناه: إن القرآن ابتدئ بنزوله فيه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن إسحاق، وأبو سليمان الدمشقي. قال مقاتل: والفرقان المخرج في الدين من الشبهة والضلالة. قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «2» ، أي: من كان حاضراً غير مسافر. فإن قيل: ما الفائدة في إعادة

_ (1) البقرة: 138. (2) فائدة: قال الإمام الموفّق رحمه الله في «المغني» 4/ 325 ما ملخصه: (وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما، طلبوا الهلال، فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم) . وجملة ذلك أنه يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم، ويسلموا من الاختلاف. وقد روى الترمذي، عن أبي هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أحصوا هلال شعبان لرمضان» فإذا رأوه وجب عليهم الصيام إجماعا، وإن لم يروه وكانت السماء مصحية، لم يكن لهم صيام ذلك اليوم، إلا أن يوافق صوما كانوا يصومونه، مثل من عادته صوم يوم وإفطار يوم، أو صوم يوم الخميس، أو صوم آخر يوم من الشهر، وشبه ذلك إذا وافق صومه، أو من صام قبل ذلك بأيام، فلا بأس بصومه لما روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل يصوم صياما فليصمه» متفق عليه. وقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم. وإذا رأى الهلال أهل بلد، لزم جميع البلاد الصوم. وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة، لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما، وإن كان بينهم بعد، كالعراق والحجاز والشام، فلكلّ أهل بلد رؤيتهم، وروي عن عكرمة، أنه قال: لكل أهل بلد رؤيتهم. وهو مذهب القاسم وسالم، وإسحاق. - قال: وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان. اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في هذه المسألة، فروي عنه مثل ما نقل الخرقي، اختارها أكثر شيوخ أصحابنا، وهو مذهب عمر، وابنه، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأنس، ومعاوية، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر. وبه قال بكر بن عبد الله، وأبو عثمان النهدي وابن أبي مريم ومطرّف وميمون بن مهران، وطاوس ومجاهد وروي عنه أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا. وهذا قول الحسن، وابن سيرين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون» . قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة. وعن أحمد، رواية ثالثة: لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان إن صامه. وهو قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ومن تبعهم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» رواه البخاري. وعن ابن عمر، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فاقدروا له ثلاثين» . رواه مسلم. وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن صوم يوم الشك. متفق عليه. وهذا يوم شك. ولأن الأصل بقاء شعبان، فلا ينتقل عنه الشك. ولنا ما روى نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له» . قال نافع: كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما، بعث من ينظر له الهلال، فإن رأى فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما. رواه أبو داود. ومعنى اقدروا له: أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي ضيّق عليه. وقوله: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرون يوما. وقد فسره ابن عمر بفعله، وهو راويه، وأعلم بمعناه. قال علي وأبو هريرة وعائشة: لأن أصوم يوما من شعبان، أحبّ إليّ من أن أفطر يوما من رمضان. ولأن الصوم يحتاط له، ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطر إلا بشهادة اثنين. فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به، فإنه يرويه محمد بن زياد، وقد خالفه سعيد بن المسيب، فرواه عن أبي هريرة: «فإن غمّ عليكم فصوموا ثلاثين» . وروايته أولى بالتقديم، لإمامته، واشتهار عدالته وثقته، وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه، ولخبر ابن عمر الذي رويناه ورواية ابن عمر: «فاقدروا له ثلاثين» مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر ورأيه. والنهي عن صوم يوم الشك محمول على حال الصحو بدليل ما ذكرنا.

المرض والسفر في هذه الآية، وقد تقدم ذلك؟ قيل: لأن في الآية المتقدمة منسوخاً، فأعاده لئلا يكون مقروناً بالمنسوخ. قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، قال ابن عباس، ومجاهد وقتادة والضحاك: اليسر: الإِفطار في السفر، والعسر: الصوم فيه. وقال عمر بن عبد العزيز: أي ذلك كان أيسر عليك فافعل: الصوم في السفر، أو الفطر. قوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «ولتكملوا» باسكان الكاف خفيفة. وقرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الميم، وذلك مثل: «وصّى» و «أوصى» وقال ابن عباس: ولتكملوا عدة ما أفطرتم. وقال بعضهم: المراد به: لا تزيدوا على ما افترض، كما فعلت النصارى، ولا تنقلوه عن زمانه كما نقلته، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ، قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال، أن يكبروا لله حتى يفرغوا من عيدهم. فان قيل: ما وجه دخول الواو في قوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ، وليس هناك ما يعطف عليه؟ فالجواب: أن هذه الواو عطفت اللام التي بعدها على لام محذوفة، والمعنى: ولا يريد بكم العسر، ليسعدكم، ولتكملوا العدة، فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها، ذكره ابن الأنباري. فصل: ومن السنة إظهار التكبير ليلة الفطر، وليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلَّى. واختلفت الرواية عن أحمد، رضي الله عنه، متى يقطع في عيد الفطر، فنقل عنه حنبل: يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة. ونقل الأثرم: إذا جاء المصلَّى، قطع. قال القاضي أبو يعلى: يعني: إذا جاء المصلى وخرج الإمام «1» .

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 3/ 287- 292 ما ملخصه: لا خلاف بين العلماء، رحمهم الله، في أن التكبير مشروع في عيد النحر واختلفوا في مدته، فذهب إمامنا، رضي الله عنه، إلى أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر في آخر أيام التشريق، وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. وإليه ذهب الثوري، وابن عينية وأبو يوسف ومحمد والشافعي في بعض أقواله. وعن ابن مسعود أنه كان يكبر من غداة عرفة إلى العصر من يوم النحر. وإليه ذهب علقمة، والنخعي، وأبو حنيفة، لقوله: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ وهي العشر، وأجمعنا على أنه لا يكبّر قبل يوم عرفة، فينبغي أن يكبر يوم عرفة ويوم النحر. وعن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز، أن التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق. وبه قال مالك، والشافعي في المشهور عنه لأن الناس تبع للحاج، والحاجّ يقطعون التلبية مع أول حصاة. ويكبرون مع الرمي، وإنما يرمون يوم النحر، فأول صلاة بعد الظهر وآخر صلاة يصلون بمنى الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق. ولنا ما روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى الصبح يوم عرفة وأقبل علينا، فقال: «الله أكبر، الله أكبر» . ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق. أخرجه الدارقطني من طرق، وفي بعضها: «الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد» ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود. رواه سعيد عن عمر وعلي وابن عباس وروى بإسناده عن عمير بن سعيد، أن عبد الله كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر، فأتانا علي بعده فكبّر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. قيل لأحمد، رحمه الله: بأي حديث تذهب، إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع، عمر، وعلي، وابن عباس وابن مسعود، رضي الله عنهم، ولأن الله تعالى قال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وهي أيام التشريق، فيتعين الذكر في جميعها. - وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. وهذا قول عمر، وعلي، وابن مسعود. وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وإسحاق، وابن المبارك، إلا أنه زاد: على ما هدانا. لقوله: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ.

[سورة البقرة (2) : آية 186]

[سورة البقرة (2) : آية 186] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي. في سبب نزولها خمسة أقوال: (63) أحدها: أن أعرابياً جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية، رواه الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده. (64) والثاني: أن يهود المدينة قالوا: يا محمد! كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؟! فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (65) والثالث: أنهم قالوا: يا رسول الله! لو نعلم أية ساعة أحب إلى الله أن ندعو فيها دعونا، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء. (66) والرابع: أن أصحاب النبي قالوا له: أين الله؟ فنزلت هذه الآية، قاله الحسن. (67) والخامس: أنه لما حرم في الصوم الأول على المسلمين بعد النّوم الأكل والجماع أكل

_ ضعيف. أخرجه الطبري 2912 عن الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده، وإسناده ضعيف لجهالة الصلت. باطل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من رواية الكلبي كما صرّح بذلك البغوي. قال في «معالم التنزيل» 1/ 155: رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. والكلبي كذاب، وأبو صالح ليس بثقة، وقد رويا تفسيرا موضوعا عن ابن عباس، انظر المقدمة. ثم لفظ «عبادي» يدل على أن السائل من المؤمنين إن كان ثمّ سائل، والصواب عدم صحة سبب نزول في هذه الآية، وإذا هنا بمعنى لو. أي لو سألك عبادي. والله أعلم. ضعيف، أخرجه الطبري 2915 و 2916 عن عطاء مرسلا، فهو ضعيف. ضعيف، أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 196 والطبري 2913 عن الحسن مرسلا، ومراسيل الحسن واهية لأنه كان يحدث عن كل أحد، كما هو مقرر في كتب المصطلح. باطل، عزاه المصنف لمقاتل، وإذا أطلق فهو ابن سليمان المفسر المشهور، وهو متهم بالكذب. - الخلاصة: لم يصح في هذه الآية سبب نزول، والذي يستفاد من الآية هو أن الله عزّ وجلّ قريب من عباده، فلا يجوز أن يجعل الإنسان بينه وبين الله واسطة وإنما يدعوه ويسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. - قال الإمام عبد الله بن محمود في كتاب «الاختيار» في فروع الحنفية 4/ 164 نقلا عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: ويكره أن يدعو الله إلّا به. قال في شرحه: فلا يقول أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.

رجل منهم بعد أن نام، ووطيء رجل بعد أن نام، فسألوا: كيف التوبة مما عملوا؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الكلام: إذا سألوك عني فأعلمهم أني قريب. وفي معنى «أجيب» قولان: أحدهما: أسمع، قاله الفراء، وابن القاسم. والثاني: أنه من الإِجابة: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، أي: فليجيبوني. قال الشاعر: فلم يستجبه عند ذاك مجيب أراد: فلم يجبه. وهذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، قال أبو العالية: يعني: يهتدون. فصل: إن قال قائل: هذه الآية تدل على أن الله تعالى يجيب أدعية الداعين، وترى كثيراً من الداعين لا يستجاب لهم! (68) فالجواب: أن أبا سعيد روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إِثم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إِما أن يعجل دعوته، وإِما أن يدخرها له في الآخرة، وإِما أن يدفع عنه من السوء مثلها» . وجواب آخر: وهو أن الدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطاعة لله، ومنها أكل الحلال، فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدعاء، ومنها حضور القلب. (69) ففي بعض الحديث: «لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاه» .

_ صحيح. أخرجه أحمد 3/ 18 والبخاري في «الأدب المفرد» 710 والحاكم 1/ 493 من حديث أبي سعيد وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وكذا صححه القاضي عبد الحق كما نقل القرطبي 919 بتخريجنا. وله شاهد أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» 711 من حديث أبي هريرة وإسناده حسن. حديث ضعيف، لا يتقوى بشواهده بسبب شدة ضعفها. أخرجه أحمد 2/ 177 من طريق حسن عن ابن لهيعة عن بكر بن عمرو عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله عزّ وجلّ أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل» . إسناده ضعيف مداره على ابن لهيعة، وقد اختلط، وليس الراوي عنه أحد العبادلة. ومع ذلك قال المنذري في «الترغيب» 2459: رواه أحمد بإسناد حسن!!. وتبعه على ذلك الهيثمي في «المجمع» 1/ 147/ 13203 فقال: رواه أحمد بإسناد حسن!!، وصححه أحمد شاكر في «المسند» 6655؟!. - وله شاهد من حديث ابن عمر: أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 10/ 147/ 17205 وقال الهيثمي: فيه بشير بن ميمون الواسطي، وهو مجمع على ضعفه. قلت: بل هو متروك، قال البخاري: يذكر بوضع الحديث، وقال النسائي متروك، فهذا شاهد لا يفرح به، ولا فائدة منه. وله شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه الترمذي 3479 والحاكم 1/ 493 وابن حبان في «المجروحين» 1/ 372 والخطيب 4/ 356 وابن عدي 4/ 62 وابن عساكر 4/ 360 من طرق عن صالح بن بشير المري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة به مرفوعا. وإسناده واه لأجل صالح بن بشير. قال الذهبي في «الميزان» 2/ 289: ضعفه ابن معين والدارقطني، وقال أحمد: هو صاحب قصص، ليس هو صاحب حديث، ولا يعرف الحديث، وقال الفلاس: منكر الحديث جدا، وقال النسائي: متروك، وقال البخاري منكر الحديث. قال الذهبي: وروى عباس عن يحيى: ليس به بأس، لكن روى خمسة عن يحيى جرحه. وقال ابن حبان: كان يروي الشيء الذي سمعه من ثابت والحسن وهؤلاء على التوهم، فيجعله عن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فظهر في روايته الموضوعات التي يرويها عن الأثبات، واستحق الترك، وكان ابن معين شديد الحمل عليه، وهو الذي يروي عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «ادعوا الله..» الحديث. قلت: فالرجل ضعيف جدا متروك الحديث، وقد جاء بهذا المتن عن هشام عن ابن سيرين وحده، ولم يتابع عليه، ولو كان هذا الحديث عند هشام أو ابن سيرين لرواه الثقات لأن كلا منهما إمام يجمع حديثه، فكيف ولم يتابعه عليه ضعيف مثله أو دونه،، لذا أورده ابن حبان وابن عدي وغيرهما في كتب الضعفاء. وضعفه الترمذي بقوله: غريب. وأما الحاكم، فقال: حديث مستقيم الإسناد، تفرد به صالح المري وهو أحد زهاد البصرة. وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: صالح متروك. وقال المنذري 2460 بعد كلام الحاكم: صالح لا شك في زهده،. لكن تركه أبو داود والنسائي. وذكر ذلك الألباني في «الصحيحة» 594 وقال: لكن روي له شاهد بسند ضعيف أخرجه أحمد 2/ 177 فذكر حديث ابن عمرو المتقدم. قلت: ولم يصب الألباني بإدراجه في «الصحيحة» بل وليس هو من قبيل الحسن لشدة ضعف حديث أبي هريرة، ويكفي في ذلك قول البخاري عن صالح المري: منكر الحديث. وقد قال البخاري: كل من قلت عنه منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه. - الخلاصة: حديث أبي هريرة ضعيف جدا وكذا حديث ابن عمر، وأما حديث ابن عمرو فهو ضعيف فحسب، ولا يتقوى بشاهديه لشدة ضعف إسناديهما، والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 187]

وجواب آخر: وهو أن الداعي قد يعتقد المصلحة في إجابته إلى ما سأل، وقد لا تكون المصلحة في ذلك، فيجاب إلى مقصوده الأصلي، وهو: طلب المصلحة، وقد تكون المصلحة في التأخير أو في المنع. [سورة البقرة (2) : آية 187] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ. سبب نزول هذه الآية: (70) أن الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع، حرما عليه إلى أن يفطر، فجاء شيخ

_ أصله قوي. أخرجه وكيع وعبد بن حميد كما في «الدر المنثور» 1/ 358 والطبري 2943 و 2944 من طرق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه، والسياق لوكيع وعبد بن حميد. وإسناده صحيح إلى ابن أبي ليلى، وعلته الإرسال فقط، فالمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث. - وورد بنحوه من مرسل السدي: أخرجه الطبري 2957. وورد عن ابن عباس: أخرجه الطبري 2951 وإسناده واه، فيه عطية العوفي واه، وعنه من لا يعرف. ورد من مرسل عكرمة: أخرجه الطبري 2959. - وقد ورد روايات أخرى في قصة عمر بمفرده وكذا في قصة أبي قيس بن صرمة. وأصح شيء ورد في هذا هو ما أخرجه البخاري 1915 وأبو داود 2314 والترمذي 2968 وأحمد 4/ 295 والدارمي 2/ 5 والنسائي في «التفسير» 43 والواحدي في «الأسباب» 92 كلهم عن البراء بن عازب: «كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك! فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت: أُحِلَّ لَكُمْ ... الآية ففرحوا فرحا شديدا» لفظ البخاري.

من الأنصار وهو صائم إلى أهله، فقال: عشوني، فقالوا: حتى نسخن لك طعاماً، فوضع رأسه فنام، فجاؤوا بالطعام، فقال: قد كنت نمت، فبات يتقلب ظهراً لبطن، فلما أصبح أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! إني أردت أهلي الليلة، فقالت: إنها قد نامت، فظننتها تعتل، فواقعتها، فأخبرتني أنها قد نامت، فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطاب: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، وأنزل الله في الأنصاري: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، هذا قول جماعة من المفسرين. واختلفوا في اسم هذا الأنصاري على أربعة أقوال «1» : أحدها: قيس بن صرمة، قاله البراء. والثاني: صرمة بن أنس، قاله القاسم بن محمد. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: صرمة بن مالك. والثالث: ضمرة بن أنس. والرابع: أبو قيس بن عمر. وذكر القولين أبو بكر الخطيب. فأما «الرفث» فقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء والحسن وابن جبير في آخرين: هو الجماع. قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ، فيه قولان: أحدهما: أن اللباس السّكن. ومثله جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً، أي سكناً. وهذا قول ابن عباس وابن جبير ومجاهد وقتادة. والثاني: أنهن بمنزلة اللباس لإفضاء كل واحد ببشرته إلى بشرة صاحبه، فكنى عن اجتماعهما متجردين باللباس. قال الزجاج: والعرب تسمي المرأة: لباساً وإزاراً، قال النابغة الجعدي: إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنت فكانت عليه لباساً وقال غيره: ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدىً لك من أخي ثقة إِزاري يريد بالإزار: امرأته. قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ، قال ابن قتيبة: يريد: تخونونها بارتكاب ما حُرِّمَ عليكم. قال ابن عباس: وعنى بذلك فعل عمر، فإنه أتى أهله، فلما اغتسل أخذ يلوم نفسه ويبكي. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، أصل المباشرة: إلصاق البشرة بالبشرة. وقال ابن عباس: المراد بالمباشرة هاهنا الجماع. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: أنه الولد، قاله ابن

_ (1) قال الحافظ في «الفتح» 4/ 130 بعد أن ذكر روايات متعددة مختلفة في تعيين الأنصاري: والجمع بين هذه الروايات أنه أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي بن عامر ... (2) القول الأول هو الذي ذهب إليه الأكثر كما في تفسير الطبري 2973 فما بعد، وهو الذي اختاره الطبري، مع أن القول الثاني هو الأقرب يدل عليه سياق الآيات وسباقها. وأما القول الثالث فهو غريب بعيد. وأما القول الرابع فهو مما يدخل في القول الثاني، والله أعلم.

عباس، والحسن، ومجاهد في آخرين. قال بعض أهل العلم: لما كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع، أباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد، فقال: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يريد: الولد. والثاني: أن الذي كتب لهم الرخصة، وهو قول قتادة، وابن زيد. والثالث: أنه ليلة القدر، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والرابع: أنه القرآن، فمعنى الكلام: اتبعوا القرآن، فما أُبيح لكم وأمرتم به فهو المبتغى، وهذا اختيار الزجاج. قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ. قال عدي بن حاتم: (71) لما نزلت هذه الآية، عمدت إلى عقالين، أبيض وأسود، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أقوم في الليل ولا أستبين الأسود من الأبيض، فلما أصبحت غدوت على رسول الله فأخبرته، فضحك وقال: «إِن كان وسادك إِذاً لعريض، إِنما ذاك بياض النهار من سواد الليل» . (72) وقال سهل بن سعد: نزلت هذه الآية: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، ولم ينزل: مِنَ الْفَجْرِ، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبيّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعد ذلك مِنَ الْفَجْرِ، فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار. فصل: إذا شك في الفجر، فهل يدع السحور أم لا؟ فظاهر كلام أحمد يدل على أنه لا يدع السحور، بل يأكل حتى يستيقن طلوع الفجر. وقال مالك: أكره له أن يأكل إذا شك في طلوع الفجر، فان أكل فعليه القضاء. وقال الشافعي: لا شيء عليه «1» . قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، في هذه المباشرة قولان: أحدهما: أنها المجامعة، وهو قول الاكثرين. والثاني: أنها ما دون الجماع من اللمس والقبلة، قاله ابن زيد. وقال قتادة: كان الرجل المعتكف إذا خرج من المسجد، فلقي امرأته باشرها إذا أراد ذلك، فوعظهم الله في ذلك. فصل: الاعتكاف في اللغة: اللبث، يقال: فلان معتكف على كذا، وعاكف. وهو فعل مندوب إليه، إلا أن ينذره الإنسان، فيجب. ولا يجوز إلا في مسجد تقام فيه الجماعات، ولا يشترط في حقّ

_ صحيح. أخرجه البخاري 1916 و 4509 و 4510 ومسلم 1090 وأبو داود 2349 والترمذي 2970 و 2971 وأحمد 4/ 377 والدارمي 2/ 5 والطحاوي 2/ 53 وابن خزيمة 1925 وابن حبان 3462 و 3463 والحميدي 916 وابن أبي شيبة 3/ 28 والطبراني 172 و 179 والبيهقي 4/ 215 والبغوي 1/ 158 من طرق عن عدي بن حاتم. وانظر «تفسير الشوكاني» 290 بتخريجنا. صحيح. أخرجه البخاري 1917 ومسلم 1091 والنسائي في «التفسير» 42 والطبري 2/ 100 والبيهقي 4/ 215 من حديث سهل بن سعد. وانظر «تفسير الشوكاني» 289 بتخريجنا.

المرأة مسجد تقام فيه الجماعة، إذ الجماعه لا تجب عليها. وهل يصح بغير صوم؟ فيه عن أحمد روايتان «1» . قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، قال ابن عباس: يعني: المباشرة فَلا تَقْرَبُوها، قال الزجّاج:

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 4/ 456: والاعتكاف سنة، إلا أن يكون نذرا، فيلزم الوفاء به ولا خلاف. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضا، إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا، فيجب عليه. ومما يدل على أنه سنة، فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ومداومته عليه، تقربا إلى الله تعالى، ويدل على أنه غير واجب أن أصحابه لم يعتكفوا ولا أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم به إلا من أراده. وقال عليه السلام: «من أراد أن يعتكف، فليعتكف العشر الأواخر» . ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه يعني تقام الجماعة فيه وإنما اشترط ذلك، لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف. إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه. ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا. ولا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا. وقال مالك: يصح الاعتكاف في كل مسجد، لعموم قوله تعالى «وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» وهو قول الشافعي إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جمعة. وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد. ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها. وبهذا قال الشافعي. وليس لها الاعتكاف في بيتها. وقال أبو حنيفة والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها، وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه. واعتكافها فيه أفضل. وحكي عن أبي حنيفة، أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ترك الاعتكاف في المسجد، لما رأى أبنية أزواجه فيه، وقال: «آلبر تردن» . ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها. ولنا قوله تعالى: وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ المراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد، لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمي مسجدا كان مجازا، كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا» . ولأن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم استأذنه في الاعتكاف في المسجد، فأذن لهن، ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن لما أذن فيه، ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه.. وقال: ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره بصوم، والمشهور في المذهب أن الاعتكاف يصح بغير صوم. روي ذلك عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والشافعي وإسحاق وعن أحمد رواية أخرى، أن الصوم شرط في الاعتكاف. قال: إذا اعتكف يجب عليه الصوم وبه قال الزهري ومالك وأبو حنيفة والليث، والثوري، لما روي عن عائشة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «لا اعتكاف إلا بصوم» رواه الدارقطني. وعن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «اعتكف وصم» ولأنه لبث في مكان مخصوص فلم يكن بمجرده قربة، كالوقوف. ولنا ما روى ابن عمر عن عمر أنه قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أوف بنذرك» رواه البخاري. ولو كان الصوم شرطا لما صح اعتكاف الليل، لأنه لا صيام فيه ولأنه عبادة تصح في الليل، ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع ولم يصح فيه نص ولا إجماع. قال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن أبي سهل، قال: كان على امرأة من أهلي اعتكاف، فسألت عمر بن عبد العزيز. فقال: ليس عليها صيام، إلا أن تجعله على نفسها. فقال الزهري: لا اعتكاف إلا بصوم. فقال عمر: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا. قال فعن أبي بكر؟ قال: لا. قال: فعن عمر؟ قال: لا. قال: وأظنه قال: فعن عثمان؟ قال: لا. فخرجت من عنده، فلقيت عطاء وطاوسا، فسألتهما، فقال طاوس: كان فلان لا يرى عليها صياما، إلا أن تجعله على نفسها، وأحاديثهم لا تصح. أما حديثهم عن عمر، فتفرّد به ابن بديل، وهو ضعيف. والصحيح ما رويناه، أخرجه البخاري والنسائي، وغيرهما. وحديث عائشة موقوف عليها، ومن رفعه فقد وهم. فإن الصوم فيه أفضل. ويخرج به من الخلاف.

[سورة البقرة (2) : آية 188]

الحدود ما منع الله من مخالفتها، فلا يجوز مجاوزتها. وأصل الحد في اللغة: المنع، ومنه: حد الدار، وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها. والحداد في اللغة: الحاجب والبوّاب، وكلّ ما منع شيئاً فهو حداد، قال الأعشى: فقمنا ولما يصحْ ديكنا ... إِلى جونة عند حدادها أي: عند ربها الذي يمنعها إلا بما يريده. وأحدّث المرأة على زوجها، وحدّت فهي حاد، ومحد: إذا قطعت الزينة، وامتنعت منها، وأحددت النظر إلى فلان: إذا منعت نظرك من غيره. وسمي الحديد حديدا، لأنه يمتنع به من الأعداء. قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ، أي: مثل هذا البيان الذي ذكر. [سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ.

_ سبب نزولها: أنّ امرأ القيس بن عابس وعبدان الحضرمي، اختصما في أرض، وكان عبدان هو الطالب ولا بينة له، فأراد امرؤ القيس أن يحلف، فقرأ عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا، فكره أن يحلف، ولم يخاصم في الأرض، فنزلت هذه الآية. هذا قول جماعة، منهم: سعيد بن جبير. ومعنى الآية: لا يأكل بعضكم مال بعض، كقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. قال القاضي أبو يعلى: والباطل على وجهين: أحدهما: أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه، كالسرقة، والغصب، والخيانة. والثاني: أن يأخذه بطيب نفسه، كالقمار، والغناء، وثمن الخمر، وقال الزجاج: الباطل: الظلم. «وتدلوا» أصله في اللغة من: أدليت الدلو: إِذا أرسلتها لتملأها، ودلوتها إِذا أخرجتها. ومعنى أدلى فلان بحجته: أرسلها، وأتى بها على صحة. فمعنى الكلام: تعملون على ما يوجبه إدلاء الحجّة، وتخونون في الأمانة، وأنتم تعلمون أنّ الحجّة عليكم في الباطن «1» . وفي هاء «بها» قولان: أحدهما: (73) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» 94 للسيوطي عن سعيد بن جبير مرسلا، ولم أقف على إسناده إلى سعيد، وهو ضعيف بكل حال، لإرساله، فالمرسل ضعيف عند أهل الحديث. - وذكره الواحدي 95 وعزاه لمقاتل بن حيان، وهذا مرسل، وهو بدون إسناد، ومقاتل ذو مناكير. - وأصله صحيح، انظر صحيح البخاري 2416 ومسلم 139 فهو بهذا اللفظ مع ذكر سبب النزول ضعيف.

[سورة البقرة (2) : آية 189]

أنها ترجع إلى الأموال، كأنه قال: لا تصانعوا ببعضها جَوَرَة الحكام. والثاني: أنها ترجع إلى الخصومة. إن قيل: كيف أعاد ذكر الأكل فقال: وَلا تَأْكُلُوا لِتَأْكُلُوا؟ فالجواب: أنه وصل اللفظة الأولى بالباطل، والثانية بالإثم، فأعادها للزيادة في المعنى، ذكره ابن الأنباريّ. [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ. هذه الآية من أولها إلى قوله: وَالْحَجِّ، نزلت على سبب: (74) وهو أن رجلين من الصحابة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو دقيقاً، ثم يزيد ويمتلئ حتى يستدير ويستوي، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، هذا قول ابن عباس «1» . ومن قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها إلى آخرها يدل على سبب آخر: (75) وهو أنهم كانوا إذا حجوا، ثم قدموا المدينة، لم يدخلوا من باب، ويأتون البيوت من ظهورها، فنسي رجل، فدخل من باب، فنزلت: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها هذا قول البراء بن عازب. وفيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله أربعة أقوال: أحدها: أنهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام، قاله ابن عباس، وأبو العالية، والنخعي، وقتادة، وقيس النهشلي. والثاني: لأجل دخول الشهر الحرام، قاله البراء بن عازب. والثالث: أن أهل الجاهلية كانوا إذا همَّ أحدهم بالشيء فاحتبس عنه لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان هم به، قاله الحسن. والرابع: أن أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه.

_ باطل. أخرجه أبو نعيم وابن عساكر كما في «أسباب النزول» 97 للسيوطي من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وهذا إسناد ساقط، بل هذه السلسلة هي سلسلة الكذب، فالسدي هو الصغير متهم، والكلبي كذبه غير واحد، وتقدم في المقدمة بيانه. وعزاه الواحدي في «الأسباب» 98 للكلبي. صحيح. أخرجه البخاري 4512 ومسلم 3026 والواحدي في «أسباب النزول» 99 عن البراء بن عازب.

[سورة البقرة (2) : آية 190]

فأما التفسير فانما سألوه عن وجه الحكمة في زيادة الأهلَّة ونقصانها، فأخبرهم أنها مقادير لما يحتاج الناس إليه في صومهم وحجهم وغير ذلك. والأهلَّة: جمع هلال. وكم يبقى الهلال على هذه التسمية؟ فيه للعرب أربعة أقوال: أحدها: أنه يسمى هلالاً لليلتين من الشهر. والثاني: لثلاث ليال، ثم يسمى قمراً. والثالث: إلى أن يحجر، وتحجيره: أن يستدير بخطة دقيقة، وهو قول الأصمعي. والرابع: إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل. حكى هذه الأقوال ابن السري واختار الأول، قال: واشتقاق الهلال من قولهم: استهل الصبي: إذا بكى حين يولد. وأهل القوم بالحج: إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، فسمي هلالاً لأنه حين يُرى يُهل الناس بذكره. قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى، مثل قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وقد سبق بيانه، واختلف القرّاء في البيوت وما أشبهها، قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي بكسر باء «البيوت» وعين «العُيون» وغين «الغُيوب» ، وروي عن نافع أنه ضم باء «البيوت» وعين «العيون» وغين «الغيوب» وجيم «الجيوب» وشين «الشيوخ» ، وروى عنه قالون أنه كسر باء «البيوت» ، وقرأ أبو عمرو، وأبو جعفر بضم الأحرف الخمسة، وكسرهن جميعاً حمزة، واختلف عن عاصم. قال الزجاج: من ضم «البيوت» فعلى أصل الجمع: بيت وبيوت، مثل: قلب وقلوب، وفلس وفلوس. ومن كسر، الياء بعد الباء، وذلك عند البصريين رديء جدا، لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: إذا كان الجمع على فعول، وثانيه ياء، جاز فيه الضم والكسر، تقول: بُيوتٌ وبِيوت، وشُيوخٌ وشيوخ، وقيود وقيود. [سورة البقرة (2) : آية 190] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ (76) سبب نزولها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صُدّ عن البيت، ونحر هديه بالحديبية، وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل رجع، فلما تجهز في العام المقبل خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم ويقاتلوهم، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. قوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا، أي: ولا تظلموا. وفي المراد بهذا الاعتداء أربعة أقوال: أحدها: أنه قتل النساء والولدان، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أن معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلكم، قاله سعيد بن جبير، وأبو العالية، وابن زيد. والثالث: أنه إتيان ما نهوا عنه، قاله الحسن. والرابع: أنه ابتداؤهم بالقتال في الحرم في الشهر الحرام، قاله مقاتل. فصل: اختلف العلماء: هل هذه الآية منسوخة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها منسوخة. واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين: أحدهما: أنه

_ ضعيف جدا، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 102 تعليقا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به، وهذا إسناد ساقط، وتقدم بيانه في المقدمة. وسيأتي بنحو هذا السياق عند الآية 194.

أولها، وهو قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، قالوا: وهذا يقتضي أن القتال يباح في حق من قاتل من الكفار، ولا يباح في حق من لم يقاتل، وهذا منسوخ بقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. والثاني: أن المنسوخ منها: وَلا تَعْتَدُوا، ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان: أحدهما: أنه قتل من لم يقاتل. والثاني: أنه ابتداء المشركين بالقتال، وهذا منسوخ بآية السيف. والقول الثاني: أنها محكمة، ومعناها عند أرباب هذا القول: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال، فأما من ليس بمعدٍّ نفسه للقتال، كالرهبان والشيوخ الفناة، والزمنى، والمكافيف، والمجانين، فان هؤلاء لا يقاتلون وهذا حكمٌ باقٍ غيرُ منسوخ «1» . فصل: واختلف العلماء في أول آية نزلت في إباحة القتال على قولين: أحدهما: أنها قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، قاله أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والزهري. والثاني: أنها هذه الآية: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قاله أبو العالية، وابن زيد.

_ (1) فائدة: قال القرطبي رحمه الله 2/ 346: وللعلماء فيهم صور ست: الأولى: النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيّرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال. الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم فإن قاتل الصبي قتل. الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقّون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد: «وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له» . فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة لا تهاج. رواه أشهب وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها. الرابعة: الزّمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة. الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة. والثاني: يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت به إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيّرا بين خمسة أشياء: القتل أو المنّ أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذّمّة على أداء الجزية. السادسة: العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية والأول أصح، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن ربيع: «الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا» وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرّاثا. وقوله تعالى لا تَعْتَدُوا قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل: لا تَعْتَدُوا أي لا تقاتلوا من لم يقاتل فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 191]

[سورة البقرة (2) : آية 191] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. أي: وجدتموهم. يقال: ثقفته أثقفه: إذا وجدته. قال القاضي أبو يعلى: قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، عام في جميع المشركين، إلا من كان بمكة، فانهم أمروا باخراجهم منها، إلا من قاتلهم فإنهم أُمروا بقتالهم، يدل على ذلك قوله في نسق الآية: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، وكانوا قد آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج، فكأنهم أخرجوهم. فأما الفتنة، ففيها قولان: أحدهما: أنها الشرك، قاله ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وقتادة في آخرين. والثاني: أنها ارتداد المؤمن إلى عبادة الأوثان، قاله مجاهد. فيكون معنى الكلام على القول الأول: شرك القوم أعظم من قتلكم إياهم في الحرم. وعلى الثاني: ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشد عليه من أن يقتل محقاً. قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فان قتلوكم) ، بحذف الألف فيهن. وقد اتفق الكل على قوله: فَاقْتُلُوهُمْ، فاحتجّ من قرأ بالألف بقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، واحتج من حذف الألف بقوله: فَاقْتُلُوهُمْ. فصل: واختلف العلماء في قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، هل هو منسوخ أم لا؟ فذهب مجاهد في جماعة من الفقهاء إلى أنه محكم وأنه لا يقاتل فيه إلا من قاتل. (77) ويدل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه خطب يوم فتح مكة، فقال: «يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والارض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي. وإنما أُحلت لي ساعةً من نهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة» . فبين صلّى الله عليه وسلّم أنه خص في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التخصيص، لا على وجه النسخ، فثبت بذلك حظر القتال في الحرم، إلا أن يقاتلوا فيدفعون دفعا، وهذا أمر مستمر الحكم غير منسوخ، وقد ذهب قتادة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، فأمر بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال. وذهب الربيع بن أنس، وابن زيد، إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وزعم مقاتل إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. والقول الأول أصح. قوله تعالى: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، قال مقاتل: أي: فقاتلوهم. [سورة البقرة (2) : آية 192] فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: فإن انتهوا عن شركهم وقتالكم.

_ صحيح. أخرجه البخاري 1120 و 2434 و 6880 ومسلم 1355 و 448 وأبو داود 2017 و 4505 والترمذي 1405 و 2667 والبيهقي 8/ 53 وقال الترمذي: حسن صحيح وابن ماجة مختصرا 2624 وابن حبان 3715 وأحمد مطولا ومفرقا 2/ 238 والبيهقي في «السنن» 8/ 52 من طرق عن أبي هريرة.

[سورة البقرة (2) : آية 193]

والثاني: عن كفرهم. والثالث: عن قتالكم دون كفرهم، فعلى القولين الأولين تكون الآية محكمة، ويكون معنى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لشركهم وجرمهم، وعلى القول الأخير يكون في معنى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ قولان: أحدهما: غفور لكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم. والثاني: أن معناه: يأمركم بالغفران والرحمة لهم. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية السّيف. [سورة البقرة (2) : آية 193] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ. قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين: الفتنة هاهنا: الشرك. قوله تعالى: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، قال ابن عباس: أي يخلص له التوحيد. والعدوان: الظلم، وأُريد به هاهنا الجزاء، فسمي الجزاء عدواناً مقابلة للشيء بمثله، كقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، والظالمون هاهنا المشركون، قاله عكرمة وقتادة في آخرين. فصل: وقد روي عن جماعة من المفسرين، منهم قتادة، أن قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، منسوخ بآية السيف، وإنما يستقيم هذا إذا قلنا: إن معنى الكلام: فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم، فأما إذا قلنا: إن معناه: فإن انتهوا عن دينهم فالآية محكمة. [سورة البقرة (2) : آية 194] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ هذه الآية نزلت على سبب واختلفوا فيه على قولين: (78) أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقبل هو وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي، فصدهم المشركون، فصالحهم نبي الله على أن يرجع عنهم ثم يعود في العام المقبل، فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلها بسلاح، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فلما كان العام المقبل أقبل هو وأصحابه فدخولها، فافتخر المشركون عليه إذ ردوه يوم الحديبية، فأقصه الله منهم وأدخله مكة في الشهر الذي ردوه فيه، فقال: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وقتادة في آخرين. (79) والثاني: أن مشركي العرب قالوا للنبي عليه السلام: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: «نعم» ، وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام، فيقاتلوه فيه، فنزلت هذه الآية، يقول: إن استحلّوا منكم شيئاً في الشهر الحرام، فاستحلوا منهم مثله، هذا قول الحسن، واختاره إبراهيم بن السّريّ الزجّاج.

_ حسن صحيح بشواهده. أخرجه الطبري 3139 عن قتادة مرسلا. وكرره 3140 من مرسل قتادة ومقسم، وبرقم 3137 من مرسل مجاهد و 3141 من مرسل السدي، وبرقم 3143 من مرسل الربيع بن أنس وبرقم 3144 عن ابن عباس، لكن إسناده واه، فيه مجاهيل. الخلاصة: رووه بألفاظ متقاربة والمعنى واحد، فالخبر حسن بشواهده. عزاه المصنف للحسن، ولم أقف على إسناده، وهو مرسل، بكل حال، ومراسيل الحسن واهية، والخبر المتقدم هو المحفوظ في هذا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 195 إلى 196]

وأما أرباب القول الأول فيقولون: معنى الآية: الشهر الحرام الذي دخلتم فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه عام أول. وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: اقتصصت لكم منهم في ذي القعدة كما صدوكم في ذي القعدة. وقال الزجاج: الشهر الحرام، أي: قتال الشهر الحرام بالشهر الحرام، فأعلم الله عزّ وجلّ أن أمر هذه الحرمات لا تجوز للمسلمين إلا قصاصاً، ثم نسخ ذلك بآية السيف، وقيل: إنما جمع الحرمات، لأنه أراد الشهر الحرام بالبلد الحرام، وحرمة الإحرام. قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، قال ابن عباس: من قاتلكم في الحرم فقاتلوه. وإنما سمى المقابلة على الاعتداء اعتداءً، لأن صورة الفعلين واحدة، وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية. قال الزجاج: والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته، أي: جازيته بظلمه. وجهل فلان عليَّ، فجهلت عليه. وقد سبق بيان هذا المعنى في أول السورة. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ، قال سعيد بن جبير: واتقوا الله ولا تبدأوهم بقتال في الحرم. [سورة البقرة (2) : الآيات 195 الى 196] وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. هذه الآية نزلت على سبب، وفيه قولان: (80) أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما أمر بالتجهز إلى مكة، قال ناسٌ من الأعراب: يا رسول الله! بماذا نتجهز؟ فو الله ما لنا زاد ولا مال! فنزلت، قاله ابن عباس.

_ والثاني: أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدّقون، فأصابهم سنة، فأمسكوا فنزلت، قاله أبو جبيرة بن الضحاك. والسبيل في اللغة: الطريق. وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين. والتهلكة: بمعنى الهلاك، يقال: هلك الرجل يهلك هلاكاً وهُلكاً وتهلكة. قال المبرد: وأراد بالأيدي: الأنفس فعبر بالبعض عن الكل. وفي المراد بالتهلكة هاهنا أربعة أقوال: (80) لم أقف عليه بعد البحث، ولم يذكره سوى المصنف والقرطبي 2/ 360، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد. - وانظر ما بعده. صحيح. أخرجه أبو يعلى كما في «إتحاف المهرة» 6345 وابن حبان 5709 والطبراني 22/ 390 والواحدي في «الأسباب» 105 من طريق هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبيرة به. كذا وقع عندهم سوى الطبراني قال: أبو جبيرة بن الضحاك. وهذا هو الصواب. ورجال إسناده رجال البخاري ومسلم سوى حمّاد فقد تفرد عنه مسلم. وصحابية مختلف في صحبته. قال البوصيري في «الإتحاف» : رجال أبي يعلى ثقات. وقال الهيثمي في «المجمع» 6/ 317: رجاله رجال الصحيح.

أحدها: أنها ترك النفقة في سبيل الله، قاله حذيفة، وابن عباس، والحسن، وابن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثاني: أنها القعود عن الغزو شغلاً بالمال، قاله أبو أيوب الأنصاري. والثالث: أنها القنوط من رحمة الله، قاله البراء، والنعمان بن بشير، وعبيدة. والرابع: أنها عذاب الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس «1» . قوله تعالى: وَأَحْسِنُوا، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: أحسنوا الإنفاق، وهو قول أصحاب القول الأول. والثاني: أحسنوا الظن بالله، قاله عكرمة، وسفيان، وهو يخرّج على قول من قال: التهلكة: القنوط. والثالث: أن معناه: أدوا الفرائض، رواه سفيان عن أبي إسحاق. قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، قال ابن فارس: الحج في اللغة: القصد، والاعتمار في الحج أصله: الزيارة. قال ثعلب: الحج بفتح الحاء: المصدر، وبكسرها: الاسم. قال: وربما قال الفراء: هما لغتان. وذكر ابن الأنباري في العمرة قولين: أحدهما: الزيارة. والثاني: القصد. وفي إتمامها أربعة أقوال: أحدها: أن معنى إتمامها: أن يفصل بينهما، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج، قاله عمر بن الخطاب، والحسن وعطاء. والثاني: أن يحرم الرجل من دويرة أهله، قاله علي بن أبي طالب، وطاوس، وابن جبير. والثالث: أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتم، قاله ابن عباس. والرابع: أنه فعل ما أمر الله فيهما، قاله مجاهد. وجمهور القراء على نصب «العمرة» بايقاع الفعل عليها. وقرأ الأصمعي عن نافع والقزاز عن أبي عمرو والكسائي عن أبي جعفر برفعها، وهي قراءة ابن مسعود وأبي رزين والحسن والشّعبيّ.

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 360 بعد أن ذكر الأقوال المتقدمة: وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأدّاهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس. فهذه خمسة أقوال. و «سبيل الله» هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. وقيل: لا تأخذوا فيما يهلككم قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم وهلكتم وقيل إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ويقال لا تنفقوا من حرام فيردّ عليكم فتهلكوا ونحوه عن عكرمة وقال الطبري: قوله «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه إذ اللفظ يحتمله. واختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده فقال القاسم بن مخيمرة: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنيّة خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إن خلصت الشهادة وخلصت النية فليحمل لأن مقصوده واحد منهم. وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن غلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل- هو البراء بن مالك أخو أنس بن مالك كما في تاريخ الطبري- من المسلمين: ضعوني في الحجفة وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب. ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: «فلك الجنة» فانغمس في العدو حتى قتل.

وممن ذهب إلى أن العمرة واجبة، عليّ، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأحمد، والشافعي. وروي عن ابن مسعود، وجابر، والشعبي، وإبراهيم، وأبي حنيفة، ومالك، أنها سنة وتطوع «1» . قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ، قال ابن قتيبة: أحصره المرض والعدو: إذا منعه من السفر، ومنه هذه الآية. وحصره العدو: إذا ضيق عليه. قال الزجّاج: يقال للرجل إذا منعه الخوف والمرض من التّصرّف قد أحصر فهو محصر. يقال للرجل إذا حبس: قد حصر، فهو محصور. وللعلماء في هذا الإحصار قولان: أحدهما: أنه لا يكون إلا بالعدو، ولا يكون المريض محصراً. وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأنس، ومالك، والليث، والشافعي، وأحمد. ويدل عليه قوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ. والثاني: أنه يكون بكل حابس من مرض أو عدو أو عذر، وهو قول عطاء، ومجاهد، وقتادة، وأبي حنيفة. وفي الكلام اختصار وحذف، والمعنى: فإن أُحصرتم دون تمام الحج والعمرة فحللتم فعليكم ما استيسر من الهدي. ومثله: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ، تقديره: فحلق، ففدية. والهدي: ما أهدي إلى البيت. وأصله: هديّ مشدد، فخفف، قاله ابن قتيبة. وبالتشديد يقرأ الحسن ومجاهد. وفي المراد فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شاة، قاله عليّ بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعطاء وابن جبير وإبراهيم وقتادة والضحّاك ومغيرة. والثاني: أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير، قاله ابن عمر وعائشة، والقاسم. والثالث: أنه على قدر الميسرة، رواه طاوس عن ابن عباس، وروي عن الحسن وقتادة قالا: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة. وقال أحمد: الهدي من الأصناف الثلاثة، الإبل والبقر، والغنم، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ رحمهم الله. قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، قال ابن قتيبة: المحل: الموضع الذي يحل به نحره وهو من: حل يحل. وفي المحل قولان: أحدهما: أنه الحرم، قاله ابن مسعود، والحسن، وعطاء، وطاوس،

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 366: في هذه الآية دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين. وقال الثوري سمعنا أنها واجبة. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت» أخرجه الدارقطني وكان مالك يقول: «العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها» . وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج وبأنها سنة ثابتة قاله ابن مسعود وجابر بن عبد الله. فعن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة والزكاة والحج. أواجب هو؟ قال: «نعم» فسأله عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمر خير لك» رواه يحيى بن أيوب عن حجاج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر. أخرجه الدارقطني فهذه حجة من لم يوجبها من السنة. قالوا: وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب، لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وابتدأ بإيجاب الحج فقال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء والله أعلم. واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال: عماد الحج الوقوف بعرفة وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنّة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها.

ومجاهد، وابن سيرين، والثوري، وأبو حنيفة. والثاني: أنه الموضع الذي أُحصر به فيذبحه ويحل، قاله مالك، والشافعي، وأحمد «1» . قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ، هذا نزل على سبب: (82) وهو أن كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه، فنزلت هذه الآية فيه، فكان يقول: فيّ أنزلت خاصّة.

_ صحيح. أخرجه البخاري 1815 مع اختلاف يسير فيه، وانظر ما بعده.

فصل: قال شيخنا علي بن عبيد الله: اقتضى قوله: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، تحريم حلاق الشعر، سواء وجد به الأذى، أو لم يجد، حتى نزل فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ، فاقتضى هذا إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية، فصار ناسخاً لتحريمه المتقدم. ومعنى الآية: فمن كان منكم- أي: من المحرمين، محصراً كان أو غير محصر- مريضاً، واحتاج إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام، ففعله، أو به أذىً من رأسه فحلق ففدية من صيام. وفي الصيام قولان: (83) أحدهما: أنه ثلاثة أيام، روي في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه صيام عشرة أيام، روي عن الحسن وعكرمة ونافع. وفي الصّدقة قولان: أحدهما: إطعام ستة مساكين، روي في حديث كعب، وهو قول من قال: الصوم ثلاثة أيام. والثاني: أنها إطعام عشرة مساكين، وهو قول من أوجب صوم عشرة أيام. والنسك: ذبح شاة، يقال: نسكت لله، أي: ذبحت له. وفي النسك لغتان: ضم النون والسين، وبها قرأ الجمهور، وضم النون مع تسكين السين، وهي قراءة الحسن. قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ، أي: من العدو، إذ المرض لا تؤمن معاودته، وقال علقمة في آخرين: فاذا أمنتم من الخوف أو المرض. فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، معناه: من بدأ بالعمرة في أشهر الحج، وأقام الحج من عامه ذلك فعليه ما استيسر من الهدي. وهذا قول ابن عمر وابن عباس، وابن المسيب، وعطاء، والضحاك. وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، قال الحسن: هي قبل التّروية بيوم والتّروية، وعرفة، وهذا قول عطاء، والشعبي، وأبي العالية، وابن جبير، وطاوس، وإبراهيم. وقد نقل عن عليّ عليه السّلام. وقد روي عن الحسن، وعطاء قالا: في أيّ العشر شاء صامهنّ. ونقل عن طاوس، ومجاهد، وعطاء، أنهم قالوا: في أي أشهر الحج شاء فليصمهن. ونقل عن ابن عمر أنه قال: من حين يحرم إلى يوم عرفة. فصل: فإن لم يجد الهدي، ولم يصم الثلاثة الأيام قبل يوم النحر، فماذا يصنع؟ قال عمر بن الخطّاب، وابن عباس، وابن جبير، وطاوس، وإبراهيم: لا يجزيه إلا الهدي ولا يصوم. وقال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام منى. ورواه صالح عن أحمد، وهو قول مالك. وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم أيام التشريق، بل يصوم بعدهن. روي عن عليّ. ورواه المرّوذي عن أحمد، وهو قول الشّافعيّ «1» .

_ صحيح. أخرجه البخاري 1814 ومسلم 1201 وأبو داود 1856 و 1857 والترمذي 2973 والنسائي 5/ 195 والطيالسي 1062 وأحمد 4/ 241 و 242 كلهم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال له: «لعلك آذاك هو أمك؟» قال: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك بشاة» . رووه بألفاظ متقاربة، واللفظ للبخاري.

فصل: فان وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة الأيام، لم يلزمه الخروج منه، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه الخروج، وعليه الهدي. وقال عطاء: إن صام يومين ثم أيسر فعليه الهدي. وإن صام ثلاثة ثم أيسر، فليصم السبعة، ولا هدي عليه «1» . وفي معنى قوله: فِي الْحَجِّ، قولان: أحدهما: أن معناه: في أشهر الحج. والثاني: في زمن الإحرام بالحج. وفي قوله تعالى: وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، قولان: أحدهما: إذا رجعتم إلى أمصاركم، قاله ابن عباس، والحسن، وأبو العالية، والشعبي، وقتادة. والثاني: إذا رجعتم من حجكم، وهو قول عطاء، وسعيد بن جبير، وأبي حنيفة، ومالك. قال الأثرم: قلت لأبي عبيد الله، يعني: أحمد بن حنبل: فصيام السّبعة الأيام إذا رجع متى يصومهن؟ أفي الطريق، أم في أهله؟ قال: كل ذلك قد تأوله الناس. قيل لأبي عبد الله: ففرّق بينهن، فرخص في ذلك «2» . قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، فيه خمسة أقوال: أحدها: أن معناه: كاملة في قيامها مقام الهدي، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، والحسن. قال القاضي أبو يعلى: وقد كان يجوز أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب، فأعلمنا الله تعالى أنّ العشرة بكمالها هي

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 396: وأجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل إكماله صومه فذكر ابن وهب عن مالك قال: إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحبّ إليّ أن يهدي، فإن لم يفعل أجزأه الصيام. وقال الشافعي: يمضي في صومه وهو فرضه، وكذلك قال أبو ثور وهو قول الحسن وقتادة، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة: إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل صومه ووجب عليه الهدي وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدي، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد. (2) قال القرطبي رحمه الله 2/ 398: قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ يعني إلى بلادكم، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء، وقاله مالك في كتاب محمد، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، فلا يجب على أحد صوم السبعة إلّا إذا وصل وطنه، إلّا أن يتشدّد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد: إن شاء صامها في الطريق، إنما هي رخصة، وكذلك قال عكرمة والحسن وقال مالك في الكتاب: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم قال ابن العربي: «إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرّخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص، ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وأنها المراد في الأغلب» . قلت: بل فيه ظاهر يقرب إلى النص يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال: تمتاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع بعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتاع الناس مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة قال للناس: (من كان منكم أهدى فإنه لا يحلّ من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصّر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) ، الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلّا في أهله وبلده والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 197]

القائمة مقامه. والثاني: أن الواو قد تقوم مقام «أو» في مواضع، منها قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، فأزال الله عزّ وجلّ احتمال التخيير في هذه الآية بقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثالث: أن ذلك للتوكيد. وأنشدوا للفرزدق: ثلاث واثنتان فهنّ خمس ... وسادسة تميل إلى شمام «1» وقال آخر: هلّا سألت جوع كندة يوم ولوا أين أينا وقال آخر: كم نعمة كانت له كم كم وكم والقرآن نزل بلغة العرب، وهي تكرر الشيء لتوكيده. والرابع: أن معناه: تلك عشرة كاملة في الفصل، وإن كانت الثلاثة في الحج، والسبعة بعده، لئلا يسبق إلى وهم أحد أن السبعة دون الثلاثة، قاله أبو سليمان الدمشقي. والخامس: أنها لفظة خبر ومعناها: الأمر، فتقديره: تلك عشرة فأكملوها. قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، في المشار إِليه بذلك قولان: أحدهما: أنه التمتع بالعمرة إلى الحج. والثاني: أنه الجزاء بالنسك والصيام. واللام من «لمن» في هذا القول بمعنى: «على» . فأمّا حاضرو المسجد الحرام فقال ابن عباس، وطاوس، ومجاهد: هم أهل الحرم. وقال عطاء: من كان منزله دون المواقيت. قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: إن هذا الفرض لمن كان من الغرباء، وإنما ذكر أهله، وهو المراد بالحضور، لأن الغالب على الرجل أن يسكن حيث أهله ساكنون. [سورة البقرة (2) : آية 197] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ. في الحج لغتان: فتح الحاء، وهي لأهل الحجاز، وبها قرأ الجمهور. وكسرها، وهي لتميم، وقيل: لأهل نجد، وبها قرأ الحسن. قال سيبويه: يقال: حج حجاً، كقولهم: ذكر ذكراً. وقالوا: حجة، يريدون: عمل سنة. قال الفراء: المعنى: وقت الحج هذه الأشهر. وقال الزجاج: معناه: أشهر الحج أشهر معلومات. وفي أشهر الحج قولان: أحدهما: أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قاله ابن مسعود، وابن عمر وابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، والشّعبيّ، وطاوس، والنخعي، وقتادة، ومكحول، والضحاك، والسدي، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، والشّافعيّ، رضي الله عنهم. والثاني: أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة، وهو مروي عن ابن عمر أيضاً، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والزهري، والربيع، ومالك بن أنس. قال ابن جرير الطبري: إنما أراد هؤلاء أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إنما هي للحج، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى، وقد

_ (1) في «اللسان» : الشّمم: القرب، والدّنو.

كانوا يستحبون أن يفعلوا العمرة في غيرها. قال ابن سيرين: ما أحد من أهل العلم شك في أن عمرةً في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج، وإنما قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ ، وهي شهران وبعض الآخر على عادة العرب. قال الفراء: تقول العرب: له اليوم يومان لم أره، وإنما هو يوم، وبعض آخر. وتقول: زرتك العام، وأتيتك اليوم، وإنما وقع الفعل في ساعة. وذكر ابن الأنباري في هذا قولين: أحدهما: أن العرب توقع الجمع على التثنية، إذا كانت التّثنية أقلّ الجمع. كقوله تعالى: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ «1» ، وإنما يريد عائشة وصفوان، وكذلك قوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «2» ، يريد: داود وسليمان. والثاني: أن العرب توقع الوقت الطويل على الوقت القصير، فيقولون: قتل ابن الزبير أيام الحج، وإنما كان القتل في أقصر وقت. فصل: اختلف العلماء فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحجّ، فقال عطاء، وطاوس ومجاهد، والشافعي: لا يجزئه ذلك، وجعلوا فائدة قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أنه لا ينعقد الحج إلا فيهن. وقال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل: يصح الإحرام بالحج قبل أشهر «3» ، فعلى هذا يكون قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، أي: معظم الحج يقع في هذه الأشهر. (84) كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة» . قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ، قال ابن مسعود: هو الإهلال بالحج والإحرام به. وقال طاوس وعطاء: هو أن يلبي. وروي عن علي وابن عمر ومجاهد والشعبي في آخرين: أنه إذا قلّد بدنته فقد أحرم، وهذا محمول على أنه قلّدها ناويا الحجّ. ونصّ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في رواية الأثرم: أن الإحرام بالنية. قيل له: يكون محرماً بغير تلبية؟ قال: نعم إذا عزم على الإحرام، وهذا قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الدخول في الإحرام إلا بالتلبية أو تقليد الهدي وسوقه. قوله تعالى: فَلا رَفَثَ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: «فلا رفثٌ ولا فسوقٌ» بالضم والتنوين. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير تنوين، ولم يرفع أحد منهم لام «جدال» إلا أبو جعفر. قال أبو علي: حجة من فتح أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود، لأنه بالفتح قد نفى جميع الرفث والفسوق، كقوله: لا رَيْبَ فِيهِ، فاذا رفع ونون، كان النفي لواحد منه، وإنما فتحوا لام (الجدال) ، ليتناول النفي جميع جنسه، فكذلك ينبغي أن يكون جمع الاسمين قبله. وحجة من رفع أنه قد علم من فحوى الكلام نفي جميع الرفث، وقد يكون اللفظ واحداً والمراد بالمعنى الجميع، قال الشاعر:

_ جيد. أخرجه أبو داود 1949 والترمذي 989 والنسائي 5/ 256 وابن ماجة 3015 والدارمي 1827 والطيالسي 1309 وأحمد 4/ 309- 335 والحاكم 1/ 464 والبيهقي 5/ 116 وإسناده جيد وصححه الحاكم، وأقره الذهبي. وقال الترمذي قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه الثوري.

[سورة البقرة (2) : الآيات 198 إلى 199]

فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم وفي الرفث ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الجماع، قاله ابن عمر، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة في آخرين. والثاني: أنه الجماع، وما دونه من التعريض به، وهو مروي عن ابن عمر أيضاً، وابن عباس، وعمرو بن دينار في آخرين. والثالث: أنه اللغو من الكلام، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي. وفي الفسوق ثلاثة أقوال: أحدها: أنه السباب، قاله ابن عمر، وابن عباس، وإبراهيم في آخرين. والثاني: أنه التنابز بالألقاب، مثل أن تقول لأخيك: يا فاسق، يا ظالم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه المعاصي، قاله الحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وقتادة في آخرين، وهو الذي نختاره، لأن المعاصي تشمل الكل، ولأن الفاسق: الخارج من الطاعة إلى المعصية. قوله تعالى: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ، الجدال: المراء. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أن معناه: لا يمارينَّ أحد أحداً، فيخرجه المراء إلى الغضب، وفعل ما لا يليق بالحج، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عمر، وابن عباس، وطاوس، وعطاء، وعكرمة، والنخعي، وقتادة، والزهري، والضحاك في آخرين. والثاني: أن معناه: لا شك في الحج ولا مراء، فانه قد استقام أمره وعرف وقته وزال النسيء عنه. (85) قال مجاهد: كانوا يحجون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسنة، ثم حجّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من قابل في ذي الحجة، فذلك حين قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض» ، وإلى هذا المعنى ذهب السدي عن أشياخه، والقاسم بن محمد. قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. (86) قال ابن عباس: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، قال الزجاج: أُمروا أن يتزودوا، وأعلموا أن خير ما تزوّد تقوى الله عزّ وجلّ. [سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 199] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. قال ابن عباس: (87) كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم، ويقولون: أيام ذكر فنزلت هذه الآية.

_ أخرجه الطبري 3718 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف، والمرفوع منه صحيح، أخرجه البخاري 3197 ومسلم 1679 وأبو داود 1947 وابن حبان 5975 و 3848 من حديث أبي بكرة. وسيأتي. صحيح. أخرجه البخاري 1523 وأبو داود 1730 والنسائي في «الكبرى» 11033 و «التفسير» 53 والواحدي في «الأسباب» 113 من حديث ابن عباس. حسن. أخرجه الطبري 3787 من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس به، وإسناده غير قوي لأجل يزيد. وأخرجه أبو داود 1731 بهذا الإسناد مع اختلاف يسير فيه. وأخرجه الطبري 3786 بإسناد ضعيف عن ابن عباس نحوه. وأصله عند البخاري 4519 والطبري 3794.

والابتغاء: الالتماس. والفضل هاهنا: النّفع بالتجارة والكسب قال ابن قتيبة: أفضتم، بمعنى: دفعتم، وقال الزجاج: معناه: دفعتم بكثرة، يقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه، وأكثروا التصرف. وفي تسمية «عرفات» قولان: أحدهما: أن الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفات قال: قد عرفت، فسمّيت «عرفة» ، قاله عليّ عليه السّلام «1» . والثاني: أنها سميت بذلك لاجتماع آدم وحواء، وتعارفهما بها، قاله الضحاك «2» . قال الزجاج والمشعر: المعلم، سمي بذلك لأن الصلاة عنده. والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحج، وهو مزدلفة وهي جمع يسمى بالاسمين. قال ابن عمر ومجاهد: المشعر الحرام المزدلفة كلها. قوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ، أي: جزاء هدايته لكم، فان قيل: ما فائدة تكرير الذكر؟ قيل: فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه كرره للمبالغة في الأمر به. والثاني: أنه وصل بالذكر الثاني ما لم يصل بالذكر الأول، فحسن تكريره. فالمعنى: اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته. والثالث: أنه كرره ليدل على مواصلته، والمعنى: اذكروه ذكراً بعد ذكر، ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم النحوي. والرابع: أن الذكر في قوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ، هو: صلاة المغرب والعشاء اللتان يجمع بينهما بالمزدلفة. والذكر في قوله: كَما هَداكُمْ هو: الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع، حكاه القاضي أبو يعلى. قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ، في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: أنها ترجع إلى الهدى، قاله مقاتل، والزجاج. والثالث: أنها ترجع إلى القرآن، قاله سفيان الثوري. قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ. قالت عائشة: (88) كانت قريش ومن يدين بدينها، وهم الحمس، يقفون عشيّة عرفة بالمزدلفة، يقولون: نحن قطين البيت، وكان بقية العرب والناس يقفون بعرفات، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: سموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا. والحماسة: الشدة في كل شيء. وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال «3» : أحدها: أنهم جميع العرب غير الحمس، ويدل عليه حديث عائشة، وهو قول عروة، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أن المراد بالناس هاهنا: إبراهيم الخليل،

_ صحيح بهذا السياق. أخرجه الترمذي 884 من حديث عائشة وقال: حسن صحيح، وهو كما قال. - وأصله صحيح، أخرجه البخاري 4520 ومسلم 1219 وابن حبان 3856 وأبو داود 1910 والنسائي 5/ 254 من حديث عائشة. وله شواهد كثيرة أوردها الطبري 3835- 3843.

[سورة البقرة (2) : الآيات 200 إلى 203]

عليه السلام، قاله الضحاك بن مزاحم. والثالث: أن المراد بالناس آدم، قاله الزهري. وقد قرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، ومورَّق العجلي: «الناسي» باثبات الياء. والرابع: أنهم أهل اليمن وربيعة، فانهم كانوا يفيضون من عرفات، قاله مقاتل. وفي المخاطبين بذلك قولان: أحدهما: أنه خطاب لقريش، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه خطاب لجميع المسلمين، وهو يخرج على قول من قال: الناس آدم، أو إبراهيم. والإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ: هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر، إلا أن جمهور المفسرين على أنها الإفاضة من عرفات، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك، كيف يقال: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، ثم أفيضوا من عرفات؟! غير أني أقول: وجه الكلام على ما قال أهل التفسير: أن فيه تقديماً وتأخيراً، تقديره: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله. و «الغفور» : من أسماء الله، عزّ وجلّ، وهو من قولك: غفرت الشيء: إذا غطيته، فكأنّ الغفور الساتر لعبده برحمته، أو الساتر لذنوب عباده. والغفور: هو الذي يكثر المغفرة، لأن بناء المفعول للمبالغة من الكثرة، كقولك: صبور، وضروب، وأكول. [سورة البقرة (2) : الآيات 200 الى 203] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ. في سبب نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أن أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم، ذكروا أفعال آبائهم وأيامهم وأنسابهم في الجاهلية، فتفاخروا بذلك فنزلت هذه الآية «1» . وهذا المعنى مرويّ عن الحسن، وعطاء، ومجاهد. والثاني: أن العرب كانوا إذا حدثوا أو تكلموا يقولون: وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا فنزلت هذه الآية. وهذا مروي عن الحسن أيضاً «2» . والثالث: أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم، قام الرجل بمنى، فقال: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ذلك، فلا يذكر الله، إنما يذكر أباه ويسأل أن يعطى في دنياه فنزلت هذه الآية، وهذا قول السّدّي «3» .

_ (1) أخرجه الطبري 3854 و 3855 و 3856 و 3857 عن مجاهد مرسلا، وكرره 3858 و 3859 عن قتادة مرسلا، وكرره 3860 عن سعيد بن جبير وعكرمة، وأخرجه برقم 3892 عن أبي وائل. - الخلاصة: هذه المراسيل تتأيد بمجموعها، فهذا أرجح الأقوال في تفسير الآية. (2) عزاه المصنف للحسن، ولم أقف عليه مسندا، وإنما ذكره الواحدي عنه في «الأسباب» 120 بدون إسناد، ومراسيل الحسن واهية، وهذا قول منكر. (3) أخرجه الطبري 3869 عن السدي مرسلا، ويشهد لبعضه القول الأول، وبعضه غريب.

والمناسك: المتعبدات، وفي المراد بها هاهنا قولان: أحدهما: أنها أفعال الحج، قاله الحسن. والثاني: أنها إراقة الدّماء، قاله مجاهد. وفي ذكرهم آباءهم أربعة أقوال: أحدها: أنه إقرارهم بهم. والثاني: أنه حلفهم بهم. والثالث: أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم، فانهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان الله إليهم. والرابع: أنه ذكر الأطفال الآباء، لأنهم أول نطقهم بذكر آبائهم، روي هذا المعنى عن عطاء، والضحاك. وفي «أو» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «بل» . والثاني: بمعنى الواو. و «الخلاق» قد تقدم ذكره. وفي حسنة الدنيا سبعة أقوال: أحدها: أنها المرأة الصالحة، قاله عليّ عليه السّلام. والثاني: أنها العبادة، رواه سفيان بن حسين عن الحسن. والثالث: أنها العلم والعبادة، رواه هشام عن الحسن. والرابع: المال، قاله أبو وائل، والسدي، وابن زيد. والخامس: العافية، قاله قتادة. والسادس: الرزق الواسع، قاله مقاتل. والسابع: النعمة، قاله ابن قتيبة. وفي حسنة الآخرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحور العين، قاله عليّ عليه السلام. والثاني: الجنة، قاله الحسن، والسدي، ومقاتل. والثالث: العفو والمعافاة، روي عن الحسن، والثوري. قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا، قال الزجاج: معناه: دعاؤهم مستجاب، لأن كسبهم هاهنا هو الدعاء، وهذه الآية متعلقه بما قبلها، إلا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب أخواتها. (89) فروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال: «لو كان على أبيك دين قضيته، أفكان ذلك يجزئ عنه؟» قال: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يقضى» ! قال: فهل لي من أجر؟ فنزلت هذه الآية. وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال: أحدها: أنه قِلَّته، قاله ابن عباس. والثاني: أنه قرب مجيئه، قاله مقاتل. والثالث: أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه، كان سريع الحساب لذلك. والرابع: أن المعنى: والله سريع المجازاة، ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج. والخامس: أنه لا يحتاج إلى فكر وروية كالعاجزين، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ في هذا الذكر قولان: أحدهما: أنه التكبير عند الجمرات، وأدبار الصّلوات، وغير ذلك من أوقات الحجّ.

_ متن صحيح دون ذكر نزول الآية، فإنه باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، ولم أره في شيء من كتب الحديث والأثر والتفسير، والضحاك لم يلق ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، فقد روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا ليس له أصل. - والحديث دون ذكر نزول الآية: أخرجه النسائي 5/ 118 وفي «الكبرى» 3618 والبيهقي 4/ 329 وابن حبان 3990 والدارقطني 2/ 260 بألفاظ متقاربة وليس فيه «فنزلت هذه الآية» . وأخرجه البخاري 1513 و 1855 ومسلم 1334 وأبو داود 1809 والترمذي 928 والنسائي 5/ 118 و 119 و 8/ 228 وابن ماجة 2909 وابن حبان 2990 والشافعي 1/ 993 ومالك 1/ 359 وأحمد 1/ 346 و 359 من حديث ابن عباس لكن السائل هو امرأة. الخلاصة: الحديث صحيح دون ذكر نزول الآية، فإنه باطل.

والثاني: أنه التكبير عقيب الصلوات المفروضات. واختلف أرباب هذا القول في الوقت الذي يبتدئ فيه بالتكبير ويقطع على ستة أقوال: أحدها: أنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى ما بعد صلاة العصر من آخر أيام التّشريق، قاله عليّ عليه السلام، وأبو يوسف، ومحمد. والثاني: أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود، وأبو حنيفة. والثالث: من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد العصر من آخر يوم التشريق، قاله ابن عمر، وزيد بن ثابت وابن عباس، وعطاء. والرابع: أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الظهر من يوم النفر، وهو الثاني من أيام التشريق، قاله الحسن. والخامس: أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك بن أنس، وهو أحد قولي الشافعي. والسادس: أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، هذا قول للشافعي، ومذهب إمامنا أحمد أنه إن كان محلاً، كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة أولها الفجر يوم عرفة، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق، وإن كان محرماً كبر عقيب سبعة عشر أولها الظهر من يوم النحر، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق. وهل يختص هذا التكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: يختص بمن صلاها في جماعة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. والثانية: يختص بالفريضة، وإن صلاها وحده، وهو قول الشافعي «1» . وفي الأيام المعدودات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أيام التشريق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وقتادة في آخرين. والثاني: أنها يوم النحر ويومان بعده، روي عن علي، وابن عمر. والثالث: أنها أيام العشر، قاله سعيد بن جبير، والنخعي. قال الزجاج: و «معدودات» يستعمل كثيراً للشيء القليل، كما يقال: دريهمات وحمامات. قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، أي: فمن تعجل النفر الأول في اليوم الثاني من أيام منى، فلا إثم عليه، ومن تأخر إلى النفر الثاني، وهو اليوم الثالث من أيام منى، فلا إثم عليه. فان قيل: إنما يخاف الإثم المتعجل، فما بال المتأخر ألحق به، والذي أتى به أفضل؟! فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن المعنى: لا إثم على المتعجل، والمتأخر مأجور، فقال: لا إثم عليه، لتوافق اللفظة الثانية الأولى كقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. والثاني: أن المعنى: فلا إثم على المتأخر في ترك استعمال الرخصة. والثالث: أن المعنى: قد زالت آثام المتعجل والمتأخّر التي كانت عليهما قبل حجهما. والرابع: أن المعنى: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر إنما يكون بشرط التقوى. وفي معنى «لمن اتقى» ثلاثة أقوال: أحدها: لمن اتقى قتل الصيد، قاله ابن عباس. والثاني: لمن اتقى المعاصي في حجه، قاله قتادة. وقال ابن مسعود: إنما مغفرة الله لمن اتقى الله في حجه. والثالث: لمن اتقى فيما بقي من عمره، قاله أبو العالية، وإبراهيم.

_ (1) تقدّم التعليق على هذا البحث عند الآية 185.

[سورة البقرة (2) : آية 204]

[سورة البقرة (2) : آية 204] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، كان لين الكلام، كافر القلب، يظهر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحسن، ويحلف له أنه يحبه ويتبعه على دينه، وهو يضمر غير ذلك «1» ، هذا قول ابن عباس، والسّدّيّ ومقاتل. والثاني: أنّها فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه. وهذا قول الحسن، وقتادة، وابن زيد. (90) والثالث: أنها نزلت في سرية الرجيع، وذلك أنّ كفّار قريش بعثوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بالمدينة: إنا قد أسلمنا، فابعث لنا نفرا من أصحابك يعلّمونا ديننا، فبعث صلّى الله عليه وسلّم خبيب بن عدي، ومرثداً الغنوي، وخالد بن بكير، وعبد الله بن طارق، وزيد بن الدِثنَة، وأمرَّ عليهم عاصم بن ثابت، فساروا نحو مكة، فنزلوا بين مكة والمدينة ومعهم تمر، فأكلوا منه، فمرت عجوز فأبصرت النوى، فرجعت إلى قومها وقالت: قد سلك هذا الطريق أهل يثرب، فركب سبعون منهم حتى أحاطوا بهم، فحاربوهم فقتلوا مرثداً، وخالداً، وابن طارق، ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم، فقتل بكل سهم رجلاً من عظمائهم، ثم قال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار، فاحم لحمي آخر النهار، ثم أحاطوا به فقتلوه، وأرادوا حزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكان قتل بعض أهلها، فنذرت: لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر، فأرسل الله تعالى رَجْلاً من الدبر- وهي الزّنابير- فحمته، فلم يقدروا عليه، فقالوا: دعوه حتى يمسي فجاءت سحابة فأمطرت كالعزالي «2» ، فبعث الله الوادي، فاحتمله فذهب به، وأسروا خبيباً وزيداً، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيباً ليقتلوه، لأنه قتل آباءهم، فلما خرجوا به ليقتلوه، قال: دعوني أصلّي ركعتين، ثم قال: لولا أن تقولوا: جزع خبيب، لزدت، وأنشأ يقول: ولست أبالي حين أُقتل مسلماً ... على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإِله وإِن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع

_ عزاه المصنف لابن عباس، ولم أقف عليه بهذا التمام. وإنما هو منتزع من أحاديث. - أما كون الآية نزلت في سرية الرجيع فهو ضعيف. عزاه البغوي في «تفسيره» 212 لابن عباس والضحاك بدون إسناد. وأخرجه الطبري 3965 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس، فذكر عجزه، وهو «قال بعض المنافقين ... » وفيه نزول الآية. وإسناده ضعيف لجهالة شيخ ابن إسحاق. وأما قوله «أيكم يحمل خبيبا ... » وذكر الزبير والمقداد. فهذا باطل، لم أره في شيء من كتب الحديث والأثر. وأما باقي الحديث دون ما استثنيت من ألفاظ، فهو صحيح لكن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري 3045 و 3989 و 4086 و 7402 وأبو داود 2660 و 2661 والطيالسي 2597 وأحمد 2/ 294 و 295 و 310- 311 وعبد الرزاق 9730 وابن حبان 7039 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 323- 325 من طرق بألفاظ متقاربة. وانظر هذا الخبر في «السيرة النبوية» لابن هشام 3/ 134- 146 و «السيرة النبوية» لابن كثير 3/ 123- 130 و «دلائل النبوة» 3/ 324.

[سورة البقرة (2) : آية 205]

فصلبوه حياً، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس حولي من يبلغ رسولك سلامي، فجاءه رجل منهم يقال له: أبو سروعة، ومعه رمح، فوضعه بين يدي خبيب، فقال له خبيب: اتق الله، فما زاده ذلك إلا عتواً. وأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فجاءه سفيان بن حرب حين قدم ليقتله، فقال: يا زيد! أنشدك الله، أتحب أن محمداً مكانك، وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، ثم قتل. وبلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فقال: أيكم يحتمل خبيباً عن خشبته وله الجنة؟ فقال الزبير: أنا وصاحبي المقداد، فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنهار، حتى وافيا المكان، وإذا حول الخشبة أربعون مشركاً نيام نشاوى، وإذا هو رطب يتثنى لم يتغير فيه شيء بعد أربعين يوماً، فحمله الزبير على فرسه وسار، فلحقه سبعون منهم، فقذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض، وقال الزبير: ما جرأكم علينا يا معشر قريش؟! ثم رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام، وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما، فان شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا، وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عنده، فقال: «يا محمد إِن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك» . وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب: ويح هؤلاء المقتولين لا في بيوتهم قعدوا، ولا رسالة صاحبهم أدوا، فأنزل الله تعالى في الزبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية، وثلاث آيات بعدها. وهذا الحديث بطوله مروي عن ابن عباس. قوله تعالى: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ، فيه قولان: أحدهما: أنه يقول: إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي. الثاني: أنه يقول: اللهم اشهد عليّ بهذا القول. وقرأ ابن مسعود: «ويستشهد الله» بزيادة سين وتاء. وقرأ الحسن، وطلحة بن مصرف، وابن محيصن وابن أبي عبلة: «ويشهد» بفتح الياء «الله» بالرفع. قوله تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ، الخصام: جمع خصم، يقال: خصم وخصام وخصوم. قال الزجاج: والألد: الشديد الخصومة، واشتقاقه من لديدي العنق، وهما صفحتا العنق، ومعناه: أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة، غلبه في ذلك. [سورة البقرة (2) : آية 205] وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) قوله تعالى: وَإِذا تَوَلَّى، فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه بمعنى: غضب، روي عن ابن عباس، وابن جريج. والثاني: أنه الانصراف عن القول الذي قاله، قاله الحسن. والثالث: أنه من الولاية، فتقديره: إذا صار والياً، قاله مجاهد والضحاك. والرابع: أنه الانصراف بالبدن، قاله مقاتل وابن قتيبة. وفي معنى «سعى» قولان: أحدهما: أنه بمعنى: عمل، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنه من السعي بالقدم، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الفساد قولان: أحدهما: أنه الكفر. والثاني: الظلم. والحرث: الزرع. والنسل: نسل كل شيء من الحيوان، هذا قول ابن عباس وعكرمة في آخرين. وحكى الزجاج عن قوم: أن الحرث: النساء، والنسل: الأولاد. قال: وليس هذا بمنكر، لأن المرأة تسمى حرثاً. وفي معنى إهلاكه للحرث والنسل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إهلاك ذلك بالقتل والإحراق والإفساد، قاله

[سورة البقرة (2) : آية 206]

الأكثرون. والثاني: أنه إذا ظلم كان الظلم سبباً لقطع القطر، فيهلك الحرث والنسل، قاله مجاهد. وهو يخرج على قول من قال: إنه من التولي. والثالث: أنه إهلاك ذلك بالضلال الذي يؤول إلى الهلاك، حكاه بعض المفسرين. قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ، قال ابن عباس: لا يرضى بالمعاصي. وقد احتجت المعتزلة بهذه الآية، فأجاب أصحابنا بأجوبة. منها: الأول: أنه لا يحبه ديناً، ولا يريده شرعاً، فأما أنه لم يرده وجوداً فلا. والثاني: أنه لا يحبه للمؤمنين دون الكافرين. والثالث: أن الإرادة معنى غير المحبة، فان الإنسان قد يتناول المرّ، ويريد ربط الجرح، ولا يحب شيئاً من ذلك. وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة، بطل ادعاؤهم التساوي بينهما، وهذا جواب معتمد. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ «1» . [سورة البقرة (2) : آية 206] وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) قوله تعالى: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ، قال ابن عباس: هي الحمية. وأنشدوا: أخذته عزة من جهله ... فتولى مغضباً فعل الضجر ومعنى الكلام: حملته الحمية على الفعل بالإثم. وفي «جهنم» قولان، ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أنها أعجميَّة لا تجر للتعريف والعجمة. والثاني: أنها اسمٌ عربي، ولم يجر للتأنيث والتعريف. قال رؤبة: رُكَيَّة جهنّام: بعيدة القعر. وقال الأعشى: دعوت خليلي مِسْحَلاً ودعوا له ... جُهنّام جدعاً للهجين المذمّم فترك صرفه يدلُ على أنه اسم أعجمي معرّب. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: فحسبه جهنم جزاء عن إثمه. والثاني: فحسبه جهنم ذلاً من عزه. والمهاد: الفراش، ومهدت لفلان: إذا وطَّأت له، ومنه: مهد الصبي. [سورة البقرة (2) : آية 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على خمسة أقوال: أحدها: أنها نزلت في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو معنى قول عمر وعليّ عليهما السّلام. والثاني: أنها نزلت في الزبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته، وقد شرحنا القصة. وهذا قول ابن عباس والضحاك. والثالث: أنها نزلت في صهيب الرومي، واختلفوا في قصته.

_ فروي أنه أقبل مهاجراً نحو النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاتبعه نفر من قريش، فنزل، فانتثل كنانته، وقال: (91) حسن. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 3/ 171 من طرق عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب مرسلا. وإسناده ضعيف لضعف ابن زيد. وأخرجه الحاكم 3/ 400 من وجه آخر عن سعيد عن صهيب، وإسناده ضعيف لجهالة حصين بن حذيفة، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي!. وأخرجه الطبراني 7308 من وجه آخر عن صهيب، وفيه محمد بن الحسن بن زبالة، وهو واه. وأخرجه الحاكم 3/ 398 من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بنحوه، وإسناده على شرط مسلم، وكذا صححه الحاكم على شرطه، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن سعد 3/ 172 عن عمر بن الحكم مرسلا، وفيه الواقدي، وهو متروك. وورد من مرسل أبي عثمان، أخرجه ابن سعد 1/ 171 وإسناده قوي، وليس فيه نزول الآية. وورد من مرسل الربيع بن أنس: أخرجه الطبري 4005. وانظر ما بعده. - الخلاصة: هذه الروايات تتأيد بمجموعها، فالحديث حسن في أقل تقدير إن شاء الله.

[سورة البقرة (2) : الآيات 208 إلى 210]

قد علمتم أني من أرماكم بسهمٍ، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فان شئتم دللتكم على مالي. قالوا: فدلنا على مالك نخلِّ عنك، فعاهدهم على ذلك، فنزلت فيه هذه الآية، فلمّا رآه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ربح البيع يا أبا يحيى» ؟ وقرأ عليه القرآن. هذا قول سعيد بن المسيب، وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس، وقال: إن الذي تلقاه فبشره بما نزل فيه أبو بكر الصديق «1» . وذكر مقاتل أنه قال للمشركين: أنا شيخ كبير لا يضركم إن كنت معكم أو عليكم، ولي عليكم حق لجواري فخذوا مالي غير راحلة، واتركوني وديني، فاشترط أن لا يمنع عن صلاة ولا هجرة، فأقام ما شاء الله، ثم ركب راحلته، فأتى المدينة مهاجراً، فلقيه أبو بكر فبشره وقال: نزلت فيك هذه الآية «2» . وقال عكرمة: إنها نزلت في صهيب، وأبي ذر الغفاري، فأما صهيب، فأخذه أهله فافتدى بماله، وأما أبو ذر، فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجراً «3» . والرابع: أنها نزلت في المجاهدين في سبيل الله، قاله الحسن وابن زيد في آخرين. والخامس: أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين الله حتى ظهروا، هذا قول قتادة. و «يشري» كلمة من الأضداد، يقال: شرى، بمعنى: باع، وبمعنى: اشترى، فمعناها على قول من قال: نزلت في صهيب معنى: يشتري. وعلى بقية الأقوال بمعنى: يبيع. [سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 210] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب، كانوا بعد إسلامهم يتقون السبت ولحم الجمل، وأشياء يتقيها أهل الكتاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس «4» . والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب الذين

_ (1) عزاه لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح، هو الكلبي وهو كذاب، وأبو صالح متروك عن ابن عباس. فلا فائدة من هذه الطريق، والعبرة بما تقدم. (2) عزاه لمقاتل، وهو متهم أيضا، وانظر ما بعده. (3) أخرجه الطبري 4004 عن عكرمة مرسلا. وأخرجه الحاكم 313/ 400 عن ابن جريج، وهذا معضل. (4) تقدم أنه من رواية الكلبي، وهو متهم عن أبي صالح، وهو واه.

لم يؤمنوا بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، أمروا بالدخول في الإسلام. روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضحاك «1» . والثالث: أنها نزلت في المسلمين، يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، قاله مجاهد وقتادة «2» . وفي «السلم» ثلاث لغات: كسر السين وتسكين اللام. وبها قرأ أبو عمرو وابن عامر في «البقرة» وفتحا السين في «الأنفال» وسورة «محمد» . وفتح السين مع تسكين اللام. وبها قرأ ابن كثير ونافع والكسائي في المواضع الثلاثة، وفتح السين واللام. وبها قرأ الأعمش في «البقرة» خاصة. وفي معنى «السلم» قولان: أحدهما: أنه الإسلام، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين. والثاني: أنها الطاعة، روي عن ابن عباس أيضاً، وهو قول أبي العالية، والربيع. وقال الزجاج: و «كافة» بمعنى الجميع، وهو في اشتقاق اللغة: ما يكف الشيء في آخره، من ذلك: كُفة القميص، وكل مستطيل فحرفه كُفَّة: بضم الكاف. ويقال في كل مستدير: كِفه بكسر الكاف نحو: كِفّة الميزان. ويقال: إنما سميت كُفّة الثوب، لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكف: المنع، وقيل لطرف اليد: كف، لأنها تكف بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف: قد كف بصره أن ينظر. واختلفوا: هل قوله: «كافة» يرجع إلى السلم، أو إلى الداخلين فيه؟ على قولين: أحدهما: أنه راجع إلى السلم، فتقديره: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام. وهذا يخرج على القول الأول الذي ذكرناه في نزول الآية. والثاني: أنه يرجع إلى الداخلين فيه، فتقديره: ادخلوا كلكم في الإسلام، وبهذا يخرج على القول الثاني. وعلى القول الثالث يحتمل قوله: «كافة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون أمراً للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم. والثاني: أن يكون أمراً للمؤمنين بالدخول في جميع شرائِعه. والثالث: أن يكون أمراً لهم بالثبات عليه، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «3» . و «خطوات الشيطان» : المعاصي. وقد سبق شرحها. و «البينات» : الدلالات الواضحات. وقال ابن جريج: هي الإسلام والقرآن. و «ينظرون» بمعنى: ينتظرون. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا. وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال: المراد به: قدرته وأمره. قال: وقد بينه في قوله تعالى: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ . قوله تعالى: فِي ظُلَلٍ، أي: بظلل. والظلل: جمع ظلة. و «الغمام» : السحاب الذي لا ماء فيه. قال الضحاك: في قطع من السحاب. ومتى يكون مجيء الملائكة؟ فيه قولان:

_ (1) من رواية الضحاك عن ابن عباس، وعن الضحاك جويبر، وهو متروك. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله 2/ 337- 338: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها. وقد يدخل في الَّذِينَ آمَنُوا المصدّقون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به، والمصدّقون بمن قبله من الأنبياء والرّسل وما جاءوا به. وقد دعا الله عزّ وجلّ كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم «الإيمان» ، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض. (3) النساء: 136.

[سورة البقرة (2) : آية 211]

أحدهما: أنه يوم القيامة أيضا، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه عند الموت، قاله قتادة. وقرأ الحسن بخفض «الملائكة» . ووَ قُضِيَ الْأَمْرُ: فرغ منه. ووَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، أي: تصير. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم، «تُرجع» بضم التاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكَسائي بفتحها. فان قيل: فكأن الأمور كانت إلى غيره؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب، قاله الزجاج. والثاني: أنه لما عَبَد قومٌ غيره، ونسبوا أفعاله إلى سواه، ثم انكشف الغطاء يوم القيامة ردوا إليه ما أضافوا إلى غيره. والثالث: أن العرب تقول: قد رجع عليَّ من فلان مكروه: إذا صار إليه منه مكروه، وإن لم يكن سبق. قال الشاعر: فانْ تكنِ الأيَّامُ أحَسنَّ مرَةً ... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب ذكرهما ابن الأنباري. ومما يشبه هذا قول لبيد: وما المرء إِلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إِذ هو ساطع أراد: يصير رمادا لا أنّه كان رمادا، ومثله قول أمية بن أبي الصلت: تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «1» أي: صارا. والرابع: أنه لما كانت الأمور إليه قبل الخلق، ثم أوجدهم فملكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم. فإن قيل: قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله: أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، فما الحكمة في أنه لم يقل: وإليه ترجع الأمور؟ فالجواب: أن إعادة اسمه أفخم وأعظم، والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه، وأنشدوا: لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم، ذكره الزجّاج. [سورة البقرة (2) : آية 211] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: له وللمؤمنين. قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: «سل» بغير همز، وبعض تميم يقولون: «اسأل» بالهمز، وبعضهم يقول: «إِسَلْ» «2» بالألف وطرح الهمز، والأولى أغربهنَّ، وبها جاء الكتاب. وفي المراد بالسؤال قولان: أحدهما: أنه

_ (1) في اللسان: القعب: القدح الضخم. (2) قال القرطبي رحمه الله 3/ 29 و 30: قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ «سل» من السؤال بتخفيف الهمز، فلما تحركت السين لم يحتج إلى ألف الوصل. وقيل: إن للعرب في سقوط ألف الوصل في «سل» وثبوتها في «واسأل» وجهين: أحدهما- حذفها في إحداهما وثبوتها في الأخرى، وجاء القرآن بهما. فاتبع خط المصحف في إثباته للهمزة وإسقاطها. والوجه الثاني- أنه يختلف إثباتها وإسقاطها باختلاف الكلام المستعمل فيه فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ، مثل قوله: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وقوله: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [ن: 40] وتثبت في العطف، مثل قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32] قاله علي بن عيسى. وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه «اسأل» على الأصل. وقرأ قوم «اسل» على نقل الحركة إلى السين وإبقاء ألف الوصل، على لغة من قال: الأحمر.

[سورة البقرة (2) : آية 212]

التقرير والإذكار بالنعم. والثاني: التوبيخ على ترك الشكر. والآية البينة: العلامة الواضحة، كالعصا، والغمام، والمن، والسلوى، والبحر. وفي المراد بنعمة الله قولان: أحدهما: أنها الآيات التي ذكرناها، قاله قتادة. والثاني: أنها حجج الله الدالة على أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله الزجاج. وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكفر بها، قاله أبو العالية ومجاهد. والثاني: تغيير صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث: تعطيل حجج الله بالتّأويلات الفاسدة. [سورة البقرة (2) : آية 212] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا، في نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه، قاله ابن عباس. والثاني: نزلت في علماء اليهود، قاله عطاء. والثالث: في عبد الله بن أبيّ وأصحابه من المنافقين، قاله مقاتل. قال الزجاج: وإِنما جاز في «زين» لفظ التذكير، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، إذ معنى الحياة ومعنى العيش واحد. وإلى من يضاف هذا التزيين «1» فيه قولان: أحدهما: أنه يضاف إلى الله. وقرأ أبيّ بن كعب والحسن، ومجاهد، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: «زَيّن» بفتح الزاي والياء، على معنى: زيّنها الله لهم. والثاني: أنه يضاف إلى الشيطان، روي عن الحسن. قال شيخنا علي بن عبيد الله: والتزيين من الله تعالى: هو التركيب الطبيعي فإنه وضع في الطبائع محبّة المحبوب لصورة فيه تزينت للنفس، وذلك من صنعه، وتزيين الشيطان بإذكار ما وقع من إغفاله مما مثله يدعو إلى نفسه لزينته، فالله تعالى يزيّن بالوضع، والشيطان يزيّن بالإذكار. وما السبب في سخرية الكفار من المؤمنين؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم سخروا منهم للفقر. والثاني: لتصديقهم بالآخرة. والثالث: لاتّباعهم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: إنهم كانوا يوهمونهم أنكم على الحق، سخرية منهم بهم. وفي معنى كونهم «فوقهم» ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك على أصله، لأن المؤمنين في عليّين، والكفار في سجين. والثاني: أن حجج المؤمنين فوق شبه الكافرين، فهم المنصورون. والثالث: في أن نعيم المؤمنين في الجنة فوق نعيم الكافرين في الدنيا. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، فيه قولان: أحدهما: أنه يرزق من يشاء رزقاً واسعاً غير ضيّق. والثاني: يرزق من يشاء بلا محاسبة في الآخرة.

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 30: وقوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا على ما لم يسم فاعله. والمراد رؤساء قريش. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس على بناء الفاعل. قال النحاس: هي قراءة شاذة لأنه لم يتقدّم للفاعل ذكر. وقرأ ابن أبي عبلة (زيّنت) بإظهار العلامة، وجاز ذلك لكون التأنيث غير حقيقي والمزيّن هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها الشيطان بوسوسته وإغوائه. وخصّ الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة، وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا فالمؤمنون الذي هم على سنن الشرع لم تفتنهم، الزينة والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال: اللهم إنا لا نستطيع إلّا أن نفرح بما زينت لنا.

[سورة البقرة (2) : آية 213]

[سورة البقرة (2) : آية 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، في المراد ب «الناس» هاهنا ثلاثة أقوال «1» : أحدها: جميع بني آدم، وهو قول الجمهور. والثاني: آدم وحده، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري: وهذا الوجه جائز، لأن العرب توقع الجمع على الواحد. ومعنى الآية: كان آدم ذا دين واحد، فاختلف ولده بعده. والثالث: آدم وأولاده كانوا على الحق، فاختلفوا حين قتل قابيلُ هابيلَ. ذكره ابن الأنباري. والأمَّة هاهنا: الصنف الواحد على مقصد واحد. وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان: أحدهما: أنه الإسلام، قاله أبيّ بن كعب، وقتادة، والسدّي، ومقاتل. والثاني: أنه الكفر، رواه عطية عن ابن عباس. ومتى كان ذلك، فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه حين عرضوا على آدم وأقروا بالعبودية، قاله أبيّ بن كعب. والثاني: في عهد إبراهيم كانوا كفاراً، قاله ابن عباس. والثالث: بين آدم ونوح، وهو قول قتادة. والرابع: حين ركبوا السفينة، كانوا على الحق، قاله مقاتل. والخامس: في عهد آدم. ذكره ابن الأنباري. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بالجنّة وَمُنْذِرِينَ بالنار. هذا قول الأكثرين. وقال بعض السلف: مبشرين لمن آمن بك يا محمد، ومنذرين لمن كذّبك. والكتاب: اسم جنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وذكر بعضهم أنه في التوراة. وفي المراد بالحق هاهنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى الصدق والعدل. والثاني: أنه القضاء فيما اختلفوا فيه. لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ، في الحاكم هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله تعالى. والثاني: النبي الذي أنزل عليه الكتاب. والثالث: الكتاب كقوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، وقرأ أبو جعفر: «ليُحكَم» بضم الياء وفتح الكاف. وقرأ مجاهد «لتحكم» بالتاء على الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، يعني: الدين. قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ في هذه الهاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعود إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن مسعود. والثاني: إلى الدين، قاله مقاتل. والثالث: إلى الكتاب، قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما هاء «أوتوه» فعائدة على الكتاب من غير خلاف. قال الزجاج: ونصب «بغياً» على معنى المفعول له، فالمعنى: لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي، لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم. وقال الفراء: في اختلافهم وجهان: أحدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض. والثاني: تبديل ما بدّلوا.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 250: أخرج ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال. صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال العوفي عن ابن عباس كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً يقول كانوا كفارا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ والقول الأول عن ابن عباس أصح إسنادا ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه السّلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.

[سورة البقرة (2) : آية 214]

قوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أي: لمعرفة ما اختلفوا فيه، أو تصحيح ما اختلفوا فيه. وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال: أحدها: أنه الجمعة، جعلها اليهود السبت، والنصارى الأحد. (92) فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له. اليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى» . والثاني: أنه الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب. والثالث: أنه إبراهيم. قالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً. والرابع: أنه عيسى، جعلته اليهود لفرية، وجعلته النّصارى إلها. والخامس: أنه الكتاب، آمنوا ببعضها، وكفروا ببعضها. والسادس: أنه الدين، وهو الأصح، لأن جميع الأقوال داخلة في ذلك. قوله تعالى: بِإِذْنِهِ، قال الزجاج: إذنه: علمه. وقال غيره: أمره. قال بعضهم: توفيقه. [سورة البقرة (2) : آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصحابة أصابهم يوم الأحزاب بلاء وحصر، فنزلت هذه الآية، ذكره السدي عن أشياخه وهو قول قتادة «1» . (93) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة هو وأصحابه اشتد بهم الضر، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء. والثالث: أن المنافقين قالوا للمؤمنين: لو كان محمد نبياً لم يُسلط عليكم القتل، فأجابوهم: من قتل منا دخل الجنة، فقالوا: لم تمنّون أنفسكم بالباطل؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. وزعم أنها نزلت يوم أُحد «2» . قال الفراء: أَمْ حَسِبْتُمْ بمعنى: أظننتم، وقال الزجاج: «أم» بمعنى: بل. وقد شرحنا «أم» فيما تقدم شرحاً كافياً. والمثَل بمعنى: الصفة. و «زلزلوا» خُوفوا وحُرِكوا بما يؤذي، وأصل الزلزلة في اللغة من: زل الشيء عن مكانه، فاذا قلت: زلزلته، فتأويله: كررت زلزلته مِن مكانه، وكل ما كان فيه ترجيع كرّرت فيه فاء الفعل، تقول: أقل فلان الشيء: إذا رفعه من مكانه، فاذا كرر رفعه وردّه، قيل:

_ صحيح. أخرجه البخاري 238 و 876 و 2956 و 6624 و 7036 و 7495 ومسلم 855 وأحمد 2/ 243- 249 والنسائي 3/ 87 وابن ماجة 1083 وابن حبان 2784 عن أبي هريرة مرفوعا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 128 عن عطاء بدون إسناد، فهو لا شيء.

[سورة البقرة (2) : آية 215]

قلقله. فالمعنى: أنه تكرر عليهم التحريك بالخوف، قاله ابن عباس. البأساء: الشدة والبؤس، والضراء: البلاء والمرض. وكل رسول بعث إلى أمته يقول: مَتى نَصْرُ اللَّهِ، والنصر: الفتح، والجمهور على فتح لام «حتى يقولَ» ، وضمها نافع. فصل: ومعنى الآية: أن البلاء والجهد بلغ بالأمم المتقدمة إلى أن استبطئوا النصر لشدة البلاء. وقد دلت على أن طريق الجنة إنما هو الصبر على البلاء. (94) قالت عائشة: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام تباعاً من خبز بُرٍ حتى مضى لسبيله. (95) وقال حذيفة: أقرّ أيامي لعيني، يوم أرجع إلى أهلي فيشكون إليَّ الحاجة. قيل: ولم ذلك؟ قال: لأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إِن الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالخير، وإِن الله ليحمي المؤمن من الدنيا، كما يحمي المريض أهله الطعام» . أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي صادق، قال: أخبرنا أبو عبد الله الشّيرازيّ، قال: سمعت أبا الطيّب بن الفرخان يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت على سري السقطي وهو يقول: وما رُمتُ الدُخول عليهِ حتى ... حَلَلتُ محلّةَ العبد الذّليل وأغضيتُ الجفون على قذاها ... وصُنتُ النفسَ عن قالٍ وقيل «1» [سورة البقرة (2) : آية 215] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ، في سبب نزولها قولان: (96) أحدهما: أنها نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان له مال كثيرٌ، فقال: يا

_ صحيح. أخرجه البخاري 5416 و 6454 ومسلم 2970 وابن سعد 1/ 402 و 403 وأحمد 6/ 156 و 255 ووكيع 1/ 10 و 109 وهنّاد بن السّري 725 و 728 في «الزهد» من طرق عن عائشة. - ويشهد له ما أخرجه البخاري 2069 و 2508 والترمذي 1215 وأحمد 3/ 238 وابن ماجة 4147 وابن حبان 6349 من طرق عن أنس بن مالك. أنه مشى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبز وإهالة سنخة، ولقد رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعا له بالمدينة عند يهودي، وأخذ منه الشعير لأهله، ولقد سمعته يقول: «ما أمسى عند آل محمد صلّى الله عليه وسلّم صاع برّ ولا صاع حبّ» . ويشهد له ما أخرجه مسلم 2976 والترمذي 2358 وابن ماجة 3343 عن أبي هريرة قال: ما أشبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهله ثلاثة أيام تباعا من خبز البرّ حتى فارق الدنيا. صدره ضعيف، وعجزه صحيح بشاهده. أخرجه الطبراني في «الكبرى» 3004 وأبو نعيم في «الحلية» 1/ 277 من حديث حذيفة، وإسناده ضعيف. قال الهيثمي في «المجمع» 10/ 285: وفيه من لم أعرفه. - ويشهد لعجزه ما أخرجه الترمذي 2036. وأحمد في «الزهد» 17 والحاكم 4/ 207 و 4/ 309 وابن حبان 669 عن قتادة بن النعمان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا أحبّ الله عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء» . وإسناده على شرط مسلم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. لا أصل له. عزاه لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي، وهو كذاب.

[سورة البقرة (2) : آية 216]

رسول الله بماذا نتصدق، وعلى مَن ننفق؟ فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. (97) والثاني: أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إِن لي ديناراً، فقال: «أنفقه على نفسك» ، فقال: إن لي دينارين، فقال: «أنفقهما على أهلك» ، فقال: إن لي ثلاثة، فقال: «أنفقها على خادمك» ، فقال: إن لي أربعة، فقال: «أنفقها على والديك» ، فقال: إن لي خمسة، فقال: «أنفقها على قرابتك» ، فقال: إِن لي ستة، فقال: «أنفقها في سبيل الله، وهو أحسنها» ، فنزلت فيه هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. قال الزجاج: «ماذا» في اللغة على ضربين: أحدهما: أن تكون «ذا» بمعنى الذي، و «ينفقون» صلته، فيكون المعنى: يسألونك: أي شيء الذي ينفقون؟ والثاني: أن تكون «ما» مع «ذا» اسماً واحداً، فيكون المعنى: يسألونك: أي شيء الذي ينفقون، قال: وكأنهم سألوا: على مَن ينبغي أن يفضلوا، وما وجه الذي ينفقون؟ لأنهم يعلمون ما المنفق، فأعلمهم الله أن أولى مَن أُفضِل عليه الوالدان والأقربون. والخير: المال، قاله ابن عباس في آخرين. وقال: ومعنى «فللوالدين» : فعلى الوالدين. فصل: وأكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة، قال ابن مسعود: نسختها آية الزكاة. وذهب الحسن إلى إحكامها، وقال ابن زيد هي في النوافل، وهذا الظاهر من الآية، لأن ظاهرها يقتضي الندب، ولا يصح أن يقال: إنها منسوخة، إلا أن يقال: إنها اقتضت وجوب النفقة على المذكورين فيها. [سورة البقرة (2) : آية 216] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، قال ابن عباس: لما فرض الله على المسلمين الجهاد شق عليهم وكرهوه، فنزلت هذه الآية. و «كتب» بمعنى: فرض في قول الجماعة. قال الزجّاج: كرهت الشيء أكرهه كَرَهاً وكُرهاً، وكراهةً وكراهيةً. وكل ما في كتاب الله من الكره، فالفتح فيه جائز، إلا أن أبا عبيد ذكر أن الناس مجتمعون على ضم هذا الحرف الذي في هذه الآية. وإنما كرهوه لمشقَّته على النفوس، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال الفراء: الكُره والكَره: لغتان. وكأن النحويين يذهبون بالكره إلى ما كان منك مما لم تُكره عليه، فإذا أُكرهت على الشيء استحبوا «كَرهاً» بالفتح. وقال ابن قتيبة: الكره بالفتح، معناه الإكراه والقهر، وبالضم معناه: المشقة. ومن نظائر هذا: الجهد: الطاقة، والجَهد: المشقة. ومنهم مَن يجعلهما واحداً. وعُظْم الشيء: أكبره وعظمه: نفسه. وعُرض الشيء: إحدى نواحيه. وعَرضه: خلاف طوله. والأكل: مصدر أكلت، والأُكل: المأكول، وقال أبو علي: هما لغتان، كالفقر والفُقر، والضَّعف والضُّعف، والدَّف والدُّف، والشَّهد والشُّهد. قوله تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، قال ابن عباس: يعنى الجهاد. وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فتح وغنيمة أو شهادة. وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وهو القعود عنه. وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، لا تصيبون

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 129 عن عطاء عن ابن عباس ولم أقف له على إسناد، فهو لا شيء.

[سورة البقرة (2) : آية 217]

فتحاً ولا غنيمة ولا شهادة. وَاللَّهُ يَعْلَمُ أن الجهاد خير لكم. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ حين أحببتم القعود عنه. فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من المحكم الناسخ للعفو عن المشركين. والثاني: أنها منسوخة، لأنها أوجبت الجهاد على الكل، فنسخ ذلك بقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «1» . والثالث: إنها ناسخة من وجه، منسوخة من وجه. وقالوا: إن الحال في القتال كانت على ثلاثة مراتب: الأولى: المنع من القتال، ومنه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ «2» . والثانية: أمر الكل بالقتال، ومنه قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «3» ، ومثلها هذه الآية. والثالثة: كون القتال فرضاً على الكفاية، وهو قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فيكون الناسخ منها إيجاب القتال بعد المنع منه، والمنسوخ وجوب القتال على الكلّ. [سورة البقرة (2) : آية 217] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. (98) روى جندب بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث رهطا واستعمل عليهم أبا عبيدة بن الحارث فلما انطلق ليتوجه بكى صبابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتاباً، وأمره ألا يقرأه إلا بمكان كذا وكذا، وقال: «لا تكرهنَّ أحداً من أصحابك على المسير معك» ، فلما صار إِلى المكان، قرأ الكتاب واسترجع، وقال: سمعاً وطاعة لأمر الله ولرسوله فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب. فرجع رجلان من أصحابه، ومضى بقيتهم، فأتوا ابن الحضرمي فقتلوه، فلم يدروا ذلك اليوم، أمِن رجب، أو من جمادى الآخرة؟ فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأتوا

_ صحيح دون تأمير أبي عبيدة وبكائه، فإنه ضعيف. أخرجه أبو يعلى 1534 والطبري 4087 والطبراني 1670 والبيهقي 9/ 11- 12 من حديث جندب بن عبد الله، وإسناده ضعيف، فيه راو مجهول. - وأصله محفوظ بشواهده، أخرجه الطبري 4085 من مرسل عروة. وورد من مرسل السدي، أخرجه الطبري 4086. وورد من مرسل أبي مالك: أخرجه الطبري 4092. وورد عن ابن عباس: أخرجه الطبري 4089 وإسناده حسن. وكرره 490 وإسناده واه لأجل عطية العوفي. وورد من مرسل الضحاك: أخرجه الطبري 4096 وله شواهد أخرى عامتها مرسل. - الخلاصة: هو حديث صحيح بطرقه وشواهده دون قوله «استعمل عليهم أبا عبيدة ... فبعث مكانه» . والصواب أن الأمير من أول الأمر هو عبد الله بن جحش.

النبي فحدثوه الحديث فنزلت هذه الآية، فقال بعض المسلمين: لئن كان أصابهم خير فما لهم أجر، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا إلى قوله: رَحِيمٌ. قال الزهري: اسم ابن الحضرمي: عمرو، واسم الذي قتله عبد الله بن واقد الليثي. قال ابن عباس: كان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يظنون تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب. وقد روى عطيّة عن ابن عباس أنها نزلت في شيئين: أحدهما: هذا. والثاني: دخول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكة في شهر حرام يوم الفتح، حين عاب المشركون عليه القتال في شهر حرام «1» . وفي السائلين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك قولان: أحدهما: أنهم المسلمون، سألوه: هل أخطئوا أم أصابوا؟ قاله ابن عباس وعكرمة ومقاتل. والثاني: أنهم المشركون سألوه على وجه العيب على المسلمين، قاله الحسن، وعروة، ومجاهد. والشهر الحرام: شهر رجب، وكان يدعى الأصم، لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيماً له، قِتالٍ فِيهِ أي: يسألونك عن قتال فيه. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ قال ابن مسعود وابن عباس: لا يحِل. قال القاضي أبو يعلى: كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الأشهر، فأعلمهم الله تعالى في هذه الآية ببقاء التحريم. فصل: اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم: هل هو باق أم نسخ؟ على قولين «2» : أحدهما: أنه باقٍ. روى ابن جريج أن عطاء كان يحلف بالله: ما يحل للناس الآن أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزوا، وما نسخت. والثاني: أنه منسوخ، قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار: القتال جائز في الشهر الحرام، هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «3» ، وبقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «4» ، وهذا قول فقهاء الأمصار.

_ (1) أخرجه الطبري 4090 عن ابن عباس بسند فيه مجاهيل، وكرره 4088 عن مجاهد مرسلا. (2) قال القرطبي رحمه الله 3/ 43: واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح واختلفوا في ناسخها، فقال الزهري: نسخها وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً. وقيل نسخها غزو النبي صلّى الله عليه وسلّم ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام. وقيل نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم. وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي: فأنزل الله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ الآية، قال: فحدّثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكفرهم بالله وصدّهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصّلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين وفتنتهم إياهم عن الدين، فبلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عقل ابن الحضرمي وحرّم الشهر الحرام كما كان يحرّمه حتى أنزل الله عزّ وجلّ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم ويحلف على ذلك، لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق. وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقاتل في الشهر الحرام إلّا أن يغزى. (3) التوبة: 5. (4) التوبة: 19.

[سورة البقرة (2) : آية 218]

قوله تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، هو مرفوع بالابتداء، وخبر هذه الأشياء: أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ. وفي المراد ب «سبيل الله» هاهنا قولان: أحدهما: أنه الحج، لأنهم صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عن مكة. قاله ابن عباس والسدي عن أشياخه. والثاني: أنه الإسلام، قاله مقاتل. وفي هاء الكناية في قوله «وكفرٌ به» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله السدي عن أشياخه، وقتادة، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: أنها تعود إلى السبيل، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة: وخفض «المسجدِ الحرام» نسقا على: سَبِيلِ اللَّهِ، كأنه قال: وصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام. قوله تعالى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ لمّا آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه اضطروهم إلى الخروج فكأنهم أخرجوهم، فأعلمهم الله أن هذه الأفعال أعظم من قتل كل كافر. «والفتنة» هاهنا بمعنى الشرك، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والجماعة. والفتنة في القرآن على وجوه كثير، قد ذكرتها في كتاب «النظائر» . وَلا يَزالُونَ، يعني الكفّار، يُقاتِلُونَكُمْ يعني: المسلمين. وحَبِطَتْ بمعنى: بطلت. [سورة البقرة (2) : آية 218] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا، في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنه لما نزل القرآن بالرخصة لأصحاب عبد الله بن جحش في قتل ابن الحضرمي، قال بعض المسلمين: ما لهم أجر، فنزلت هذه الآية «1» ، وقد ذكرنا هذا في سبب نزول قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ، عن جندب بن عبد الله. والثاني: أنه لما نزلت لهم الرخصة قاموا، فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين، فنزلت هذه الآية «2» ، قاله ابن عباس. وقال: هاجَرُوا من مكة إلى المدينة، وَجاهَدُوا في طاعة الله ابن الحضرميّ وأصحابه. ورَحْمَتَ اللَّهِ: مغفرته وجنّته. قال الشعبي: أول لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله بن جحش، وأول مغنم قسم في الإسلام: مغنمه. [سورة البقرة (2) : آية 219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، في سبب نزولها قولان: (99) أحدهما: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية. (100) والثاني: أن جماعة من الأنصار جاءوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم عمر، ومعاذ، فقالوا: أفتنا

_ حسن. أخرجه أبو داود 3670 والترمذي 3049 والنسائي 8/ 286 والحاكم 2/ 278 وأحمد 1/ 53 والطبري 12561 والبيهقي 1/ 53 من حديث عمرو بن شرحبيل عن عمر. وإسناده حسن، رجاله ثقات، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. ويأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى. لم أره مسندا، ذكره المصنف هكذا بدون إسناد ومن غير عزو لقائل. وكذا ذكره الواحدي في «الأسباب» 132 بقوله: نزلت ... من غير عزو لقائل ولا إسناد، فهذا خبر لا أصل له لخلوه عن الإسناد.

في الخمر، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية. وفي تسمية الخمر خمراً ثلاثة أقوال: أحدها: أنها سميت خمراً، لأنها تخامر العقل، أي: تخالطه. والثاني: لأنها تخمِّر العقل، أي: تستره. والثالث: أنها تخمَّر، أي: تغطَّى. ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم. وقال الزجاج: الخمر في اللغة: ما ستر على العقل، يقال: دخل فلان في خمار الناس، أي: في الكثير الذي يستتر فيهم، وخمار المرأة قناعها، سمي خماراً لأنه يغطّي. قال: والخمر هاهنا في المجمع عليها، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له: خمر، وأن يكون في التحريم بمنزلتها، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كله حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه، وجعل كله قياساً على الميسر، والميسر إنما يكون قماراً في الجزر «1» خاصة. فأما الميسر، فقال ابن عباس، وابن عمر، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة في الآخرين: هو القمار. قال ابن قتيبة: يقال: يسرت: إذا ضربت بالقداح، ويقال للضارب بالقداح: ياسر وياسرون، ويُسر وأيْسار. وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزوراً ويجزئونها أجزاء ثم يضربون عليها بالقداح فاذا قمر القامر، جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة، وهو النفع الذي ذكره الله تعالى، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح، ويتسابون بتركها ويعيبون من لا ييسر. قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، قرأ الأكثرون «كبير» بالباء، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء. وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال: أحدها: أن شربها ينقص الدين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه إذا شرب سكر فآذى الناس، رواه السدي عن أشياخه. والثالث: أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز، قاله الزجاج. وفي إثم الميسر قولان: أحدهما: أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقع العداوة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه يدعو إلى الظلم ومنع الحق. رواه السدي عن أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك. وأما منافع الخمر فمن وجهين: أحدهما: الربح في بيعها. والثاني: انتفاع الأبدان «2» مع التذاذ النفوس. وأما منافع الميسر: فاصابة الرجل المال من غير تعب. وفي قوله تعالى: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما، قولان: أحدهما: أن معناه: وإثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم، قاله سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل. والثاني: وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم أيضاً. لأن الإثم الذي يحدث في أسبابهما أكبر من نفعهما. وهذا منقول عن ابن جبير أيضاً، واختلفوا بماذا كانت الخمرة مباحة؟ على قولين: أحدهما: بقوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً «3» ، قاله ابن جبير. والثاني: بالشريعة الاولى، وأقر المسلمون على ذلك حتى حرمت. فصل: اختلف العلماء: هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها

_ (1) الجزر: جمع جزور وهي النوق. (2) بل الخمر مضرة للجسم، مضرة للعقل، والقول المتقدم هو الصواب. (3) النحل: 67. [.....]

تقتضي ذمها دون تحريمها، رواه السدي عن أشياخه، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة، ومقاتل. وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة. والقول الثاني: أن لها تأثيراً في التحريم، وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثماً كبيراً والإثم كله محرم بقوله: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ «1» ، هذا قول جماعة من العلماء، وحكاه الزجاج، واختاره القاضي أبو يعلى للعلة التي بيناها، واحتج لصحته بعض أهل المعاني، فقال: لما قال تعالى: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وقع التساوي بين الأمرين، فلما قال: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما صار الغالب الإثم، وبقي النفع مستغرقاً في جنب الإثم، فعاد الحكم للغالب المستغرق، فغلب جانب الخطر. فصل: فأما الميسر فالقول فيه مثل القول في الخمر، إن قلنا: إن هذه الآية دلت على التحريم، فالميسر حكمها حرام أيضاً، وإن قلنا: إنها دلت على الكراهة فأقوم الأقوال أن نقول: إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر. قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ، قال ابن عباس: الذي سأله عن ذلك عمرو بن الجموح. قال ابن قتيبة: والمراد بالنفقة هاهنا: الصدقة والعطاء. قوله تعالى: قُلِ الْعَفْوَ، قرأ أبو عمرو برفع واو «العفو» ، وقرأ الباقون بنصبها، قال أبو علي: «ماذا» في موضع نصب، فجوابه العفو بالنصب، كما تقول في جواب: ماذا أنفقت؟ درهماً، أي: أنفقت درهماً، هذا وجه نصب العفو. ومن رفع جعل «ذا» بمنزلة الذي، ولم يجعل «ماذا» اسماً واحداً، فاذا قال قائل: ماذا أنزل ربكم؟ فكأنه قال: ما الذي أنزل ربكم؟ فجوابه: قرآن. قال الزجاج: «العفو» في اللغة: الكثرة والفضل، يقال: قد عفا القوم: إذا كثروا. و «العفو» : يأتي بغير كلفة. وقال ابن قتيبة: العفو: الميسور. يقال: خذ ما عفاك، أي: ما أتاك سهلاً بلا إكراه ولا مشقة. وللمفسرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله، رواه مقسم عن ابن عباس. والثاني: ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير، رواه عطية عن ابن عباس. والثالث: أنه القصد من الإسراف والإقتار، قاله الحسن، وعطاء، وسعيد بن جبير. والرابع: أنه الصدقة المفروضة، قاله مجاهد. والخامس: أنه ما لا يتبين عليهم مقداره، من قولهم: عفا الأثر إذا خفي ودرس، حكاه شيخنا عن طائفة من المفسرين «2» . فصل: وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فروى السدي عن أشياخه أنها نسخت بالزكاة، وأبى نسخها آخرون. وفصل الخطاب في ذلك: أنا متى قلنا: إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدق بفاضل المال، أو قلنا: أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزكاة، فالآية منسوخة بآية الزّكاة،

_ (1) الأعراف: 33. (2) قال القرطبي رحمه الله 3/ 59: لما كان السؤال في الآية المتقدمة وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ عن قدر الإنفاق وهو في شأن عمرو بن الجموح فلما نزلت الآية قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ [البقرة: 215] قال: كم أنفق؟ فنزل قُلِ الْعَفْوَ والعفو ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية. وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسّدي والقرظي وغيرهم قالوا: العفو ما فضل عن العيال ونحوه عن ابن عباس.

[سورة البقرة (2) : آية 220]

ومتى قلنا: إنها محمولة على الزكاة المفروضة كما قال مجاهد، أو على الصدقة المندوب إليها، فهي محكمة. قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ، قال الزجاج: إنما قال كذلك، وهو يخاطب جماعة، لأن الجماعة معناها: القبيل، كأنه قال: كذلك يا أيها القبيل. وجائز أن تكون الكاف للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كأنه قال: كذلك يا أيّها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لأن الخطاب له مشتمل على خطاب أمته. وقال ابن الأنباري: الكاف في «كذلك» إشارة إلى ما بيَّن من الإنفاق، فكأنه قال: مثل ذلك الذي بينه لكم في الإنفاق يبيّن الآيات. ويجوز أن يكون «كذلك» غير إشارة إلى ما قبله، فيكون معناه: هكذا، قاله ابن عباس. لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل ما بينهما، فتعملون للباقي منهما. [سورة البقرة (2) : آية 220] فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، في سبب نزولها قولان: (101) أحدهما: أنه لما أنزل الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1» ، وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «2» ، انطلق من كان عنده مال يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، وجعل يفضل الشيء من طعامِه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم، فذكروه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل. (102) والثاني: أن العرب كانوا يشددون في أمر اليتيم حتى لا يأكلون معه في قصعته، ولا يستخدمون له خادما، فسألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن مخالطتهم، فنزلت هذه الآية، ذكره السدي عن أشياخه، وهو قول الضحاك. وفي السائلين للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك قولان: أحدهما: أن الذي سأله ثابت بن رفاعة الأنصاري، قاله مقاتل. والثاني: عبد الله بن رواحة، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، قال ابن قتيبة: معناه: تثمير أموالهم، والتنزه عن أكلها لمن وليها خير. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، أي: فهم إخوانكم، حُكمهم في ذلك حكم إخوانكم. قال ابن عباس: والمخالطة: أن يشرب من لبنك، وتشرب من لبنه، ويأكل في قصعتك، وتأكل في قصعته.

_ حسن. أخرجه أبو داود 2871 والنسائي 6/ 256 والحاكم 2/ 278 والطبري 4186 والواحدي 134 عن ابن عباس. وإسناده حسن بشواهده لأجل عطاء بن السائب، فقد اختلط. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. - وله شاهد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى: أخرجه الطبري 4188. وله شاهد من مرسل قتادة: أخرجه الطبري 4189. وله شاهد من مرسل الربيع بن أنس: أخرجه برقم 4191. حسن. أخرجه الطبري 4198 عن السّدي مرسلا وأخرجه الطبري 4200 عن الضحاك مرسلا أيضا. وأخرجه 4193 عن الشعبي مرسلا. وأخرجه 4195 عن عطاء مرسلا، فهذا خبر حسن بشواهده، وهو يشهد لما قبله.

[سورة البقرة (2) : آية 221]

وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، يريد: المتعمد أكل مال اليتيم، من المتحرّج الذي لا يألو إلا الإصلاح. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ، قال ابن عباس: أي لأحرجكم، ولضيّق عليكم. وقال ابن الأنباري: أصل العنت: التشديد. تقول العرب: فلان يتعنت فلاناً ويعنته، أي: يشدد عليه، ويلزمه المشاقّ، قال: ثم نقلت إلى معنى الهلاك، واشتقاق الحرف «1» من قول العرب: أكمة عنوت: إذا كانت شديدة شاقة المصعد، فجعلت هذه اللفظة مستعملة في كل شدّة. [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ في سبب نزولها قولان: (103) أحدهما: أن رجلاً يقال له: مرثد بن أبي مرثد بعثه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها أسرى، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها: عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته فقالت: ويحك يا مرثد، ألا تخلو؟ فقال: إن الإسلام قد حال بيني وبينك، ولكن إن شئتِ تزوّجتك، إذا رجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، استأذنته في ذلك، فقالت: أبي يتبرّم؟! واستغاثت عليه، فضربوه ضرباً شديداً، ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فسأله: أتحلُّ لي أن أتزوجها؟ فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل بن سليمان أنه أبو مرثد الغنوي. (104) والثاني: أن عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها، ثم فزع، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره خبرها فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما هي يا عبد الله» ؟ فقال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إِله إِلا الله، وأنك رسول الله، فقال: «يا عبد الله، هذه مؤمنة» . فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنّها ففعل، فعابه ناس من المسلمين، وقالوا: أنكح أمة، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن، فنزلت هذه الآية. رواه السدي عن أشياخه. وقد ذكر بعض المفسرين أن قصة عناق وأبي مرثد كانت سبباً لنزول قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ

_ ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «الأسباب» 137 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس تعليقا، والكلبي كذاب، وأبو صالح روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. وورد عن مقاتل بن حيان مرسلا مختصرا، أخرجه الواحدي 135 ومقاتل ذو مناكير، فهو ضعيف جدا. وهذه القصة محفوظة لكن نزل في ذلك أوائل سورة النور. وسيأتي هناك باستيفاء إن شاء الله. أخرجه الطبري 4228 عن السدي مرسلا. ووصله الواحدي في «الأسباب» 136 عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس به. وإسناده لين، السدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن، فيه لين، وعنه أسباط بن نصر، وهو صدوق كثير الخطأ.

، وقصة ابن رواحة كانت سبباً لنزول قوله تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ. فأما التفسير، فقال المفضَّل: أصل النكاح: الجماع، ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد: نكاح. وقد حرّم الله عزّ وجلّ نكاح المشركات عقدا ووطأ. وفي «المشركات» هاهنا قولان: أحدهما: أنه يعُم الكتابيات وغيرهن، وهو قول الأكثرين «1» . والثاني: أنه خاص في الوثنيات، وهو قول سعيد بن جبير، والنخعي، وقتادة. وفي المراد بالأمة قولان: أحدهما: أنها المملوكة، وهو قول الأكثرين، فيكون المعنى: ولَنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرة مشركة. والثاني: أنها المرأة، وإن لم تكن مملوكة، كما يقال: هذه أمة الله، هذا قول الضحّاك، والأول أصحّ. وفي قوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ قولان: أحدهما: بجمالها وحسنها. والثاني: بحسبها ونسبها. فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فقال القائلون بأن المشركات الوثنيات: هي محكمة، وزعم بعض من نصر هذا القول أن اليهود والنصارى ليسوا بمشركين بالله، وإن جحدوا بنبوة نبينا. قال شيخنا: وهو قولٌ فاسد من وجهين: أحدهما: أن حقيقة الشرك ثابتة في حقهم حيث قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. والثاني: أن كفرهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، يوجب أن يقولوا: إن ما جاء به ليس من عند الله، وإضافة ذلك إلى غير الله شرك. فأما القائلون بأنها عامة في جميع المشركات، فلهم في ذلك قولان: أحدهما: أن بعض حكمها

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 65: قال إسحاق بن إبراهيم الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في «البقرة» هي الناسخة، والتي في المائدة هي المنسوخة، فحرّموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية. قال النحاس: ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدّثناه محمد بن ريان قال حدثنا محمد بن رمح قال حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله!. قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة. ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك، وفقهاء الأمصار عليه. وأيضا يمتنع أن تكون هذه الآية من سورة «البقرة» ناسخة للآية التي في سورة المائدة لأن «البقرة» أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل. وإنما الآخر ينسخ الأول. وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه، لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين، في واحدة التحليل، وفي الأخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل. وذكر ابن عطية: وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه: إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير الإسلام حرام. فعلى هذا تكون هي ناسخة للآية التي في «المائدة» . وينظر إلى هذا قول ابن عمر. وروي عن عمر: أنه فرّق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرّق بينكما صغرة قمأه- قمأ: ذلّ وصغر-. قال ابن عطية: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام. ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وروي عن ابن عباس نحو هذا. وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب، ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس. وقال في آخر كلامه: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك.

[سورة البقرة (2) : آية 222]

منسوخ بقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وبقي الحكم في غير أهل الكتاب محكماً. والثاني: أنها ليست بمنسوخة، ولا ناسخة، بل هي عامة في جميع المشركات، وما أخرج عن عمومها من إباحة كافرة فدليل خاص، وهو قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فهذه خصصت عموم تلك من غير نسخ، وعلى هذا عامة الفقهاء. وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة، منهم: عثمان، وطلحة، وحذيفة، وجابر، وابن عباس «1» . قوله تعالى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ، أي: لا تزوجوهم بمسلمة حتى يؤمنوا والكلام في قوله تعالى: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ، وفي قوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ، مثل الكلام في أول الآية. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ، قرأ الجمهور بخفض «المغفرة» وقرأ الحسن، والقزاز، عن أبي عمرو، برفعها. [سورة البقرة (2) : آية 222] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ. روى ثابت عن أنس، قال: (105) كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهن لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويكونوا معهن في البيوت، وأن يفعلوا كل شيء ما عدا النكاح. (106) وقال ابن عباس: جاء رجل يقال له: ابن الدّحداحة من الأنصار، إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية.

_ صحيح. أخرجه مسلم 302 وأبو داود 258 و 2165 والترمذي 2977 والنسائي 1/ 152 و 187 وابن ماجة 644 والطيالسي 2052 والدارمي 1/ 245 وأبو عوانة 1/ 311 وابن حبان 1362 من حديث أنس. - وانظر «تفسير القرطبي» 1168 بتخريجنا. أخرجه الماوردي في كتابه «الصحابة» كما في «أسباب النزول» 141 للسيوطي من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لجهالة شيخ ابن إسحاق، فإنه لا يعرف، ولم يرو عنه سوى ابن إسحاق. وأخرج الطبري 4237 عن السدي أن السائل هو ثابت. وورد من مرسل مقاتل بن حيان، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» 1/ 222. وذكره الواحدي 140 بقوله: قال المفسرون. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها.

وفي المحيض قولان: أحدهما: أنه اسم للحيض، قال الزجاج: يقال: قد حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضاً. وقال ابن قتيبة: المحيض: الحيض. والثاني: أنه اسم لموضع الحيض، كالمقيل، فإنه موضع القيلولة، والمبيت موضع البيتوتة. وذكر القاضي أبو يعلى أن هذا ظاهر كلام أحمد. فأما أرباب القول الأول فأكدوه بأن في اللفظ ما يدل على قولهم، وهو أنه وصفه بالأذى، وذلك صفة لتفسير الحيض، لا لمكانه. وأما أرباب القول الثاني، فقالوا: لا يمتنع أن يكون المحيض صفة لموضع، ثم وصفه بما قاربه وجاوره، كالعقيقة، فإنها اسم لشعر الصبي، وسميت بها الشاة التي تذبح عند حلق رأسه مجازاً. والراوية: اسم للجمل، وسميت المزادة راوية مجازاً. والأذى يحصل للواطئ بالنجاسة، ونتن الريح. وقيل: يورث جماع الحائض علة بالغة في الألم. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ، المراد به اعتزال الوطء في الفرج، لأن المحيض نفس الدم أو نفس الفرج، وَلا تَقْرَبُوهُنَّ، أي: لا تقربوا جماعهن، وهو تأكيد لقوله: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ. قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ، قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، عن عاصم (حتى يطهرن) خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر، عن عاصم (يطَّهّرن) بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. قال ابن قتيبة: يطهرن: ينقطع عنهن الدم، يقال: طهُرت المرأة وطهَرت: إذا رأت الطهر، وإن لم تغتسل بالماء. ومن قرأ: «يطَّهَّرن» بالتشديد أراد: يغتسلن بالماء. والأصل يتطهرن، فأدغمت التاء في الطاء. قال ابن عباس ومجاهد: حتى يطهرن من الدم، فاذا تطهرن اغتسلن بالماء. قوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ إباحة من حظر، لا على الوجوب. قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: من قبل الطهر، لا من قبل الحيض، قاله ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أن معناه: فأتوهن من حيث أمركم الله أن لا تقربوهن فيه، وهو محل الحيض، قاله مجاهد. وقال من نصر هذا القول: إنما قال: أَمَرَكُمُ اللَّهُ، والمعنى: نهاكم، لأن النهي أمر بترك المنهي عنه، و «من» بمعنى «في» ، كقوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «1» . والثالث: فأتوهنّ من قبل التزويج والحلال، لا من قبل الفجور، قاله ابن الحنفية. والرابع: أن معناه: فأتوهن من الجهات التي يحل أن تقرب فيها المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا ينبغي مثل أن كن صائمات أو معتكفات أو محرمات. وهذا قول الزجاج وابن كيسان. وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، قولان: أحدهما: التوابين من الذنوب، قاله عطاء، ومجاهد في آخرين. والثاني: التوابين من إتيان الحيض، ذكره بعض المفسرين. وفي قوله: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، ثلاثة أقوال: أحدها: المتطهرين من الذنوب، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية. والثاني: المتطهرين بالماء، قاله عطاء. والثالث: المتطهرين من إتيان أدبار النساء، روي عن مجاهد.

_ (1) الجمعة: 9.

[سورة البقرة (2) : آية 223]

فصل: أقل الحيض يوم وليلة في إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية: يوم «1» . وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام. وقال مالك وداود: ليس لأقله حد. وفي أكثره روايتان عن أحمد: إحداهما: خمسة عشر يوماً، وهو قول مالك والشافعي. والثانية: سبعة عشر يوماً، وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام. والحيض مانع من عشرة أشياء: فعل الصلاة، ووجوبها، وفعل الصّيام دون وجوبه، والجلوس في المسجد، والاعتكاف، والطواف، وقراءة القرآن، وحمل المصحف، والاستمتاع فى الفرج، وحصول نيّة الطّلاق. [سورة البقرة (2) : آية 223] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (107) أحدها: أن اليهود أنكرت جواز إتيان المرأة إلا من بين يديها، وعابت من يأتيها على غير تلك الصفة، فنزلت هذه الآية. روي عن جابر، والحسن، وقتادة. (108) والثاني: أن حياً من قريش كانوا يتزوجون النساء بمكة، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات، فلما قدموا المدينة، تزوجوا من الأنصار، فذهبوا ليفعلوا ذلك، فأنكرنه، وانتهى الحديث إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. رواه مجاهد عن ابن عباس. (109) والثالث: أن عمر بن الخطاب جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: هلكت، حوّلت رحلي الليلة،

_ صحيح. أخرجه البخاري 4528 ومسلم 1435 والترمذي 2978 والنسائي في عشرة النساء 93 وابن ماجة 1925 والواحدي 141 والحميدي 1263 وأبو يعلى 2024 والطحاوي في «المعاني» 3/ 40 من حديث جابر بألفاظ متقاربة. وانظر «تفسير القرطبي» 1181 بتخريجنا. حسن. أخرجه أبو داود 2164 والحاكم 2/ 279 من حديث ابن عباس وقال الذهبي: على شرط مسلم. جيد. أخرجه أحمد 1/ 297 والترمذي 2980 والنسائي في «التفسير» 60 وأبو يعلى 2736 وابن حبان 4202 والبغوي في «تفسيره» 1/ 198 والطبراني 12317 والطبري 2/ 235 وإسناده جيد رجاله ثقات كلهم. وقال الترمذي: حسن غريب وصححه الحافظ في «الفتح» 8/ 191.

فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والحرث: المزدرع، وكنى به هاهنا عن الجماع، فسماهن حرثاً، لأنهن مزدرع الأولاد، كالأرض للزرع، فان قيل: النساء جمع، فلم لم يقل: حروث؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرها ابن القاسم الأنباري النحوي: أحدها: أن يكون الحرث مصدراً في موضع الجمع، فلزمه التوحيد، كما تقول العرب: إخوتك صوم، وأولادك فطر، يريدون: صائمين ومفطرين، فيؤدي المصدر بتوحيده عن اللفظ المجموع. والثاني: أن يكون أراد: حروث لكم، فاكتفى بالواحد من الجمع، كما قال الشاعر: كلوا في نصف بطنكُم تعيشوا أي: في أنصاف بطونكم. والثالث: أنه إنما وحَّد الحرث، لأن النساء شبهن به، ولسن من جنسه، والمعنى: نساؤكم مثل حروث لكم. قوله تعالى: أَنَّى شِئْتُمْ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى: كيف شئتم، ثم فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: كيف شئتم، مقبلة أو مدبرة، وعلى كل حال، إذا كان الإتيان في الفرج. وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعطية، والسدي، وابن قتيبة في آخرين. والثاني: أنها نزلت في العزل، قاله سعيد بن المسيب، فيكون المعنى: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا. والقول الثاني: أنه بمعنى: إذا شئتم، ومتى شئتم، وهو قول ابن الحنفية والضحاك، وروي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنه بمعنى: حيث شئتم، وهذا محكي عن ابن عمر ومالك بن أنس، وهو فاسِد من وجوه: أحدها: أن سالم بن عبد الله لما بلغه أن نافعاً تحدث بذلك عن ابن عمر، قال: كذب العبد، إنما قال عبد الله: يؤتون في فروجهن من أدبارهن. وأما أصحاب مالك، فانهم ينكرون صحته عن مالك «1» .

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 261- 262: روى أبو داود عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن ابن عمر- والله يغفر له- أو هم وإنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلّا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة ... فذكر القصة بتمام سياقها، وقول ابن عباس إن ابن عمر- والله يغفر له- أوهم كأنه يشير إلى ما رواه البخاري عن نافع قال كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عنه يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال. أتدري فيم أنزلت؟ قلت لا قال: أنزلت في كذا وكذا ثم مضى. وعن عبد الصمد قال حدثني أبي حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قال أن يأتيها في؟ هكذا رواه البخاري. وقد تفرّد به من هذا الوجه. وقال ابن جرير عن ابن عون عن نافع: قال قرأت ذات يوم نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فقال ابن عمر أتدري فيم نزلت؟ قلت لا قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وروي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ولا يصح. وروى النسائي أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك وجدا شديدا فأنزل الله [الآية] ، وهذا الحديث محمول على أنه يأتيها في قبلها من دبرها. لما رواه النسائي عن أبي النضر قال لنافع مولى ابن عمر إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال: كذبوا عليّ ولكن سأحدثك كيف كان الأمر. إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فقال يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا قال: إنا كنا معشر قريش نجبي النساء فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد فآذاهن فكرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود. إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. وهذا إسناد صحيح وقد رواه ابن مردويه عن الطبراني عن كعب بن علقمة فذكره. وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا وأنه لا يباح ولا يحل وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه الله وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه فعل جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استحيوا إن الله لا يستحي من الحق لا يحل أن تأتوا النساء في حشوشهن» وفي رواية أحمد (أعجازهن) والنسائي وابن ماجة من طرق عن خزيمة بن ثابت. فائدة: قال الطحاوي في «مجمع الآثار» 3/ 46 فلما تواترت هذه الآثار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنهي عن وطأ المرأة في الدبر ثم جاء عن أصحابه وتابعيهم ما يوافق ذلك وجب القول به، وترك ما يخالفه اه. وفائدة أخرى: الآن ظهر الأمر جليا وذلك بمرض الإيدز- أي فقد المناعة- فقد أجمع الأطباء على أن الإتيان في الدبر سواء للرجل أو المرأة هو أكثر العوامل التي تسبب مرض الإيدز وهذا مما يؤيد ما نصّ عليه شرعنا الحنيف، فهو حرام قطعا ويقينا لا مجال للخوض فيه ولا للمناقشة وقد تقدم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وهي تبلغ حد الشهرة، ومشى إلى ذلك الصحابة والتابعون والفقهاء وأهل العلم سوى من شذ والله أعلم. وانظر مزيد الكلام عليه في «تفسير ابن كثير» 1/ 268- 272 عند هذه الآية بتعليقي. وانظر «تفسير الشوكاني» 1/ 262- 263 بتعليقي، والله الموفق للصواب.

(110) والثاني: أن أبا هريرة روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «ملعون من أتى النساء في أدبارهن» ، فدل على أن الآية لا يراد بها هذا. والثالث: أن الآية نبهت على أنه محل الولد بقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ، وموضع الزرع: هو مكان الولد. قال ابن الأنباري: لما نصَّ الله على ذكر الحرث، والحرث به يكون النبات، والولد مشبَّه بالنبات، لم يجز أن يقع الوطء في محل لا يكون منه ولد. والرابع: أن تحريم إتيان الحائض كان لعلة الأذى، والأذى ملازم لهذا المحل لا يفارقه. قوله تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: وقدموا لأنفسكم من العمل الصالح، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وقدموا التسمية عند الجماع، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: وقدموا لأنفسكم في طلب الولد، قاله مقاتل. والرابع: وقدّموا طاعة الله واتباع أمره، قاله الزجّاج.

_ حسن. أخرجه أبو داود 2162 وأحمد 2/ 444 والنسائي في «الكبرى» 9014 وفيه الحارث بن مخلد وهو مجهول كما في «التقريب» لكن للحديث شواهد يحسن بها. - وفي الباب «إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن» . أخرجه الشافعي 2/ 29 والنسائي في «الكبرى» 8982 و 8984 و 8985 و 8989 والدارمي 1/ 261 و 2/ 145 وأحمد 5/ 213- 215 وصححه ابن حبان 4198 و 4200 والطحاوي 3/ 43 وابن ماجة 1924 وابن الجارود 728 والطبراني 3741 و 3742 و 3743 والبيهقي 7/ 197 والخطابي في «غريب الحديث» 1/ 376 والبغوي في «التفسير» 1/ 199 من طرق كلهم من حديث خزيمة بن ثابت، وهو حديث قوي الإسناد لمجيئه من عدة طرق وله شواهد. وفي الباب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في دبرها» . إسناده حسن، رجاله رجال الصحيح، لكن في أبي خالد الأحمر- وهو سليمان بن حيان- كلام ينزله عن رتبة الصحيح. وأخرجه النسائي في «الكبرى» كما في التحفة 5/ 210 والترمذي 1165 وقال الترمذي حسن غريب. وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 251- 252 وأبو يعلى 2378 وابن حبان 4204 و 4418. وفي الباب أحاديث كثيرة تبلغ حد الشهرة.

[سورة البقرة (2) : آية 224]

[سورة البقرة (2) : آية 224] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ، في سبب نزولها أربعة أقوال: (111) أحدها: أنها نزلت في عبد الله بن رواحة، كان بينه وبين ختنه «1» شيء، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه، وجعل يقول: قد حلفت بالله، ولا يحل لي، إلا أن تبرّ يميني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. والثاني: أن الرجل كان يحلف بالله أن لا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله الربيع بن أنس. والثالث: أنها نزلت في أبي بكر حين حلف: لا ينفق على مسطح، قاله ابن جريج «2» . والرابع: نزلت في أبي بكر، حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم، قاله المقاتلان: ابن حيان، وابن سليمان «3» . قال الفراء: والمعنى: ولا تجعلوا الله مُعترضاً لأيمانكم. وقال أبو عبيد: نصباً لأيمانكم، كأنه يعني: أنكم تعترضونه في كل شيء فتحلفون به. وفي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها: لا تحلفوا بالله أن لا تبرّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وابن جبير، والضحاك، وقتادة، والسدي، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين. والثاني: أن معناها: لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبرّوهم، وتصلحوا بينهم بالكذب، روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس. والثالث: أن معناها: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارّين مصلحين، فان كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه، هذا قول ابن زيد. [سورة البقرة (2) : آية 225] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، قال الزجاج: اللغو في كلام العرب: ما أطُّرح ولم يعقد عليه أمر، ويسمى ما لا يعتد به، لغواً. وقال ابن فارس: اشتقاق ذلك من قولهم لما لا يعدّ من أولاد الإبل في الدّية أو غيرها لغو، يقال منه: لغا يلغو، وتقول: لغي بالأمر يلغى: إذا لهِج به. وقيل: إن اشتقاق اللغة منه: أي يلهج صاحبها بها. وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أن يحلف على الشيء ويظنّ أنه كما حلف، ثم يتبين له أنه بخلافه، وإلى هذا المعنى ذهب أبو هريرة، وابن عباس، والحسن، وعطاء، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي عن أشياخه، ومالك، ومقاتل. والثاني: أنه: لا والله، وبلى والله، من غير قصد لعقد اليمين، وهو قول عائشة، وطاوس، وعروة، والنخعي، والشافعي. واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، وكسب القلب: عقده وقصده، وهذان القولان منقولان عن الإمام أحمد، روى عنه ابنه

_ لا أصل له. ذكره الواحدي 148 عن الكلبي، وهو معضل والكلبي متهم.

[سورة البقرة (2) : آية 226]

عبد الله أنه قال: اللغو عندي أن يحلف على اليمين، يرى أنه كذلك، ولا كفارة. والرجل يحلف ولا يعقد قلبه على شيء، فلا كفارة. والثالث: أنه يمين الرجل وهو غضبان، رواه طاوس عن ابن عباس. والرابع: أنه حلف الرجل على معصية، فليحنث، وليكفِّر، ولا إثم عليه، قاله سعيد بن جبير. والخامس: أن يحلف الرجل على شيء، ثم ينساه، قاله النخعي. وقول عائشة أصح الجميع. قال حنبل: سئل أحمد عن اللغو فقال: الرجل يحلف فيقول: لا والله، وبلى والله، لا يريد عقد اليمين، فاذا عقد على اليمين لزمته الكفارة. قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، قال مجاهد: أي: ما عقدت عليه قلوبكم. «والحليم» : ذو الصفح الذي لا يستفزه غضب، فيعجل، ولا يستخفه جهل جاهل مع قدرته على العقوبة. قال أبو سليمان الخطابي: ولا يستحق اسم الحليم من سامح مع العجز عن المجازاة، إنما الحليم الصفوح مع القدرة، المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة. وقد أنعم بعض الشعراء أبياتاً في هذا المعنى، فقال: لا يدرك المجدَ أقوامٌ وإِن كرموا ... حتى يذلّوا وإِن عزّوا لأقوام ويُشْتَموا فترى الألوانَ مسفرةً ... لا صفح ذلٍ ولكن صفحَ أحلام قال: ويقال: حَلم الرجل يحلمُ حُلُما بضم اللام في الماضي والمستقبل. وحلَم في النوم، بفتح اللام، يحلم حُلماً، اللام في المستقبل والحاء في المصدر مضمومتان. فصل: الأيمان على ضربين، ماضٍ ومستقبل، فالماضي على ضربين: يمين محرمة، وهي: اليمين الكاذبة، وهي أن يقول: والله ما فعلت، وقد فعل. أو: قد فعلت، وما فعل. ويمين مباحة، وهي أن يكون صادقاً في قوله: ما فعلت، أو: لقد فعلت. والمستقبلة على خمسة أقسام: أحدها: يمين عقدها طاعة والمقام عليها طاعة، وحلها معصية، مثل أن يحلف: لأصلينَّ الخمس، ولأصومنَّ رمضان، أو: لا شربت الخمر. والثاني: عقدها معصية، والمقام عليها معصية، وحلها طاعة، وهي عكس الأولى. والثالث: يمين عقدها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلّها مكرهة، مثل أن يحلف: ليَفعلنّ النوافل من العبادات. والرابع: يمين عقدها مكروه، والمقام عليها مكروه، وحلها طاعة، وهي عكس التي قبلها. والخامس: يمين عقدها مباح، والمقام عليها مباح، وحلها مباح مثل أن يحلف: لا دخلت بلداً فيه من يظلم الناس، ولا سلكت طريقا مخوفا، ونحو ذلك «1» . [سورة البقرة (2) : آية 226] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ. (112) قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئاً، فأبت أن تعطيه

_ حسن. أخرجه سعيد بن منصور 1884 والطبراني في «الكبير» 11/ 158 والبيهقي في 7/ 381 والواحدي في «أسباب النزول» 149 عن ابن عباس وإسناده حسن، ورجاله ثقات.

حلف أن لا يقربها السنة، والثلاث، فيدعها لا أيّماً ولا ذات بعل، فلما كان الإسلام جعل الله تعالى ذلك للمسلمين أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، وكان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبداً، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية. قال ابن قتيبة: يؤلون، أي: يحلفون، يقال: آليت من امرأتي، أولي إيلاء: إذا حلف لا يجامعها. والاسم: الأليَّة. وقال الزجاج: يقال من الإيلاء: آليت أولي إيلاء وأليَّة وأُلْوةً وأَلْوَةً وإِلْوَةً، وهي بالكسر أقل اللغات، قال كثير: قليل الألايا حافظٌ ليمينه ... وإِن بدرت منه الأليَّة برَّت وحكي ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: «من» بمعنى: «في» أو: «على» ، والتقدير: على وطء نسائهم، فحذف الوطء، وأقام النساء مقامه، كقوله تعالى: ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «1» ، أي: على ألسنة رسلك. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يؤلون، يعتزلون من نسائهم. والتربص: الانتظار. ولا يكون مؤلياً إلا إذا حلف بالله لا يصيب زوجته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر فما دون، لم يكن مؤلياً. وهذا قول مالك، وأحمد، والشافعي «2» . وفاؤوا: رجعوا، ومعناه رجعوا إلى

_ (1) آل عمران: 194. (2) قال القرطبي رحمه الله 3/ 100: واختلف العلماء فيما يقع فيه الإيلاء من اليمين، فقال قوم: لا يقع الإيلاء إلّا باليمين بالله تعالى وحده. لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وبه قال الشافعي في الجديد. وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء وبه قال النخعي ومالك والشعبي وأهل الحجاز وسفيان الثوري وأهل العراق والشافعي في القول الآخر. قال ابن عبد البر: وكل يمين لا يقدر صاحبها على جماع امرأته من أجلها إلّا بأن يحنث بها فهو بها مول، إذا كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر. فإن قال: أقسم أو عزم ولم يذكر الله فقيل: لا يدخل عليه الإيلاء، إلّا أن يكون أراد ب «الله» ونواه. واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن، فقال ابن عباس: لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا. وقالت طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. وقال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة فما دونها لا يكون موليا وكانت عندهم يمينا محضا. لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور. وقال مالك والشافعي: جعل الله للمولي أربعة أشهر، فهي بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجّل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلّا بعد تمام الأجل. واختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر فانقضت الأربعة أشهر فلم تطالبه امرأته ولا رفعته إلى السلطان ليوقفه، لم يلزمه شيء عند مالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة. ومن علمائنا من يقول: يلزمه بانقضاء الأربعة أشهر طلقة رجعية. ومن غيرهم من يقول: طلقة بائنة والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه، وذلك أن المولي لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجته له ليفيء ويكفر عن يمينه أو يطلق ولا يتركه حتى يفيء أو يطلق. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور واختاره ابن المنذر. وأجل المولي من يوم الحلف لا من يوم تخاصمه امرأته وترفعه إلى الحاكم. وأوجب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور العلماء الكفارة على المولي إذا فاء بجماع امرأته وقال الحسن: لا كفارة عليه، وبه قال النخعي. قلت: وقد يستدل لهذا القول من السنة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإنّ تركها كفارتها» .

[سورة البقرة (2) : آية 227]

الجماع، قاله عليّ، وابن عباس، وابن جبير، ومسروق، والشعبي، وإذا كان للمؤلي عذر لا يقدر معه على الجماع، فإنه يقول: متى قدرت جامعتها، فيكون ذلك من قوله فيئة فمتى قدر فلم يفعل، أمر بالطلاق، فان لم يطلق، طلق الحاكم عليه. قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قال عليّ، وابن عباس: غفور لإثم اليمين. [سورة البقرة (2) : آية 227] وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، أي: حققوه «1» . وفي عزم الطلاق قولان: أحدهما: أنه إذا مضت الأربعة أشهر استحق عليه أن يفيء، أو يطلق، وهو مروي عن عمر، وعثمان، وعليّ، وابن عمر، وسهل بن سعد، وعائشة، وطاوس، ومجاهد، والحكم، وأبي صالح. وحكاه أبو صالح عن اثني عشر رجلاً من الصحابة، وهو قول مالك، وأحمد، والشافعي. والثاني: أنه لا يفيء حتى يمضي أربعة أشهر، فتطلق بذلك من غير أن يتكلم بطلاق. واختلف أرباب هذا القول فيما سيلحقها من الطلاق على قولين: أحدهما: طلقة بائنة. روي عن عثمان، وعليّ، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب. والثاني: طلقة رجعية، روي عن سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شبرمة. قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيه قولان: أحدهما: سميع لطلاقه، عليم بنيته. والثاني: سميع ليمينه، عليم بها. [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، سبب نزولها: أن المرأة كانت إذا طلقت وهي راغبة في زوجها، قالت: أنا حبلى، وليست حبلى، لكي يراجعها، وإن كانت حبلى وهي كارهة، قالت: لست بحبلى، لكي لا يقدر على مراجعتها. فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا، فنزل قوله تعالى:

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 107: في قوله تعالى وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ دليل على أنها لا تطلق بمضي أربعة أشهر كما قال مالك، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة. وأيضا فإنه قال: «سميع» وسميع يقتضي مسموعا بعد المضي. وقال أبو حنيفة: «سميع» لإيلائه «عليم» بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ بعد انقضائها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وتقديرها عندهم لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فيها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. قال ابن عربي: وهذا احتمال متساو ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه. قلت: وإذا تساوى الاحتمالين كان القول قياسا على المعتدة بالشهور والأقراء إذ كل أجل ضربه الله تعالى فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلّا بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق والله أعلم.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ «1» ، ثم نزلت: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. فأما التفسير فالطلاق: التخلية. قال ابن الأنباري: هي من قول العرب: أطلقت الناقة، فطلقت: إذا كانت مشدودة، فأزلت الشد عنها، وخليتها، فشبه ما يقع للمرأة بذلك، لأنها كانت متصلة الأسباب بالرجل، وكانت الأسباب كالشد لها فلما طلقها قطع الأسباب. ويقال: طلقت المرأة وطُلّقت. وقال غيره: الطلاق: من أطلقت الشيء من يدي، إلا أنهم لكثرة استعمالهم اللفظتين فرقوا بينهما، ليكون التطليق مقصوراً في الزوجات. وأما القروء: فيراد بها: الأطهار، ويراد بها الحيض. يقال: أقرأت المرأة إذا حاضت، وأقرأت: إذا طهرت. (113) قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المستحاضة: «تقعد أيام أقرائها» ، يريد: أيام حيضها. وقال الأعشى: وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا «2» مُورِّثةٍ مالاً، وفي الحي رفعةً ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا أراد بالقروء: الأطهار، لأنه لما خرج عن نسائه أضاع أطهارهن. واختلف أهل اللغة في أصل القروء على قولين: أحدهما: أن أصله الوقت، يقال: رجع فلان لقرئه، أي: لوقته الذي كان يرجع

_ ضعيف. أخرجه الدارقطني 1/ 212 عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، قالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصّلاة؟ فقال: «دعي الصّلاة أيام أقرائك، ثم اغتسلي وصلّي وإن قطر الدم على الحصير» . وقال غيره عن وكيع «وتوضئي لكل صلاة» . وهو معلول. قال الدارقطني: قال يحيى بن سعيد: الثوري أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئا، ونقل الآبادي في «التعليق المغني» عن البيهقي في «المعرفة» قوله: حديث حبيب بن أبي ثابت ضعفه يحيى القطان وعلي المديني وابن معين، وكذا الثوري ا. هـ ملخصا. ولو صح هذا اللفظ لكان فيصلا في هذه المسألة إلّا أن عدم ثبوته جعل الناس مختلفين في شأن «القرء» هل المراد الطهر أو الحيض والله تعالى أعلم، وقد صح هذا الخبر موقوفا كما رجح غير واحد وهو الصواب، والمرفوع بهذا اللفظ ضعيف. - وأصل الخبر في «الصحيح» دون لفظ «أقرائك» . أخرجه البخاري 228 و 306 و 320 و 331 ومسلم 333 وأبو داود 282 والترمذي 125 والنسائي 1/ 81 و 85 و 186 ومالك 1/ 61 والشافعي 1/ 39- 40 وعبد الرزاق 1165 وابن أبي شيبة 1/ 125 والدارمي 1/ 199 وابن حبان 1350 والطحاوي في «المعاني» 1/ 102 والبيهقي 1/ 206 و 207 وأبو عوانة 1/ 319 وابن الجارود 112 والبيهقي 1/ 323 و 324 و 325 و 327 و 329 من طرق عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصّلاة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصّلاة، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. وانظر «تلخيص الحبير» 1/ 71.

فيه، ورجع لقارئه أيضاً. قال الهذلي: كرهت العقر عقر بني شليل ... إذا هبت لقارئها الرياح فالحيض يأتي لوقت، والطهر يأتي لوقت، هذا قول ابن قتيبة. والثاني: أن أصله الجمع. وقولهم: قرأت القرآن، أي: لفظت به مجموعاً. والقرء: اجتماع الدم في البدن، وذلك إنما يكون في الظّهر، وقد يجوز أن يكون اجتماعه في الرحم، وكلاهما حسن، هذا قول الزجاج. واختلف الفقهاء في الأقراء على قولين «1» : أحدهما: أنها الحيض، روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنه قال: قد كنت أقول: إن القروء: الأطهار، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض. والثاني: أنها الأطهار، روي عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، والزهري، وأبان بن عثمان، ومالك بن أنس، والشافعي، وأومأ إليه أحمد. ولفظ قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ، لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، كقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ «2» ، وقد يأتي لفظ الأمر في معنى الخبر كقوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا «3» ، والمراد بالمطلقات في هذه الآية، البالغات المدخول بهن غير الحوامل. قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحمل، قاله عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الحيض، قاله عكرمة، وعطية، والنخعي، والزهري. والثالث: الحمل والحيض، قاله ابن عمر، وابن زيد. وقوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، خرِّج مخرج الوعيد لهن والتوكيد، قال الزجاج: وهو كما تقول للرجل: إن كنت مؤمناً فلا تظلم. وفي سبب وعيدهم بذلك قولان: أحدهما: أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة، قاله ابن عباس. والثاني: لأجل إلحاق الولد بغير أبيه، قاله قتادة. وقيل: كانت المرأة إذا

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 108: اختلف العلماء في الأقراء. فقال أهل الكوفة: هي الحيض وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وذلك لاجتماع الدم في الرحم. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي وجعله اسما للطهر لاجتماعه في البدن. وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض، وهو جمعه، ومنه القرآن لاجتماع المعاني ويقال لاجتماع حروفه قال ابن عبد البر: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم: قريت الماء في الحوض ليس بشيء، لأن القرء مهموز وهذا غير مهموز. وقيل: القرء، الخروج وعلى هذا قال الشافعي القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرء. وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرء، ويكون معنى قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أي ثلاثة أدوار أو ثلاثة انتقالات والمطلقة متصفة بحالتين فقط، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض وتارة من حيض إلى طهر فيستقيم معنى الكلام ودلالته على الطهر والحيض جميعا، فيصير الاسم مشتركا. ويقال: إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض سنّيا مأمورا به، وهو الطلاق للعدة فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال، والطلاق في الطهر سنيا. (2) البقرة: 233. (3) مريم: 75.

رغبت عن زوجها، قالت: إني حائض، وقد طهرت. وإذا زهدت فيه، كتمت حيضها حتى تغتسل، فتفوته. والبعولة: الأزواج. و «ذلك» : إشارة إلى العدة، قاله مجاهد، والنخعي، وقتادة في آخرين. وفي الآية دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوله، ولا يوجب تخصيصه، لأن قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ، عام في المبتوتات والرجعيات، وقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ خاص في الرجعيات. قوله تعالى: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً، قيل: إن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته، طلقها واحدة وتركها، فاذا قارب انقضاء عدتها راجعها، ثم تركها مدّة، ثم طلقها، فنهوا عن ذلك. وظاهر الآية يقتضي أنه إنما يملك الرجعة على غير وجه المضارة بتطويل العدة عليها، غير أنه قد دل قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا، على صحة الرجعة وإن قصد الضرار، لأن الرجعة لو لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ظالماً بفعلها. قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وهو: المعاشرة الحسنة، والصحبة الجميلة. (114) روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن حق المرأة على الزوج فقال: «أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت» . وقال ابن عباس: إني أحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي لهذه الآية. قوله تعالى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال. وقال مجاهد: بالجهاد والميراث. وقال أبو مالك: يطلقها، وليس لها من الأمر شيء. وقال الزجاج: تنال منه من اللذة كما ينال منها، وله الفضل بنفقته. (115) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لو أمرتُ أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» .

_ صحيح. أخرجه النسائي في «الكبرى» 9171 و 11104 وابن ماجة 1850 وأحمد 4/ 447 وابن حبان 4175 والطبراني 19/ 1034 و 1037 و 1038 والحاكم 2/ 187- 188 وابن أبي الدنيا في «العيال» 488 والبيهقي 7/ 295 و 305 من طرق عن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو داود 2143 وأحمد 5/ 5 والطبراني 19/ 1000 وابن أبي الدنيا 489 من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وأخرجه أحمد 5/ 3 عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي قزعة وعطاء. صحيح بشواهده. أخرجه الترمذي 1159 وابن حبان 4162 والبيهقي 7/ 291 من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. ومحمد بن عمرو حسن الحديث. وأخرجه الحاكم 4/ 171- 172 والبزار 1466 من طريق سليمان بن داود من حديث أبي هريرة وصححه الحاكم وقال الذهبي: بل سليمان هو اليمامي ضعفوه. وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع» 4/ 307. وله شواهد- منها حديث أنس عند النسائي في «الكبرى» 9147 وأحمد 3/ 58 والبزار 2454 وابن أبي الدنيا 529. وفي إسناده، خلف بن خليفة صدوق اختلط في الآخر كما في «التقريب» . وحديث عائشة عند ابن ماجة 1852 وأحمد 6/ 86. وابن أبي الدنيا 541 وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وحديث ابن عباس عند الطبراني 12003 والبزار 1467 وابن أبي الدنيا في «العيال» 542 وفيه الحكم بن طهمان، وهو ضعيف. وحديث معاذ بن جبل من طريق أبي ظبيان. أخرجه أحمد 5/ 227- 228 (21480) وإسناده منقطع أبو ظبيان لم يسمع من معاذ. وأخرجه أيضا برقم 21481 من طريق ابن نمير عن الأعمش قال سمعت أبا ظبيان يحدث عن رجل من الأنصار عن معاذ بن جبل ... فذكره. وورد من طريق أخرى عن معاذ بن جبل مرفوعا عند الحاكم 4/ 172 والبزار 1461 والطبراني في «الكبير» 20/ 52 وابن أبي الدنيا في «العيال» 538 وصححه الحاكم على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! مع أنه من رواية القاسم بن عوف الشيباني، وقد تفرد عنه مسلم، ولم يدرك معاذا. وقال الهيثمي في «المجمع» 4/ 309 (7649) ورجال البزار رجال الصحيح، وكذلك طريق من طرق أحمد، وروى الطبراني بعضه أيضا اه. وأخرجه ابن ماجة 1853 وأحمد 4/ 381 وابن حبان 4171 والبيهقي 7/ 292 عن أيوب عن القاسم بن عوف الشيباني عن ابن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم...... فذكره. وفي إسناده القاسم وثقه ابن حبان، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث، ومحله عندي الصدق. وروى له مسلم حديثا واحدا. وأخرجه البزار 1470 والطبراني 7294 وابن أبي الدنيا في «العيال» 539 عن القاسم بن عوف عن ابن أبي ليلى عن أبيه عن صهيب أن معاذا..... فذكره. وقال الهيثمي في «المجمع» 4/ 310: وفيه النهاس بن قهم، وهو ضعيف اه. وأخرجه البزار 1468 و 1469 والطبراني في «الكبير» 5117 وابن أبي الدنيا 543. وقال الهيثمي: وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح، خلا صدفة بن عبد الله السمين، وثقه أبو حاتم وجماعة، وضعفه البخاري وجماعة اه. الخلاصة: المرفوع منه صحيح بمجموع طرق شواهده.

[سورة البقرة (2) : آية 229]

وقالت ابنة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم. فصل: اختلف العلماء في هذه الآية: هل تدخل في الآيات المنسوخات أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها تدخل في ذلك. واختلف هؤلاء في المنسوخ منها، فقال قوم: المنسوخ منها قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، وقالوا: فكان يجب على كل مطلقة أن تعتدّ بثلاثة قروء، فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «1» ، وحكم المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «2» ، وهذا مروي عن ابن عباس، والضحاك في آخرين. وقال قوم: أولها محكم، والمنسوخ قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ، قالوا: كان الرجل إذا طلق امرأته كان أحق برجعتها، سواء كان الطلاق ثلاثاً، أو دون ذلك، فنسخ بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «3» . والقول الثاني: أن الآية كلها محكمة، فأولها عام. والآيات الواردة في العدد خصت ذلك من العموم، وليس بنسخ. وأما ما قيل في الارتجاع، فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ، أي: في العدة قبل انقضاء القروء الثلاثة، وهذا القول هو الصحيح. [سورة البقرة (2) : آية 229] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ.

_ (1) الطلاق: 4. (2) الطلاق: 1. (3) البقرة: 230.

(116) سبب نزولها: أن الرجل كان يطلق امرأته، ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه، فقال رجل من الأنصار لامرأته: والله لا أؤويك إليّ أبدا ولا تحلِّين مني. فقالت: كيف ذلك؟ قال: أطلقك، فاذا دنا أجلك، راجعتك، فذهبتْ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، تشكو إليه ذلك فنزلت هذه الآية، فاستقبلها الناس جديداً من كان طلق، ومن لم يكن يطلّق. رواه هشام بن عروة عن أبيه. فأما التفسير، ففي قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قولان: أحدهما: أنه بيان لسنَّة الطلاق، وأن يوقع في كل قرءٍ طلقة، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه بيان للطلاق الذي تملك معه الرجعة، قاله عروة، وقتادة، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين. قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، معناه: فالواجب عليكم إمساك بمعروف، وهو ما يعرف من إقامة الحق في إمساك المرأة. وقال عطاء، ومجاهد، والضحاك، والسدي: المراد بقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ: الرجعة بعد الثانية. وفي قوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، قولان: أحدهما: أن المراد به: الطلقة الثالثة، قاله عطاء، ومجاهد، ومقاتل. والثاني: أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدتها، قاله الضحاك، والسدي. قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفرّاء وهذا هو الصحيح، لأنه قال عقيب الآية: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، والمراد بهذه الطلقة الثالثة بلا شك، فيجب إذن أن يحمل قوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ على تركها حتى تنقضي عدتها، لأنه إن حمل على الثالثة، وجب أن يحمل قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها على رابعة، وهذا لا يجوز. فصل: الطلاق على أربعة أضرب: واجب، ومندوب إليه، ومحظور، ومكروه. فالواجب: طلاق المؤلي بعد التربص، إذا لم يفئ، وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين، إذا رأيا الفرقة. والمندوب: إذا لم يتفقا، واشتدَّ الشقاق بينهما، ليتخلصا من الإثم. والمحظور: في الحيض، إذا كانت مدخولاً بها، وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر. والمكروه: إذا كانت حالهما مستقيمة، وكل واحد منهما قيّم بحال صاحبه. قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً. (117) نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس، أتت زوجته إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضاً. فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم:

_ أخرجه مالك 2/ 588 والطبري عن عروة مرسلا. ووصله الترمذي 1192 والحاكم 2/ 279- 280 والواحدي 152 والبيهقي 7/ 333 من حديث عائشة، وصححه الحاكم، وضعفه الذهبي بقوله: يعقوب بن حميد غير واحد. قلت: وفيه يعلى بن شبيب وثقه ابن حبان وهو مجهول، فالراجح إرساله لكن مراسيل عروة جياد. ولبعضه شاهد من مرسل قتادة أخرجه الطبري 4785، ومن مرسل ابن زيد أخرجه برقم 4787. جيد. أخرجه ابن ماجة 2056 بهذا اللفظ من حديث ابن عباس وإسناده جيد كما قال ابن كثير. - وأصله. أخرجه البخاري 5273 و 5274 و 5275 و 5276 والنسائي 6/ 169 والبيهقي 7/ 313 من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال: «أتردين عليه حديقته؟» قالت نعم. وفي الباب روايات وألفاظ أخرى.

«أتردّين عليه حديقته» ؟ قالت: نعم، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن يأخذها، ولا يزداد. رواه عكرمة عن ابن عباس. واختلفوا في اسم زوجته، فقال ابن عباس: جميلة. ونسبها يحيى بن أبي كثير، فقال: جميلة بنت عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكناها مقاتل، فقال: أمّ حبيبة بنت عبد الله بن أبيّ. وقال آخرون: إنما هي جميلة أخت عبد الله بن أبيّ، وروى يحيى بن سعيد عن عمرة روايتين: إحداهما: أنها حبيبة بنت سهل. والثانية: سهلة بنت حبيب. وهذا الخلع أول خلع كان في الإسلام. والخوف في الآية بمعنى: العلم. والحدود قد سبق بيان معناها. ومعنى الآية: أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها لبغضها إياه، وخاف الزوج أن يعتدي عليها لامتناعها عن طاعته جاز له أن يأخذ منها الفدية، إذا طلبت ذلك. هذا على قراءة الجمهور في فتح «ياء» يَخافا، وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو جعفر، وحمزة والأعمش: (يُخافا) بضم الياء. قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ، قال قتادة: هو خطاب للولاة، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما على المرأة فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، وعلى الزوج فيما أخذ، لأنه ثمن حقّه. وقال الفراء: يجوز أن يراد الزوج وحده، وإن كانا قد ذكرا جميعاً كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «1» ، وإنما يخرج من أحدهما. وقوله: نَسِيا حُوتَهُما «2» : وإنما نسي أحدهما. فصل: وهل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؟ فيه قولان «3» : أحدهما: يجوز، وبه قال عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والضحاك ومالك والشافعي. والثاني: لا يجوز، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي وطاوس وابن جبير والزّهريّ وأحمد بن

_ (1) الرحمن: 22. (2) الكهف: 61. (3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 269- 270: ولا يستحب له أن يأخذ أكثر مما أعطاها، هذا القول يدلّ على صحة الخلع بأكثر من الصداق، وأنهما إذا تراضيا على الخلع بشيء صح. وهذا قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عثمان وابن عمر، وابن عباس، وعكرمة ومجاهد وقبيصة بن ذؤيب، والنخعي، ومالك، والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى عن ابن عباس وابن عمر، أنهما قالا: لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها، وعقاص رأسها، كان ذلك جائزا. قال عطاء، وطاوس والزهري وعمرو بن شعيب: لا يأخذ أكثر مما أعطاها. وروي ذلك عن عليّ بإسناد منقطع. واختاره أبو بكر، قال: فإن فعل رد الزيادة. وعن سعيد بن المسيب قال: ما أرى أن يأخذ كل مالها، ولكن ليدع لها شيئا. واحتجّوا بما روي أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضاً. فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتردّين عليه حديقته؟» قالت: نعم فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. رواه ابن ماجة، ولأنه بذل في مقابلة فسخ، فلم يزد على قدره في ابتداء العقد، كالعوض في الإقالة. ولنا قول الله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. ولأنه قول من سمينا من الصحابة قالت الربيع بنت معوّذ: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومثل هذا يشتهر، فلم ينكر، فيكون إجماعا، ولم يصح عن عليّ على خلافه. فإذا ثبت هذا، فإنه لا يستحب له أن يأخذ أكثر مما أعطاها. وبذلك قال سعيد بن المسيب، والحسن، والشعبيّ، والحكم ومالك والشافعي. قال مالك: لم أزل أسمع إجازة الفداء بأكثر من الصداق. ولنا، حديث جميلة. وروي عن عطاء، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها. رواه أبو حفص بإسناده. وهو صريح في الحكم، فنجمع بين الآية والخبر، فنقول الآية دالة على الجواز، والنهي عن الزيادة للكراهية. والله أعلم. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 230]

حنبل، وقد نقل عن عليّ والحسن أيضاً. وهل يجوز الخلع دون السلطان؟ قال عمر وعثمان وعليّ وابن عمر وطاوس وشريح والزهري: يجوز، وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن وابن سيرين وقتادة: لا يجوز إلا عند السّلطان. [سورة البقرة (2) : آية 230] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، ذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النّضيريّ، وفي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن القرظي. (118) وقال غير مقاتل: إنها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها، فطلقها ثلاثاً، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير، ثم طلّقها، فأتت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني، فأبتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه طلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» . قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها، يعني: الزوج المطلق مرتين. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: هي الطلقة الثالثة. واعلم أن الله تعالى عاد بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام في الطلاق. قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها، يعني: الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني: المرأة، والزوج الأول إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، قال طاوس: ما فرض الله على كل واحد منهما من حسن العشرة والصحبة. قوله تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها قراءة الجمهور (يبينها) بالياء. وقرأ الحسن ومجاهد، والمفضل عن عاصم بالنون لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، قال الزجاج: يعلمون أن أمر الله حقّ. [سورة البقرة (2) : آية 231] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) قوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، قال ابن عباس: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها بذلك، فنزلت هذه الآية. والأجل هاهنا: زمان العدة. ومعنى البلوغ هاهنا: مقارنة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه، يقال: بلغت المدينة: إذا قاربتها، وبلغتها: إذا دخلتها. وإنما حمل العلماء هذا البلوغ على المقاربة، لأنه ليس بعد انقضاء العدة رجعة. قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة: المراد به الرجعة قبل انقضاء العدة. قوله تعالى: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وهو تركها حتى تنقضي عدّتها.

_ صحيح. أخرجه البخاري 2639 و 2792 و 6084 ومسلم 1433 ح 111 و 112 والترمذي 1118 والنسائي 6/ 93 والدارمي 2/ 161 وابن ماجة 1932 من حديث عائشة مع اختلاف يسير فيه. وأخرجه أبو داود 2309 وأحمد 6/ 42 والنسائي 6/ 146 وابن حبان 4122 من وجه آخر عن عائشة.

[سورة البقرة (2) : آية 232]

والمعروف في الإمساك: القيام بما يجب لها من حق، والمعروف في التسريح: أن لا يقصد إضرارها، بأن يطيل عدتها بالمراجعة، وهو معنى قوله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا، قاله الحسن ومجاهد، وقتادة في آخرين. وقال الضحاك: إنما كانوا يضارّون المرأة لتفتدي وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاعتداء، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بارتكاب الإثم. قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فيه قولان: أحدهما: أنه الرجل يطلق أو يراجع، أو يعتق، ويقول: كنت لاعباً. روي عن عمر، وأبي الدرداء، والحسن. والثاني: أنه المضارّ بزوجته في تطويل عدّتها بالمراجعة قبل الطلاق، قاله مسروق، ومقاتل. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، قال ابن عباس: احفظوا منته عليكم بالإسلام. قال: والكتاب: القرآن. والحكمة: الفقه. وَاتَّقُوا اللَّهَ، في الضرار وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ به وبغيره عَلِيمٌ. [سورة البقرة (2) : آية 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) قوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ في سبب نزولها قولان: (119) أحدهما: ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوج أخته من رجل من المسلمين، فكانت عنده ما كانت، فطلقها تطليقة ثم تركها ومضت العدّة، وكانت أحق بنفسها، فخطبها مع الخطاب، فرضيت أن ترجع إليه، فخطبها إلى معقل، فغضب معقل، وقال: أكرمتك بها، فطلقتها؟! لا والله! لا ترجع إليك آخر ما عليك. قال الحسن: فعلم الله، عزّ وجلّ، حاجة الرجل إلى امرأته، وحاجة المرأة إلى بعلها، فنزلت هذه الآية، فسمعها معقل، فقال: سمعاً لربي، وطاعة، فدعا زوجها، فقال: أزوجك، وأكرمك. ذكر عبد الغني الحافظ عن الكلبي أنه سمى هذه المرأة، فقال: جميلة بنت يسار. (120) والثاني: أن جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم، فطلقها زوجها تطليقة، فانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها، فأبى جابر، وقال: طلقت ابنة عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية؟! وكانت المرأة تريد زوجها، قد راضته، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. فأما بلوغ الأجل في هذه الآية، فهو انقضاء العدة، بخلاف التي قبلها. قال الشّافعيّ رضي الله عنه: دل اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين. قوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ، خطاب للأولياء، قال ابن عباس، وابن جبير، وابن قتيبة في آخرين: معناه لا تحبسوهن، والعرب تقول للشدائد: معضلات. وداءٌ عضال: قد أعيا. قال أوس بن حجر: وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا ولكنه النائي إذا كنت آمناً ... وصاحبك الأدنى إِذا الأمر أعضلا

_ صحيح. أخرجه البخاري 4529 و 5130 و 5131 وأبو داود 2087 والترمذي 2981 واستدركه الحاكم 2/ 280 والواحدي 153 من حديث الحسن عن معقل بن يسار. ضعيف. أخرجه الطبري 4942 والواحدي في «أسباب النزول» 156 وذكر هذا القول ابن كثير في تفسيره وقال: الصحيح الأول أي حديث معقل.

[سورة البقرة (2) : آية 233]

وقالت ليلى الأخيلية: إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها شَفَاها من الدَّاءِ العُضَالِ الذي بها ... غلامٌ إذا هزَّ القناة سقاها قال الزجاج: وأصل العضل، من قولهم: عضلت الدجاجة، فهي مُعضِل: إذا احتبس بيضها ونشب «1» فلم يخرج، وعضلت الناقة أيضاً: إذا احتبس ولدها في بطنها. قوله تعالى: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، قال السدي، وابن قتيبة: معناه إذا تراضى الزوجان بالنكاح الصحيح. قال الشافعي: وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوج إلا بولي. قوله تعالى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ، قال مقاتل: الإشارة إلى نهي الولي عن المنع. قال الزجاج: إنما قال: «ذلك» ولم يقل: «ذلكم» وهو يخاطب جماعة، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد، فالمعنى: ذلك أيها القبيل. قوله تعالى: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ، يعني ردّ النساء إلى أزواجهن، أفضل من التّفرقة بينهم، وَأَطْهَرُ، أي: أنقى لقلوبكم من الريبة لئلا يكون هناك نوع محبة، فيجتمعان على غير وجه صلاح. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: يعلم ودّ كل واحد منهما لصاحبه، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: يعلم مصالحكم عاجلاً وآجلا، قاله الزجّاج في آخرين. [سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «2» ، وقال القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء، لأن عليهم الاسترضاع، لا إلى الوالدات، بدليل قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ، وقوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «3» ، فلو كان متحتماً على الوالدة، لم تستحق الأجرة، وهل هو عام في جميع الوالدات؟ فيه قولان: أحدهما: أنه خاص في المطلقات، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه عام في الزوجات والمطلقات، ولهذا يقال: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة، قاله القاضي أبو يعلى، وأبو سليمان الدمشقي في آخرين. والحول: السنة، وفي قوله: كامِلَيْنِ قولان: أحدهما: أنه دخل للتوكيد كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «4» . والثاني: أنه لما جاز أن يقول: «حولين» ، ويريد أقل منهما، كما قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ «5» ، ومعلوم أنه يتعجل في يوم، وبعض آخر. وتقول العرب: لم أر فلاناً منذ يومين، وإنما

_ (1) في «القاموس» نشب وانتشب: اعتلق، وتناشبوا: تضاموا وتعلق بعضهم ببعض. (2) البقرة: 228. (3) النساء: 24. (4) البقرة: 196. (5) البقرة: 203.

يريدون: يوماً وبعض آخر- قال: كاملين لتبيين أنه لا يجوز أن يُنقص منهما، وهذا قول الزجاج، والفراء. فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، فقال بعضهم: هو محكم، والمقصود منه بيان مدة الرضاع، ويتعلق به أحكام، منها أنه كمال الرضاع، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرضاع مدّة الحولين، ويجبره الحاكم على ذلك، ومنها أنه يثبت تحريم الرضاع في مدَّة الحولين، ولا يثبت فيما زاد، ونقل عن قتادة، والربيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما، قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: وهذا قول بعيد، لأن الله تعالى قال في أولها: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، فلما قال في الثاني: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما خيّر بين الإرادتين، وذلك لا يعارض المدة المقدرة في التمام. قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، أي: هذا التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرضاعة. وقرأ مجاهد بتاءين «تتم الرضاعةُ» وبالرفع، وهي رواية الحلبي عن عبد الوارث. وقد ذكر التمام على نفي حكم الرضاع بعد الحولين، وأكثر القراء على فتح راء «الرضاعة» ، وقرأ طلحة بن مُصرِّف، وابن أبي عبلة، وأبو رجاء بكسرها، قال الزجاج، يقال: الرضاعة بفتح الراء وكسرها، والفتح أكثر، ويقال: ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرضاعة بالفتح هاهنا لا غير. قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ، يعني: الأب. رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ يعني: المرضعات. وفي قوله: بِالْمَعْرُوفِ دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر ما لا يطيقه، ولا الموسر النزر الطفيف. وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، إذ لا يتوصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن، إذ هو معتبر بالعادة. قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، أي: إلا ما تطيقه. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان عن عاصم (لا تضارُّ) برفع الراء، وقرأ نافع وعاصم، وحمزة، والكسائي بنصبها، قال أبو عليّ: من رفع، فلأجل المرفوع قبله، وهو «لا تكلفُ» ، فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ، ومن نَصب جعله أمراً، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف، قال ابن قتيبة: معناه: لا تضارر، فأدغمت الراء في الراء. وقال سعيد بن جبير: لا يحملنّ المطلقة مضارة الزوج أن تلقي إليه ولده. وقال مجاهد: لا تأبى أن ترضعه ضراراً بأبيه، ولا يضارّ الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه، ليحزنها بذلك. وقال عطاء، وقتادة، والزهري، وسفيان، والسدي في آخرين: إذا رضيت بما يرضى به غيرها، فهي أحق به. وقرأ أبو جعفر: «لا تضار» بتخفيفها وإسكانها. قوله تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه وارث المولود، وهو قول عطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى، وقتادة، والسدي، والحسن بن صالح، ومقاتل في آخرين واختلف أرباب هذا القول، فقال بعضهم: هو وارث المولود من عصبته، كائناً من كان، وهذا مروي عن عمر، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، وسفيان. وقال بعضهم: هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء، روي عن ابن أبي ليلى، وقتادة، والحسن بن صالح، وإسحاق، وأحمد بن حنبل. وقال آخرون: هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود، روي عن أبي حنيفة،

[سورة البقرة (2) : آية 234]

وأبي يوسف، ومحمد. والقول الثاني: أن المراد بالوارث هاهنا، وارث الوالد، روي عن الحسن والسدي. والثالث: أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر، روي عن سفيان. والرابع: أنه أريد بالوارث الصبي نفسه، فالنفقة عليه، فإن لم يملك شيئاً، فعلى عصبته، قاله الضحاك، وقبيصة بن ذؤيب. قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: وهذا القول لا ينافي قول من قال: المراد بالوارث وارث الصبي، لأن النفقة تجب للموروث على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه. وفي قوله تعالى: مِثْلُ ذلِكَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الإشارة إلى أجرة الرضاع والنفقة، روي عن عمر، وزيد بن ثابت، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وابراهيم، وقتادة، وقبيصة بن ذؤيب، والسدي. واختاره ابن قتيبة. والثاني: أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضرار، روي عن ابن عباس والشعبي والزهري. واختاره الزجاج. والثالث: أنه إشارة إلى جميع ذلك، روي عن سعيد بن جبير ومجاهد ومقاتل وأبي سليمان الدمشقي واختاره القاضي أبو يعلى. ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله، وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة، وأن لا يضار، فيجب أن يكون قوله: مِثْلُ ذلِكَ مشيراً إلى جميع ما على المولود له. قوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا، الفصال: الفطام. قال ابن قتيبة: يقال: فصلت الصبيّ من أمّه: إذا فطمته. ومنه قيل للحوار «1» إذا قُطع عن الرضاع: فصيل، لأنه فصل عن أمه، وأصل الفصل: التفريق. قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن تفطم وأبى، فليس لها، وإن أراد هو، ولم ترد، فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما وإلى صبيهما. قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ، قال الزجاج: أي: لأولادكم. قال مقاتل: إِذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها، فلا حرج على الأب أن يسترضع لولده. وفي قوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ قولان: أحدهما: إذا سلَّمتم أيها الآباء إِلى أمهات الأولاد أُجور ما أرضعن قبل امتناعهن، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: إذا سلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. وقرأ ابن كثير (ما أتيتم) بالقصر، قال أبو عليّ: وجهه أن يقدّر فيه: ما أوتيتم نقده أو أوتيتم سوقه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما تقول: أتيت جميلا، أي: فعلته. [سورة البقرة (2) : آية 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، أي: يقبضون بالموت. وقرأ المفضَّل عن عاصم «يَتوفون» بفتح الياء في الموضعين. قال ابن قتيبة: هو من استيفاء العدد، واستيفاء الشيء: أن نستقصيه كلّه، يقال: توفّيته واستوفيته، كما يقال: تيقّنت الخير واستيقنته، هذا الأصل، ثم قيل للموت: وفاة وتوفّ يَتَرَبَّصْنَ ينتظرن، قال الفراء: وإنما قال: وَعَشْراً ولم يقل: عشرة، لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام، غلّبوا عليه الليالي على الأيام، حتى إنهم ليقولون: صمنا عشراً من شهر رمضان،

_ (1) في «اللسان» الحوار: ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم ويفصل.

لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فاذا أظهروا مع العدد تفسيره، كانت الإناث بغير هاء، والذكور بالهاء «1» كقوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «2» . فان قيل: ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة؟ فالجواب: أنه يبين صحة الحمل بنفخ الروح فيه، قاله سعيد بن المسيب، وأبو العالية. (121) ويشهد له الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح» . فصل: وهذه الآية ناسخة للتي تشابهها، وهي تأتي بعد آيات، وهي قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدة سنة،

_ صحيح. أخرجه البخاري 3208 و 3332 و 6594 و 7454 ومسلم 2643 وأبو داود 4708 والترمذي 2137 والنسائي 6/ 29 وابن ماجة 76 وابن حبان 6174 والبيهقي 387 و 137- 138 من حديث ابن مسعود: «إِن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخل النار وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها» لفظ البخاري.

[سورة البقرة (2) : آية 235]

وسنذكر ما يتعلق بها هنالك، إن شاء الله. فأما التي نحن في تفسيرها: فقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسختها وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «1» . والصحيح: أنها عامة دخلها التخصيص، لأن ظاهرها يقتضي وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، سواء كانت حاملاً، أو غير حامل، غير أن قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ خص أُولات الحمل، وهي خاصة أيضاً في الحرائر، فإن الأمة عدتها شهران وخمسة أيام، فبان أنها من العام الذي دخله التخصيص. قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، يعني: انقضاء العدة. قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فيه قولان: أحدهما أن معناه: فلا جناح على الرجال في تزويجهن بعد ذلك. والثاني: فلا جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهن إذا تزينَّ وتزوجن. قال أبو سليمان الدمشقي: وهو خطاب لأوليائهن. قوله تعالى: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فيه قولان: أحدهما: أنه التزين والتشوف للنكاح، قاله الضحاك، ومقاتل. والثاني: أنه النكاح، قاله الزهري، والسدي. و «الخبير» من أسماء الله تعالى، ومعناه: العالِم بكنه الشيء المطلع على حقيقته. و «الخبير» في صفة المخلوقين، إنما يستعمل في نوع من العلم، وهو الذي يتوصل إليه بالاجتهاد دون النوع المعلوم ببداءة العقول. وعلم الله تعالى سواء فيما غمض ولطف وفيما تجلّى وظهر. [سورة البقرة (2) : آية 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ، هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدة. والتعريض: الإيماء والتلويح من غير كشف، فهو إشارة بالكلام إلى ما ليس له في الكلام ذكر. والخِطبة بكسر الخاء: طلب النكاح، والخُطبة بضم الخاء: مثل الرّسالة التي لها أول وآخر. وقال ابن عباس: التعريض أن يقول: إني أريد أن أتزوج. وقال مجاهد: أن يقول: إنكِ لجميلة، وإِنك لحسنة، وإنك لإلى خير. قوله تعالى: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، قال الفراء: فيه لغتان: كننت الشيء، وأكننته. وقال ثعلب: أكننت الشيء: إذا أخفيته في نفسك، وكننته: إذا سترته بشيء. وقال ابن قتيبة: أكننت الشيء: إذا سترته، ومنه هذه الآية، وكننته: إذا صنته، ومنه قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ «2» ، قال بعضهم: يجعل كننته، وأكننته، بمعنى. قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ، قال مجاهد: ذكره إياها في نفسه. قوله تعالى: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا فيه أربعة أقوال: أحدها: أن المراد بالسر هاهنا: النكاح، قاله ابن عباس. وأنشد بيت امرئ القيس: ألا زعمت بسباسةُ «3» اليوم أنني ... كبرتُ وأن لا يشهد السّرّ أمثالي

_ (1) الطلاق: 4. (2) الصافات: 49. (3) في «القاموس» بسباسة: امرأة من بني أسد.

[سورة البقرة (2) : آية 236]

وفي رواية: يشهد اللهو. قال الفرّاء: ويرى أنه مما كنى الله عنه كقوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ «1» . وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن السر: الإفضاء بالنكاح المحرم، وأنشد «2» : ويَحْرمُ سِرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارُهم أنفَ القصاع «3» قال ابن قتيبة: استعير السرّ للنكاح، لأن النكاح يكون سراً، فالمعنى: لا تواعدوهن بالتزويج، وهن في العدة تصريحاً، إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً لا تذكرون فيه رفثاً ولا نكاحاً. والثاني: أن المواعدة سراً: أن يقول لها: إني لك محب، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أن المراد بالسر الزنى، قاله الحسن، وجابر بن زيد، وأبو مجلز، وإبراهيم، وقتادة، والضحاك. والرابع: أن المعنى: لا تنكحوهن في عدتهن سراً، فاذا حلَّت أظهرتم ذلك، قاله ابن زيد. وفي القول المعروف قولان: أحدهما: أنه التعريض لها، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والقاسم بن محمد، والشعبي، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، والسدي. والثاني: أنه إعلام وليها برغبته فيها، وهو قول عبيدة. قوله تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ، قال الزجّاج: لا تعزموا على عقدة النكاح، وحذفت «على» استخفافاً، كما قالوا: ضرب زيد الظَّهر والبطن، معناه: على الظهر والبطن. حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ، أي: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، قال: ويجوز أن يكون «الكتاب» بمعنى «الفرض» كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «4» ، فيكون المعنى: حتى يبلغ الفرض أجله. قال ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي: بلوغ الكتاب أجله: انقضاء العدة. قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ، قال ابن عباس: من الوفاء، فاحذروه أن تخالفوه في أمره. والحليم قد سبق بيانه. [سورة البقرة (2) : آية 236] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وأبو عمرو «تمسوهن» بغير الف حيث كان، وبفتح التاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف «تماسُّوهن» بألف وضم التاء في الموضعين هنا، وفي الأحزاب ثالث. قال أبو علي: وقد يراد بكل واحد من «فاعل» و «فعل» ما يراد بالآخر، تقول: طارقت النعال وعاقبت اللص. (122) قال مقاتل بن سليمان: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة،

_ لا أصل له. عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهذا معضل، ومع ذلك مقاتل كذاب يضع الحديث، وقد تفرد بهذا الخبر. قال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» 1/ 285 لم أجده. وذكره القرطبي في تفسير 35/ 190 ونسبه للثعلبي، وتفرد الثعلبي به يدل على أنه غير حجة لأنه كحاطب ليل حتى الواحدي لم يذكره في «أسباب النزول» . وكذا السيوطي وهذا الخبر أمارة الوضع لائحة عليه.

[سورة البقرة (2) : آية 237]

ولم يسم لها مهراً، فطلقها قبل أن يمسّها، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هل متعتها بشيء؟» قال: لا، قال: «متعها ولو بقلنسوتك» ، ومعنى الآية: ما لم تمسوهن، ولم تفرضوا لهن فريضة. وقد تكون «أو» بمعنى الواو. كقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «1» . والمسُّ: النكاح، والفريضة: الصداق، وقد دلت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمية مهر وَمَتِّعُوهُنَّ أي: أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر. والمتاع: اسم لما ينتفع به، فذلك معنى قوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، وقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو «قدْره» باسكان الدال في الحرفين، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي بتحريك الحرفين، وعن عاصم: كالقراءتين وهما لغتان. فصل: وهل هذه المتعة واجبة، أم مستحبة؟ فيه قولان: أحدهما: واجبة، واختلف أرباب هذا القول، لأي المطلقات تجب، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها واجبة لكل مطلقة، روي عن علي والحسن وأبي العالية والزهري. والثاني: أنها تجب لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها صداقاً ولم يمسها، فإنه يجب لها نصف ما فرض، روي عن ابن عمر والقاسم بن محمد وشريح وإبراهيم. والثالث: أنها تجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهراً، فان دخل بها، فلا متعة، ولها مهر المثل، روي عن الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل. والثاني: أن المتعة مستحبة، ولا تجب على أحد، سواء سمى للمرأة، أو لم يسم، دخل بها، أو لم يدخل، وهو قول مالك، والليث بن سعد، والحكم، وابن أبي ليلى. واختلف العلماء في مقدار المتعة، فنقل عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب: أعلاها خادم، وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلي فيها، وروي عن حماد وأبي حنيفة: أنه قدر نصف صداق مثلها. وعن الشافعي وأحمد: أنه قدر يساره وإعساره، فيكون مقدرا باجتهاد الحاكم. ونقل عن أحمد: أن المتعة بقدر ما تجزئ فيه الصلاة من الكسوة، وهو درع وخمار. قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ، أي: بقدر الإمكان، والحق: الواجب. وذكر المحسنين والمنافقين ضرب من التأكيد. [سورة البقرة (2) : آية 237] وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، أي: قبل الجماع وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ أي:

_ (1) الدهر: 24.

أوجبتم لهن شيئاً التزمتم به، وهو المهر إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ، يعني: النساء، وعفو المرأة: ترك حقّها من الصّداق. وفي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه الزّوج، وهو قول عليّ، وجبير بن مطعم، وابن المسيب، وابن جبير، ومجاهد، وشريح، وجابر بن زيد، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وابن شبرمة، والشافعي، وأحمد رضي الله عنهم في آخرين. والثاني: أنه الولي، روي عن ابن عباس، والحسن، وعلقمة، وطاوس، والشعبي، وابراهيم في آخرين. والثالث: أنه أبو البكر، روي عن ابن عباس، والزهري، والسدي في آخرين. فعلى القول الأول عفو الزوج: أن يكمل لها الصداق، وعلى الثاني: عفو الولي: ترك حقها إذا أبت، روي عن ابن عباس، وأبي الشعثاء. وعلى الثالث يكون قوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يختص بالثيبات. وقوله:

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 160: اختلف أهل العلم في الذي بيده عقدة النكاح، فظاهر مذهب أحمد رحمه الله. أنه الزوج. وروي ذلك عن عليّ وابن عباس، وجبير بن مطعم رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب، وشريح، وسعيد بن جبير، ونافع بن جبير، ونافع مولى ابن عمر، ومجاهد وإياس بن معاوية، وجابر بن زيد، وابن سيرين، والشّعبي والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي. والشافعي في الجديد وعن أحمد أنه الوليّ إذا كان أبا الصغيرة وهو قول الشافعي القديم إذا كان أبا أو جدا وحكي عن ابن عباس وعلقمة والحسن وطاوس والزهري وربيعة ومالك، أنه الوليّ لأن الوليّ بعد الطلاق هو الذي بيده عقدة النكاح، لكونها قد خرجت عن يد الزّوج ولأن الله تعالى ذكر عفو النساء عن نصيبهنّ، فينبغي أن يكون عفو الذي بيده عقدة النكاح عنه، ليكون المعفو عنه في الموضعين واحدا، ولأن الله تعالى بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ثم قال: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وهذا خطاب غير حاضر. ولنا، ما روى أنه الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وليّ العقدة الزوج» ولأن الذي بيده عقدة النكاح بعد العقد هو الزوج فإنه يتمكّن من قطعه وفسخه وإمساكه، وليس إلى الوليّ منه شيء، ولأنّ الله تعالى قال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى والعفو الذي هو أقرب إلى التّقوى ولأن المهر مال للزوجة، فلا يملك الوليّ هبته وإسقاطه، كغيره من أموالها وحقوقها، كسائر الأولياء، ولا يمتنع العدول عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب كقوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ. فعلى هذا متى طلق الزّوج قبل الدخول تنصّف المهر بينما إن عفا الزّوج لها عن النّصف الذي له، كمل لها الصّداق جميعه، وإن عفت المرأة عن النّصف الذي لها منه، وتركت له جميع الصداق، جاز إذا كان العافي منهما رشيدا جائزا تصرّفه في ماله، وإن كان صغيرا أو سفيها، لم يصحّ عفوه لأنّه ليس له التّصرّف في ماله بهبة ولا إسقاط. ولا يصحّ عفو الوليّ عن صداق الزّوجة، أبا كان أو غيره، صغيرة كانت أو كبيرة. نصّ عليه أحمد، في رواية الجماعة، وروى عنه ابن منصور: إذا طلّق امرأته وهي بكر قبل أن يدخل بها، فعفا أبوها أو زوجها، ما أرى عفو الأب إلّا جائزا. قال أبو حفص: ما أرى ما نقله ابن منصور إلّا قولا لأبي عبد الله قديما. وظاهر قول أبي حفص أن المسألة رواية واحدة، وأن أبا عبد الله رجع عن قوله بجواز عفو الأب وهو الصحيح، لأن مذهبه أنه لا يجوز للأب إسقاط ديون ولده الصغير ولا إعتاق عبيده، ولا تصرّفه له إلّا بما فيه مصلحته ولا حظّ لها في هذا الإسقاط فلا يصح- وإن قلنا برواية ابن منصور، لم يصحّ إلّا بخمس شرائط: الأول أن يكون أبا لأنّه الذي يلي مالها، ولا يتّهم عليه. والثاني أن تكون صغيرة ليكون وليا على مالها، فإنّ الكبيرة تلي مال نفسها. الثالث أن تكون بكرا لتكون غير مبتذلة، ولأنّه لا يملك تزويج الثيّب وإن كانت صغيرة، فلا تكون ولايته عليها تامة. الرابع، أن تكون مطلقة، لأنها قبل الطلاق معرّضة لإتلاف البضع. الخامس أن تكون قبل الدّخول، لأنّ ما بعده قد أتلف البضع فلا يعفو عن بدل متلف. ومذهب الشافعيّ على نحو هذا إلّا أنّه يجعل الجدّ كالأب.

[سورة البقرة (2) : آية 238]

أَوْ يَعْفُوَا، يختص أبا البكر، قاله الزهري، والأول أصح، لأن عقدة النكاح خرجت من يد الولي، فصارت بيد الزوج، والعفو إنما يُطلق على ملك الإِنسان، وعفو الولي عفو عما لا يملك، ولأنه قال: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، والفضل في هبة الإنسان مال نفسه، لا مال غيره. قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب للزوجين جميعاً، روي عن ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنه خطاب للزوج وحده، قاله الشعبي، وكان يقرأ: «وأن يعفو» بالياء. قوله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، خطاب للزوجين، قال مجاهد: هو إتمام الرجل الصّداق، وترك المرأة شطرها. [سورة البقرة (2) : آية 238] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ، المحافظة: المواظبة والمداومة، والصلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود، والمراد: الصلوات الخمس. قوله تعالى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قال الزّجّاج: هذه الواو تنصرف إلى المعهود والمراد الصلوات الخمس إذا جاءت مخصصة، فهي دالة على فضل الذي تخصّصه، كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» قال سعيد بن المسيب: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه «2» . ثم فيها خمسة أقوال: أحدها: أنها العصر. (123) روى مسلم في أفراده من حديث عليّ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ قبورهم وبيوتهم ناراً» . (124) وروى ابن مسعود، وسمرة، وعائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنها صلاة العصر.

_ أخرجه البخاري 2931 و 4111 و 4533 و 6396 ومسلم 627 وأبو داود 409 وأحمد 1/ 122 والدارمي 1/ 280 من طريق هشام بن حسّان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي. وأخرجه مسلم 627 ح 203 والترمذي 2984 والنسائي 1/ 36 وأحمد 1/ 135 و 37 و 153 و 154 والطبري 5425 و 5432 من طرق عن أبي حسّان عن عبيدة. وأخرجه مسلم 627 ح 205 وعبد الرزاق 3194 وأحمد 1/ 81 و 82 و 83 و 126 و 146 والطبري 5427 و 5429 والبيهقي 1/ 460 و 2/ 220 من طريق الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن شتير بن شكل عن علي. حديث ابن مسعود، أخرجه مسلم 628 والترمذي 181 و 2985 والطيالسي 366 وأحمد 1/ 392 و 403 و 404 و 456 والطبري 5433 والطحاوي 1/ 174 والبيهقي 1/ 461 من طريق محمد بن طلحة عن زبيد بن الحارث عن مرة بن شراحيل عن ابن مسعود. قال حبس المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صلاة العصر حتّى احمرّت الشّمس أو اصفرّت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا» أو قال: «حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا» . - وحديث سمرة أخرجه الترمذي 2983 وأحمد 5/ 13 و 22 ولفظه «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: صلاة الوسطى صلاة العصر» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وحديث عائشة أخرجه مسلم 629 وأبو داود 410 والترمذي 2982 والنسائي 66 وأخرجه مالك 1/ 138- 139 وأحمد 6/ 73 و 178 والطحاوي في المعاني 1/ 172 وابن أبي داود في المصاحف ص 84 والبيهقي 1/ 462 من طريق زيد بن أسلم به. وأخرجه الطبري 5470 من طريق زيد بن أسلم أنه بلغه عن أبي يونس: عن عائشة. وأخرجه مسلم حدثنا يحيى بن يحيى التميميّ قال قرأت على مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة، أنه قال: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة، الآية: 238] فلمّا بلغتها آذنتها. فأملت عليّ: حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر. وقوموا لله قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

(125) وروى مسلم في أفراده من حديث البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» ، فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله، فنزلت: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وهذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود، وأبيّ، وأبيّ أيوب، وابن عمر في رواية، وسمرة بن جندب، وأبي هريرة، وابن عباس في رواية عطية، وأبي سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وحفصة، والحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء في رواية، وطاوس، والضحاك، والنخعي، وعبيد بن عمير، وزرّ بن حبيش، وقتادة، وأبي حنيفة، ومقاتل في آخرين، وهو مذهب أصحابنا. والثاني: أنها الفجر، روي عن عمر، وعليّ في رواية، وأبي موسى، ومعاذ، وجابر بن عبد الله، وأبي أُمامة، وابن عمر في رواية مجاهد، وزيد بن أسلم، في رواية أبي رجاء العطاردي، وعكرمة، وجابر بن زيد، وأنس بن مالك، وعطاء، وطاوس في رواية ابنه، وعبد الله بن شداد، ومجاهد، ومالك، والشافعي. وروى أبو العالية قال صلّيت مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغداة فقلت لهم: أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا: التي صليت قبل. والثالث: أنها الظهر، روي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وأبي سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وروى [عاصم بن ضمرة] «1» عن عليّ عليه السلام قال: هي صلاة الجمعة، وهي سائر الأيام الظهر. والرابع: أنها المغرب، روي عن ابن عباس، وقبيصة بن ذؤيب. والخامس: أنها العشاء الأخيرة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في «تفسيره» . وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أوسط الصلوات محلاً. والثاني: أوسطها مقداراً. والثالث: أفضلها، ووسط الشيء: خيره وأعدله. ومنه قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «2» ، فان قلنا: إن الوسطى بمعنى: الفضلى، جاز أن يدّعي هذا كل ذي مذهب فيها. وإن قلنا: إنها أوسطها مقداراً، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعاً. وإن قلنا: أوسطها محلاً، فللقائلين: إنها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطى.

_ صحيح. أخرجه مسلم 630 والطبري 5437 والحاكم 2/ 281 والطحاوي في «المشكل» 2071 والبيهقي 1/ 459 من حديث البراء بن عازب.

[سورة البقرة (2) : آية 239]

ومن قال: هي الفجر، فقال عكرمة: هي وسط بين الليل والنهار، وكذلك قال ابن الأنباري: هي وسط بين الليل والنهار، وقال: وسمعت أبا العباس يعني، ثعلباً يقول: النهار عند العرب أوله: طلوع الشمس. قال ابن الأنباري: فعلى هذا صلاة الصبح من صلاة الليل، قال: وقال آخرون: بل هي من صلاة النهار، لأن أول وقتها أول وقت الصوم. قال: والصواب عندنا أن نقول: الليل المحض خاتمته طلوع الفجر، والنهار المحض أوله: طلوع الشمس، والذي بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس يجوز أن يسمى نهاراً، ويجوز أن يسمى ليلاً، لما يوجد فيه من الظلمة والضوء، فهذا قول يصح به المذهبان. قال ابن الأنباري: ومن قال: هي الظهر، قال: هي وسط النهار، فأما من قال: هي المغرب، فاحتج بأن أول صلاة فرضت، الظهر، فصارت المغرب وسطى، ومن قال: هي العشاء، فإنه يقول: هي بين صلاتين لا تقصران. قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ، المراد بالقيام هاهنا: القيام في الصلاة، فأما القنوت، فقد شرحناه فيما تقدم. وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الطاعة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، والشّعبيّ، وطاوس، والضحاك، وقتادة في آخرين. والثاني: أنه طول القيام في الصلاة، روي عن ابن عمر، والربيع بن أنس، وعن عطاء كالقولين. والثالث: أنه الإمساك عن الكلام في الصلاة.

_ قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. [سورة البقرة (2) : آية 239] فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا، أي: خفتم عدواً، فصلوا رجالاً، وهو جمع راجل، والركبان جمع راكب، وهذا يدل على تأكيد أمر الصلاة، لأنه أمر بفعلها على كل حال. وقيل: إن هذه الآية أنزلت بعد التي في سورة النساء، لأن الله تعالى وصف لهم صلاة الخوف في قوله: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ «1» ، ثم أنزل هذه الآية: فَإِنْ خِفْتُمْ، أي: خوفاً أشد من ذلك، فصلوا عند المسايفة كيف قدرتم. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين: (127) ما روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صلى يوم الخندق الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشّفق؟ فالجواب: (126) صحيح. أخرجه البخاري 4534 ومسلم 539 وأبو داود 949 والترمذي 2986 و 5524 والنسائي 3/ 18 وابن خزيمة 856 وابن حبان 2245 و 2246 و 2250 والطبري 5527 والطبراني 5063 و 5064 والبيهقي 2/ 248 من حديث زيد بن الأرقم. لم أره من حديث ابن عباس، ولعله سبق قلم، وإنما هو من حديث ابن مسعود. كذا أخرجه الترمذي 179 والنسائي 1/ 297 و 2/ 17 والطيالسي 333 وأحمد 1/ 423 والبيهقي 1/ 403 كلهم من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «كنا في غزوة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحبسنا المشركون عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلما انصرف المشركون أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناديا، فأقام لصلاة الظهر ... » الحديث. إسناده ضعيف، لانقطاعه بين أبي عبيدة وأبيه. قال الترمذي: إسناده ليس به بأس، إلّا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. قلت: وليس فيه لفظ بعد ما غربت، وإنما جاءت هذه اللفظة في حديث جابر، لكن في هذا الأخير أن صلاة العصر فقط هي التي فاتته. كذا أخرجه البخاري 596 و 598 ومسلم 641 وغيرهما. وكذا ورد لفظ «حتى غربت» في حديث أبي سعيد، وهو الآتي. - الخلاصة: حديث ابن مسعود ضعيف الإسناد، إلّا أن أصله محفوظ بشاهده الآتي عن أبي سعيد، فهو يشهد له في كونه عليه الصّلاة والسّلام فاتته أربع صلوات، ويعارضه، بأن فيه «قبل نزول الآية» . صحيح. أخرجه الشافعي في «السنن» 1 و «الأم» 1/ 75 وأحمد 3/ 67- 68 والدارمي 1/ 358 والنسائي 2/ 17 وابن حبان 2890 والبيهقي 1/ 403 كلهم من حديث أبي سعيد قال: «شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فأنزل الله عزّ وجلّ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا، فأقام لصلاة الظهر ... » الحديث. إسناده صحيح على شرط مسلم. وكذا صححه ابن السكن، ووافقه الحافظ في «تلخيص الحبير» 1/ 195. وقال السيوطي في «شرح سنن النسائي» 2/ 18: قال ابن سيد الناس: هذا إسناد صحيح جليل.

[سورة البقرة (2) : آية 240]

(128) أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً، قال أبو بكر الأثرم: فقد بيّن أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ. قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، في هذا الذِّكر قولان: أحدهما: أنه الصلاة، فتقديره: فصلوا كما كنتم تصلون آمنين. والثاني: أنه الثّناء على الله، والحمد له. [سورة البقرة (2) : آية 240] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً. (129) روى ابن حيان أن هذه الآية نزلت في رجل من أهل الطائف، يقال له: حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة، ومعه أبواه وامرأته، وله أولاد، فمات فرفع ذلك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، فأعطى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبويه وأولاده من ميراثه، ولم يعط امرأته شيئا، غير أنه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً. قوله تعالى: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأ أبو عمرو، وحمزة، وابن عامر «وصية» بالنصب، وقرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي «وصية» بالرفع. وعن عاصم كالقراءتين. قال أبو عليّ: من نصب حَمَلَهُ على الفعل، أي: ليوصوا وصية، ومن رفع، فمن وجهين: أحدهما: أن يجعل الوصية مبتدأ، والخبر لأزواجهم. والثاني: أن يضمر له خبراً، تقديره: فعليهم وصية. والمراد منه من قارب الوفاة، فليوص، لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى. قوله تعالى: مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ، أي: متعوهن إلى الحول، ولا تخرجوهن. والمراد بذلك نفقة السنة وكسوتها وسكناها فَإِنْ خَرَجْنَ أي: من قبل أنفسهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يعني: أولياء الميت فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ يعني التشوف للنّكاح. وفي ماذا رفع الجناح عن الرجال؟ فيه قولان: أحدهما: أنه في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول.

_ ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 157 وإسحاق بن راهويه في «تفسيره» كما في «أسباب النزول» للسيوطي 170 عن مقاتل بن حيان، وهذا معضل، فالخبر واه.

والثاني: في ترك منعهن من الخروج، لأنه لم يكن مقامُها الحولَ واجباً عليها، بل كانت مخيّرة في ذلك. (130) فصل: ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كان إذا مات أحدهم، مكثت زوجته في بيته حولاً، ينفق عليها من ميراثه، فاذا تم الحول، خرجت إلى باب بيتها، ومعها بعرة، فرمت بها كلباً، وخرجت بذلك من عدتها. وكان معنى رميها بالبعرة أنها تقول: مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثم جاء الإسلام، فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية، وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه «1» .

_ ورد هذا المعنى في حديث مرفوع: «قالت زينب: سمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عيناها فنكحّلها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا» مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: «لا إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول» . أخرجه البخاري 5334 ومسلم 1486 وأبو داود 2299 والترمذي 1195 و 1196 و 1197 والنسائي 6/ 201 والشافعي 2/ 61 والبيهقي 7/ 437 وعبد الرزاق 12130.

[سورة البقرة (2) : آية 241]

[سورة البقرة (2) : آية 241] وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ قد سبق الكلام في المتعة بما فيه كفاية. [سورة البقرة (2) : آية 242] كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ، أي: كما بيّن الذي تقدم من الأحكام يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بين لكم، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة، ألا ترى إلى قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ «1» ، وإنما سموا جهالاً لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق. [سورة البقرة (2) : آية 243] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، معناه: ألم تعلم. قال ابن قتيبة: وهذا على جهة التعجب، كما تقول: ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟ قوله تعالى: وَهُمْ أُلُوفٌ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: وهم مؤتلفون، قاله ابن زيد. والثاني: أنه من العدد، وعليه العلماء. واختلفوا في عددهم على سبعة أقوال: أحدها: أنهم كانوا أربعة آلاف. والثاني: أربعين ألفاً، والقولان عن ابن عباس. والثالث: تسعين ألفاً، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع: سبعة آلاف، قاله أبو صالح. والخامس: ثلاثين ألفاً، قاله أبو مالك. والسادس: بضعة وثلاثين ألفاً، قاله السدي. والسابع: ثمانية آلاف، قاله مقاتل. وفي معنى: حذرهم من الموت، قولان: أحدهما: أنهم فروا من الطاعون، وكان قد نزل بهم، قاله الحسن، والسدي. والثاني: أنهم أمروا بالجهاد، ففروا منه، قاله عكرمة، والضحاك، وعن ابن عباس، كالقولين. (الإشارة الى قصتهم) روى حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال: كانت أمَّة من بني إِسرائيل إذا وقع فيهم الوجع، خرج أغنياؤهم، وأقام فقراؤهم، فمات الذين أقاموا، ونجا الذين خرجوا، فقال الأشراف: لو

_ (1) النساء: 17.

[سورة البقرة (2) : آية 244]

أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا وقال الفقراء: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء سلمنا، فأجمع رأيهم في بعض السنين على أن يظعنوا جميعاً، فظعنوا فماتوا، وصاروا عظاماً تبرق، فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم، فمر بهم نبي من الأنبياء، فقال: يا رب لو شئت أحييتهم، فعبدوك، وولدوا أولاداً يعبدونك ويعمرون بلادك. قال: أو أحب إليك أن أفعل؟ قال: نعم. فقيل له: تكلم بكذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها إلى التي هي منها ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا فتكلم به فنظر إلى العظام تكسى لحماً وعصباً، ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا، فنظر فاذا هم قعود يسبحون الله ويقدسونه. وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وهذا الحديث يدل على بعد المدة التي مكثوا فيها أمواتاً. وفي بعض الأحاديث: أنهم بقوا أمواتاً سبعة أيام، وقيل: ثمانية أيام. وفي النبي الذي دعا لهم قولان: أحدهما: أنه حزقيل. والثاني: أنه شمعون. فإن قيل كيف أُميت هؤلاء مرتين في الدنيا، وقد قال الله تعالى: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «1» ، فالجواب أن موتهم بالعقوبة لم يفن أعمارهم، فكان كقوله تعالى: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «2» ، وقيل: كان إحياؤهم آية من آيات نبيهم، وآيات الأنبياء نوادر لا يقاس عليها، فيكون تقدير قوله تعالى: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى التي ليست من آيات الأنبياء، ولا لأمر نادر. وفي هذه القصة احتجاج على اليهود إذ أخبرهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأمر لم يشاهدوه، وهم يعلمون صحته واحتجاج على المنكرين للبعث، فدلهم عليه بإحياء الموتى في الدنيا، ذكر ذلك جميعه ابن الأنباري. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، نبّه عزّ وجلّ بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلّة شكرهم. [سورة البقرة (2) : آية 244] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ في المخاطَبين بهذا قولان: أحدهما: أنهم الذين أماتهم الله، ثم أحياهم، قاله الضحّاك. والثاني: أنه خطاب لأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فمعناه: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء، فما ينفعكم الهرب وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بما تنطوي عليه ضمائركم. [سورة البقرة (2) : آية 245] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ، قال الزجاج: أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه، وأصله في اللغة القطع، ومنه أخذ المقراض. فمعنى أقرضته: قطعت له قطعة يجازيني عليها. فإن قيل: فما وجه تسمية الصدقة قرضاً؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن القرض يبدل بالجزاء. والثاني: لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة. والثالث: لتأكيد استحقاق الثواب به، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحق به. فأما اليهود فإنهم جهلوا هذا، فقالوا: أيستقرض الله منا؟ وأما المسلمون فوثقوا بوعد الله، وبادروا إلى معاملته. قال ابن مسعود:

_ (1) الدخان: 56. (2) الزمر: 42.

(131) لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدحداح: وإن الله تعالى ليريد منا القرض؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» . قال: أرني يدك. قال: إني أقرضت ربي حائطي، قال: وحائطه فيه ستمائة نخلة، ثم جاء إلى الحائط، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فقد أقرضته ربي.

_ وفي بعض الألفاظ: فعمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كم من عذق «1» رداح في الجنة لأبي الدحداح» . وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال: أحدها: أنه الخالص لله، قاله الضحاك. والثاني: أن يخرج عن طيب نفس، قاله مقاتل. والثالث: أن يكون حلالا، قاله ابن المبارك. والرابع: أن يحتسب عند الله ثوابه. والخامس: أن لا يتبعه منّا ولا أذى. والسادس: أن يكون من خيار المال. قوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ قرأ أبو عمرو فيضاعفه بألف مع رفع الفاء، وكذلك في جميع القرآن، إلا في الأحزاب «يضعف لها العذاب ضعفين» ، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائيّ، جميع ذلك بالألف مع رفع الفاء، وقرأ ابن كثير (فيضعفه) برفع الفاء من غير ألف في جميع القرآن، وقرأ ابن عامر (فيضعفه) بغير ألف مشددة في جميع القرآن، ووافقه عاصم على نصب الفاء في «فيضاعفه» إلا أنه أثبت الألف في جميع القرآن. قال أبو عليّ: للرفع وجهان: أحدهما: أن يعطفه على ما في الصّلة، وهو يقرض. والثاني: أن يستأنفه. ومن نصب حمل الكلام على المعنى، لأن المعنى: أيكون قرض؟ فحمل عليه «فيضاعفه» ، وقال: معنى ضاعف وضعّف واحد، والمضاعفة: الزّيادة على الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر. وفي الأضعاف الكثيرة قولان: أحدهما: أنها لا يحصى عددها، قاله ابن عباس والسّدّيّ. حسن. أخرجه أبو يعلى 4986 والبزار 944 «كشف» والطبري 5623 والطبراني 22/ 301 والبيهقي في «الشعب» 3452 كلهم من طريق حميد بن عطاء الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود به. وإسناده ضعيف لضعف حميد بن عطاء. وقال الهيثمي في «المجمع» 3/ 114: فيه حميد بن عطاء وهو ضعيف. - وله شاهد من مرسل زيد بن أسلم: أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 307 والطبري 5621 من طريقه عن معمر به، وهذا مرسل صحيح، ليس له علة إلّا الإرسال، لكن يصلح شاهدا لما قبله. ووصله ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 299 من وجه آخر عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر. وإسناده واه لأجل عبد الرحمن. وهو عند الطبراني في «الأوسط» 1887 من طريق عبد الرحمن، وعنه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو متروك. - وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 5622 مختصرا، ولم يسم الصحابي. - وله شاهد صحيح من حديث أنس: أخرجه أحمد 3/ 46 وابن حبان 7159. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وليس فيه ذكر الآية. وأصله عند مسلم 965 من حديث جابر بن سمرة، وليس فيه ذكر القصة. - الخلاصة: حديث الباب حسن بشاهده المرسل. وأما أصله وهو بشارة أبي الدحداح من النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا قصته مع امرأته فصحيح. لم أقف على هذا اللفظ، وهو منكر، والأشبه أنه موضوع إذ لا يستدعي الأمر إخراج ما في فم الأولاد الصغار، وبكل حال لم أقف له على إسناد، وهذا ما يعبر عنه أهل الحديث بقولهم: ليس له أصل. - والمحفوظ ما قبله.

[سورة البقرة (2) : آية 246]

(133) وروى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال: إن الله يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة. وقرأ هذه الآية، ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة» . والثاني: أنها معلومة المقدار، فالدرهم بسبعمائة، كما ذكر في الآية بعدها، قاله ابن زيد. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «يبسط» و «بسطة» بالسين، وقرأهما نافع بالصاد. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أن معناه: يقتر على من يشاء في الرزق، ويبسطه على من يشاء، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد ومقاتل. والثاني: يقبض يد من يشاء عن الإنفاق في سبيله، ويبسط يد من يشاء بالإنفاق، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ في آخرين. [سورة البقرة (2) : آية 246] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ، قال الفراء: الملأ: الرجال في كل القرآن لا يكون فيهم امرأة، وكذلك القوم والنفر والرهط، وقال الزجاج: الملأ: هم الوجوه، وذوو الرأي، وإنما سمّوا ملأً، لأنهم مليئون بما يحتاج إليه منهم. وفي نبيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شمويل، قاله ابن عباس، ووهب. والثاني: أنه يوشع بن نون، قاله قتادة. والثالث: أنه نبي، يقال له: سمعون بالسين المهملة، سمته أمه بذلك، لأنها دعت الله أن يرزقها غلاماً، فسُمِع دعاؤها فيه، هذا قول السدي. وسبب سؤالهم ملكاً أن عدوهم غلب عليهم. قوله تعالى: نُقاتِلْ قراءة الجمهور بالنون والجزم، وقرأ ابن أبي عبلة بالياء والرفع، كناية عن الملك. قوله تعالى: هَلْ عَسَيْتُمْ، قراءة الجمهور بفتح السين، وقرأ نافع بكسرها هاهنا، وفي سورة «محمد» وهي لغتان. قوله تعالى: إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، أي فرض أَلَّا تُقاتِلُوا أي: لعلكم تجبنون. قوله تعالى: وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا، يعنون: أُخرج بعضنا، وهم الذين سبوا منهم وقهروا. فظاهره العموم، ومعناه الخصوص. قوله تعالى: تُوَلُّوا، أي: أعرضوا عن الجهاد. إِلَّا قَلِيلًا وهم الذين عبروا النّهر، وسيأتي ذكرهم.

_ ذكره المصنف موقوفا، وورد مرفوعا، وهو ضعيف. أخرجه أحمد 2/ 296- 521- 522 من طريق علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد. وضعفه الحافظ ابن كثير 1/ 299 بقوله: غريب، وعلي بن زيد عنده مناكير. قلت: جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه. ومع ذلك قال الهيثمي 10/ 144: رواه أحمد بإسنادين، واحد إسناديه جيد؟!!!. مع أن فيه ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 299 من وجه آخر عن زياد الجصاص عن أبي عثمان به. وإسناده واه، زياد هو ابن أبي زياد، متروك الحديث. والراجح فيه الوقف. وانظر «فتح القدير» 391 بتخريجنا.

[سورة البقرة (2) : آية 247]

[سورة البقرة (2) : آية 247] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً، ذكر أهل التفسير أن نبي بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكاً، فأتى بعصا وقرن فيه دهن، وقيل له: إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا، ومتى دخل عليك رجل فنشق الدهن، فهو الملك، فادهن به رأسه، وملكه على بني إسرائيل فقاس القوم أنفسهم بالعصا، فلم يكونوا على مقدارها. قال عكرمة، والسدي: كان طالوت سقاءً يسقي على حمار له، فضلَّ حماره، فخرج يطلبه. وقال وهب: بل كان دباغاً يعمل الأدم، فضلّت حمر لأبيه فأرسله مع غلام له في طلبها، فمرا ببيت شمويل النبي فدخلا ليسألاه عن ضالتهما، فنشق الدهن، فقام شمويل، فقاس طالوت بالعصا، وكان على مقدارها، فدهنه، ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل، فقال طالوت: أما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل، وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال: بلى، قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، فكان كما قال. قال الزجاج: طالوت، وجالوت، وداود تنصرف، لأنها أسماء أعجمية، وهي معارف، فاجتمع فيها التعريف والعجمة. ومعنى قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ من أي جهة يكون له الملك علينا. قال ابن عباس: إنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان، في أحدهما النبوة، وفي الآخر الملك، فلم يكن هو من أحد السبطين. قال قتادة: كانت النبوة في سبط لاوي، والملك في سبط يهوذا. قوله تعالى: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ، أي: لم يؤت ما يتملّك به الملوك. قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ، أي: اختاره، وهو «افتعل» من الصّفوة. والبسطة: السّعة، قال ابن قتيبة: هو من قولك: بسطت الشيء: إِذا كان مجموعاً، ففتحته، ووسعته. قال ابن عباس: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه. وهل كانت هذه الزيادة قبل الملك، أم أحدثت له بعد؟ فيه قولان: أحدهما: قبل الملك، قاله وهب، والسدي. والثاني: بعد الملك، قاله ابن زيد. والمراد بتعظيم الجسم، فضل القوة، إذ العادة أن من كان أعظم جسماً، كان أكثر قوة. والواسع: الغنيّ. [سورة البقرة (2) : آية 248] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ، الآية: العلامة، فمعناه: علامة تمليك الله إياه أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وهذا من مجاز الكلام، لأن التابوت يؤتى به، ولا يأتي، ومثله: فَإِذا عَزَمَ

الْأَمْرُ «1» ، وإنما جاز مثل هذا، لزوال اللبس فيه، كما بينا في قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «2» . وروي عن ابن مسعود، وابن عباس: أنهم قالوا لنبيهم: إن كنت صادقاً فأتنا بآية تدل على أنه ملك، فقال لهم ذلك. وقال وهب: خيّرهم، أي آية يريدون؟ فقالوا: أن يردَّ علينا التابوت. قال ابن عباس: كان التابوت من عود الشمشار عليه صفائح الذهب، وكان يكون مع الأنبياء إذا حضروا قتالاً، قدموه بين أيديهم يستنصرون به، وفيه السكينة. وقال وهب بن منبه: كان نحواً من ثلاث أذرع في ذراعين. قال مقاتل: فلما تفرقت بنو إسرائيل، وعصوا الأنبياء، سلط الله عليهم عدوهم، فغلبوهم عليه. وفي السكينة سبعة أقوال «3» : أحدها: أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، رواه أبو الأحوص عن عليّ رضي الله عنه. والثاني: أنها دابة بمقدار الهرّ، لها عينان لهما شعاع، وكانوا إذا التقى الجمعان، أخرجت يدها، ونظرت إليهم، فيهزم الجيش من الرعب. رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة، وجناحان. والثالث: أنها طست من ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء، رواه أبو مالك عن ابن عباس. والرابع: أنها روح من الله تعالى تتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شيء، كلّمهم وأخبرهم ببيان ما يريدون، رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه. والخامس: أن السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، رواه ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح، وذهب إلى نحوه الزجاج، فقال: السكينة: من السكون، فمعناه: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم. والسادس: أن السّكينة معناها هاهنا: الوقار، رواه معمر عن قتادة. والسابع: أن السكينة: الرحمة، قاله الربيع بن أنس. وفي البقية تسعة أقوال: أحدها: أنها رضاض «4» الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى وعصاه، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي. والثاني: أنها رضاض الألواح، قاله عكرمة، ولم يذكر العصا. وقيل: إنما اتخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه. والثالث: أنها عصا موسى، والسكينة، قاله وهب. والرابع: عصا موسى، وعصا هارون، وثيابهما، ولوحان من التوراة، والمنُّ، قاله أبو

_ (1) محمد: 21. [.....] (2) البقرة: 16. (3) قال الإمام الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» 1/ 306 بعد أن ذكر هذه الأقوال: هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقمأهم الله، فجاؤوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم والتشكيك عليهم، وانظر إلى جعلهم لها تارة حيوانا وتارة جمادا وتارة شيئا لا يعقل، كقول مجاهد: كهيئة الريح لها وجه كوجه الهرّ، وجناحان وذنب مثل ذنب الهر. وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مرويا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا رأيا رآه قائله، فهم أجلّ قدرا في التفسير بالرأي وبما لا مجال للاجتهاد فيه. إذا تقرر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة، فقد جعل الله عنها سعة، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لوجب علينا المصير إليه والقول به، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند تلاوة القرآن كما في صحيح مسلم عن البراء، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها: فلما أصبح أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال: «تلك السكينة نزلت للقرآن» . (4) في «اللسان» رضاض الشيء: فتاته وكل شيء كسّرته فقد رضرضته.

[سورة البقرة (2) : آية 249]

صالح. والخامس: أن البقية، العلم والتوراة، قاله مجاهد، وعطاء بن رباح. والسادس: أنها رضاض الألواح، وقفيز «1» من مَنٍّ في طست من ذهب، وعصا موسى وعمامته، قاله مقاتل. والسابع: أنها قفيز من مَنٍّ ورضاض الألواح، حكاه سفيان الثوري عن بعض العلماء. والثامن: أنها عصا موسى والنعلان: ذكره الثوري أيضاً عن بعض أهل العلم. والتاسع: أن المراد بالبقية: الجهاد في سبيل الله، وبذلك أمروا، قاله الضحاك. والمراد بآل موسى وآل هارون: موسى وهارون. وأنشد أبو عبيدة: ولا تبك ميتاً بعد ميت أحبة ... عليّ وعباس وآل أبي بكر يريد: أبا بكر نفسه. قوله تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ قرأ الجمهور «تحمله» بالتاء، وقرأ الحسن ومجاهد والأعمش بالياء. وفي المكان الذي حملته منه الملائكة إليهم قولان: أحدهما: أنه كان مرفوعاً مع الملائكة بين السماء والأرض، منذ خرج عن بني إسرائيل، قاله الحسن. والثاني: أنه كان في الأرض. وفي أي مكان كان؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه، قال ابن عباس: أخذ التابوت قوم جالوت، فذفنوه في متبرز لهم، فأخذهم الباسور فهلكوا، ثم أخذه أهل مدينة أخرى، فأخذهم بلاء، فهلكوا، ثم أخذه غيرهم كذلك، حتى هلكت خمس مدائن، فأخرجوه على بقرتين، ووجهوهما إلى بني إسرائيل، فساقتهما الملائكة. والثاني: أنه كان في برية التيه، خلّفه فيها يوشع، ولم يعلموا بمكانه حتى جاءت به الملائكة، قاله قتادة. وفي كيفية مجيء الملائكة به قولان: أحدهما: أنها جاءت به بأنفسها، قال وهب: قالوا لنبيهم: اجعل لنا وقتاً يأتينا فيه، فقال: الصبح، فلم يناموا ليلتهم، ووافت به الملائكة مع الفجر، فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين السماء والأرض. والثاني: أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين، ذكر عن وهب أيضاً. فعلى القول الأول: يكون معنى تحمله: تقله، وعلى الثاني: يكون معنى حملها إياه: تسببها في حمله. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ، أي: علامة تدل على تمليك طالوت. قال المفسرون: فلما جاءهم التابوت وأقروا له بالملك، تأهب للخروج، فأسرعوا في طاعته، وخرجوا معه، فذلك قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 249] فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ، أي: خرج وشخص. وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال:

_ (1) في «اللسان» القفيز: من المكاييل، معروف، وهو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق.

[سورة البقرة (2) : آية 250]

أحدها: سبعون ألفاً، قاله ابن عباس. والثاني: ثمانون ألفاً، قاله عكرمة والسدي. والثالث: مائة ألف، قاله مقاتل. قال: وساروا في حر شديد، فابتلاهم الله بالنهر. والابتلاء: الاختبار. وفي النهر لغتان: إحداهما: تحريك الهاء، وهي قراءة الجمهور. والثانية: تسكينها، وبها قرأ الحسن ومجاهد. وفي هذا النهر قولان: أحدهما: أنه نهر فلسطين، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: نهر بين الأردن وفلسطين، قاله عكرمة، وقتادة، والربيع بن أنس. ووجه الحكمة في ابتلائهم أن يعلم طالوت من له نية في القتال منهم، ومن ليس له نيّة. وقوله تعالى: فَلَيْسَ مِنِّي أي ليس من أصحابي. قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «غَرفة» بفتح الغين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بضمها، قال الزجاج: من فتح الغين أراد المرة الواحدة باليد، ومن ضمها أراد ملء اليد. وزعم مقاتل أن الغرفة كان يشرب منها الرجل ودابته وخدمه ويملأ قربته. وقال بعض المفسرين: لم يرد به غرفة الكف، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك. وفي عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان: أحدهما: أنهم أربعة آلاف، قاله عكرمة والسدي. والثاني: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وهو الصحيح، لما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لأصحابه يوم بدر: (134) «أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت» ، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر. قوله تعالى: لا طاقَةَ لَنَا، أي: لا قوّة لنا، قال الزجّاج: أطقت الشيء، إطاقة وطاقة، وطوقاً، مثل قولك: أطعته إطاعة وطاعة وطوعاً. واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الذين شربوا أكثر من غرفة، فإنهم انصرفوا ولم يشهدوا، وكانوا أهل شك ونفاق، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنهم الذين قلت بصائرهم من المؤمنين، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد. والثالث: أنه قول الذين جاوزوا معه، وإنما قال ذلك بعضهم لبعض، لما رأوا من قلتهم، وهذا اختيار الزجاج. قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ في هذا الظن قولان: أحدهما: أنه بمعنى اليقين، قاله السدي في آخرين. والثاني: أنه الظن الذي هو التردد، فان القوم توهموا لقلة عددهم أنهم سيقتلون فيلقون الله، قاله الزجاج في آخرين. وفي الظانين هذا الظن قولان: أحدهما: أنهم الثلاثمائة والثلاثة عشر، قالوا للراجعين: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، قاله السدي. والثاني: أنهم أُولو العزم والفضل من الثلاثمائة والثلاثة عشر. والفئة: الفرقة، قال الزجاج: وإنما قيل لهم: فئة من قولهم: فأوت رأسه بالعصا، وفأيته: إذا شققته. قوله تعالى: بِإِذْنِ اللَّهِ، قال الحسن: بنصر الله. قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ: أي بالنصر والإعانة. [سورة البقرة (2) : آية 250] وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) (134) أخرجه الطبري 5732 عن قتادة مرسلا. وورد عن البراء بن عازب قال «كنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلّا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة» . أخرجه البخاري 3958 وهذا هو الصواب، كونه موقوفا.

[سورة البقرة (2) : آية 251]

قوله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا، أي: صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى. وأَفْرِغْ بمعنى: اصبب وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي: قوِّ قلوبنا لتثبيت أقدامنا، وإنما تثبت الأقدام عند قوة القلوب. قال مقاتل: كان جالوت وجنوده يعبدون الأوثان. [سورة البقرة (2) : آية 251] فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ أي: كسروهم وردوهم، قال الزجاج: أصل الهزم في اللغة: كسر الشيء، وثني بعضه على بعض، يقال: سقاء منهزم ومهزم إذا كان بعضه قد ثني على بعض مع جفاف، وقصب منهزم: قد كسر وشقق، والعرب تقول: هزمت على زيد، أي: عطفت عليه. قال الشاعر: هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك ... فجودي علينا بالنوال وأنعمي ويقال: سمعت هزمة الرعد، قال الأصمعي: كأنه صوت فيه تشقق. وداود: هو نبي الله أبو سليمان، وهو اسم أعجمي، وقيل: إن إخوة داود كانوا مع طالوت، فمضى داود لينظر إليهم، فنادته أحجار: خذني، فأخذها، وجاء إلى طالوت، فقال: ما لي إن قتلت جالوت؟ قال: ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي، فقتل جالوت. قوله تعالى: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، يعني: آتى داود ملك طالوت. وفي المراد ب «الحكمة» هاهنا قولان: أحدهما: أنها النبوَّة، قاله ابن عباس. والثاني: الزبور، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صنعة الدروع. والثاني: الزبور. والثالث: منطق الطير. قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قرأ الجمهور دَفْعُ بغير ألف هاهنا، وفي «الحج» «إن الله يدفع» ، وقرأ نافع، ويعقوب، وأبان (ولولا دفاع الله) . قال أبو علي: المعنيان متقاربان، قال الشاعر «1» : ولقد حَرصتُ بأن أدافع عنهمُ ... فاذا المنية أقبلت لا تدفع وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أن معناه: لولا أن الله يدفع بمن أطاعه عن من عصاه، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت بمن أطاعه، لهلك العُصاة بسرعة العقوبة، قاله مجاهد. والثاني: أن معناه، لولا دفع الله المشركين بالمسلمين، لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المسلمين، وخربوا المساجد، قاله مقاتل. ومعنى: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ: لهلك أهلها. [سورة البقرة (2) : آية 252] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ، أي: نقص عليك من أخبار المتقدمين. وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حُكمُك حكمهم، فمن صدقك، فسبيله سبيل من صدقهم، ومن عصاك، فسبيله سبيل من عصاهم.

_ (1) هو أبو ذؤيب الهذلي.

[سورة البقرة (2) : آية 253]

[سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ، يعني: موسى عليه السلام. وقرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك «1» ، وابن السّميفع: «منهم من كالم الله» بألف خفيفة اللام، ونصب اسم «الله» . وفي المراد بقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قولان: أحدهما: عنى بالمرفوع درجات، محمّدا عليه السلام، فإنه بعث إلى الناس كافة، وغيره بعث إلى أمته خاصة، هذا قول مجاهد. والثاني: أنه عنى تفضيل بعضهم على بعض فيما آتاه الله، هذا قول مقاتل. قال ابن جرير الطبري: والدرجات: جمع درجة، وهي المرتبة، وأصل ذلك: مراقي السلَّم ودَرجه، ثم يستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب. وقد تقدم تفسير «البينات» و «روح القدس» . قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، أي: من بعد الأنبياء. وقال قتادة: من بعد موسى وعيسى. قال مقاتل: وكان بينهما ألف نبي. قوله تعالى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا يعني: الأمم. [سورة البقرة (2) : آية 254] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ، هذه الآية تحث على الصدقات، والإنفاق في وجوه الطاعات. وقال الحسن: أراد الزكاة المفروضة. قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ، يعني: يوم القيامة لا بَيْعٌ فِيهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (لا بيعَ فيه ولا خلةَ ولا شفاعةَ) بالنصب من غير تنوين، ومثله في «إبراهيم» : «لا بيعَ فيه» ، وفي الطور: «لا لغوَ فيها ولا تأثيمَ» ، وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، جميع ذلك بالرفع والتنوين. قال ابن عباس: لا فدية فيه، وقيل: إنما ذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة، وأخذ البدل. والخلة: الصداقة. وقيل: إنما نفى هذه الأشياء، لأنه عنى عن الكافرين، وهذه الأشياء لا تنفعهم، ولهذا قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ. [سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

_ (1) هو عثمان بن نهيك، تابعي ثقة.

قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. (135) روى مسلم في «صحيحه» عن أبيّ بن كعب، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله أعظم؟» قال: قلت: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، قال: فضرب في صدري! قال: «ليهنك العلم يا أبا المنذر» . قال أبو عبيدة: القيوم: الذي لا يزول، لاستقامة وصفه بالوجود، حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه. وقال الزجاج: القيوم: القائم بتدبير أمر الخلق. وقال الخطابي: القيوم: هو القائم الدائم بلا زوال، وزنه: «فيعول» من القيام، وهو نعت للمبالغة للقيام على الشيء، ويقال: هو القائم على كل شيء بالرعاية، يقال: قمت بالشيء: إذا وليته بالرعاية والمصلحة. وفي «القيوم» ثلاث لغات: القيّوم، وبه قرأ الجمهور، والقيّام، وبه قرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن أبي عبلة، والأعمش. و «القيّم» ، وبه قرأ أبو رزين، وعلقمة. وذكر ابن الأنباري أنه كذلك في مصحف ابن مسعود، قال: وأصل القيوم: القيووم. فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن، جعلتا ياء مشددة. وأصل القيام: القوام، قال الفراء: وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفيعال، فيقولون للصواغ: صياغ. فأما «السِنَة» فهي: النعاس من غير نوم، ومنه: الوسنان. قال ابن الرقاع: وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم وسنان أقصده النعاس فرنَّقت ... في عينه سنة وليس بنائم «1» قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، قال بعض العلماء: إنما لم يقل: والأرضين، لأنه قد سبق ذكر الجمع في السماوات، فاستغنى بذلك عن إعادته، ومثله: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ولم يقل: والأنوار. قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فيه رد على من قال: ما نعبُدُهم إلا لِيُقَرِّبونا إِلى الله زُلْفى. قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، ظاهر الكلام يقتضي الإشارة إلى جميع الخلق، وقال مقاتل: المراد بهم الملائكة. وفي المراد ب ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أن الذي بين أيديهم أمر الآخرة، والذي خلفهم أمر الدنيا، روي عن ابن عباس، وقتادة. والثاني: أن الذي بين أيديهم الدنيا، والذي خلفهم الآخرة، قاله السدي عن أشياخه، ومجاهد، وابن جريج، والحكم بن عتيبة. والثالث: ما بين أيديهم: ما قبل خلقهم، وما خلفهم: ما بعد خلقهم، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ، قال الليث: يقال لكل من أحرز شيئاً، أو بلغ علمه أقصاه: قد أحاط به. والمراد بالعلم هاهنا المعلوم. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ، أي: احتمل وأطاق. وفي المراد بالكرسي ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كرسي فوق السماء السابعة دون العرش.

_ صحيح. أخرجه مسلم 810 وأبو داود 1460 وأحمد 5/ 58. وانظر «تفسير الشوكاني» 403 بتخريجنا.

[سورة البقرة (2) : آية 256]

(136) قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما السّماوات السبع في الكرسي إِلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة» . وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. والثاني: أن المراد بالكرسي علم الله تعالى، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثالث: أن الكرسي هو العرش، قاله الحسن. قوله تعالى: وَلا يَؤُدُهُ، أي: لا يثقله، يقال: آده الشيء يؤوده أوداً وإِياداً. والأود: الثقل، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والجماعة. والعلي: العالي القاهر، «فعيل» بمعنى «فاعل» قال الخطابي: وقد يكون من العلو الذي هو مصدر: علا يعلو، فهو عال كقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «1» ، ويكون ذلك من علاء المجد والشرف، يقال منه: علي يعلى علاءً. ومعنى العظيم: ذو العظمة والجلال، والعظم في حقه تعالى منصرف إلى عظم الشأن، وجلالة القدر، دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام. [سورة البقرة (2) : آية 256] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، في سبب نزولها أربعة أقوال: (137) أحدها: أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد، تحلف: لئن

_ حسن بشواهده، ورد مرفوعا من وجوه، فقد أخرجه الطبري 5795 وأبو الشيخ في «العظمة» 222 كلاهما عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا، ومع إرساله، فإن ابن زيد واه. قاله الذهبي في «العلو» ص 91 اه. وقد أخرجه ابن حبان 361 وأبو نعيم في «الحلية» 1/ 166 وأبو الشيخ في «العظمة» 261 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 862 من طريق إبراهيم بن هشام الغساني بسنده عن أبي ذر، والغساني هذا ضعيف جدا، وقال الذهبي: متروك وكذبه أبو حاتم وأبو زرعة. لكن تابعه يحيى بن سعيد القرشي السعدي عند ابن عدي 7/ 2699 وأبي الشيخ في «العظمة» 208 وأبي نعيم 1/ 168 والطبراني 5795 والبيهقي 9/ 4 وفي الأسماء والصفات 861 من حديث أبي ذر. ويحيى القرشي هذا ضعيف، جرحه ابن حبان وقال ابن عدي: هذا حديث منكر من هذا الطريق. وأخرجه أبو الشيخ في «العظمة» 254 عن إسماعيل من عياش بسنده عن أبي ذر، به، وإسماعيل ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وشيخه هاهنا حجازي، وفي الإسناد انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة في «العرش» 58 من وجه آخر من حديث أبي ذر، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو المكي، وهو ضعيف. وتابعه عليه القاسم بن محمد المصري عند ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 317 والقاسم ضعيف. وانظر مزيد الكلام عليه في «تفسير ابن كثير» بتخريجي. وصححه الألباني في «الصحيحة» 109 لطرقه والصواب أنه لا يرقى عن درجة الحسن، فعامة طرقه شديدة الضعف. تنبيه: وقع عند الألباني في «الصحيحة» 1/ 175 أن ابن زيد في رواية الطبري هو عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فوهم بذلك فإن ابن جرير يروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو المراد عند الإطلاق في تفسيره. حسن. أخرجه الطبري 5819 والبيهقي 9/ 186 من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير مرسلا. ووصله أبو داود 2682 والنسائي في «الكبرى» 11048. وابن حبان 140 والطبري 5813 والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص 82 والواحدي في «أسباب النزول» 158 و 159. والبيهقي 9/ 186 من طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهذا الإسناد رجاله رجال الصحيح. لكن أرسله أبو عوانة فيما تقدم فالحديث حسن إن شاء الله.

عاش لها ولد لتهوّدنّه. فلما أجليت يهود بني النضير، كان فيهم ناس من أبناء الأنصار. فقال الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا؟ فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وقال الشعبي: قالت الأنصار: والله لنكرهن أولادنا على الإسلام، فإنّا إنّما جعلنا في دين اليهود إذ لم نعلم ديناً أفضل منه، فنزلت هذه الآية. (138) والثاني: أن رجلا من الأنصار تنصّر له ولدان قبل أن يبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما، وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، فاختصموا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول مسروق. والثالث: أن ناساً كانوا مسترضعين في اليهود، فلما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني النضير، قالوا: والله لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم، فمنعهم أهلوهم، وأرادوا إكراههم على الإسلام، فنزلت الآية «1» . والرابع: أن رجلاً من الأنصار كان له غلام اسمه صبيح، كان يكرهه على الإسلام، فنزلت هذه الآية، والقولان عن مجاهد. فصل: واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، فذهب قوم إلى أنه محكم، وأنه من العام المخصوص، فإنه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام، بل يخيّرون بينه وبين أداء الجزية، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب، وتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين هو المنعقد بالقلب. وذهب قوم إلى أنه منسوخ، وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال، فعلى قولهم، يكون منسوخاً بآية السيف، وهذا مذهب الضحاك، والسدي، وابن زيد. والدين هاهنا: أريد به الإسلام. والرشد: الحق، والغي: الباطل. وقيل: هو الإيمان والكفر. وأما الطاغوت فهو اسم مأخوذ من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، قال ابن قتيبة: الطاغوت: واحد، وجمع، ومذكّر، ومؤنث. قال تعالى: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، وقال: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها «2» ، والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه الشيطان «3» ، قاله عمر وابن عباس

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 162 عن مسروق بدون سند فلا حجة فيه، وله شاهد من مرسل السدي، أخرجه الطبري 5820 ومع إرساله، السدي يروي مناكير. - وفي الباب من حديث ابن عباس عن الطبري 5818 لكن إسناده ضعيف فيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول، والراجح في هذا هو المتقدم أولا عن ابن عباس وغيره، والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 257]

ومجاهد والشعبي والسدي ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه الكاهن، قاله سعيد بن جبير وأبو العالية. والثالث: أنه الساحر، قاله محمد بن سيرين. والرابع: أنه الأصنام، قاله اليزيدي والزجاج. والخامس: أنه مردة أهل الكتاب، ذكره الزجاج أيضاً. قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى هذا مثلَ للإيمان شبَّه التمسك به بالمتمسك بالعروة الوثيقة. وقال الزجاج: معنى الكلام: فقد عقد لنفسه عقداً وثيقاً. والانفصام: كسر الشيء من غير إبانة. [سورة البقرة (2) : آية 257] اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، أي: متولي أمورهم، يهديهم، وينصرهم، ويعينهم. والظلمات: الضلالة، والنّور، الهدى، والطّاغوت: الشياطين، هذا قول ابن عباس، وعكرمة في آخرين. وقال مقاتل: الذين كفروا: هم اليهود، والطاغوت: كعب بن الأشرف. قال الزجّاج: الطّاغوت هاهنا: واحد في معنى جماعة، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة. قال الشاعر «1» : بِها جِيَفُ الْحَسْرَى فأَمّا عِظامُها ... فَبِيضٌ وأَمّا جلدها فصليب يريد جلودها، فان قيل: متى كان المؤمنون في ظلمة؟ ومتى كان الكفار في نور؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن عصمة الله للمؤمنين عن مواقعة الضلال، إخراج لهم من ظلام الكفر، وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الذي يحيدون به عن الهدى، إخراج لهم من نور الهدى، و «الإخراج» مستعار هاهنا. وقد يقال للممتنع من الشيء: خرج منه، وإن لم يكن دخل فيه. قال تعالى: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «2» ، وقال: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ «3» ، وقد سبقت شواهد هذا في قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «4» . والثاني: أن إيمان أهل الكتاب بالنبي قبل أن يظهر نورٌ لهم، وكفرهم به بعد أن ظهر، خروج إلى الظلمات. والثالث: أنه لما ظهرت معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان المخالف له خارجاً من نور قد علمه، والموافق له خارجاً من ظلمات الجهل إلى نور العلم. [سورة البقرة (2) : آية 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، قد سبق معنى «ألم تر» . وحاجّ: بمعنى خاصم، وهو نمروذ في قول الجماعة. قال ابن عباس: ملك الأرض شرقها وغربها مؤمنان، وكافران فالمؤمنان سليمان بن داود، وذو القرنين. والكافران: نمروذ، وبختنصر «5» . قال ابن قتيبة:

_ (1) هو علقمة بن عبدة بن النعمان. والحسرى: الإبل المعيبة المريضة. الصليب هنا: الجلد اليابس. (2) يوسف: 37. (3) النحل: 70. [.....] (4) البقرة: 210. (5) هذا قول بلا برهان، مصدره كتب الأقدمين، وهو قول بعيد جدا.

[سورة البقرة (2) : آية 259]

معنى الآية: حاجَّ إبراهيم، لأن الله آتاه الملك، فأعجب بنفسه وملكه. قوله تعالى: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قال بعضهم: هذا جواب سؤال سابق غير مذكور، تقديره: أنه قال له: من ربك؟ فقال: ربّي الذين يحيي ويميت. قال نمروذ: أنا أحيي وأميت. قال ابن عباس: يقول: أترك من شئت، وأقتل من شئت. فإن قيل: لم انتقل إبراهيم إلى حجة أخرى، وعدل عن نصرة الأولى؟ فالجواب: أن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمرا يدل على ضعف فهمه، فإنه عارض اللفظ بمثله، ونسي اختلاف الفعلين، فانتقل إلى حجة أخرى، قصداً لقطع المحاجّ لا عجزاً عن نصرة الأولى. وقرأ أبن رزين العقيلي، وابن السميفع: فبهت، بفتح الباء والهاء، وقرأ أبو الجوزاء، ويحيى بن يعمر، وأبو حياة: فبهت بفتح الباء، وضم الهاء. قال الكسائي: ومن العرب من يقول: بهت، وبهت، بكسر الهاء وضمها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، يعني: الكافرين. قال مقاتل: لا يهديهم إلى الحجّة، وعنى بذلك نمروذ. [سورة البقرة (2) : آية 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ، قال الزجاج: هذا معطوف على معنى الكلام الذي قبله، أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مر على قرية؟ وفي المراد بالقرية قولان: أحدهما: أنها بيت المقدس لما خربه بختنصر، قاله وهب، وقتادة، والربيع بن أنس. والثاني: أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت، قاله ابن زيد. وفي الذي مر عليها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عزير، قاله علي بن أبي طالب، وأبو العالية، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وناجية بن كعب، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه أرمياء، قاله وهب، ومجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير. والثالث: أنه رجل كافر شك في البعث، نقل عن مجاهد أيضاً. والخاوية: الخالية، قاله الزجاج. وقال ابن قتيبة: الخاوية: الخراب، والعروش: السقوف، وأصل ذلك أن تسقط السقوف، ثم تسقط الحيطان عليها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ، أي: كيف يحييها. فإن قلنا: إن هذا الرجل نبي، فهو كلام من يؤثر أن يرى كيفية الإعادة، أو يستهولها، فيعظم قدرة الله، وإن قلنا: إنه كان رجلاً كافراً، فهو كلام شاك، والأول أصح. قوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ. (الاشارة الى قصته) روى ناجية بن كعب عن عليّ عليه السلام، قال: خرج عزير نبي الله من مدينته، وهو رجل شاب، فمر على قرية، وهي خاوية على عروشها، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة

عام، ثم بعثه، وأول ما خلق الله منه عيناه، فجعل ينظر إلى عظمه تنضمّ بعضها إلى بعض، ثم كسيت لحماً، ونفخ فيها الروح. قال الحسن: قبضه الله أول النهار، وبعثه الله آخر النهار بعد مائة سنة. قال مقاتل: ونودي من السماء: كم لبثت؟ قال قتادة: فقال: لبثت يوماً، ثم نظر فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم. فهذا يدل على أنه عزير. وقال وهب بن منبه: أقام أرميا بأرض مصر فأوحى الله إليه أن الحق بأرض إيلياء، فركب حماره، وأخذ معه سلة من عنب وتين، ومعه سقاء جديد، فيه ماء، فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى والمساجد نظر إلى خراب لا يوصف فلما رأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم نزل منها منزلاً، وربط حماره، وعلق سقاءه، وألقى الله عليه النوم، ونزع روحه مائة عام، فلما مر منها سبعون عاماً، أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس، عظيم، فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك، فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أعمر ما كانت، فانتدب ثلاثمائة قهرمان، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل، وما يصلحه من أداة العمل، فسار إليها قهارمته ومعهم ثلاثمائة ألف عامل. فلما وقعوا في العمل، رد الله روح الحياة في عيني أرميا، وآخر جسده ميت، فنظر إليها تعمر، فلما تمت بعد ثلاثين سنة رد الله إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه فلم يتسنّه، ونظر إلى حماره واقفاً كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرّمّة في عنق الحمار لم تتغير ولم تنتقص شيئاً وقد نحل جسم أرميا من البلى، فأنبت الله له لحماً جديداً ونشز عظامه وهو ينظر، فقال له الله: (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه، وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال: اعلم أن الله على كل شيء قدير) . وزعم مقاتل أن هذه القصة كانت بعد رفع عيسى عليه السلام. قوله تعالى: كَمْ لَبِثْتَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم «لبثت» و «لبثتم» في كل القرآن باظهار التاء، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بالإدغام، قال أبو علي الفارسي: من بين «لبثت» فلتباين المخرجين، وذلك أن الظاء والذال والثاء من حيز، والطاء والتاء والدال من حيز، فلما تباين المخرجان، واختلف الحيزان، لم يدغم. ومن أدغمهما أجراها مجرى المثلين، لاتفاق الحرفين في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، واتفاقهما في الهمس، ورأى الذي بينهما من الاختلاف يسيراً، فأجراهما مجرى المثلين. فأما طعامه وشرابه، فقال وهب: كان معه مكتل فيه عنب وتين، وقلة فيها ماء. وقال السدي: كان معه تين وعنب، وشرابه من العصير، ولم يحمض التين والعنب، ولم يختمر العصير. قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ «1» وما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ «2» وسُلْطانِيَهْ «3» وما هِيَهْ «4» بإثبات الهاء في الوصل. وقرأ الكسائيّ في حذف موضعين يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ وكلهم يقف على الهاء. ولم يختلفوا في كِتابِيَهْ وحِسابِيَهْ بالهاء وصلاً ووقفاً. فأما معنى: لَمْ يَتَسَنَّهْ، فقال ابن عباس، والحسن،

_ (1) الأنعام: 90. (2) الحاقة: 28. (3) الحاقة: 29. (4) القارعة: 10.

[سورة البقرة (2) : آية 260]

وقتادة في آخرين: لم يتغير. وقال ابن قتيبة: لم يتغير بمر السنين عليه، واللفظ مأخوذ من السّنه، يقال: سانهت النخلة: إذا حملت عاماً، وحالت عاماً. قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ، قال مقاتل: انظر إليه، وقد ابيضت عظامه، وتفرقت أوصاله، فأعاده الله. قوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ اللام صلة مضمر تقديره: فعلنا بك ذلك لنراك قدرتنا، ولنجعلك آية للناس، أي: علَماً على قدرتنا، فأضمر الفعل لبيان معناه. قال ابن عباس: مات وهو ابن أربعين سنة، وابنه ابن عشرين سنة، ثم بعث وهو ابن أربعين وابنه ابن عشرين ومائة، ثم أقبل حتى أتى قومه في بيت المقدس، فقال لهم: أنا عزير، فقالوا: حدثنا آباؤنا أن عزيراً مات بأرض بابل، فقال لهم: أنا هو أرسلني الله إليكم أجدد لكم توراتكم، وكانت قد ذهبت، وليس منهم أحد يقرؤها فأملاها عليهم. قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ، قيل: أراد عظام نفسه، وقيل: عظام حماره، وقيل: هما جميعاً. قوله تعالى: كَيْفَ نُنْشِزُها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «ننشرها» بضم النون الأولى، وكسر الشين وراء مضمومة. ومعناه: نحييها. يقال: أنشر الله الميت، فنشر. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (ننشزها) بضم النون مع الزاي، وهو من النشز الذي هو الارتفاع. والمعنى: نرفع بعضها إلى بعض للأحياء. وقرأ الأعمش: (ننشزها) بفتح النون ورفع الشين مع الزاي. وقرأ الحسن، وأبان، عن عاصم: ننشرها، بفتح النون مع الراء، كأنه من النشر عن الطي، فكأن الموت طواها، والإحياء نشرها. قوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ، أي: بان له إحياء الموتى، قالَ أَعْلَمُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «أعلم» مقطوعة الألف، مضمومة الميم. والمعنى: قد علمت ما كنت أعلمه غيباً مشاهدة. وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، وسكون الميم على معنى الأمر، والابتداء، على قراءتهما بكسر الهمزة، وظاهر الكلام أنه أمر من الله له. وقال أبو علي: نزل نفسه منزلة غيره فأمرها وخاطبها. وقرأ الجعفي «1» عن أبي بكر: «أعلم» بكسر اللام على معنى الأمر بإعلام الغير. [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى في سبب سؤاله هذا أربعة أقوال: أحدها: أنه رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع فسأل هذا السؤال، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وابن جريج، ومقاتل. وما الذي كانت هذه الميتة؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كان رجلاً ميتاً، قاله ابن عباس. والثاني: كان جيفة حمار، قاله ابن جريج، ومقاتل. والثالث: كان حوتاً ميتاً، قاله ابن زيد.

_ (1) هو الإمام أبو علي الحسين بن علي الجعفي الكوفي، توفي سنة 203.

والثاني: أنه لما بشر باتخاذ الله له خليلاً، سأل هذا السؤال ليعلم صحة البشارة، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس. وروي عن سعيد بن جبير أنه لما بشر بذلك، قال: ما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاءك، ويحيي الموتى بسؤالك، فسأل هذا السؤال. والثالث: أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس، وهذا قول عطاء بن أبي رباح. والرابع: أنه لما نازعه نمروذ في إحياء الموتى سأل ذلك ليرى ما أخبر به عن الله تعالى، وهذا قول محمد بن إسحاق. قوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، أي: أولست قد آمنت أني أحيي الموتى؟ وقال ابن جبير: ألم توقن بالخلة؟ قوله تعالى: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، «اللام» متعلقة بفعل مضمر، تقديره: ولكن سألتك ليطمئن، أو أرني ليطمئن قلبي، ثم في المعنى أربعة أقوال: أحدها: لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، قاله ابن عباس. والثاني: ليزداد قلبي يقيناً، قاله سعيد بن جبير. وقال الحسن: كان إبراهيم موقناً، ولكن ليس الخبر كالمعاينة. والثالث: ليطمئن قلبي بالخلة، روي عن ابن جبير أيضاً. والرابع: أنه كان قلبه متعلقاً برؤية إحياء الموتى، فأراد: ليطمئن قلبه بالنظر، قاله ابن قتيبة. وقال غيره: كانت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك، وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته، ويدلّ على أنه لم يسأل لشك، أنه قال: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، وما قال: هل تحيي الموتى؟ قوله تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ في الذي أخذ سبعة أقوال: أحدها: أنها الحمامة، والديك، والكركيّ، والطّاوس، رواه عبد الله بن هبيرة عن ابن عباس. والثاني: أنها الطّاوس، والديك، والدجاجة السندية، والأوزة، رواه الضحاك عن ابن عباس. وفي لفظ آخر، رواه الضحاك مكان الدجاجه السندية الرأل، وهو فرخ النعام. والثالث: أنها الشّعانين، وكان قرباهم يومئذ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أنها الطّاوس، والنسر، والغراب، والديك، نقل عن ابن عباس أيضا. والخامس: أنها الدّيك، والطّاوس والغراب، والحمام، قاله عكرمة، ومجاهد، وعطاء، وابن جريج، وابن زيد. والسادس: أنها ديك، وغراب، وبطّ، وطاوس، رواه ليث عن مجاهد. والسابع: أنها الديك، والبطة، والغراب، والحمامة، قاله مقاتل. وقال عطاء الخراساني: أوحى الله إليه أن خذ بطة خضراء وغراباً أسود، وحمامة بيضاء، وديكاً أحمر. قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، قرأ الجمهور بضم الصاد، والمعنى: أملهن إليك، يقال: صرت الشيء فانصار، أي: أملته فمال، وأنشدوا «1» : الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور «2» فمعنى الكلام: اجمعهن إليك. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فيه إضمار قطعهن. قال ابن قتيبة: أضمر «قطعهن» ، واكتفى بقوله: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، عن قوله: «قطعهن» لأنه يدل عليه، وهذا كما تقول: خذ هذا الثوب، واجعل على كل رمح عندك منه علماً. يريد: قطعه،

_ (1) البيت ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «صور» ولم ينسبه لقائل. (2) في «اللسان» : الصّور: الميل ورجل أصور بين الصّور: مائل مشتاق.

وافعل ذلك، وقرأ أبو جعفر، وحمزة، وخلف، والمفضّل، عن عاصم «فصرهنّ» بكسر الصاد. قال اليزيدي: هما واحد، وقال ابن قتيبة: الكسر والضم لغتان. قال الفراء: أكثر العرب على ضم الصاد، وحدثني الكسائي أنه سمع بعض بني سليم يقول: صرته، فأنا أصيره. وروي عن ابن عباس ووهب، وأبي مالك، وأبي الأسود الدؤلي، والسدي، أن معنى المكسورة الصاد: قطعهن. قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، قال الزجاج: معناه: اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً. وروى عوف عن الحسن قال: اذبحهن ونتّفهنّ، ثم قطّعهنّ أعضاء، ثم خلّط بينهنّ جميعا، ثم جزّأهما أربعة أجزاء، وضع على كل جبل جزءاً. ثم تنحى عنهن، فدعاهن، فجعل يعدو كل جزء إلى صاحبه حتى استوين كما كن، ثم أتينه يسعين. وقال قتادة: أمسك رؤوسها بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبضعة إلى البضعة، وهو يرى ذلك، ثم دعاهنّ، فأقبلن على أرجلهن يلقي لكل طائر رأسه. وفي عدد الجبال التي قسمن عليها قولان: أحدهما: أنه قسمهنّ على أربعة جبال، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة. وروي عن ابن عباس قال: جعلهن أربعة أجزاء في أرباع الأرض، كأنه يعني جهات الإنسان الأربع. والثاني: أنه قسمهن سبعة أجزاء على سبعة أجبال، قاله ابن جريج، والسدي. قوله تعالى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، قال ابن قتيبة: يقال: عدواً، ويقال: مشياً على أرجلهن، ولا يقال للطائر إذا طار: سعى وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي: منيع لا يغلب حَكِيمٌ فيما يدبر. ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له ولد، وقبل نزول الصحف عليه، وهو ابن خمس وسبعين سنة «1» .

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 283: اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟. فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السّلام شاكّا في إحياء الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به. ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الخبر كالمعاينة» . وقال الأخفش: لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. قال ابن عطية: وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك ربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى. وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال ما في القرآن آية أرجى عندي منها وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ثم رجّح الطبري هذا القول. قلت: حديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» . قال ابن عطية: وما ترجم به الطبري عندي مردود. وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس: «هي أرجى آية» . فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا وليست فطنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقيح وبحث. وأما قول عطاء: «دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس» فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدّم. وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم أحرى ألا يشك فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي ورد فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ذلك محض الإيمان» إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى. إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم أعلم به يدلك على ذلك رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلّة والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا. وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متفرد الوجود عند السائل والمسؤول. ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبّرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، فلما كانت عبارة الخليل إبراهيم عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى فكمل الأمر وتخلّص من كل شك ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.

[سورة البقرة (2) : آية 261]

[سورة البقرة (2) : آية 261] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حدثنا عن ثعلب أنه قال: إنما المثل- والله أعلم- للنفقة، لا للرجال، ولكن العرب إذا دل المعنى على ما يريدون، حذفوا، مثل قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ، فأضمر «الحب» لأن المعنى معلوم، فكذلك هاهنا. أراد: مثل نفقة الذين ينفقون ونحو هذا قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ «1» . يريد: بخل الباخلين فحذف البخل. وفي المراد ب «سبيل الله» قولان: أحدهما: أنه الجهاد. والثاني: أنه جميع أبواب البر. قال أبو سليمان الدمشقي: والآية مردودة على قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ، وقد أعلم الله عزّ وجلّ بضرب هذا المثل، أن الحسنة في النفقة في سبيله تضاعف بسبعمائة ضعف. وقال الشعبي: نفقة الرجل على نفسه وأهل بيته تضاعف بسبعمائة ضعف. قال ابن زيد: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، أي: يزيد على السّبعمائة. [سورة البقرة (2) : آية 262] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال ابن السائب ومقاتل: نزلت في عثمان بن عفان في نفقته في غزوة تبوك، وشرائه بئر رومة، ركية بالمدينة، تصدق بها على المسلمين، وفي عبد الرحمن بن عوف حين تصدق بأربعة آلاف درهم، وكانت نصف ماله «2» . وأما المنّ ففيه قولان: أحدهما: أنه المن على الفقير، ومثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه المن على الله بالصدقة، روي عن ابن عباس. فإن قيل: كيف مدحهم بترك المنّ. ووصف نفسه بالمنّان؟ فالجواب: يقال: منّ فلان على فلان: إذا أنعم عليه، فهذا الممدوح، قال الشاعر:

_ (1) آل عمران: 185. (2) لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب ومقاتل. أما ابن السائب، فهو محمد بن السائب الكلبي، وهو متروك كذاب. وأما مقاتل فهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو كذاب أيضا، فهذا أثر باطل لا أصل له، ولم أجده عن غيرهما.

[سورة البقرة (2) : آية 263]

فمنِّي علينا بالسلام فإنما ... كلامك ياقوت ودر منظم أراد بالمن الإنعام. وأما الوجه المذموم، فهو أن يقال: منّ فلان على فلان، إذا استعظم ما أعطاه، وافتخر بذلك قال الشاعر في ذلك: أنلت قليلاً ثم أسرعت منَّة ... فنيلك ممنون كذاك قليل ذكر ذلك أبو بكر الأنباري. وفي الأذى قولان: أحدهما: أنه مواجهة الفقير بما يؤذيه، مثل أن يقول له: أنت أبداً فقير، وقد بليت بك، وأراحني الله منك. والثاني: أنه يخبر بإحسانه إلى الفقير، من يكره الفقير إطلاعه على ذلك، وكلا القولين يؤذي الفقير وليس من صفة المخلصين في الصدقة. ولقد حدثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت الرجل وعياله، ثم يعتقهم جميعاً، ولا يتعرف إليهم، ولا يخبرهم من هو. [سورة البقرة (2) : آية 263] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، أي: قول جميل للفقير، مثل أن يقول له: يوسع الله عليك وَمَغْفِرَةٌ أي: يستر على المسلم خلته وفاقته، وقيل: أراد بالمغفرة التجاوز عن السائل إن استطال على المسؤول وقت رده خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وقد سبق بيانه. [سورة البقرة (2) : آية 264] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ، أي: لا تبطلوا ثوابها، كما تبطل ثواب صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله، وهو المنافق فَمَثَلُهُ، أي: مثل نفقته، كَمَثَلِ صَفْوانٍ، قال ابن قتيبة: الصفوان: الحجر، والوابل: أشد المطر، والصلد: الأملس. وقال الزجاج: الصفوان: الحجر الأملس، وكذلك الصفا. وقال ثعلب: الصلد: النقي. وروي عن ابن عباس، وقتادة، فَتَرَكَهُ صَلْداً، قالا: ليس عليه شيء. وهذا مثل ضربه الله تعالى للمرائي بنفقته، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء مما أنفق. [سورة البقرة (2) : آية 265] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، أي: طلباً لرضاه. وفي معنى التثبيت قولان: أحدهما: أنه الإنفاق عن يقين وتصديق، وهذا قول الشّعبيّ، والسدي، في آخرين. والثاني: أنه التثبيت لارتياد محل الإنفاق، فهم ينظرون أين يضعونها، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وأبي صالح. قوله تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ الجنة: البستان، وقرأ مجاهد، وعاصم الجحدري «حبة» بالحاء. والربوة: ما ارتفع. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «بربوة» بضم الراء.

[سورة البقرة (2) : آية 266]

وقرأ عاصم، وابن عامر، بفتح الراء وقرأ الحسن والأعمش بكسر الراء، وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، برباوة، بزيادة ألف، وفتح الراء، وقرأ أبيّ بن كعب، والجحدريّ كذلك، إلا أنهما ضما الراء، وكذلك خلافهم في «المؤمنين» ، قال الزجاج: يقال رَبوة ورِبوة ورُبوة ورباوة. والموضع المرتفع من الأرض، إذا كان له ما يرويه من الماء، فهو أكثر ريعاً من السفل. وقال ابن قتيبة: الربوة الارتفاع، وكل شيء ارتفع وزاد، فقد ربا، ومنه الربا في البيع. قوله تعالى: فَآتَتْ أُكُلَها، قرأ ابن كثير، ونافع: أكلها. والأكل بسكون الكاف حيث وقع، ووافقهما أبو عمرو، فيما أضيف إلى مؤنث، مثل: «أكلها» ، فأما ما أضيف إلى مذكر مثل: أكله؟ أو كان غير مضاف إلى مكنى: مثل أُكُلٍ خَمْطٍ فثقله أبو عمرو. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي جميع ذلك مثقلا. وأكلها: ثمرها. ضِعْفَيْنِ أي: مثلين. فأما «الطّلّ» فقال ابن قتيبة: هو أضعف المطر، وقال الزجاج: هو المطر الدائم، الصغار القطر الذي لا تكاد تسيل منه المثاعب. قال ثعلب: وهذا لفظ مستقبل وهو لأمر ماض، فمعناه: فان لم يكن أصابها وابل فطل، ومعنى هذا المثل: أن صاحب هذه الجنة لا يخيب، فإنها إن أصابها الطل حسنت، وإن أصابها الوابل أضعفت، فكذلك نفقة المؤمن المخلص. والبصير: من أسماء الله تعالى، معناه: المبصر. قال الخطابي: وهو فعيل بمعنى مفعل، كقولهم: أليم بمعنى مؤلم. [سورة البقرة (2) : آية 266] أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) قوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ، هذه الآية متصلة بقوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ، ومعنى: «أيود» أيُحب، وإنما ذكر النخيل والأعناب، لأنهما من أنفس ما يكون في البساتين، وخصّ ذلك بالكبير، لأنه قد يئس من سعي الشباب في اكسابهم. قوله تعالى: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ، أي: ضعاف، وإذا ضعفت الذرية كان أحنى عليهم، وأكثر إشفاقاً فَأَصابَها يعني: الجنة إِعْصارٌ وهي ريح شديدة، تهب بشدة، فترفع إلى السماء تراباً، كأنه عمود. قال الشاعر: إِن كنت ريحاً فقد لاقيتَ إِعصاراً أي: لاقيت أشد منك. فان قيل: كيف جاز في الكلام أن يكون له جنة فأصابها، ولم يقل: فيصيبها؟ أفيجوز أن يقال: أيودّ أن يصيبَ مالاً، فضاع، والمراد: فيضيع؟ فالجواب: أن ذلك جائز في «وددت» لأن العرب تلقاها مرةً ب «أن» ، ومرةً ب «لو» ، فيقولون: وددت لو ذهبْت عنا، ووددت أن تذهب عنا، قاله الفراء، وثعلب. فصل: وهذه الآية مثلٌ ضربه الله تعالى في الحَسْرةِ بسلب النعمة عند شدّة الحاجة. وفيمن قَصَدَ به ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عُمره، قاله ابن عباس. والثاني: أنه مثل للمفرط في طاعة الله تعالى حتى يموت، قاله مجاهد. والثالث: أنه مثل للمرائي في النفقة، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه، قاله السّدّيّ.

[سورة البقرة (2) : آية 267]

[سورة البقرة (2) : آية 267] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ، في سبب نزولها قولان: (139) أحدهما: أن الأنصار كانوا إذا جذّوا النخل، جاء كل رجل بشيء من ذلك فعلقه في المسجد، فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان أناسٌ ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو «1» فيه الحشف والشيص، فيعلقه، فنزلت هذه الآية. هذا قول البراء بن عازب. (140) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بزكاة الفطر، فجاء رجل بتمر رديء، فنزلت هذه الآية. هذا قول جابر بن عبد الله. وفي المراد بهذه النفقة قولان: أحدهما: أنها الصدقة المفروضة، قاله عبيدة السلماني في آخرين. والثاني: أنها التطوع. وفي المراد بالطيب هاهنا قولان: أحدهما: أنه الجيّد الأنفس، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الحلال، قاله أبو معقل في آخرين. قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا، أي: لا تقصدوا. والتيمم في اللغة: القصد. قال ميمون بن قيس: تَيمَمتُ قيساً وكم دونه ... من الأرض من مَهْمَهٍ ذي شزَن «2» وفي الخبيث قولان: أحدهما: أنه الرديء، قاله الأكثرون، وسبب الآية يدل عليه. والثاني: أنه الحرام، قاله ابن زيد. قوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، قال ابن عباس: لو كان بعضكم يطلب من بعض حقاً له، ثم قضاه ذلك، ولم يأخذه إِلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض حقه. وقال ابن قتيبة: أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء، ويغمضه، فسمي الترخص إغماضاً. ومنه قول الناس للبائع: أغمض، أي: لا تشخص، وكن كأنك لا تبصر. وقال غيره: لما كان الرجل إذا رأى ما يكره

_ جيد. أخرجه ابن ماجة 1822 والحاكم 2/ 285 والطبري 6138 و 6139 والواحدي 172 من طريق أسباط عن السدي عن عدي بن ثابت به. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وهو كما قالا: لكن في أسباط بن نضر ضعف ينحط حديثه عن درجة الصحيح ومثله السدي. وأخرجه الترمذي 2987 والبيهقي 4/ 136 من طريق السدي عن أبي مالك عن البراء به وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وله شاهد من حديث سهل بن حنيف، أخرجه الحاكم 2/ 284 وإسناده حسن. أخرجه الحاكم 2/ 283 والواحدي في «الأسباب» 172 من حديث جابر، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وفيه قيس بن أنيف لم أجد له ترجمة. ويشهد لأصله ما تقدم دون تعيين ذلك بكونه في زكاة الفطر. وفي حديث سهل بن حنيف المتقدم «أمر بصدقة» ولعل المراد صدقة الفطر وبكل حال أصل الخبر محفوظ بشواهده.

[سورة البقرة (2) : آية 268]

أغمض عينيه، لئلا يرى جميع ما يكره جعل التجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضاً. قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ، قال الزجاج: لم يأمركم بالتصدق عن عوز، لكنه بلا أخباركم، فهو حميد على ذلك. يقال: قد غني زيد، يغنى غنى، مقصور: إذا استغنى، وقد غني القوم: إذا نزلوا في مكان يغنيهم، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى. والغواني: النساء، قيل: إنما سمين بذلك، لأنهن غنين بجمالهن، وقيل: بأزواجهن. فأما «الحميد» فقال الخطابي: هو بمعنى المحمود، فعيل بمعنى مفعول. [سورة البقرة (2) : آية 268] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) قوله تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، قال الزجاج: يقال: وعدته أعده وعداً وعدة وموعداً وموعدة وموعوداً، ويقال: الفَقر، والفُقر. ومعنى الكلام: يحملكم على أن تؤدّوا من الرديء، يخوفكم الفقر بإعطاء الجيد. ومعنى: يعدكم الفقر، أي: بالفقر، وحذفت الباء. قال الشاعر «1» : أمرتُكَ الخيرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرت بِهِ ... فقد تركتك ذا مال وذا نشبِ وفي الفحشاء قولان: أحدهما: البخل. والثاني: المعاصي. قال ابن عباس: والله يعدكم مغفرة لفحشائكم، وفضلاً في الرّزق. [سورة البقرة (2) : آية 269] يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ، في المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولاً «2» : أحدها: أنها القرآن، قاله ابن مسعود، ومجاهد، والضحاك، ومقاتل في آخرين. والثاني: معرفة ناسخ القرآن، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، ونحو ذلك، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: النبوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: الفهم في القرآن، قاله أبو العالية، وقتادة، وإبراهيم. والخامس: العلم والفقه، رواه ليث عن مجاهد. والسادس: الإصابة في القول، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسابع: الورع في دين الله، قاله الحسن. والثامن: الخشية لله، قاله الربيع بن أنس. والتاسع: العقل في الدين، قاله ابن زيد. والعاشر: الفهم، قاله شريك. والحادي عشر: العلم والعمل، لا يسمى الرجل حكيماً إِلا إِذا جمعهما، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ، قرأ يعقوب بكسر تاء «يؤت» ، ووقف عليها بهاء والمعنى: ومن يؤته الله الحكمة. وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء. قوله تعالى: وَما يَذَّكَّرُ، قال الزجّاج: أي: وما يفكّر فكراً يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا ذوو العقول. قال ابن قتيبة: «أولو» بمعنى: ذوو، وواحد «أولو» «ذو» ، و «أولات» «ذات» .

_ (1) هو عمرو بن معدي كرب. (2) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 322: والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في بعض الأحاديث «من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه» .

[سورة البقرة (2) : آية 270]

[سورة البقرة (2) : آية 270] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، النذر: ما أوجبه الإنسان على نفسه، وقد يكون مطلقاً، ويكون معلقاً بشرط. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، قال مجاهد: يُحصيه، وقال الزجاج: يجازى عليه. وفي المراد بالظالمين هاهنا، قولان: أحدهما: أنهم المشركون، قاله مقاتل. والثاني: المنفقون بالمنّ والأذى والرياء، والمنذرون في المعصية، قاله أبو سليمان الدمشقي. والأنصار: المانعون. فمعناه: ما لهم مانع يمنعهم من عذاب الله. [سورة البقرة (2) : آية 271] إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ. (141) قال ابن السائب: لما نزل قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، قالوا: يا رسول الله، صدقة السر أفضل، أم العلانية؟ فنزلت هذه الآية. قال الزجاج، يقال: بدا الشيء يبدو: إذا ظهر، وأبديته إبداء: إذا أظهرته، وبدا لي بداء: إذا تغير رأيي عمّا كان عليه. وقوله تعالى: فَنِعِمَّا هِيَ، في «نعم» أربع لغات: «نعم» بفتح النون، والعين، مثل: عَلِمَ. و «نعم» بكسرها، و «نعم» بفتح النون، وتسكين العين، و «نعم» بكسر النون، وتسكين العين. وأما قوله: فَنِعِمَّا هِيَ قرأ نافع في غير رواية «ورش» ، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، والمفضل: «فنعما» ، بكسر النون، والعين ساكنة. وقرأ ابن كثير، وعاصم في رواية حفص، ونافع في رواية «ورش» ، ويعقوب بكسر النون والعين. وقرأ ابن عامر، وحمزة والكسائي، وخلف: «فنعما» بفتح النون، وكسر العين، وكلهم شددوا الميم. وكذلك خلافهم في سورة النساء. قال الزجاج: «ما» في تأويل الشيء، أي: فنعمّ الشيء هو. قال أبو عليّ: نعم الشيء إبداؤها. قوله تعالى فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فهو الإخفاء. واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها، وفي الفريضة قولان: أحدهما: أن إظهارها أفضل، قاله ابن عباس في آخرين. واختاره القاضي أبو يعلى. وقال الزجاج: كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أحسن، فأمّا اليوم، فالناس مسيئون الظن، فاظهارها أحسن. والثاني: إخفاؤها أفضل، قاله الحسن، وقتادة، ويزيد بن أبي حبيب. وقد حمل أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة، وحملوا وَإِنْ تُخْفُوها على النافلة، وهذا قول عجيب. وإنما فضلت صدقة السر لمعنيين: أحدهما: يرجع إلى المعطي، وهو بُعْدُه عن الرياء، وقربه من الإخلاص، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية. والثاني: يرجع إلى المعطى، وهو دفع الذل عنه باخفاء الحال، لأنه في العلانية ينكسر. قوله تعالى: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم (ونكفّر) بالنون والرفع، والمعنى: ونحن نكفّر، ويجوز أن يكون مستأنفا.

_ لا أصل له، ذكره المصنف عن الكلبي تعليقا بدون إسناد، ومع ذلك هو معضل، والكلبي واسمه محمد بن السائب متروك كذاب، فهذا خبر لا أصل له.

[سورة البقرة (2) : آية 272]

وقرأ نافع، وحمزة، والكسائيّ: «ونكفّر» بالنون وجزم الراء. قال أبو علي: وهذا على حمل الكلام على موضع قوله: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن قوله: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في موضع جزم، ألا ترى أنه لو قال: وإِن تخفوها يكون أعظم لأجركم لجزم، ومثله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ «1» ، حمل قوله و «أكن» على موضع «فأصدَّق» . وقرأ ابن عامر: «ويكفّر» بالياء والرفع، وكذلك حفص عن عاصم على الكناية عن الله عزّ وجلّ، وقرأ أبان عن عاصم، «وتكفّر» بالتاء المرفوعة، وفتح الفاء مع إسكان الراء. قوله تعالى: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ، في «من» قولان: أحدهما: أنها زائدة. والثاني: أنها داخلة للتبعيض. قال أبو سليمان الدمشقي: ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل. [سورة البقرة (2) : آية 272] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ في سبب نزولها قولان: (142) أحدهما: أن المسلمين كرهوا أن يتصدقوا على أقربائهم من المشركين، فنزلت هذه الآية، هذا قول الجمهور.

_ والثاني: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم» ، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير. والخير في الآية، أريد به المال، قاله ابن عباس، ومقاتل. ومعنى: فَلِأَنْفُسِكُمْ، أي: فلكم ثوابه. قوله تعالى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، قال الزجاج: هذا خاص للمؤمنين، أعلمهم الله أنه قد علم أن مُرادَهم ما عنده، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم، فقد أعلمهم بالجزاء عليه. قوله تعالى: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، أي: توفون أجره. ومعنى الآية: ليس عليك أن يهتدوا، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام، فان تصدقتم عليهم أُثبتم. والآية محمولة على صدقة التّطوّع، إذ لا يجوز أن يعطى الكافر من الصدقة المفروضة شيئاً. [سورة البقرة (2) : آية 273] لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) (142) أخرجه الواحدي في «الأسباب» 174 عن ابن الحنفية به، وفي الإسناد سلمان المكي، لم أجد له ترجمة. - ولمعناه شواهد منها عن ابن عباس: أخرجه الطبري 6200 وكرره 6203 من وجه آخر، وإسناده حسن. وفي الباب مراسيل كثيرة، فالخبر قوي بشواهده. ضعيف. أخرجه الواحدي في «الأسباب» 173 وابن أبي شيبة كما في «الدر» 1/ 631 عن سعيد بن جبير مرسلا، فهو ضعيف لإرساله.

قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا، لما حثهم على الصدقات والنفقات، دلهم على خير من تُصدّق عليه. وقد تقدم تفسير الإحصار عند قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ «1» . وفي المراد ب الَّذِينَ أُحْصِرُوا أربعة أقوال: أحدها: أنهم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله، ولم يكن لهم شيء، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم فقراء المهاجرين، قاله مجاهد. والثالث: أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو، فلا يقدرون على الاكتساب، قاله قتادة. والرابع: أنهم قوم أصابتهم جراحات مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فصاروا زمنى. قاله سعيد بن جبير، واختاره الكسائي، وقال: أحصروا من المرض، ولو أراد الحبس، لقال: حُصروا، وإنما الإحصار من الخوف، أو المرض. والحصر: الحبس في غيرهما. وفي سبيل الله قولان: أحدهما: أنه الجهاد. والثاني: الطاعة. وفي الضرب في الأرض قولان: أحدهما: أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم، نقل عن ابن عباس. والثاني: الكسب، قاله قتادة. وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: الفقر، قاله ابن عباس. والثاني: أمراضهم، قاله ابن جبير، وابن زيد. والثالث: التزامهم بالجهاد، قاله الزجاج. قوله تعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ، قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي: «يحسبهم» و «يَحْسِبَنَّ» بكسر السين في جميع القرآن. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بفتح السين في الكل. قال أبو علي: فتح السين أقيس، لأن الماضي إذا كان على «فَعِلَ» ، نحو: حسب، كان المضارع على «يفعل» ، مثل: فرق يفرق، وشرب يشرب، والكسر حسن لموضع السمع. قال ابن قتيبة: لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخُبْر، فكأنه قال: يحسبهم من لا يخبرُ أمرهم. والتعفف: ترك السؤال، يقال: عف عن الشيء وتعفّف. والسيما: العلامة التي يعرف بها الشيء، وأصله من السمة. وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال: أحدها: تجملهم، قاله ابن عباس. والثاني: خشوعهم، قاله مجاهد. والثالث: أثر الفقر عليهم، قاله السدي والربيع بن أنس. وهذا يدل على أن للسيما حكماً يتعلق بها. قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار الحرب، ولا يعرف أمره: ينظر إلى سيماه، فإن كان عليه سِيما الكفار من عدم الختان، حكم له بحكمهم، فلم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصل عليه، وإن كان عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم «2» . فأما الإلحاف، فهو: الإلحاح، قال ابن قتيبة: يقال: ألحف في المسأله: إذا ألح، وقال الزجاج: معنى ألحف: شَمِل بالمسألة، ومنه اشتقاق اللحاف، لأنه يشمل الإنسان بالتغطية، فإن قيل: فهل كانوا يسألون غير

_ (1) البقرة: 196. (2) قال الإمام الموفّق رحمه الله في (المغني) 3/ 477: فإن اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين، فلم يميزوا، صلّى على جميعهم بنية المسلمين. قال أحمد: ويجعلهم بينه وبين القبلة، ثم يصلي عليهم وإلا فلا، لأن الاعتبار بالأكثر، بدليل أن دار المسلمين الظاهر فيها الإسلام، لكثرة المسلمين بها، وعكسها دار الحرب، لكثرة من بها من الكفار. ولنا، أنه أمكن الصلاة على المسلمين من غير ضرر، فوجب، كما لو كانوا أكثر، ولأنه إذا جاز أن يقصد بصلاته ودعائه الأكثر، جاز قصد الأقل وإن وجد ميت، فلم يعلم أمسلم هو أم كافر، نظر إلى العلامات من الختان، والثياب والخضاب، فإن لم يكن عليه علامة، وكان في دار الإسلام، غسّل وصلّي عليه، وإن كان في دار الكفر، لم يغسّل، ولم يصلّ عليه. نصّ عليه أحمد، لأن الأصل أنّ من كان في دار فهو من أهلها، يثبت له حكمهم ما لم يقم على خلافه دليل.

[سورة البقرة (2) : آية 274]

ملحفين؟ فالجواب: أن لا، وإنما معنى الكلام: أنه لم يكن منهم سؤال، فيكون إلحاف. قال الأعشى: لا يغمز الساق من أينٍ ولا وَصَبٍ ... ولا يعضُّ على شرسوفِهِ الصّفر «1» معناه: ليس بساقه أين ولا وصب، فيغمزها لذلك. قال الفرّاء: ومثله أن تقول: قلّ ما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلك لم تر قليلاً ولا كثيراً من أشباهه، فهم لا يسألون الناس إلحافاً، ولا غير إلحاف. وإلى نحو هذا ذهب الزجاج، وابن الأنباري في آخرين. [سورة البقرة (2) : آية 274] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: (144) أحدها: أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله عزّ وجلّ، رواه حنش الصنعاني عن ابن عباس، وهو قول أبي الدّرداء وأبي أمامه، ومكحول، والأوزاعي في آخرين. (145) والثاني: نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فإنه كانت معه أربعة دراهم، فأنفق في الليل درهماً وبالنهار درهماً، وفي السر درهماً، وفي العلانية درهماً، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن السائب، ومقاتل. (146) والثالث: أنها نزلت في عليّ وعبد الرحمن بن عوف، فإن علياً بعث بوسق من تمر إلى أهل الصفة ليلاً وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهاراً، رواه الضحاك عن ابن عباس.

_ أخرجه الواحدي في «أسبابه» 176 عن حنش الصنعاني عن ابن عباس، وفي إسناده، عبد الله بن صالح، وهو ضعيف. وله شاهد عن أبي الدرداء، أخرجه الطبري 6230 وفيه راو لم يسم ممن يراد بهذه الآية، لأن الآية خاصة في ذلك، والله أعلم. باطل. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 344 والواحدي 180 والطبراني 11164 عن عبد الوهّاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس. إسناده ضعيف جدا، ابن مجاهد متروك ولم يسمع من أبيه كما في «الميزان» وهذا أثر باطل لا أصل له، ولا يصح عن مجاهد لأنه من رواية ابنه، ونسبه المصنف لابن السائب. الكلبي، وهو متروك كذاب. وعزاه المصنف لمقاتل، وهو كذاب أيضا، والصواب عموم الآية. باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، ولم أر من أسنده إلى الضحاك، وبكل حال هو أثر ساقط، الضحاك لم يلق ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد، حيث روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا، وجويبر متروك متهم. فهذا خبر ساقط، لا أصل له. - والصواب عموم الآية، وأن الآية في كل من يتصف بذلك، والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 275]

[سورة البقرة (2) : آية 275] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا، الربا: أصله في اللغة: الزّيادة، ومنه الرّبوة والرّابية، وأربى فلان على فلان: زاد. وهذا الوعيد يشمل الأكل، والعامل به، وإنما خصّ الأكل بالذكْر، لأنه معظم المقصود.

_ وقد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه: «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» . قوله تعالى: لا يَقُومُونَ، قال ابن قتيبة أي: يوم البعث من القبور. والمس: الجنون، يقال: رجل ممسوس. فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا كما قال تعالى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً «1» . إلا أكله الربا، فانهم يقومون ويسقطون، لأن الله أربى الربا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فلا يقدرون على الإسراع. وقال سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة. قوله تعالى: ذلِكَ، أي: هذا الذي ذكر من عقابهم بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وقيل: إن ثقيف كانوا أكثر العرب ربا، فلما نهوا عنه قالوا: إنّما هو مثل البيع. قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ، قال الزجّاج: كلّ تأنيث ليس بحقيقيّ، فتذكيره جائز، ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبّران عن معنى واحد؟ قوله تعالى: فَلَهُ ما سَلَفَ، أي: ما أكل من الرّبا. وفي قوله تعالى: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، قولان: أحدهما: أن «الهاء» ترجع إلى المربي، فتقديره: إن شاء عصمه منه، وإن شاء لم يفعل، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والثاني: أنها ترجع إلى الرّبا، فمعناه: يعفو الله عمّا شاء منه، ويعاقب على ما شاء منه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قوله تعالى: وَمَنْ عادَ، قال ابن جبير: من عاد إلى الرّبا مستحلّا محتجّا بقوله تعالى: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [سورة البقرة (2) : الآيات 276 الى 277] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) (147) صحيح. أخرجه مسلم 1598 وأحمد 3/ 304 والبيهقي 5/ 275 وأبو يعلى 1849 من طرق عن جابر قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه» وقال: «هم سواء» . - ويشهد له ما أخرجه أحمد 1/ 409 و 430 و 464 و 465، والنسائي 8/ 147 وابن حبان 3252 وأبو يعلى 5241 وعبد الرزاق 15350 وابن خزيمة 2250 والحاكم 1/ 387- 388 وعنه البيهقي 9/ 19 من طرق عن عبد الله بن مسعود قال: «آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهداه إذا علموا به والواشمة والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة» .

[سورة البقرة (2) : آية 278]

قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا فيه قولان: أحدهما: أن معنى محقه: تنقيصه واضمحلاله، ومنه: محاق الشهر، لنقصان الهلال فيه. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها، رواه الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ، قال ابن جبير: يضاعفها. والكَفَّار: الذي يكثر فعل ما يكفر به، والأثيم: المتمادي في ارتكاب الإثم المصرّ عليه. [سورة البقرة (2) : آية 278] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا في نزولها ثلاثة أقوال: (148) أحدها: أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكان بنو المغيرة يأخذون الربا من ثقيف، فلما وضع الله الربا، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول ابن عباس. (149) والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان، والعباس، كانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال صاحب التّمر: إن أخذتما ما لكما لم يبق لي ولعيالي ما يكفي، فهل لكما أن تأخذوا النصف وأضعّف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنهاهما عليه السّلام، فنزلت هذه الآية، هذا قول عطاء وعكرمة. (150) والثالث: أنها نزلت في العباس وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية وكانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فنزلت هذه الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أَلا إِن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس» هذا قول السدي. قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، إنما قال: ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا لأن كل رباً كان قد ترك، فلم يبق إلا ربا ثقيف. وقال قوم: الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه، وقبض بعضه في كفره، ثم أسلم، فيجب عليه أن يترك ما بقي، ويعفى له عما مضى. فأما المراباة بعد الإسلام، فمردودة فيما قبض، ويسقط ما بقي.

_ أخرجه أبو يعلى 668 ومن طريقه الواحدي في «أسباب النزول» 183 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وإسناده ضعيف جدا، الكلبي متروك، وأبو صالح متروك في حديثه عن ابن عباس، وذكره الهيثمي في «المجمع» 4/ 119- 120 وقال: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن السائب الكلبي، وهو كذاب اه. وذكره ابن حجر في «المطالب العالية» 3537 ونقل الشيخ الأعظمي عن البوصيري تضعيفه للكلبي! مع أنه متروك متهم. وأخرجه الطبري 6257 عن ابن جريج بنحوه، وأتم. وورد عن عكرمة مع أثر ابن جريج عند الطبري، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله تعالى أعلم. وانظر «فتح الباري» 4/ 313. ذكره الواحدي 184 عن عطاء وعكرمة بدون إسناد، ولم أره عند غيره، فهو لا شيء، وذكر عثمان في هذا الخبر باطل لا أصل له، وأما ذكر العباس، فله ما يؤيده، وانظر ما بعده. هو في «أسباب النزول» 185 للواحدي عن السدي بدون إسناد. وأخرجه الطبري 6256 عن السدي، وليس فيه اللفظ المرفوع، وهذا مرسل. واللفظ المرفوع منه صحيح، ورد في أحاديث أخر.

[سورة البقرة (2) : آية 279]

[سورة البقرة (2) : آية 279] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر فَأْذَنُوا مقصورة مفتوحة. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «فآذنوا» بمد الألف وكسر الذال. قال الزجاج: من قرأ: فأذنوا، بقصر الألف وفتح الذال، فالمعنى: أيقنوا. ومن قرأ بمد الألف وكسر الذال، فمعناه: أعلموا كل من لم يترك الربا أنه حرب. قال ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. قوله تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أي التي أقرضتموها، لا تَظلمون فتأخذون أكثر منها، ولا تُظلَمون فتنقصون منها، والجمهور على فتح «تاء» تظلمون الأولى، وضم «تاء» تظلمون الثانية. وروى المفضل عن عاصم: ضم الأولى، وفتح الثانية. [سورة البقرة (2) : آية 280] وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ. ذكر ابن السائب، ومقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا، قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا، وندع لكم الربا، فشكا بنو المغيرة العسرة، فنزلت هذه الآية «1» . فأما العسرة، فهي الفقر، والضيق. والجمهور على تسكين السين، وضمها أبو جعفر هاهنا، وفي ساعَةِ الْعُسْرَةِ «2» . وقرأ الجمهور بفتح سين «الميسرة» ، وضمها نافع، وتابعه زيد عن يعقوب على ضم السين، إلا أنه زاد، فكسر الراء، وقلب الياء هاء، ووصلها بباء. قال الزجاج: ومعنى وإن كان: وإن وقع. والنظرة التأخير، فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الربا إذا كان المطالب معسراً، وأعلمهم أن الصدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا والأكثرون على تشديد الصاد، وخففها عاصم مع تشديد الدال. وسكنها ابن أبي عبلة مع ضم الدال فجعله من الصّدق. [سورة البقرة (2) : آية 281] وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، قرأ أبو عمرو بفتح تاء «ترجعون» وضمّها الباقون. قال ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن جبير، وعطية، ومقاتل في آخرين: هذه آخر آية نزلت من القرآن «3» . قال ابن عباس: وتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها بأحد وثمانين

_ (1) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 186 عن الكلبي، وهو محمد بن السائب بدون إسناد، والكلبي متهم. - وأما أثر مقاتل، فهو لا شيء أيضا، لكن ورد هذا الخبر من وجوه أخر، انظر الحديث 148. (2) سورة التوبة: 117. (3) أثر ابن عباس صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» 77 و 78 عن ابن عباس موقوفا وإسناده جيد. وبوب به البخاري فقال باب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثم أخرج 4544 عن ابن عباس: آخر آية نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم آية الربا. وأثر عطية العوفي، أخرجه الواحدي في «الأسباب» 9، وهذا مرسل. وأثر ابن جبير، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 1/ 653، ولم أر من أسنده إلى أبي سعيد، وبكل حال الخبر صحيح، في أنها آخر آية نزلت.

[سورة البقرة (2) : آية 282]

يوماً «1» ، وقال ابن جريج: توفي بعدها بتسع ليال. وقال مقاتل: بسبع ليال. [سورة البقرة (2) : آية 282] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، قال الزجاج: يقال: داينت الرجل إذا عاملته، فأخذت منه بدين، وأعطيته. قال الشاعر «2» : داينت أروى والديون تقضى ... فماطلت بعضاً وأدت بعضاً والمعنى: إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى، فاكتبوه، فأمر الله تعالى بكتب الدّين والإشهاد حفظاً منه للأموال وللناس من الظلم، لأن من كانت عليه البينة قل تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في السلم خاصة. فإن قيل: ما الفائدة في قوله: «بدين» ، و «تداينتم» يكفي عنه؟ فالجواب: إن تداينتم يقع على معنيين: أحدهما: المشاراة والمبايعة والإقراض. والثاني: المجازاة بالأفعال، فالأول يقال فيه: الدين بفتح الدال، والثاني: يقال منه: الدين بكسر الدال. قال تعالى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، أي: يوم الجزاء. وأنشدوا «3» : دناهم كما دانوا فدلّ بقوله: «بدين» على المراد بقوله: «تداينتم» ، ذكره ابن الأنباري. فأما العدل فهو الحق. قال قتادة: لا تدعن حقاً، ولا تزيدن باطلا. قوله تعالى: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ، أي: لا يمتنع أن يكتب كما علمه الله، وفيه قولان:

_ (1) أخرجه الفريابي وابن المنذر كما في «الدر» 1/ 653 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط كما تقدم غير مرة، وقول ابن جريج الآتي أقرب للصواب، وهو يوافق قول سعيد بن جبير كما في «الدر» 1/ 653 وكذا قول مقاتل، والله أعلم. وأثر ابن جريج، أخرجه الطبري 6312. وانظر «فتح الباري» 8/ 205. (2) هو رؤبة بن العجاج. (3) البيت من الهزج، وهو للفند الزماني- شهل بن شيبان- كما في المعجم المفصّل، وتمامه: ولم يبق سوى ... العدوان دناهم كما دانوا.

أحدهما: كما علمه الله الكتابة، قاله سعيد بن جبير. وقال الشعبي: الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد. والثاني: كما أمره الله به من الحق، قاله الزجاج. قوله تعالى وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، قال سعيد بن جبير: يعني المطلوب، يقول: ليمل ما عليه من حق الطالب على الكاتب، وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ، أي: لا ينقص عند الإملاء. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أمللت أمل، وأمليت أملي لغتان: فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال، لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرره. قوله تعالى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً، في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه الجاهل بالأموال، والجاهل بالإملاء، قاله مجاهد، وابن جبير. والثاني: أنه الصبي والمرأة، قاله الحسن. والثالث: أنه الصغير، قاله الضحاك، والسدي. والرابع: أنه المبذر، قاله القاضي أبو يعلى. وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال: أحدها: أنه العاجز والأخرس ومن به حمق، قاله ابن عباس وابن جبير. والثاني: أنه الأحمق، قاله مجاهد والسدي. والثالث: أنه الصغير، قاله القاضي أبو يعلى. قوله تعالى: أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ، قال ابن عباس: لا يستطيع لعيِّه. وقال ابن جبير: لا يحسن أن يمل ما عليه، وقال القاضي أبو يعلى: هو المجنون. قوله تعالى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها تعود إلى الحق، فتقديره: فليملل ولي الحق، هذا قول ابن عباس، وابن جبير، والربيع بن أنس، ومقاتل، واختاره ابن قتيبة. والثاني: أنها تعود إلى الذي عليه الحق، وهذا قول الضحاك، وابن زيد، واختاره الزجاج، وعاب قول الأوّلين، فقال: كيف يقبل المدّعى! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد، والقول قوله؟! وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضاً. والعدل: الإنصاف. وفي قوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ، قولان: أحدهما: أنه يعني الأحرار، قاله مجاهد. والثاني: أهل الإسلام، وهذا اختيار الزجاج، والقاضي أبي يعلى، ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية. قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ، أراد: فإن لم يكن الشهيدان رجلين فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، ولم يرد به: إن لم يوجد رجلان. قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ، قال ابن عباس: من أهل الفضل والدين. قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى، ذكر الزجاج، أن الخليل، وسيبويه، وسائر النحويين الموثوق بعلمهم، قالوا: معناه: استشهدوا امرأتين، لأن تذكر إِحداهما الأخرى. ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى. وقرأ حمزة «إن تضل» بكسر الألف. والضلال هاهنا: النسيان، قاله ابن عباس، والضحّاك، والسّدّيّ، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. فأمّا قوله: «فتذكر» فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بالتخفيف مع نصب الراء، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف، وقرأ الباقون بالنصب وتشديد الكاف، فمن شدّد أراد الإذكار عند النسيان، وفي قراءة من خفف قولان: أحدهما: أنها بمعنى المشددة أيضاً، وهذا قول الجمهور. قال الضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: ومعنى القراءتين واحد. والثاني: أنها بمعنى: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر، وهذا مذهب سفيان بن عيينة، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه. واختاره القاضي أبو يعلى، وقد رده جماعة، منهم ابن قتيبة. قال أبو

علي: ليس مذهب ابن عيينة بالقوي، لأنهن لو بلغن ما بلغن، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهن رجل، ولأن الضلال هاهنا: النسيان، فينبغي أن يقابل بما يعادله، وهو التذكير. قوله تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا، قال قتادة: كان الرجل يطوف في الحِواء «1» العظيم، فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت هذه الآية. وإلى ماذا يكون هذا الدعاء؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إلى تحمل الشهادة، وإثباتها في الكتاب، قاله ابن عباس، وعطية، وقتادة، والربيع. والثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها، قاله سعيد بن جبير، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والشعبي، وأبو مجلز، والضحاك، وابن زيد، ورواه الميمونيّ عن أحمد بن حنبل. والثالث: إلى تحملها وإلى أدائها، روي عن ابن عباس، والحسن، واختاره الزجاج، قال القاضي أبو يعلى: إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره، فأما إن كان قد تحملها جماعة، لم تتعين عليه، وكذلك في حال تحملها، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه. قوله تعالى: وَلا تَسْئَمُوا، أي: لا تملّوا ولا تضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله، أي: إلى محل أجله ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، أي: أعدل، وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا عليه وَأَدْنى أي: أقرب أَلَّا تَرْتابُوا أي: لا تشكوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ الأموال تِجارَةً أي: إلا أن تقع تجارة. وقرأ عاصم «تجارة» بالنصب على معنى: إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل. فأباح ترك الكتاب فيها توسعة، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول ومشروب. قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ، الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه. فصل: وهذه الآية تتضمن الأمر باثبات الدين في كتاب، وإثبات شهادة في البيع والدين. واختلف العلماء، هل هذا أمر وجوب «2» ، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب، فعلى هذا هو محكم، وذهبت طائفة إلى أن الكتابة والإشهاد واجبان، روي عن ابن عمر وأبي موسى ومجاهد وابن سيرين وعطاء والضحاك وأبي قلابة والحكم وابن زيد. ثم اختلف هؤلاء، هل هذا الحكم باقٍ أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ. قوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من «يضار» وسكونها. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إن معناه: لا يضارَّ بأن يدعى وهو مشغول، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، والربيع بن أنس، والفراء، ومقاتل. وقال الرّبيع: كان أحدهم

_ (1) في «اللسان» : الحواء: جماعة بيوت الناس إذا تدانت، والجمع الأحوية. [.....] (2) قال الحافظ ابن كثير 1/ 336 عند هذه الآية وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب.

[سورة البقرة (2) : آية 283]

يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي، فيقول: إني مشغول، فيلزمه، ويقول: إنك قد أُمرت بالكتابة، فيضاره، ولا يدعه، وهو يجد غيره، وكذلك يفعل الشاهد، فنزلت وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. والثاني: أن معناه: النهي للكاتب أن يضار من يكتب له بأن يكتب غير ما يمل عليه، وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه، هذا قول الحسن، وطاوس، وقتادة، وابن زيد، واختاره ابن قتيبة، والزجاج. واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، قال: ولا يسمى من دعا كاتباً ليكتب، وهو مشغول، أو شاهداً فاسقاً، إنما يسمى من حرف الكتاب، أو كذب في الشهادة، فاسقاً. والثالث: أن معنى المضارّة: امتناع الكاتب أن يكتب، والشاهد أن يشهد، وهذا قول عطاء في آخرين. قوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا، يعني: المضارّة. [سورة البقرة (2) : آية 283] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ، إنما خص السفر، لأن الأغلب عدم الكاتب والشاهد فيه، ومقصود الكلام: إذا عدمتم التوثق بالكتاب والإشهاد، فخذوا الرهن. قوله تعالى: فَرِهانٌ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعبد الوارث (فرهن) بضم الراء والهاء من غير ألف، وأسكن الهاء عبد الوارث وجماعة. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي فَرِهانٌ بكسر الراء، وفتح الهاء، وإثبات الألف. قال ابن قتيبة من قرأ فَرِهانٌ أراد: جمع رهن، ومن قرأ «رهن» أراد: جمع رهان، فكأنه جمع الجمع. وقوله تعالى: مَقْبُوضَةٌ، يدل على أن من شرط لزوم الرهن القبض، وقبض الرهن أخذه من راهنه منقولاً، فإن كان مما لا ينقل، كالدور والأرضين، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه. قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أي: فإن وثق رب الدين بأمانة الغريم، فدفع ماله بغير كتاب ولا شهود، ولا رهن، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ وهو المدين أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أن يخون من ائتمنه. وقوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، قال السدي عن أشياخه: فانه فاجر قلبه. قال القاضي أبو يعلى: إنما أضاف الإثم إلى القلب، لأن المآثم تتعلق بعقد القلب، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النّيّة لترك أدائها. [سورة البقرة (2) : آية 284] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أما إبداء ما في النفس، فانه العمل بما أضمره العبد، أو النطق، وهذا مما يحاسب عليه العبد، ويؤاخذ به، وأما ما يخفيه في نفسه، فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين:

[سورة البقرة (2) : آية 285]

أحدهما: أنه عام في جميع المخفيات، وهو قول الأكثرين. واختلفوا: هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة أم منسوخ؟ على قولين: أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، هذا قول ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس في رواية، والحسن، والشعبي، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: أنه ثابت في المؤاخذة على العموم، فيؤاخذ به من يشاء، ويغفره لمن يشاء، وهذا مروي عن ابن عمر، والحسن، واختاره أبو سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله عزّ وجلّ إذا جمع الخلائق، يقول لهم: إني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطّلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم، ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، يقول: يخبركم به الله، وأما أهل الشرك والريب، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، والأكثرون على تسكين راء «فيغفر» وباء «يعذب» منهم ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي. إنما جزموا لإتباع هذا ما قبله، وهو «يحاسبْكم» وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم ويعقوب: برفع الراء، والباء فيهما. فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأول، قال ابن الأنباري: وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله العبد يوم القيامة على ما كان حدث به نفسه في الدنيا، ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء. قال: والذي نختاره أن تكون الآية محكمة، لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي. وقد روي عن عائشة أنها قالت: أما ما أعلنت، فالله يحاسبك به، وأما ما أخفيت، فما عُجلت لك به العقوبة في الدنيا. والقول الثاني: أنه أمر خاص في نوع من المخفيات، ولأرباب هذا القول فيه قولان: أحدهما: أنه كتمان الشهادة، قاله ابن عباس في رواية، وعكرمة والشعبي. والثاني: أنه الشك واليقين، قاله مجاهد. فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة. [سورة البقرة (2) : آية 285] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. (151) روى البخاري ومُسلم في «صحيحيهما» من حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه» ، قال أبو بكر النقاش: معناه: كفتاه عن قيام الليل. وقيل: إنهما نزلتا على سبب. (152) وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، قال: لما أنزل الله تعالى

_ صحيح. أخرجه البخاري 5008 و 5009 و 5040 و 5051 ومسلم 807 والطيالسي 2/ 10 وأحمد 4/ 121 وأبو داود 1397 والترمذي 2881 والنسائي في «اليوم والليلة» 719 وابن ماجة 1369 والدارمي 1/ 349 وابن حبان 781 والبغوي 1199 من حديث أبي مسعود البدري. صحيح. أخرجه مسلم 125 وأحمد 2/ 412 والطبري 6453 وأبو عوانة 1/ 76 و 77 وابن حبان 139 والواحدي في «أسباب النزول» 187 من طرق عن أبي هريرة.

[سورة البقرة (2) : آية 286]

وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، اشتد ذلك على أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأتوا رسول الله ثم جثوا على الركب. فقالوا: قد أُنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير» . فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها آمَنَ الرَّسُولُ. قال الزجاج: لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ختمها بتصديق نبيه، والمؤمنين. وقرأ ابن عباس «وكتابه» ، فقيل له في ذلك، فقال: كتاب أكثر من كُتُب، ذهب به إلى اسم الجنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وقد وافق ابن عباس في قراءته حمزة والكسائي وخلف، وكذلك في «التحريم» وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر (وكتبه) هاهنا بالجمع، وفي «التحريم» بالتوحيد. وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين. قوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنى على حرفين، مثل «رسلنا» و «رسلكم» باسكان السين، وثقَّل ما عدا ذلك. وفي قوله تعالى: عَلى رُسُلِكَ، روايتان، بالتخفيف والتثقيل وقرأ الباقون كل ما كان في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل، ومعنى قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، أي: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وقرأ يعقوب «لا يفرق» بالياء وفتح الراء. قوله تعالى: غُفْرانَكَ، أي: نسألك غفرانك. والمصير: المرجع. [سورة البقرة (2) : آية 286] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، الوسع: الطاقة، قاله ابن عباس، وقتادة. ومعناه: لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، كتكليف الزمن السعي، والأعمى النظر. فأما تكليف ما يستحيل من المكلف، لا لفقد الآلات، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان، فالآية محمولة على القول الأول. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعاً، كان السؤال عبثاً، وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً «1» ، وقال ابن الأنباري: المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه، وان كنا مطيقين له على تجشم، وتحمل مكروه، فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك، وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه، ومثله قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ «2» . قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ، قال ابن عباس: لها ما كسبت من طاعة وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من معصية. قال أبو بكر النقاش: فقوله: «لها» دليل على الخير، و «عليها» دليل على الشر. وقد ذهب قوم إلى أن «كسبت» لمرة ومرات

_ (1) الكهف: 57. (2) هود: 20.

و «اكتسبت» لا يكون إلا لشيء بعد شيء، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد كقوله عزّ وجلّ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «1» . قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا، هذا تعليم من الله تعالى للخلق أن يقولوا ذلك، قال ابن الأنباري: والمراد بالنسيان هاهنا: الترك مع العمد، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته. والخطأ أيضاً هاهنا من جهة العمد، لا من جهة السهو، يقال: أخطأ الرجل: إذا تعمد، كما يقال: أخطأ إذا أغفل. وفي «الإصر» قولان: أحدهما أنه العهد، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي. والثاني: الثقل، أي: لا تثقل علينا من الفروض ما ثقلته على بني اسرائيل، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، فيه خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه ما يصعُب ويشق من الأعمال، قاله الضحاك، والسدي، وابن زيد، والجمهور. والثاني: أنه المحبة، رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم. والثالث: الغلمة «3» ، قاله مكحول. والرابع: حديث النفس ووساوسها. والخامس: عذاب النار. قوله تعالى: أَنْتَ مَوْلانا، أي أنت ولينا فَانْصُرْنا أي: أعنا. وكان معاذ إذا فرغ من هذه السورة، قال: آمين.

_ (1) الطارق: 17. (2) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 343: وقوله رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به اه. قلت: فالقول الأول هو الصواب إن شاء الله تعالى. (3) في «اللسان» : الغلمة: هيجان شهوة النكاح من المرأة والرجل.

سورة آل عمران

سورة آل عمران (153) ذكر أهل التفسير أنها مدنيّة، وأن صدرا من أوّلها نزل في وفد نجران، قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ستّين راكبا، فيهم العاقب، والسّيّد، فخاصموه في عيسى، فقالوا: إن لم يكن ولد الله، فمن أبوه؟ فنزلت فيهم صدر (آل عمران) إلى بضع وثمانين آية منها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني: القرآن بِالْحَقِّ يعني: العدل. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتاب. وقيل: إنما قال في القرآن: «نزّل» بالتشديد، وفي التوراة والإنجيل: أنزل، لأن كل واحد منهما أنزل في مرة واحدة، وأنزل القرآن في مرات كثيرة. فأما التوراة. فذكر ابن قتيبة عن الفراء أنه يجعلها من: وري الزند يري: إذا خرجت ناره، وأوريتُه، يريد أنها ضياء. قال ابن قتيبة: وفيه لغة أخرى: ورى يري، ويقال: وريت بك زنادي. والإنجيل، من نجلت الشيء: إذا أخرجته، وولد الرجل: نجله، كأنه هو استخرجه، يقال: قبح الله ناجليه، أي: والديه، وقيل للماء يظهر من البئر: نجل، يقال: قد استنجل الوادي: إذا ظهر نزوزه. وإنجيل: إفعيل من ذلك، كأن الله أظهر به عافياً من الحق دارساً. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: والإنجيل: أعجمي معرب، قال: وقال بعضهم: إن كان عربياً، فاشتقاقه من النجل، وهو ظهور الماء على وجه الارض، واتساعه، ونجلت الشيء: إذا استخرجته وأظهرته، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم، وقيل: هو إفعيل من النجل وهو الأصل: فالإنجيل أصل لعلوم وحكم. وفي الفرقان هاهنا قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله قتادة، والجمهور. قال أبو عبيدة: سمي القرآن فرقاناً، لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر. والثاني: أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وقال السّدّيّ: في الآية

_ أخرجه الطبري 6540 وابن هشام في «السيرة» 2/ 164 من طريق ابن اسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير. وكذا ابن كثير في «التفسير» 1/ 376 من طريق ابن إسحاق وعزاه البغوي في «تفسيره» 358 للكلبي والربيع بن أنس وغيرهما. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 190 نقلا عن المفسرين. وانظر دلائل النبوة للبيهقي 5/ 382- 384 وهذه المراسيل تتأيد بمجموعها.

[سورة آل عمران (3) : آية 4]

تقديم وتأخير، تقديره: وأنزل التوراة، والإنجيل، والفرقان، فيه هدى للناس. [سورة آل عمران (3) : آية 4] مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ قال ابن عباس: يريد وفد نجران النصارى، كفروا بالقرآن، وبمحمد. والانتقام: المبالغة في العقوبة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 5 الى 6] إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، قال أبو سليمان الدمشقي: هذا تعريض بنصارى أهل نجران فيما كانوا ينطوون عليه من كيد النبيّ عليه السلام. وذكر التصوير في الأرحام تنبيه على أمر عيسى. [سورة آل عمران (3) : آية 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ المحكم: المتقن المبيّن. وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال «1» : أحدها: أنه الناسخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، السّدّيّ في آخرين. والثاني: أنه الحلال والحرام، روي عن ابن عباس ومجاهد. والثالث: أنه ما علم العلماء تأويله، روي عن جابر بن عبد الله. والرابع: أنه الذي لم ينسخ، قاله الضّحّاك. والخامس: أنه ما لم تتكرر ألفاظه، قاله ابن زيد. والسادس: أنه ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان، ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد. وقال الشافعي، وابن الأنباري: هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً. والسابع: أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة. والثامن: أنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى بن الفرّاء. وأم الكتاب أصله. قاله ابن عباس، وابن جبير، فكأنه قال: هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الأحكام، ومجمع الحلال والحرام.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 345: وأحسن ما قيل فيه الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله حيث قال: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. قال: والمتشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق. - وقال الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» 1/ 360 بعد أن ذكر الأقوال المتقدمة: والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى، الظاهر الدلالة إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره. - والمتشابه: ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته، لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره. - وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 4/ 13- 14 بتخريجنا- طبع «دار الكتاب العربي» .

وفي المتشابه سبعة أقوال: أحدها: أنه المنسوخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل، كقيام الساعة، روي عن جابر بن عبد الله. والثالث: أنه الحروف المقطعة كقوله: «ألم» ونحو ذلك، قاله ابن عباس. والرابع: أنه ما اشتبهت معانيه، قاله مجاهد. والخامس: أنه ما تكررت ألفاظه، قاله ابن زيد. والسادس: أنه ما احتاج إلى بيان، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد. وقال الشّافعيّ: ما احتمل من التأويل وجوهاً. وقال ابن الأنباري: المحكم ما لا يحتمل التأويلات، ولا يخفى على مميّز، والمتشابه: الذي تعتوره تأويلات. والسابع: أنه القصص والأمثال، ذكره القاضي أبو يعلى. فإن قيل: فما فائدة إنزال المتشابه، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه لما كان كلام العرب على ضربين: أحدهما: الموجز الذي لا يخفى على سامعه، ولا يحتمل غير ظاهره. والثاني: المجاز، والكنايات، والإشارات، والتلويحات، وهذا الضرب الثاني هو المستحلى عند العرب، والبديع في كلامهم، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله، فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم، ولو نزل كله محكماً واضحاً، لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا؟ ومتى وقع الكلام إشارة أو كناية، أو تعريض أو تشبيه، كان أفصح وأغرب. قال امرؤ القيس: ما ذرفت عيناك إلّا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتَّل فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد، وزاد في بلاغته، وقال امرؤ القيس أيضاً: رَمَتْني بَسَهْمٍ أَصَابَ الفُؤَادَ ... غَدَاةَ الرَّحِيلِ فَلَمْ أنتصر وقال أيضاً: فقلت له لما تمطى بصُلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل «1» فجعل لليل صلباً وصدراً على جهة التشبيه، فحسن بذلك شعره. وقال غيره: من كميت أجادها طابخاها ... لم تمت كل موتها في القدور أراد بالطابخين: الليل والنهار على جهة التشبيه. وقال آخر: تبكي هاشماً في كل فجر ... كما تبكي على الفنن الحمام وقال الآخر: عَجِبْتُ لها أَنَّى يَكُونُ غِناؤها ... فَصيحاً ولم تفتح بمنطقها فما فجعل لها غناء وفماً على جهة الاستعارة. والجواب الثاني: أن الله تعالى أنزله مختبراً به عباده، ليقف المؤمن عنده، ويردّه إلى عالمه، فيعظم بذلك صوابه، ويرتاب به المنافق، فيداخله الزيغ، فيستحق بذلك العقوبة، كما ابتلاهم بنهر

_ (1) في «اللسان» : الكلكل من الفرس: ما بين محزمه إلى ما مسّ الأرض منه إذا ربض وقد يستعار الكلكل لما ليس بجسم في صفة الليل.

طالوت. والثالث: أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردّهم المتشابه إلى المحكم فيطول بذلك فكرهم، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم فيثابون على تعبهم، كما أثيبوا على سائر عباداتهم، ولو جعل القرآن كله محكماً لاستوى فيه العالم والجاهل، ولم يفضل العالم على غيره، ولماتت الخواطر، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم، وقد قال الحكماء: عيب الغنى: أنه يورث البلادة، وفضل الفقر: أنه يبعث على الحيلة، لأنه إذا احتاج احتال. والرابع: أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلّمون، ويمرّونهم على انتزاع الجواب، لأنهم إذا قدروا على الغامض، كانوا على الواضح أقدر، فلما كان ذلك حسناً عند العلماء، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري. قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ في الزيغ قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: أنه الميل، قاله أبو مالك، وعن ابن عباس كالقولين، وقيل: هو الميل عن الهدى. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الخوارج، قاله الحسن. والثاني: المنافقون، قاله ابن جريج. والثالث: وفد نجران من النصارى، قاله الربيع. والرابع: اليهود، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجُمّل، قاله ابن السائب. قوله تعالى: فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ قال ابن عباس: يُحيلون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويُلبسون. وقال السدي يقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا، ثم نسخت. وفي المراد بالفتنة هاهنا، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الكفر، قاله السدي، والربيع، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: الشبهات، قاله مجاهد. والثالث: إفساد ذات البين، قاله الزجاج. وفي التأويل وجهان: أحدهما: أنه التفسير. والثاني: العاقبة المنتظرة. والراسخ: الثابت، رسخ يرسخ رسوخاً. وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان «1» : أحدهما: أنهم لا يعلمونه، وأنهم مستأنفون،

_ (1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 346: وقوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ اختلف القراء في الوقف هاهنا فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلّا الله ... وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا أخاف على أمتي إلّا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه» غريب جدا ... وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابن العاص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به» وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: كان ابن عباس يقرأ (وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون آمنا به) . وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود: (إِن تأويله إِلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) وكذا عن أبي بن كعب. ومنهم من يقف على قوله (والراسخون في العلم) وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد وقد روي عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقال مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: (وما يعلم تأويله) الذي أراد ما أراد (إلّا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا

[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 إلى 9]

وقد روى طاوس عن ابن عباس أنه قرأ «ويقول الراسخون في العلم آمنّا به» وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن عباس، وعروة، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والفراء، وأبو عبيدة، وثعلب، وابن الأنباري، والجمهور. قال ابن الأنباري: في قراءة عبد الله «إن تأويله، إلّا عند الله» وفي قراءة أُبيّ، وابن عباس «ويقول الراسخون» وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء، استأثر بعلمها، وقوله تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً «1» فأنزل تعالى المجمل، ليؤمن به المؤمن، فيسعد، ويكفر به الكافر، فيشقى. والثاني: أنهم يعلمون، فهم داخلون في الاستثناء. وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله، وهذا قول مجاهد، والربيع، واختاره ابن قتيبة، وأبو سليمان الدمشقي. قال ابن الأنباري: الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 9] رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي يقولون: ربنا لا تُمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ هديتنا. قال أبو عبد الرحمن السلمي، وابن يعمر، والجحدري «لا تزغ» بفتح التاء «قلوبنا» برفع الباء. ولدنك: بمعنى عندك. والوهاب: الذي يجود بالعطاء من غير استثابة، والمخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاءً لسقيم، ولا ولداً لعقيم، والله تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء. [سورة آل عمران (3) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) قوله تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ أي: لن تدفع، لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا، وكذلك الأولاد، فأما في الآخرة، فلا ينفع الكافر ماله، ولا ولده. وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ أي: من عذابه [سورة آل عمران (3) : آية 11] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، في الدأب قولان: أحدهما: أنه العادة، فمعناه: كعادة آل

_ (1) الفرقان: 38.

[سورة آل عمران (3) : آية 12]

فرعون، يريد: كفر اليهود. ككفر من قبلهم، قاله ابن قتيبة. وقال ابن الأنباري: و «الكاف» في «كدأب» متعلقة بفعل مضمر، كأنه قال: كفرت اليهود ككفر آل فرعون. والثاني: أنه الاجتهاد، فمعناه: أن دأب هؤلاء وهو اجتهادهم في كفرهم، وتظاهرهم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام، قاله الزّجّاج. [سورة آل عمران (3) : آية 12] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ بالتاء ويَرَوْنَهُمْ بالياء، وقرأ نافع ثلاثتهن بالتاء! وقرأهن حمزة، والكسائي بالياء. وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال: (154) أحدها: أن يهود المدينة لما رأوا وقعة بدر، همّوا بالإِسلام، وقالوا: هذا هو النبي الذي نجده في كتابنا، لا ترد له راية، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى، فلما كانت أُحد، شكّوا، وقالوا: ما هو به، ونقضوا عهدا كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة، فقالوا: تكون كلمتنا واحدة، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. (155) والثاني: أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر، فحقق الله وعده يوم بدر، روي عن ابن عباس، والضحاك. (156) والثالث: أن أبا سفيان في جماعة ن قريش، جمعوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد وقعة بدر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السّائب. [سورة آل عمران (3) : آية 13] قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال «1» : أحدها:

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 191 قال الكلبي قال أبو صالح قال ابن عباس. وهذا الإسناد ساقط، الكلبي متروك متهم، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس. وورد من وجه آخر، أخرجه الطبري 6663 وفيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول. وورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 6664، وورد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 6667. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها. ذكره الماوردي في «تفسيره» عن ابن عباس والضحاك بدون إسناد. فهذا الخبر لا شيء لخلوه عن الإسناد. - والقول المتقدم هو الصواب، فإن الآية الآتية تدل على أن ذلك كان بعد بدر. لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي واسمه محمد، وهو متروك متهم بالكذب، فهذا الأثر لا شيء. والقول الأول هو الصواب، والله أعلم.

أنهم المؤمنون، روي عن ابن مسعود، والحسن. والثاني: الكفار، فيكون معطوفاً على الذي قبله، وهو يخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفاً. والثالث: أنهم اليهود، ذكره الفراء، وابن الأنباري، وابن جرير. فإن قيل: لم قال قَدْ كانَ لَكُمْ ولم يقل قد كانت لكم: فالجواب من وجهين: أحدهما: أَن ما ليس بمؤنث حقيقي، يجوز تذكيره. والثاني: أنه ردّ المعنى إلى البيان، فمعناه: قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى، وترك اللفظ، وأنشدوا: إنّ امرأ غره منكنَّ واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور وقد سبق معنى «الآية» ، و «الفئة» وكل مشكل تركت شرحه، فإنك تجده فيما سبق، والمراد بالفئتين: النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ومشركو قريش يوم بدر. قاله قتادة والجماعة. وفي قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قولان: أحدهما: يرونهم ثلاثة أمثالهم قاله الفراء، واحتج بأنك إذا قلت: عندي ألف دينار، وأحتاج إلى مثليه، فانك تحتاج إلى ثلاثة آلاف. والثاني: أن معناه يرونهم ومثلهم، قال الزجاج: وهو الصحيح. قوله تعالى: رَأْيَ الْعَيْنِ أي: في رأي العين. قال ابن جرير: جاء هذا على مصدر رأيته، يقال: رأيته رأياً، ورؤية. واختلفوا في الفئة الرائية على ثلاثة أقوال: هي التي ذكرناها في قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فان قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون، فوجهه أن المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين، فرأوهم على ما هم عليه، ثم نصرهم الله، وكذلك إن قلنا: إنهم اليهود. وإن قلنا: إنهم المشركون، فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر. وقد قرأ نافع: «ترونهم» بالتاء. قال ابن الأنباري: ذهب إلى أن الخطاب لليهود. قال الفراء: ويجوز لمن قرأ «يرونهم» بالياء أن يجعل الفعل لليهود، وإن كان قد خاطبهم في قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ لأن العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب. وقد شرحنا هذا في «الفاتحة» وغيرها. فإن قيل: كيف يقال: إن المشركين استكثروا المسلمين، وإن المسلمين استكثروا المشركين، وقد بين قوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «1» أن الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى؟ فالجواب: أنهم استكثروهم في حال، واستقلوهم في حال، فإن قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون، فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه، ثم قلل الله المشركين في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، فنصرهم الله بذلك السبب. قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً. وقال في رواية اخرى: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا منهم رجلاً فقلت: كم كنتم؟ قال: ألفاً. وإن قلنا: إن الفئة الرائية المشركون فإنهم استقلوا المسلمين في حال، فاجترؤوا عليهم، واستكثروهم في حال، فكان ذلك سبب خذلانهم، وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ، قالوا للمسلمين: كم كنتم؟ قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر. قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا. قوله تعالى: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ، أي: يقوي، إِنَّ فِي ذلِكَ في الإشارة قولان: أحدهما: أنها

_ (1) الأنفال: 44.

[سورة آل عمران (3) : آية 14]

ترجع إلى النصر. والثاني: إلى رؤية الجيش مثليهم. والعبرة: الدلالة الموصلة إلى اليقين، المؤدية إلى العلم، وهي من العبور، كأنه طريق يعبر به ويتوصّل به المراد. وقيل: العبرة: الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى العلم. والأبصار: العقول والبصائر. [سورة آل عمران (3) : آية 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قرأ أبو رزين العقيلي وأبو رجاء العطاردي، ومجاهد، وابن محيصن «زين» بفتح الزاي «حب» بنصب الباء، وقد سبق في «البقرة» بيان التزيين. والقناطير: جمع قنطار، قال ابن دريد: ليست النون فيه أصلية، وأحسب أنه معرب. واختلف العلماء: هل هو محدود أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه محدود، ثم فيه أحد عشر قولا: (157) أحدها: أنه ألف ومائتا أوقية، رواه أبيّ بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبه قال معاذ بن جبل، وابن عمر، وعاصم بن أبي النجود، والحسن في رواية. (158) والثاني: أنه اثنا عشر ألف أوقية، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وعن أبي هريرة كالقولين، وفي رواية عن أبي هريرة أيضاً: اثنا عشر أوقية. (159) والثالث: أنه ألف ومائتا دينار، ذكره الحسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ورواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: أنه اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وروي عن الحسن، والضحاك، كهذا القول، والذي قبله. والخامس: أنه سبعون ألف دينار، روي عن ابن عمر، ومجاهد. والسادس: ثمانون ألف درهم، أو مائة رطل من الذهب، روي عن سعيد بن المسيب، وقتادة. والسابع: أنه سبعة آلاف دينار، قاله عطاء. والثامن: ثمانية آلاف مثقال، قاله السدي. والتاسع: أنه ألف مثقال ذهب أو فضة، قاله الكلبي. والعاشر: أنه ملء مسك ثور ذهباً، قاله أبو نضرة، وأبو عبيدة. والحادي عشر: أن القنطار: رطل من الذهب، أو الفضة، حكاه ابن الأنباريّ.

_ أخرجه الطبري 6698 وإسناده ضعيف جدا. له علتان: علي بن زيد وعنه مخلد بن عبد الواحد، وهذا الأخير منكر الحديث جدا، والأول ضعيف. وقد رجح ابن كثير رحمه الله فيه الوقف 1/ 359 فقد ورد عن جماعة من الصحابة موقوفا. وشدة الاختلاف في ذلك يدل على عدم صحة المرفوع أصلا، وانظر مزيد الكلام عليه في تفسير ابن كثير بتخريجي عند هذه الآية. وانظر «تفسير الشوكاني» 476. أخرجه الترمذي 3023 والحاكم 2/ 300 والطبري 8368 وعبد الرزاق في «تفسيره» 498 والواحدي 285 من حديث أم سلمة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وهو حديث حسن. قال عبد الرزاق في روايته، وكذا الترمذي والطبري: عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة. وأما الواحدي فقال: عن سلمة بن عمر رجل من ولد أم سلمة. وصححه الألباني وأورده في صحيح الترمذي، والله أعلم. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 6699 عن الحسن مرسلا، ومع إرساله مراسيل الحسن واهية، وكرره الطبري 6700 عن الحسن قوله، وهو الصحيح.

[سورة آل عمران (3) : آية 15]

والقول الثاني: أن القنطار ليس بمحدود. وقال الربيع بن أنس «1» : القنطار: المال الكثير، بعضه على بعض، وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحدّ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري. قال ابن الأنباري قال بعض اللغويين القنطار العقدة الوثيقة المحكمة من المال. وفي معنى المقنطرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المضعَّفة، قال ابن عباس: القناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة، وهذا قول الفراء. والثاني: أنها المكملة، كما تقول: بدرة مبدَّرة، وألف مؤلَّفة، وهذا قول ابن قتيبة. والثالث: أنها المضروبة حتى صارت دنانير ودراهم، قاله السّدّيّ. في المسومة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الراعية، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد في رواية، والضحاك، والسدي، والربيع، ومقاتل. قال ابن قتيبة: يقال: سامت الخيل، وهي سائمة: إذا رعت، وأسمتها وهي مسامة، وسومتها، فهي مسوَّمة: إذا رعيتها، والمسومة في غير هذا: المعلمة في الحرب بالسومة وبالسيِّماء أي: بالعلامة. والثاني: أنها المعلمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، واختاره الزجاج، وعن الحسن كالقولين وفي معنى المعلمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها معلمة بالشية، وهو اللون الذي يخالف سائر لونها، روي عن قتادة. والثاني: بالكي، روي عن المؤرج. والثالث: أنها البلق، قاله ابن كيسان. والثالث: أنها الحسان، قاله عكرمة، ومجاهد. فأما الأنعام، فقال ابن قتيبة: هي: الإبل، والبقر، والغنم، واحدها نعم وهو جمع لا واحد له من لفظه. والمآب: المرجع. وهذه الأشياء المذكورة قد تحسن نية العبد بالتلبس بها، فيثاب عليها، وإنما يتوجه الذّم إلى سوء القصد فيها. [سورة آل عمران (3) : آية 15] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) قوله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ، روى عطاء بن السائب عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزلت زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قال عمر: يا ربّ الآن حين زيّنتها؟! فنزلت: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ووجه الآية أنه خبَّر أن ما عنده خير مما في الدنيا، وإن كان محبوباً، ليتركوا ما يحبون لما يرجون. فأما الرضوان فقرأ عاصم، إلا حفصا وأبان بن يزيد عنه، برفع الراء في جميع القرآن، واستثنى يحيى والعليمي كسر الراء في المائدة في قوله تعالى: مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ «2» ، وقراء الباقون بكسر الراء، والكسر لغة قريش. قال الزجاج: يقال: رضيت الشيء أرضاه رضىً ومرضاة ورِضواناً ورُضواناً، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ، يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا، فهو يجازيهم على أعمالهم.

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 4/ 33: وقال الربيع بن أنس: القنطار المال الكثير بعضه على بعض، وهذا المعروف عند العرب ومنه قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً أي مالا كثيرا. ومنه الحديث- الأثر- «إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه» ) أي صار له قنطار من المال. (2) المائدة: 16. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 16 إلى 17]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 16 الى 17] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) قوله تعالى: الصَّابِرِينَ أي: على طاعة الله عز وجل، وعن محارمه وَالصَّادِقِينَ في عقائدهم وأقوالهم وَالْقانِتِينَ بمعنى المطيعين لله وَالْمُنْفِقِينَ في طاعته. وقال ابن قتيبة يعني: بالنفقة الصدقة. وفي معنى استغفارهم قولان: أحدهما: أنه الاستغفار المعروف باللسان، قاله ابن مسعود، والحسن في آخرين. والثاني: أنه الصلاة. قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك ومقاتل في آخرين. فعلى هذا إنما سميت الصلاة استغفاراً، لأنهم طلبوا بها المغفرة. فأما السحر، فقال إبراهيم بن السري: السحر: الوقت الذي قبل طلوع الفجر، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر، فوصفهم الله بهذه الطاعات، ثم وصفهم بأنهم لشدّة خوفهم يستغفرون. [سورة آل عمران (3) : آية 18] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. (160) سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشّام قدما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عرفاه بالصفة، فقالا: أنت محمد؟ قال: «نعم» . قالا: وأحمد؟ قال: «نعم» . قالا: نسألك عن شهادة، فإن أخبرتنا بها، آمنّا بك، فقال: «سلاني» . فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله، فنزلت هذه الآية، فأسلما، قاله ابن السائب. وقال غيره: هذه الآية رد على نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام، وقد سبق ذكر خبرهم في أول السورة. وقال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وكان لكل حي من العرب صنم أو صنمان، فلما نزلت هذه الآية، خرّت الأصنام سجداً. وفي معنى شَهِدَ اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه بمعنى قضى وحكم، قاله مجاهد والفراء وأبو عبيدة. والثاني: بمعنى بيّن، قاله ثعلب والزجاج. قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه، أنه لا إله إلا هو. وسئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال: إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على الصانع الخبير؟! وقرأ ابن مسعود وأبيّ بن كعب وعاصم الجحدري (شهداء الله) بضم «الشين» وفتح «الهاء والدال» وبهمزة مرفوعة بعد المد، وخفض «الهاء» من اسم الله تعالى. قائِماً بِالْقِسْطِ أي بالعدل. قال جعفر الصادق: وإنما كرر لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، أي قولوا: لا إله إلا هو.

_ لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسبابه» 193 عن الكلبي وهو محمد بن السائب، وتقدم أنه يضع الحديث.

[سورة آل عمران (3) : آية 19]

[سورة آل عمران (3) : آية 19] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ الجمهور على كسر «إِن» إِلا الكسائي، فإنه فتح «الألف» ، وهي قراءة ابن مسعود، وابن عباس، وأبي رزين، وأبي العالية، وقتادة. قال أبو سليمان الدمشقي: لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية، نزلت هذه الآية. قال الزجاج: الدين: اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه، وأمرهم بالإقامة عليه، وأن يكون عادتهم، وبه يجزيهم. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: الدين: ما التزمه العبد لله عزّ وجلّ. قال ابن قتيبة: والإسلام الدخول في السلم، أي: في الانقياد والمتابعة، ومثله الاستسلام، يقال: سلم فلان لأمرك، واستسلم، وأسلم، كما تقول: أشتى الرجل، أي: دخل في الشتاء، وأربع: دخل في الربيع. وفي الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله الربيع. والثاني: أنهم النصارى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير. والثالث: أنهم اليهود، والنصارى، قاله ابن السائب. وقيل: الكتاب هاهنا: اسم جنس بمعنى الكتاب. وفي الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال: أحدها: دينهم. والثاني: أمر عيسى. والثالث: دين الإسلام، وقد عرفوا صحّته. والرابع: نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقد عرفوا صفته. قوله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي: الإيضاح لما اختلفوا فيه بَغْياً بَيْنَهُمْ قال الزجاج: معناه: اختلفوا للبغي، لا لقصد البرهان، وقد ذكرنا في «البقرة» معنى: سريع الحساب. [سورة آل عمران (3) : آية 20] فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) قوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: جادلوك، وخاصموك. قال مقاتل: يعني اليهود، قال ابن جرير: يعني نصارى نجران في أمر عيسى، وقال غيرهما: اليهود والنصارى. فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ قال الفراء: معناه: أخلصت عملي، وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله. قوله تعالى: وَمَنِ اتَّبَعَنِ أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة، وابن شنبوذ عن قنبل، ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء. قال الزجاج: والأحب إِلىَّ اتباع المصحف. وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى: وَمَنِ اتَّبَعَنِ ولَئِنْ أَخَّرْتَنِ ورَبِّي أَكْرَمَنِ ورَبِّي أَهانَنِ. فهو على ضربين: أحدهما: ما كان مع النون، فإن كان رأس آية، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء، ويسمون أواخر الآي الفواصل، كما أجازوا ذلك في الشعر. قال الأعشى: ومن شانئ كاسف باله ... إذا ما انتسبت له أنكرن «1» وهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين فأما إذا لم يكن آخر آية أو قافية، فالأكثر إثبات الياء، وحذفها جيد أيضاً، خاصة مع النونات، لأن أصل «اتبعني» «اتبعي» ولكن «النون» زيدت لتسلم فتحة العين، فالكسرة مع النون تنوب عن الياء،

_ (1) الشانئ: المبغض. كاسف الوجه: عابسه من سوء الحال. والكسوف في الوجه: الصفرة والتغير.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 إلى 22]

فأما إذا لم تكن النون، نحو غلامي وصاحبي، فالأجود إثباتها، وحذفها عند عدم النون جائز على قلته، تقول: هذا غلام، قد جاء غلاميَ، وغلاميْ. بفتح الياء وإسكانها، فجاز الحذف، لأن الكسرة تدل عليها. قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يريد اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ بمعنى مشركي العرب، وقد سبق في البقرة شرح هذا الاسم. قوله تعالى: أَأَسْلَمْتُمْ قال الفراء: هو استفهام ومعناه الأمر، كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «1» . فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأن المراد بها تسكين نفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند امتناع من لم يجبه، لأنه كان يحرص على إيمانهم، ويتألم من تركهم الإجابة. وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الاقتصار على التّبليغ، وهذا منسوخ بآية السيف. [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ قال أبو سليمان الدمشقي: عنى بذلك اليهود والنصارى. قال ابن عباس: والمراد بآيات الله محمد والقرآن. وقد تقدم في «البقرة» شرح قتلهم الأنبياء، والقسط، والعدل. وقرأ الجمهور وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وقرأ حمزة «ويقاتلون» بألف. وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (161) «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني اسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً في آخر النهار» فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم، وإنما وبخ بهذا الذين كانوا في زمن النّبيّ عليه السلام لأنهم تولوا أولئك، ورضوا بفعلهم. فَبَشِّرْهُمْ بمعنى: أخبرهم، وقد تقدم شرحه في «البقرة» . ومعنى حَبِطَتْ: بطلت. [سورة آل عمران (3) : آية 23] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

_ أخرجه الطبري 6777 وإسناده ضعيف. لضعف محمد بن حفص الحمصي، ضعفه ابن مندة كما في «الميزان» . وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 363 والبزار 3314 «كشف» ومداره على أبي الحسن مولى بني أسد، وهو مجهول كما قال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 348 وفيه أيضا محمد بن حمير لين الحديث. وقال الهيثمي في «المجمع» 12166: فيه من لم أعرفه اثنان اه. وفي الباب من حديث ابن عباس وفيه «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي.....» أخرجه البيهقي في «الشعب» 7888. وإسناده واه، فيه محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف متروك.

[سورة آل عمران (3) : آية 24]

قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ في سبب نزولها أربعة أقوال: (162) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله فقال رجلان منهم: على أي دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم. قالا: فإنه كان يهودياً. قال: فهلموا إلى التوراة، فأبيا عليه، فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس (163) والثاني: أنّ رجلا وامرأة من اليهود زنيا، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرفعوا أمرهما إلى النّبيّ عليه السلام رجاء أن يكون عنده رخصة، فحكم عليهما بالرجم، فقالوا: جرْت علينا يا محمد، ليس علينا الرجم. فقال: بيني وبينكم التوراة، فجاء ابن صوريا، فقرأ من التوراة، فلما أتى على آية الرجم، وضع كفه عليها، وقرأ ما بعدها، فقال ابن سلام: قد جاوزها، ثم قام، فقرأها، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باليهوديِّين، فرجما، فغضب اليهود. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. (164) والثالث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا اليهود إلى الإسلام، فقال نعمان بن أبي أوفى: هلم نحاكمك إلى الأحبار. فقال: بل إلى كتاب الله، فقال: بل إلى الأحبار، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. (165) والرابع: أنها نزلت في جماعة من اليهود، دعاهم النبي إلى الإسلام، فقالوا: نحن أحق بالهدى منك، وما أرسل الله نبياً إلا من بني اسرائيل. قال: فأخرجوا التوراة، فإني مكتوب فيها أني نبي، فأبوا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن سليمان. فأما التفسير، فالنصيب الذي أوتوه: العلم الذي علموه من التوراة. وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان: أحدهما: أنه التوراة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه القرآن، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول الحسن وقتادة. وفي الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال: أحدها: ملة إبراهيم. والثاني: حد الزنى. رويا عن ابن عباس. والثالث: صحة دين الإسلام، قاله السدي. والرابع: صحّة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. فان قيل: التولي هو الإعراض، فما فائدة تكريره؟ فالجواب من أربعة أوجه: أحدها: التأكيد. والثاني: أن يكون المعنى: يتولون عن الداعي، ويعرضون عما دعا إليه. والثالث: يتولون بأبدانهم، ويعرضون عن الحق بقلوبهم. والرابع: أن يكون الذين تولوا علماءهم، والذين أعرضوا أتباعهم، قاله ابن الأنباريّ. [سورة آل عمران (3) : آية 24] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا يعني: الذي حملهم على التّولي والإعراض أنهم قالوا:

_ ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر كما في «الدر» 1/ 24 والطبري 67780 عن ابن عباس. وفيه محمد بن أبي محمد. قال الذهبي: في «الميزان» لا يعرف. وانظر «تفسير القرطبي» 1639 بتخريجنا. عزاه المصنف، وكذا البغوي في «تفسيره» 373 للكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط، ومر في المقدمة. وأصل هذا الخبر صحيح دون ذكر نزول الآية، وسيأتي في بحث التراجم. عزاه المصنف للسدي، وهذا مرسل، ولم أقف على إسناده فهذا خبر لا حجة فيه. - وكذا الواحدي في «الأسباب» 194 للسدي بدون إسناد. عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهو متروك كذاب. - ولم يصح في سبب نزول هذه الآية شيء، إلّا أنه لا ريب أن المراد بالآية اليهود.

[سورة آل عمران (3) : آية 25]

لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وقد ذكرناها في «البقرة» . ويَفْتَرُونَ: يختلقون. وفي الذي اختلقوه قولان: أحدهما: أنه قولهم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، قاله مجاهد، والزجاج. والثاني: قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، قاله قتادة، ومقاتل. [سورة آل عمران (3) : آية 25] فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ معناه: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لِيَوْمٍ أي: لجزاء يوم، أو لحساب يوم. وقيل «اللام» بمعنى: «في» . [سورة آل عمران (3) : آية 26] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (166) أحدها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لما فتح مكة، ووعد أمته ملك فارس والرّوم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك. (167) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فنزلت هذه الآية، حكاه قتادة. والثالث: أن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلاً جاء ينقل النبوة من بني اسرائيل إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما التفسير، فقال الزجاج: قال الخليل وسيبويه وجميع النحويين الموثوق بعلمهم: «اللهم» بمعنى «يا الله» ، و «الميم» المشددة زيدت عوضاً من «يا» لأنهم لم يجدوا «يا» مع هذه «الميم» في كلمة، ووجدوا اسم الله عزّ وجلّ مستعملاً ب «يا» إذا لم تذكر الميم، فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة «ياء» في أولها والضمة التي في «الهاء» هي ضمة الاسم المنادى المفرد. قال أبو سليمان الخطابي: ومعنى «مالك الملك» : أنه بيده، يؤتيه من يشاء، قال: وقد يكون معناه: مالك الملوك، ويحتمل أن يكون معناه: وارث المالك يوم لا يدعيه مدّع، كقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ. قوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ في هذا الملك قولان: أحدهما: أنه النبوة، قاله ابن جبير، ومجاهد. والثاني: أنه المال، والعبيد، والحفدة، ذكره الزجاج. وقال مقاتل: تؤتي الملك من تشاء، يعني محمداً وأمته، وتنزع الملك ممن تشاء، يعني فارس الرّوم. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ محمداً وأمته وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فارس والروم. وبماذا يكون هذا العز والذل؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: العز بالنصر، والذل بالقهر. والثاني: العز بالغنى، والذل بالفقر. والثالث: العز بالطاعة، والذل بالمعصية. قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ قال ابن عباس: يعني النصر والغنيمة، وقيل: معناه بيدك الخير والشر، فاكتفى بأحدهما، لأنه المرغوب فيه.

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 197 عن ابن عباس وأنس بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 350: ولم أجد له إسنادا. اه. فالخبر ليس بحجة، بل هو لا شيء لخلوه عن الإسناد. ضعيف. أخرجه الطبري 6787 والواحدي 198 عن قتادة مرسلا. فهو ضعيف لإرساله.

[سورة آل عمران (3) : آية 27]

[سورة آل عمران (3) : آية 27] تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي: تدخل ما نقّصت من هذا في هذا. قال ابن عباس، ومجاهد: ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر. قال الزجاج: يقال: ولج الشيء يلج ولوجاً وولجاً وولجة. قوله تعالى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «وتخرج الحي من الميْت وتخرج الميّت من الحيّ» ، و «لبلد ميت» «1» ، وأَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً «2» ، ووَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً «3» ، والْأَرْضُ الْمَيْتَةُ «4» : كله بالتخفيف. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ولِبَلَدٍ مَيِّتٍ وإِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ «5» ، وخفف حمزة، والكسائي غير هذه الحروف. وقرأ نافع: «أو من كان ميِّتاً» ، و «الأرض الميِّتة» ، و «لحم أخيه ميّتا» «6» ، وخفف في سائر القرآن ما لم يمت. وقال أبو علي: الأصل التثقيل، والمخفف محذوف منه، وما مات، وما لم يمت في هذا الباب مستويان في الاستعمال. وأنشدوا: ومنهل فيه الغراب مَيتُ ... سَقَيتُ مِنه القومَ واستقيت فهذا قد مات. وقال آخر: «7» ليسَ مَن ماتَ، فاستراحَ بميتٍ ... إِنما المَيْتُ ميّت الأحياء فخفف ما مات، وشدد ما لم يمت. وكذلك قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «8» . ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إخراج الإنسان حياً من النطفة، وهي ميتة. وإخراج النطفة من الإنسان، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة من الطائر، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والجمهور. والثاني: أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان، روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء. والثالث: أنه إخراج السنبلة الحيّة من الحبة الميّتة، والنخلة الحيّة من النواة الميّتة، والنواة الميّتة من النخلة الحية، قاله السدي. وقال الزجاج: يخرج النبات الغض من الحب اليابس، والحب اليابس من النبات الحي النامي. قوله تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ أي: بغير تقتير. قال الزجاج: يقال للذي ينفق موسعاً: فلان ينفق بغير حساب، كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقا. [سورة آل عمران (3) : آية 28] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ، في سبب نزولها أربعة أقوال:

_ (1) الأعراف: 57. (2) الأنعام: 122. (3) الأنعام: 139. (4) يس: 33. (5) فاطر: 9. (6) الحجرات: 12. (7) هو عدي بن الرّعلاء. كما في «اللسان» . (8) الزمر: 30.

[سورة آل عمران (3) : آية 29]

(168) أحدها: أن عبادة بن الصامت كان له حُلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس. (169) والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أُبيّ وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود، ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (170) والثالث: أن قوماً من اليهود، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك، وقالوا: اجتنبوا هؤلاء اليهود، فأبوا، فنزلت هذه الآية. روي عن ابن عباس أيضا. (171) والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك، هذا قول المقاتلين، ابن سليمان، وابن حيان. فأما التفسير، فقال الزجاج: معنى قوله تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، أي: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان، كما تقول: زيد دونك، ولست تريد المكان، ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخسة كالاستفال في المكان. ومعنى فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي: فالله بريء منه. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قرأ يعقوب والمفضل عن عاصم «تَقيِّةً» بفتح التاء من غير ألف، قال مجاهد: إلا مصانعة في الدّنيا. قال أبو العالية: التقاة باللسان لا بالعمل. فصل: والتقية رخصة، وليست بعزيمة. قال الإمام أحمد: وقد قيل: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا. وقال: إِذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل، فمتى يتبين الحق؟ وسنشرح هذا المعنى في «النحل» عند قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ «1» ، إن شاء الله. [سورة آل عمران (3) : آية 29] قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)

_ ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 202 عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قوله، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس. وانظر «تفسير القرطبي» 4/ 60. واه بمرة. ذكره الواحدي 201 عن الكلبي به، والكلبي متهم بالكذب وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي فالخبر ساقط. ضعيف. أخرجه الطبري 6821 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وإسناده ضعيف لجهالة محمد شيخ ابن إسحاق. عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان. وهو كذاب. وعزاه لمقاتل بن حيان، وهو ذو مناكير. وذكره البغوي 291 بدون إسناد.

[سورة آل عمران (3) : آية 30]

قوله تعالى: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ قال ابن عباس: يعني من اتّخاذ الكافرين أولياء. [سورة آل عمران (3) : آية 30] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً قال الزجاج: نصب «اليوم» بقوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ في ذلك اليوم. قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون متعلقاً بالمصير، والتقدير: والى الله المصير يوم تجد. ويجوز أن يكون متعلقاً بفعل مضمر، والتقدير: اذكر يوم تجد. وفي كيفية وجود العمل وجهان: أحدهما: وجوده مكتوباً في الكتاب. والثاني: وجود الجزاء عليه. والأمد: الغاية. قال الطرماح: كلُّ حيٍّ مُسْتَكْملٌ عِدَة العم ... رِ ومُودٍ إِذا انقضى أمَدُه يريد: غاية أجله. [سورة آل عمران (3) : آية 31] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي، في سبب نزولها أربعة أقوال: (172) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقف على قريش، وقد نصبوا أصنامهم. فقالوا: يا محمد إِنما نعبد هذه حباً لله، ليقربونا إلى الله زلفى، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس. (173) والثاني: أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحبَّاؤه، فنزلت هذه الآية، فعرضها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليهم، فلم يقبلوها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (174) والثالث: أن ناساً قالوا: إنّا لنحب ربنا حبّاً شديداً، فأحب الله أن يجعل لحبه علماً، فأنزل هذه الآية، قاله الحسن، وابن جريج. (175) والرابع: أن نصارى نجران، قالوا: إنما نقول هذا في عيسى حباً لله وتعظيماً له، فنزلت هذه الآية، ذكره ابن اسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ. [سورة آل عمران (3) : آية 32] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

_ باطل. لا أصل له عن ابن عباس، فالضحاك لم يلق ابن عباس وهو بدون إسناد كما ذكره الواحدي في «الوسيط» 1/ 429 من رواية الضحاك عن ابن عباس فلا حجة فيه وهو منكر، وعزاه في «الأسباب» 203 لابن عباس من طريق جويبر عن الضحاك وجويبر ابن سعيد، وهو متروك. ليس بشيء. ثم إن هذه السورة مدنية، والحديث يدل على أن ذلك كان في مكة؟!. لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 204 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط. الكلبي متهم بالكذب، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس. أخرجه الطبري 6840 عن الحسن، ومراسيل الحسن واهية. وورد من مرسل ابن جريج، أخرجه برقم 6842 ومراسيل ابن جريج ساقطة. ضعيف. أخرجه الطبري 6844 هكذا مرسلا عن محمد بن جعفر، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 205 عن محمد بن جعفر بن الزبير.

[سورة آل عمران (3) : آية 33]

قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (176) أحدها: أن عبد الله بن أبيّ قال لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبّت النّصارى عيسى ابن مريم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. (177) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا اليهود إلى الإسلام، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أشد حبّاً لله مما تدعونا إليه، فنزلت قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ونزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران «1» ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. [سورة آل عمران (3) : آية 33] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ، قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونحن على دينهم، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: ومعنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم، فجعلهم صفوة خلقه، وهذا تمثيل بما يرى، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي، فاذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عياناً، فنحن نُعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر، فكذلك صفوة الله من خلقه. وفيه ثلاث لغات: صَفوة، وصِفوة، وصُفوة. وأما آدم فعربي وقد ذكرنا اشتقاقه في «البقرة» . وأما نوح، فأعجمي مُعربّ، قال أبو سليمان الدمشقي: اسم نوح: السكن، وإنما سمي نوحاً، لكثرة نوحه. وفي سبب نوحه خمسة أقوال: أحدها: أنه كان ينوح على نفسه، قاله يزيد الرقاشي. والثاني: أنه كان ينوح لمعاصي أهله، وقومه. والثالث: لمراجعته ربه في ولده. والرابع: لدعائه على قومه بالهلاك. والخامس: أنه مر بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه: أعِبتني يا نوح أم عبت الكلب؟ وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم من كان على دينه، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، قاله مقاتل. والثالث: أن المراد ب «آل إبراهيم» هو نفسه، كقوله: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ «2» ، ذكره بعض أهل التفسير. وفي «عمران» قولان: أحدهما: أنه والد مريم، قاله الحسن ووهب. والثاني: أنه والد موسى وهارون، قاله مقاتل. وفي «آله» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عيسى عليه السلام، قاله الحسن. والثاني: أن آله موسى وهارون، قاله مقاتل. والثالث: أن المراد ب «آله» نفسه، ذكره بعض المفسرين. وإنما خصّ هؤلاء بالذكر، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم. وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد اصطفى دينهم على سائر

_ هو مكرر الحديث 173، وإسناده ساقط. وليس في هذا الأقوال شيء صحيح ولا حسن، ولا يلزم في كل آية وجود سبب لنزولها كما يظنه الكلبي ومقاتل وجويبر وغيرهم، وعامة ما يرويه هؤلاء موضوع. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو متروك كذاب.

[سورة آل عمران (3) : آية 34]

الأديان، قاله ابن عباس، واختاره الفراء، والدمشقي. والثاني: اصطفاهم بالنبوة، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم. والمراد ب «العالمين» : عالمو زمانهم، كما ذكرنا في «البقرة» . [سورة آل عمران (3) : آية 34] ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ، قال الزجاج: نصْبُها على البدل، والمعنى: اصطفى ذرية بعضها من بعض. قال ابن الأنباري: وإنما قال: بعضها، لأن لفظ الذرية مؤنث، ولو قال: بعضهم، ذهب إلى معنى الذرية. وفي معنى هذه البعضية قولان: أحدهما: أن بعضهم من بعض في التناصُر والدين، لا في التناسل، وهو معنى قول ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنه في التّناسل، لأن جميعهم ذرية آدم، ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم، ذكره بعض أهل التفسير. قال أبو بكر النقاش: ومعنى قوله: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أن الأبناء ذرية للآباء، والآباء ذرية للأبناء كقوله تعالى: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «1» ، فجعل الآباء ذرية للأبناء، وإنما جاز ذلك، لأن الذرّيّة مأخوذة من قوله: ذرأ الله الخلق، فسمي الولد للوالد ذرية، لأنه ذرئ منه، وكذلك يجوز أن يقال للأب: ذرية للابن، لأن ابنه ذرئ منه، فالفعل يتصل به من الوجهين، ومثله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، فأضاف الحب إلى الله، والمعنى: كحب المؤمن لله، ومثله وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ، فأضاف الحبّ إلى الطعام. [سورة آل عمران (3) : آية 35] إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) قوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ، في «إذ» قولان: أحدهما: أنها زائدة، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: أنها أصلٌ في الكلام، وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: اذكر إذ قالت امرأة عمران، قاله المبرّد، والأخفش. والثاني: أن العامل في إِذْ قالَتِ معنى الاصطفاء، فيكون المعنى: اصطفى آل عمران، إذ قالت امرأة عمران، واصطفاهم إذ قالت الملائكة: يا مريم، هذا اختيار الزجاج. والثالث: أنها من صلة «سميعٌ» تقديره: والله سميعٌ إذ قالت، وهذا اختيار ابن جرير الطبري. قال ابن عباس: واسم امرأة عمران حنة، وهي أم مريم، وهذا عمران بن ماتان، وليس ب «عمران أبي موسى» ، وليست هذه مريم أخت موسى. وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة. والمحَرّر: العتيق. قال ابن قتيبة: يقال: أعتقت الغلام، وحررته: سواء. وأرادت: أي: نذرت أن أجعل ما في بطني محرراً من التعبيد للدنيا، ليعبدك. وقال الزجاج: كان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في متعبدهم. وقال ابن اسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت، فرأت طائراً يطعم فرخاً له، فدعت الله أن يهب لها ولداً، وقالت: اللهم لك عليَّ إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس، فحملت بمريم، وهلك عمران، وهي حامل. قال القاضي أبو يعلى: والنذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته، وأن يعلّمه القرآن، والفقه، وعلم الدّين، صحّ النّذر.

_ (1) يس: 41. [.....]

[سورة آل عمران (3) : آية 36]

[سورة آل عمران (3) : آية 36] فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، قرأ ابن عامر، وعاصم إلا حفصاً ويعقوب (بما وضعْتُ) بإسكان العين، وضم التاء. وقرأ الباقون بفتح العين، وجزم التاء، قال ابن قتيبة: من قرأ بجزم التاء، وفتح العين، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: إني وضعتها أُنثى، وليس الذكر كالأنثى، والله أعلم بما وضعت. ومن قرأ بضم التاء، فهو كلام متصل من كلام أمّ مريم. قوله تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى، من تمام اعتذارها، ومعناه: لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر، من خدمته المسجد، والإقامة فيه، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس. قال السدي: ظنت أن ما في بطنها غلام، فلما وضعت جارية، اعتذرت. ومريم: اسم أعجمي. وفي الرّجيم قولان: أحدهما: أنه الملعون، قاله قتادة. والثاني: أنه المرجوم بالحجارة، كما تقول: قتيل بمعنى مقتول، قاله أبو عبيدة، فعلى هذا سُمي رجيماً، لأنه يرمى بالنّجوم. [سورة آل عمران (3) : آية 37] فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وقرأ مجاهد (فتقبَّلْها) بسكون اللام «ربَّها» بنصب الباء (وأنبتها) بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدعاء. قال الزجاج: الأصل في العربية: فتقبَّلها بتقبُّل حسن، ولكن «قبول» محمول على قبلها قبولاً يقال: قبلت الشيء قَبولاً، ويجوز قُبولا: إذا رضيته. وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً، أي: جعل نشوءها نشوءاً حسناً، وجاء «نباتاً» على غير لفظ أنبت، على معنى: نبتت نباتاً حسناً. وقال ابن الأنباري: لما كان «أنبت» يدل على نبت حمل الفعل على المعنى، فكأنه قال: وأنبتها، فنبتت هي نباتاً حسناً. قال امرؤ القيس: فَصِرْنَا إِلى الحُسْنَى ورقَّ كَلامُنَا ... ورضتُ فذلَّت صعبةٌ أيَّ إِذلال أراد: أي رياضة، فلما دل «رضت» على «أذللت» حمله على المعنى. وللمفسرين في معنى النبات الحسن، قولان: أحدهما: أنه كمال النشوء، قال ابن عباس: كان تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام. والثاني: أنه ترك الخطايا، حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب، كما يصيب بنو آدم. قوله تعالى: وَكَفَّلَها، قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «كفلها» بفتح الفاء خفيفة، و «زكرياء» مرفوع ممدود. وروى أبو بكر عن عاصم: تشديد الفاء، ونصب «زكرياء» ، وكان يمد «زكرياء» في كل القرآن في رواية أبي بكر. وروى حفص عن عاصم: تشديد الفاء و «زكريا» مقصور في كل القرآن. وكان حمزة والكسائي يشددان و «كفلها» ، ويقصران «زكريا» في كل القرآن. فأما «زكريا» فقال الفراء: فيه ثلاث لغات: أهل الحجاز يقولون: هذا زكريا قد جاء، مقصور، وزكرياء، ممدود، وأهل نجد يقولون: زكري، فيجرونه، ويلقون الألف. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، عن ابن

دريد، قال: زكريا اسم أعجمي، يقال: زكريُّ، وزكرياء ممدود، وزكريا مقصور. وقال غيره: وزكري بتخفيف الياء، فمن قال: زكرياء بالمد، قال في التثنيه: زكرياوان، وفي الجمع زكرياوون، ومن قال: زكريا بالقصر، قال في التثنيه زكريان كما نقول: مدنيان، ومن قال: زكري بتخفيف الياء، قال في التثنية: زكريان الياء خفيفة، وفي الجمع: زكرون بطرح الياء. (الإشارة إلى كفالة زكريا مريم) قال السدي: انطلقت بها أمها في خرقها، وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم، فقال زكريا وهو نبيهم يومئذ: أنا أحقكم بها، عندي أختها، فأبوا، وخرجوا إلى نهر الأردن، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، فجرت الأقلام، وثبت قلم زكريا، فكفلها، قال ابن عباس: كانوا سبعة وعشرين رجلا، فقالوا: نطرح أقلامنا، فمن صعد قلمه مغالباً للجرية فهو أحق بها، فصعد قلم زكريا، فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه، وعلى قول السدي بوقوفه في جريان الماء. وقال مقاتل: كان يغلق عليها الباب، ومعه المفتاح، لا يأمن عليه أحداً، وكانت إذا حاضت، أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أم يحيى، فاذا طهرت، ردها إلى بيت المقدس. والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة، وقد ذهب قوم إلى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة، لأجل أن أمها ماتت وكانت خالتها عنده. فلما بلغت، أدخلوها الكنيسة لنذر أمها، وإنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة، لأجل سنة أصابتهم. فقال محمد بن إسحاق: كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة، فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده، فقالوا: ونحن أيضاً كذلك، فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا، فخرج السهم على جريج النجار، وكان فقيراً، وكان يأتيها باليسير، فينمي، فدخل زكريا، فقال: ما هذا على قدر نفقة جريج، فمن أين هذا؟ قالت: هو من عند الله. والصحيح ما عليه الأكثرون، وأن القوم تشاحوا على كفالتها، لأنها كانت بنت سيدهم وإمامهم عمران، كذلك قال قتادة في آخرين، وأن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها. فأما المحراب فقال أبو عبيدة: المحراب سيد المجالس، ومقدمها، وأشرفها، وكذلك هو من المسجد. وقال الأصمعي: المحراب هاهنا: الغرفة. وقال الزجاج: المحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف. قال الشاعر «1» : ربَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها ... لَمْ ألقها أو أرتقي سلماً قوله تعالى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، قال ابن عباس: ثمار الجنة، فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وهذا قول الجماعة. قوله تعالى: أَنَّى لَكِ هذا أي: من أين؟ قال الربيع بن أنس: كان زكريا إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب «2» ، فإذا دخل وجد عندها رزقاً. وقال الحسن: لم ترتضع ثدياً قط، وكان يأتيها رزقها من الجنة، فيقول زكريا: أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، فتكلمت وهي صغيرة، وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئراً، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون

_ (1) هو وضّاح اليمن- واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل. (2) هذا من الإسرائيليات المنكرة، فلماذا هذه الأبواب السبعة؟!!!.

[سورة آل عمران (3) : آية 38]

قوله لها: أنى لك هذا؟ لاستكثار ما يرى عندها. وما عليه الجمهور أصح. والحساب في اللغة: التقتير والتضييق. [سورة آل عمران (3) : آية 38] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قال المفسرون: لما عاين زكريا هذه الآية المعجبة من رزق الله تعالى مريم الفاكهة في غير حينها، طمع في الولد على الكبر. ومِنْ لَدُنْكَ بمعنى: من عندك. والذرية، تقال للجمع، وتقال للواحد، والمراد بها هاهنا: الواحد. قال الفراء: وإنما قال: طيبة، لتأنيث الذرية، والمراد بالطيبة: النقيّة الصالحة. والسميع: بمعنى السامع. وقيل: أراد مجيب الدّعاء. [سورة آل عمران (3) : آية 39] فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «فنادته» بالتاء، وقرأ حمزة، والكسائي: «فناداه» بألف ممالة، قال أبو علي: هو كقوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ «1» . وقرأ علي، وابن مسعود، وابن عباس: «فناداه» بألف. وفي الملائكة قولان: أحدهما: جبريل وحده، قاله السدي، ومقاتل، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع، تقول ركبت في السفن، وسمعت هذا من الناس. والثاني: أنهم جماعة من الملائكة، وهو مذهب قوم، منهم ابن جرير الطبري. وفي المحراب قولان: أحدهما: أنه المسجد. والثاني: أنه قبلة المسجد. وفي تسمية محراب الصلاة محراباً، ثلاثة أقوال: أحدها: لانفراد الإمام فيه، وبُعده من الناس، ومنه قولهم: فلان حرب لفلان: إذا كان بينهما مباغضة، وتباعد، ذكره ابن الأنباري عن أبيه، عن أحمد بن عبيد. والثاني: أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن، وأشرف المسجد مقام الإمام. والثالث: أنه من الحرب، فالمصلي محارب للشيطان. قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ قرأ الأكثرون بفتح الألف على معنى: فنادته الملائكة بأن الله، فلما حذف الجار منها، وصل الفعل إليها، فنصبها. وقرأ ابن عامر، وحمزة، بكسر «إنَّ» فأضمر القول. والتقدير: فنادته، فقالت: إن الله يبشرك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يبشرك» بضم الياء، وفتح الباء، والتشديد في جميع القرآن إلا في «حم عسق» : يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ «2» فإنهما فتحا الياء وضما الشين، وخففاها. فأما نافع، وابن عامر، وعاصم، فشددا كل القرآن. وقرأ حمزة: «يبشر» خفيفاً في كل القرآن، إلا قوله تعالى: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ «3» . وقرأ الكسائي «يبشر» مخففة في خمسة مواضع، في (آل عمران) في قصة زكريا، وقصة مريم، وفي بني (إسرائيل) وفي (الكهف) وفي (حم عسق) ، قال الزجاج: وفي «يبشرك» ثلاث لغات: أحدها: يبشرك بفتح الباء وتشديد الشين. والثانية: «يبشرك» باسكان الباء، وضم الشين. والثالثة: «يبشرك» بضم الياء وإسكان الباء، فمعنى «يبشّرك» بالتشديد

_ (1) يوسف: 30. (2) الشورى: 23. (3) الحجر: 54.

و «يبشرك» بضم الياء: البشارة. ومعنى «يبشرك» بفتح الياء: يَسُرّك ويفرحك، يقال: بشَرت الرجل أبشره،: إذا أفرحته، وبشر الرجل يبشر: وأنشد الأخفش والكسائي: وإِذا لقيت الباهشين الى النّدى ... غُبْراً أكفُّهُم بقاعٍ مُمحِل فأعنهمُ وابشَرْ بِما بَشِروا به ... واذا هُمُ نزلوا بضنك فانزل «1» فهذا على بشر يبشَر: إذا فرح. وأصل هذا كله أن بشَرة الإنسان تنبسط عند السرور، ومنه قولهم: يلقاني ببشر، أي: بوجهٍ منبسط. وفي معنى تسميته «يحيى» خمسة أقوال: أحدها: لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه. قاله ابن عباس. والثاني: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان. قاله قتادة. والثالث: لأنه أحياه بين شيخ وعجوز، قاله مقاتل. والرابع: لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها، قاله الزجاج. والخامس: لأن الله أحياه بالطاعة، فلم يعص، ولم يَهمَّ، قاله الحسن بن الفضل. وفي «الكلمة» قولان: أحدهما: أنها عيسى، وسمي كلمة، لأنه بالكلمة كان، وهي «كن» وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة والسدّي، ومقاتل، وقيل: إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر، وقتل يحيى قبل رفع عيسى. والثاني: أن الكلمة كتاب الله وآياته، وهو قول أبي عبيدة في آخرين. ووجهه أن العرب تقول: أنشدني فلان كلمة، أي: قصيدة. وفي معنى السيد ثمانية أقوال: أحدها: أنه الكريم على ربه، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه الحليم التقي، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضحاك. والثالث: أنه الحكيم، قاله الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء وأبو الشعثاء والربيع ومقاتل. والرابع: أنه الفقيه العالم، قاله سعيد بن المسيب. والخامس: أنه التقي، رواه سالم عن ابن جبير. والسادس: أنه الحَسَن الخلق، رواه أبو روق عن الضحاك. والسابع: أنه الشريف، قاله ابن زيد. والثامن: أنه الذي يفوق قومَه في الخير، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: السيد هاهنا الرئيس، والإمام في الخير. فأما «الحصور» فقال ابن قتيبة: هو الذي لا يأتي النساء، وهو فعول بمعنى مفعول، كأنه محصور عنهن، أي: محبوس عنهن. وأصل الحصر: الحبس. ومما جاء على «فعول» بمعنى «مفعول» : ركوب بمعنى مركوب، وحلوب بمعنى محلوب، وهيوب بمعنى مهيب، واختلف المفسرون لماذا كان لا يأتي النساء؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنه لم يكن له ما يأتي به النّساء. (178) فروى عمرو بن العاص عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا

_ ضعيف جدا، والصحيح موقوف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في ابن كثير 1/ 369 من حديث عمرو بن العاص مرفوعا. وقال ابن كثير: هذا غريب جدا، ثم كرره ابن أبي حاتم موقوفا وهو أصح من المرفوع وأخرجه من حديث أبي هريرة اه. قلت وفي إسناد حديث أبي هريرة حجاج بن سليمان قال أبو زرعة: منكر الحديث. انظر الميزان، ورجّح السيوطي في «الدر» 2/ 22 الوقف فيه ومع ذلك هو منكر، وهو من الإسرائيليات، فإن ابن عمرو روى عن أهل الكتاب، وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» 1666، ويأتي تفصيل ذلك في سورة مريم.

[سورة آل عمران (3) : آية 40]

ما كان من يحيى بن زكريا» قال: ثم دلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده إلى الأرض، فأخذ عوداً صغيراً، ثم قال: «وذلك أنّه لم يكن له ما للرّجال إلا مثل هذا العود، ولذاك سماه الله سيداً وحصوراً» وقال سعيد بن المسيب: كان له كالنواة. والثاني: أنه كان لا ينزل الماء، قاله ابن عباس والضحاك. والثالث: أنه كان لا يشتهي النساء، قاله الحسن وقتادة والسدي. والرابع: أنه كان يمنع نفسه من شهواتها، ذكره الماوردي «1» . قوله تعالى: وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن الأنباري: معناه: من الصّالحي الحال عند الله. [سورة آل عمران (3) : آية 40] قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي كيف يكون؟!. قال الكميت: أنى ومن أينَ آبَكَ الطرب «2» قال العلماء، منهم الحسن، وابن الأنباري، وابن كيسان: كأنه قال: من أي وجه يكون لي الولد؟ أيكون بازالة العقر عن زوجتي، وردّ شبابي؟ أم يأتي ونحن على حالنا؟ فكان ذلك على سبيل الاستعلام، لا على وجه الشك، قال الزجاج: يقال: غلام بيّن الغلوميَّة، وبين الغلاميَّة، وبين الغلومة. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: الغلام: فعال، من الغُلمة، وهي شدة شهوة النكاح، ويقال للكهل: غلام. قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج: غلام إِذا هزَّ القناة سقاها «3» وكأن قولهم للكهل: غلام، أي: قد كان مرة غلاماً. وقولهم للطفل: غلام على معنى التفاؤل، أي: سيصير غلاماً. قال: وقيل: الغلام الطار الشارب، ويقال للجارية: غلامة. قال الشاعر «4» : يهان لها الغلامة والغلام قوله تعالى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي: وقد بلغت الكبر، قال الزجاج: كل شيء بلغته فقد بلغك. وفي سنة يومئذ ستة أقوال: أحدها: أنه كان ابن مائة وعشرين سنة، وامرأته بنت ثمان وتسعين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كان ابن بضع وسبعين سنة، قاله قتادة. والثالث: ابن خمس وسبعين، قاله

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 361: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان (حصورا) . معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها، معصوم عن الفواحش والقاذورات. ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا عليه السّلام (هب لي من لدنك ذرية طيبة) كأنه قال ولدا له ذرية ونسل وعقب، والله سبحانه وتعالى أعلم. (2) صدره: من حيث لا صبوة ولا ريب. (3) صدره: شفاها من الداء العضال الذي بها. (4) هو أوس بن غلفاء الهجيمي. وصدر بيته: ومركضة صريحيّ أبوها.

[سورة آل عمران (3) : آية 41]

مقاتل. والرابع: ابن سبعين، حكاه فضيل بن غزوان. والخامس: ابن خمس وستين. والسادس: ابن ستين، حكاهما الزجاج. قال اللغويون: والعاقر من الرجال والنساء: الذي لا يأتيه الولد، وإنما قال: «عاقر» ولم يقل: عاقرة، لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث، والمذكر فيه كالمستعار، فأجري مجرى «طالق» و «حائض» ، هذا قول الفرّاء. [سورة آل عمران (3) : آية 41] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة على وجود الحمل. وفي علة سؤاله «آية» قولان: أحدهما: أن الشيطان جاءه، فقال: هذا الذي سمعت من صوت الشيطان، ولو كان من وحي الله، لأوحاه إليك، كما يوحي إليك غيره، فسأل الآية، ذكره السدي عن أشياخه. والثاني: أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر، وليتعجل السرور، لأن شأن الحمل لا يتحقق بأوله فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام. فأما «الرَمز» فقال الفراء: الرمز بالشفتين، والحاجبين، والعينين، وأكثره في الشفتين. قال ابن عباس: جعل يكلم الناس بيده، وإنما منع من مخاطبة الناس ولم يحبس عن الذكر لله تعالى. وقال ابن زيد: كان يذكر الله، ويشير إلى الناس. وقال عطاء بن السائِب: اعتُقِلَ لسانه من غير مرض. وجمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آيةً على وجود الحمل. وقال قتادة، والربيع بن أنس: كان ذلك عقوبةً له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة. قوله تعالى: وَسَبِّحْ قال مقاتل: صل. قال الزجاج: يقال: فرغت من سُبحتي، أي: من صلاتي. وسمّيت الصلاة تسبيحاً، لأن التسبيح تعظيم الله، وتبرئته من السوء، فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرئه من السوء. قوله تعالى: بِالْعَشِيِّ العشي: من حين نزول الشمس إلى آخر النهار وَالْإِبْكارِ ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضحى: قال الشاعر: فلا الظلَّ في بَردِ الضُّحى تَسْتَطِيعُهُ ... ولا الفيءَ مِن بردِ العشيّ يذوق قال الزجاج: يقال: أبكر الرجل يبكر إِبكاراً، وبكر يبكر تبكيراً، وبكر يبكر في كل شيء تقدّم فيه. [سورة آل عمران (3) : آية 42] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) قوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ، قال جماعة من المفسرين: المراد بالملائكة: جبريل وحده، وقد سبق معنى الاصطفاء. وفي المراد بالتطهير هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه التطهير من الحيض، قاله ابن عباس. وقال السدي: كانت مريم لا تحيض. وقال قوم: من الحيض والنفاس. والثاني: من مس الرجال، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: من الكفر، قاله الحسن ومجاهد. والرابع: من الفاحشة والإثم، قاله مقاتل. وفي هذا الاصطفاء الثاني أربعة أقوال: أحدها: أنه تأكيد للأول. والثاني: أن الأول للعبادة. والثاني لولادة عيسى عليه السلام. والثالث: أن الاصطفاء الأول اختيار مبهمَ، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين. والرابع: أنه لما أطلق الاصطفاء الاول، أبان بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال. قال ابن

[سورة آل عمران (3) : آية 43]

عباس، والحسن، وابن جريج: اصطفاها على عالمي زمانها. قال ابن الأنباري: وهذا قول الأكثرين. [سورة آل عمران (3) : آية 43] يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ قد سبق شرح القنوت في «البقرة» ، وفي المراد به هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه العبادة، قاله الحسن. والثاني: طول القيام في الصلاة، قاله مجاهد. والثالث: الطاعة، قاله قتادة، والسدي، وابن زيد. والرابع: الإخلاص، قاله سعيد بن جبير. وفي تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال: أحدها: أن الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تؤذن بالجمع، فالركوع مقدّم، ذكره الزجاج في آخرين. والثاني: أن المعنى استعملي السجود في حال، والركوع في حال، لا أنهما يجتمعان في ركعة، فكأنه حثٌ لها على فعل الخير. والثالث: أنه مقدم ومؤخر، والمعنى: اركعي واسجدي، كقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «1» ذكرهما ابن الأنباري. والرابع: أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السجود على الركوع، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال مقاتل: ومعناه اركعي مع المصلين قُرَّاء بيت المقدس. قال مجاهد: سجدت حتى قرحت. [سورة آل عمران (3) : الآيات 44 الى 46] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ «ذلك» إشارة إلى ما تقدّم من قصّة زكريا، ويحيى، وعيسى، ومريم. والأنباء: الأخبار. والغيب: ما غاب عنك. والوحي: كل شيء دللت به من كلام أو كتاب، أو إشارة، أو رسالة، قاله ابن قتيبة. والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم ب «الوجوه والنظائر» مونقة. وفي الأقلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التي يكتب بها، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي. والثاني: أنها العصيّ، قاله الربيع بن أنس. والثالث: أنها القداح، وهو اختيار ابن قتيبة، وكذلك قال الزجاج: هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة. وإنما قيل للسهم: القلم، لأنه يقلم، أي: يبرى. وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء، فقد قلمته، ومنه القلم الذي يكتب به، لأنه قُلم مرة بعد مرة، ومنه: قلمت أظفاري. قال: ومعنى: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم، وهو الضمان للقيام بأمرها. ومعنى لَدَيْهِمْ: عندهم. وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفاً. وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قول الله له: «كن» فكان، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى، حكاه أبو سليمان. والثالث: أن الكلمة اسم لعيسى، وسمي كلمة، لأنه كان عن الكلمة. وقال القاضي أبو يعلى: لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى. وفي تسميته بالمسيح ستة أقوال: أحدها: أنه لم يكن لقدمه أخمص، والأخمص: ما يتجافى عن الأرض من القدم، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ، رواه

_ (1) آل عمران: 55.

[سورة آل عمران (3) : آية 47]

الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه مسح بالبركة، قاله الحسن، وسعيد. والرابع: أن معنى المسيح: الصديق قاله مجاهد، وإبراهيم النخعي، وذكره اليزيدي. قال أبو سليمان الدمشقي: ومعنى هذا أن الله مسحه، فطهره من الذنوب. والخامس: أنه كان يمسح الأرض أي: يقطعها، ذكره ثعلب. وبيانه: أنه كان كثير السياحة. والسادس: أنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن، قاله أبو سليمان الدمشقي، وحكاه ابن القاسم. وقال أبو عبيد: المسيح في كلام العرب على معنيين: أحدهما: المسيح الدجال، والأصل فيه: الممسوح، لأنه ممسوح أحد العينين. والمسيح عيسى، وأصله بالعبرانية «مشيحا» بالشين، فلما عربته العرب، أبدلت من شينه سيناً، كما قالوا: موسى، وأصله بالعبرانية موشى. قال ابن الأنباري: وإنما بدأ بلقبه، فقال: المسيح عيسى ابن مريم، لأن المسيح أشهر من عيسى، لأنه قل أن يقع على سميٍّ يشتبه به، وعيسى قد يقع على عدد كثير، فقدمه لشهرته، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم. فأما قوله: عيسى ابن مريم، فإنما نسبه إلى أمه لينفي ما قاله عنه الملحدون من النصارى، إذ أضافوه إلى الله تعالى. قوله تعالى: وَجِيهاً قال ابن زيد: الوجيه في كلام العرب: المحبب المقبول. وقال ابن قتيبة: الوجيه: ذو الجاه. وقال الزجاج: هو ذو المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة، يقال: قد وجُه الرجل يوْجُه وجاهة، ولفلان جاه عند الناس، أي: منزلة رفيعة. قوله تعالى: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قال قتادة: عند الله يوم القيامة. والمهد: مضجع الصبي في رضاعه، وهو مأخوذ من التمهيد، وهو التوطئة. وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان: أحدهما: لتبرئة أمه مما قذفت به. والثاني: لتحقيق معجزته الدالة على نبوته. قال ابن عباس: تكلم ساعة في مهده، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق. وَكَهْلًا قال: ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى، فمكث في رسالته ثلاثين شهراً، ثم رفعه الله. وقال وهب بن منبه: جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة فمكث في نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه الله. وقال ابن الأنباري: كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين، ومن أربى عليها، فقد دخل في الكهولة. والكهل عند العرب: الذي قد جاوز الثلاثين، وإنما سمي الكهل كهلاً، لاجتماع قوته، وكمال شبابه، وهو من قولهم: قد اكتهل النبات. وقال ابن فارس: الكهل: الرجل حين وخطه الشّيب. فإن قيل: فقد علم أن الكهل يتكلم، فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره، أي: أنه يبلغ الكهولة، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: وَكَهْلًا قال: ذلك بعد نزوله من السماء. والثاني: أنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه، وأن الأيام تنقله من حال إلى حال، ولو كان إلهاً لم يدخل عليه هذا التغير، ذكره ابن جرير الطبري. والثالث: أن المراد بالكهل: الحليم، قاله مجاهد. [سورة آل عمران (3) : آية 47] قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ في علة قولها هذا قولان: أحدهما: أنها قالت هذا تعجباً واستفهاماً، لا شكاً وإنكاراً، على ما أشرنا إليه في قصة زكريا، وعلى هذا الجمهور. والثاني: أن الذي خاطبها كان جبريل، وكانت تظنه آدميا يريد بهاً سوءاً، ولهذا قالت: أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ فلما بشّرها

[سورة آل عمران (3) : آية 48]

لم تتيقن صحة قوله، لأنها لم تعلم أنه ملك، فلذلك قالت: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ، قاله ابن الأنباري. قوله تعالى: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي: ولم يقربني زوج. والمس: الجماع، قاله ابن فارس. وسمي البشر بشراً، لظهورهم، والبشرة: ظاهر جلد الإنسان، وأبشرت الأرض: أخرجت نباتها. وبشرت الأديم: إذا قشرت وجهه، وتباشير الصبح: أوائله. قال: يعني جبريل: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: بسبب، وبغير سبب. وباقي الآية مفسّر في «البقرة» . [سورة آل عمران (3) : آية 48] وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قرأ الأكثرون «ونعلمه» بالنون. وقرأ نافع، وعاصم بالياء، فعطفاه على قوله «يبشرك» . وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه كُتُبُ النبيين وعلمهم، قاله ابن عباس. والثاني: الكتابة، قاله ابن جريج ومقاتل. قال ابن عباس: والحكمة الفقه وقضاء النّبيين. [سورة آل عمران (3) : آية 49] وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) قوله تعالى: وَرَسُولًا قال الزجاج: ينتصب على وجهين: أحدهما: ونجعله رسولاً، والاختيار عندي: ويكلم الناس رسولاً. قوله تعالى: أَنِّي أَخْلُقُ قرأ الأكثرون «أني» بالفتح، فجعلوها بدلاً من آية، فكأنه قال: قد جئتكم بأنّي أخلق، وقرأ نافع بالكسر، قال أبو علي «1» : يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مستأنفاً. والثاني: أنه فسر الآية بقوله: إني أخلق، أي: أصور وأقدر. قال ابن عباس: أخذ طيناً، وصنع منه خفاشاً، ونفخ فيه، فاذا هو يطير، ويقال: لم يصنع غير الخفاش، ويقال: إن بني إسرائيل نعتوه بذلك لأنّ الخفّاش عجيبة الخلق. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخفاش. فسألوه أشدّ الطير خلقا، لأنه يطير من غير ريش. وقال وهب: كان الذي صنعه يطير ما دام الناس ينظرونه، فاذا غاب عن أعينهم، سقط ميتاً، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق. والأكثرون قرءوا فَيَكُونُ طَيْراً وقرأ نافع هاهنا وفي (المائدة) «طائراً» قال أبو علي: حجة الجمهور قوله تعالى: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ولم يقل: كهيئة الطائر. ووجهة قراءة نافع، أنه أراد: يكون ما أنفخ فيه، أو ما أخلقه، طائراً. وفي «الأكمه» أربعة أقوال: أحدها: أنه الذي يولد أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وسعيد عن قتادة، وبه قال اليزيدي، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الأعمى، ذكره ابن جريج عن ابن عباس، ومعمر عن قتادة، وبه قال الحسن، والسدي، وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه: هو الذي يولد أعمى، وهو الذي يعمى، وإن كان بصيراً. والثالث: أنه الأعمش، قاله عكرمة. والرابع: أنه الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل، قاله مجاهد والضحاك.

_ (1) هو الفارسي النحوي صاحب كتاب «الحلبيات» في اللغة والأدب.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 50 إلى 51]

والأبرص: الذي به وضح. وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام، علم الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك، إلا أنه ليس في الطب إبراء الأكمه والأبرص، وكان ذلك دليلاً على صدقه. قال وهب: ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً، وإنما كان يداويهم بالدعاء. وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموتى. وعن ابن عباس: أن الأربعة كلهم بقي حتى ولد له، إلا سام بن نوح. قوله تعالى: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ قال سعيد بن جبير: كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون، ويقول للغلام: يا غلام إن أهلك قد هيّئوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه؟ وقال مجاهد: بما أكلتم البارحة، وبما خبأتم منه. وعلى هذا المفسرون، إلا أن قتادة كان يقول: وأنبئُكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها، وكان أخذ عليهم أن يأكلوا منها، ولا يدَّخروا، فلما خانوا، مسخوا خنازير. [سورة آل عمران (3) : الآيات 50 الى 51] وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) قوله تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ قال الزجاج: نصب «مصدقاً» على الحال، أي: وجئتكم مصدقاً وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قال قتادة: كان قد حرم عليهم موسى الإبل والثروب «1» وأشياء من الطير، فأحلها عيسى. قوله تعالى: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ أي: بآيات تعلمون بها صدقي وإنما وحد، لأن الكل من جنس واحد مِنْ رَبِّكُمْ أي: من عند ربّكم. [سورة آل عمران (3) : آية 52] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) قوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى أي: علم. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أحسستُ بالشيء، وحسست به، وقول الناس في المعلومات «محسوسات» خطأ، إنما الصواب «المحسات» فأما المحسوسات، فهي المقتولات، يقال: حسه: إذا قتله. والأنصار: الأعوان. و «إِلى» بمعنى «مع» في قول الجماعة، قال الزجاج: وإنما حسنت في موضع «مع» لأن «إِلى» غاية و «مع» تضم الشيء بالشيء. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: من أنصاري إلى أن أبين أمر الله. واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريين، فقال مجاهد: لما كفر به قومه، وأرادوا قتله، استنصر الحواريّين. وقال غيره: لما كفر به قومه، وأخرجوه من قريتهم، استنصر الحواريين. وقيل: استنصرهم، لإقامة الحق، وإظهار الحجة. والجمهور على تشديد «ياء» الحواريّين. وقرأ الجونيّ، والجحدريّ، وأبو حياة: الحواريون بتخفيف الياء. وفي معنى الحواريّين أقوال: أحدها: أنهم الخواص الأصفياء، قال ابن عباس: الحواريون: أصفياء عيسى. وقال الفراء: كانوا خاصة عيسى. وقال الزجاج: الحواريون في اللغة: الذين أخلصوا،

_ (1) في «اللسان» : الثّرب: شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء، وجمعه ثروب.

[سورة آل عمران (3) : آية 53]

ونقوا من كل عيب، وكذلك الدقيق: الحوّاري، إنما سمي بذلك، لأنه ينقى من لباب البر وخالصه. قال حذاق اللغويين: الحواريون: صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في تصديقهم ونصرتهم. ويقال: عين حوراء: إذا اشتد بياضها، وخلص، واشتد سوادها، ولا يقال: امرأة حوراء، إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء. والثاني: أنهم البيض الثياب، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم سموا بذلك، لبياض ثيابهم. والثالث: أنهم القصارون، سموا بذلك، لأنهم كانوا يحورون الثياب، أي: يبيضونها. قال الضحاك، ومقاتل: الحواريون: هم القصارون. قال اليزيدي: ويقال للقصارين: الحواريون، لأنهم يبيضون الثياب، ومنه سمي الدقيق: الحُوَّارى، والعين الحوراء: النقية المحاجر. والرابع: الحواريون: المجاهدون. وأنشدوا: ونحن أناسٌ يملأ البَيض هامنا ... ونحن حواريون حين نزاحف جَماجِمُنا يوم اللقاء تراسُنا ... إِلى الموت نمشي ليس فينا تحانف «1» والخامس: الحواريون: الصيادون. والسادس: الحواريون: الملوك «2» ، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري. قال ابن عباس: عدد الحواريين اثنا عشر رجلاً. وفي صناعتهم قولان: أحدهما: أنهم كانوا يصطادون السمك رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا يغسلون الثياب، قاله الضحاك، وأبو أرطاة. [سورة آل عمران (3) : آية 53] رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) قوله تعالى: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ هذا قول الحواريين. والذي أنزل: الإنجيل. والرسول: عيسى. وفي المراد بالشاهدين خمسة أقوال: أحدها: أنهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ، رواه عكرمة عن ابن عباس «3» . والثاني: أنهم من آمن قبلهم من المؤمنين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم الأنبياء، لأن كل نبي شاهد أمته، قاله عطاء. والرابع: أن الشاهدين: الصادقون، قاله مقاتل. والخامس: أنهم الذين شهدوا للأنبياء بالتّصديق. فمعنى الآية: واعترفنا فاكتبنا مع من فعل فعلنا، هذا قول الزجّاج. [سورة آل عمران (3) : آية 54] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ قال الزجاج: المكر من الخلق: خبث وخداع، ومن الله عزّ وجلّ: المجازاة، فسمي باسم ذلك، لأنه مجازاة عليه، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «4» ،

_ (1) في «اللسان» : الحنف: الاعوجاج في الرّجل. [.....] (2) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 365: والصحيح أن الحواري الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لكل نبي حواريّ وحواري الزبير» . (3) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 365: قوله فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ مع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس. وهذا إسناد جيد اه. - قلت: ولعل الراجح قول الزجاج وهو الأخير، فإنه عامّ شامل. (4) البقرة: 15.

[سورة آل عمران (3) : آية 55]

وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ، لأن مكره مجازاة، ونصر للمؤمنين. قال ابن عباس: ومكرهم، أن اليهود أرادوا قتل عيسى، فدخل خوخة «1» ، فدخل رجل منهم، فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى إلى السماء، فلما خرج إليهم، ظنّوه عيسى، فقتلوه. [سورة آل عمران (3) : آية 55] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ قال ابن قتيبة: التوفي، من استيفاء العدد يقال: توفيت، واستوفيت، كما يقال: تيقنت الخبر، واستيقنته، ثم قيل للموت: وفاة، وتوف. وأنشد أبو عبيدة «2» : إِنَّ بني الأدرد ليسوا من أحدٍ ... ليسوا إِلى قيس وليسوا من أسد ولا توفاهم قريش في العدد أي: لا تجعلهم وفاء لعددها، والوفاء: التمام. وفي هذا التوفي قولان: أحدهما: أنه الرفع إلى السماء. والثاني: أنه الموت. فعلى القول الأول يكون نظم الكلام مستقيماً من غير تقديم ولا تأخير، ويكون معنى «متوفيك» قابضك من الأرض وافياً تاماً من غير أن ينال منك اليهود شيئاً، هذا قول الحسن، وابن جريج، وابن قتيبة، واختاره الفراء. ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ «3» ، أي: رفعتني إلى السماء من غير موت، لأنهم إنما بدلوا بعد رفعه، لا بعد موته. وعلى القول الثاني يكون في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: إني رافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك، هذا قول الفراء، والزجاج في آخرين. فتكون الفائدة في إعلامه بالتوفي تعريفه أن رفعَه إلى السماء لا يمنع من موته «4» . قال سعيد بن المسيب: رُفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وقال مقاتل: رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان. وقيل: عاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين. ويقال: ماتت قبل رفعه. قوله تعالى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه قولان: أحدهما: أنه رفعه من بين أظهرهم. والثاني: منعهم من قتله «5» . وفي الذين اتبعوه قولان: أحدهما: أنهم مسلمون من أمّة محمّد عليه السلام، لأنهم صدقوا بنبوته، وأنه روح الله وكلمته، وهذا قول قتادة، والرّبيع، وابن السّائب. والثاني:

_ (1) في «اللسان» : الخوخة: مخترق ما بين كل دارين لم ينصب عليها باب. (2) الرجز لمنظور الوبري. انظر «اللسان» مادة (وفي) . (3) المائدة: 117. (4) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 366: قال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا قام من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا» الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه. قال الحسن: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليهود «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» . (5) وقع في المطبوع: قبله، والتصويب من «تفسير الماوردي» 1/ 397.

[سورة آل عمران (3) : آية 56]

أنهم النصارى، فهم فوق اليهود، واليهود مستذلون مقهورون، قاله ابن زيد. قوله تعالى: فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني الدّين. [سورة آل عمران (3) : آية 56] فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا قيل: هم اليهود والنصارى. وعذابهم في الدنيا بالسيف والجزية، وفي الآخرة بالنّار. [سورة آل عمران (3) : آية 57] وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ قرأ الأكثرون بالنون، وقرأ الحسن، وقتادة، وحفص عن عاصم: «فيوفيهم» بالياء معطوفاً على قوله تعالى إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى. [سورة آل عمران (3) : آية 58] ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) قوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ يعني ما جرى من القصص. مِنَ الْآياتِ يعني الدلالات على صحة رسالتك، إذ كانت أخباراً لا يعلمها أميٌ. وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ قال ابن عباس: هو القرآن. قال الزجاج: معناه: ذو الحكمة في تأليفه ونظمه، وإبانة الفوائد منه. [سورة آل عمران (3) : آية 59] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية، مخاصمة وفد نجران من النصارى للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، في أمر عيسى، وقد ذكرناه في أول السورة «1» . فأما تشبيه عيسى بآدم، فلأنهما جميعاً من غير أب. وقوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ يعني: آدم. قال ثعلب: وهذا تفسير لأمر آدم. وليس بحال. قوله تعالى: ثُمَّ قالَ لَهُ يعني آدم، وقيل لعيسى كُنْ فَيَكُونُ أي: فكان: فأريد بالمستقبل الماضي، كقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ «2» أي: ما تلت. [سورة آل عمران (3) : آية 60] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) قوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ قال الزجاج: الحق مرفوع على خبر ابتداء محذوف، المعنى: الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحق من ربك فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي: الشاكين. والخطاب للنبي خطابٌ للخلق، لأنه لم يشك. [سورة آل عمران (3) : آية 61] فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى عيسى. والثاني:

_ (1) تقدم برقم 153. (2) البقرة: 102.

[سورة آل عمران (3) : آية 62]

إلى الحق. والعلم: البيان والإيضاح. قوله تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا قال ابن قتيبة: تعال: تفاعل، من علوت، ويقال للاثنين من الرجال والنساء: تعاليا، وللنساء: تعالين. قال الفراء: أصلها من العلو، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها، صارت عندهم بمنزلة «هلم» حتى استجازوا أن يقولوا للرجل، وهو فوق شرف: تعال، أي: اهبط. وإنما أصلها: الصعود. قال المفسرون: أراد بأبنائنا: فاطمة، والحسن، والحسين. وروى مسلم في «صحيحه» من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (179) لما نزلت هذه الآية تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: «اللهم هؤلاء أهلي» . قوله تعالى: وَأَنْفُسَنا فيه خمسة أقوال: أحدها: أراد علي بن أبي طالب، قاله الشعبي. والعرب تخبر عن ابن العم بأنه نفس ابن عمه. والثاني: أراد الإخوان، قاله ابن قتيبة. والثالث: أراد أهل دينه، قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع: أراد الأزواج. والخامس: أراد القرابة القريبة، ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري. فأما الابتهال، فقال ابن قتيبة: هو التداعي باللَّعن، يقال: عليه بَهلةُ الله، وبُهلته، أي: لعنته. وقال الزجاج: معنى الابتهال في اللغة: المبالغة في الدعاء وأصله: الالتعان، يقال: بهله الله، أي: لعنه. وأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجة. (180) قال جابر بن عبد الله: قدم وفد نجران فيهم السيّد والعاقب فذكر الحديث.. إلى أن قال: فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه أن يغادياه، فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل اليهما، فأبيا أن يجيباه، فأقرا له بالخراج فقال: «والذي بعثني بالحقّ لو فعلا لأمطر الوادي نارا» [سورة آل عمران (3) : آية 62] إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ قال الزجاج: دخلت «مِن» هاهنا توكيداً ودليلاً على نفي جميع ما ادعى المشركون من الآلهة. [سورة آل عمران (3) : آية 63] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عن الملاعنة، قاله مقاتل. والثاني: أنه عن البيان الذي أتى به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله الزجاج. والثالث: عن الإقرار بوحدانية الله، وتنزيهه عن الصاحبة والولد، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الفساد هاهنا قولان: أحدهما: أنه العمل بالمعاصي، قاله

_ صحيح. أخرجه مسلم 2404 والترمذي 2999 والحاكم 3/ 147 من حديث سعد، وفيه قصة. انظر «تفسير الشوكاني» 504. أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 244 والواحدي 209 من حديث جابر، وفيه بشر بن مهران الخصاف، قال ابن أبي حاتم: ترك أبي حديثه وفيه أيضا محمد بن دينار، وهو ضعيف. وقد جعل الواحدي كلام جابر الأخير من كلام الشعبي، ويؤيد ذلك هو أن الحاكم أخرج حديث جابر 2/ 593 دون كلام جابر. وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

[سورة آل عمران (3) : آية 64]

مقاتل. والثاني: الكفر، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. [سورة آل عمران (3) : آية 64] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله قتاده، وابن جريج، والربيع بن أنس. والثاني: وفد نجران الذين حاجوا في عيسى، قاله السدي ومقاتل. والثالث: أهل الكتابين جميعاً «1» ، قاله الحسن.

_ وقال ابن عباس: نزلت في القسيسين والرهبان، فبعث بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة. فقرأها جعفر، والنجاشي جالس، وأشراف الحبشة. فأما «الكلمة» فقال المفسرون هي: لا إله إلا الله. فإن قيل: فهذه كلمات، فلم قال كلمة؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الكلمة تعبر عن ألفاظ وكلمات. قال اللغويون: ومعنى كلمة: كلام فيه شرح قصة وإن طال، تقول العرب قال زهير في كلمته يراد في قصيدته: قالت الخنساء: وقافيةٍ مثلِ حدِّ السنا ... ن تبقى ويذهبُ من قالها تقدُّ الذّؤابة مِن يَذْبلٍ ... أبت أن تزايل أو عالها «2» نطْقتَ ابنَ عمروٍ فسهَّلتها ... ولم ينطق الناس أمثالها فأوقعت القافية على القصيدة كلّها، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة، من البيت، وإنما سمّيت قافية، لأن الكلمة تتبع البيت، وتقع آخره، فسمّيت قافية، من قول العرب: قفوت فلانا: إذا اتّبعته، وإلى هذا الجواب يذهب الزجّاج وغيره. والثاني: أن المراد بالكلمة: كلمات، فاكتفى بالكلمة من كلمات كما قال علقمة بن عبدة: بها جيف الحسرى فأمّا عظامها ... فبيض وأمّا جلدها فصليب أراد: وأما جلودها، فاكتفى بالواحد من الجمع، ذكره والذي قبله ابن الأنباريّ. قوله تعالى: سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ قال الزجّاج: يعني بالسّواء العدل، وهو من استواء الشيء، ويقال: للعدل سواء وسواء. قال زهير بن أبي سلمى: أروني خطّة لا ضيم فيها ... يسوّي بيننا فيها السّواء فإن تركا السّواء فليس بيني ... وبينكم بني حصن بقاء قال: وموضوع «أن» في قوله تعالى: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ خفض على البدل من «كلمة» المعنى: (181) لم أقف له على إسناد، وهو غريب جدا، ويأتي في مطلع سورة مريم شيء من هذا.

[سورة آل عمران (3) : آية 65]

تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله. وجائز أن يكون «أن» في موضوع رفع، كأن قائلاً قال: ما الكلمة؟ فأجيب، فقيل: هي ألاّ نعبد إلا الله. قوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سجود بعضهم لبعض، قاله عكرمة. والثاني: لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، قاله ابن جريج. والثالث: لا نجعل غير الله رباً، كما قالت النصارى في المسيح، قاله مقاتل والزجّاج. [سورة آل عمران (3) : آية 65] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ. قال ابن عباس والحسن والسدي: (182) اجتمع عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نصارى نجران، وأحبار اليهود، فقال هؤلاء: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقال هؤلاء: ما كان إلا نصرانيا. فنزلت هذه الآية. [سورة آل عمران (3) : آية 66] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) قوله تعالى: ها أَنْتُمْ قرأ ابن كثير «ها أنتم» مثل: هعنتم، فأبدل من همزة الاستفهام «الهاء» أراد: أأنتم. وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم» ممدوداً استفهام بلا همزة، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، «ها أنتم» ممدوداً مهموزاً ولم يختلفوا في مد «هؤلاء» و «أولاء» . قوله تعالى: فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فيه قولان: أحدهما: أنه ما رأوا وعاينوا قاله قتادة. والثاني: ما أُمروا به ونهوا عنه، قاله السدي. فأما الذي ليس لهم به علم، فهو شأن إبراهيم عليه السلام. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى، خمسمائة وخمس وسبعون سنة. وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة «1» . وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة. وقد سبق في «البقرة» معنى الحنيف. [سورة آل عمران (3) : الآيات 67 الى 68] ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

_ أثر ابن عباس أخرجه الطبري 7198 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لجهالة محمد، شيخ ابن إسحاق. - وأثر السدي أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 2/ 72 وهذا مرسل. - وأثر الحسن لم أره مسندا، وإنما ذكره الواحدي 214 بدون إسناد.

[سورة آل عمران (3) : آية 69]

قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، في سبب نزولها قولان: (183) أحدهما: أن رؤساء اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لقد علمت أنَّا أولى بدين إبراهيم منك، وأنه كان يهودياً، وما بك إلا الحسد، فنزلت هذه الآية. ومعناها: أحق الناس بدين إبراهيم، الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم على دينه، قاله ابن عباس.

_ والثاني: أن عمرو بن العاص أراد أن يُغضب النجاشي على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال للنجاشي: إنهم ليشتمون عيسى. فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقالوا: يقول: إنه عبد الله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم. فأخذ النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين، فقال: والله ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يَزِن هذا القذى، ثم أبشروا، فلا دهورة «1» اليوم على حزب إبراهيم. قال عمرو بن العاص: ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرّهط وصاحبهم فأنزل الله يوم خصومتهم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، هذا قول عبد الرحمن بن غنم. [سورة آل عمران (3) : آية 69] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) قوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل، وعمّار بن ياسر: تركتما دينكما، واتبعتما دين محمّد، فنزلت هذه الآية «2» ، قاله ابن عباس. والطّائفة: اسم لجماعة مجتمعين على اجتمعوا عليه من دين، ورأي، ومذهب، وغير ذلك. وفي هذه الطائفة قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: اليهود والنّصارى، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. والضّلال: الحيرة. وفيه هاهنا قولان: أحدهما: أنه الاستنزال عن الحقّ إلى الباطل، وهو قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: الإهلاك، ومنه أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «3» قاله ابن جرير، والدّمشقيّ. وفي قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ قولان: أحدهما: وما يشعرون أنّ الله يدلّ المؤمنين على حالهم. والثاني: وما يشعرون أنهم يضلّون أنفسهم. [سورة آل عمران (3) : آية 70] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 210 عن ابن عباس بدون إسناد، فهو لا شيء. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 211 عن أبي صالح عن ابن عباس. وهذا إسناد ساقط كما تقدم غير مرة. وورد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» 2/ 73 وهذا مرسل، وشهر بن حوشب غير قوي. وله شاهد موصول من حديث أبي موسى: أخرجه الحاكم 2/ 309 وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، لكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية.

[سورة آل عمران (3) : آية 71]

قوله تعالى: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ قال قتادة: يعني: محمداً والإسلام وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أن بعث محمد في كتابكم، ثم تكفرون به. [سورة آل عمران (3) : آية 71] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) قوله تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ قال اليزيدي: معناه: لم تخلطون الحق بالباطل؟ قال ابن فارس: واللبس: اختلاط الأمر، وفي الأمر لبسة، أي: ليس بواضح. وفي الحق والباطل أربعة أقوال: أحدها: أن الحق: إقرارهم ببعض أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والباطل: كتمانهم بعض أمره. والثاني: الحق: إيمانهم بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم غدوة، والباطل: كفرهم به عشية، رويا عن ابن عباس. والثالث: الحق: التوراة، والباطل: ما كتبوه فيها بأيديهم، قاله الحسن، وابن زيد. والرابع: الحق: الإسلام. والباطل: اليهودية والنصرانية، قاله قتادة. قوله تعالى: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ قال قتادة: كتموا الإسلام، وكتموا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. [سورة آل عمران (3) : آية 72] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) قوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار، فآمنوا، وإذا كان آخره، فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب، وهم أعلم منا، فينقلبون عن دينهم، رواه عطية عن ابن عباس «1» . وقال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر حبراً من اليهود، فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد باللسان أول النهار، واكفروا آخره، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، فيشك أصحابه في دينهم، ويقولون: هم أهل الكتاب، وهم أعلم منا، فيرجعون إلى دينكم، فنزلت هذه الآية «2» . وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور. والثاني: أن الله تعالى صرف نبيه إلى الكعبة عند صلاة الظهر، فقال قوم من علماء اليهود: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ يقولون: آمنوا بالقبلة التي صلوا إليها الصبح، واكفروا بالتي صلوا إليها آخر النهار، لعلهم يرجعون إلى قبلتكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس «3» . قال مجاهد وقتادة، والزجاج في آخرين: وجه النهار: أوله. وأنشد الزجاج «4» : من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار

_ (1) أخرجه الطبري 7233 بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي. وهو ضعيف عن ابن عباس، فالإسناد واه. (2) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 214 عن الحسن والسدي بدون إسناد. وأثر السدي، أخرجه الطبري 7229 مع اختلاف يسير فيه. وورد من مرسل أبي مالك، أخرجه الطبري 7228. (3) عزاه المصنف لابن عباس، وهو من رواية أبي صالح، وهو متروك في روايته عن ابن عباس، ورواية أبي صالح، هو الكلبي، كذبه الجمهور. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 215 عن مجاهد ومقاتل والكلبي بدون إسناد. (4) البيتان لربيع بن زياد، يرثي مالك بن زهير العبسي.

[سورة آل عمران (3) : آية 73]

يجد النساء حواسراً يَنْدبنه ... قد قُمن قبل تبلّج الأسحار «1» [سورة آل عمران (3) : آية 73] وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) قوله تعالى: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحدٌ مما أوتيتم من العلم، وفلق البحر، والمنِّ والسلوى، وغير ذلك، ولا تصدقوا أن يجادلوكم عند ربكم، لأنكم أصح ديناً منهم، فيكون هذا كله من كلام اليهود بينهم، وتكون اللام في «لمن» صلة، ويكون قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ كلاماً معترضاً بين كلامين، هذا معنى قول مجاهد، والأخفش. والثاني: أن كلام اليهود تام عند قوله: لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ والباقي من قول الله تعالى، لا يعترضه شيءٌ من قولهم، وتقديره: قل يا محمد: إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، إلاّ أن تجادلكم اليهود بالباطل، فيقولون: نحن أفضل منكم، هذا معنى قول الحسن، وسعيد بن جبير. وقال الفراء: معنى: «أن يؤتى» : أن لا يؤتى. والثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، إلا من تبع دينكم، فأخرت «أن» ، وهي مقدمة في النية على مذهب العرب في التقديم والتأخير، ودخلت اللام على جهة التوكيد، كقوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ «2» أي: ردفكم. وقال الشاعر: ما كنتُ أخدعُ للخليل بخلَّة ... حتى يكون ليَ الخليلُ خَدوعا أراد: ما كنت أخدع الخليل. وقال الآخر «3» : يذمّون للدنيا وهم يحلبونها ... أفاويقَ حتى ما يَدِرُّ لها ثُعْل أراد: يذمون الدنيا، ذكره ابن الأنباري. والرابع: أن اللام غير زائدة، والمعنى: لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاء به إلا لليهود. فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين كان عوناً لهم على تصديقه، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: لا تؤمنوا أن محمداً وأصحابه على حق، إلا لمن تبع دينكم، مخافة أن يطلع على عنادكم الحق، ويحاجوكم به عند ربكم. فعلى هذا يكون معنى الكلام: لا تقروا بأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وقد ذكر هذا المعنى مكي بن أبي طالب النحوي. وقرأ ابن كثير: «أان يؤتى» بهمزتين: الأولى مخفّفة، والثانية مليّنة على الاستفهام، مثل: أانتم أعلم. قال أبو علي: ووجهها أن «أن» في موضع رفع بالابتداء، وخبره: يصدقون به، أو يعترفون به، أو يذكرونه لغيركم، ويجوز أن يكون موضع «أن» نصباً، فيكون المعنى: أتشيعون، أو أتذكرون أن يؤتى

_ (1) في «اللسان» : البلجة: ضوء الصبح آخر الليل عند انصداع الفجر. (2) النمل: 72. (3) هو ابن همّام السّلولي كما في «اللسان» مادة (ثعل) . والأفاويق: واحدها: فيقة: وهي اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ويقال شاة ثعول: تحلب من ثلاثة أمكنة وأربعة للزيادة التي في الطّبي. وإنما ذكر الثّعل للمبالغة في الارتضاع. والثعل لا يدرّ.

[سورة آل عمران (3) : آية 74]

أحدٌ، ومثله في المعنى: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ «1» . وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرّف: «إن يؤتى» ، بكسر الهمزة، على معنى: ما يؤتى. وفي قوله تعالى أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قولان: أحدهما: أن معناه: ولا تصدقوا أنهم يحاجوكم عند ربكم، لأنهم لا حجة لهم، قاله قتادة. والثاني: أن معناه: حتى يحاجوكم عند ربكم على طريق التعبّد، كما يقال: لا يلقاه أو تقوم الساعة، قاله الكسائي. قوله تعالى: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ قال ابن عباس: يعني النبوة، والكتاب، والهدى يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ لا ما تمنَّيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم. [سورة آل عمران (3) : آية 74] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) قوله تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ في الرحمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الإسلام، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: النبوة، قاله مجاهد. والثالث: القرآن والإسلام، قاله ابن جريج. [سورة آل عمران (3) : آية 75] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ قال ابن عباس: أودع رجل ألفا ومائتي أوقيه من ذهب عبد الله بن سلام، فأداها إليه، فمدحه الله بهذه الآية، وأودع رجل فنحاصَ بن عازوراء ديناراً، فخانه «2» . وأهل الكتاب: اليهود. وقد سبق الكلام في القنطار. وقيل. إِن «الباء» في قوله: «بقنطارٍ» بمعنى «على» . فأما الدينار، فقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: الدينار فارسي معرّب، وأصله: دِنّار، وهو وإِن كان معرباً، فليس تعرف له العرب اسماً غير الدينار، فقد صار كالعربيّ، ولذلك ذكره الله عزّ وجلّ في كتابه، لأنه خاطبهم بما عرفوا، واشتقوا منه فِعلاً، فقالوا: رجل مُدَنَّر: كثير الدنانير. وبرذون «3» مدنّر: أشهب مستدير النقش ببياض وسواد. فان قيل: لم خصَّ أهل الكتاب بأن فيهم خائناً وأميناً والخلق على ذلك، فالجواب: أنهم يخونون المسلمين استحلالا لذلك، وقد بيّته في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فحذّر منهم. وقال مقاتل: الأمانة إلى من أسلم منهم، والخيانة إلى من لم يسلم. وقيل: إن الذين يؤدون الأمانة: النصارى، والذين لا يؤدونها: اليهود. قوله تعالى: إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: دُمتَ ودُمتم، ومُت ومُتم، وتميم يقولون: مِت ودِمت بالكسر، ويجتمعون في «يفعل» يدوم ويموت. وفي هذا القيام

_ (1) البقرة: 76. (2) لا أصل له، ذكره البغوي في «تفسيره» 317 (آل عمران: 75) عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس، فالخبر باطل، وذكره القرطبي في «تفسيره» 4/ 114 بدون سند. وكذلك ذكره في «الكشاف» 1/ 401 بدون سند. (3) في «اللسان» : برذون: دابة معروفة.

[سورة آل عمران (3) : آية 76]

قولان: أحدهما: أنه التقاضي، قاله مجاهد، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. قال ابن قتيبة: والمعنى: ما دمت مواظباً بالاقتضاء له والمطالبة. وأصل هذا أن المطالب بالشيء يقوم فيه ويتصرَّف والتارك له يقعد عنه، قال الأعشى: يقوم على الرَّغم في قومه ... فيعفو إِذا شاء أو ينتقم أي: يطالب بالذّحل «1» ولا يقعد عنه. قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ «2» أي: عاملة غير تاركة، وقال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3» أي: آخذ لها بما كسبت. والثاني: أنه القيام حقيقة، فتقديره: إلا ما دمت قائماً على رأسه، فإنه يعترف بأمانته، فاذا ذهبت ثم جئت، جحدك، قاله السدي. قوله تعالى: ذلِكَ يعني: الخيانة. والسبيل: الإثم والحرج، ونظيره ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «4» قال قتادة: إنما استحل اليهود أموال المسلمين، لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب. قوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قال السدي: يقولون: قد أحلّ الله لنا أموال العرب. وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: يعلمون أن الله قد أنزل في التوراة الوفاء، وأداء الأمانة. والثاني: يقولون الكذب، وهم يعلمون أنه كذب. [سورة آل عمران (3) : آية 76] بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) قوله تعالى: بَلى ردّ الله عزّ وجلّ عليهم قولهم: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ بقوله: بَلى قال الزجاج: وهو عندي وقف التمام، ثم استأنف، فقال: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ، ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله: بَلى مَنْ أَوْفى. والعهد: ما عاهدهم الله عزّ وجلّ عليه في التّوراة. وفي «هاء» بِعَهْدِهِ قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى. والثاني: إلى الموفي. [سورة آل عمران (3) : آية 77] إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (185) أحدها: أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض، فجحده اليهودي فقدّمه إلى

_ صحيح. أخرجه البخاري 2356 و 2357 و 2676 و 2677 و 4549 و 4550 و 6659، و 6660، و 6676 و 6677 و 7183 و 7184 ومسلم 138 والشافعي 2/ 51 وأحمد 1/ 44 و 5/ 212 والطيالسي 262 و 1051 وأبو داود 3243 والترمذي 1269 وابن ماجة 2323 والطبري 7279 والواحدي في «أسباب النزول» 216 والبغوي 1/ 318 وابن حبان 5084 والبيهقي 10/ 44 من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان قال: فقال الأشعث: فيّ والله كان ذلك. كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألك بينة» قلت لا. قال، فقال لليهودي: «احلف» . قال قلت: يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إلى آخر الآية» .

[سورة آل عمران (3) : آية 78]

النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ألك بينة» ؟ قال: لا. قال لليهودي: «أتحلف» ؟ فقال الأشعث: إذاً يحلف فيذهب بمالي. فنزلت هذه الآية. أخرجه البخاري ومسلم. (186) والثاني: أنها نزلت في اليهود، عهد الله إليهم في التوراة تبيّن صفة النبيّ عليه السلام، فجحدوا، وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا، هذا قول عكرمة، ومقاتل. (187) والثالث: أن رجلاً أقام سلعته في السوق أول النهار، فلما كان آخره، جاء رجل يساومه، فحلف: لقد منَعَها أول النهار من كذا، ولولا المساء لما باعها به، فنزلت هذه الآية. هذا قول الشعبي، ومجاهد. فعلى القول الأول، والثالث، العهد: لزوم الطاعة، وترك المعصية، وعلى الثاني: ما عهده إلى اليهود في التوراة. واليمين: الحلف. وإن قلنا: إنها في اليهود، والكفار، فإن الله لا يكلمهم يوم القيامة أصلاً. وإن قلنا: إنها في العصاة، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا يكلمهم الله كلام خير. ومعنى وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، أي: لا يعطف عليهم بخير مقتاً لهم، قال الزجاج: تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، ولا يكلمه معناه: أنه غضبان عليه. قوله تعالى: وَلا يُزَكِّيهِمْ أي: لا يطهّرهم من دنس كفرهم وذنوبهم. [سورة آل عمران (3) : آية 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في اليهود، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: في اليهود والنصارى، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقوله تعالى: وَإِنَّ هي كلمة مؤكدة، واللام في قوله: «لَفريقاً» توكيد زائد على توكيد «إِنَّ» ، قال ابن قتيبه: ومعنى يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ: يقلبونها بالتحريف والزيادة. والألسنة: جمع لسان، قال أبو عمرو: اللسان يذكر ويؤنَّث، فمن ذكره جمعه: ألسنة، ومن أنَّثه، جمعه: ألسناً. وقال الفراء: اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكراً. وتقول: سبق من فلان لسان، يعنون به الكلام، فيذكِّرونه. وأنشد ابن الأعرابي: لسانك معسولٌ ونفسُك شحَّة ... وعند الثريا من صديقك مالُكا وأنشد ثعلب «1» : (186) ضعيف. أخرجه الطبري 7275 عن عكرمة مرسلا. وذكره السيوطي في «اللباب» ص 58، ونقل عن الحافظ قوله: الآية محتملة، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح اه. وهو المتقدم. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 220 بدون إسناد.

_ أخرجه الطبري 7280 عن عامر الشعبي مرسلا، ورجاله ثقات، لكنه مرسل. ولأصله شاهد من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أخرجه البخاري 4551 والواحدي في «أسباب النزول» 219.

[سورة آل عمران (3) : آية 79]

ندِمت على لسانٍ كان مني ... فليت بأنَّه في جوفِ عِكْمِ «1» والعكم: العدل. ودل بقوله: كان مني، على أن اللسان الكلام. وأنشد ثعلب: أتتني لسان بني عامر ... أحاديثها بعد قول نكر فأنّث لسان، لأنه عنى الكلمة والرّسالة. [سورة آل عمران (3) : آية 79] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (188) أحدها: أن قوماً من رؤساء اليهود والنصارى، قالوا: يا محمد أتريد أن نتّخذك ربّا؟ فقال: معاذ الله، ما بذلك بعثني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. (189) والثاني: أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا نسجد لك؟ قال «لا، فإنه لا ينبغي أن يُسجَد لأحد من دون الله» فنزلت هذه الآية، قاله الحسن البصري. والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى. قاله الضحاك، ومقاتل. وفيمن عنى ب «البشر» قولان: أحدهما: محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والكتاب: القرآن، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: عيسى، والكتاب: الإنجيل، قاله الضحاك، ومقاتل. والحكم: الفقه والعلم، قاله قتادة في آخرين. قال الزجاج: ومعنى الآية لا يجتمع لرجل نبوَّة، والقول للناس: كونوا عباداً لي من دون الله، لأن الله لا يصطفي الكذبة. قوله تعالى: وَلكِنْ كُونُوا أي: ولكن يقول لهم: كونوا، فحذف القول لدلالة الكلام عليه. فأما الرّبّانيّون، فروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: هم الذين يغذّون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها. وقال ابن عباس، وابن جبير: هم الفقهاء المعلِّمون. وقال قتادة، وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء. قال ابن قتيبة: واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون. وقال أبو عبيد: أحسب الكلمة ليست بعربية، إنما هي عبرانية، أو سريانيّة، وذلك أن عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين. وقال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء، وأهل العلم، قال: وسمعت رجلاً عالماً بالكتب يقول: هم العلماء

_ ضعيف. أخرجه الطبري 7294 والبيهقي في «الدلائل» 5/ 384 من حديث ابن عباس وفيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول. وعزاه السيوطي في «الدر» 2/ 82 لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في الدلائل. ضعيف جدا. عزاه المصنف للحسن، وهذا مرسل، ومراسيل الحسن واهية. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 223 وعزاه السيوطي في «الدر» 2/ 82 (آل عمران: 80) لعبد بن حميد عن الحسن. - تنبيه: والمرفوع منه صحيح، له شواهد، والوهن فقط في ذكر نزول الآية. والمرفوع سيأتي إن شاء الله تعالى.

[سورة آل عمران (3) : آية 80]

بالحلال والحرام، والأمر والنهي. وحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين: الرباني: منسوب إلى الرب، لأن العلم: مما يطاع الله به، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما قالوا: رجل لحياني: إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية. قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «تعْلَمون» ، باسكان العين، ونصب اللام، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ: (تعلّمون) مثقلا، وكلهم قرءوا: «تدرسون» خفيفة. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين وسعيد بن جبير، وطلحة بن مصرّف، وأبو حياة: «تُدرِّسون» ، بضم التاء مع التشديد. والدراسة: القراءة. قال الزجّاج: ومعنى الكلام: ليكن هديكم في التعليم هدي العلماء والحكماء، لأن العالم إنما يستحق هذا الاسم إذا عمل بعلمه. [سورة آل عمران (3) : آية 80] وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) قوله تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ قرأ ابن عامر، وحمزة، وخلف، ويعقوب، وعاصم في بعض الروايات عنه وعبد الوارث، عن أبي عمرو، واليزيدي في اختياره، بنصب الراء. وقرأ الباقون برفع الراء، فمن نصب كان المعنى: وما كان لبشر أن يأمركم، ومن رفع قطعه مما قبله. قال ابن جريج: ولا يأمركم محمّد. [سورة آل عمران (3) : آية 81] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ، قال الزجاج: موضع «إِذ» نصب، المعنى: واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله. قال ابن عباس: الميثاق: العهد. وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان: أحدهما: أنه تصديق محمّد صلّى الله عليه وسلّم، روي عن علي، وابن عباس، وقتادة، والسدي. والثاني: أنه أخذ ميثاق الأول من الأنبياء ليؤمننَّ بما جاء به الآخر منهم، قاله طاوس. قال مجاهد والربيع بن أنس: هذه الآية خطأ من الكتَّاب «1» ، وهي في قراءة ابن مسعود: «وإِذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» واحتج الربيع بقوله تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ. وقال بعض أهل العلم: إنما أخذ الميثاق على النبيين وأممهم، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع، وهذا معنى قول ابن عباس والزّجّاج.

_ (1) باطل. أما أثر مجاهد، فأخرجه الطبري 7321 من طريق عيسى بن أبي عيسى الرازي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به. وإسناده واه إلى مجاهد لأجل عيسى هذا. - وأما أثر الربيع، فأخرجه الطبري 7323 من طريق عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع به وأبو جعفر هو الرازي واسمه عيسى بن أبي عيسى، وهو المتقدم في إسناد مجاهد، وعنه ابنه عبد الله وهو واه، فهذا لا يصح عنهما، وهو قول باطل بكل حال، والصواب ما هو رسم المصحف، وهو المجمع عليه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 82 إلى 83]

واختلف العلماء في لام «لما» فقرأ الأكثرون «لما» بفتح اللام مع التخفيف، وقرأ حمزة مثلها، إلا أنه كسر اللام، وقرأ سعيد بن جبير «لما» مشدَّدة الميم، فقراءة ابن جبير، معناها: حين آتيتكم. وقال الفراء في قراءة حمزة: يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم، ثم جعل قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ من الأخذ. قال الفراء: ومن نصب اللام جعلها زائدة. و «ما» هاهنا بمعنى الشرط والجزاء، فالمعنى: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئاً من كتاب وحكمة. قال ابن الأنباري: اللام في قوله تعالى: لَما آتَيْتُكُمْ على قراءة من شدَّد أو كسر: جواب لأخذ الميثاق، لأن أخذ الميثاق يمين. وعلى قراءة من خففها، معناها: القسم، وجواب القسم اللام في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وإنما خاطب، فقال: آتيتكم. بعد أن ذكر النبيين وهم غيَّب، لأن في الكلام معنى قول وحكاية، فقال مخاطباً لهم: لما آتيتكم. وقرأ نافع «آتيناكم» بالنون والألف. قوله تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ قال عليّ عليه السلام: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد، إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. وقال غيره: أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضُهم بعضاً. والإصر هاهنا: العهد في قول الجماعة. قال ابن قتيبة: أصل الإصر الثِّقل، فسمي العهد إصراً، لأنه منعٌ من الأمر الذي أخذ له، وثقل وتشديد. وكلهم كسر ألف «إصري» وروى أبو بكر، عن عاصم ضمَّه. قال أبو علي: يشبه أن يكون الضم لغة. قوله تعالى: قالَ فَاشْهَدُوا قال ابن فارس: الشهادة: الإخبار بما شوهد. وفيمن خوطب بهذا قولان: أحدهما: أنه خطاب للنّبيين ثم فيه قولان: أحدهما: أن معناه: فاشهدوا على أممكم، قاله علي بن أبي طالب. والثاني: فاشهدوا على أنفسكم، قاله مقاتل. والثاني: أنه خطاب للملائكة، قاله سعيد بن المسيب، فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور. [سورة آل عمران (3) : الآيات 82 الى 83] فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ قرأ أبو عمرو: «يبغون» بالياء مفتوحة. «وإِليه تُرجعون» بالتاء مضمومة، وقرأها الباقون بالياء في الحرفين. وروى حفص عن عاصم: «يبغون» و «يرجعون» بالياء فيهما، وفتح الياء وكسر الجيم، يعقوب على أصله. (190) قال ابن عباس: اختصم أهل الكتابين، فزعمت كلُّ فرقة أنها أولى بدين إبراهيم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» . فغضبوا، وقالوا: والله لا نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فنزلت هذه الآية. والمراد بدين الله، دين محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وَلَهُ أَسْلَمَ انقاد، وخضع طَوْعاً وَكَرْهاً الطوع: الانقياد بسهولة، والكره: الانقياد بمشقة وإباءٍ من النفس. وفي معنى الطوع والكره ستة أقوال: أحدها:

_ لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 224 بدون إسناد. ولم أره عند غيره، فهذا متن باطل لا أصل له لخلوه عن الإسناد، والظاهر أنه من رواية الكلبي بسلسلته المشهورة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 84 إلى 87]

أن إسلام الكل كان يوم الميثاق طوعاً وكرهاً، رواه مجاهد عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد، وبه قال السدي. والثاني: أن المؤمن يسجد طائعاً، والكافر يسجد ظلُّه وهو كاره، روي عن ابن عباس، ورواه ابن أبي نجيح، وليث عن مجاهد. والثالث: أن الكل أقروا له بأنه الخالق، وإن أشرك بعضهم، فإقراره بذلك حجة عليه في إشراكه، هذا قول أبي العالية، ورواه منصور عن مجاهد. والرابع: أن المؤمن أسلم طائعاً، والكافر أسلم مخافة السيف، هذا قول الحسن. والخامس: أن المؤمن أسلم طائعاً، والكافر أسلم حين رأى بأس الله، فلم ينفعه في ذلك الوقت، وهذا قول قتادة. والسادس: أن إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جبلّتهم، لا يقدر أحدهم أن يمتنع من جبّلةٍ جبله عليها، ولا على تغييرها، هذا قول الزجاج، وهو معنى قول الشّعبيّ: انقاد كلّهم له. [سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 87] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (191) أحدها: أن رجلاً من الأنصار ارتدَّ، فلحق بالمشركين، فنزلت هذه الآية، إلى قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فكتب بها قومه إليه، فرجع تائبا فقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك منه وخلَّى عنه. رواه عكرمة عن ابن عباس. وذكر مجاهد والسدي أن اسم ذلك الرجل: الحارث بن سويد. والثاني: أنها نزلت في عشرة رهط ارتدوا، فيهم الحارث بن سويد، فندم، فرجع «1» . رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثالث: أنها في أهل الكتاب، عرفوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم كفروا به. رواه عطية عن ابن عباس «2» . وقال الحسن: هم اليهود والنصارى. وقيل: إن «كيف» هاهنا لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها الجحد، أي: لا يهدي الله هؤلاء.

_ صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» 85 وأحمد 1/ 247 وابن حبان 4460 والحاكم 2/ 142 و 4/ 366 والطبري 7358 والبيهقي 8/ 197 والواحدي في «أسباب النزول» 225 من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وهو كما قالا، وله شواهد مرسلة. وانظر «تفسير الشوكاني» 520 بتخريجنا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 88 إلى 89]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 88 الى 89] خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها قال الزجاج أي: في عذاب اللعنة وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي: يؤخّرون عن الوقت. ومعنى: وَأَصْلَحُوا أي: أظهروا أنهم كانوا على ضلال، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه، وغرّوا به من تبعهم ممن لا علم له. فصل: وهذه الآية استثنت مَن تاب ممن لم يتب، وقد زعم قوم أنها نَسخت ما تضمنته الآيات قبلها من الوعيد، والاستثناء ليس بنسخ. [سورة آل عمران (3) : آية 90] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد، فإنهم قالوا: نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون «1» ، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن، قاله الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني. والثالث: أنها نزلت في اليهود والنصارى، كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته، ثم ازدادوا كفراً باقامتهم على كفرهم، قاله أبو العالية. قال الحسن: كلما نزلت آية كفروا بها، فازدادوا كفراً. وفي عِلة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم ارتدوا، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم قوم تابوا من الذنوب في الشرك، ولم يتوبوا من الشرك، قاله أبو العالية. والثالث: أن معناه: لن تُقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، وهو قول الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي. والرابع: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر، وهو قول مجاهد. [سورة آل عمران (3) : آية 91] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ. (192) روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكة، دخل من كان من أصحاب

_ باطل. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، ورواية أبي صالح عن الكلبي، وهذه تعرف بسلسلة الكذب عند العلماء، وهذا خبر باطل، فالسورة نزلت قبل فتح مكة بزمن طويل.

[سورة آل عمران (3) : آية 92]

الحارث بن سويد حياً في الإسلام، فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافراً. قال الزجاج: وملء الشيء: مقدار ما يملؤه. قال سيبويه، والخليل: والملء بفتح الميم: الفعل، تقول: ملأت الشيء أملؤه ملأً، المصدر بالفتح لا غير. والملاءة: التي تلبس، ممدودة. والملاوة من الدهر: القطعة الطويلة منه، يقولون: ابل جديداً، وتمل حبيباً، أي: عش معه دهراً طويلاً. وذَهَباً منصوب على التمييز. وقال ابن فارس: ربما أُنث الذهب، فقيل: ذهبة، ويجمع على الأذهاب. قوله تعالى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ قال الفراء: الواو هاهنا قد يستغنى عنها، ولو حذفت كان صواباً، كقوله تعالى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ «1» . قال الزجاج: هذا غلط، لأن فائدة الواو بيِّنة، فليست مما يلقى. قال النحاس: قال أهل النظر من النحويين في هذه الآية: الواو ليست مقحمة وتقديره: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً تبرعاً ولو افتدى به. [سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ، في البر أربعة أقوال: أحدها: أنه الجنة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي في آخرين. قال ابن جرير: فيكون المعنى: لن تنالوا بر الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم. والثاني: التقوى، قاله عطاء، ومقاتل. والثالث: الطاعة، قاله عطية. والرابع: الخير الذي يُستحق به الأجر، قاله أبو روق. قال القاضي أبو يعلى: لم يرد نفي الأصل، وإنما نفي وجود الكمال. فكأنه قال: لن تنالوا البر الكامل. قوله تعالى: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، فيه قولان: (193) أحدهما: أنه نفقة العبد من ماله وهو صحيح شحيح، رواه ابن عمر عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أنه الإنفاق من محبوب المال، قاله قتادة، والضحاك. وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الصدقة المفروضة، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك. والثاني: أنها جميع الصدقات، قاله ابن عمر. والثالث: أنها جميع النفقات التي يُبتغى بها وجه الله تعالى، سواء كانت صدقة، أو لم تكن، نُقل عن الحسن، واختاره القاضي أبو يعلى. (194) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة

_ لم أره من حديث ابن عمر بعد بحث، وإنما صح من حديث أبي هريرة، وقد ساقه المصنف بمعناه. وحديث أبي هريرة، أخرجه البخاري 1419 و 2748 ومسلم 1032 وأبو داود 2865 والنسائي 5/ 86 و 6/ 237 وابن ماجة 2706 وأحمد 2/ 25 و 231 و 415 و 447 والبغوي 1671 من طرق عن أبي هريرة، قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم قال: «أن تصدّق وأنت صحيح شحيح. تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان» . صحيح. أخرجه البخاري 1461 و 2318 و 2752 و 2769 و 4554 و 5611 ومسلم 998 وأحمد 3/ 141 والدارمي 2/ 390 وابن حبان 3340 والبيهقي 6/ 164- 165 و 275 ومالك 2/ 595- 596 من حديث أنس. وأخرجه الترمذي 2997 من وجه آخر عن أنس بنحوه. وأخرجه البخاري 2758 وأحمد 3/ 256 من طرق. عن أنس بن مالك.

[سورة آل عمران (3) : آية 93]

أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء «1» ، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ. قال أنس: فلما نزلت: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها حيث أراك الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بخ بخ، ذاك مال رابح أو رائح- شك الراوي «2» - وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمِّه. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال: لا أجد شيئاً أحب إليَّ من جاريتي رميثة «3» ، فهي حرة لوجه الله، ثم قال: لولا أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، فأنكحها نافعاً، فهي أم ولده «4» . وسُئل أبو ذر: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة عماد الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصّدقة شيء عجب. فقال السائل: يا أبا ذرٍ لقد تركت شيئاً هو أوثق عمل في نفسي ما ذكرته. قال: ما هو؟ قال: الصيام. فقال: قربة وليس هناك، وتلا قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «5» . قال الزجاج: ومعنى قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي يجازي عليه. [سورة آل عمران (3) : آية 93] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ سبب نزولها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (195) «أنا على ملة إِبراهيم» فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإِبل، وتشرب ألبانها؟ فقال: «كان ذلك حلالا لإبراهيم» . فقالوا: كل شيء نحرِّمه نحن، فإنه كان محرّماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا. فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم. قاله أبو روق، وابن السائب. و «الطعام» : اسم للمأكول. قال ابن قتيبة: والحلّ: الحلال، والحرم والحرام، واللبس واللباس. وفي الذي حرَّمه على نفسه، ثلاثة أقوال: أحدها: لحوم الإبل وألبانها. روي عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وأبي العالية في آخرين. والثاني: أنه العروق، رواه سعيد بن جبير عن

_ واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 229 عن أبي روق والكلبي به، وهذا واه بمرة، شبه موضوع، الكلبي هو محمد بن السائب متهم بالوضع، وأبو روق، خبره معضل.

[سورة آل عمران (3) : آية 94]

ابن عباس، وهو قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. والثالث: أنه زائدتا الكبد، والكليتان، والشحم إلا ما على الظهر، قاله عكرمة. وفي سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال: (196) أحدها: أنه طال به مرضٌ شديد، فنذر: لئن شفاه الله، ليحرِّمنَّ أحبَّ الطعام والشراب إليه، روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أنه اشتكى عرق النسا فحرّم العروق، قاله ابن عباس في آخرين. والثالث: أن الأطباء وصفوا له حين أصابه «النسا» اجتناب ما حرمه، فحرمه، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: أنه كان إذا أكل ذلك الطعام، أصابه عرق النّسا فيبيت وقيدا «1» ، فحرمه، قاله أبو سليمان الدمشقي. واختلفوا: هل حرّم ذلك بإذن الله، أم باجتهاده؟ على قولين. واختلفوا: بماذا ثبت تحريم الطعام الذي حرمه على اليهود، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حرم عليهم بتحريمه، ولم يكن محرماً في التوراة، قاله عطية. وقال ابن عباس: قال يعقوب: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد. والثاني: أنهم وافقوا أباهم يعقوب في تحريمه، لا أنه حرِّم عليهم بالشرع، ثم أضافوا تحريمه إلى الله، فأكذبهم الله بقوله: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها، هذا قول الضحاك. والثالث: أن الله حرمه عليهم بعد التوراة لا فيها. وكانوا إذا أصابوا ذنباً عظيماً، حرم عليهم به طعام طيب، أو صب عليهم عذاب، هذا قول ابن السائب. قال ابن عباس: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها!. [سورة آل عمران (3) : آية 94] فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قوله تعالى: فَمَنِ افْتَرى يقول: اختلق عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: من بعد البيان في كتابهم، وقيل: من بعد مجيئكم بالتّوراة وتلاوتكم. [سورة آل عمران (3) : آية 95] قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) قوله تعالى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ الصدق: الإخبار بالشيء على ما هو به، وضده الكذب. واختلفوا أي خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين: أحدهما: أنه عنى قوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا، قاله مقاتل، وأبو سليمان الدمشقي. والثاني: أنه عنى قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا قاله ابن السّائب. [سورة آل عمران (3) : آية 96] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96)

_ حسن. أخرجه الترمذي 317 والنسائي في «الكبرى» 9072 وأحمد 1/ 273- 274 من حديث ابن عباس. وفيه عبد الله بن الوليد. لينه الحافظ. وتوبع، فقد أخرجه الطبري 7418 من وجه آخر بإسناد لا بأس به عن ابن عباس مرفوعا، فالحديث حسن إن شاء الله. وقد حسنه الترمذي عن ابن عباس «أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: فأخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النسا، فلم يجد شيئا يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها، فلذلك حرّمها» ، انظر «تفسير الشوكاني» 523 بتخريجنا.

قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ قال مجاهد: افتخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل من الكعبة. وقال المسلمون: الكعبة أفضل. فنزلت هذه الآية. وفي معنى كونه أوّلا قولان: أحدهما: أنه أول بيت كان في الأرض، واختلف أرباب هذا القول، كيف كان أوّل بيت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض، فخلقه قبلها بألفي عام، ودحاها من تحته، فروى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كانت الكعبة حشفة «1» على وجه الماء، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة. وقال ابن عباس: وضع البيت في الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة، ثم دُحيت الأرض من تحت البيت، وبهذا القول يقول ابن عمر، وابن عمرو، وقتادة، ومجاهد، والسدي في آخرين. والثاني: أن آدم استوحش حين أُهبط، فأوحى الله إليه، أن: ابن لي بيتاً في الأرض، فاصنع حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي، فبناه، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثالث: أنه أُهبط مع آدم، فلما كان الطوفان، رُفع فصار معموراً في السماء، وبنى إبراهيم على أثره، رواه شيبان عن قتادة. القول الثاني: أنه أول بيت وُضع للناس للعبادة، وقد كانت قبله بيوت، هذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن، وعطاء بن السائب في آخرين. فأما بكة، فقال الزجاج: يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقاً من البَكِّ. يقال: بكَّ الناس بعضهم بعضاً، أي: دفع. واختلفوا في تسميتها ببكة على ثلاثة أقوال: أحدها: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والفراء، ومقاتل. والثاني: لأنها تبكّ أعناق الجبابرة، أي: تدُّقها، فلم يقصدها جبارٌ إلا قصمه الله، روي عن عبد الله بن الزبير، وذكره الزجاج. والثالث: لأنها تضع من نخوة المتجبرين، يقال: بككت الرجل، أي: وضعت منه، ورددت نخوته، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي، وقُطرُب. واتفقوا على أن مكة اسمٌ لجميع البلدة. واختلفوا في بكة على أربعة أقوال: أحدها: أنه اسمٌ للبقعة التي فيها الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو مالك، وإبراهيم، وعطيَّة. والثاني: أنها ما حول البيت، ومكة ما وراء ذلك، قاله عكرمة. والثالث: أنها المسجد، والبيت. ومكة: اسمٌ للحرم كله، قاله الزهري، وضمرة بن حبيب. والرابع: أن بكة هي مكة، قاله الضحاك، وابن قتيبة، واحتج ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم يقال: سمد رأسه، وسبد رأسه: إذا استأصله. وشر لازم، ولازب. قوله تعالى: مُبارَكاً قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: الذي استقرّ بمكّة في حال بركته. وَهُدىً، أي: وذا هدىً. ويجوز أن يكون «هدى» في موضع رفع، المعنى: وهو هدى. فأما بركته، ففيه تغفر الذنوب، وتضاعف الحسنات، ويأمَن مَن دخله. (197) وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من طاف بالبيت، لم يرفع قدما، ولم يضع

_ حسن بشواهده. أخرجه الترمذي 959 وابن خزيمة 2753 وابن حبان 3697 والحاكم 1/ 489 من طريق جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا. وإسناده ضعيف، جرير سمع من عطاء بعد الاختلاط. وأخرجه الطيالسي 1900 وأحمد 2/ 95 و 2/ 22- مطولا- وابن خزيمة 2753 عن محمد بن فضيل وهشيم عن عطاء به. وكلاهما سمع من عطاء بعد الاختلاط. وأخرجه النسائي 5/ 221 عن حماد عن عطاء عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عمر لكن بلفظ «من طاف سبعا فهو كعدل رقبة» . ورجاله ثقات، وهو صحيح إن كان سمعه عبد الله من ابن عمر، فإن عبارته تدل على الإرسال. لكن لهذا اللفظ طريق آخر، أخرجه ابن ماجة 2956 من طريق العلاء بن المسيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين. وقال البوصيري: رجاله ثقات. - قلت: فلفظ النسائي صحيح. وأما لفظ المصنف، فلم يرد من وجه صحيح عن ابن عمر، لكن في الباب أحاديث تشهد له، فهو حسن، والله أعلم.

[سورة آل عمران (3) : آية 97]

أُخرى، إلا كتب الله له بها حسنة، وحظّ عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة» . قوله تعالى: وَهُدىً لِلْعالَمِينَ، في معنى الهدى هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه بمعنى القبلة، فتقديره: وقبلة للعالمين. والثاني: أنه بمعنى: الرحمة. والثالث: أنه بمعنى: الصلاح، لأن من قصده، صلحت حاله عند ربه. والرابع: أنه بمعنى: البيان، والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره، حيث يجتمع الكلب والظبي في الحرم، فلا الكلب يهيج الظبي، ولا الظبي يستوحش منه، قاله القاضي أبو يعلى. [سورة آل عمران (3) : آية 97] فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ، الجمهور يقرءون: آيات. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ: (فيه آية بينة مقام إبراهيم) ، وبها قرأ مجاهد. قالا: مقام إبراهيم. فأما مَن قرأ: آياتٌ فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: الآيات: مقام إبراهيم، وأمنُ مَنْ دخله. فعلى هذا يكون الجمع معبراً عن التثنية، وذلك جائز في اللغة، كقوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «1» وقال أبو رجاء: كان الحسن يعدّهن، وأنا أنظر إلى أصابعه: مقام إبراهيم، ومَن دخله كان آمناً، ولله على الناس حج البيت. وقال ابن جرير: في الكلام إضمار، تقديره: منهن مقام إبراهيم. قال المفسرون: الآيات فيه كثيرة، منها مقام إبراهيم، ومنها: أمن من دخله، ومنها: امتناع الطير من العلو عليه، واستشفاء المريض منها به، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخرابه، إلى غير ذلك. قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالبيت هاهنا: الحرم كلُّه، لأن هذه الآيات موجودة فيه، ومقام إبراهيم ليس في البيت، والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر، فأثّرت قدماه فيه، فكان ذلك دليلاً على قدرة الله، وصدق إبراهيم. قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، قال القاضي أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، وتقديره: ومَنْ دخَله، فأمنوه، وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله، وفيمن جنى فيه بعد دخوله، إلا

_ (1) سورة الأنبياء: 78.

أن الإجماع انعقد على أن من جنى فيه لا يؤمَّن، لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان، فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجاً منه، ثم لجأ إلى الحرم. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أحمد في رواية المروذي: إذا قتل، أو قطع يداً، أو أتى حداً في غير الحرم، ثم دخله، لم يقم عليه الحدُّ، ولم يقتصَّ منه، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يؤاكل حتى يخرج، فإن فعل شيئاً من ذلك في الحرم، استوفي منه. وقال أحمد في رواية حنبل: إذا قتل خارج الحرم، ثم دخله، لم يقتل. وإن كانت الجناية دون النفس، فإنه يقام عليه الحد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشافعي: يقام عليه جميع ذلك في النفس، وفيما دون النفس «1» . وفي قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً دليل على أنه لا يقام عليه شيء من ذلك، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، والشّعبيّ، وسعيد بن جبير، وطاوس. قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، الأكثرون على فتح حاء «الحج» ، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بكسرها. قال مجاهد: لما أنزل قوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ قال أهل الملل كلهم: نحن مسلمون، فنزلت هذه الآية، فحجه المسلمون، وتركه المشركون، وقالت اليهود: لا نحجه أبداً. قوله تعالى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قال النّحويون: «من» بدل من «الناس» ، وهذا بدل البعض، كما تقول: ضربت زيداً رأسه. (198) وقد روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وعائشة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سُئِل: ما السبيل؟ فقال: «من وجد الزّاد والرّاحلة» .

_ ورد عن جماعة من الصحابة بأسانيد واهية، لا تقوم بها حجة، منها: 1- حديث ابن عمر، أخرجه الترمذي 813 و 2998 وابن ماجة 2896 والدارقطني 2/ 217 والطبري 7482 و 7483 والبيهقي 4/ 330. وأشار الترمذي إلى ضعفه، حيث قال: إبراهيم هو ابن يزيد الخوزي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه اه. وكذا ضعف إسناده الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 390. لكن تابعه محمد بن عبد الله الليثي عند ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 394، لكن الليثي هذا واه. 2- حديث ابن مسعود، أخرجه أبو يعلى 5086 وذكره الهيثمي في «المجمع» 3/ 224 وقال: وفيه رجل ضعيف اه. وهو في مسند أبي حنيفة 223. 3- حديث أنس، أخرجه الدارقطني 2/ 216 والحاكم 1/ 442 وصححه على شرطهما، وقال: وقد توبع سعيد بن أبي عروبة، تابعه حمّاد بن سلمة عن قتادة، ثم أسنده هو والدارقطني من طريق حماد وقال: صحيح على شرط مسلم! وسكت الذهبي! وليس كذلك بل فيه عبد الله بن واحد الحراني، وهو متروك. 4- حديث عائشة: أخرجه الدارقطني 2/ 217 والعقيلي 323 والبيهقي 4/ 330 وأعلّه العقيلي بعتاب بن أعين وقال: وهم فيه والصواب عن الحسن مرسلا. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 390: حديث ابن عمر ضعيف، وحديث أنس معلول، وصوّب البيهقي أن يكون من مرسل الحسن، وأخرجه الدارقطني، بأسانيد ضعيفة اه باختصار. - وجاء في «تلخيص الحبير» 2/ 221 ما ملخصه: وطرقه كلها ضعيفة، وكذا قال عبد الحق. وقال ابن منذر: لا يثبت مسندا، والصواب من الروايات رواية الحسن المرسلة اه. ولمزيد الكلام عليه راجع «نصب الراية» 3/ 8- 10 فقد ذكر طرقه وكشف عن عللها. وانظر «تفسير ابن كثير» بتخريجي عند هذه الآية، وكذا «فتح القدير» للشوكاني.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 إلى 99]

قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ، فيه خمسة أقوال: أحدها: أن معناه: من كفر بالحج فاعتقده غير واجب، رواه مقسم عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، ومقاتل. والثاني: من لم يرج ثواب حجه، ولم يخف عقاب تركه، فقد كفر به، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث: أنه الكفر بالله، لا بالحج، وهذا المعنى مروي عن عكرمة، ومجاهد. والرابع: أنه إذا أمكنه الحج، فلم يحج حتى مات، وسم بين عينيه: كافر، هذا قول ابن عمر. والخامس: أنه أراد الكفر بالآيات التي أُنزلت في ذكر البيت، لأن قوماً من المشركين قالوا: نحن نكفر بهذه الآيات، هذا قول ابن زيد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ. قال الحسن: هم اليهود والنصارى. فأما آيات الله فقال ابن عباس: هي القرآن ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وأما الشهيد، فقال ابن قتيبة: هو بمعنى الشاهد، وقال الخطابي: هو الذي لا يغيب عنه شيء، كأنه الحاضر الشاهد. قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ. قال مقاتل: دعت اليهود حذيفة، وعمار بن ياسر، إلى دينهم، فنزلت هذه الآية. وفي المراد بأهل الكتاب هاهنا قولان: أحدهما: أنهم اليهودُ والنصارى، قاله الحسن. والثاني: اليهود. قاله زيد بن أسلم، ومقاتل. قال ابن عباس: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: الإسلام، والحج. وقال قتادة: لمَ تصدون عن نبي الله، وعن الإسلام. قال السديُّ: كانوا إذا سئلوا: هل تجدون محمداً في كتبكم؟ قالوا: لا. فصدوا عنه الناس. قوله تعالى: تَبْغُونَها، قال اللغويون: الهاء كناية عن السبيل، والسبيل يذكَّر ويؤَنَّث. وأنشدوا: فلا تبعُد فَكُلُّ فتى أُناس ... سَيُصبِحُ سالكاً تلك السبيلا ومعنى «تبغونها» : تبغون لها، تقول العرب: ابغني خادماً، يريدون: ابتغه لي، فاذا أرادوا: ابتغ معي، وأعني على طلبه، قالوا: ابغني، ففتحوا الألف، ويقولون: وهبتك درهماً، كما يقولون: وهبت لك. قال الشاعر: فتولَّى غُلامُهم ثم نادى ... أظليماً أصيدُكم أم حماراً؟ «1» أراد: أصيدُ لكم. ومعنى الآية: يلتمسون لسبيل الله الزيغ والتحريف، ويريدون ردَّ الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج، ويطلبون العدول عن القصد، هذا قول الفراء، والزّجّاج، واللغويين.

_ (1) في «اللسان» : ظليم: الذكر من النعام. وأصيدكم: يعني أصيد لكم.

[سورة آل عمران (3) : آية 100]

قال ابن جرير: خرج هذا الكلام على السبيل، والمعنى: لأهله، كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحقِ عوجاً. أي: ضلالاً. قال أبو عبيدة: العوج بكسر العين، في الدين، والكلام، والعمل، والعَوج بفتحها، في الحائطِ والجذعِ. وقال الزجاج: العوج بكسر العين: فيما لا ترى له شخصاً، وما كان له شخص قلت: عَوج بفتحها، تقول: في أمره ودينه عِوَج، وفي العصا عَوج. وروى ابن الأنباري عن ثعلب قال: العِوج عند العرب بكسر العين: في كل ما لا يحاط به، والعَوج بفتح العين في كل ما لا يحصَّل، فيقال: في الأرضِ عوج، وفي الدين عوج، لأن هذين يتسعان، ولا يدركان. وفي العَصا عَوج، وفي السن عَوج، لأنهما يحاط بهما، ويبلغ كنههما. وقال ابن أبي فارس: العوج بفتح العين: في كل منتصب، كالحائط. والعِوج: ما كان في بساط أو أرض، أو دين، أو معاش. قوله تعالى: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ فيه قولان: أحدهما: أن معناه، وأنتم شاهدون بصحة ما صددتم عنه، وبُطلان ما أنتم فيه، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وقتادة، والأكثرين. والثاني: أن معنى الشهداء هاهنا: العُقلاء، ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين. [سورة آل عمران (3) : آية 100] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) (199) سبب نزولها أن الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية، فلمّا جاء النّبيّ عليه السلام أطفأ تلك الحرب بالإسلام، فبينما رجلان أوسي وخزرجي يتحدثان، ومعهما يهودي، جعل اليهودي يذكِّرِهُما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا، فنادى كل واحد منهما بقومه، فخرجوا بالسلاح، فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأصلح بينهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وعكرمة، والجماعة. قال المفسرون: والخطاب بهذه الآية للأوس والخزرج. قال زيد بن أسلم: وعنى بذلك الفريق: شاس بن قيس اليهودي وأصحابه. قال الزجاج: ومعنى طاعتهم: تقليدهم. [سورة آل عمران (3) : آية 101] وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) قوله تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ. قال ابن قتيبةَ: أي: يمتنع، وأصل العصمة: المنع، قال الزجاج: ويعتصم جَزمٌ ب «من» والجواب: فَقَدْ هُدِيَ [سورة آل عمران (3) : آية 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) قال عكرمةُ: نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا، وأصلح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بينهم. وفي حَقَّ تُقاتِهِ ثلاثة أقوال: (200) أحدها: أن يطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يشكر فلا يكفر، رواه ابن مسعود

_ ضعيف. أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» 2/ 103 (آل عمران: 100) والواحدي في «أسباب النزول» 231 عن عكرمة مرسلا، فهو ضعيف. الصواب موقوف، كذا أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 441 والحاكم 2/ 294 والطبراني 8501 والطبري 7539 عن ابن مسعود. وصححه الحاكم على شرطهما، وكرره الطبري 7534 و 7535 و 7536 موقوفا و 7537 و 7538 و 7540 و 7541 من طرق موقوفا. ولم أجده مرفوعا، فقد رواه الأئمة كما رأيت موقوفا، وهو الصواب. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 538.

[سورة آل عمران (3) : آية 103]

عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وهو قول ابن مسعود، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أن يجاهد في الله حق الجهاد، وأن لا يأخذ العبد فيه لومة لائم، وأن يقوموا له بالقسط، ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أن معناه: اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه، قاله الزجاج. فصل: واختلف العلماء: هل هذا الكلام محكم أو منسوخ؟ على قولين: أحدهما: أنه منسوخ، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد، والسدي، ومقاتل. قالوا: لما نزلت هذه الآية، شقت على المسلمين، فنسخها قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1» . والثاني: أنها محكمة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول طاوس. قال شيخنا علي بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها، فالمعتقد نسخها يرى أن حَقَّ تُقاتِهِ الوقوف مع جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به، فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن حَقَّ تُقاتِهِ أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته، فكان قوله تعالى: مَا اسْتَطَعْتُمْ مفسراً ل حَقَّ تُقاتِهِ لا ناسخا ولا مخصّصا. [سورة آل عمران (3) : آية 103] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً قال الزجاج: اعتصموا: استمسكوا. فأما الحبل، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه كتاب الله: القرآن. رواه شقيق عن ابن مسعود، وبه قال قتادة، والضحاك، والسدي. والثاني: أنه الجماعة، رواه الشعبي عن ابن مسعود. والثالث: أنه دين الله، قاله ابن عباس، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة. وقال ابن زيد: هو الإسلام. والرابع: عهد الله، قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة في رواية، وأبو عبيد، واحتج له الزجاج بقول الأعشى: وإِذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلة ... أخذت من الأخرى إِليك حبالها وأنشد ابن الأنباري: فلو حبلاً تناول من سُليمى ... لمدَّ بحبلِها حبلاً متينا «2» والخامس: أنه الإخلاص، قاله أبو العالية. والسادس: أنه أمر الله وطاعته، قاله مقاتل بن حيان. قال الزجاج: وقوله: جَمِيعاً منصوب على الحال، أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام به. وأصل

_ (1) التغابن: 16. (2) في «اللسان» : الحبل الوصال.

[سورة آل عمران (3) : آية 104]

تَفَرَّقُوا: تتفرَّقوا، إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد، والمحذوفة هي الثانية، لأن الأولى دليلة على الاستقبال، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال، وهو مجزوم بالنهي، والأصل: ولا تتفرقون، فحذفت النون، لتدلّ على الجزم. قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، اختلفوا فيمن أُريد بهذا الكلام على قولين: أحدهما: أنهم مشركو العرب، كان القوي يستبيح الضعيف، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: الأوس والخزرج، كان بينهم حرب شديد، قاله ابن إسحاق. والأعداء: جمع عدو. قال ابن فارس: وهو من عَدَا: إِذا ظَلم. قوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ أي: صرتم. قال الزجاج: وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه، والعرب تقول: فلان يتوخى مسارّ فلان، أي: ما يسره. والشَّفا: الحرف. واعلم أن هذا مثل ضربه الله لإشرافهم على الهلاك، وقربهم من العذاب، كأنه قال: كنتم على حرف حفرةٍ من النَّار، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر. قال السّدّيّ: فأنقذكم منها محمّد صلّى الله عليه وسلّم. [سورة آل عمران (3) : آية 104] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ قال الزجاج: معنى الكلام: ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير، وتأمرون بالمعروف، ولكن «من» هاهنا تدخل لتحض المخاطبين من سائر الأجناس، وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين، ومثله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ معناه: اجتنبوا الأوثان، فانها رِجس. ومثله قول الشاعر «1» : أخو رغائبَ يُعطيها ويسألها ... يأبى الظُّلامَةَ منه النَّوفل الزفر وهو النوفل الزفر. لأنه وصفه بإعطاء الرغائب. والنوفل: الكثير الإعطاء للنوافل، والزفر: الذي يحمل الأثقال. ويدل على أن الكل أُمروا بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ قال: ويجوز أن يكون أمر منهم فرقة، لأن الدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه، وليس الخلق كلهم علماء ينوب بعض الناس فيه عن بعض، كالجهاد. فأما الخير، ففيه قولان: أحدهما: أنه الإسلام، قاله مقاتل. والثاني: العمل بطاعة الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وأما المعروف فهو ما يعرف كل عاقل صوابه، وضده المنكر، وقيل: المعروف ها هنا: طاعة الله، والمنكر: معصيته. [سورة آل عمران (3) : آية 105] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والحسن في آخرين. والثاني: أنهم الحروريّة «2» ، قاله أبو أمامة.

_ (1) هو أعشى باهلة- عامر بن الحارث- كما في «اللسان» مادة (نفل) . (2) حروراء: هي قرية بظاهر الكوفة وقيل على ميلين منها نزل بها الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنسبوا إليها- انظر معجم البلدان 2/ 245.

[سورة آل عمران (3) : آية 106]

[سورة آل عمران (3) : آية 106] يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عمران الجوني، وأبو نهيك: تبيض وتسود، بكسر التاء فيهما. وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء: تبياضُّ وتسوادُّ بألف، ومدة فيهما. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر. «فأمّا الذين اسوادّت وأمّا الذين ابياضّت» بألف ومدة. قال الزجاج: أخبر الله بوقت ذلك العذاب، فقال: يوم تبيض وجوه. قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنَّة، وتسود وجوه أهل البدعة. وفي الذين اسودت وجوههم، خمسة أقوال: أحدها: أنهم كل من كفر بالله بعد إيمانه يوم الميثاق، قاله أُبيّ بن كعب. والثاني: أنهم الحرورية، قاله أبو أُمامة، وأبو إسحاق الهمذاني. والثالث: اليهود، قاله ابن عباس. والرابع: أنهم المنافقون، قاله الحسن. والخامس: أنهم أهل البدع، قاله قتادة. قوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ قال الزجاج: معناه: فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول لأن في الكلام دليلاً عليه، كقوله تعالى: وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «1» ، أي ويقولان: ربنا تقبَّل منا. ومثله: مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ والمعنى: يقولون: سلام عليكم. والألف لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ. فإن قلنا: إنهم جميع الكفار، فإنهم آمنوا يوم الميثاق، ثم كفروا، وإن قلنا: إنهم الحرورية، وأهل البدع، فكفرهم بعد إيمانهم: مفارقة الجماعة في الاعتقاد، وإن قلنا: اليهود، فإنهم آمنوا بالنبي قبل مبعثه، ثم كفروا بعد ظهوره، وإن قلنا: المنافقون، فإنهم قالوا بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم. قوله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذابَ أصل الذوق إنما يكون بالفم، وهذا استعارة منه، فكأنهم جعلوا ما يُتَعَرَّف ويُعرف مذوقاً على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التطعم، تقول العرب: قد ذُقتُ من إكرام فلان ما يُرغبني في قصده، يعنون: عرفت، ويقولون ذق الفرس، فاعرف ما عنده. قال تميم بن مقبل: أو كاهْتِزَازِ رُديني تُذاوِقُه ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا وقال الآخر: وإنَّ الله ذاقَ حُلومَ قيس ... فلمَا راءَ خِفَّتَها قلاها يعنون بالذوق: العلم. وفي كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه، فقد ذاقه. [سورة آل عمران (3) : آية 107] وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ قال ابن عباس: هم المؤمنون. ورحمة الله: جنته، قال ابن قتيبة: وسمَّى الجنة رحمة، لأن دخولهم إياها كان برحمته. وقال الزجاج: معناه: في ثواب رحمته، قال: وأعاد ذكر «فيها» توكيدا. [سورة آل عمران (3) : آية 108] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108)

_ (1) سورة البقرة: 127.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 109 إلى 110]

قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ قال بعضهم: معناه: لا يعاقبهم بلا جُرمٍ. وقال الزجاج: أعلمنا أنه يعذب من عذبه باستحقاق. [سورة آل عمران (3) : الآيات 109 الى 110] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ سبب نزولها أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين، قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل: ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن أفضل منكم، فنزلت هذه الآية «1» ، هذا قول عكرمة ومقاتل. وفيمن أُريد بهذه الآية، أربعة أقوال: أحدها: أنهم أهل بدر. والثاني: أنهم المهاجرون. والثالث: جميع الصحابة. والرابع: جميع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس. (201) وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «إِنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على الله عز وجل» . قال الزجّاج: وأصل الخطاب لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعم سائر أمته. وفي قوله تعالى: كُنْتُمْ، قولان: أحدهما: أنها على أصلها، والمراد بها الماضي، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: كنتم في اللوح المحفوظ. والثاني: أن معناه: خلقتم وجدتم. ذكرهما المفسرون. والثالث: أن المعنى: كنتم مذ كنتم، ذكره ابن الأنباري. والثاني: أن معنى كنتم: أنتم، كقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «2» . ذكره الفراء، والزجاج. قال ابن قتيبة: وقد يأتي الفعل على بنية الماضي، وهو راهن، أو مستقبل، كقوله تعالى: كُنْتُمْ ومعناه: أنتم، ومثله: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى «3» ، أي: وإذ يقول. ومثله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ «4» ، أي: سيأتي، ومثله:

_ حديث صحيح بشواهده. إسناده حسن للاختلاف المعروف في بهز عن آبائه، وهي سلسلة الحسن، وللحديث شواهد، جد بهز هو معاوية بن حيدة رضي الله عنه. أخرجه الترمذي 3001 وابن ماجة 4287 وأحمد 4/ 447 والحاكم 4/ 84 والطبري 7619 والطبراني في «الكبير» 19/ 1023 و 1030 من حديث بهز بن حكيم. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن. وذكره الهيثمي في «المجمع» 18645 وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات. - وأخرج الطبري 7621 عن قتادة قال: «ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم وهو مسند ظهره إلى الكعبة: نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة، نحن آخرها وخيرها» اه. وللحديث شواهد يتقوى بها إن شاء الله تعالى. ويشهد له ما أخرجه أحمد 3/ 61 (11193) عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا وإن هذه الأمة توفّي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل» . وهو حديث حسن، وسيأتي.

[سورة آل عمران (3) : آية 111]

كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ «1» ، أي: من هو في المهد، ومثله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً «2» أي: والله سميع بصير، ومثله: فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ «3» أي: فنسوقه. وفي قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قولان: أحدهما: أن معناه: كنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: يأتون بهم في السلاسل حتى يدخلوهم في الإسلام. والثاني: أن معناه: كنتم خير الأمم التي أُخرجت. وفي قوله تعالى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ قولان: أحدهما: أنه شرط في الخيريَّة، وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطاب، ومجاهد، والزجاج. والثاني: أنه ثناء من الله عليهم، قاله الربيع بن أنس. قال أبو العالية: والمعروف: التوحيد. والمنكر: الشرك. قال ابن عباس: وأهل الكتاب: النّصارى واليهود. قوله تعالى: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ: مَنْ أسلم، كعبد الله بن سلام وأصحابه. وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ يعني: الكافرين، وهم الذين لم يسلموا. [سورة آل عمران (3) : آية 111] لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً قال مقاتل: سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا إلى عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فنزلت هذه الآية «4» . قال ابن عباس: والأذى قولهم: «عزير ابن الله» و «المسيح ابن الله» و «ثالث ثلاثة» . وقال الحسن: هو الكذب على الله، ودعاؤهم المسلمين إلى الضلالة. وقال الزجاج: هو البهت والتحريف. ومقصود الآية إعلام المسلمين بأنه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إياهم إلى الضلال، وإسماعهم الكفر، ثم وعدهم النَّصرَ عليهم في قوله: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ، وكذلك كان. [سورة آل عمران (3) : آية 112] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) قوله تعالى: أَيْنَ ما ثُقِفُوا معناه: أُدركوا وَوُجِدوا، وذلك أنهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد من أهل المكان، وأداء جزية. قال الحسن: أدركتهم هذه الأمة، وإنّ المجوس لتجبيهم الجزية. وأما الحبل، فقال ابن عباس، وعطاء، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد: الحبل: العهد، قال بعضهم: ومعنى الكلام: إلا بعهدٍ يأخذونه من المؤمنين بإذن الله. قال الزجاج: وما بعد الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ ليس من الأول، وإنما المعنى: أنهم أذلاء، إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه. وقد سبق في «البقرة» تفسير باقي الآية.

_ (1) سورة مريم: 29. (2) سورة النساء: 34. (3) سورة فاطر: 9. (4) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو متروك متهم بالكذب، فخبره لا شيء.

[سورة آل عمران (3) : آية 113]

[سورة آل عمران (3) : آية 113] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً، في سبب نزولها قولان: (202) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، احتبس عن صلاة العشاء ليلةً حتى ذهب ثلث الليل، ثم جاء فبشرهم، فقال: «إِنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب» ، فنزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه لما أسلم ابن سلاَّم في جماعة من اليهود، قال أحبارهم: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، ومقاتل. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: ليس أمة محمد واليهود سواء، هذا قول ابن مسعود، والسدي. والثاني: ليس اليهود كلهم سواء، بل فيهم من هو قائم بأمر الله، هذا قول ابن عباس، وقتادة. وقال الزجاج: الوقف التام لَيْسُوا سَواءً أي: أهل الكتاب متساوين. وفي معنى «قائمة» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الثابتة على أمر الله، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها العادلة، قاله الحسن، ومجاهد، وابن جريج. والثالث: أنها المستقيمة، قاله أبو عبيد، والزجاج. قال الفراء: ذكر أمة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبني على أخرى، لأن «سواءً» لا بد لها من اثنين، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه، قال أبو ذؤيب: عصيت إِليها القلب إني لأمرِهِ ... سميعٌ فما أدري أرشد طلابها؟! ولم يقل: أم لا، ولا أم غيّ، لأن الكلام معروف المعنى. وقال آخر «1» : وما أدري إذا يمَّمت أرضاً ... أُريدُ الخَيْرَ أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني ومثله قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً ولم يذكر ضده، لأن في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «2» ، دليلاً على ما أضمر من ذلك، وقد رد هذا القول الزجاج، فقال: قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى: كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ فأعلم الله أن منهم أمة قائمة. فما الحاجة إلى أن يقال: وأمة غير قائمة؟ وإنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم، وهو الكفر والمشاقة، فذكر من كان منهم مبايناً لهؤلاء. قال: وآناءَ اللَّيْلِ ساعاته، وواحد

_ حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 93 وأحمد 1/ 396 وأبو يعلى 5306 وابن حبان 1530 والبزار 375 «كشف» والواحدي في «أسباب النزول» 238 من حديث ابن مسعود، وإسناده حسن لأجل عاصم بن أبي النجود، وحسنه السيوطي في «الدر» 2/ 65 وكما نقل الشوكاني في «فتح القدير» 1/ 430 ووافقه، وله شاهد من حديث عائشة، أخرجه البخاري 566 ومسلم 638. وشاهد آخر من حديث ابن عمر أخرجه البخاري 564 ومسلم 639 وليس فيهما نزول الآية. فالحديث حسن بتمامه، وأصله صحيح بشواهده، والله أعلم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 114 إلى 115]

الآناء: إنى. قال ابن فارس: يقال: مضى من الليل إنى وإنيان، والجمع: الآناء. واختلف المفسرون: هل هذه الآناء معينة من الليل أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها معينة، ثم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة العشاء، قاله ابن مسعود، ومجاهد. والثاني: أنها ما بين المغرب والعشاء، رواه سفيان عن منصور. والثالث: جوف الليل، قاله السدي. والثاني: أنها ساعات الليل من غير تعيين، قاله قتادة في آخرين. وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَسْجُدُونَ، قولان: أحدهما: أنه كناية عن الصلاة، قاله مقاتل، والفراء، والزجاج. والثاني: أنه السجود المعروف، وليس المراد أنهم يتلون في حال السجود، ولكنهم جمعوا الأمرين، التلاوة والسّجود. [سورة آل عمران (3) : الآيات 114 الى 115] يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) قوله تعالى: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: تفعلوا، وتكفروه، بالتاء في الموضعين على الخطاب، لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. قال قتادة: فلن تُكفروه: لن يضل عنكم. وقرأ قوم، منهم: حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وعبد الوارث عن أبي عمرو: يفعلوا، ويكفروه، بالياء فيهما، إخباراً عن الأمة القائمة. وبقية أصحاب أبي عمرو يخيّرون بين الياء والتاء. [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) قوله تعالى: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا اختلفوا فيمن أنزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها في نفقات الكفّار، وصدقاتهم، قاله مجاهد. الثاني: في نفقة سفلة اليهود على علمائهم، قاله مقاتل. والثالث: في نفقة المشركين يوم بدر. والرابع: في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين، ذكر هذين القولين أبو الحسن الماوردي. وقال السدي: إنما ضرب الإنفاق مثلاً لأعمالهم في شركهم. وفي الصرّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه البرد، قاله الأكثرون. والثاني: أنه النّار، قاله ابن عباس، قال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها صرّ لتصويتها عند الالتهاب. والثالث: أن الصرّ: التصويت، والحركة من الحصى والحجارة، ومنه: صرير النعل، ذكره ابن الأنباري. والحرث: الزرع. وفي معنى لَمُوا أَنْفُسَهُمْ قولان: أحدهما: ظلموها بالكفر، والمعاصي، ومنع حق الله تعالى. والثاني: بأن زرعوا في غير وقت الزّرع. قوله تعالى: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ قال ابن عباس: أي: ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه، وإنما أُنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حق الله منه، وهذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في الآخرة.

[سورة آل عمران (3) : آية 118]

وحدّثنا عن ثعلب، قال: بدأ الله عزّ وجلّ هذه الآية بالريح، والمعنى: على الحرث، كقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ «1» وإنما المعنى على المنعوق به. وقريب منه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ «2» فخبر عن «الأزواج» وترك «الذين» ، كأنه قال: أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فبدأ بالذين، ومراده: بعد الأزواج. وأنشد: لعلِّيَ إن مالت بي الرّيح ميلة ... عن ابن أبي ديَّان أن يتندَّما فخبر عن ابن أبي ديان، وترك نفسه، وإنما أراد: لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي الريح ميلةً. وقد يبدأ بالشيء، والمراد التأخير، كقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «3» والمعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة يوم القيامة. [سورة آل عمران (3) : آية 118] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ قال ابن عباس، ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصِلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة، والصداقة، والجوار، والرضاع، والحلف، فنهوا عن مباطنتهم. قال الزجاج: البطانة: الدُّخلاء الذين يستبطنون أمره وينبسط إليهم، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: مُداخل له، مؤانس. ومعنى لا يألونكم: لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يُضرُّكم. قوله تعالى: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي: ودُّوا عَنتكم، وهو ما نزل بكم من مكروه وضرّ، ويقال: فلان يعنت فلاناً، أي: يقصد إدخال المشقة والأذى عليه، وأصل هذا من قولهم: أكمةٌ عنوتٌ، إذا كانت طويلة، شاقة المسلك. قال ابن قتيبة: ومعنى مِنْ دُونِكُمْ أي: من غير المسلمين. والخبال: الشر. قوله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ قال ابن عباس: أي: قد ظهر لكم منهم الكذب، والشتم، ومخالفة دينكم، قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة «4» ، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب، وروي عن عمر أنه بلغه أنَّ أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العزِّ بعد إذ أذلّهم الله. [سورة آل عمران (3) : آية 119] ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)

_ (1) سورة البقرة: 171. (2) سورة البقرة: 234. (3) سورة الزمر: 60. (4) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 398: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين، ففي هذا الأثر مع هذه الآية، دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب.

[سورة آل عمران (3) : آية 120]

قوله تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ قال ابن عباس: كان عامة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم، فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود، فنزلت هذه الآية. والخطاب بهذه الآية للمؤمنين. قال ابن قتيبة: ومعنى الكلام: ها أنتم يا هؤلاء. فأما «تحبونهم» ، فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم. وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال: أحدها: أنها الميل إليهم بالطباع، لموضع القرابة والرضاع والحلف، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس. والثاني: أنها بمعنى الرحمة لهم، لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشديد، وهذا المعنى منقول عن قتادة. والثالث: أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان، روي عن أبي العالية. والرابع: أنها بمعنى الإسلام لهم، وهم يريدون المسلمين على الكفر، وهذا قول المفضّل، والزجّاج. والكتاب: بمعنى الكتاب، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا هذه حالة المنافقين، وقال مقاتل: هم اليهود. والأنامل: أطراف الأصابع. قال ابن عباس: والغيظ: الحنق عليكم، وقيل: هذا من مجاز الكلام، ضُرِب مثلاً لما حلَّ بهم، وإن لم يكن هناك عض على أنملة، ومعنى مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ: ابقوا به حتى تموتوا، وإنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئماً. قال ابن جرير: هذا أمر من الله تعالى لنبيه أن يدعو عليهم بأن يهلكم الله كمدا من الغيظ. [سورة آل عمران (3) : آية 120] إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) قوله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ قال قتادة: وهي الألفة والجماعة. والسيئة: الفرقة والاختلاف، وإصابة طرف من المسلمين. وقال ابن قتيبة: الحسنة: النعمة. والسيئة: المصيبة. قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا فيه قولان: أحدهما: على أذاهم، قاله ابن عباس. والثاني: على أمر الله، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى: وَتَتَّقُوا قولان: أحدهما: الشرك، قاله ابن عباس. والثاني: المعاصي، قاله مقاتل. قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «لا يضِركم» بكسر الضاد، وتخفيف الراء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لا يضركم» بضم الضاد وتشديد الراء. قال الزجاج: الضر والضير بمعنى واحد. فأما الكيد فقال ابن قتيبة: هو المكر. قال أبو سليمان الخطابي: والمحيط: الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وأحاط علمه بالأشياء كلّها. [سورة آل عمران (3) : آية 121] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ قال المفسرون: في هذا الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ولقد نصركم الله ببدر، وإذ غدوت من أهلك. وقال ابن قتيبة: تبوّئ، من قولك: بوَّأتُك منزلاً: إذا أفدتك إياه، أو أسكنتكه. ومعنى مقاعد للقتال: المعسكر والمصافُّ. واختلفوا في أي يوم كان ذلك، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم أُحد، قاله عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، والزهري، وقتادة والسدي، والربيع وابن إسحاق، وذلك أنه خرج يوم أُحد من بيت عائشة إلى أُحد، فجعل يصف أصحابه للقتال. والثاني: أنه يوم الأحزاب، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: يوم بدر نقل عن

[سورة آل عمران (3) : آية 122]

الحسن أيضاً. قال ابن جرير: والأول أصح، لقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أُحد. قوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قال أبو سليمان الدمشقي: سميع لمشاورتك إياهم في الخروج، ومرادهم للخروج عليم بما يخفون من حبّ الشهادة. [سورة آل عمران (3) : آية 122] إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ قال الزجاج: كانت التبوئة في ذلك الوقت. وتفشلا: تجبنا، وتخورا. وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، أي: ناصرهما. قال جابر بن عبد الله: (203) نحن هم بنو سلمة، وبنو حارثة، وما نحبُّ أن لو لم يكن ذلك لقول الله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. وقال الحسن: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله. وقيل: لما رجع عبد الله بن أُبي في أصحابه يوم أُحد، همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله. فصل: فأما التوكل، فقال ابن عباس: هو الثقة بالله. وقال ابن فارس: هو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك، ويقال: فلان وُكَلَهٌ تُكَلَةٌ، أي: عاجز، يكل أمره إلى غيره. وقال غيره: هو تفعل من الوكالة، يقال: وكلت أمري إلى فلان فتوكل به، أي: ضمنه، وقام به، وأنا متوكل عليه. وقال بعضهم: هو تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره. [سورة آل عمران (3) : آية 123] وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) قوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ في تسمية بدر قولان: أحدهما: أنها بئر لرجل اسمه بدر، قاله الشعبي. والثاني: أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه، ذكره الواقدي عن أشياخه. قوله تعالى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أي لقلة العَدد والعُدد لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتكونوا من الشّاكرين. [سورة آل عمران (3) : آية 124] إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ قال الشعبي: قال كُرْز بن جابر لمشركي مكة: إني أمدكم بقومي، فاشتد ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية. وفي أي يوم كان ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يوم بدر، قاله ابن عباس، وعكرمة ومجاهد، وقتادة. والثاني: يوم أُحد، وعدهم فيه بالمدد إن صبروا، فلما لم يصبروا لم يُمدُّوا، روي عن عكرمة، والضحاك، ومقاتل. والأول أصح. والكفاية: مقدار سد الخلة. والاكتفاء: الاقتصار على ذلك. والإمداد: إعطاء الشيء بعد الشيء. قوله تعالى: مُنْزَلِينَ قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي، وشددها ابن عامر.

_ صحيح. أخرجه البخاري 4558 ومسلم 2505 والطبري 7727 من حديث جابر. تنبيه: في هذا ردّ على الرافضة الذين اختصوا عليا وحده بالولاية. والآية نزلت في الأنصار بالاتفاق، وهؤلاء كلهم أولياء الله، والله وليهم، إنه نعم المولى ونعم النصير.

[سورة آل عمران (3) : آية 125]

[سورة آل عمران (3) : آية 125] بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) قوله تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا فيه قولان: أحدهما: أن معناه: من وجههم وسفرهم هذا، قاله ابن عباس والحسن، وقتادة ومقاتل، والزجاج. والثاني: من غضبهم هذا، قاله عكرمة، ومجاهد، والضحاك في آخرين. قال ابن جرير: من قال: من وجههم، أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر، ومن قال: من غضبهم أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر. وأصل الفور ابتداء الأمر يؤخذ فيه، يقال: فارت القدر: إذ ابتداء ما فيها بالغليان، ثم اتصل. وقال ابن فارس: الفور: الغليان، يقال: فارت القدر تفور، وفار غضبه: إذا جاش، ويقولون: فعله من فوره، أي: قبل أن يسكن. وفي يوم فورهم قولان: أحدهما: أنه يوم بدر، قاله قتادة. والثاني: يوم أُحد، قال مجاهد، والضحاك: كانوا غضبوا يوم أُحد ليوم بدر مما لقوا. قوله تعالى: مُسَوِّمِينَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم بكسر الواو، والباقون بفتحها، فمن فتح الواو، أراد أن الله سوَّمها، ومن كسرها، أراد أن الملائكة سومت أنفسها. وقال الأخفش: سوّمت خيلها. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال يوم بدر: (204) «سوموا فإن الملائكة قد سومت» ونسب الفعل إليها، فهذا دليل الكسر. قال ابن قتيبة: ومعنى مسومين: معلمين بعلامة الحرب، وهو من السّيماء، والسومة: العلامة التي يعلم بها الفارس نفسه. قال عليّ عليه السلام: وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر، الصوف الأبيض في أذنابها ونواصيها. وقال أبو هريرة: العهن الأحمر. وقال مجاهد: كانت أذناب خيولهم مجزوزة، وفيها العهن. وقال هشام بن عروة: كانت الملائكة على خيل بلق، وعليهم عمائم صفر. (205) وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال: حضرت أنا وابن عم لي بدراً، ونحن على شركنا، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا فيها حمحمة الخيل، وسمعنا فارساً يقول: أقدم حيزوم، فأما صاحبي فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم انتعشت. (206) وقال أبو داود المازني: إني لأتبع يوم بدر رجلاً من المشركين لأضربه، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن غيري قد قتله.

_ ضعيف. أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 258 والطبري 7775 عن عمير بن إسحاق قال: إن أول ما كان الصوف يومئذ- يعني بدر- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسوّموا فإن الملائكة قد تسوّمت» ، وهذا مرسل والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث. ضعيف. أخرجه الطبري 7748 من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أنه حدّث عن ابن عباس ... فذكره. وإسناده ضعيف، لجهالة المحدث لعبد الله. صحيح. أخرجه الطبري 7750 من طريق ابن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن رجال من بني مازن عن أبي داود المازني به. وإسناده ضعيف، في الإسناد من لم يسمّ. وذكره ابن هشام في «السيرة» 2/ 274 وكذا الحافظ في «الإصابة» 4/ 58. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه مسلم 1763 بهذا السياق في أثناء حديث طويل، فالخبر صحيح إن شاء الله.

[سورة آل عمران (3) : آية 126]

وفي عدد الملائكة يوم بدر خمسة أقوال: أحدها: خمسة آلاف، قاله الحسن. (207) وروى [محمد بن] «1» جبير بن مطعم عن عليّ عليه السلام قال: بينا أنا أمتح «2» من قليب بدر، [إذ] جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة، وكان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله، وكنت عن يساره، وهزم الله أعداءه. والثاني: أربعة آلاف، قاله الشعبي. والثالث: ألف، قاله مجاهد. والرابع: تسعة آلاف، ذكره الزجاج. والخامس: ثمانية آلاف، ذكره بعض المفسرين. [سورة آل عمران (3) : آية 126] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) قوله تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يعني المدد إِلَّا بُشْرى، أي: إلا بشارة تطيِّب أنفسكم، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ، فتسكن في الحرب، ولا تجزع. والأكثرون على أن هذا المدد يوم بدر. وقال مجاهد: يوم أُحد، وروي عنه ما يدل على أن الله أمدّهم بالملائكة في اليومين جميعاً، غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر. قوله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: ليس بكثرة العَدد والعدد. [سورة آل عمران (3) : آية 127] لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً معناه: نصركم ببدر ليقطع طرفاً. قال الزجاج: أي: ليقتل قطعةً منهم. وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان: أحدهما: في يوم بدر، قاله الحسن، وقتادة، والجمهور. والثاني: يوم أُحد، قتل منهم ثمانية وعشرون، قاله السدي. قوله تعالى: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فيه سبعة أقوال: أحدها: أن معناه: يهزمهم، قاله ابن عباس، والزجاج. والثاني: يخزيهم، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: يصرعهم، قاله أبو عبيد، واليزيدي. وقال الخليل: هو الصرع على الوجه. والرابع: يهلكهم، قاله أبو عبيدة. والخامس: يلعنهم، قاله السدي. والسادس: يُظفِّر عليهم، قاله المبرّد. والسابع: يغيظهم، قاله النّصر بن شميل واختاره ابن قتيبة. وقال ابن قتيبة: أهل النظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال، كأن الأصل فيه: يكبدهم، أي: يصيبهم في

_ ضعيف. أخرجه أبو يعلى 489 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 55 من طريق موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن علي، وإسناده ضعيف، أبو الحويرث هو عبد الرحمن بن معاوية وصفه الحافظ بأنه سيء الحفظ، ثم هو منقطع بين محمد بن جبير وعلي. ومع ذلك قال الهيثمي في «المجمع» 6/ 76: رجاله ثقات؟!.

[سورة آل عمران (3) : آية 128]

أكبادهم بالحزن والغيظ، وشدة العداوة، ومنه يقال: فلان قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، والعرب تقول: العدو: أسود الكبد، قال الأعشى: فما أُجْشِمْتُ من إِتيان قوم ... هم الأعداء والأكباد سود كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة، اسودت، ومنه يقال للعدو: كاشح، لأنه يخبأ العداوة في كشحه. والكشح: الخاصرة، وإنما يريدون الكبد. لأن الكبد هناك. قال الشاعر: وأُضمِر أضغاناً عليَّ كشوحُها «1» والتاء والدال متقاربتا المخرج، والعرب تدغم إحداهما في الأخرى، وتبدل إحداهما من الأخرى، كقولهم: هرت الثوب وهرده: إذا خرقه، وكذلك: كبت العدو، وكبده، ومثله كثير. قوله تعالى: فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ قال الزجاج: الخائب: الذي لم ينل ما أمَّل. وقال غيره: الفرق بين الخيبة واليأس، أن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل، واليأس قد يكون من غير أمل. [سورة آل عمران (3) : آية 128] لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ في سبب نزولها خمسة أقوال: (208) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كسرت رباعيته يوم أُحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربّهم عزّ وجلّ؟!» فنزلت هذه الآية. أخرجه مسلم في أفراده من حديث أنس. وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والرّبيع. (209) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لعن قوماً من المنافقين، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر. والثالث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم همَّ بسب الذين انهزموا يوم أُحد، فنزلت هذه للآية، فكفَّ عن ذلك، نقل عن ابن مسعود، وابن عباس «2» .

_ حديث صحيح. أخرجه مسلم 1791 وأحمد 3/ 253 و 288 وابن حبان 6575 والواحدي في «أسباب النزول» 244 والبيهقي في «الدلائل» من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس. وأخرجه الترمذي 3002 و 3003 وابن ماجة 4027 وأحمد 3/ 99 وابن حبان 6574 والواحدي 242 والبغوي 3642 والطبري 7805 و 7806 و 7807 من طريق حميد الطويل عن أنس. ساقه المصنف بمعناه، وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري 4069 و 4559 و 7346 والترمذي 3004 و 3005 وأحمد 2/ 93 وأبو يعلى 5547 وابن خزيمة 622 وعبد الرزاق 4027 وابن حبان 1987 والنسائي في «التفسير» 95 و 96 والبيهقي 2/ 178 من حديث ابن عمر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو على أربعة نفر فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ فهداهم الله للإسلام. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح يستغرب من هذا الوجه من حديث نافع عن ابن عمر اه. وأخرجه الطبري 7817 أيضا من هذا الوجه. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 552 بتخريجنا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 129 إلى 130]

(210) والرابع: أن سبعين من أهل الصفة، خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم، عصية وذكوان، فقتلوا جميعا، فدعا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليهم أربعين يوماً، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن سليمان. (211) والخامس: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما رأى حمزة ممثلاً به، قال: «لأُمثلن بكذا وكذا منهم» فنزلت هذه الآية، قاله الواقدي. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء. والثاني: ليس لك من النصر والهزيمة شيء. وقيل: إن «لك» بمعنى «إليك» . قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قال الفراء: في نصبه وجهان إن شئت جعلته معطوفاً على قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً وإن شئت جعلت نصبه على مذهب «حتى» كما تقول: لا أزال معك حتى تعطيني. ولما نفى الأمر عن نبيه، أثبت أن جميع الأمور إليه بقوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 129 الى 130] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)

_ ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك، وكذبه غير واحد. وله شاهد من مرسل الزهري ولكن مراسيل الزهري واهية، أرسله الزهري في أثناء حديثه. - ويشهد له ما أرسله الزهري عقب حديث صحيح. وهو ما أخرج البخاري 4560 و 6200 ومسلم 675 والنسائي 2/ 201 والشافعي 1/ 86 و 87 وأحمد 2/ 255 وابن أبي شيبة 2/ 316 و 317 والطحاوي في «المعاني» 1/ 241 وأبو عوانة 2/ 280 و 283 وابن حبان 1972 وابن خزيمة 619 والدارمي 1/ 374 والواحدي في «أسباب النزول» 246 والبيهقي 2/ 197 و 244 من حديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر، ويرفع رأسه: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. ثم يقول وهو قائم: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلا، وذكوان وعصيّة عصت الله ورسوله. ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ. - وقول «ثم بلغنا» هو من مرسل الزهري كما بينه الحافظ في «الفتح» 8/ 71 فالخبر ضعيف. وفي الباب من حديث أنس قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية يقال لهم: القرّاء فأصيبوا، فما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وجد على شيء ما وجد عليهم فقنت شهرا في صلاة الفجر ويقول: إن عصية عصوا الله ورسوله» . أخرجه البخاري 6394 ومسلم 677. - الخلاصة: خبر عصية وذكوان ورعل صحيح، لكن كون الآية نزلت فيهم ضعيف. وقال الحافظ في «الفتح» 8/ 227: قول الزهري ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت ... هذا البلاغ لا يصح، لأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أحد، ونزول الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ... كان في قصة أحد، فكيف يتأخر السبب عن النزول؟!. واه بمرة عزاه المصنف للواقدي واسمه محمد بن عمر، وهو متروك متهم بالكذب، فخبره لا شيء، والصواب في ذلك ما رواه مسلم وكذا البخاري، وأما الأقوال الثلاثة الأخيرة فليست بشيء. - وخبر حمزة سيأتي في سورة النحل عند الآية: 126.

[سورة آل عمران (3) : آية 131]

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في ربا الجاهلية. قال سعيد بن جبير: كان الرجل يكون له على الرجل المال، فاذا حلّ الأجل، فيقول: أخّر عني، وأزيدك على مالك، فتلك الأضعاف المضاعفة. [سورة آل عمران (3) : آية 131] وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) قوله تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ قال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين، لئلا يستحلوا الربا. قال الزجاج: والمعنى: اتقوا أن تحلّوا ما حرّم الله فتكفّروا. [سورة آل عمران (3) : الآيات 132 الى 133] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) قوله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كلهم أثبت الواو في وَسارِعُوا إلا نافعاً، وابن عامر، فإنهما لم يذكراها. وقال أبو علي: وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام، فمن قرأ بالواو، عطف وَسارِعُوا على وَأَطِيعُوا ومن حذفها، فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى، فاستغنت عن العطف. ومعنى الآية: بادروا إلى ما يوجب المغفرة. وفي المراد بموجب المغفرة هاهنا عشرة أقوال: أحدها: أنه الإخلاص، قاله عثمان بن عفّان رضي الله عنه. والثاني: أداء الفرائض، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثالث: الإسلام، قاله ابن عباس. والرابع: التكبيرة الأولى من الصلاة، قاله أنس بن مالك. والخامس: الطاعة، قاله سعيد بن جبير. والسادس: التّوبة، قاله عكرمة. والسابع: الهجرة، قاله أبو العالية. والثامن: الجهاد، قاله الضحاك. والتاسع: الصلوات الخمس، قاله يمان. والعاشر: الأعمال الصالحة، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قال ابن قتيبة: أراد بالعرض السعة، ولم يرد العرض الذي يخالف الطول، والعرب تقول: بلاد عريضة، أي: واسعة. (212) وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للمنهزمين يوم أحد: «لقد ذهبتم فيها عريضة» . قال الشاعر «1» : كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كِفَّةُ حابل قال: وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطول، وإذا عرض الشيء اتسع، وإذا لم يعرض ضاق ودق. وقال سعيد بن جبير: لو ألصق بعضهن إلى بعض كانت الجنة في عرضهنّ.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 8102 عن ابن إسحاق به، وهذا مرسل بل معضل، فهو ضعيف. وأخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق كما في «الدر» 2/ 157.

[سورة آل عمران (3) : آية 134]

[سورة آل عمران (3) : آية 134] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ قال ابن عباس: في العسر واليسر، ومعنى الآية: أنهم رغبوا في معاملة الله، فلم يبطرهم الرخاء فينسيهم، ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا. قوله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال الزجاج: يقال: كظمت الغيظ: إذا أمسكت على ما في نفسك منه، وكظم البعير على جرَّته: إذا رددها في حلقه. وقال ابن الأنباري: الأصل في الكظم: الإمساك على غيظ وغم. (213) وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى» . قوله تعالى: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ فيه قولان: أحدهما: أنه العفو عن المماليك، قاله ابن عباس. والثاني: أنه على إطلاقه، فهم يعفون عمن ظلمهم، قاله زيد بن أسلم، ومقاتل. [سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136] وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (214) أحدها: أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمراً فضمّها، وقبّلها، ثم ندم، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. (215) والثاني: أن أنصارياً وثقفياً آخى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بينهما، فخرج الثّقفيّ مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بعض مغازيه، فكان الأنصاري يتعاهد أهل الثقفي، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فدخل ولم يستأذن فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبّله ثم ندم، فأدبر راجعا،

_ جيد. أخرجه ابن ماجة 4189 والبيهقي في «الشعب» 8305 و 8307 وأحمد 2/ 128 من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف، فيه عنعنة الحسن، وهو مدلس. قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات اه. وورد من وجه آخر، أخرجه أحمد 2/ 128 من طريق شجاع بن الوليد عن عمر بن محمد بن سالم عن ابن عمر، وإسناده حسن، رجاله ثقات. وفي الباب حديث ابن عباس، أخرجه أحمد 1/ 327. وصدره «من أنظر معسرا، أو وضع له، وقاه الله فيح جهنم، ... » . وله شاهد آخر من حديث معاذ بن أنس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور ما شاء» أخرجه أبو داود 4777 والترمذي 2022 و 2495 وابن ماجة 4186 وأبو يعلى 1497 وأبو نعيم في الحلية 8/ 47- 48 وأحمد 3/ 440 و 438. لم أره مسندا، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 247 عن ابن عباس في رواية عطاء بدون إسناد ولا يصح سبب النزول هذا، وقد ورد خبر نبهان التمار. انظر سورة هود آية: 114. باطل. ذكره الواحدي 248 عن ابن عباس من طريق الكلبي وهو باطل، الكلبي متروك كذاب، وأبو صالح لم يلق ابن عباس. ومقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير كثيرة.

[سورة آل عمران (3) : آية 137]

فقالت: سبحان الله خنت أمانتك، وعصيت ربك ولم تصب حاجتك، قال: فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله من ذنبه. فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه، فندم على صنيعه، فوافقه ساجداً يقول: ذنبي ذنبي، قد خنت أخي. فقال له: يا فلان انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاسأله عن ذنبك، لعل الله أن يجعل لك منه مخرجاً، فرجع إلى المدينة، فنزلت هذه الآية بتوبته، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذكره مقاتل. (216) والثالث: أن المسلمين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كان أحدهم إذا أذنب، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه، فنزلت هذه الآية، فقال النبيّ عليه السلام: «ألا أخبركم بخير من ذلك» ؟ فقرأ هذه الآية، والتي قبلها، هذا قول عطاء. واختلفوا هل هذه الآية نعت للمنفقين في السراء والضراء؟ أم لقوم آخرين؟ على قولين: أحدهما: أنها نعت لهم، قاله الحسن. والثاني: أنها لصنف آخر، قاله أبو سليمان الدمشقي. والفاحشة: القبيحة، وكل شيء جاوز قدره فهو فاحش. وفي المراد بها هاهنا قولان: أحدهما: أنها الزنى، قاله جابر بن زيد، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنها كل كبيرة، قاله جماعة من المفسرين. واختلفوا في «الظلم» المذكور بعدها، فلم يفرق قوم بينه وبين الفاحشة، وقالوا: الظلم للنفس فاحشة أيضاً، وفرق آخرون، فقالوا: هو الصغائر. وفي قوله تعالى: ذَكَرُوا اللَّهَ قولان: أحدهما: أنه ذكر اللسان، وهو الاستغفار، قاله ابن مسعود، وعطاء في آخرين. والثاني: أنه ذكر القلب، ثم فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه ذكر العرض على الله، قاله الضحاك. والثاني: أنه ذكر السؤال عنه يوم القيامة، قاله الواقدي. والثالث: ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا، قاله ابن جرير. والرابع: ذكر نهي الله لهم عنه. والخامس: ذكر غفران الله ذكر القولين أبو سليمان الدمشقي. فأما الإصرار، فقال الزجاج: هو الإقامة على الشيء. وقال ابن فارس: هو العزم على الشيء والثبات عليه. وللمفسرين في المراد بالإصرار ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مواقعة الذنب عند الاهتمام به. وهذا مذهب مجاهد. والثاني: أنه الثبوت عليه من غير استغفار، وهذا مذهب قتادة، وابن إسحاق. والثالث: أنه ترك الاستغفار منه، وهذا مذهب السدي. وفي معنى وَهُمْ يَعْلَمُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: وهم يعلمون أن الإصرار يضر، وأن تركه أولى من التمادي، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: يعلمون أن الله يتوب على من تاب، قاله مجاهد، وأبو عمارة. والثالث: يعلمون أنهم قد أذنبوا، قاله السّدّيّ، ومقاتل. [سورة آل عمران (3) : آية 137] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ السنن: جمع سنة، وهي الطريقة. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع، فانظروا ماذا صنعنا بالمكذبين منهم، وهذا قول

_ ضعيف. أخرجه الواحدي 249 في «الأسباب» عن عطاء مرسلا، فهو حديث ضعيف.

[سورة آل عمران (3) : آية 138]

ابن عباس. والثاني: قد مضت قبلكم سنن الله في إهلاك من كذب من الأمم، فاعتبروا بهم، وهذا قول مجاهد. وفي معنى فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ قولان: أحدهما: أنه السير في السفر. قال الزجاج: إذا سرتم في أسفاركم، عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم. والثاني: أنه التفكر. ومعنى: فانظروا: اعتبروا، والعاقبة: آخر الأمر. [سورة آل عمران (3) : آية 138] هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) قوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ قال سعيد بن جبير: هذه الآية أول ما نزل من «آل عمران» . وفي المشار إليه ب «هذا» قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنه شرح أخبار الأمم السالفة، قاله ابن اسحاق. والبيان: الكشف عن الشيء، بان الشيء: اتضح، وفلانٌ أبين من فلان، اي: أفصح. قال الشعبي: هذا بيان للناس من العمى، وهدىً من الضلالة، وموعظة من الجهل. [سورة آل عمران (3) : آية 139] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا. (217) سبب نزولها أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما انهزموا يوم أُحد، أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوَّةَ لنا إِلا بك» فنزلت هذه الآيات، قاله ابن عباس. قال ابن عباس، ومجاهد: وَلا تَهِنُوا أي: ولا تضعفوا. وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه قتل إخوانهم من المسلمين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه هزيمتهم يوم أُحد، وقتلهم، قاله مقاتل. والثالث: أنه ما أصاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من شجه، وكسر رباعيته، ذكره الماوردي. والرابع: أنه ما فات من الغنيمة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، قال ابن عباس: يقول: أنتم الغالبون وآخر الأمر لكم. [سورة آل عمران (3) : آية 140] إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) قوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ. قال ابن عباس: (218) أصابهم يوم أحد قرح، فشكوا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما لقوا، فنزلت هذه الآية.

_ ضعيف بهذا اللفظ، والمرفوع منه صحيح، دون ذكر نزول الآية. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 250 عن ابن عباس بهذا اللفظ وبدون إسناد، وليس بصحيح، فإن المشهور في الأحاديث الصحيحة أن خالدا ومن معه قد علوا الجبل وكروا على المسلمين، وكان ما كان. وأخرجه الطبري 7891 عن ابن عباس مختصرا وفيه عطية العوفي وهو ضعيف وعنه مجاهيل، وهذا خبر منكر، وسيأتي في الصحيح ما يرده. - وله شاهد أخرجه الطبري 7889 عن ابن جريج مرسلا، ومراسيل ابن جريج واهية جدا. ضعيف. أخرجه الطبري 7899 عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه، وفيه حفص بن عمر ضعيف. وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج كما في «الدر المنثور» 2/ 141 عن ابن عباس قال: نام المسلمون وبهم الكلوم- يعني يوم أحد- قال عكرمة: وفيهم أنزلت الآية. والآية إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ النساء: 104. وهو ضعيف، ابن جريج عن عكرمة منقطع.

[سورة آل عمران (3) : آية 141]

فأما المس، فهو الإصابة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع «قرح» بفتح القاف. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم «قرح» بضم القاف. واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد: القرح بالفتح: الجراح، والقتل. والقُرح بالضم: ألم الجراح. وقال الزجاج: هما في اللغة بمعنى واحد، ومعناه: الجراح وألمها، قال: ومعنى نداولها: أي: نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون، فأما إذا أطاعوا، فهم منصورون، قال: ومعنى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ أي: ليعلم واقعاً منهم، لأنه عالم قبل ذلك، وإنما يجازي على ما وقع. وقال ابن عباس: معنى العلم هاهنا: الرؤية. قوله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ قال أبو الضحى: نزلت في قتلى أُحد، قال ابن جريج: كان المسلمون يقولون: ربنا أرنا يوماً كيوم بدر، نلتمس فيه الشهادة، فاتخذ منهم شهداء يوم أحد. قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: المنافقون. وقال غيره: هم الذين انصرفوا يوم أحد مع ابن أبيّ المنافق. [سورة آل عمران (3) : آية 141] وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا قال الزجاج: معنى الكلام: جعل الله الأيام مداولة بين الناس، ليمحص المؤمنين، ويمحق الكافرين. وفي التمحيص قولان: أحدهما: أنه الابتلاء والاختبار، وأنشدوا «1» : رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففاً ... فكشَّفه التمحيص حتى بدا ليا وهذا قول الحسن، ومجاهد، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة في آخرين. والثاني: أنه التنقية، والتخليص، وهو قول الزجاج، وحكي عن المبرّد، قال: يقال: محص الحبل محصاً: إذا ذهب منه الوبر حتى يتخلّص، ومعنى قوله: اللهم محص عنا ذنوبنا: أذهبها عنا. وذكر الزجّاج عن الخليل أن المحص: التخليص، يقال: محصت الشيءُ أمحصه محصاً: إذا أخلصته. فعلى القول الأول التمحيص: ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم، وعلى الثاني: هو تنقيتهم من الذنوب بذلك. قال الفراء: معنى الآية: وليمحص الله بالذنوب عن الذين آمنوا. قوله تعالى: وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ فيه أربعة أقوال: أحدها: يهلكهم، قاله ابن عباس. والثاني: يذهب دعوتهم، قاله مقاتل. والثالث: ينقصهم ويقللهم، قاله الفراء. والرابع: يحبط أعمالهم، ذكره الزجّاج. [سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 143] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

_ (1) البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر كما في «الكامل» 1/ 183.

[سورة آل عمران (3) : آية 144]

قوله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ قال ابن عباس: لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة، رغبوا في ذلك، فتمنوا قتالاً يستشهدون فيه، فيلحقون بإخوانهم، فأراهم الله يوم أُحد، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فنزل فيهم وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ يعني القتال مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أي: من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يومئذ، قال الفراء، وابن قتيبة: أي: رأيتم أسبابه، وهي السيف ونحوه من السلاح. وفي معنى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: تنظرون إلى السيوف، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ذكر للتوكيد، قاله الأخفش. وقال الزجاج: معناه: فقد رأيتموه، وأنتم بُصراء، كما تقول: رأيت كذا وكذا، وليس في عينك علّة، أي: رأيته رؤية حقيقية. والثالث: أن معناه: وأنتم تنظرون ما تمنيتم. وفي الآية إضمار، أي: فقد رأيتموه فلم انهزمتم!؟ [سورة آل عمران (3) : آية 144] وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) قوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ. قال ابن عباس: (219) صاح الشيطان يوم أُحد: قتل محمد. فقال قوم: لئن كان قتل لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا، ولو كان محمد حياً لم نهزم، فترخصوا في الفرار، فنزلت هذه الآية. وقال الضحاك: قال قوم من المنافقين: قتل محمد، فالحقوا بدينكم الأول، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة: قال أناس: لو كان نبياً ما قُتل، وقال ناسٌ من عِلْيَة أصحاب رسول الله: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى تلحقوا به، فنزلت هذه الآية. ومعنى الآية: أنه يموت كما ماتت قبله الرُّسل، أفإن مات على فراشه، أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء، أتنقلبون على أعقابكم؟! أي: ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر؟! وهذا على سبيل المثل، يقال لكل من رجع عما كان عليه: قد انقلب على عقبيه، وأصله: رجعة القهقرى، والعقب: مؤخّر القدم. وقوله تعالى: فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً أي: لن ينقص الله شيئاً برجوعه، وإنما يضر نفسه وَسَيَجْزِي أي: يثيب الشَّاكِرِينَ، وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الثابتون على دينهم، قاله علي عليه السلام، وقال: كان أبو بكر أمير الشاكرين. والثاني: أنهم الشاكرون على التوفيق والهداية. والثالث: على الدّين. [سورة آل عمران (3) : آية 145] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ في الإذن قولان:

_ ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «أسبابه» 252 وعبد بن حميد وابن المنذر كما في «الدر» 2/ 144- آل عمران: 144- عن عطية العوفي، وعطية واه. وأخرجه الطبري 7948 عن عطية عن ابن عباس، وإسناده واه لأجل عطية، وعنه مجاهيل. وانظر «تفسير القرطبي» 1847 بتخريجنا.

[سورة آل عمران (3) : آية 146]

أحدهما: أنه الأمر، قاله ابن عباس. والثاني: الإذن نفسه، قاله مقاتل. وقال الزجاج: ومعنى الآية: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله. قوله تعالى: كِتاباً مُؤَجَّلًا توكيد، والمعنى: كتب الله ذلك كتاباً ذا أجل. والأجل: الوقت المعلوم، ومثله في التوكيد كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «1» ، لأنه لمّا قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ «2» دلّ على أنه مرفوض، فأكّد بقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وكذلك قوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ «3» لأنه لما قال: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً «4» دلّ على أنه خلق الله فأكد بقوله: صُنْعَ اللَّهِ. قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها أي: من قصد بعمله الدنيا، أُعطي منها، قليلاً كان أو كثيراً، ومن قصد الآخرة بعمله، أُعطي منها. وقال مقاتل: عنى بالآية: من ثبت يوم أحد، ومن طلب الغنيمة. فصل: وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ والصحيح أنه محكم، لأنه لا يؤتى أحد شيئاً إلا بقدرة الله ومشيئته. ومعنى قوله تعالى: نُؤْتِهِ مِنْها أي ما نشاء، وما قدرنا له، ولم يقل: ما يشاء هو. [سورة آل عمران (3) : آية 146] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قرأ الجمهور وَكَأَيِّنْ في وزن «كعيِّن» . وقرأ ابن كثير «وكائن» في وزن «كاعن» . قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: «كأيِّن» مثل: «كعِّين» ينصبون الهمزة، ويشددون الياء. وتميم يقولون: «وكائن» كأنه فاعل من كئت. وأنشدني الكسائي: وكائِن ترى يسعى من الناس جاهداً ... على ابنٍ غدا منه شجاعٌ وعقربُ وقال آخر: وكائِن أصابت مؤمناً من مُصيبةٍ ... على الله عُقباها ومنه ثوابُها وقال ابن قتيبة: كائن بمعنى «كم» مثل قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها «5» وفيها لغتان. «كأين» بالهمزة وتشديد الياء، و «كائن» على وزن «قائل» ، وقد قرئ بهما جميعاً في القرآن، والأكثر والأفصح تخفيفها. قال الشاعر «6» : وكائن أرينا الموتَ من ذي تحيَّةٍ ... إذا ما ازدرانا أو أصرَّ لمأثمِ وقال الآخر» : وكائِن ترى من صامتٍ لكَ معجب ... زيادته أو نقصه في التّكلّم

_ (1) سورة النساء: 24. (2) سورة النساء: 24. (3) سورة النمل: 88. (4) سورة النمل: 88. (5) سورة الطلاق: 8. (6) أنشده ابن فارس ولم ينسبه لقائل كما في «الصاحبي» ص 132. (7) هو زهير بن أبي سلمى من «معلقته» في «شرح الزوزني» ص 89.

[سورة آل عمران (3) : آية 147]

قوله تعالى: قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبان، والمفضل كلاهما عن عاصم: «قُتِل» بضم القاف، وكسر التاء من غير ألف، وقرأ الباقون: قاتَلَ بألف، وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو رجاء، والحسن، وابن يعمر، وابن جبير، وقتادة، وعكرمة، وأيوب: «ربيون» بضم الراء. وقرأ ابن عباس، وأنس وأبو مجلز، وأبو العالية، والجحدري بفتحها. فعلى حذف الألف يحتمل وجهين ذكرهما الزجّاج: أحدهما: أن يكون قتل للنبي وحده، ويكون المعنى: وكأين من نبي قتل، ومعه ربيون، فما وهنوا بعد قتله. والثاني: أن يكون قتل للربيين، ويكون «فما وهنوا» لمن بقي منهم. وعلى إثبات الألف يكون المعنى: أن القوم قاتلوا، فما وهنوا. وفي معنى الربيين خمسة أقوال: أحدها: أنهم الألوف، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، واختاره الفراء. والثاني: الجماعات الكثيرة رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع، واختاره ابن قتيبة. والثالث: أنهم الفقهاء والعلماء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، واختاره اليزيدي، والزجاج. والرابع: أنهم الأتباع، قاله ابن زيد. والخامس: أنهم المتألهون العارفون بالله تعالى، قاله ابن فارس. قوله تعالى: فَما وَهَنُوا فيه قولان: أحدهما: أنه الضعف، قاله ابن عباس، وابن قتيبة. والثاني: أنه العجز، قاله قتادة. قال ابن قتيبة: والاستكانة: الخشوع والذل، ومنه أخذ المساكين. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: فما وهنوا بالخوف، وما ضعفوا بنقصان القوة، ولا استكانوا بالخضوع. والثاني: فما وهنوا لقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا لما أصابهم. [سورة آل عمران (3) : آية 147] وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) قوله تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ يعني الربيين. إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا أي: لم يكن قولهم غير الاستغفار. والإسراف: مجاوزة الحد، وقيل: أريد بالذنوب الصغائر، وبالإسراف: الكبائر. قوله تعالى: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا قال ابن عباس: على القتال. وقال الزجاج: معناه: ثبتنا على دينك، فإن الثابت على دينه ثابت في حربه. [سورة آل عمران (3) : آية 148] فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) قوله تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا فيه قولان: أحدهما: أنه النصر، قاله قتادة. والثاني: الغنيمة، قاله ابن جريج. وروي عن ابن عباس، أنه النصر والغنيمة. وفي حسن ثواب الآخرة قولان: أحدهما: أنه الجنة. والثاني: الأجر والمغفرة. وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدوّ. [سورة آل عمران (3) : آية 149] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149)

[سورة آل عمران (3) : آية 150]

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا. قال ابن عباس: نزلت في قول ابن أبي للمسلمين لما رجعوا من أحد: لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه «1» . وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون، على قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن جريج. والثالث: أنهم عبدة الأوثان، قاله السدي. قالوا: وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم. ومعنى يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ: يصرفوكم إلى الشّرك. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ بالعقوبة. [سورة آل عمران (3) : آية 150] بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي: وليكم ينصركم عليهم، فاستغنوا عن موالاة الكفّار. [سورة آل عمران (3) : آية 151] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ. (220) قال السدي: لما ارتحل المشركون يوم أُحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق، وقالوا: قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة، تركتموهم؟! ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلت هذه الآية. والإلقاء: القذف. والرعب: الخوف. قرأ ابن كثير، ونافع وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة «الرعب» ساكنة العين خفيفة، وقرأ ابن عامر، والكسائي، ويعقوب، وأبو جعفر، مضمومة العين، مثقله، أين وقعت. والسلطان هاهنا: الحجة في قول الجماعة. والمأوى: المكان الذي يؤوى إليه. والمثوى: المقام، والثوى: الإقامة. قال ابن عباس: والظّالمون هاهنا: الكافرون. [سورة آل عمران (3) : آية 152] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ. (221) قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من أُحد، قال قومٌ منهم: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟! فنزلت هذه الآية. وقال المفسرون: وعد الله تعالى المؤمنين

_ ضعيف. أخرجه الطبري 8002 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف. واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 254 عن محمد بن كعب القرظي مرسلا وبدون سند، فهو لا شيء. وانظر «تفسير القرطبي» 1857.

النصر بأحد، فنصرهم فلما خالفوا، وطلبوا الغنيمة، هُزِموا. (222) وقال ابن عباس: ما نُصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في موطن ما نُصر في أُحد، فأنكر ذلك عليه، فقال: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ. فأما الحسُّ، فهو القتل، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والسدي، والجماعة. وقال ابن قتيبة: تحسونهم، أي تستأصلونهم بالقتل، يقال: سَنَةٌ حسوس: إذا أتت على كل شيء، وجراد محسوس: إذا قتله البرد. وفي قوله تعالى: بِإِذْنِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: بأمره، قاله ابن عباس. والثاني: بعلمه، قاله الزجاج. والثالث: بقضائه، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ قال الزجاج: أي: جبنتم وَتَنازَعْتُمْ أي: اختلفتم مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ يعني: النصرة. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، معناه: حتى إذا تنازعتم في الأمر، فشلتم وعصيتم، وهذه الواو زائدة، كقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ «1» معناه: ناديناه. (223) فأما تنازعهم، فإن بعض الرماة قال: قد إنهزم المشركون، فما يمنعنا من الغنيمة؟ وقال بعضهم: بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فترك المركز بعضهم، وطلب الغنيمة، وتركوا مكانهم، فذلك عصيانهم، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أوصاهم: «لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم» . قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا قال المفسرون: هم الذين طلبوا الغنيمة، وتركوا مكانهم وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وهم الذين ثبتوا. وقال ابن مسعود: ما كنت أظنّ أحدا من

_ أخرجه أحمد 2609 والحاكم 2/ 296 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 269 و 270 عن ابن عباس به، وأتم، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وإسناده لين لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد، فهو غير قوي، ومقصد ابن عباس هو في بداية المعركة كما هو ظاهر في رواية الحاكم، فللخبر تتمة توضح ذلك. هو بعض الحديث المتقدم عن ابن عباس. - وله شاهد صحيح: أخرجه البخاري 3039 و 4043 وأبو داود 2662 والنسائي في «الكبرى» 11079 والطيالسي 725 وأحمد 4/ 293 وابن سعد في «الطبقات» 2/ 47 وابن حبان 4738 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 229- 230 من طرق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «جعل النبي على الرّجالة يوم أحد- وكانوا خمسين رجلا- عبد الله بن جبير فقال: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» . فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يشددن، قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير اثني عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين، وكان أصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيرا وسبعين قتيلا.....» . واللفظ للبخاري.

[سورة آل عمران (3) : آية 153]

أصحاب محمد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية. قوله تعالى: صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي: ردكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم. لِيَبْتَلِيَكُمْ أي: ليختبركم، فيبين الصابر من الجازع. قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فيه قولان: أحدهما: عفا عن عقوبتكم، قاله ابن عباس. والثاني: عفا عن استئصالكم، قاله الحسن. وكان يقول: هؤلاء مع رسول الله، في سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فما تركوا حتى غموا بهذا الغم، والفاسق اليوم يتجرم كل كبيرة ويركب كل داهية، ويزعم أن لا بأس عليه، فسوف يعلم. قوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فيه قولان: أحدهما: إذا عفا عنهم، قاله ابن عباس. والثاني: إذ لم يقتلوا جميعا، قاله مقاتل. [سورة آل عمران (3) : آية 153] إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) قوله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ قال المفسرون: «إذ» متعلقة بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وأكثر القراء على ضم التاء، وكسر العين، من قوله تعالى: «تصعدون» وهو من الإصعاد. وروى أبان عن ثعلب، عن عاصم فتحهما، وهي قراءة الحسن، ومجاهد، وهو من الصعود. قال الفراء: الإصعاد في ابتداء الأسفار، والمخارج، تقول: أصعدنا من بغداد إلى خراسان، فإذا صعدت على سلم أو درجة، قلت: صعدت، ولا تقول: أصعدت. وقال الزجاج: كل من ابتدأ مسيراً من مكان، فقد أصعد، فأما الصّعود، فهو من أسفل إلى فوق، قال ومن فتح التاء والعين، أراد الصعود في الجبل. وللمفسرين في معنى الآية قولان: أحدهما: أنه صعودهم في الجبل، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنه الإبعاد في الهزيمة، قاله قتادة، وابن قتيبة. وتَلْوُونَ بمعنى: تعرجون. وقوله تعالى: عَلى أَحَدٍ عام. (224) وقد روي عن ابن عباس أنه أُريد به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يناديهم من خلفهم: «إِليَّ عباد الله، أنا رسول الله» . وقرأت عائشة وأبو مجلز وأبو الجوزاء وحميد «على أُحد» بضم الألف والحاء، يعنون الجبل. قوله تعالى: فَأَثابَكُمْ أي: جازاكم. قال الفراء: الإثابة هاهنا بمعنى عقاب، ولكنه كما قال الشاعر «1» : أخاف زياداً أن يكونَ عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا

_ أخرجه الطبري 8053 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لانقطاعه، ابن جريج لم يدرك ابن عباس. وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن مرسلا كما في «الدر» 2/ 54- آل عمران: 153. وأخرجه الطبري أيضا 8048 عن قتادة مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.

[سورة آل عمران (3) : آية 154]

المحدرجة: السياط. والسود فيما يقال: القيود. قوله تعالى: غَمًّا بِغَمٍّ في هذه الباء أربعة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «مع» . والثاني: بمعنى «بعد» . والثالث: بمعنى «على» ، فعلى هذه الثلاثة الأقوال يتعلق الغمان بالصحابة. وللمفسرين في المراد بهذين الغمين خمسة أقوال: أحدها: أن الغم الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل، والثاني: إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أن الأول قرارهم الأول، والثاني. قرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل، قاله مجاهد. والثالث: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح، والثاني: حين سمعوا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، قاله قتادة. والرابع: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة، والفتح، والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، قاله السدي. والخامس: أن الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم، والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، ذكره الثعلبي. والقول الرابع: أن الباءَ بمعنى الجزاء، فتقديره: غمكم كما غممتم غيركم، فيكون أحد الغمين للصحابة، وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين، ويكون الغم الذي جُوزوا لأجله لغيرهم. وفي المراد بغيرهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون غموهم يوم بدر، قاله الحسن. والثاني: أنه النبي صلّى الله عليه وسلّم غموه حيث خالفوه، فجوزوا على ذلك بأن غمّوا بما أصابهم، قاله الزجاج. قوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا في «لا» قولان: أحدهما: أنها باقية على أصلها، ومعناها النفي، فعلى هذا في معنى الكلام قولان: أحدهما: فأثابكم غماً أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم، وقد روي أنهم لما سمعوا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، نسوا ما أصابهم وما فاتهم. والثاني: أنه متّصل بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فمعنى الكلام: عفا عنكم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم، لأن عفوه يذهب كل غم. والقول الثاني: أنها صلة، ومعنى الكلام: لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم في خلافكم. ومثلها قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «1» أي: ليعلم. هذا قول المفضل. قال ابن عباس: والذي فاتهم: الغنيمة، والذي أصابهم: القتل والهزيمة. [سورة آل عمران (3) : آية 154] ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً قال ابن قتيبة: الأمنة: الأمن. يقال: وقعت الأمنة في الأرض. وقال الزجاج: معنى الآية: أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمناً تنامون معه، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام. و «نعاساً» منصوب على البدل من «أمنة» ، يقال: نعس الرجل ينعس

_ (1) سورة الحديد: 29.

نعاساً، فهو ناعس. وبعضهم يقول: نعسان. قال الفراء: قد سمعتها، ولكني لا أشتهيها. قال العلماء: النعاس: أخف النوم. وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان: أحدهما: أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا، فالمنة بزوال الخوف، لأن الخائف لا ينام. والثاني: قواهم بالاستراحة على القتال. قوله تعالى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «يغشى» بالياء مع التفخيم، وهو يعود إلى النعاس. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف «تغشى» بالتاء مع الإمالة، وهو يرجع إلى الأمنة. فأما الطائفة التي غشيها النوم، فهم المؤمنون، والطائفة الذين أهمَّتهم أنفسهم: المنافقون، أهمهم خلاص أنفسهم، فذهب النوم عنهم. (225) قال أبو طلحة: كان السيف يسقط من يدي، ثم آخذه، ثم يسقط، وآخذه من النعاس. وجعلت أنظر، وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حَجَفَته «1» من النعاس. (226) وقال الزبير: أرسل الله علينا النوم، فما منَّا رجل إلا ذقنه في صدره، فو الله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فحفظتها منه. قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم ظنُّوا أن الله لا ينصر محمداً وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم كذبوا بالقدر، رواه الضحاك، عن ابن عباس. والثالث: أنهم ظنوا أن محمداً قد قتل، قاله مقاتل. والرابع: ظنّوا أن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم مضمحل، قاله الزجاج. قوله تعالى: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، قال ابن عباس: أي: كظن الجاهلية. قوله تعالى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه: الجحد، تقديره: ما لنا من الأمر من شيء. قال الحسن: قالوا: لو كان الأمر إلينا ما خرجنا، وإنما أُخرجنا كرهاً. وقال غيره: المراد بالأمر: النصر والظفر، قالوا: إنما النصر للمشركين، قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ، أي: النصر والظفر، والقضاء والقدر لِلَّهِ. والأكثرون قرءوا إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ بنصب اللام، وقرأ أبو عمرو برفعها، قال أبو علي: حجة من نصب، أن «كله» بمنزلة «أجمعين» في الإحاطة والعموم، فلو قال: إن الأمر أجمع، لم يكن إلا النَّصب، و «كله» بمنزلة «أجمعين» ، ومن رفع، فلأنه قد ابتدأ به، كما ابتدأ بقوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ. قوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ في الذي أخفوه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قولهم: «لو كنا في

_ صحيح. أخرجه البخاري 4068 والترمذي 3007 والنسائي في «الكبرى» 11198 وابن سعد 3/ 505 وابن أبي شيبة 14/ 406 والطبري 8075 والحاكم 2/ 297 والطبراني 4700 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 272 وأبو نعيم في «الدلائل» 421 من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت به. وإسناده على شرط مسلم. أخرجه البيهقي في «الدلائل» 3/ 273 عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير به. وفي الإسناد أحمد بن عبد الجبار العطاردي، وهو ضعيف، ومن فوقه ثقات، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، فانحصرت العلة في أحمد هذا.

[سورة آل عمران (3) : آية 155]

بيوتنا ما قتلنا هاهنا» . والثاني: أنه إسرارهم الكفر، والشك في أمر الله. والثالث: الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد. قال أبو سليمان الدمشقي: والذي قال: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ عبد الله بن أُبي. والذي قال: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ معتب بن قشير. قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ أي: لو تخلفتم، لخرج منكم من كُتب عليه القتل، ولم ينجه القعود. والمضاجع: المصارع بالقتل. قال الزجاج: ومعنى لَبَرَزَ: صاروا إلى براز، وهو المكان المنكشف. ومعنى وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي: ليختبره بأعمالكم، لأنه قد علمه غيباً، فيعلمه شهادة. قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ قال قتادة: أراد ليظهرها من الشك والارتياب، بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة، وإظهار سرائر المنافقين. وهذا التمحيص خاص للمؤمنين. وقال غيره: أراد بالتمحيص: إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله، ولرسوله، وللمؤمنين، فهو خطاب للمنافقين. قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها. وقال ابن الأنباري: معناه: عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة، كما تقول العرب: لقيته ذات يوم. فيؤنثون لأن مقصدهم: لقيته مرة في يوم. [سورة آل عمران (3) : آية 155] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ الخطاب للمؤمنين، وتوليهم: فرارهم من العدو. والجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين، وذلك يوم أُحد. واستزلهم: طلب زللهم، قال ابن قتيبة: هو كما تقول: استعجلت فلاناً، أي: طلبت عجلته، واستعملته: طلبت عمله. والذي كسبوا: يريد به الذّنوب. وفي سبب فرارهم يومئذ قولان: أحدهما: أنهم سمعوا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فترخصوا في الفرار «1» ، قاله ابن عباس في آخرين. والثاني: أن الشيطان أذكرهم خطاياهم، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها، قاله الزجّاج. [سورة آل عمران (3) : آية 156] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا أي كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق، وقيل: إخوانهم في النسب. قال الزجاج: وإنما قال: إِذا ضَرَبُوا ولم يقل: إذ ضربوا، لأنه يريد: شأنُهم هذا أبداً، تقول: فلان إذا حدث صدق، وإذا ضُرِب صبر. و «إذا» لما يستقبل، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى. قال المفسرون: ومعنى ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ:

_ (1) تقدم، تخريجه، وهو ضعيف جدا.

[سورة آل عمران (3) : آية 157]

ساروا وسافروا. و «غزىً» جمع غازي. وفي الكلام محذوف تقديره: إذا ضربوا في الأرض فماتوا، أو غزوا، فقتلوا. قوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ قال ابن عباس: ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم، سلموا، حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: حزناً. قال ابن فارس: الحسرة: التلهف على الشيء الفائت. قوله تعالى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: ليس تحرُّز الإنسان يمنعه من أجله. قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: «يعملون» بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. قال أبو علي: حجة من قرأ بالياء أنّ قبلها غيبة، وهو قوله عزّ وجلّ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ، ومن قرأ بالتاء، فحجته لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا. [سورة آل عمران (3) : آية 157] وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) قوله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ اللام في «لئن» لام القسم، تقديره: والله لئن قتلتم في الجهاد أَوْ مُتُّمْ في إقامتكم. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «مُتَّ» و «مُتُّم» و «مُتنا» برفع الميم في جميع القرآن، وروى حفص عن عاصم: أَوْ مُتُّمْ وَلَئِنْ مُتُّمْ برفع الميم في هذين دون باقي القرآن. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي كل ما في القرآن بالكسر. قوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي: من أعراض الدنيا التي تتركون الجهاد لجمعها. وقرأ حفص عن عاصم: يجمعون بالياء، ومعناه: خير مما يجمع غيركم مما تركوا الجهاد لجمعه. قال ابن عباس: خير مما يجمع المنافقون في الدنيا. [سورة آل عمران (3) : آية 158] وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) قوله تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أي: في إقامتكم. أَوْ قُتِلْتُمْ في جهادكم. لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ. وهذا تخويف من القيامة. والحشر: الجمع من سوق. [سورة آل عمران (3) : آية 159] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ قال الفراء وابن قتيبة والزجاج: «ما» هاهنا صلة، ومثله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ. قال ابن الأنباري: دخول «ما» هاهنا يحدث توكيداً. قال النّابغة: المرء يهوى أن يعيش ... وطولُ عيش ما يضرُّه فأكد بذكر «ما» . وفيمن تتعلق به هذه الرحمة قولان: أحدهما: أنها تتعلّق بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: بالمؤمنين. قال قتادة: ومعنى لِنْتَ لَهُمْ لان جانبك، وحَسُن خُلُقُك، وكثر احتمالك. قال الزجّاج: والفظّ: الغليظ الجانب، السّيئ الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظظاً، والفظ: ماء الكرش والفرث، وإنما سمي فظاً لغلظ مشربه. فأما الغليظ القلب، فقيل: هو القاسي القلب، فيكون ذكر

الفظاظة والغلظ- وإن كانا بمعنى واحد- توكيداً. وقال ابن عباس: الفظ: في القول، والغليظ القلب: في الفعل. قوله تعالى: لَانْفَضُّوا أي: تفرقوا. وتقول: فضضت عن الكتاب ختمه: إذا فرقته عنه. فَاعْفُ عَنْهُمْ أي: تجاوز عن هفواتهم، وسل الله المغفرة لذنوبهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ معناه: استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم. ويقال: إنه من: شرت العسل. وأنشدوا «1» : وقاسمها بالله حقاً لأنتم ... ألذُّ من السَّلوى إذا ما نشورُها قال الزجاج: يقال: شاورت الرجل مشاورة وشوراً، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة وبعضهم يقول: المشوْرَة. ويقال: فلان حسن الصورة والشورة، أي: حسن الهيئة واللباس. ومعنى قولهم: شاورت فلاناً، أظهرت ما عنده وما عندي. وشرت الدابة: إذا امتحنتها. فعرفت هيئتها في سيرها. وشرت العسل: إذا أخذته من مواضع النحل. وعسل مشار. قال الأعشى: كأنّ القرنفل والزّنجبيل ... باتا بفيها وأرياً مشاراً والأري: العسل. واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي، تام التدبير، على ثلاثة أقوال: أحدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة. والثاني: لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق، ومقاتل. قال الشّافعيّ رضي الله عنه: نظير هذا قوله عليه السلام: (227) «البكر تُستأمر في نفسها» ، إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت، كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أُمر بذبحه. والثالث: للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك. ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره، علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح. قال علي عليه السلام: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم. وقال بعض الحكماء: ما استُنْبِطَ الصواب بمثل المشاورة، ولا حُصِّنتِ النعم بمثل المواساة، ولا اكتسب البغضاء بمثل الكبر. واعلم أنه إنما أُمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمهم بالذكر، والمقصود أرباب الفضل والتجارِب منهم. وفي الذي أُمر بمشاورتهم فيه قولان، حكاهما القاضي أبو يعلى: أحدهما: أنه أمر الدنيا خاصة. والثاني: أمر الدين والدنيا، وهو أصح.

_ صحيح. أخرجه مسلم 1421 وأبو داود 2099 والنسائي 6/ 85 والدارقطني 3/ 240 و 240- 241 والطبراني 10/ 10745 و 4084 و 4087 و 4089 وابن حبان 4088 عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها» .

[سورة آل عمران (3) : آية 160]

وقد قرأ ابن مسعود، وابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر» . قوله تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ قال ابن فارس: العزم: عقد القلب على الشيء ويريد أن يفعله. وقد قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والجحدري: (فإذا عزمتُ) بضم التاء. فأما التوكل، فقد سبق شرحه. ومعنى الكلام: فإذا عزمت على فعل شيء، فتوكل على الله، لا على المشاورة. [سورة آل عمران (3) : آية 160] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) قوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ قال ابن فارس: النصر: العون، والخذلان: ترك العون. وقيل الكناية في قوله تعالى مِنْ بَعْدِهِ تعود إلى خذلانه. [سورة آل عمران (3) : آية 161] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) قوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، في سبب نزولها سبعة أقوال: (228) أحدها: أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر، فقال ناس: لعلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذها، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. (229) والثاني: أن رجلاً غلَّ من غنائم هوازن يوم حنين، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس. (230) والثالث: أن قوماً من أشراف الناس طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخصهم بشيء من الغنائم، فنزلت هذه الآية، نقل عن ابن عباس أيضاً. (231) والرابع: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث طلائعا، فغنم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غنيمة، ولم يقسم للطلائع، فقالوا قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضّحّاك.

_ غير قوي. أخرجه أبو داود 3971 والترمذي 3009 وأبو يعلى 2438 والطبري 8138 والواحدي 255 من طريق خصيف عن عكرمة عن ابن عباس. وفي إسناده ضعف من أجل خصيف بن عبد الرحمن الجزري فإنه صدوق لكنه سيء الحفظ، وقد رواه بعضهم مرسلا. - وأخرجه الطبري 8137 عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وروى بعضهم هذا الحديث عن خصيف عن مقسم، ولم يذكر فيه ابن عباس اه. وورد من وجه آخر عن ابن عباس، أخرجه الطبراني 11/ 101 والواحدي في «أسباب النزول» 256 وإسناده ضعيف لضعف محمد بن أحمد النرسي شيخ الطبراني. والله أعلم. باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 257 م عن الضحاك عن ابن عباس والضحاك لم يسمع ابن عباس، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك الحديث والسورة نزلت قبل حنين بزمن، فهذا خبر باطل. لم أقف على إسناده. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بدون إسناد، فهذا لا شيء، لخلوه عن الإسناد. ضعيف. أخرجه الطبري 8144 والواحدي في «أسباب النزول» 257 عن الضحاك مرسلا، فهو ضعيف.

(232) والخامس: أن قوماً غلُّوا يوم بدر، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.

_ والسادس: أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أُحد طلباً للغنيمة، وقالوا: نخاف أن يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من أخذ شيئا، فهو له» فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ألم أعهد إليكم ألّا تبرحوا؟! أظننتم أنّا نغلّ؟!» فنزلت هذه الآية، قاله ابن السّائب، ومقاتل. والسابع: أنها نزلت في غلول الوحي، قاله القرظيّ، وابن إسحاق «1» . وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فنزلت هذه الآية. واختلف القرّاء في «يغل» فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: بفتح الياء وضمّ الغين، ومعناها: يخون، وفي هذه الخيانة قولان: أحدهما: خيانة المال على قول الأكثرين. والثاني: خيانة الوحي على قول القرظيّ، وابن إسحاق. وقرأ الباقون: بضمّ الياء وفتح الغين، ولها وجهان: أحدهما: أن يكون المعنى يخان، ويجوز أن يكون: يلفى خائنا، يقال: أغللت فلانا، أي: وجدته غالا، كما يقال: أحمقته: وجدته أحمق، وأحمدته: وجدته محمودا، قاله الحسن، وابن قتيبة. والثاني: يخوّن، قاله الفرّاء، وأجازه الزجّاج، وردّه ابن قتيبة، فقال: لو أراد: يخون، لقال: يغلل، كما يقال: يفسق ويخون، ويفجر. وقيل: «اللام» في قوله «لنبيّ» منقولة، ومعنى الآية: وما كان النبيّ ليغلّ، ومثله: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «2» أي: ما كان الله ليتّخذ ولدا. وهذه الآية من ألطف التّعريض، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الغلول، فدلّ على أنّ الغلول في غيره. ومثله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «3» وقد ذكر عن السّدّيّ نحو هذا. قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ الغلول: أخذ شيء من المغنم خفية، ومنه الغلالة، وهي ثوب يلبس تحت الثياب، والغلل: وهو الماء الذي يجري تحت الشّجر، والغلّ: وهو الحقد الكامن في الصّدر، وأصل الباب الاختفاء. وفي إتيانه بما غلّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يأتي بما غلّه، يحمله، ويدلّ عليه ما روى البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي هريرة قال: (232) ضعيف. أخرجه الطبري 8152 وعبد بن حميد كما في «الدر» 2/ 162 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف. لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 258 م عن الكلبي ومقاتل بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 434: ذكره الثعلبي والواحدي في «أسبابه» عن الكلبي ومقاتل ... اه. وهو معضل، مقاتل إن كان ابن سليمان فهو متروك متهم، وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير كثيرة، وأما الكلبي فمتروك متهم ولم أر من أسنده، ولا روي عن غيرهما.

[سورة آل عمران (3) : آية 162]

(234) قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً فذكر الغلول، فعظمه، وعظم أمره، ثم قال: «لا أُلفينَّ أحدَكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك» . الرغاء: صوت البعير، والثغاء: صوت الشاة، والنفس: ما يُغل من السَّبي، والرقاع: الثياب، والصامت: المال. والقول الثاني: أنه يأتي حاملاً إثم ما غل. والثالث: أنه يردُّ عوض ما غل من حسناته. والقول الأوّل أصحّ لمكان الأثر الصّحيح. [سورة آل عمران (3) : آية 162] أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) قوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين: أحدهما: أن معناها: أفمن اتبع رضوان الله، فلم يغل، كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ حين غل؟! هذا قول سعيد بن جبير، والضحاك، والجمهور. والثاني: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما أمر المسلمين باتباعه يوم أُحد، اتبعه المؤمنون، وتخلف جماعة من المنافقين، فأخبر الله بحال من تبعه، ومن تخلف عنه، هذا قول الزجّاج. [سورة آل عمران (3) : آية 163] هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) قوله تعالى: هُمْ دَرَجاتٌ، قال الزجاج: معناه: هم ذوو درجات. وفي معنى درجات قولان: أحدهما: أنها درجات الجنة، قاله الحسن. والثاني: أنها فضائلهم، فبعضهم أفضل من بعض، قاله الفراء، وابن قتيبة. وفيمن عنى بهذا الكلام قولان: أحدهما: أنهم الذين اتبعوا رضوان الله، والذين باؤوا بسخط من الله، فلمن اتبع رضوانه الثواب، ولمن باء بسخطه العذاب، هذا قول ابن عباس. والثاني: أنهم الذين اتبعوا رضوان الله فقط، فإنهم يتفاوتون في المنازل، هذا قول سعيد بن جبير، وأبي صالح، ومقاتل. [سورة آل عمران (3) : آية 164] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

_ صحيح. أخرجه البخاري 3073 ومسلم 1831 وابن حبان 4847 و 4848 والطبري 8155 و 8156 وأحمد 2/ 426 من حديث أبي هريرة بألفاظ متقاربة.

[سورة آل عمران (3) : آية 165]

قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: أنعم عليهم. و «أنفسهم» : جماعتهم، وقيل: نسبَهم. وقرأ الضحاك، وأبو الجوزاء: (من أنفَسهم) بفتح الفاء. وفي وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال: أحدها: لكونه معروف النسب فيهم، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: لكونهم قد خبروا أمره، وعلموا صدقه، قاله الزجاج. والثالث: ليسهل عليهم التعلم منه، لموافقة لسانه للسانهم، قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع: لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم، قاله الماوردي. وهل هذه الآية خاصة أم عامة؟ فيه قولان: أحدهما: أنها خاصة للعرب. روي عن عائشة والجمهور. والثاني: أنها عامة لسائر المؤمنين، فيكون المعنى أنه ليس بملكٍ، ولا من غير بني آدم، وهذا اختيار الزجاج. وقد سبق في (البقرة) بيان باقي الآية. [سورة آل عمران (3) : آية 165] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ، قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: لما كان يوم أُحد، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر، من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفرّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ قال: بأخذكم الفداء. قوله تعالى أَوَلَمَّا قال الزجاج: هذه واو النسق، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها، ومثل ذلك قول القائل: تكلم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له: أو هو ممن يقول ذلك؟ فأما «المصيبة» فما أصابهم يوم أُحد، وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر، لأنهم قتل منهم سبعون، فقتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وهذا قول ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والجماعة، إلا أن الزجاج قال: قد أصبتم يوم أُحد مثلها، ويوم بدر مثلها، فجعل المثلين في اليومين. قوله تعالى: أَنَّى هذا، قال ابن عباس: من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون؟ قوله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: بأخذكم الفداء يوم بدر، قاله عمر بن الخطاب. (235) وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: جاء جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء، وقد أمرك أن تخيِّرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يُقتل منهم عدَّتهم، فذكر ذلك للناس، فقالوا: عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ منهم الفداء، ويستشهد منا عدّتهم، فقتل منهم يوم أُحد سبعون، عدد أسارى بدر، فعلى هذا يكون المعنى: قل هو بأخذكم الفداءَ، واختياركم القتل لأنفسكم. والثاني: أنه جرى ذلك بمعصية الرماة يوم أُحد، وتركهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس،

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 1567 والنسائي في «الكبرى» 8662 من حديث علي، وهو حديث ضعيف، ويأتي في سورة الأنفال باستيفاء، وقال الترمذي: حسن غريب.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 إلى 167]

ومقاتل في آخرين. والثالث: أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أُحد، فإنه أمرهم بالتحصُّن فيها، فقالوا: بل نخرج، قاله قتادة، والربيع. قال مقاتل: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من النّصر والهزيمة قَدِيرٌ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 167] وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ الجمعان: النبي وأصحابه، وأبو سفيان وأصحابه، وذلك في يوم أحد، وقد سبق ذكر ما أصابهم. قوله تعالى: فَبِإِذْنِ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أمره. والثاني: قضاؤه، رويا عن ابن عباس. والثالث: علمه، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أي: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلة صبرهم. قال ابن قتيبة: والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو جحر من جِِحَرتِه، يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه. قال ابن قتيبة: قال الزيادي عن الأصمعي: ولليربوع أربعة أجحرة: النافقاء: وهو الذي يخرج منه كثيراً، ويدخل منه كثيراً. والقاصعاء، سمي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر، ثم يقصِّع ببعضه كأنه يسد به فم الجحر، ومنه يقال: جرح فلان قد قصع بالدم: إذا امتلأ ولم يسل. والدّامّاء، سمي بذلك، لأنه يخرج التراب من فم الجحر، ثم يدمُّ به فم الجحر، كأنه يطليه، ومنه يقال: ادمم قدرك بشحم، أي اطلها به. والرّاهطاء، ولم يذكر اشتقاقه، وإنما يتخذ هذه الجحر عدداً، فاذا أخذ عليه بعضها، خرج من بعض. قال أبو زيد: فشبه المنافق به، لأنه يدخل في الإسلام بلفظه، ويخرج منه بعقده، كما يدخل اليربوع من باب ويخرج من باب. قال ابن قتيبة: والنفاق: لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام. قال ابن عباس: والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أُبي، وأصحابه. (236) قال موسى بن عقبة: خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أُحد، ومعه المسلمون، وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فرجع عنه ابن أُبي في ثلاثمائة. فأما القتال، فمباشرة الحرب. وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التكثير بالعدد. رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وابن جريج في آخرين. والثاني: أن معناه: ادفعوا عن أنفسكم وحريمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل. والثالث: أنه بمعنى القتال أيضاً. قاله ابن زيد. قوله تعالى: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما

_ هذا معضل. وأخرجه الطبري 8194 عن السدي، وهذا مرسل، فهو ضعيف.

[سورة آل عمران (3) : آية 168]

أسلمناكم، ذكره ابن اسحاق. والثاني: لو كنا نحسن القتال لاتّبعناكم. والثالث: إن معناه: أن هناك قتلاً وليس بقتال، ذكرهما الماوردي. قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ أي: إلى الكفر أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي: إلى الإيمان، وإنما قال: يومئذ، لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا، فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الإيمان. قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فيه وجهان ذكرهما الماورديّ: أحدهما: ينطقون بالإيمان، وليس في قلوبهم إلا الكفر. والثاني: يقولون: نحن أنصار، وهم أعداء. وذكر في الذي يكتمون وجهين: أحدهما: أنه النّفاق. والثاني: العداوة. [سورة آل عمران (3) : آية 168] الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أُبي. وفي إخوانهم قولان: أحدهما: أنهم إخوانهم في النفاق، قاله ابن عباس. والثاني: إخوانهم في النسب، قاله مقاتل. فعلى الأول يكون المعنى: قالوا لإخوانهم المنافقين: لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا، وعلى الثاني يكون المعنى: قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد: لو أطاعونا ما قتلوا. قوله تعالى: وَقَعَدُوا يعني القائلين قعدوا عن الجهاد. قوله تعالى: فَادْرَؤُا أي: فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ الحذر ينفع مع القدر. [سورة آل عمران (3) : آية 169] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً قرأ ابن عامر: قتّلوا بالتشديد. واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في شهداء أُحد. (237) روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية» وهذا قول سعيد بن جبير، وأبي الضحى. والثاني: أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله عزّ وجلّ وقالوا: ربّنا أعلم إخواننا،

_ حديث حسن بطرقه وشواهده. أخرجه أبو داود 2520 والحاكم 2/ 88 وأبو يعلى 2331 وأحمد 1/ 266 والبيهقي 9/ 163 والواحدي في «أسباب النزول» 261 عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير عن سعيد بن جابر عن ابن عباس، ورجاله ثقات. وقد صرّح ابن إسحاق بالتحديث في رواية أحمد، وحديثه حسن. وأخرجه أحمد 1/ 265- 266 والطبري 8205 عن أبي الزبير عن ابن عباس وإسناده منقطع أبو الزبير لم يسمع من ابن عباس كما في مراسيل ابن أبي حاتم ص 193. ويشهد له حديث ابن مسعود. أخرجه مسلم 1887 والطيالسي 1143 والبيهقي 9/ 163 والطبري 8208، والله أعلم.

[سورة آل عمران (3) : آية 170]

فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس «1» ، وهو قول مقاتل. (238) والثالث: أنها نزلت في شهداء بئر معونة. روى محمد بن إسحاق عن أشياخ له، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلاً من خيار المسلمين إلى أهل نجد، فلما نزلوا بئر معونة، خرّع حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم ينظر فيه عامر، وخرج رجل من كسر «2» البيت برمح، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم، قال أنس بن مالك: فأنزل الله تعالى فيهم: «بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه» ثم رفعت، فنزلت هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً. فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت، واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: أن رجلاً قال: يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا، فنزلت، قاله مقاتل. والثالث: أن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور، تحسروا، وقالوا نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا، وأبناؤنا، وإخواننا، في القبور، فنزلت هذه الآية، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. فأما التفسير، فمعنى الآية: لا تحسبنهم أمواتاً كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله، وقد بينا هذا المعنى في (البقرة) وذكرنا أن معنى حياتهم: أن أرواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها. قال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة. [سورة آل عمران (3) : آية 170] فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) قوله تعالى: فَرِحِينَ قال ابن قتيبة: الفرح: المسرة، فأما الذي آتاهم الله، فما نالوا من كرامة الله ورزقه، والاستبشار: السرور بالبشارة، بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ إخوانهم من المسلمين. وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ الله تعالى لمّا أخبر بكرامة الشهداء، أخبر الشهداء بأني قد أنزلت على نبيكم، وأخبرته بأمركم فاستبشروا، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة، قاله سعيد بن جبير. والثاني: يستبشرون بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة، يقولون: إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل، قاله قتادة. والثالث: أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه وأهله، وفيه يقدم عليه فلان يوم كذا وكذا، فيستبشر بقدومه، كما يستبشر أهل الغائب به، هذا قول السدي.

_ ذكره ابن هشام في «السيرة» 3/ 147 في أثناء خبر مطول. وأخرج بعضه الطبري 8224 من حديث أنس. وانظر «الدر المنثور» 2/ 169 و «دلائل النبوة» للبيهقي 3/ 338- 341 وأصله في «صحيح البخاري» 2801 من حديث أنس.

[سورة آل عمران (3) : آية 171]

و «الهاء» و «الميم» في قوله تعالى: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم. قال الفراء: معناه: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم، ولا حزن. وفي ماذا يرتفع «الخوف» و «الحزن» عنهم؟ فيه قولان: أحدهما: لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم، ولا يحزنون على ما خلفوا من أموالهم. والثاني: لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحاً بالآخرة. [سورة آل عمران (3) : آية 171] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) قوله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قال مقاتل: برحمة ورزق. قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ قرأ الجمهور بالفتح على معنى: ويستبشرون بأن الله، وقرأ الكسائي بالكسر على الاستئناف. [سورة آل عمران (3) : آية 172] الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ في سبب نزولها قولان: (239) أحدهما: أن المشركين لما انصرفوا يوم أحد، ندب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه لاتباعهم، ثم خرج بمن انتدب معه، فلقي أبو سفيان قوماً، فقال: إن لقيتم محمداً، فأخبروه أني في جمع كثير، فلقيهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألهم عنه؟ فقالوا: لقيناه في جمع كثير، ونراك في قلةٍ، فأبى إلا أن يطلبه، فسبقه أبو سفيان، فدخل مكة، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، والجمهور. (240) والثاني: أن أبا سفيان لما أراد الانصراف عن أُحد، قال: يا محمد، موعد بيننا وبينك موسم بدر، فلما كان العام المقبل، خرج أبو سفيان، ثم ألقى الله في قلبه الرعب، فبدا له الرجوع، فلقي نُعيم بن مسعود، فقال: إني قد واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وهذا عام جدب، لا يصلح لنا، فثبطهم عنا، وأعلمهم أنَّا في جمع كثير، فلقيهم فخوفهم، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه، حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان، فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآيات. وهذا المعنى مروي عن مجاهد، وعكرمة. والاستجابة: الإجابة. وأنشدوا: فلم يستجبه عند ذاك مجيب «1»

_ لم أره عن ابن عباس بهذا اللفظ، وإنما أخرجه الطبري 8238 بنحوه عن ابن عباس، وفي الإسناد مجاهيل. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 268 عن عمرو بن دينار مرسلا بهذا السياق. وأخرجه الطبري 8236 عن قتادة بنحوه. أخرجه الطبري 4246 عن ابن عباس بنحوه، وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي. وأخرج الطبري 8248 بعضه عن مجاهد وكرره برقم 8249 عن مجاهد وعن ابن جريج، وأخرجه 8250 عن عكرمة مختصرا أيضا وليس فيه ذكر نعيم بن مسعود.

[سورة آل عمران (3) : آية 173]

أي: فلم يجبه. وفي مراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وخروجه وندب الناس إلى الخروج ثلاثة أقوال: أحدها: ليرهب العدو باتباعهم. والثاني: لموعد أبي سفيان. والثالث: لأنه بلغه عن القوم أنهم قالوا: أصبتم شوكتهم، ثم تركتموهم. وقد سبق الكلام في القرح. قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ أي: أحسنوا بطاعة الرسول، واتقوا مخالفته. [سورة آل عمران (3) : آية 173] الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ في المراد بالناس ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ركب لقيهم أبو سفيان، فضمن لهم ضماناً لتخويف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، قاله ابن عباس، وابن إسحاق. والثاني: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي، قاله مجاهد، وعكرمة، ومقاتل في آخرين. والثالث: أنهم المنافقون، لمّا رأوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتجهز، نهوا المسلمين عن الخروج، وقالوا: إن أتيتموهم في ديارهم، لم يرجع منكم أحد، هذا قول السدي. قوله تعالى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يعني أبا سفيان وأصحابه. قوله تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً قال الزجاج: زادهم ذلك التخويف ثبوتاً في دينهم، وإِقامة على نصرة نبيهم، وقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ أي: هو الذي يكفينا أمرهم. فأما «الوكيل» ، فقال الفراء: الوكيل: الكافي، واختاره ابن القاسم. وقال ابن قتيبة: هو الكفيل، قال: ووكيل الرجل في ماله: هو الذي كفله له، وقام به. وقال الخطابي: الوكيل: الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم، وحقيقته: أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه. وحكى ابن الأنباري أن قوماً قالوا: الوكيل: الرّبّ. [سورة آل عمران (3) : آية 174] فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ الانقلاب: الرجوع. وفي النعمة، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الأجر، قاله مجاهد. والثاني: العافية، قاله السدي. والثالث: الإيمان والنصر، قاله الزجاج. وفي الفضل، ثلاثة أقوال: أحدها: ربح التجارة، قاله مجاهد، والسدي، وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان. قال الزهري: لما استنفر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر، خرجوا ببضائع لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان، فهو الذي خرجنا إليه، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا، وكانت بدر متجراً يوافى كل عام، فانطلقوا فقضوا حوائجهم، وأخلف أبو سفيان الموعد. والثاني: أنهم أصابوا سرية بالصفراء، فرزقوا منها، قاله مقاتل. والثالث: أنه الثواب، ذكره الماوردي. قوله تعالى: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ قال ابن عباس: لم يؤذهم أحد. وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في طلب القوم. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ أي: ذو منّ بدفع المشركين عن المؤمنين. [سورة آل عمران (3) : آية 175] إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) قوله تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ قال الزجاج: معناه: ذلك التخويف كان فعل الشيطان، سوّله للمخوِّفين. وفي قوله تعالى: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ قولان:

[سورة آل عمران (3) : آية 176]

أحدهما: أن معناه: يخوّفكم بأوليائه، قاله الفراء، واستدلّ بقوله تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً «1» أي: ببأس، وبقوله تعالى: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ «2» أي: بيوم التلاق. وقال الزجاج: معناه: يخوفكم من أوليائه، بدليل قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ. وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وإبراهيم، وابن قتيبة. وأنشد ابن الأنباري في ذلك «3» : وأيقنتُ التفرُّقَ يوم قالوا ... تُقُسِّمَ مال أربد بالسهام أراد: أيقنت بالتفرق. قال: فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه. قال: والذي نختاره في الآية: أن المعنى: يخوفكم أولياءه. تقول العرب: قد أعطيت الأموال، يريدون: أعطيت القوم الأموال، فيحذفون القوم، ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني. فهذا أشبه من ادعاء «باء» ما عليها دليل، ولا تدعو إليها ضرورة. والثاني: أن معناه: يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين، قاله الحسن والسدي، وذكره الزجاج. قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ يعني: أولياء الشيطان وَخافُونِ في ترك أمري. وفي «إنْ» قولان: أحدهما: أنها بمعنى: «إذ» ، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها للشرط، وهو قول الزجّاج في آخرين. [سورة آل عمران (3) : آية 176] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، قرأ نافع «يحزنك» «ليحزنني» «ليحزن» بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن، إلا في (الأنبياء) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ «4» ، فإنه فتح الياء، وضم الزاي. وقرأ الباقون كل ما في القرآن بفتح الياء وضم الزاي. قال أبو علي: يشبه أن يكون نافع تبع في سورة (الأنبياء) أثراً، أو أحب أن يأخذ بالوجهين. وفي الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون، ورؤساء اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: المنافقون، قاله مجاهد. والثالث: كفار قريش، قاله الضحاك. والرابع: قوم ارتدوا عن الإسلام، ذكره الماوردي. وقيل: معنى مسارعتهم في الكفر: مظاهرتهم للكفار، ونصرهم إياهم. فإن قيل: كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر؟ فالجواب: لا يحزنك فعلهم، فإنك منصور عليهم. قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فيه قولان: أحدهما: لن ينقصوا الله شيئاً بكفرهم، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: لن يضروا أولياء الله شيئاً، قاله عطاء. قال ابن عباس: والحظ: النصيب، والآخرة: الجنة. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في النار. [سورة آل عمران (3) : آية 177] إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)

_ (1) سورة الكهف: 4. (2) سورة غافر: 15. (3) البيت للبيد بن ربيعة «الأغاني» 15/ 133. (4) سورة الأنبياء: 103.

[سورة آل عمران (3) : آية 178]

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ، قال مجاهد: المنافقون آمنوا ثم كفروا، وقد سبق في (البقرة) معنى الاشتراء. [سورة آل عمران (3) : آية 178] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: في اليهود والنصارى والمنافقين، قاله ابن عباس. والثاني: في قريظة والنضير، قاله عطاء. والثالث: في مشركي مكة، قاله مقاتل. والرابع: في كل كافر، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع: «ولا يحسبن الذين كفروا» «ولا يحسبن الذين يبخلون» «ولا يحسبنّ الذين يفرحون» بالياء وكسر السين، ووافقهم ابن عامر غير أنّه فتح السين، وقرأ حمزة بالتاء، وقرأ عاصم والكسائي كل ما في هذه السورة بالتاء غير حرفين وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فإنهما بالياء، إلا أن عاصماً فتح السين، وكسرها الكسائي، ولم يختلفوا في وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا أنها بالتاء. نُمْلِي لَهُمْ: أي: نطيل لهم في العمر، ومثله: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قال ابن الأنباري: واشتقاق «نملي لهم» من الملوة، وهي المدة من الزمان، يقال: مَلوة من الدهر، ومِلوة، ومُلوة، ومَلاوة، وملاوة، وملاوة، بمعنى واحد، ومنه قولهم: وتملّ حبيباً، أي: لتطل أيامك معه. قال متمم بن نويرة: بودِّيَ لو أني تملَّيت عمره ... بما لي من مال طريف وتالد «1» [سورة آل عمران (3) : آية 179] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) قوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ في سبب نزولها خمسة أقوال: أحدها: أن قريشا قالت: تزعم يا محمد أن من اتبعك فهو في الجنة، ومن خالفك فهو في النار؟! فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس «2» . والثاني: أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق، فنزلت هذه الآية، هذا قول أبي العالية. (241) والثالث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: عُرضتْ عليَّ أُمتي، وأُعلمت من يؤمن بي ومن يكفر، فبلغ ذلك المنافقين فاستهزءوا وقالوا: فنحن معه ولا يعرفنا، فنزلت هذه الآية، هذا قول السّدّيّ.

_ لم أره مسندا. وذكره الواحدي في «أسبابه» 271 عن السدي بدون إسناد فهو لا شيء. وأخرج الطبري 8273 نحوه عن السدي.

[سورة آل عمران (3) : آية 180]

والرابع: أن اليهود، قالت: يا محمد قد كنتم راضين بديننا، فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم؟! فنزلت هذه الآية. هذا قول عمر مولى غفرة. والخامس: أن قوماً من المنافقين ادَّعوْا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين، فأظهر الله نفاقهم يوم أُحد، وأنزل هذه الآية، هذا قول أبي سليمان الدمشقي. وفي المخاطب بهذه الآية قولان: أحدهما: أنهم الكفار والمنافقون، وهو قول ابن عباس، والضحاك. والثاني: أنهم المؤمنون، فيكون المعنى: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق. قال الثعلبي: وهذا قول أكثر أهل المعاني. قوله تعالى: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وابن عامر حَتَّى يَمِيزَ ولِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ بفتح الياء والتخفيف. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب: «يميز» بالتشديد، وكذلك في الأنفال: «ليميّز الله الخبيث» . قال أبو علي: مزت وميَّزت لغتان. قال ابن قتيبة: ومعنى يميز: يخلص. فأما الطيب، فهو المؤمن. وفي الخبيث قولان: أحدهما: أنه المنافق، قاله مجاهد، وابن جريج. والثاني: الكافر، قاله قتادة، والسدي. وفي الذي وقع به التمييز بينهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الهجرة والقتال، قاله قتادة، وهو قول من قال: الخبيث: الكافر. والثاني: أنه الجهاد، وهو قول من قال: هو المنافق. قال مجاهد: فميّز الله يوم أُحد بين المؤمنين والمنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلّفوا. والثالث: أنه جميع الفرائض والتكاليف. فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار، فإذا جاءت التكاليف بانَ أمرُه، هذا قول ابن كيسان. وفي المخاطب بقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ قولان: أحدهما: أنهم كفار قريش، فمعناه: ما كان الله ليبين لكم المؤمن من الكافر، لأنهم طلبوا ذلك، فقالوا: أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن، هذا قول ابن عباس. والثاني: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فمعناه: وما كان الله ليطلع محمداً على الغيب، قاله السّدّيّ. و «يجتبي» بمعنى يختار، قاله الزجاج وغيره. فمعنى الكلام على القول الأول: أن الله لا يطلع على الغيب أحداً إلا الأنبياء الذين اجتباهم، وعلى القول الثاني: أن الله لا يطلع على الغيب أحداً إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء. [سورة آل عمران (3) : آية 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم، وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة، وابن عباس في رواية أبي صالح، والشعبي، ومجاهد، وفي رواية السدي في آخرين. والثاني: أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ونبوته، رواه عطية عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، واختاره الزجاج. قال الفراء: ومعنى الكلام: لا يحسبن الباخلون البخل هو خيراً لهم، فاكتفى بذكر «يبخلون» من البخل، كما تقول: قدم فلان، فسررت به، أي: سررت بقدومه. قال الشاعر:

[سورة آل عمران (3) : آية 181]

إِذا نُهي السفيهُ جرى إِليه ... وخالف والسفيه إِلى خلاف «1» يريد جرى إلى السفه. والذي آتاهم الله على قول من قال: البخل بالزكاة: هو المال، وعلى قول من قال: البخل بذكر صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو العلم. قوله تعالى: هُوَ إشارة إلى البخل وليس مذكوراً، ولكنه مدلول عليه ب «يبخلون» . وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال: أحدها: أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان. (242) روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاع «2» أقرع يفر منه، وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وهذا مذهب ابن مسعود، ومقاتل. والثاني: أنه يجعل طوقاً من نار، رواه منصور عن مجاهد، وإبراهيم. والثالث: أن معنى تطويقهم به: تكليفهم أن يأتوا به، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد. والرابع: أن معناه: يلزم أعناقهم إثمه، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: يموت أهل السّماوات وأهل الأرض، ويبقى رب العالمين، قال الزجاج: خوطب القوم بما يعقلون، لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً إذا كان ملكاً له، وقال ابن الأنباري: معنى الميراث: انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به، فلما مات الخلق، وانفرد عزّ وجل صار ذلك له وراثة. قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يعملون» بالياء إتباعاً لقوله تعالى سَيُطَوَّقُونَ وقرأ الباقون بالتاء، لأنّ قبله وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا. [سورة آل عمران (3) : آية 181] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ في سبب نزولها قولان: (243) أحدهما: أن أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود، فوجدهم قد

_ صحيح. أخرجه الترمذي 3012 والنسائي في «الكبرى» 2221 و 11084 وابن ماجة 1784 من حديث ابن مسعود. وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو في صحيح البخاري 1403 و 4565 ومالك 1/ 256- 257 وأحمد 2/ 279 والنسائي 5/ 39 وأبو يعلى 6319 وابن حبان 3258 من حديث أبي هريرة. وورد من حديث جابر أخرجه مسلم 988 والدارمي 1/ 380 وابن حبان 3244 وله شواهد تبلغ به حد الشهرة. وانظر «تفسير القرطبي» 1928 و «تفسير الشوكاني» 571 بتخريجنا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 275 عن عكرمة والسدي ومقاتل وابن إسحاق. وأخرجه الطبري 8300

[سورة آل عمران (3) : آية 182]

اجتمعوا على رجل منهم، اسمه فنحاص، فقال له أبو بكر: اتّق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله. فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر. وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيّا عنّا ما استقرضنا. فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك. فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره أبو بكر بما قال، فجحد فنحاص، فنزلت هذه الآية، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «1» ، هذا قول ابن عباس، وإلى نحوه ذهب مجاهد، وعكرمة والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه لما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً «2» قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، وقتادة. وفي الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، أربعة أقوال: أحدها: أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: حيي بن أخطب، قاله الحسن وقتادة. والثالث: أن جماعة من اليهود قالوه. قال مجاهد: صكَّ أبو بكر رجلاً من الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ لم يستقرضنا وهو غني؟! والرابع: أنه النَّباش بن عمرو اليهودي، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا قرأ حمزة وحده: «سيُكتب» بياء مضمومة و «قتلُهم» بالرفع و «يقول» بالياء، وقرأ الباقون: سَنَكْتُبُ ما قالُوا بالنّون، ووَ قَتْلَهُمُ بالنصب و «نقول» بالنون، وقرأ ابن مسعود «ويقال» وقرأ الأعمش وطلحة: «ويقول» . وفي معنى سَنَكْتُبُ ما قالُوا قولان: أحدهما: سنحفظ عليهم ما قالوا، قاله ابن عباس. والثاني: سنأمر الحفظة بكتابته، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ أي: ونكتب ذلك. فإن قيل: هذا القائل لم يقتل نبياً قط! فالجواب: أنه رضي بفعل متقدميه لذلك، كما بينا في قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. قال الزجاج: ومعنى عَذابَ الْحَرِيقِ: عذاب محرق، أي: عذاب بالنار، لأن العذاب قد يكون بغير النّار. [سورة آل عمران (3) : آية 182] ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى العذاب، والذي قدّمت أيديهم: الكفر والخطايا. [سورة آل عمران (3) : آية 183] الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)

_ من حديث ابن عباس، وفي إسناده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، وهو مجهول. وأخرجه الطبري 8302 عن السدي مرسلا، باختصار، و 8316 عن عكرمة، مرسلا فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، ويعلم أن له أصلا، والله أعلم.

[سورة آل عمران (3) : آية 184]

قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا. قال ابن عباس: (244) نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وجماعة من اليهود، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إن الله عهد إلينا، أي: أمرنا في التوراة: أن لا نؤمن لرسول، أي: لا نصدق رسولاً يزعم أنه رسول، حتى يأتينا بقربان تأكله النار. قال ابن قتيبة: والقربان: ما تُقرب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره. وإنما طلبوا القربان، لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين، وكان نزول النار علامة القبول. قال ابن عباس: كان الرجل يتصدق، فإذا قبلت منه، نزلت نار من السماء فأكلته، وكانت ناراً لها دويُّ، وحفيف. وقال عطاء: كان بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون أطايب اللحم، فيضعونها في وسط البيت تحت السماء، فيقوم النبي في البيت، ويناجي ربه، فتنزل نار، فتأخذ ذلك القربان، فيخر النبي ساجداً، فيوحي الله إليه ما يشاء. قال ابن عباس: قل يا محمد لليهود قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي: بالآيات، وَبِالَّذِي سألتم من القربان. [سورة آل عمران (3) : آية 184] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ معناه: لست بأول رسول كذب. قال أبو علي: وقرأ ابن عامر وحده «بالبينات وبالزبر» بزيادة باءٍ، وكذلك في مصاحف أهل الشام، ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد، ووجه قراءة الجمهور أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل، تقول: مررت بزيد وعمرو، فتستغني عن تكرير الباء. قوله تعالى: وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ قال أبو سليمان: يعني به الكتاب النّيّرة بالبراهين والحجج. [سورة آل عمران (3) : آية 185] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ. قال ابن عباس: (245) لما نزل قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «1» قالوا: يا رسول الله إنما نزل في بني آدم، فأين ذكر الموت في الجن، والطير، والأنعام، فنزلت هذه الآية. وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير، وتزهيد في الدنيا وتنبيه على اغتنام الأجل. وفي قوله تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بشارة للمحسنين، وتهديد للمسيئين.

_ لم أره عن ابن عباس، ولعله من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فقد روى الكلبي عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 277 عن الكلبي بلا سند، والكلبي متروك متهم بالكذب، والصواب الخبر المتقدم، وأن المراد بذلك فنحاص. يأتي في سورة السجدة.

[سورة آل عمران (3) : آية 186]

قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ قال ابن قتيبة: نُجِّي وأُبعد. فَقَدْ فازَ قال الزجاج: تأويل فاز. تباعد عن المكروه ولقي ما يحب، يقال لمن نجا من هلكة ولمن لقي ما يغتبط به: قد فاز. قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يريد أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنِّيه من طول البقاء، وسيقطع عن قريب. قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، فأما من يشتغل بطلب الآخرة، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها. [سورة آل عمران (3) : آية 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) قوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سبب نزولها خمسة أقوال: (246) أحدها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبيّ، وعبد الله بن رواحة، فغشي المجلس عجاجة الدابة، فخمر ابن أُبيّ أنفه بردائه، وقال: لا تغبّروا علينا، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أُبي: إنه لا أحْسَنَ مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا. وقال ابن رواحة: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله، فإنَّا نحب ذلك، فاستبَّ المسلمون، والمشركون، واليهود، فنزلت هذه الآية، رواه عروة عن أسامة بن زيد. والثاني: أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أشدّ الأذى، فنزلت هذه الآية، قال كعب بن مالك الأنصاري. والثالث: أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق، وبين فنحاص اليهودي «1» ، وقد سبق ذكره عن ابن عباس. والرابع: أنها نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر الصديق، قاله أبو صالح عن ابن عباس. واختاره مقاتل. وقال عكرمة: نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر الصديق، وفنحاص اليهودي «2» . (247) والخامس: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، كان يحرِّض المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

_ صحيح. أخرجه البخاري 2987 ومسلم 1798 والطبراني في الكبير 1/ 389 من حديث أسامة بن زيد. تنبيه: لفظ الحديث عند البخاري والطبراني.... قال الله عز وجل وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ ... وليس لها ذكر عند مسلم. ولفظ فأنزل الله عند الواحدي والله أعلم بالصواب. أخرجه الطبري 8317 عن الزهري مرسلا. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 3/ 196- 198 عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك مرسلا. وخبر كعب بن الأشرف صحيح، لكن ليس فيه نزول الآية، فقد أخرج البخاري 2510 و 3031 و 3032 و 4037 ومسلم 1801 وأبي داود 2768 من حديث جابر رضي الله عنه. يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم» : فقال محمد بن مسلمة: أنا، فأتاه فقال: أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. فقال: ارهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال فارهنوني أبناءكم. قالوا كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة- قال سفيان: يعني السلاح- فوعده أن يأتيه، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه» . وورد بألفاظ أخرى.

[سورة آل عمران (3) : آية 187]

وأصحابه في شعره، وهذا مذهب الزهري. قال الزجّاج: ومعنى لَتُبْلَوُنَّ: لتخبرنّ، أي: توقع عليكم المحن، فيعلم المؤمن حقاً من غيره. و «النون» دخلت مؤكدة مع لام القسم، وضمت الواو لسكونها وسكون النون. وفي البلوى في الأموال قولان: أحدهما: ذهابها ونقصانها. والثاني: ما فرض فيها من الحقوق. وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال: أحدها: المصائب، والقتل. والثاني: ما فرض من العبادات. والثالث: الأمراض. والرابع: المصيبة بالأقارب، والعشائر. وقال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم، وباعوا رباعهم، وعذبوهم. قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، والَّذِينَ أَشْرَكُوا: مشركو العرب وَإِنْ تَصْبِرُوا على الأذى وَتَتَّقُوا الله بمجانبة معاصيه. قوله تعالى: فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي: ما يعزم عليه، لظهور رشده. فصل: والجمهور على إحكام هذه الآية، وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السّيف. [سورة آل عمران (3) : آية 187] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي، ومقاتل. فعلى هذا، الكتاب: التوراة. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة والإنجيل. والثالث: أنهم جميع العلماء فيكون الكتاب اسم جنس. قوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) بالياء فيهما، وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم بالتاء فيهما. وفي هاء الكناية في «لتبيننه» و «تكتمونه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول من قال: هم اليهود. والثاني: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله الحسن، وقتادة، وهو أصح، لأن الكتاب أقرب المذكورين، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا «1» .

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 436 (آل عمران: 187) : هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» .

[سورة آل عمران (3) : آية 188]

قوله تعالى: فَنَبَذُوهُ قال الزجاج: أي: رمَوْا به، يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به: قد جعلت هذا الأمر بظهر. قال الفرزدق: تميمَ بنَ قيس لا تكوننَّ حَاجَتي ... بظَهْرٍ ولا يعيا عليَّ جوابها «1» معناه: لا تكونن حاجتي مُهمَلة عندك، مطرحة. وفي هاء «فنبذوه» قولان: أحدهما: أنها تعود إلى الميثاق. والثاني: إلى الكتاب. قوله تعالى: وَاشْتَرَوْا بِهِ يعني: استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به، ووعدهم عليه الجنة ثَمَناً قَلِيلًا أي: عرضا يسيرا من الدنيا. [سورة آل عمران (3) : آية 188] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وقرأ أهل الكوفة: لا تحسبنَّ بالتاء. وفي سبب نزولها ثمانية أقوال «2» : (248) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، سأل اليهود عن شيء، فكتموه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم قد أخبروه به، واستحمدوا بذلك إِليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، فنزلت هذه الآية. والثاني: أنها نزلت في قوم من اليهود، فرحوا بما يصيبون من الدنيا، وأحبّوا أن يقول الناس: إنهم علماء، وهذا القول والذي قبله عن ابن عباس. والثالث: أن اليهود قالوا: نحن على دين إبراهيم، وكتموا ذكر محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير «3» . والرابع: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها، أن محمداً ليس بنبي، فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به، ففرحوا بذلك، وقالوا: نحن أهل الصوم والصّلاة، وأولياء

_ حديث صحيح لكن ليس فيه ذكر نزول الآية، وإنما فيه أنهم المراد بهذه الآية، فقد أخرجه البخاري 4568 ومسلم 2778 ح 8 والترمذي 3014 والنسائي في «التفسير» 106 والطبري 8349 والحاكم 2/ 299 والواحدي 281 من طرق أن مروان بن الحكم قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبنّ أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كذلك حتى قوله يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا. واللفظ للبخاري.

الله، فنزلت هذه الآية «1» ، هذا قول الضحاك، والسدي. (249) والخامس: أن يهود خيبر أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقالوا: نحن على رأيكم، ونحن لكم ردء، وهم مستمسكون بضلالتهم، فأرادوا أن يحمدهم نبيّ الله بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. والسادس: أن ناساً من اليهود جهزوا جيشا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واتفقوا عليهم، فنزلت هذه الآية، قاله إبراهيم النخعي» . والسابع: أن قوماً من أهل الكتاب دخلوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها، فحمدوهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، فنزلت هذه الآية، ذكره الزجاج «3» . (250) والثامن: أن رجالاً من المنافقين كانوا يتخلّفون عن الغزو مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا قدم اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سعيد الخدري، وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين، وما قبله من الأقوال يدل على أنها في اليهود. وفي الذي أتوا ثمانية «4» أقوال: أحدها: أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق. والثاني: تبديلهم التوراة. والثالث: إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب. والرابع: إضلالهم الناس. والخامس: اجتماعهم على تكذيب النبي. والسادس: نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضده. والسابع: اتفاقهم على محاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والثامن: تخلُّفهم في الغزوات، وهذا قول من قال: هم المنافقون. وفي قوله تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ستة أقوال: أحدها: أحبّوا أن يحمدوا على إجابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه. والثاني: أحبّوا أن يقول الناس: إنهم علماء، وليسوا كذلك. والثالث: أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصيام، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن

_ أخرجه الطبري 8350 عن قتادة مرسلا بنحوه، و 8351 من طريق عبد الرزاق بن معمر عن قتادة مرسلا باختصار. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 1/ 192 عن الحسن مرسلا مختصرا. صحيح أخرجه البخاري 4567 ومسلم 2777 ح 7 ص 2142 والطبري 8335 والواحدي 280 من طرق عن أبي سعيد الخدري.

[سورة آل عمران (3) : آية 189]

عباس. والرابع: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: نحن على دين إبراهيم، وليسوا عليه، قاله سعيد بن جبير. والخامس: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: إنا راضون بما جاء به النبي، وليسوا كذلك، قاله قتادة. وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والسادس: أنهم كانوا يحلفون للمسلمين، إذا نصروا: إنا قد سررنا بنصركم، وليسوا كذلك، قاله أبو سعيد الخدري، وهو قول من قال: هم المنافقون. قوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «فلا يحسبُنهم» ، بالياء وضم الباء. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بالتاء، وفتح الباء. قال الزجاج: إنما كررت «تحسبنهم» لطول القصة، والعرب تعيد إذا طالت القصة «حسبت» وما أشبهها، إعلاماً أن الذي يجرى متصل بالأول، وتوكيداً له، فتقول: لا تظننَّ زيداً إذا جاء وكلمك بكذا وكذا، فلا تظننَّه صادقاً. قوله تعالى بِمَفازَةٍ قال ابن زيد، وابن قتيبة: بمنجاة. [سورة آل عمران (3) : آية 189] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه تكذيب القائلين: بأنه فقير. وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تهديد لهم، أي: لو شئت لعجلت عذابهم. [سورة آل عمران (3) : آية 190] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (251) أحدها: أن قريشاً قالوا لليهود: ما الذي جاءكم به موسى؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء. وقالوا للنصارى: ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزلت هذه الآية، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «1» قالت قريش: قد سوى بين آلهتنا، إئتنا بآية، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الضحى، واسمه: مُسلم بن صُبيح. فأما تفسير الآية فقد سبق. [سورة آل عمران (3) : آية 191] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً في هذا الذكر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذّكر في

_ ضعيف منكر، أخرجه الطبراني 12322 والواحدي في «الأسباب» 284 عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لضعف يحيى بن عبد الحميد الحماني، وبه أعله الحافظ الهيثمي في «المجمع» 6/ 329، ثم المتن منكر. وقال الحافظ في «الفتح» 8/ 235: فيه إشكال أن هذه السورة مدنية وقريش من أهل مكة ويحتمل أن يكون سؤالهم لذلك بعد أن هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ولا سيما في زمن الهدنة اه. وقال ابن كثير في «تفسيره» 1/ 438: وهذا مشكل فإن هذه الآية مدنية وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة، والله أعلم.

[سورة آل عمران (3) : آية 192]

الصّلاة، يصلي قائما، فإن لم يستطع، فعلى جنب، هذا قول علي، وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة. والثاني: أنه الذكر في الصلاة وغيرها، وهو قول طائفة من المفسرين. والثالث: أنه الخوف، فالمعنى: يخافون الله قياماً في تصرفهم وقعوداً في دعتهم، وعلى جنوبهم في منامهم. قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن فارس: الفكرة: تردد القلب في الشيء. قال ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة، والقلب ساه. قوله تعالى: رَبَّنا قال الزجاج: معناه: يقولون: ربنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا أي: خلقته دليلاً عليك، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك. ومعنى سُبْحانَكَ: براءةً لك من السوء، وتنزيهاً لك أن تكون خلقتهما باطلاً، فَقِنا عَذابَ النَّارِ فقد صدَّقْنا أنّ لك جنّة ونارا. [سورة آل عمران (3) : آية 192] رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال الزجاج: المخزى في اللغة المذلّ المحقور بأمر لزمه وبحجة. يقال: أخزيته، أي: ألزمته حجةً أذللته معها. وفيمن يتعلق به هذا الخزي قولان: أحدهما: أنه يتعلق بمن يدخلها مخلَّداً، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وابن جبير، وقتادة، وابن جريج، ومقاتل. والثاني: أنه يتعلق بكل داخل إليها، وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله، واختاره ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ قال ابن عباس: وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى. [سورة آل عمران (3) : آية 193] رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً في المنادي قولان: أحدهما: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: أنه القرآن، قاله محمد بن كعب القرظي، واختاره ابن جرير الطبري. قوله تعالى: يُنادِي لِلْإِيمانِ فيه قولان: أحدهما: ينادي إلى الإيمان، ومثله: الَّذِي هَدانا لِهذا «1» ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «2» ، قاله الفراء. والثاني: بأنه مقدم ومؤخر، والمعنى: سمعنا منادياً للإيمان ينادي، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا قال مقاتل: امح عنا خطايانا. وقال غيره: غطها عنا، وقيل: إنما جمع بين غفران الذنوب، وتكفير السيئات، لأن الغفران بمجرد الفضل، والتكفير بفعل الخير. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «الأبرار» و «الأشرار» و «ذات قرار» وما كان مثله بين الفتح والكسر، وقرأ ابن كثير، وعاصم بالفتح. ومعنى مَعَ الْأَبْرارِ: فيهم، قال ابن عباس: وهم الأنبياء والصّالحون.

_ (1) الأعراف: 43. (2) الزلزلة: 5.

[سورة آل عمران (3) : آية 194]

[سورة آل عمران (3) : آية 194] رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) قوله تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا قال ابن عباس: يعنون: الجنة عَلى رُسُلِكَ أي: على ألسنتهم. فإن قيل: ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه خرج مخرج المسألة، ومعناه: الخبر، تقديره: فآمنا، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا. والثاني: أنه سؤال له، أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده، لا أنهم استحقوا ذلك، إذ لو كانوا قد قطعوا أنهم من الأبرار لكانت تزكية لأنفسهم. والثالث: أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، لأنه وعدهم نصراً غير مؤقت، فرغبوا في تعجيله، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير، وقال: أولى الأقوال بالصواب، أن هذه صفة المهاجرين، رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم. فكأنهم قالوا: لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء فعجّل خزيهم، وظفرنا عليهم. [سورة آل عمران (3) : آية 195] فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ. (252) روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فنزلت هذه الآية. واستجاب: بمعنى أجاب. والمعنى: أجابهم بأن قال لهم: إني لا أُضيع عمل عامل منكم ذكرا أو أُنثى. وفي معنى قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ثلاثة أقوال: أحدها: بعضكم من بعض في الدين، والنُصرة والموالاة. والثاني: حكم جميعكم في الثواب واحد، لأن الذكور من الإناث والإناث من الذكور. والثالث: كلكم من آدم وحواء. قوله تعالى: فَالَّذِينَ هاجَرُوا أي: تركوا الأوطان والأهل والعشائر وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني: المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين، فهاجروا، وَقُتِلُوا المشركين وَقُتِلُوا. قرأ ابن كثير، وابن عامر: «وقاتلوا وقتّلوا» مشددة التاء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم: «وقاتلوا وقتلوا» خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: و «قتلوا وقاتلوا» . قال أبو علي: تقديم «قتلوا» جائز، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولاً في المعنى، مؤخراً في اللفظ.

_ حديث حسن. أخرجه الطبري 8367 من طريق مجاهد عن أم سلمة. ورجال الإسناد ثقات رجال الشيخين، فهو صحيح إن كان مجاهد سمعه من أم سلمة وفيه نظر إذ قال فيه: قالت أم سلمة، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 498 والترمذي 3023 عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة. وأخرجه الحاكم 2/ 300 والواحدي 285 عن عمرو بن دينار عن سلمة بن عمر بن أبي سلمة- رجل من ولد أم سلمة قال: قالت أم سلمة. صححه الحاكم على شرط البخاري! وسكت الذهبي! مع أن في إسناده سلمة بن أبي سلمة، وهو مقبول كما في «التقريب» أي حديثه حسن في الشواهد، وقد توبع في ما تقدم، فهو حسن إن شاء الله تعالى. وسيأتي شيء من هذا في سورة الأحزاب.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 إلى 197]

قوله تعالى: ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قال الزجاج: هو مصدرٌ مؤكد لما قبله، لأن معنى وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ: لأثيبنّهم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في اليهود، ثم في ذلك قولان: أحدهما: أن اليهود كانوا يضربون في الأرض. فيصيبون الأموال، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. (253) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيراً، فأبى إلّا على رهن، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لو أعطاني لأوفيته، إني لأمينٌ في السماء أمينٌ في الأرض» فنزلت، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاءٍ، فقال بعض المؤمنين: قد أهلكنا الجهد، وأعداء الله فيما ترون، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. قال قتادة: والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره. وقال غيره: إنما خاطبه تأديباً وتحذيراً، وإن كان لا يغتر. وفي معنى «تقلبهم» ثلاثة أقوال: أحدها: تصرُّفهم في التجارات، قاله ابن عباس، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: تقلُّب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النعم، قاله عكرمة ومقاتل. والثالث: تقلُّبهم غير مأخوذين بذنوبهم، ذكره بعض المفسرين. قال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل، وقال ابن عباس: منفعة يسيرة في الدنيا. والمهاد: الفراش. [سورة آل عمران (3) : آية 198] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) قوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ قرأ أبو جعفر: «لكنَّ» بالتشديد هاهنا، وفي «الزُمر» قال مقاتل: وحدوا. قال ابن عباس: «النزل» الثواب. قال ابن فارس: النُّزُل: ما يهيأ للنّزيل، والنّزيل: الضّيف. [سورة آل عمران (3) : آية 199] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:

_ لم أقف عليه هكذا، والذي ورد في ذلك أن الآية التي نزلت هي قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ....- طه: 131- أخرجه الواحدي 615 والطبري 22455 من حديث أبي رافع، وفيه موسى بن عبيدة الربذي ضعيف، وكرره الطبري 24456 من طريق حسين بن داود عن أبي رافع وحسين واه والمتن منكر، لأن سورة طه مكية، وخبر رهن الدرع متأخر جدا كما قال القرطبي، وسيأتي. وانظر «تفسير القرطبي» 4332 بتخريجنا.

[سورة آل عمران (3) : آية 200]

(254) أحدها: أنها نزلت في النجاشي، لأنه لما مات صلّى عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال قائل: يصلي على هذا العلج النصراني، وهو في أرضه؟! فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس. وقال الحسن، وقتادة: فيه وفي أصحابه. والثاني: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: في عبد الله بن سلام، وأصحابه، قاله ابن جريج، وابن زيد، ومقاتل. والرابع: في أربعين من أهل نجران، وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى، فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله عطاء «1» . قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني: القرآن، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ يعني: كتابهم. والخاشع: الذليل. لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي: عرضاً من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود. وقد سلف بيان سرعة الحساب. [سورة آل عمران (3) : آية 200] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: نزلت في انتظار الصّلاة بعد الصّلاة، وليس يومئذ غزوٌ يرابَط. وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال: أحدها: البلاء والجهاد، قاله ابن عباس. والثاني: الدين، قاله الحسن، والقرظي، والزجاج. والثالث: المصائب، روي عن الحسن أيضاً. والرابع: الفرائض، قاله سعيد بن جبير. والخامس: طاعة الله، قاله قتادة. وفي الذي أمروا بمصابرته قولان: أحدهما: العدو، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: الوعد الذي وعدهم الله: قاله عطاء، والقرظيّ.

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 287 بدون إسناد. عن جابر وابن عباس وأنس وقتادة، وعزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» 246 للثعلبي عن ابن عباس وقتادة. - وخبر جابر، أخرجه الطبري 8376 وفيه رواد بن الجراح، وهو ضعيف. وورد بنحوه من حديث أنس أخرجه النسائي في «التفسير» 108 و 109 والبزار «كشف الأستار» 382 والطبراني في «الأوسط» 2688 والواحدي 288 ورجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع 3/ 38، وصلاة الرسول على النجاشي ثابتة في «الصحيحين» دون هذه القصة. انظر البخاري 1333 ومسلم 951.

وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان: أحدهما: الجهاد للأعداء، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأصل المرابطة والرباط: أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم في الثغر، كلٌ يُعدُّ لصاحبه. والثاني: أنه الصلاة، أُمروا بالمرابطة عليها، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن. وقد ذكرنا في (البقرة) معنى «لعلّ» ، ومعنى «الفلاح» «1» .

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 313: قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا الآية ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة، فحضّ على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر الحبس. وأمر بالمصابرة، فقيل: معناه مصابرة الأعداء، وقيل: على الصلوات الخمس وقيل: إدامة مخالفة النفس عن الشهوات فهي تدعو وهو ينزع. والأول قول الجمهور. ولذلك اختلفوا في معنى قوله (ورابطوا) فقال جمهور الأمة: رابطوا أعداءكم بالخيل أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم ومنه قوله تعالى وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ وفي الموطأ عن مالك بن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزّل شدة يجعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى يقول في كتابه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ولم يكن في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزو يرابط فيه، واحتج بقوله عليه السلام: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثا. قال ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الرباط الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا. قلت: إن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال: الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة أيضا. والمرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما. وقال ابن خويز منداد: للرباط حالتان: حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد. وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق.

سورة النساء

سورة النساء مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) اختلفوا في نزولها على قولين «1» : أحدهما: أنها مكيَّة، رواه عطيّة عن ابن عباس، وهو قول الحسن، ومجاهد، وجابر بن زيد، وقتادة. والثاني: أنها مدنية، رواه عطاء عن ابن عباس، وهو قول مقاتل. وقيل: إنها مدنية، إِلا آية نزلت بمكة في عثمان بن طلحة حين أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة، فيسلِّمها إلى العبّاس، وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «2» ذكره الماوردي. قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمُ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى الطاعة، قاله ابن عباس. والثاني: بمعنى الخشية. قاله مقاتل. والنفس الواحدة: آدم، وزوجها حواء، و «من» في قوله تعالى: وَخَلَقَ مِنْها للتبعيض في قول الجمهور. وقال ابن بحر: «منها» ، أي: من جنسها. واختلفوا أي وقت خلقت له، على قولين: أحدهما: أنها خلقت بعد دخوله الجنة، قاله ابن مسعود، وابن عباس. والثاني: قبل دخوله الجنة، قاله كعب الأحبار، ووهب، وابن إسحاق. قال ابن عباس: لما خلق الله آدم، ألقى عليه النوم، فخلق حواء من ضِلَع من أضلاعه اليُسرى، فلم تؤذه بشيء، ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبداً، فلما استيقظ قيل: يا آدم ما هذه؟ قال: حواء. قوله تعالى: وَبَثَّ مِنْهُما قال الفراء: بثَّ: نشر، ومن العرب من يقول: أبث الله الخلق، ويقولون: بثثتك ما في نفسي، وأبثثتك. قوله تعالى: الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، والبرجمي، عن أبي بكر، عن عاصم.

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 5: هي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. وهو الصحيح، فإن في صحيح البخاري- 4993- عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. والله أعلم. (2) النساء: 58. وسيأتي الحديث أثناء تفسيرها.

[سورة النساء (4) : آية 2]

واليزيدي، وشجاع، والجعفي، وعبد الوارث، عن أبي عمرو: «تسّاءلون» بالتشديد. وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي، وكثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف. قال الزجاج: الأصل: تتساءلون، فمن قرأ بالتشديد. أدغم التاء في السين، لقرب مكان هذه من هذه، ومن قرأ بالتخفيف، حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين. وفي معنى «تساءلون به» ثلاثة أقوال: أحدها: تتعاطفون به، قاله ابن عباس. والثاني: تتعاقدون، وتتعاهدون به. قاله الضحاك، والربيع. والثالث: تطلبون حقوقكم به، قاله الزجاج. فأما قوله «والأرحام» فالجمهور على نصب الميم على معنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وفسّرها على هذا ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسُّدّي، وابن زيد. وقرأ الحسن، وقتادة، والأعمش، وحمزة بخفض الميم على معنى: تساءلون به وبالأرحام، وفسرها على هذا الحسن، وعطاء والنخعي. وقال الزجاج: الخفض في «الأرحام» خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (255) «لا تحلفوا بآبائِكم» ، وذهب إلى نحو هذا الفرّاء، وقال ابن الأنباري: إِنما أراد، حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به، فالمعنى: الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهلية. قال أبو علي: من جر، عطف على الضمير المجرور بالباء، وهو ضعيف في القياس، قليل في الاستعمال، فترك الأخذ به أحسن. فأما الرقيب، فقال ابن عباس، ومجاهد: الرقيب: الحافظ. وقال الخطابي: هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، وهو في نعوت الآدميين الموكل بحفظ الشيء، المترصد له، المتحرز عن الغفلة فيه، يقال منه: رقبت الشيء أرقبه رقبة. [سورة النساء (4) : آية 2] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ. (256) سبب نزولها: أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ، طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت، قاله سعيد بن جبير. والخطاب بقوله تعالى: «وآتوا» للأولياء والأوصياء. قال الزجاج: وإِنما سموا يتامى بعد البلوغ، بالاسم الذي كان لهم، وقد كان يقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يتيم أبي طالب. قوله تعالى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، قرأ ابن محيصن: «تبدلوا» بتاء واحدة. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه إِبدال حقيقة، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه أخذ الجيّد، وإعطاء الرديء

_ صحيح. أخرجه البخاري 3836 و 6648 ومسلم 1646 وأحمد 2/ 20- 42- 76 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم» . وانظر «تفسير القرطبي» 1991 بتخريجنا. عزاه السيوطي في «الدر» 2/ 207 لابن أبي حاتم عن ابن جبير، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 291 بدون إسناد عن مقاتل والكلبي وعزاه ابن حجر في «تخريج الكشاف» 1999 للثعلبي وقال: وسنده إليهما مذكور أول الكتاب- أي كتاب الثعلبي- وسكت الحافظ عليه. وهو معضل، والكلبي متروك متهم، ومقاتل إن كان ابن سليمان، فهو كذاب، وإن كان ابن حيان، فإنه صدوق فيه ضعف وقد روى مناكير كثيرة.

[سورة النساء (4) : آية 3]

مكانه، قاله سعيد بن المسيب، والضحاك، والنخعي، والزهري، والسُّدّي. قال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدراهم الجياد، ويطرح مكانها الزيوف. والثاني: أنه الربح على اليتيم، واليتيم غرّ لا عِلْمَ له، قاله عطاء. والقول الثاني: أنه ليس بإبدال حقيقة، وإنما هو أخْذه مستهلكاً، ثم فيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا لا يورثون النساء والصغار، وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرجال، فنصيب الرجل من الميراث طيب، وما أخذه من حق اليتيم خبيث، هذا قول ابن زيد. والثاني: أنه أكل مال اليتيم بدلاً من أكل أموالهم، قاله الزجاج. و «إلى» بمعنى «مع» والحوب: الإِثم. وقرأ الحسن، وقتادة، والنخعي بفتح الحَاء. قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: حُوب بالضم، وتميم يقولونه بالفتح. قال ابن الأنباري: وقال الفراء: المضموم الاسم، والمفتوح المصدر. قال ابن قتيبة: وفيه ثلاث لغات: حوب، وحوب، وحاب. [سورة النساء (4) : آية 3] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى اختلفوا في تنزيلها وتأويلها على ستة أقوال: أحدها: أن القوم كانوا يتزوجون عدداً كثيراً من النساء في الجاهلية، ولا يتحرّجون من ترك العدل بينهن، وكانوا يتحرّجون في شأن اليتامى، فقيل لهم بهذه الآية: احذروا من ترك العدل بين النساء، كما تحذرون من تركه في اليتامى. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير والضحاك، وقتادة، والسدي ومقاتل. والثاني: أن أولياء اليتامى كانوا يتزوجون النساء بأموال اليتامى، فلما كثر النساء، مالوا على أموال اليتامى، فَقُصِروا على الأربع حفظاً لأموال اليتامى. وهذا المعنى مرويٌّ عن ابن عباس أيضاً، وعكرمة. والثالث: أن معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهن، فانكحوا سواهن من الغرائب اللواتي أحلَّ الله لكم، وهذا المعنى مروي عن عائشة. والرابع: أن معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهن، وحذرتم سوء الصحبة لهن، وقلة الرغبة فيهن، فانكحوا غيرهن، وهذا المعنى مروي عن عائشة أيضا، والحسن. والخامس: أنهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى، فأمِروا بالتحرّج من الزنى أيضا، ونُدبوا إلى النكاح الحلال، وهذا المعنى مروي عن مجاهد. والسادس: أنهم تحرجوا من نكاح اليتامى، كما تحرجوا من أموالهم، فرخّص الله لهم بهذه الآية، وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه، فكأنه قال: وإِن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن، فانكحوهن، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهن، فواحدة، وهذا المعنى مروي عن الحسن «1» .

_ (1) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسيره 3/ 577 (النساء: 3) : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: تأويلها: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فكذلك خافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن، من واحدة إلى الأربع. فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا، فلا تنكحوها، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن» . وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حق وخلطها بغيرها من الأموال. ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى.

قال ابن قتيبة: ومعنى قوله: وإن خفتم، أي: فإن علمتم أنكم لا تعدلون بين اليتامى. يقال: أقسط الرجل: إذا عدل، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (257) المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة. ويقال قسط الرجل: إذا جار، ومنه قول الله أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً. وفي معنى العدل في اليتامى قولان: أحدهما: في نكاح اليتامى. والثاني: في أموالهم. قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ أي: ما حل لكم. قال ابن جرير: وأراد بقوله تعالى: ما طاب لكم، الفعل دون أعيان النساء، ولذلك قال: «ما» ولم يقل: «من» واختلفوا: هل النكاح من اليتامى، أو من غيرهن؟ على قولين قد سبقا. قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. قال الزجاج: هو بدل من «ما طاب لكم» ومعناه: اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً. وإِنما خاطب الله العرب بأفصح اللغات، وليس من شأن البليغ أن يعبّر في العدد عن التسعة باثنتين، وثلاث، وأربع، لأن التسعة قد وضعت لهذا العدد، فيكون عِيَّاً في الكلام. وقال ابن الأنباري: هذه الواو معناها التفرّق، وليست جامعة، فالمعنى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى، وانكحوا ثُلاث في غير الحال الأولى، وانكحوا رُباع في غير الحالين. وقال القاضي أبو يعلى: الواو هاهنا لإِباحة أيِّ الأعداد شاء، لا للجمع، وهذا العدد إنما هو للأحرار، لا للعبيد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: هم كالأحرار. ويدل على قولنا: أنه قال: فانكحوا، فهذا منصرف إلى مَن يملك النكاح، والعبد لا يملك ذلك بنفسه، وقال في سياقها فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، والعبد لا ملك له، فلا يباح له الجمع إِلا بين اثنتين. قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فيه قولان: أحدهما: علمتم. والثاني: خشيتم. قوله تعالى: أَلَّا تَعْدِلُوا قال القاضي أبو يعلى: أراد العدل في القسم بينهن. قوله تعالى: فَواحِدَةً أي: فانكحوا واحدة، وقرأ الحسن، والأعمش، وحميد: «فواحدةٌ» بالرفع، المعنى، فواحدة تقنع. قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني: السراري. قال ابن قتيبة: معنى الآية: فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم، فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فَقَصَرَهم على أربع، ليقدروا على العدل، ثم قال: فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع، فانكحوا واحدة، واقتصروا على ملك اليمين. قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أي: أقرب. وفي معنى تَعُولُوا ثلاثة أقوال: أحدها: تميلوا، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وإبراهيم، وقتادة، والسدي، ومقاتل، والفراء. وقال

_ صحيح. أخرجه مسلم 1827 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

[سورة النساء (4) : آية 4]

أبو مالك، وأبو عبيدة، تجوروا. قال ابن قتيبة، والزجاج: تجوروا وتميلوا بمعنى واحد. واحتكم رجلان من العرب إلى رجل، فحكم لأحدهما، فقال المحكوم عليه: إنك والله تعول علي، أي تميل وتجور. والثاني: تضلوا، قاله مجاهد. والثالث: تكثر عيالكم، قال ابن زيد، ورواه أبو سليمان الدمشقي في «تفسيره» عن الشّافعيّ، وردّه الزجّاج، فقال: أهل اللغة يقولون: هذا القول خطأ، لأن الواحدة يعولها، وإِباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع. [سورة النساء (4) : آية 4] وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) قوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين: أحدهما: أنهم الأزواج، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأن الخطاب للناكحين قد تقدم، وهذا معطوف عليه، وقال مقاتل: كان الرجل يتزوج بلا مهر، فيقول: أرثكِ وترثيني، فتقول المرأة: نعم، فنزلت هذه الآية. والثاني: أنه متوجّه إلى الأولياء ثم فيه قولان: أحدهما: أن الزّوج كان إذا زوج أيّمة حاز صداقها دونها، فنهوا بهذه الآية، هذا قول أبي صالح واختاره الفراء، وابن قتيبة. والثاني: أن الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر، فنهوا عن هذا بهذه الآية، رواه أبو سليمان التيمي عن بعض أشياخه. قال ابن قتيبة: والصدقات: المهور، واحدها: صدقة. وفي قوله تعالى: نِحْلَةً أربعة أقوال: أحدها: أنها بمعنى الفريضة، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد ومقاتل. والثاني: أنها الهبة والعطية، قاله الفراء. قال ابن الأنباري: كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهن، فلما فرض الله لهن المهر، كان نحلة من الله، أي: هبة للنساء، فرضا على الرجال. وقال الزجاج: هو هبة من الله للنساء. قال القاضي أبو يعلى: وقيل: إِنما سمي المهر: نحلة، لأن الزّوج لا يملك بدله شيئاً، لأن البضع بعد النكاح في ملك المرأة، ألا ترى أنها لو وُطئت بشبهة، كان المهر لها دون الزوج، وإِنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة، لا الملك. والثالث: أنها العطية بطيب نفس، فكأنه قال: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، قاله أبو عبيدة. والرابع: أن معنى «النحلة» : الديانة، فتقديره: وآتوهن صدقاتهن ديانة، يقال: فلان ينتحل كذا، أي: يدين به، ذكره الزجاج عن بعض العلماء. قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ يعني: النساء المنكوحات. وفي لَكُمْ قولان: أحدهما: أنه يعني الأزواج. والثاني: الأولياء. و «الهاء» في مِنْهُ كناية عن الصّداق، قال الزّجّاج: ومِنْهُ هاهنا للجنس، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ معناه: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن، فكأنه قال: كلوا الشيء الذي هو مهر، فيجوز أن يسأل الرجل المهر كلّه. ونَفْساً: منصوب على التمييز. فالمعنى: فان طابت أنفسهن لكم بذلك، فكلوه هنيئا مريئا. وفي الهنيء ثلاثة أَقوال: أحدها: أنه ما تؤمن عاقبته. والثاني: ما أعقب نفعا وشفاءً. والثالث: أنه الذي لا ينغِّصُه شيء. وأما «المريء» فيقال: مرئ الطّعام: إذا انهضم، وحمدت عاقبته.

[سورة النساء (4) : آية 5]

[سورة النساء (4) : آية 5] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ، المراد بالسفهاء خمسة أقوال: أحدها: أنهم النساء، قاله ابن عمر. والثاني: النساء والصبيان، قاله سعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة. وعن الحسن ومجاهد كالقولين. والثالث: الأولاد، قاله أبو مالك، وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس، وروي عن الحسن، قال: هم الأولاد الصغار. والرابع: اليتامى، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير في رواية. قال الزجاج: ومعنى الآية: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، بدليل قوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وإنما قال: «أموالكم» ذكراً للجنس الذي جعله الله أموالاً للناس. وقال غيره: أضافها إِلى الولاة، لأنهم قوّامها. والخامس: أن القول على إِطلاقه، والمراد به كل سفيه يستحق الحجر عليه، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي، وغيرهما، وهو ظاهر الآية. وفي قوله تعالى: أَمْوالَكُمُ قولان: أحدهما: أنه أموال اليتامى. والثاني: أموال السفهاء. قوله تعالى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً قرأ الحسن: «اللاتي جعل الله لكم قِواماً» . وقرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ، وأبو عمرو: «قياما» بالألف، وقرأ نافع، وابن عامر: «قَيِّماً» بغير ألف. قال ابن قتيبة: قياماً وقواماً بمنزلة واحدة، تقول: هذا قوام أمرك وقيامه، أي: ما يقوم به أمرك. وذكر أبو علي الفارسي أن «قواماً» و «قياماً» و «قيماً» ، بمعنى القوام الذي يقيم الشأن، قال: وليس قول من قال «القيم» هاهنا: جمع «قيمة» بشيء. قوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي: منها. وفي «القول المعروف» ثلاثة أقوال: أحدها: العدة الحسنة، قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، ومقاتل. والثاني: الردّ الجميل، قاله الضحاك. والثالث: الدعاء، كقولك: عافاك الله، قاله ابن زيد. [سورة النساء (4) : آية 6] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى. (258) سبب نزولها أن رجلاً، يقال له: رفاعة، مات وترك ولداً صغيراً، يقال له: ثابت، فوليه عمّه، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله؟ ومتى أدفع إِليه ماله؟ فنزلت هذه الآية، ذكر نحوه مقاتل. والابتلاء: الاختبار. وبماذا يختبرون؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يختبرون في عقولهم، قاله ابن عباس، والسدي، وسفيان، ومقاتل. والثاني: يختبرون في عقولهم ودينهم، قاله الحسن، وقتادة. وعن مجاهد كالقولين. والثالث: في عقولهم ودينهم، وحفظهم أموالهم، ذكره الثعلبي. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الابتلاء قبل البلوغ.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 8640 عن قتادة مرسلا، وذكره الواحدي في «أسبابه» 294 بدون إسناد.

قوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ قال ابن قتيبة: أي: بلغوا أن ينكحوا النساء فَإِنْ آنَسْتُمْ أي: علمتم، وتبيّنتم. وأصل: أنست: أبصرت. وفي الرشد أربعة أقوال: أحدها: الصلاح في الدين، وحفظ المال، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: الصلاح في العقل، وحفظ المال، روي عن ابن عباس والسدي. والثالث: أنه العقل، قاله مجاهد، والنخعي. والرابع: العقل، والصلاح في الدين، روي عن السدي. فصل: واعلم أن الله تعالى علَّق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين: بالبلوغ والرشد، وأمر الأولياء باختبارهم، فإذا استبانوا رشدهم، وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم. والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء: الاحتلام، واستكمال خمس عشرة سنة، والإِنبات، وشيئان يختصان بالنساء: الحيض والحمل «1» . قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً خطاب للأولياء، قال ابن عباس: لا تأكلوها بغير حقّ.

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 38: واختلف العلماء في تأويل «رشدا» على أقوال- وذكرها- قال سعيد بن جبير والشعبي: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده. وهكذا قال الضّحاك، وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه، وهو مذهب مالك وغيره. وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحرّ البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا. وبه قال زفر بن الهذيل، وهو مذهب النخعي. واحتجوا في ذلك بما رواه أنس أن حبّان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فقيل: يا رسول الله احجر عليه، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف. فاستدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا تبع» . فقال: لا أصبر. فقال له: «فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا» . قالوا: فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان من تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه السلام، ثبت أن الحجر لا يجوز. وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه مخصوص بذلك، فغيره بخلافه. وقال الشافعي: إن كان مفسدا لماله ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين: أحدهما يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شريح. والثاني: لا حجر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزيّ والأظهر من مذهب الشافعي. وإذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال، كذلك نص الآية، وهو رواية ابن وهب عن مالك. وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. قال أبو حنيفة: لكونه جدّا وهذا يدل على ضعف قوله حسب ما تقدم وماذا يعني كونه جدّا إذا كان غير جدّ، أي بخت. إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد. ولم يره أبو حنيفة والشافعي. وفرّق علماؤنا بينهما بأن قالوا: الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح، فيه تفهم المقاصد كلها. والذكر بخلافها، فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحصل له الاختبار، ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض. وما قاله الشافعي أصوب. ثم زاد علماؤنا فقالوا: لا بد بعد الدخول من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال. قال ابن عربي: وذكر علماؤنا في تحديدها أقوالا عديدة: منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب، وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول وليس في هذا كله دليل، وتحديد الأعوام عسير. والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد. فاعرفه وركّب عليه واجتنب التحكّم الذي لا دليل عليه.

وَبِداراً تُبادِرون أكل المال قبل بلوغ الصبِيّ وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ بماله عن مال اليتيم. وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال: أحدها: أنه الأخذ على وجه القرض، وهذا مروي عن عمر، وابن عباس، وابن جبير، وأبي العالية، وعبيدة، وأبي وائل، ومجاهد، ومقاتل. والثاني: الأكل بمقدار الحاجة من غير إِسراف، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وعطاء، والنخعي، وقتادة، والسدي. والثالث: أنه الأخذ بقدر الأجرة إِذا عمل لليتيم عملاً، روي عن ابن عباس، وعائشة، وهي رواية أبي طالب، وابن منصور، عن أحمد رضي الله عنه. والرابع: أنه الأخذ عند الضرورة، فان أيسر قضاه، وإن لم يوسر، فهو في حل، وهذا قول الشعبي «1» . فصل: واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة؟ على قولين: أحدهما: محكمة، وهو قول عمر، وابن عباس، والحسن، والشعبي، وأبي العالية، ومجاهد، وابن جبير، والنخعي، وقتادة في آخرين. وحكمها عندهم أن الغني ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئاً، فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه، وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية، فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إِسراف. وهل عليه الضمان إذا أيسر؟ فيه قولان لهم: أحدهما: أنه لا ضمان عليه، بل يكون كالأجرة له على عمله، وهو قول الحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وأحمد بن حنبل. والثاني: إذا أيسر وجب عليه القضاء، روي عن عمر وغيره، وعن ابن عباس أيضا كالقولين. والقول الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «2» وهذا مروي عن ابن عباس ولا يصح. قوله تعالى: فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ قال القاضي أبو يعلى: هذا على طريق الاحتياط لليتيم، والولي، وليس بواجب، فأما اليتيم، فإنه إذا كانت عليه بيِّنة، كان أبعد من أن يدّعي عدم القبض، وأما الوليّ، فإنه تظهر أمانته، ويسقط عنه اليمين عند إِنكار اليتيم للدَّفع. وفي «الحسيب» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس، والسدّي، ومقاتل. والثاني: أنه الكافي، من قولك: أحسبَني هذا الشيءُ، أي كفاني، والله حسيبي وحسيبك، أي: وكافينا، أي يكون حكماً بيننا كافيا، قال الشاعر «3» : ونُقْفي وليد الحي إن كان جائعاً ... ونُحسِبُه إن كان ليس بجائع

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 464: قال الفقهاء: له أن يأكل من أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر حاجته. واختلفوا هل يردّ إذا أيسر؟ على قولين: أحدهما: لا لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي. لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل. قال أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك- أو قال- تفدي مالك. والثاني: نعم لأن مال اليتيم على الحظر وإنما أبيح للحاجة فيردّ بدله كأكل مال الغير للمضطر لا عند الحاجة. (2) النساء: 29. (3) في «اللسان» : قفي نسب البيت لامرأة من بني قشير. ونقفيه أي نؤثره بالقفية وهي ما يؤثر به الصبي والضيف.

[سورة النساء (4) : آية 7]

أي: نعطيه ما يكفيه حتى يقول: حسبي. قاله ابن قتيبة والخطابي. والثالث: أنه المحاسب، فيكون في مذهب جليس، وأكيل، وشريب، حكاه ابن قتيبة والخطّابيّ. [سورة النساء (4) : آية 7] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. (259) سبب نزولها أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمّه، يقال لهما: قتادة، وعرفطة «1» فأخذوا ماله، ولم يعطيا امرأته، ولا بناته شيئاً، فجاءت امرأته إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكرت له ذلك، وشكت الفقر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كانوا لا يورِّثون النساء، فنزلت هذه الآية. والمراد بالرجال: الذكور، وبالنساء: الإِناث، صغاراً كانوا أو كبارا. و «النصيب» : الحظ من الشيء، وهو مجمل في هذه الآية، ومقداره معلوم من موضع آخر، وذلك مثل قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ «2» وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «3» . والمفروض: الذي فرضه الله، وهو آكدُ من الواجب. [سورة النساء (4) : آية 8] وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 295 بدون إسناد، وأخرجه الطبري 8658 عن عكرمة مرسلا لكن باختصار. ونسبه السيوطي في «الدر» 2/ 217 لأبي الشيخ عن ابن عباس، وكذا ذكره الواحدي في «الوسيط» 2/ 14 عن ابن عباس في رواية الكلبي باختصار، وبدون إسناد. - وورد مختصرا من حديث جابر وسيأتي أخرجه أبو نعيم وأبو موسى كما في «الإصابة» 4/ 487 قال أبو موسى: كذا قال: ليس لهما شيء، وأراد ليس يعطيان شيئا من ميراث أبيهما. قال ابن حجر: قلت: راويه عن سفيان هو إبراهيم بن هراسة ضعيف، وقد خالفه بشر بن المفضل عن عبد الله بن محمد عن جابر أخرجه أبو داود من طريقه قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق، فجاءت المرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله فلم يدع لهما مالا إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فو الله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقضي الله في ذلك» ونزلت سورة النساء يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادعوا لي المرأة وصاحبها» فقال لعمهما «أعطهما الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فلك» قال أبو داود: أخطأ بشر فيه إنما هما ابنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. وانظر «الإصابة في تمييز الصحابة» 4/ 487- 488 ترجمة أم كجّة، وهو عند أبي داود 2891 و 2892 والترمذي 2092 وابن ماجة 2720 وأحمد 3/ 352 والحاكم 4/ 334 والواحدي 298 والبيهقي 6/ 229 من حديث جابر بنحو سياق المصنف، وليس فيه تسمية المرأة بل فيه أن امرأة سعد بن الربيع، والحديث حسن الإسناد.

قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى في هذه القسمة قولان: أحدهما: قسمة الميراث بعد موت الموروث، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين، وبهذا قال الأكثرون، منهم ابن عباس، والحسن، والزهري. والثاني: أنها وصيّة الميّت قبل موته، فيكون مأموراً. بأن يعيّن لمن لا يرثه شيئاً، روي عن ابن عباس، وابن زيد. قال المفسّرون: والمراد بأولي القربى: الذين لا يرثون، فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي: أعطوهم منه، وقيل: أطعموهم، وهذا على الاستحباب عند الأكثرين، وذهب قوم إِلى أنه واجب في المال، فان كان الورثة كباراً، تولوا إِعطاءهم، وإِن كانوا صغاراً تولّى ذلك عنهم وليّ مالهم، فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام، فأمر بشاة، فاشتريت من مالهم، وبطعام فصنع، وقال: لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي، وكذلك فعل محمّد بن سيرين في أيتامِ ولِيَهم، وكذلك روي عن مجاهد: أن ما تضمّنتْه هذه الآية واجب. وفي «القول المعروف» أربعة أقوال: أحدها: أن يقول لهم الولي حين يعطيهم: خذ بارك الله فيك، رواه سالم الأفطس، عن ابن جبير. والثاني: أن يقول الولي: إِنه مال يتامى، وما لي فيه شيء، رواه أبو بشر عن ابن جبير، وفي رواية أخرى عن ابن جبير، قال: إِن كان الميت أوصى لهم بشيء أُنفذت لهم وصيَّتهم، وإِن كان الورثة كباراً رضخوا لهم، وإن كانوا صغاراً، قال وليُّهم: إِني لست أملك هذا المال، إِنما هو للصغار، فذلك القول المعروف. والثالث: أنه العِدَة الحسنة، وهو أن يقول لهم أولياء الورثة: إِن هؤلاء الورثة صغار، فاذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم. رواه عطاء بن دينار، عن ابن جبير. والرابع: أنهم يُعْطَوْنَ من المال، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق: بورك فيكم، وهذا القول المعروف. قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس يفعلون هذا. فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها محكمة، وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، وأبي العالية، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وقد ذكرنا أن ما تضمنته من الأمر مستحب عند الأكثرين، وواجب عند بعضهم. والقول الثاني: أنها منسوخة، نسخها قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيّب، وعكرمة، والضّحّاك، وقتادة في آخرين «1» .

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 48: بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا، إن كان المال كثيرا، والاعتذار إليهم إذا كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ. وإن كان عطاء من قليل ففيه أجر عظيم، درهم يسبق مائة ألف فالآية على هذا القول محكمة قاله ابن عباس وامتثل ذلك جماعة من التابعين: عروة بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الأشعري. وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ والأول أصح. فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير: ضيّع الناس هذه الآية. قال الحسن: هي ثابتة- محكمة- ولكن الناس شحّوا. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية قال: إن ناسا زعموا أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت! لكنها مما تهاون بها، هما واليان: وال يرث، وذلك الذي يرزق، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف، ويقول: لا أمل. لك أن أعطيك. قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية، فإن لم تكن وصية وصى لهم من الميراث. قال النحاس: فهذا أحسن ما قيل في الآية، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير والشكر لله عز وجل. وقالت طائفة: هذا الرضخ- العطاء القليل- واجب على جهة الفرض، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب، لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع.

[سورة النساء (4) : آية 9]

[سورة النساء (4) : آية 9] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً اختلفوا في المخاطب بهذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي. وفي معنى الآية على هذا القول قولان: أحدهما: وليخش الذين يحضرون موصياً في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه، فيفرّقه ويترك ورثته، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل. والثاني: على الضدّ من هذا القول، وهو أنه نهي لحاضري الموصي أن يمنعوه من الوصية لأقاربه، وأن يأمروه بالاقتصار على ولده، وهذا قول مقسم، وسليمان التيمي في آخرين. والقول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى، متعلّق بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً فمعنى الكلام: أحسنوا فيمن وليتم من اليتامى، كما تحبّون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وابن السائب. والثالث: أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصيّة على ما رسم الموصي، وأن تكون الوجوه التي عينها مرعيّة بالمحافظة كرعي الذرّية الضعاف من غير تبديل، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «1» فأمر الوصي، بهذه الآية إِذا وجد ميلاً عن الحق أن يستعمل قضيّة الشرع، ويصلح بين الورثة، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله، وغيره في «الناسخ والمنسوخ» ، فعلى هذا تكون الآية منسوخة، وعلى ما قبله تكون محكمة. و «الضعاف» : جمع ضعيف، وهم الأولاد الصغار، وقرأ حمزة: ضعافاً، بإمالة العين. قال أبو علي: ووجهها: أن ما كان على «فعال» وكان أوله حرفاً مستعلياً مكسوراً، نحو ضعاف، وقفاف، وخفاف حسنت فيه الإِمالة، لأنه قد يُصَعَّدُ بالحرف المستعلي، ثم يُحْدرُ بالكسر، فيستحب أن لا يُصَعَّد بالتفخيم بعد التصوُّب بالكسر، فيجعل الصوت على طريقة واحدة، وكذلك قرأ حمزة: خافُوا عَلَيْهِمْ بامالة الخاء، والإِمالة هاهنا حسنة، وإِن كانت «الخاء» حرفاً مستعلياً، لأنه يطلب

_ (1) البقرة: 182.

[سورة النساء (4) : آية 10]

الكسرة التي في «خِفت» فينحو نحوها بالإِمالة. والقول السّديد: الصّواب. [سورة النساء (4) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن رجلاً من غطفان، يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه، فأكله، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن حيان «1» . والثاني: أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما، فأكل ماله، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسرين. وإنما خصّ الأكل بالذكْر، لأنه معظم المقصود، وقيل: عبّر به عن الأخذ. قال سعيد بن جبير: ومعنى الظلم: أن يأخذه بغير حق. وأما ذكر «البطون» فللتوكيد، كما تقول: نظرت بعيني، وسمعت بأذني. وفي المراد بأكلهم النار قولان: أحدهما: أنهم سيأكلون يوم القيامة ناراً، فسمي الأكل بما يؤول إليه أمرهم، كقوله تعالى: أَعْصِرُ خَمْراً «2» قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلماً، ولهب النار يخرج مِن فيه، ومن مسامعه، وأذنيه، وأنفه، وعينيه، يعرفه مَن رآه يأكل مال اليتيم. والثاني: أنه مَثَل. معناه: يأكلون ما يصيرون به إلى النّار، كقوله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ «3» أي: رأيتم أسبابه. قوله تعالى: وَسَيَصْلَوْنَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، «وسيصلون» بفتح الياء، وقرأ الحسن، وابن عامر، بضم الياء، ووافقهما ابن مقسم، إِلاَّ أنه شدّد. والمعنى: سيُحرَّقون بالنار، ويُشْوَوْن. والسعير: النار المستعرة، واستِعار النارِ: توقُّدها. فصل: وقد توهم قومٌ لا علم لهم بالتفسير وفقهه، أن هذه الآية منسوخة، لأنهم سمعوا أنها لما نزلت، تحرج القوم عن مخالطة اليتامى، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «4» وهذا غلط، وإِنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح، لا على إباحة الظّلم. [سورة النساء (4) : آية 11] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:

_ (1) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 296 عن مقاتل بن حيان بدون إسناد، فهذه علة، ومقاتل ذو مناكير، وخبره معضل، فهو لا شيء. (2) يوسف: 36. (3) آل عمران: 143. (4) البقرة: 220.

(260) أحدها: أن جابر بن عبد الله مرض، فعاده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كيف أصنع في مالي يا رسول الله، فنزلت هذه الآية، رواه البخاري ومسلم. (261) والثاني: أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بابنتين لها، فقالت: يا رسول الله قُتِل أبو هاتين معك يوم أحد، وقد استفاء «1» عمهما مالهما، فنزلت، روي عن جابر بن عبد الله أيضاً. (262) والثالث: أن عبد الرحمن أخا حسان بن ثابت مات، وترك امرأة، وخمس بنات، فأخذ ورثته ماله، ولم يعطوا امرأته، ولا بناته شيئاً، فجاءت امرأته تشكو إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي. قال الزجاج: ومعنى يوصيكم: يفرض عليكم، لأن الوصيّة منه فرض «2» . وقال غيره: إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين: أحدهما: أن الوصية تزيد على الأمر، فكانت آكد. والثاني: أن في الوصية حقاً للموصي، فدل على تأكيد الحال بإضافته إلى حقه. وقرأ الحسن. وابن أبي عبلة: «يوصِّيكم» بالتشديد. قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعني، للابن من الميراث مثل حظ الأنثيين. ثم ذكر نصيب الإِناث من الأول فقال فَإِنْ كُنَّ يعني: البنات نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وفي قوله تعالى: فَوْقَ قولان: أحدهما: أنها زائدة، كقوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ. والثاني: أنها بمعنى الزيادة. قال القاضي أبو يعلى: إنما نص على ما فوق الاثنتين، والواحدة، ولم ينص على الاثنتين، لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث، كان لها مع الأنثى الثلث أولى. قوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ نافع بالرفع، على معنى: وإِن وقعت، أو وجدت واحدة.

_ صحيح. أخرجه البخاري 4577 ومسلم 1616 وأبو داود 2886 والترمذي 3015 وابن ماجة 1436 و 2728 واستدركه الحاكم 2/ 303 من حديث جابر. حسن. أخرجه أبو داود 2891 و 2892 والترمذي 2092 وابن ماجة 2720 وأحمد 3/ 352 والحاكم 4/ 334 والواحدي 298 والبيهقي 6/ 229 من حديث جابر، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حسن لأن مداره على عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو حسن الحديث. وانظر الحديث المتقدم برقم 259 وانظر «تفسير الشوكاني» 607 بتخريجنا. ضعيف. أخرجه الطبري 8727 عن أسباط عن السدي مرسلا فهو ضعيف.

قوله تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ قال الزجاج: أبواه تثنية أَبٍ وأبة، والأصل في الأم أن يقال لها: أبة، ولكن استغنى عنها بأم، والكناية في قوله «لأبويه» عن الميت وإن لم يجرِ له ذكر. وقوله تعالى: فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ أي: إِذا لم يخلف غير أبوين، فثلث ماله لأمه، والباقي للأب، وإِنما خص الأم بالذّكر، لأنه لو اقتصر على قوله تعالى: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ظنّ الظان أن المال يكون بينهما نصفين، فلما خصّها بالثلث، دل على التفضيل. وقرأ ابن كثير، ونافع وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: فَلِأُمِّهِ وفِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ «1» وفِي أُمِّها «2» وفِي أُمِّ الْكِتابِ بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالكسر إذا وصلا، وحجتهما: أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها، من ياء أو كسرة. قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ أي: مع الأبوين، فإنهم يحجبون الأم عن الثلث، فيردونها إلى السدس، واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة حجبوا، فإن كانا أخوين، فهل يحجبانها؟ فيه قولان: أحدهما: يحجبانها عن الثلث، قاله عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، والجمهور. والثاني: لا يحجبها إِلا ثلاثة، قاله ابن عباس، واحتج بقوله: إِخوة. والأخوة: اسم جمع، واختلفوا في أقل الجمع، فقال الجمهور: أقله ثلاثة، وقال قوم: اثنان، والأول: أصح. وإِنما حجب العلماء الأم بأخوين لدليل اتفقوا عليه، وقد يُسمّى الاثنان بالجمع، قال الزجاج: جميع أهل اللغة يقولون: إن الأخوين جماعة، وحكى سيبويه أن العرب تقول: وضعا رحالهما، يريدون: رَحْلَي راحلتيهما. قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أي: هذه السهام إِنما تقسم بعد الوصيّة والدّين. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم «يوصَى بها» بفتح الصاد في الحرفين. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «يوصي» فيهما بالكسر، وقرأ حفص، عن عاصم الأولى بالكسر، والثانية بالفتح. واعلم أن الدَّين مؤخّر في اللفظ، مقدم في المعنى، لأن الدين حق عليه، والوصيّة حق له، وهما جميعا مقدمان على حق الورثة إِذا كانت الوصيّة في ثلث المال، و «أو» لا توجب الترتيب، إِنما تدل على أن أحدهما إِن كان، فالميراث بعده، وكذلك إن كانا. قوله تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فيه قولان: أحدهما: أنه النفع في الآخرة، ثم فيه قولان: أحدهما: أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده، رفع إليه ولده، وكذلك الولد، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أنه شفاعة بعضهم في بعض، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. والقول الثاني: أنه النفع في الدنيا، قاله مجاهد. ثم في معناه قولان: أحدهما: أن المعنى: لا تدرون هل موت الآباء أقرب، فينتفع الأبناء بأموالهم، أو موت الأبناء، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر. والثاني: أن المعنى: أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعاً، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء، ذكره القاضي أبو يعلى. وقال الزجاج: معنى الكلام: أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إِليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فتضعون الأموال على غير حكمة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بما يصلح

_ (1) الزمر: 6. (2) القصص: 59.

[سورة النساء (4) : آية 12]

خلقه، حَكِيماً فيما فرض. وفي معنى «كان» ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها: كان عليماً بالأشياء قبل خلقها، حكيماً فيما يقدِّر تدبيره منها، قاله الحسن. والثاني: أن معناها: لم يزل. قال سيبويه: كأنّ القوم شاهدوا علما وحكمة، فقيل له: إن الله كان كذلك، أي: لم يزل على ما شاهدتم، ليس ذلك بحادث. والثالث: أن لفظة «كان» في الخبر عن الله عزّ وجلّ يتساوى ماضيها ومستقبلها، لأن الأشياء عنده على حال واحدة، ذكر هذه الأقوال الزجّاج. [سورة النساء (4) : آية 12] وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) قوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً قرأ الحسن: «يُوَرِّثُ» بفتح الواو، وكسر الراء مع التشديد. وفي الكلالة أربعة أقوال: أحدها: أنها ما دون الوالد والولد، قاله أبو بكر الصّدّيق. وقال عمر بن الخطاب: أتى عليّ حين وأنا لا أعرف ما الكلالة، فإذا هو: من لم يكن له والد ولا ولد، وهذا قول علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، والزهري، وقتادة، والفراء، وذكر الزجاج عن أهل اللغة، أن «الكلالة» : من قولهم: تكلله النسب، أي: لم يكن الذي يرثه ابنه، ولا أباه. قال: والكلالة سوى الوالد والولد، وإنما هو كالاكليل على الرأس. وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلله النسب: إذا أحاط به. والابن والأب: طرفان للرجل. فاذا مات، ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمّي ذهاب الطّرفين: كلالة. والثاني: أن الكلالة: من لا ولد له، رواه ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاوس. والثالث: أن الكلالة: ما عدا الوالد، قاله الحكم. والرابع: أن الكلالة: بنو العم الأباعد، ذكره ابن فارس، عن ابن الأعرابي «1» . واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم للحي الوارث، وهذا مذهب أبي بكر الصديق، وعامة العلماء الذين قالوا: إن الكلالة مِن دون الوالد والولد، فانهم قالوا: الكلالة: اسم للورثة إِذا لم يكن فيهم ولد ولا والد، قال بعض الأعراب: مالي كثير، ويرثني كلالة متراخ

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 470: الكلالة مشتقة من الإكليل وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه كما روي عن أبي بكر أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه: الكلالة من لا ولد له ولا والد. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد وورد فيه حديث مرفوع. قال أبو الحسين بن اللبان: وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك وهو أنه من لا ولد له والصحيح عنه الأول ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد.

[سورة النساء (4) : آية 13]

نسبهم. والثاني: أنه اسم للميت، قاله ابن عباس: والسدي، وأبو عبيدة في جماعة. قال القاضي أبو يعلى: الكلالة: اسم للميت، ولحاله، وصفته، ولذلك انتصب. والثالث: أنه اسم للميت والحي، قاله ابن زيد. وفيما أخذت منه الكلالة قولان: أحدهما: أنه اسم مأخوذ من الإِحاطة، ومنه الاكليل، لإحاطته بالرأس. والثاني: أنه مأخوذ من الكلال، وهو التعب، كأنه يصل إلى الميراث من بُعد وإِعياء. قال الأعشى: فآليتُ لا أرثي لها من كلالةٍ ... ولا من حفى حتّى تزور محمّدا قوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يعني: من الأم بإجماعهم. قوله تعالى: فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ قال قتادة: ذكرهم وأنثاهم فيه سواء. قوله تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ قال الزجاج: «غير» منصوب على الحال، والمعنى: يوصي بها غير مضار، يعني: للورثة. [سورة النساء (4) : آية 13] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قال ابن عباس: يريد ما حدَّ الله من فرائضه في الميراث وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في شأن المواريث يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ قرأ ابن عامر، ونافع: «ندخله» بالنون في الحرفين جميعاً، والباقون بالياء فيهما. [سورة النساء (4) : آية 14] وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) قوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ فلم يرض بقسمه يُدْخِلْهُ ناراً، فان قيل: كيف قطع للعاصي بالخلود؟ فالجواب: أنه إِذا ردَّ حكم الله، وكفر به، كان كافرا مخلدا في النار. [سورة النساء (4) : آية 15] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ قال الزجاج: «التي» تجمع اللاتي واللواتي. قال الشاعر: من اللواتي والتي واللاتي ... زعمن أني كَبِرتْ لِدَاتي «1» وتجمع اللاتي بإثبات التاء وحذفها. قال الشاعر: من اللاتي لم يحججن يبغين حِسبة ... ولكن لِيَقْتُلْنَ البريء المغفَّلا والفاحشة: الزنى في قول الجماعة.

_ (1) قال البغدادي في «خزانة الأدب» 2/ 560 لا أعرف ما قبله ولا قائله مع كثرة وجوده في كتب النحو، وهو في «القرطبي» قال الجوهري: أنشد أبو عبيدة. وفي «اللسان» : أنشده أبو عمرو- مادة لتا [.....]

[سورة النساء (4) : آية 16]

وفي قوله تعالى: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ قولان: أحدهما: أنه خطاب للأزواج. والثاني: خطاب للحكام، فالمعنى: اسمعوا شهادة أربعة منكم، ذكرهما الماوردي. قال عمر بن الخطاب: إنما جعل الله عزّ وجلّ الشهود أربعة ستراً ستركم به دون فواحشكم. ومعنى «منكم» : من المسلمين. قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ قال ابن عباس: كانت المرأة إِذا زنت، حبست في البيت حتى تموت، فجعل الله لهن سبيلا، وهو الجلد أو الرجم. [سورة النساء (4) : آية 16] وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) قوله تعالى: وَالَّذانِ قرأ ابن كثير: «واللذانّ» بتشديد النون، و «هذانّ» في طه والحج و «هاتين» في القصص: «إحدى ابنتيّ هاتينّ» و «فذانّك» كله بتشديد النون. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بتخفيف ذلك كله، وشدد أبو عمرو «فذانِّك» وحدها. وقوله: واللذان: يعني: الزانيين. وهل هو عام، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه عامٌّ في الأبكار والثُّيَّب من الرجال والنساء، قاله الحسن، وعطاء. والثاني: أنه خاص في البكرين إِذا زنيا، قاله أبو صالح، والسدّي، وابن زيد، وسفيان. قال القاضي أبو يعلى: والأول أصح، لأن هذا تخصيص بغير دلالة. قوله تعالى: يَأْتِيانِها يعني الفاحشة. قوله تعالى فَآذُوهُما فيه قولان: أحدهما: أنه الأذى بالكلام، والتعيير، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسدي، والضحاك، ومقاتل. والثاني: أنه التعيير، والضرب بالنعال، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. فَإِنْ تابا من الفاحشة وَأَصْلَحا العمل فَأَعْرِضُوا عن أذاهما. وهذا كله كان قبل الحد. فصل: كان حد الزانيين، فيما تقدم، الأذى لهما، والحبس للمرأة خاصة، فنسخ الحكمان جميعا، واختلفوا بماذا وقع نسخهما: (263) فقال قوم بحديث عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، الثَّيِّب بالثَّيب جلد مائة، ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة» وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسنة. وقال قوم: نسخ بقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ «1» قالوا: وكان قوله

_ صحيح. أخرجه مسلم 1690 وأبو داود 4415 و 4416 والترمذي 1434 والنسائي في «التفسير» 113 وابن ماجة 2550 والشافعي في «الرسالة» 686 وعبد الرزاق 13359 وابن أبي شيبة 10/ 80 والطيالسي 584 والدارمي 2/ 181 وابن الجارود 810 وأحمد 5/ 313- 317 وابن حبان 4408 و 4409 و 4410 والطحاوي في «المعاني» 3/ 134 من طرق كلهم من حديث عبادة بن الصامت.

[سورة النساء (4) : آية 17]

تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها للبكرين، فنسخ حكمها بالجلد، ونسخ حكم الثيّب من النساء بالرجم «1» . وقال قوم: يحتمل أن يكون النسخ وقع بقرآن، ثم رفع رسمه، وبقي حكمه. لأن في حديث عبادة «قد جعل الله لهن سبيلا» والظاهر: أنه جعل بوحي لم تستقر تلاوته. قال القاضي أبو يعلى: وهذا وجه صحيح، يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسنة. قال: ويمتنع أن يقع النسخ بحديث عبادة، لأنه من أخبار الآحاد، والنسخ لا يجوز بذلك. [سورة النساء (4) : آية 17] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قال الحسن: إِنما التوبة التي يقبلها الله. فأما «السوء» ، فهو المعاصي، سمي سوءاً لسوء عاقبته. قوله تعالى: بِجَهالَةٍ قال مجاهد: كل عاصٍ فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن، وعطاء، وقتادة، والسدي في آخرين: إنما سُمّوا جهالاً لمعاصيهم، لا أنهم غير مُميّزين. وقال الزجاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء، لأن المسلم لو أتى ما يجهله، كان كمن لم يوقع سوءاً، وإنما يحتمل أمرين: أحدهما: أنهم عملوه، وهم يجهلون المكروه فيه. والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسموا جُهَّالاً، لإِيثارهم القليل على الرّاحة الكثيرة، والعاقبة الدّائمة.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 472: كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج إلى أن تموت والسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك. قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 83- 84: قوله تعالى (فآذوهما) قال قتادة والسدي معناه التوبيخ والتعبير وقالت فرقة: هو السب والجفاء دون تعيير. ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال قال النحاس: وزعم قوم أنه منسوخ. قلت: رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (واللاتي يأتين الفاحشة) و (اللذان يأتيانها) كان في أول الأمر فنسختهما الآية التي في النور وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل. واختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك، وأنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك، وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق وقال جماعة من العلماء: بل على الثيب الرجم بلا جلد وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور، متماسكين بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما وبقوله عليه السّلام لأنيس: «اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ولم يذكر الجلد، فهو لو كان مشروعا لما سكت عنه. قيل لهم: إنما سكت عنه، لأنه ثابت بكتاب الله تعالى، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن، لأن قوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ يعم جميع الزناة والله أعلم. ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له: عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ. وهذا واضح.

[سورة النساء (4) : آية 18]

وفي «القريب» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التوبة في الصحة، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن السائب. والثاني: أنه التوبة قبل معاينة ملك الموت. رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال أبو مجلز. والثالث: أنه التوبة قبل الموت، وبه قال ابن زيد في آخرين. [سورة النساء (4) : آية 18] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في السيئات ثلاثة أقوال: أحدها: الشرك، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: أنها النفاق، قاله أبو العالية، وسعيد بن جبير. والثالث: أنها سيئات المسلمين، قاله سفيان الثوري، واحتجّ بقوله تعالى: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. قوله تعالى: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ في الحضور قولان: أحدهما: أنه السَّوْق «1» ، قاله ابن عمر. والثاني: أنه معاينة الملائكة لقبض الروح، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: أنزل الله تعالى بعد هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «2» الآية. فحرّم المغفرة على مَن مات مشركاً، وأرجأ أهل التّوحيد إلى مشيئته، فعلى هذا تكون منسوخة في حق المؤمنين. [سورة النساء (4) : آية 19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. (264) سبب نزولها: أن الرجل كان إِذا مات، كان أولياؤه أحق بامرأته، إِن شاؤوا زوجوها، وإِن شاؤوا لم يزوّجوها، فنزلت هذه الآية. قاله ابن عباس. وقال في رواية أخرى: كانوا في أول الإِسلام إِذا مات الرجل، قام أقرب الناس منه، فيُلقي على امرأته ثوباً، فيرث نكاحها. وقال مجاهد: كان إِذا توفي الرجل، فابنه الأكبر أحق بامرأته، فينكحها إِن شاء، أو يُنكحها من شاء. (265) وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده، وكان ذلك لهم في الجاهلية، فنزلت هذه الآية.

_ صحيح. أخرجه البخاري 4579 و 6948 وأبو داود 2089 والنسائي في «التفسير» 114 والطبري 8870 والبيهقي 7/ 138 والواحدي في «الأسباب» 299 عن ابن عباس. حسن، أخرجه النسائي في تفسيره 115 والطبري 8871 عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وحسّن إسناده الحافظ في «الفتح» 8/ 247، وهو كما قال. وله شاهد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 8874.

قال عكرمة، واسم هذه المرأة: كبيشة بنت معن بن عاصم «1» ، وكان هذا في العرب. وقال أبو مجلز: كانت الأنصار تفعله. وقال ابن زيد: كان هذا في أهل المدينة. وقال السّدي: إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة، فتذهب إِلى أهلها، فإن ذهبت، فهي أحق بنفسها. وفي معنى قوله تعالى: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قولان: أحدهما: أن ترثوا نكاح النساء، وهذا قول الجمهور. والثاني: أَن ترثوا أموالهن كرهاً. روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: كان يُلقي حميم «2» الميت على الجارية ثوباً، فان كانت جميلة تزوجها، وإِن كانت دَميمة حبسها حتى تموت، فيرثها. واختلف القراء في فتح كاف «الكره» وضمّها في أربعة مواضع: هاهنا، وفي التوبة، وفي الأحقاف في موضعين، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو بفتح الكاف فيهن، وضمهن حمزة. وقرأ عاصم، وابن عامر بالفتح في النّساء والتّوبة، وبالضم في الأحقاف. وهما لغتان، قد ذكرناهما في البقرة. وفيمن خوطب بقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خطاب للأزواج، ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرجل كان يكره صحبة امرأته، ولها عليه مهر، فيحبسها، ويضربها لتفتدي، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي. والثاني: أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة، فلعلها لا توافقه، فيفارقها على أن لا تتزّوج إِلاّ بإذنه، ويشهد على ذلك، فاذا خطبت، فأرضته، أذن لها، وإِلا عضلها، قاله ابن زيد. والثالث: أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون، كما كانت الجاهلية تفعل، فنهوا عن ذلك، روي عن ابن زيد أيضا. وقد ذكرنا في البقرة أن الرجل كان يطلق المرأة، ثم يراجعها، ثم يطلقها كذلك أبداً إِلى غير غاية، يقصد إِضرارها، حتى نزلت الطَّلاقُ مَرَّتانِ «3» . والقول الثاني: أنه خطاب للأولياء، ثم في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرجل كان في الجاهلية إذا كانت له قرابة قريبة، ألقى عليها ثوبه، فلم تتزّوج أبداً غيره إِلا بإذنه، قاله ابن عباس. والثاني: أن اليتيمة كانت تكون عند الرجل، فيحبسها حتى تموت، أو تتزوّج بابنه، قاله مجاهد. والثالث: أن الأولياء كانوا يمنعون النساء من التزويج، ليرثوهن، روي عن مجاهد أيضا. والقول الثالث: انه خطاب لورثة أزواج النساء الذين قيل لهم: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً. كان الرجل يرث امرأة قريبة، فيعضلها حتى تموت، أو تردّ عليه صداقها. هذا قول ابن عباس في آخرين «4» وعلى هذا يكون الكلام متّصلاً بالأول، وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر العضل منفصلاً عن

_ (1) ورد عن عكرمة في أثناء خبر، أخرجه الطبري 8874 وانظر ما قبله. (2) في «اللسان» الحميم: القرابة، وهو القريب الذي تودّه ويودّك. (3) البقرة: 229. (4) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 3/ 651 بعد أن ذكر أقوال السلف: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله تعالى وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ قول من قال: نهى الله عز وجل زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد الرجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك ليأخذ ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك، أو لوليها الذي إليه نكاحها. والولي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا فيقال إن عضلها عن النكاح: «عضلها ليذهب ببعض ما آتاها» .

[سورة النساء (4) : آية 20]

قوله تعالى: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ. وفي الفاحشة قولان: أحدهما: أنها النشوز على الزوج، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة في جماعة. والثاني: الزنى، قاله الحسن، وعطاء، وعكرمة في جماعة. قد روى معمر، عن عطاء الخراساني، قال: كانت المرأة إذا أصابت فاحشة، أخذ زوجها ما ساق إليها، وأخرجها، فنسخ ذلك بالحد. قال ابن جرير: وهذا القول ليس بصحيح، لأن الحد حق الله، والافتداء حق للزوج، وليس أحدهما مبطلاً للآخر، والصحيح: أنها إِذا أتت بأي فاحشةٍ كانت، من زنى الفرج، أو بذاءة اللسان، جاز له أن يعضلها، ويُضيِّق عليها حتى تفتدي. فأما قوله تعالى: مُبَيِّنَةٍ فقرأ ابن كثير، وأبو بكر، عن عاصم: «مُبيَّنة» ، و «آيات مبيَّنات» «1» بفتح الياء فيهما جميعاً. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم: بكسر الياء فيهما، وقرأ نافع، وأبو عمرو «مبينة» كسراً و «آيات مبينات» فتحا. وقد سبق ذكر «العِشرة» . قوله تعالى: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً قال ابن عباس: ربما رزق الله منهما ولداً، فجعل الله في ولدها خيراً كثيراً. وقد نَدَبت الآية إِلى إِمساكِ المرأة مع الكراهة لها، ونبَّهت على معنيين: أحدهما: أن الإِنسان لا يعلم وُجوهَ الصلاح، فرب مكروهٍ عاد محموداً، ومحمودٍ عاد مذموماً. والثاني: أن الإِنسان لا يكاد يجد محبوباً ليس فيه ما يكره، فليصبِر على ما يكره لما يُحِبُ. وأنشدوا في هذا المعنى: وَمَن لم يُغَمِّضْ عيْنَه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتِبُ ومن يتَتَبَّع جاهداً كل عَثْرَةٍ ... يجدها ولا يسلم له الدّهر صاحب [سورة النساء (4) : آية 20] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ هذا الخطاب للرجال. والزوج: المرأة. وقد سبق ذكر «القنطار» في (آل عمران) . قوله تعالى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً إنما ذلك في حق من وطئها، أو خلا بها، وقد بيّنَتْ ذلك الآية التي بعدها. قال القاضي أبو يعلى: وإنما خصّ النهي عن أخذ شيء مما أعطى بحال الاستبدال، وإن كان المنع عامّا، لئلّا يظنّ أنه لما عاد البضع إلى ملكها، وجب أن يسقط حقها من المهر، أو يظن ظان أن الثانية أولى بالمهر منها، لقيامها مقامها. وفي البهتان قولان: أحدهما: أنه الظلم، قاله ابن عباس، وابن قتيبة. والثاني: الباطل، قاله الزجاج. ومعنى الكلام: أتأخذونه مباهتين آثمين.

_ (1) النور: 34.

[سورة النساء (4) : آية 21]

[سورة النساء (4) : آية 21] وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) قوله تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ أي: كيف تستجيزون أخذه. وفي «الإِفضاء» قولان: أحدهما: أنه الجماع، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: الخلوة بها، وإن لم يغشها، قاله الفراء. وفي المراد بالميثاق هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذي أخذه الله للنساء على الرجال الإِمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان. هذا قول ابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه عقد النكاح، قاله مجاهد، وابن زيد. والثالث: أنه أمانة الله، قاله الرّبيع. [سورة النساء (4) : آية 22] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الله إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، فنزلت هذه الآية. (266) وقال بعض الأنصار: توفي أبو قيس بن الأسلت، فخطب ابنه قيس امرأته، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تستأذنه، وقالت: إنما كنت أعده ولداً، فنزلت هذه الآية. قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب، عن الكوفيين، والمبرّد عن البصريين، أن «النكاح» في أصل اللغة: اسم للجمع بين الشيئين. وقد سموا الوطء نفسه نكاحاً من غير عقد. قال الأعشى: ومنكوحة غير ممهورة «1» يعني المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد. قال القاضي أبو يعلى: قد يطلق النكاح على العقد، قال الله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «2» وهو حقيقة في الوطء، مجازا في العقد، لأنه اسم للجمع، والجمع: إنما يكون بالوطء، فسمّي العقد نكاحاً، لأنه سبّب إليه. قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فيه ستة أقوال: أحدها: أنها بمعنى: بعد ما قد سلف، فإن الله يغفره، قاله الضحاك، والمفضّل. وقال الأخفش: المعنى: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم، فإنكم تعذّبون به، إِلا ما قد سلف، فقد وضعه الله عنكم. والثاني: أنها بمعنى: سوى ما قد سلف، قاله الفرّاء.

_ أخرجه البيهقي 7/ 161 من طريق أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت الأنصاري، وقال البيهقي: هذا مرسل. والمرسل من قسم الضعيف، ومع ذلك، أشعث بن سوار ضعيف كما في «التقريب» . و «المجروحين 1/ 171» ، وانظر ما تقدم آنفا.

[سورة النساء (4) : آية 23]

والثالث: أنها بمعنى: لكن ما قد سلف فدعوه، قاله قطرب. وقال ابن الأنباري: لكن ما قد سلف، فإنه كان فاحشة. والرابع: أن المعنى: ولا تنكحوا كنكاح آبائِكم النساء، أي: كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إِلا ما قد سلف في جاهليّتكم، من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام، فإنه معفو لكم عنه، وهذا كقول القائل: لا تفعل ما فعلت، أي: لا تفعل مثل ما فعلت، ذكره ابن جرير «1» . والخامس: أنها بمعنى «الواو» فتقديرها: ولا ما قد سلف، فيكون المعنى: إِقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء، ولا تبتدئوا، قاله بعض أهل المعاني. والسادس: أنها للاستثناء، فتقدير الكلام: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز الذي كان عقده بينهم إِلا ما قد سلف منهم بالزنى، والسفاح، فإنهن حلال لكم، قاله ابن زيد. قوله تعالى: إِنَّهُ يعني النكاح، و «الفاحشة» : ما يفحش ويقبح. و «المقت» : أشد البغض. وفي المراد بهذا «المقت» قولان: أحدهما: أنه اسم لهذا النكاح، وكانوا يسمّون نكاح امرأة الأب في الجاهلية: مقتاً، ويُسمّون الولد منه: المقتي. فاعلموا أن هذا الذي حرِّم عليهم من نكاح امرأة الأب لم يزل منكراً في قلوبهم ممقوتاً عندهم. هذا قول الزجاج. والثاني: أنه يوجب مقت الله لفاعله، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قوله تعالى: وَساءَ سَبِيلًا قال ابن قتيبة: أي: قبُح هذا الفعل طريقا. [سورة النساء (4) : آية 23] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ قال الزجاج: الأصل في أمّهات: أمّات، ولكن الهاء زيدت مؤكّدة، كما زادوها في: أهرقت الماء، وإِنما أصله: أرقت. قوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ إنما سُمّين أمهات، لموضع الحرمة. واختلفوا: هل يعتبر في الرضاع العدد، أم لا؟ فنقل حنبل، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بالرضعة الواحدة، وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، والحسن، وطاوس، والشعبي، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابه. ونقل محمد بن العباس، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بثلاث رضعات. ونقل أبو الحارث، عن أحمد: لا يتعلق بأقل من خمس رضعات متفرقات، وهو قول الشافعي «2» .

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 1/ 661: وهو أولى الأقوال في ذلك بالصواب. (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 11/ 309- 310: الأصل في التحريم بالرّضاع الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وأما السنة: ما روت عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة» . وفي لفظ «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . والرضاع الذي لا يشك في تحريمه، أن يكون خمس رضعات فصاعدا. هذا الصحيح في المذهب وروي عن عائشة، وابن مسعود، وابن الزبير، وعطاء، وطاوس. وهو قول الشافعي. وعن أحمد رواية ثانية، أن قليل الرضاع وكثيره يحرّم وروي ذلك عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب، والحسن ومكحول والزهري وأصحاب الرأي، وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يحرّم في المهد ما يفطر به الصائم واحتجوا بالكتاب والسنة. وعن عقبة بن الحارث، أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما. فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «كيف، وقد زعمت أن قد أرضعتكما» . ولأن ذلك فعل يتعلق به تحريم مؤبد. فلم يعتبر فيه العدد. والرواية الثالثة، لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات، وبه قال أبو ثور وداود وابن المنذر. لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحرّم المصّة ولا المصتان» لأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار، يعتبر فيه الثلاث. وإذا وقع الشك في وجود الرضاع، أو في عدد الرضاع المحرّم هل كملا أو لا؟ لم يثبت التحريم لأن الأصل عدمه، فلا تزول عن اليقين بالشك. والسّعوط: بأن يصب اللبن في أنفه من إناء، والوجور: أن يصبّ في حلقه صبا من غير الثدي. فأصح الروايتين أن التحريم يثبت بذلك كما يثبت بالرضاع. وإن عمل اللبن جبنا ثم أطعمه الصبي، ثبت به التحريم، بهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يحرّم به، لزوال الاسم.

قوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أمهات النساء: يحرَّمن بنفس العقد على البنت، سواء دخل بالبنت، أو لم يدخل، وهذا قول عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعمران بن حصين ومسروق، وعطاء، وطاوس، والحسن، والجمهور. وقال عليّ رضي الله عنه في رجل طلق امرأته قبل الدخول: له أن يتزوج أمها، وهذا قول مجاهد، وعكرمة «1» . قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ الرّبيبة: بنت امرأة الرّجل من غيره. ومعنى الربيبة: مربوبة، لأن الرجل يربّيها، وخرج الكلام على الأعم من كون التربية في حجر الرجل، لا على الشرط «2» . قوله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ قال الزجاج: الحلائل: الأزواج. وحليلة بمعنى محلّة، وهي

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 9/ 515- 516: من تزوج امرأة حرّم عليه كل أمّ لها، من نسب أو رضاع، قريبة أو بعيدة بمجرد العقد. نص عليه أحمد. وهو قول أكثر أهل العلم، منهم، ابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وعمران بن حصين وكثير من التابعين. وبه يقول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، وحكي عن علي رضي الله عنه أنها لا تحرم إلا بالدخول بابنتها، كما لا تحرم ابنتها إلا بالدخول. ولنا، قول الله تعالى وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ والمعقود عليها من نسائه فتدخل أمها في عموم الآية. قال ابن عباس: أبهموا ما أبهم القرآن، يعني غمّموا حكمها في كل حال، ولا تفصلوا بين المدخول بها وبين غيرها. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تزوج امرأة، فطلقها قبل أن يدخل بها، فلا بأس أن يتزوج ربيبته، ولا يحلّ له أن يتزوج أمها» . رواه أبو حفص بإسناده. وقال زيد: تحرّم بالدخول أو بالموت، لأنه يقوم مقام الدخول. وقد ذكرنا ما يوجب التحريم مطلقا. وحديث علي رضي الله عنه، أخرجه الطبري 8952 عن خلاس بن عمرو عن علي مرسلا. [.....] (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 516- 517 روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، أنهما رخصا فيها إذا لم تكن في حجره وهو قول داود. قال ابن المنذر: وقد أجمع علماء الأمصار على خلاف هذا القول. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأم حبيبة: «لا تعرضن علي بناتكن، ولا أخواتكن» . لأن التربية لا تأثير لها في التحريم كسائر المحرمات. وأما الآية فلم تخرج مخرج الشرط، وإنما وصفها بذلك تعريفا لها بغالب حالها، وما خرج مخرج الغالب لا يصح التمسّك بمفهومه. وإن لم يدخل بالمرأة لم تحرّم عليه بناتها.

[سورة النساء (4) : آية 24]

مشتقة من الحلال. وقال غيره: سُميت بذلك، لأنها تحل معه أينما كان. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: الحليل: الزوج، والحليلة: المرأة، وسُمّيا بذلك، إِما لأنهما يحلان في موضع واحد، أو لأن كل واحد منهما يحال صاحبه، أي: ينازله، أو لأن كل واحد منهما يحل إِزار صاحبه. قوله تعالى: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ قال عطاء: إِنما ذكر الأصلاب، لأجل الأدعياء. والكلام في قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ على نحو ما تقدم في الآية التي قبلها. وقد زادوا في هذا قولين آخرين: أحدهما: إِلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام، لأنه جمع بين أم يوسف وأختها، وهذا مروي عن عطاء، والسدي، وفيه ضعف لوجهين: أحدهما: أن هذا التحريم يتعلق بشريعتنا، وليس كل الشرائع تتفق، ولا وجه للعفو عنا فيما فعله غيرنا. والثاني: أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله، لعَسُر عليه. والقول الثاني: أن تكون فائدة هذا الاستثناء أن العقود المتقدّمة على الأختين لا تنفسخ، ويكون للانسان أن يختار إِحداهما. (267) ومنه حديث فيروز الديلمي قال: أسلمت وعندي أُختان، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «طلق إِحداهما» ، ذكره القاضي أبو يعلى. [سورة النساء (4) : آية 24] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ. أما سبب نزولها: (268) فروى أبو سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهنّ، فسألنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، فاستحللناهن. وأما خلاف القُرّاء، فقرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة بفتح الصاد في كل القرآن، وفتح الكسائي الصاد في هذه وحدها، وقرأ سائر القرآن «والمحصِنات» و «محصِنات» . قال ابن قتيبة: والإِحصان: أن يحمي الشيء، ويمنع منه، فالمحصنات من النساء: ذوات الأزواج، لأن الأزواج أحصنوهن، ومنعوا منهن. قال الله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، والمحصنات: الحرائر وإن لم يكنَّ متزوجات، لأن الحرّة تُحصَن وتَحصِن، وليست كالأمة، قال الله

_ حسن. أخرجه أبو داود 2243 والترمذي 1129 و 1130 وابن ماجة 1950 و 1951 وعبد الرزاق 12627 وابن أبي شيبة 4/ 317 وأحمد 2/ 232 وابن حبان 4155 والدارقطني 3/ 273- 274 والطبراني 18/ 843 والبيهقي 7/ 184- 185 من طرق عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه به. وإسناده حسن، رجاله ثقات. وأخرجه الدارقطني 3/ 273 من وجه آخر، وفيه محمد بن يحيى الأسلمي شيخ الشافعي، وهو متروك، والحجة في الرواية المتقدمة. صحيح. أخرجه مسلم 1456 وأبو داود 2155 والترمذي 1132 والنسائي 6/ 110 وفي «التفسير» 116 و 117 وعبد الرزاق في «تفسيره» 549 وأحمد 3/ 84 والطيالسي 2239 وأبو يعلى 1318 والبيهقي 7/ 167 من طرق من حديث أبي سعيد. وله شاهد حسن من حديث ابن عباس أخرجه النسائي في «التفسير» 118 وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 441 بتخريجنا والله الموفق.

تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ وقال: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يعني: الحرائر. والمحصنات: العفائف. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يعني العفائف وقال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي: عفّت. وفي المراد بالمحصنات هنا ثلاثة أقوال: أحدها: ذوات الأزواج. وهذا قول ابن عباس. وسعيد بن المسيب والحسن، وابن جبير، والنخعي، وابن زيد، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: العفائف: فإنهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح، أو ملك يمين. وهذا قول عمر بن الخطاب، وأبي العالية، وعطاء، وعبيدة، والسدي. والثالث: الحرائر، فالمعنى: أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذُكِرْنَ في أول السورة، روي عن ابن عباس، وعبيدة. فعلى القول الأول في معنى قوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قولان: أحدهما: أن معناه: إِلاَّ ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب، وعلى هذا تأوَّلَ الآية عليٌ، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وابن عباس، وكان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقاً. والثاني: إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء ذوات الأزواج، بسبي أو غير سبي، وعلى هذا تأوَّلَ الآية ابنُ مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وجابر، وأنس. وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقاً. وقد ذكر ابن جرير، عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن: أنهم قالوا: بيع الأمة طلاقها، والأول أصح. (269) لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خيّر بريرة إِذ أعتقتها عائشة، بين المقام مع زوجها الذي زوَّجها منه سادتُها في حال رقّها، وبين فراقه، ولم يجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم عتق عائشة إِيّاها طلاقاً، ولو كان طلاقاً لم يكن لتخييره إِياها معنى. ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية. وعلى القول الثاني: العفائف حرام إِلا بملك، والملك يكون عقداً، ويكون ملك يمين. وعلى القول الثالث: الحرائِر حرام بعد الأربع إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء، فانهن لم يُحصَرن بعدد. قوله تعالى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: هو منصوب على التوكيد، محمول على المعنى، لأن معنى «حرمت عليكم أمهاتكم» : كتب الله عليكم هذا كتاباً، قال: ويجوز أن ينتصبَ على جهة الأمر، ويكون «عليكم» مفسراً له، فيكون المعنى: إلزموا كتاب الله. قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي: ما بعد هذه الأشياء، إِلا أن السُّنة قد حرَّمت تزويج المرأة على عمتها، وتزويجها على خالتها «1» . وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: «كتب الله عليكم» بفتح الكاف، والتاء، والباء، من غير ألف، ورفع

_ صحيح. أخرجه البخاري 2578 ومسلم 1504 وأبو داود 2916 والنسائي 6/ 162 وأحمد 6/ 45- 46 والبيهقي 6/ 161 والبغوي 1611 وابن حبان 4269 من طرق كلهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «اشتريت بريرة، فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أعتقيها، فإن الولاء لمن أعطى الورق، فأعتقتها، فدعاها النبي صلّى الله عليه وسلّم فخيرها من زوجها فقالت لو أعطاني كذا وكذا ما ثبت عنده. فاختارت نفسها» . وله شاهد من حديث ابن عباس. أخرجه البخاري 2581 و 2582 والترمذي 1156.

الهاء. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: وأحَلَّ بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي: بضم الألف. فصل: قال شيخنا علي بن عبيد الله: وعامة العلماء ذهبوا إِلى أن قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ تحليل ورد بلفظ العموم، وأنه عموم دخله التخصيص، والمخصص له: (270) نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها. وليس هذا على سبيل النسخ. وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث. قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ أي: تطلبوا إِمَّا بصداق في نكاح، أو ثمن في ملك مُحْصِنِينَ قال ابن قتيبة: متزوّجين، وقال الزجاج: عاقدين التزويج، وقال غيرهما: متعفّفين غير زانين. والسفاح: الزنى، قال ابن قتيبة.. أصله من سفحت القربة: إِذا صببتها، فسمّي الزّنى سفاحا، لأنه حين يسافح يصب النطفة، وتصب المرأة النطفة. وقال ابن فارس: السفاح: صب الماء بلا عقد، ولا نكاح، فهو كالشيء يسفح ضياعاً. قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه قولان: أحدهما: أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور. والثاني: أنه الاستمتاع إلى أجل مُسمىً من غير عقد نكاح. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يفتي بجواز المتعة، ثم رجع عن ذلك. وقد تكلف قوم من مفسّري القُرّاء، فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة، ثم نسخت بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه: (271) نهى عن متعة النساء، وهذا تكلُّف لا يحتاج إليه، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاز المتعة، ثم منع منها، فكان قوله منسوخاً بقوله. وأما الآية، فإنها لم تتضمّن جواز المتعة، لأنه تعالى قال فيها: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فدل ذلك على النّكاح الصحيح.

_ صحيح. أخرجه البخاري 5109 و 5110 ومسلم 1408 ح 35 و 36 وأبو داود 2066 والنسائي 6/ 96- 97- 98 وابن ماجة 1929 والشافعي 2/ 18 وعبد الرزاق 10753 وأحمد 2/ 432- 462 و 474 و 489 و 508 و 516 وابن حبان 4068 والبيهقي 5/ 345 و 7/ 165 من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها» . لفظ البخاري. صحيح. أخرج البخاري 4216 و 5523 ومسلم 1407 والنسائي 6/ 126 و 7/ 202 والترمذي 1121 و 1794 وابن ماجة 1961 وأحمد 1/ 79 وسعيد بن منصور 848 والحميدي 37 والدارمي 2/ 140 وابن حبان 4140 و 4143 وأبو يعلى 576 وابن أبي شيبة 4/ 292 والبيهقي 7/ 201 و 202 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الإنسية. - وله شاهد من حديث الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا أيها الناس! إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء. وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله. ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» . أخرجه مسلم 1406 وأحمد 2/ 404 والدارمي 2/ 140 والنسائي 6/ 126 وابن ماجة 1962 وسعيد بن منصور 847 وأبو يعلى 938 وعبد الرزاق 14041 والحميدي 847 والدارمي 2/ 140 وابن الجارود 699 وابن أبي شيبة 4/ 292 وابن حبان 4144 و 4146 و 4148 والطحاوي 3/ 25 من حديث الربيع بن سبرة. وانظر «تفسير الشوكاني» 629.

[سورة النساء (4) : آية 25]

قال الزجّاج: ومعنى قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت، وهو قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: عاقدين التزويج فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن. ومن ذهب في الآية إلى غير هذا، فقد أخطأ، وجهل اللغة. قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ فيه ستة أقوال: أحدها: أن معناه: لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها، ووهبته لزوجها، هذا مروي عن ابن عباس، وابن زيد. والثاني: ولا جناح عليكم فما تراضيتم به من مقام، أو فرقة بعد أداء الفريضة، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث: ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم، أو يُبرِئنكم، قاله أبو سليمان التيمي. والرابع: لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل، وتزيدونهن في الأجر من غير استبراء، قاله السدي، وهو يعود إلى قصّة المتعة. والخامس: لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها، أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه. قاله الزجاج. والسادس: أنه عام في الزيادة، والنقصان، والتأخير، والإِبراء، قاله القاضي أبو يعلى «1» . [سورة النساء (4) : آية 25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا «الطول» : الغنى والسعة في قول الجماعة. و «المحصنات» : الحرائِر، قال الزجاج: والمعنى: من لم يقدر على مهر الحرّة، يقال: قد طال فلان طَولاً على فلان، أي: كان له فضل عليه في القدرة. والمراد بالفتيات هاهنا: المملوكات، يقال: للأمة: فتاة، وللعبد: فتى، وقد سُمّي بهذا الاسم من ليس بمملوك. قرأت على شيخنا الإِمام أبي منصور اللغوي قال: المتفتية: الفتاة والمراهقة، ويقال للجارية الحدثة: فتاة، وللغلام: فتى. قال القتيبي: وليس الفتى بمعنى الشاب والحدث، إِنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال. فأما ذكر الايمان، فشرط في إِباحتهن، ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية، هذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجوز.

_ (1) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 16: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ولا حرج عليكم، أيها الناس، فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم من بعد إعطائهن أجورهن على النكاح الذي جرى بينكم وبينهن من حط ما وجب لهن عليكم، أو إبراء، أو تأخير ووضع. وذلك نظير قوله جل ثناؤه وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً النساء: 4. فأما الذي قاله السدي، فقول لا معنى له، لفساد القول بإحلال جماع امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين.

قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ قال الزجاج: معناه: اعملوا على ظاهركم في الإِيمان، فإنكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض. قال: وفي قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وجهان: أحدهما: أنه أراد النسب، أي كلكم ولد آدم. ويجوز أن يكون معناه: دينكم واحد، لأنه ذكر هاهنا المؤمنات. وإِنما قيل لهم ذلك، لأن العرب كانت تطعن في الأنساب، وتفخر بالأحساب، وتُسمّي ابن الأمة: الهجين، فأعلم الله عزّ وجلّ أن أمر العبيد وغيرهم مستوٍ في باب الإِيمان، وإِنما كُره التزويج بالأمة، وَحَرُمَ إذا وجَدَ إلى الحُرّة سبيلاً، لأن وُلْدَ الأمة من الحُرّ يصيرون رقيقاً، ولأن الأمة ممتهنة في عشرة الرجال، وذلك يشق على الزوج. قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: كلكم بنو آدم، فلا يتداخلْكم شُموخ وأنفة من تزوج الإِماء عند الضرورة. وقال ابن جرير: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض، لينكح هذا فتاة هذا. قوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ يعني: الإِماء بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، أي: سادتهن. و «الأجور» : المهور. وفي قوله: بِالْمَعْرُوفِ قولان: أحدهما: أنه مقدم في المعنى، فتقديره: انكحوهن بإذن أهلهن بالمعروف، أي: بالنكاح الصحيح وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. والثاني: أن المعنى: وآتوهن أجورهن بالمعروف، كمهور أمثالهن. قال ابن عباس: مُحْصَناتٍ: عفائف غير زوانٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ يعني: أخلاَّء، كان الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنى، ويستحلّون ما خفي. وقال في رواية أخرى: «المسافحات» : المعلنات بالزّنى. و «المتّخذات أخدَان» : ذات الخليل الواحد. وقال غيره: كانت المرأة تتخذ صديقاً تزني معه، ولا تزني مع غيره. قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «أحصن» مضمومة الألف. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: بفتح الألف، والصاد. قال ابن جرير: من قرأ بالفتح، أراد: أسلمن، فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالاسلام، ومن قرأ بالضم، أراد: فاذا تزوّجن، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج. فأما «الفاحشة» ، فهي الزّنى، والْمُحْصَناتُ: الحرائر، و «العذاب» : الحد. قال القاضي أبو يعلى: وليس الإسلام والتزويج شرطاً في إِيجاب الحدّ على الأمة، بل يجب وإِن عُدِما، وإِنما شرط الإِحصان في الحدّ، لئلا يتوهم متوهّم أن عليها نصف ما على الحرة إِذا لم تكن محصنة، وعليها مثل ما على الحرّة إِذا كانت محصنة. قوله تعالى: ذلِكَ الإِشارة إلى إِباحة تزويج الإِماء. وفي الْعَنَتَ خمسة أقوال: أحدها: أنه الزنى، قاله ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: أنه الهلاك، ذكره أبو عبيدة، والزجاج. والثالث: لقاء المشقة في محبة الأمة، حكاه الزجاج. والرابع: أن العنت هاهنا: الإِثم. والخامس: أنه العقوبة التي تعنته، وهي الحد، ذكرهما ابن جرير الطبري. قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على إِباحة نكاح الإِماء المؤمنات بشرطين: أحدهما: عدم طَول الحرّة. والثاني: خوف الزنى، وهذا قول ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومسروق، ومكحول، وأحمد، ومالك، والشافعي. وقد روي عن علي، والحسن، وابن المسيّب، ومجاهد،

[سورة النساء (4) : آية 26]

والزهري، قالوا: ينكح الأمة، وإِن كان موسراً، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. قوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ، قال ابن عباس والجماعة: عن نكاح الإِماء، وإِنما ندب إِلى الصّبر عنه، لاسترقاق الأولاد. [سورة النساء (4) : آية 26] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. اللام بمعنى «أن» ، وهذا مذهب جماعة من أهل العربيّة، واختاره ابن جرير، ومثله: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ «1» ، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ «2» ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «3» . والبيان من الله تعالى بالنص تارةً، وبدلالة النّص أخرى. قال الزجّاج: و «السّنن» : الطُرُق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم. وقال غيره: معنى الكلام: يريد الله ليُبيّن لكم سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل، لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحق، ويهديكم إلى الحق. [سورة النساء (4) : آية 27] وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) قوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: يريد أن يدلكم على ما يكون سبباً لتوبتكم. وفي الذين اتبعوا الشهوات أربعة أقوال: أحدها: أنهم الزناة، قاله مجاهد، ومقاتل. والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي. والثالث: أنهم اليهود خاصّة، ذكره ابن جرير. والرابع: أهل الباطل، قاله ابن زيد. قوله تعالى: أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً أي: عن الحق بالمعصية. [سورة النساء (4) : آية 28] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ التخفيف: تسهيل التكليف، أو إِزالة بعضه. قال ابن جرير: والمعنى: يريد أن يُيَسِّر لكم بإذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولاً لحرّة. وفي المراد بضعْف الإنسان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضعف في أصل الخلقة. قال الحسن: هو أنه خُلق من ماءٍ مهين. والثاني: أنه قلة الصبر عن النساء، قاله طاوس، ومقاتل. والثالث: أنه ضعف العزم عن قهر الهوى، وهذا قول الزجّاج، وابن كيسان. [سورة النساء (4) : آية 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ، الباطل: ما لا يحل في الشرع. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «تجارة» بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم بالنصب، وقد بينّا العلة في آخر (البقرة) . قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه على ظاهره، وأن الله حرم على

_ (1) سورة الشورى: 15. (2) سورة الأنعام: 71. (3) سورة الصف: 8.

[سورة النساء (4) : آية 30]

العبد قتل نفسه، وهذا الظاهر. والثاني: أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضاً، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة. والثالث: أن المعنى: لا تكلفوا أنفسكم عملاً ربّما أدى إلى قتلها وإِن كان فرضاً. (272) وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جُنباً في ليلة باردة، فلمّا ذكر ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: يا رسول الله إِني احتلمتُ في ليلة باردة، وأشفقت إِن اغتسلت أن أهلِك، فذكرت قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والرابع: أن المعنى: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظها، فكأنما قتلها، هذا قول الفضيل بن عياض. والخامس: لا تقتلوها بارتكاب المعاصي. [سورة النساء (4) : آية 30] وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً في المشار إِليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قتل النفس، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: أنه عائد إِلى كل ما نهى الله عنه من أوّل السورة إلى هاهنا، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث: قتل النفس، وأكل الأموال بالباطل، قاله مقاتل. [سورة النساء (4) : آية 31] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ، اجتناب الشيء: تركه جانباً. وفي الكبائر أحد عشر قولاً: (273) أحدها: أنها سبع. فروى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إِلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» . (274) وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الكبائر سبع، الإِشراك بالله أولهن، وقتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبروا، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، وانقلاب إلى أعرابية بعد هجرة» .

_ جيد. أخرجه أبو داود 334 وأحمد 4/ 203- 204 والحاكم 1/ 177 والبيهقي 1/ 225 من حديث عمرو بن العاص. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في الفتح 1/ 454: إسناده قوي. ونقل الزيلعي في نصب الراية 1/ 157 عن النوري قوله: حسن أو صحيح. صحيح. أخرجه البخاري 2766 و 5764 و 6857 ومسلم 89 وأبو داود 6874 والنسائي 6/ 257 وأبو عوانة 1/ 54- 55 والطحاوي في «المشكل» 894 وابن حبان 5561 والبيهقي 8/ 249 من طرق وكلهم عن أبي هريرة مرفوعا. أخرجه البزار 109 «كشف» وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 1/ 103: رواه البزار، وفيه عمرو بن أبي سلمة، ضعفه شعبة وغيره، ووثقه أبو حاتم وابن حبان وغيره.

وروي عن عليّ عليه السلام قال: هي سبع، فعدّ هذه. وروي عن عطاء أنه قال: هي سبع، وعدّ هذه، إِلا أنه ذكر مكان الإِشراك والتعرّب شهادة الزور وعقوق الوالدين. (275) والثاني: أنها تسع. روى عبيد بن عمير، عن أبيه، وكان من الصّحابة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل ما الكبائر؟ فقال: «تسع، أعظمهن الإِشراك بالله، وقتل نفس المؤمن بغير حق، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والسحر، وأكل الرّبا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً» . (276) والثالث: أنها أربع. روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الكبائِر: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» «1» . (277) وروى أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكبائر، أو سئل عنها، فقال: «الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين» وقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو شهادة الزور» . وروي عن ابن مسعود أنه قال: الكبائِر أربع: الإِشراك بالله، والأمن لمكر الله، والقنوط من رحمة الله، والإِياس من روح الله، وعن عكرمة نحوه. (278) والرابع: أنها ثلاث. فروى عمران بن حصين، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله، وعقوق الوالدين- وكان متكئا فاحتفز «2» - قال: والزّور» .

_ أخرجه أبو داود 2875 والنسائي 7/ 89 والحاكم 1/ 59 ح 197 و 4/ 259 ح 7666 من حديث عبيد بن عمير بن قتادة عن أبيه. قال الحاكم عقب الرواية الأولى: قد احتجا برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان، وتعقبه الذهبي بقوله: لم يحتجا به لجهالته. ووثقه ابن حبان وصححه الحاكم عقب الرواية الثانية! وسكت الذهبي! مع أن الإسناد واحد. وقال الحافظ في «التقريب» عن عبد الحميد بن سنان: مقبول اه. أي حيث يتابع وقال الذهبي في «الميزان» 4778: لا يعرف وقد وثقه بعضهم، وقال البخاري: روى عن عبيد بن عمير وفي حديثه نظر. وله شاهد عن ابن عمر لكن الجمهور رووه موقوفا. صحيح. أخرجه البخاري 687- 6920 والترمذي 3021 والنسائي 7/ 89 و 8/ 63 وأحمد 2/ 201 والدارمي 2/ 191 وأبو نعيم في «الحلية» 7/ 202 وابن حبان 5562 والبيهقي 10/ 35 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وورد من حديث عبد الله بن أنيس أخرجه الترمذي 3020 وأحمد 3/ 495 والحاكم 4/ 296 والطحاوي في «المشكل» 893 من طريق الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن محمد بن زيد عن أبي أمامة عنه. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الترمذي: حسن غريب اه. صحيح. أخرجه البخاري 2653 ومسلم 88 والترمذي 1207 و 3018 والطحاوي في «المشكل» 897. حسن. أخرجه الطبراني 2633 و 18/ 140 من حديث عمران. وقال الهيثمي في «المجمع» 1/ 103: رجاله ثقات، إلا أن الحسن مدلس، وعنعنه. قلت: وقال أبو حاتم: لم يسمع الحسن من عمران. لكن للحديث شواهد، فهو حسن إن شاء الله.

[سورة النساء (4) : آية 32]

(279) وروى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين- وكان متكئا فجلس- فقال: وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. (280) وأخرجا في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود قال: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أي الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله تعالى نِدّاً وهو خَلَقَكَ» . قلتُ: ثم أيّ؟ قال: «ثم أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك» . قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تُزانيَ حليلة جارك» . والخامس: أنها مذكورة من أوّل السورة إِلى هذه الآية، قاله ابن مسعود وابن عباس. والسادس: أنها إِحدى عشرة: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وقتل النفس. وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، والسحر، والخيانة. روي عن ابن مسعود أيضا. والسابع: أنها كل ذنب يختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. والثامن: أنها كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة، والحدّ في الدنيا، روى هذا المعنى أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والتاسع: أنها كلُّ ما عُصي الله به، روي عن ابن عباس، وعبيدة «1» ، وهو قول ضعيف. والعاشر: أنها كل ذنب أوعَدَ الله عليه النار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك في رواية، والزجاج. والحادي عشر: أنها ثمان، الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل المؤمن، وقذف المحصنة، والزنا، وأكل مال اليتيم، وقول الزور، واقتطاع الرجل بيمينه وعهدِه ثمناً قليلاً. رواه مُحْرزِ، عن الحسن البصري. قوله تعالى: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ روى المفضّل، عن عاصم: «يكفر» «ويدخلكم» بالياء فيهما، وقرأ الباقون بالنون فيهما، وقرأ نافع، وأبان، عن عاصم، والكسائي، عن أبي بكر، عن عاصم: «مَدخلاً» بفتح الميم هاهنا، وفي «الحج» وضم الباقون «الميم» ، ولم يختلفوا في ضم «ميم» مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ «2» . قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون «المدخل» مصدراً ويجوز أن يكون مكاناً، سواءً فتح، أو ضمّ: قال السدي: السيئات هاهنا: هي الصغائِر. والمدخل الكريم: الجنّة. قال ابن قتيبة: والكريم: بمعنى: الشّريف. [سورة النساء (4) : آية 32] وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)

_ صحيح. أخرجه البخاري 2654 و 5976 و 6273 و 6274 و 6919 ومسلم 87 والترمذي 1901 و 3019 وأبو عوانة 1/ 54 والطحاوي في المشكل 892 والبيهقي 10/ 121. عن أبي بكرة. صحيح. أخرجه البخاري 4761 و 6001 و 6811 و 6861 و 7532 ومسلم 86 من وجوه، وأبو داود 2310 والترمذي 3182 والنسائي 7/ 89- 90 وأحمد 1/ 434- 462 والطحاوي في «المشكل» 1/ 379 وابن حبان 4414 و 4415 و 4416 والبغوي 42 والبيهقي 8/ 18 من طرق كثيرة كلهم عن ابن مسعود.

قوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (281) أحدها: أن أم سلمة قالت: يا رسول الله: يغزو الرجال، ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. (282) والثاني: أن النساء قلن: وددن أن الله جعل لنا الغزو، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. (283) والثالث: أنه لما نزل لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قال الرجال: إِنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا، كما فضّلنا عليهن في الميراث، وقال النساء: إِنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة، والسدي. وفي معنى هذا التمني قولان: أحدهما: أن يتمنّى الرجل مال غيره، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: أن يتمنى النساء أن يكن رجالاً. وقد روي عن أم سلمة أنها قالت: يا ليتنا كنا رجالاً، فنزلت هذه الآية «1» . وللتّمني وجوه: أحدها: أن يتمنّى الإِنسان أن يحصل له مال غيره، ويزول عن الغير، فهذا الحسد. والثاني: أن يتمنّى مثل ما لغيره، ولا يحب زواله عن الغير، فهذا هو الغبطة وربما لم يكن نيل ذلك مصلحة في حق المتمنّي. قال الحسن: لا تمنَّ مال فلان، ولا مال فلان، وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال؟ والثالث: أن تتمنى المرأة أن تكون رجلاً، ونحو هذا مما لا يقع، فليعلم العبد أن الله أعلم بالمصالح، فليرض بقضاء الله، ولتكن أمانيه الزيادة من عمل الآخرة. قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ فيه قولان: أحدهما: أن المراد بهذا الاكتساب: الميراث، وهو قول ابن عباس، وعكرمة. والثاني: أنه الثواب والعقاب. فالمعنى: أن المرأة تثاب كثواب الرجل، وتأثم كإثمه، هذا قول قتادة، وابن السائب، ومقاتل، واحتجّ على صحته أبو سليمان الدمشقي بأن الميراث لا يحصل بالاكتساب، وبأن الآية نزلت لأجل التمني والفضل. قوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ قرأ ابن كثير، والكسائي، وأبان، وخلف في اختياره «وسلوا الله» «فسل الذين» «فسل بني إِسرائيل» «وسل من أرسلنا» وما كان مثله من الأمر المواجه به، وقبله «واو» أو «فاء» فهو غير مهموز عندهم. وكذلك نقل عن أبي جعفر، وشيبة «2» . وقرأ الباقون

_ حسن بشواهده. أخرجه الترمذي 3022 والحاكم 2/ 305 والواحدي 306 من طريق مجاهد عن أم سلمة. قال الترمذي: هذا حديث مرسل اه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، إن كان سمع مجاهد من أم سلمة ووافقه الذهبي، وللحديث شواهد مرسلة، وهي الآتية. أخرجه الطبري 9245 عن مجاهد وعكرمة، قالا: نزلت في أم سلمة. مرسل. أخرجه الطبري 9247 عن السدي مرسلا، وهو شاهد لما قبله.

[سورة النساء (4) : آية 33]

بالهمز في ذلك كله، ولم يختلفوا في قوله تعالى: وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا «1» أنه مهموز. وفي المراد بالفضل قولان: أحدهما: أن الفضل: الطّاعة، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنه الرزق، قاله ابن السائِب، فيكون المعنى: سلوا الله ما تتمنونه من النعم، ولا تتمنوا مال غيركم. [سورة النساء (4) : آية 33] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ الموالي: الأولياء، وهم الورثة من العصبة وغيرهم. ومعنى الآية: لكل إِِنسان موالي يرثون ما ترك. وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإِعراب: أحدهما: أن يكون الرفع على خبر الابتداء، والتقدير: وهم الوالدان والأقربون، ويكون تمام الكلام قوله: مِمَّا تَرَكَ. والثاني: أن يكون رفعا على أن الفاعل التّارك للمال، فيكون الوالدان، هم المولى. قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «عاقدت» بالألف، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «عقدت» بلا ألف. قال أبو علي: من قرأ بالألف، فالتقدير: والذين عاقَدَتهم أيمانكم، ومن حذف الألف، فالمعنى: عقدت حِلْفهم أيمانكم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إِليه مقامه. وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أهل الحلف، كان الرجل يحالف الرجل، فأيّهما مات ورثه الآخر، فنسخ ذلك بقوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «2» ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وروى عنه عطيّة قال: كان الرجل يلحق الرجل في الجاهلية، فيكون تابعه، فإذا مات الرجل، صار لأهله الميراث، وبقي تابعه بغير شيء، فأنزل الله «والذين عاقدت أيمانكم» فأعطي من ميراثه، ثم نزل من بعد ذلك وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ، وممن قال هم الحُلفاء: سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة. (284) والثاني: أنهم الذين آخى بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم المهاجرون والأنصار، كان المهاجرون يورّثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي عقدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم. رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وبه قال ابن زيد. والثالث: أنهم الذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهلية، هذا قول سعيد بن المسيّب. فأمّا أرباب القول الأول، فقالوا: نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النصرة والميراث بآخِرِ (الأنفال) ، وإِليه ذهب ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وأحمد، والشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا الحكم باقٍ غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من

_ صحيح. أخرجه البخاري 6747 عن ابن عباس: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ.... وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ النساء: 33 قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهم، فلما نزلت: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ قال: نسختها وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ، لفظ البخاري. وانظر «تفسير القرطبي» 2155 بتخريجنا.

[سورة النساء (4) : آية 34]

موالي المعاقدة. وذهب قوم إِلى أن المراد: فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة من غير ميراث، وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد. وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة: إِنما كانت في الجاهلية على النصرة لا غير، والإسلام لم يُغيّر ذلك، وإنما قرّره. (285) فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما حلف كان في الجاهلية، فإن الإِسلام لم يزده إِلاّ شدّة» أراد: النصر والعون. وهذا قول سعيد بن جبير، وهو يدل على أن الآية محكمة. [سورة النساء (4) : آية 34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. (286) سبب نزولها: أن رجلاً لطم زوجته لطمةً فاستعدت عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذكر المفسّرون أنه سعد بن الربيع الأنصاري «1» . قال ابن عباس: «قوّامون» أي: مسلّطون على تأديب النساء في الحق. وروى هشام بن محمّد عن أبيه «2» في قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ قال: إِذا كانوا رجالا، وأنشد: أكلّ امرئ تحسبين امرأ ... وناراً توقّدُّ باللَّيل نارا «3» قوله تعالى: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني: الرجال على النساء، وفضل الرجل على المرأة بزيادة العقل، وتوفير الحظ في الميراث، والغنيمة، والجمعة، والجماعات، والخلافة، والإمارة، والجهاد، وجعل الطلاق إليه، إلى غير ذلك. قوله تعالى: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ قال ابن عباس يعني: المهر والنفقة عليهن. وفي «الصالحات» قولان: أحدهما: المحسنات إِلى أزواجهن، قاله ابن عباس. والثاني: العاملات بالخير، قاله ابن المبارك. قال ابن عباس: و «القانتات» : المطيعات لله في أزواجهنّ، والحافظات للغيب، أي:

_ صحيح. أخرجه مسلم 2530 وأبو داود 2925 وأحمد 4/ 83 وابن حبان 4371 والطبري 9295 والطبراني 1597 والبيهقي 6/ 262 من حديث جبير بن مطعم، وصدره «لا حلف في الإسلام، وأيما ... » . - وله شاهد أخرجه الطبري 9292 وأحمد 5/ 61 والطبراني 18/ 865 عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الحلف فقال: «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في الإسلام» . - وله شاهد أخرجه الطبري 9295 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته يوم فتح مكة: فوا بالحلف، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام» . ضعيف. أخرجه الطبري 9503 عن ابن عباس به، وفيه محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق، وهو مجهول.

لغيب أزواجهن. وقال عطاء، وقتادة: يحفظن ما غاب عنه الأزواج من الأموال، وما يجب عليهن من صيانة أنفسهن لهم. قوله تعالى: بِما حَفِظَ اللَّهُ قرأ الجمهور برفع اسم «الله» . وفي معنى الكلام على قراءتهم ثلاثة أقوال: أحدها: بحفظ الله إِياهن، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل، وروى ابن المبارك، عن سفيان، قال: بحفظ الله إِياها أن جعلها كذلك. والثاني: بما حفظ الله لهن مهورهن، وإيجاب نفقتهن، قاله الزجاج. والثالث: أن معناه: حافظات للغيب بالشيء الذي يحفظ به أمر الله، حكاه الزجاج. وقرأ أبو جعفر بنصب اسم الله. والمعنى: بحفظهن الله في طاعته. قوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ في الخوف قولان: أحدهما: أنه بمعنى العلم، قاله ابن عباس. والثاني: بمعنى الظن لما يبدو من دلائِل النشوز، قاله الفراء، وأنشد: وما خِفْتُ يا سلاَّم أنّك عائِبي «1» قال ابن قتيبة: والنشوز: بغض المرأة للزوج، يقال: نَشَزَت المرأة على زوجها، ونشصت: إِذا فركته «2» ، ولم تطمئن عنده، وأصل النشوز: الانزعاج. وقال الزجاج: أصله من النشز، وهو المكان المرتفع من الأرض. قوله تعالى: فَعِظُوهُنَّ قال الخليل: الوعظ: التذكير بالخير فيما يرق له القلب. قال الحسن: يعظها بلسانه، فان أبت، وإِلا هجرها. واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة أقوال: أحدها: أنه ترك الجماع، رواه سعيد بن جبير، وابن أبي طلحة، والعوفيُّ، عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير، ومقاتل. والثاني: أنه ترك الكلام، لا ترك الجماع، رواه أبو الضحى، عن ابن عباس، وخصيف، عن عكرمة، وبه قال السدي، والثوري. والثالث: أنه قول الهُجْرِ من الكلام في المضاجع، روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة. فيكون المعنى: قولوا لهنَّ في المضاجع هُجْراً من القول. والرابع: أنه هجر فراشها، ومضاجعتها. روي عن الحسن، والشعبي، ومجاهد، والنخعي، ومقسم، وقتادة. قال ابن عباس: اهجرها في المضجع، فان أقبلت وإِلاَّ فقد أذن الله لك أن تضرِبَها ضرباً غير مبرّح. وقال جماعة من أهل العلم: الآية على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، والضرب عند تكرّره، واللجاج فيه. ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز. قال القاضي أبو يعلى: وعلى هذا مذهب أحمد. وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز. قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ قال ابن عباس: يعني في المضجع فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي: فلا تتجنّ عليها العلل. وقال سفيان بن عيينة: لا تكلّفها الحُبَّ، لأن قلبها ليس في يدها. وقال ابن جرير: المعنى: فلا تلتمسوا سبيلاً إِلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك أن تقول لها وهي مطيعة لك: لست لي مُحبّة، فتضربها، أو تؤذيها. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً قال أبو سليمان الدمشقي: لا تبغوا على أزواجكم،

_ (1) هو عجز بيت لأبي الغول الطهوي كما في «الخزانة» 3/ 109. وصدره: أتاني زمان عن نصيب بقوله (2) في «اللسان» فركته: أبغضته.

[سورة النساء (4) : آية 35]

فهو ينتصر لهن منكم. وقال الخطابي: الكبير: الموصوف بالجلال، وكبر الشأن، يصغر دون جلاله كل كبير. ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين. [سورة النساء (4) : آية 35] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما، في الخوف قولان: أحدهما: أنه الحذر مِن وجود ما لا يتيقّن وُجوده، قاله الزجاج. والثاني: أنه العلم، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال الزجاج: والشقاق: العداوة، واشتقاقه من المتشاقين، كل صنف منهم في شقّ. و «الحكم» : هو القيّم بما يسند إِليه. وفي المأمور بانفاذ الحكمين قولان: أحدهما: أنه السلطان إذا ترافعا إليه، قاله سعيد بن جبير، والضحاك. والثاني: الزوجان، قاله السدي. قوله تعالى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً قال ابن عباس: يعني الحكمين. وفي قوله تعالى: يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما قولان: أحدهما: أنه راجع إلى الحكمين، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وعطاء، والسدي، والجمهور. والثاني: أنه راجع إلى الزوجين، ذكره بعض المفسّرين. فصل: والحكمان وكيلان للزوجين، ويُعتبرُ رضى الزوجين فيما يحكمان به، هذا قول أحمد وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشافعي: لا يفتقرُ حكمُ الحكمين إلى رضى الزّوجين «1» .

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 263: والزوجان إذا وقعت بينهما العداوة وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، مأمونين، برضى الزوجين، وتوكيليهما، بأن يجمعا إذا رأيا أو يفرّقا، فما فعلا من ذلك لزمهما، وجملة ذلك أن الزوجين إذا وقع بينهما شقاق، نظر الحاكم، فإن بان له أنه من المرأة، فهو نشوز- وسيأتي عند الآية 128- وإن بان أنه من الرجل أسكنهما إلى جانب ثقة، يمنعه من الإضرار بها، والتعدي عليها. وكذلك إن بان من كل واحد منهما تعدّ أو ادّعى كلّ واحد منهما أن الآخر ظلمه، أسكنهما إلى جانب من يشرف عليهما ويلزمهما الإنصاف، فإن لم يتهيأ ذلك، وتمادى الشرّ بينهما، وخيف الشقاق عليهما والعصيان، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، فنظرا بينهما، وفعلا ما يريان المصلحة فيه، من جمع أو تفريق، لقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما. واختلفت الرواية عن أحمد، رحمه الله، في الحكمين، ففي إحدى الروايتين عنه، أنهما وكيلان لهما، لا يملكان التفريق إلا بإذنهما. وهذا مذهب عطاء وأحد قولي الشافعي. وحكي ذلك عن الحسن، وأبي حنيفة، لأنّ البضع حقه، والمال حقّها وهما رشيدان، فلا يجوز لغيرهما التصرف فيه إلا بوكالة منهما، أو ولاية عليهما. والثانية أنهما حاكمان، ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق، بعوض وغير عوض، ولا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولا رضاهما. وروي ذلك عن علي، وابن عباس، والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومالك والأوزاعي، وابن المنذر، لقول الله تعالى، فسمّاهما حكمين ولم يعتبر رضى الزوجين ثم قال تعالى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً. فخاطب الحكمين بذلك. وروي أبو بكر، بإسناده عن عبيدة السلماني، أن رجلا وامرأة أتيا عليا، مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال علي رضي الله عنه: ابعثوا حكما من أهله، وحكما من أهلها، فبعثوا حكمين، ثم قال عليّ للحكمين: هل تدريان ما عليكما من الحقّ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله عليّ ولي، فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال عليّ: كذبت حتى ترضى بما رضيت به. وهذا يدل على أنه أجبره على ذلك. ولا يمتنع أن تثبت الولاية على الرّشيد عند امتناعه من أداء الحق، كما يقضى الدين عنه من ماله إذا امتنع، إذا ثبت هذا، فإن الحكمين لا يكونان إلا عاقلين بالغين عدلين مسلمين، لأن هذه من شروط العدالة، سواء قلنا: هما حاكمان أو وكيلان.

[سورة النساء (4) : آية 36]

[سورة النساء (4) : آية 36] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ قال ابن عباس: وحِّدوه. قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قال الفرّاء: أغراهم بالإِحسان إِلى الوالدين. قوله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى فيه قولان: أحدهما: أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه الجار المسلم، قاله نوف الشامي. فيكون المعنى: ذي القربى منكم بالإِسلام. قوله تعالى: وَالْجارِ الْجُنُبِ روى المفضّل، عن عاصم: «والجار الجنب» بفتح الجيم، وإِسكان النون. قال أبو علي: المعنى: والجار ذي الجنب، فحذف المضاف. وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه جارك عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك، رواه الضحاك، عن ابن عباس. والثالث: أنه اليهودي والنصراني، قاله نوف الشامي. وفي الصاحب بالجنب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الزوجة، قاله علي، وابن مسعود، والحسن، وإبراهيم النخعي، وابن أبي ليلى. والثاني: أنه الرفيق في السفر، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن قتيبة. وعن سعيد بن جبير كالقولين. والثالث: أنه الرفيق، رواه ابن جريج، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. قال ابن زيد: هو الذي يلصق بك رجاء خيرك. وقال مقاتل: هو رفيقك حضراً وسفراً. وفي ابن السبيل أقوال قد ذكرناها في (البقرة) . قوله تعالى: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني: المملوكين. وقال بعضهم: يدخل فيه الحيوان البهيم. قال ابن عباس: والمختال: البطرُ في مشيته، والفخور: المفتخر على الناس بكبره. وقال مجاهد: هو الذي يعد ما أعطى، ولا يشكر الله، وقال ابن قتيبة: المختال: ذو الخيلاء والكبر. وقال الزجاج: المختال: الصَّلِف التيّاه الجهول. وإِنما ذكر الاختيال هاهنا، لأن المختال يأنف من ذوي قراباته، ومن جيرانه إذا كانوا فقراء. [سورة النساء (4) : آية 37] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) قوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود. فأما سبب نزولها، فقال ابن عباس: كان كَرْدَم بن زيد حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالاً من الأنصار من أصحاب رسول

[سورة النساء (4) : آية 38]

الله صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يخالطونهم، وينتصحون لهم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم، فإنّا نخشى عليكم الفقر، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فنزلت هذه الآية. وفي الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان: أحدهما: أنه المال، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: أنه إظهار صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونبوّته، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي. قوله تعالى: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «بالبخْل» خفيفاً. وقرأ حمزة والكسائي: «بالبَخَل» محركاً، وكذلك في سورة الحديد. وفي الذين آتاهم الله من فضله قولان: أحدهما: أنهم اليهود، أوتوا علم نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتموه، هذا قول الجمهور. والثاني: أنهم أرباب الأموال بخلوا بها، وكتموا الغنى، ذكره الماوردي في آخرين «1» . قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا قال الزجاج: معناه: جعلنا ذلك عتاداً لهم، أي: مثبتاً لهم. [سورة النساء (4) : آية 38] وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل. والثاني: أنهم المنافقون، قاله السدي، والزجاج وأبو سليمان الدمشقي. والثالث: مشركو مكة أنفقوا على عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ذكره الثعلبي. والقرين: الصاحب المؤالف، وهو فعيل من الاقتران بين الشيئين. وفي معنى مقارنة الشّيطان قولان: أحدهما: مصاحبته في الفعل. والثاني: مصاحبته في النار. [سورة النساء (4) : آية 39] وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) قوله تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ المعنى: وأي شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله، لو آمنوا!. وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان: أحدهما: أنه الصدقة، قاله ابن عباس. والثاني: الزكاة، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وفي قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً تهديد لهم على سوء مقاصدهم.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 508: وقد حمل السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتمانهم ذلك ولهذا قال تعالى: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء وكذلك الآية التي بعدها. ووافقه الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 89 وزاد: وإنما قلنا: هذا القول أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمر الناس بالبخل ديانة ولا تخلّقا، بل ترى ذلك قبيحا وتذمّ فاعله، وتمتدح- وإن هي تخلّقت بالبخل واستعملته في أنفسها- بالسخاء والجود، وتعدّه من مكارم الأفعال وتحثّ عليه. ولذلك قلنا: إن بخلهم الذي وصفهم الله به، إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه فبخلوا بتبيينه للناس وكتموه.

[سورة النساء (4) : آية 40]

[سورة النساء (4) : آية 40] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ قد شرحنا الظلم فيما سَلف، وهو مستحيل على الله عزّ وجلّ، لأن قوماً قالوا: الظلم: تصرّف فيما لا يملك، والكل ملكه، وقال آخرون: هو وضع الشيء في غير موضعه، وحكمته لا تقتضي فعلاً لا فائدة تحته. ومثقال الشيء: زنة الشيء. قال ابن قتيبة: يقال: هذا على مثقال هذا، أي: على وزنه. قال الزجاج: وهو مفعال من الثقل. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: يظن الناس أن المثقال وزن دينار لا غير، وليس كما يظنون. مثقال كل شيء: وزنه، وكل وزن يسمى مثقالاً، وإن كان وزن ألف. قال الله تعالى: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن صنجة مثقال الميزان، فقال: فارسي، ولا أدري كيف أقول، ولكني أقول: مثقال، فإذا قلت للرجل: ناولني مثقالاً، فأعطاك صنجة ألف، أو صنجة حبّة، كان ممتثلاً. وفي المراد بالذرّة خمسة أقوال: أحدها: أنه رأس نملة حمراء، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: ذرّة يسيرة من التراب، رواه يزيد بن الأصم، عن ابن عباس. والثالث: أصغر النمل، قاله ابن قتيبة، وابن فارس. والرابع: الخردلة. والخامس: الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب، ذكرهما الثعلبي. واعلم أن ذكر الذرّة ضرب مثل بما يعقل، والمقصود أنه لا يظلم قليلاً ولا كثيراً. قوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً قرأ ابن كثير، ونافع: «حسنة» بالرفع. وقرأ الباقون بالنصب. قال الزجاج: من رفع، فالمعنى: وإِن تحدثْ حسنة، ومن نصب، فالمعنى: وإن تك فعلته حسنة. قوله تعالى: يُضاعِفْها قرأ ابن عامر، وابن كثير: «يُضعِّفها» بالتشديد من غير ألف. وقرأ الباقون: «يضاعفها» بألف مع كسر العين. قال ابن قتيبة: يضاعفها بالألف: يعطي مثلها مرات، ويضعفها بغير ألف: يعطي مثلها مرّة. قوله تعالى: مِنْ لَدُنْهُ أي: من قبله. والأجر العظيم: الجنّة «1» . [سورة النساء (4) : آية 41] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ قال الزجاج: معنى الآية فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة، فحذف الحال، لأن في الكلام دليلاً عليه. ولفظ «كيف» لفظ الاستفهام، ومعناها:

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 509: يقول الله تعالى مخبرا أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ الآية وقال تعالى: مخبرا عن سليمان أنه قال: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة الطويل، وفيه «يقول الله عز وجل: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه ذرة من إيمان فأخرجوه من النار» ، وفي لفظ «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار» ، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقول أبو سعيد: اقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية.

[سورة النساء (4) : آية 42]

التوبيخ. والشهيد: نبي الأمة. وبماذا يشهد فيه أربعة أقوال: أحدها: بأنه قد بلغ أمّته. قاله ابن مسعود، وابن جريج، والسدي، ومقاتل. والثاني: بإيمانهم، قاله أبو العالية. والثالث: بأعمالهم، قاله مجاهد، وقتادة. والرابع: يشهد لهم وعليهم، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَجِئْنا بِكَ يعني: نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم. وفي «هؤلاء» ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم جميع أمته، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه يشهد عليهم. والثاني: يشهد لهم فتكون «على» بمعنى: اللام. والقول الثاني: أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرسالة، قاله مقاتل. والثالث: اليهود والنصارى، ذكره الماورديّ. [سورة النساء (4) : آية 42] يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) قوله تعالى: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: «لو تُسْوى» ، بضم التاء، وتخفيف السين. والمعنى: ودُّوا لو جُعِلُوا تراباً، فكانوا هم والأرض سواء، هذا قول الفرّاء في آخرين. قال أبو هريرة: إِذا حشر الله الخلائق، قال للبهائم، والدّواب، والطير: كوني تراباً. فعندها يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً. وقرأ نافع، وابن عامر: «لو تَسَّوّى» ، بفتح التاء، وتشديد السين، والمعنى: لو تتسوى، فأدغمت التاء في السين، لقربها منها. قال أبو علي: وفي هذه القراءة اتّساع، لأن الفعل مسند إِلى الأرض، وليس المراد: ودّوا لو صارت الأرض مثلهم، وإنما المعنى: ودّوا لو يتسوّون بها. ثم في المعنى للمفسرين قولان: أحدهما: أن معناه: ودّوا لو تخرقت بهم الأرض، فساخوا فيها، قاله قتادة، وأبو عبيدة، ومقاتل. والثاني: أن معناه: ودّوا أنهم لم يبعثوا، لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها، قاله ابن كيسان، وذكر نحوه الزجاج. وقرأ حمزة، والكسائي: «لو تسوّى» ، بفتح التاء، وتخفيف السين والواو مشدّدة ممالة، وهي بمعنى: تتسوّى، فحذف التاء التي أدغمها نافع، وابن عامر. فأما معنى القراءتين، فواحد. قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً في الحديث قولان: أحدهما: أنه قولهم: ما كنا مشركين، هذا قول الجمهور. والثاني: أنه أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصفته ونعته، قاله عطاء. فعلى الأول يتعلق الكتمان بالآخرة، وعلى الثاني يتعلق بما كان في الدنيا، فيكون المعنى: ودوا أنهم لم يكتموا ذلك. وفي معنى الآية ستة أقوال: أحدها: ودّوا إِذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا، وفي موطن يكتمون، ويقولون: ما كنا مشركين، قاله الحسن. والرابع: أن قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً كلام مستأنف لا يتعلق بقوله: «لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ» ، هذا قول الفرّاء، والزجاج. ومعنى: لا يكتمون الله حديثاً: لا يقدرون على كتمانه، لأنه ظاهر عند الله. والخامس: أن المعنى: ودّوا لو سوّيت بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثا. والسادس: أنهم لم يعتقدوا قولهم: ما كنا مشركين كذباً، وإِنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة، ذكر القولين ابن الأنباري. وقال القاضي أبو يعلى: أخبروا بما توهّموا، إِذ كانوا

[سورة النساء (4) : آية 43]

يظنون أنهم ليسوا بمشركين، وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا. [سورة النساء (4) : آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. (287) روى أبو عبد الرحمن السلمي، عن عليّ بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منّا، وحضرت الصلاة، فقدّموني، فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، فنزلت هذه الآية. وفي رواية أخرى، عن أبي عبد الرحمن، عن عليّ رضي الله عنه أن الذي قدموه، وخلط في هذه السورة، عبد الرحمن بن عوف. وفي معنى قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ قولان: أحدهما: لا تتعرّضوا بالسكر في أوقات الصلاة. والثاني: لا تدخلوا في الصلاة في حال السكر، والأول أصح، لأن السكران لا يعقل ما يخاطب به. وفي معنى: وَأَنْتُمْ سُكارى قولان: أحدهما: من الخمر، قاله الجمهور. والثاني: من النوم، قاله الضحاك، وفيه بعد. وهذه الآية اقتضت إِباحة السكر في غير أوقات الصلاة، ثم نسخت بتحريم الخمر. قوله تعالى: وَلا جُنُباً قال ابن قتيبة: الجنابة: البعد، قال الزجاج: يقال: رجل جنب، ورجلان جُنب، ورجال جُنب، كما يقال: رجل رضى، وقوم رضى. وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان: أحدهما: لمجانبة مَائهِ محله. والثاني: لما يلزمه من اجتناب الصلاة، وقراءة القرآن، ومسّ المصحف، ودخول المسجد «1» .

_ حديث حسن. أخرجه أبو داود 3671 والترمذي 3026 والحاكم 2/ 307 والطبري 9526 وإسناده حسن، وفيه أن الذي قدّم للصلاة هو علي رضي الله عنه، وفيه عطاء بن السائب لكن الثوري الراوي عنه سمع منه قبل الاختلاط، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الترمذي، والله أعلم.

قوله تعالى: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إِلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتيمّموا، وتصلّوا. وهذا المعنى مروي عن عليّ رضي الله عنه. ومجاهد، والحكم، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والزجاج. والثاني: لا تقربوا مواضع الصلاة- وهي المساجد- وأنتم جنب إِلا مجتازين، ولا تقعدوا. وهذا المعنى مروي عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، والحسن، وسعيد بن المسيّب، وعكرمة، وعطاء الخراساني، والزهري، وعمرو بن دينار، وأبي الضحى، وأحمد، والشافعي، وابن قتيبة «1» . وعن ابن عباس، وسعيد بن جبير، كالقولين، فعلى القول الأول: «عابر السبيل» : المسافر، وقربان الصّلاة:

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 199- 201: ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء وليس لهم اللبث في المسجد لقوله تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا . وروت عائشة، قالت: جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب» رواه أبو داود. ويباح العبور للحاجة من أخذ شيء أو تركه، أو كون الطريق فيه، فأما لغير ذلك فلا يجوز بحال. وممن نقلت عنه الرخصة في العبور: ابن مسعود، وابن عباس، وابن المسيب، وابن جبير، والحسن، ومالك والشافعي. وقال الثوري وإسحاق: لا يمر في المسجد إلا أن لا يجد بدّا، فيتيمم. وهو قول أصحاب الرأي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» ، ولنا قول الله تعالى: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ والاستثناء من المنهي عنه إباحة، وعن عائشة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «ناوليني الخمرة من المسجد» . قالت: إني حائض، قال: «إن حيضتك ليست في يدك» رواه مسلم. وعن جابر قال: كنا نمرّ في المسجد ونحن جنب. رواه ابن المنذر. وعن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشون في المسجد وهم جنب. رواه ابن المنذر أيضا. وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا. وإن خاف الجنب على نفسه أو ماله، أو لم يمكنه الخروج من المسجد، أو لم يجد مكانا غيره، أو لم يمكنه الغسل ولا الوضوء، تيمم، ثم أقام في المسجد، وقال بعض أصحابنا: يلبث بغير تيمم، لأن التيمم لا يرفع الحدث. وهذا غير صحيح، لأنه يخالف قول من سمينا من الصحابة، ولأن هذا أمر يشترط له الطهارة فوجب التيمم له عند العجز عنها، كالصلاة وسائر ما يشترط له الطهارة. وقولهم: لا يرفع الحدث. قلنا: إلا أنه يقوم مقام ما يرفع الحدث، في إباحة ما يستباح به. إذا توضأ الجنب فله اللبث في المسجد في قول أصحابنا وإسحاق. وقال أكثر أهل العلم: لا يجوز، للآية والخبر. واحتج أصحابنا بما روي عن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يتحدثون في المسجد على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ، ثم يدخل، فيتحدّث. وهذا إشارة إلى جميعهم، فيكون إجماعا يخصّ به العموم، ولأنه إذا توضأ خفّ حكم الحدث فأشبه التيمم عند عدم الماء، ودليل خفته أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنب به إذا أراد النوم، واستحبابه لمن أراد الأكل ومعاوده الوطء. أما الحائض فلا يباح لها اللبث، لأن وضوءها لا يصح. وأما المستحاضة ومن به سلس البول، فلهم اللبث في المسجد والعبور إذا أمنوا تلويث المسجد، لما روي عن عائشة، أن امرأة من أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتكفت معه وهي مستحاضة، فكانت ترى الخمرة والصفرة، وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي. رواه البخاري. ولأنه حدث لا يمنع الصلاة فلم يمنع اللبث، كخروج الدم اليسير من أنفه. فإن خاف تلويث المسجد فليس له العبور، فإن المسجد يصان عن هذا، كما يصان عن البول فيه. ولو خشيت الحائض تلويث المسجد بالعبور فيه لم يكن لها ذلك.

فعلها، وعلى الثاني: «عابر السبيل» : المجتاز في المسجد، وقربان الصلاة: دخول المسجد الذي تفعل فيه الصلاة. قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى، في سبب نزول هذا الكلام قولان: (288) أحدهما: أن رجلاً من الأنصار كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر له ذلك، فنزلت: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ قاله مجاهد. (289) والثاني: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصابتهم جراحات، ففشت فيهم وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الآية كلها، قاله إبراهيم النخعي. قال القاضي أبو يعلى: وظاهر الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يستضرّ معه باستعمال الماء، سواء كان يخاف التلف، أو لا يخاف، وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء، سواء كان قصيراً، أو طويلاً، وعدم الماء ليس بشرط في جواز التيمم للمريض، وإنما الشرط: حصول الضرر، وأما السفر، فعدم الماء شرط في إِباحة التيمم، وليس السفر بشرط، وإنما ذكر السفر، لأن الماء يُعدم فيه غالبا «1» .

_ ضعيف. أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» 2/ 296 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف. ضعيف. أخرجه الطبري 9639 عن إبراهيم النّخعي مرسلا.

قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ «أو» بمعنى الواو، لأنها لو لم تكن كذلك، لكان وجوب الطّهارة على المريض والمسافر غير متعلق بالحدث. والغائِط: المكان المطمئن من الأرض، فكني عن الحدث بمكانه، قاله ابن قتيبة. وكذلك قالوا للمزادة: راوية، وإنما الرَّاوية للبعير الذي يُسقى عليه، وقالوا للنساء: ظعائن، وإِنما الظعائن: الهوادج، وكنَّ يكن فيها، وسموا الحدث عذرة، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدّور. قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «أو لامستم» بألف هاهنا، وفي (المائدة) وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف في اختياره، والمفضّل عن عاصم، والوليد بن عتبة، عن ابن عامر «أو لمستم» بغير ألف هاهنا، وفي «المائدة» . وفي المراد بالملامسة قولان: أحدهما: أنها الجماع، قاله علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الملامسة باليد، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، والنخعي، والنهدي، والحكم، وحماد. قال أبو علي: اللّمس يكون باليد، وقد اتسع فيه، فأوقع على غيره، فمن ذلك وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ «1» أي: عالجنا غيب السماء، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة، ويخبرهم به. فلما كان اللّمس يقع على غير المباشرة باليد، قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ «2» فخصّ اليد، لئلا يلتبس بالوجه الآخر، كما قال: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ «3» لأنّ الابن قد يتبنّى وليس من الصّلب «4» .

_ (1) سورة الجن: 8. (2) سورة الأنعام: 7. (3) سورة النساء: 33. [.....] (4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 256: المشهور من مذهب أحمد، رحمه الله، أن لمس النساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوة وهذا قول علقمة، وأبي عبيدة، والنخعيّ، والحكم، وحمّاد، ومالك، والثوري، وإسحاق، والشعبي، فإنهم قالوا: يجب الوضوء على من قبل لشهوة، ولا يجب على من قبل لرحمة. وممن أوجب الوضوء ابن مسعود وابن عمر، والزهري والشافعي. قال أحمد: المدنيون والكوفيون ما زالوا يرون أن القبلة من اللمس تنقض الوضوء، حتى كان بأخرة وصار فيهم أبو حنيفة، فقالوا: لا تنقض الوضوء. ويأخذون بحديث عروة ونرى أنه غلط. وعن أحمد، رواية ثانية، لا ينقض اللمس بحال. وروي ذلك عن علي، وابن عباس وبه قال أبو حنيفة، إلا أن يطأها دون الفرج فينتشر فيها، لما روى حبيب عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل امرأة من نسائه، وخرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ. وهو حديث مشهور. ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد بهذا شرع ولا هو في معنى ما ورد الشرع به، وقوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أراد به الجماع، بدليل أن المس أريد به الجماع فكذلك اللمس، ولأنه ذكره بلفظ المفاعلة، والمفاعلة لا تكون من أقل من اثنين. وعن أحمد رواية ثالثة، أن اللمس ينقض بكل حال. وهو مذهب الشافعي، لعموم قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ وحقيقة اللمس ملاقاة البشرتين. وأما حديث القبلة فكل طرقه معلولة، قال يحيى بن سعيد: احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء. واللمس لغير شهوة لا ينقض، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمس زوجته في الصلاة وتمسّه. ولو كان ناقضا للوضوء لم يفعله، قالت عائشة: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلّي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي. متفق عليه. وفي حديث آخر: فإذا أراد أن يوتر مسني برجله. يحققه أن اللمس ليس بحدث في نفسه، وإنما نقض لأنه يفضي إلى خروج المذي أو المني فاعتبرت الحالة التي تقضي إلى الحدث فيها، وهي حالة الشهوة. ولا فرق بين الأجنبية وذات المحرم، والكبيرة والصغيرة. وقال الشافعي: لا ينقض لمس ذوات المحارم، ولا الصغيرة في أحد القولين، لأن لمسهما لا يفضي إلى خروج خارج، أشبه لمس الرجل الرجل. ولنا عموم النص، واللمس الناقض تعتبر فيه الشهوة، ومتى وجدت الشهوة فلا فرق بين الجميع. وسئل أحمد عن المرأة إذا مست زوجها؟ قال: ما سمعت فيه شيئا، ولكن هي شقيقة الرجل. يعجبني أن تتوضأ لأن المرأة أحد المشتركين في اللمس، فهي كالرجل. وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشهوة، لأن ما ينتقض بالتقاء البشرتين لا فرق فيه بين اللامس والملموس. وفيه رواية أخرى: لا ينتقض وضوء المرأة ولا وضوء الملموس، وللشافعي قولان كالروايتين. ووجه عدم النقض أن النص إنما ورد بالنقض بملامسة النساء، فيتناول اللامس من الرجال، فيختص به النقض، كلمس الفرج. ولأن المرأة والملموس لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص، وإذا امتنع النص والقياس لم يثبت الدليل.

قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماء فَتَيَمَّمُوا. (290) سبب نزولها: أن عائشة رضي الله عنها كانت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره، فانقطع عقد لها، فأقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على التماسه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت هذه الآية، فقال أسيد بن حُضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أخرجه البخاري، ومسلم. (291) وفي رواية أخرى أخرجها البخاري، ومسلم أيضاً: أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجالاً في طلبها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، وشكوا ذلك إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت آية التيمم. والتيمم في اللغة: القصد، وقد ذكرناه في قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ. وأمّا الصعيد: فهو التراب، قاله علي، وابن مسعود، والفراء، وأبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة. وقال الشافعي: لا يقع اسم الصعيد إِلا على تراب ذي غبار. وفي الطيّب قولان: أحدهما: أنه الطاهر. والثاني: الحلال. قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ الوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في الوضوء.

_ صحيح. أخرجه البخاري 334 و 3672 و 4607 و 5250 و 6844 ومسلم 367 والنسائي 1/ 163- 164 وعبد الرزاق 880 والشافعي 1/ 43- 44 وأبو عوانة 1/ 302 وابن خزيمة 262 وابن حبان 1300 والبيهقي 1/ 223- 224. وأخرجه البخاري 4608 و 6845 والطبري 9641 والبيهقي 1/ 223 من طريق آخر. كلهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء- أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فَتَيَمَّمُوا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته. لفظ البخاري. صحيح. أخرجه البخاري 336 و 4583 و 5164 و 5882 ومسلم 367 ح 109، وأبو داود 317 والنسائي 1/ 172 وابن ماجة 568 والحميدي 165 وابن حبان 1709 وأبو عوانة 1/ 303 والطبري 9640 والبيهقي 1/ 214 من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وانظر الحديث المتقدم.

وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق. (292) روى عمّار عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «التيمم ضربة للوجه والكفين» ، وبهذا قال سعيد بن المسيّب، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة، والأوزاعي، ومكحول، ومالك، وأحمد، وإِسحاق، وداود. والثاني: أنه إِلى المرفقين. (293) روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنه تيمم، فمسح ذراعيه. وبهذا قال ابن عمر، وابنه سالم، والحسن، وأبو حنيفة، والشافعي، وعن الشعبي كالقولين. والثالث: أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إِلى الآباط. (294) روى عمار بن ياسر قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فنزلت الرّخصة في المسح،

_ صحيح. أخرجه أحمد 4/ 263 من طريق يونس وعفان قال: حدثنا أبان حدثنا قتادة عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار بن ياسر: «أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم- قال يونس: إنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن التيمم؟ - فقال: ضربة للكفين والوجه- قال عفان: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في التيمم: ضربة للوجه والكفين» . وأخرجه البخاري 339- 343 ومسلم 368 ح 112 و 113 وأبو داود 326 والنسائي 1/ 169 و 170 وابن ماجة 569 والطيالسي 1/ 63 وأحمد 4/ 265 و 320 وأبو عوانة 1/ 306 والطحاوي في «المعاني» 1/ 112 والدارقطني 1/ 183 وابن الجارود 125 والبيهقي 1/ 209 و 214 و 216 من طرق عن شعبه به، وبعضهم رواه مختصرا. وأخرجه أبو داود 322 والنسائي 1/ 168 والطحاوي 1/ 113 والبيهقي 1/ 210 من طريق أبي مالك عن عبد الرحمن بن أبزى به. وأخرجه أبو داود 323 وابن أبي شيبة 1/ 159 وأبو عوانة 1/ 305 وابن خزيمة 269 والطحاوي 1/ 112 والدارقطني من طرق عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه به. قال عمار: «فضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه» لفظ البخاري. وحديث عمار ورد من طرق كثيرة. وقد أخرج البخاري 347 ومسلم 368 ح 110 وأبو داود 321 والنسائي 1/ 170 وابن أبي شيبة 1/ 158 و 159 وأحمد 4/ 396 و 264 وابن حبان 1304 و 1305 والدارقطني 1/ 179 و 180 من طريق الأعمش عن شقيق بن سلمة قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن الرجل يجنب فلا يجد الماء أيصلي؟ فقال: لا، فقال: أما تذكر قول عمار لعمر: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرّغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا» فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بها وجهه؟. فقال عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار. أخرجه الدارقطني 1/ 177 وإسناده لين لأجل محمد بن ثابت العبدي. وورد من حديث أبي الجهيم، أخرجه الدارقطني 1/ 176، وإسناده ضعيف لضعف أبي صالح كاتب الليث، والصحيح في حديث أبي الجهيم ذكر «ويديه» بدل «ذراعيه» كذا رواه البخاري 337 ومسلم 369 وغيرهما. أخرجه أبو داود 318 و 319 والنسائي 1/ 168 وابن ماجة 571 والشافعي 1/ 44 وعبد الرزاق 827 وأحمد 4/ 320 و 321 وابن حبان 1310 والبيهقي في «السنن» 1/ 208 والطحاوي في «شرح معاني الآثار» 1/ 110 من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار بن ياسر. قال الزيلعي في «نصب الراية» 1/ 155: وهو منقطع، فإن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يدرك عمار بن ياسر. وأخرجه أبو داود 320 والطحاوي 1/ 111 والبيهقي 1/ 208 عن ابن عباس عن عمار، وذكره الطيالسي 1/ 63 من طريق الزهري به. وقال البغوي في «شرح السنة» 2/ 114: وما روي عن عمار أنه قال: تيممنا إلى المناكب، فهو حكاية فعله ولم ينقله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما حكى عن نفسه التمعك في حال الجنابة، فلما سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بالوجه والكفين، انتهى إليه، وأعرض عن فعله. وفي «نصب الراية» 1/ 156 نقلا عن الأثرم في هذا الحديث: إنما حكى فيه فعلهم دون النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما حكى في الآخر أنه أجنب، فعلمه عليه السلام. قال ابن حجر: إن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار «الفتح» 1/ 444.

فضربنا بأيدينا ضربةً لوجوهنا، وضربةً لأيدينا إِلى المناكب والآباط. وهذا قول الزهري «1» . قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قال الخطابي: «العفو» : بناء للمبالغة. و «العفو» : الصفح عن الذنوب، وترك مجازاة المسيء. وقيل: إِنه مأخوذ من عفت الريح الأثر: إِذا درسته، وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه.

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 328: ولا خلاف في وجوب مسح الوجه والكفين لقول الله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ويجب مسح جميعها، واستيعاب ما يأتي عليه الماء منها، لا يسقط إلا المضمضة والاستنشاق، وما تحت الشعور الخفيفة وبهذا قال الشافعي ولنا قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ الباء زائدة فيجب تعميمها فيضرب ضربة واحدة، فيمسح وجهه بباطن أصابع يديه، وظاهر كفيه إلى الكوعين بباطن راحتيه ويستحب أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين الأصابع، وليس بفرض وإن تيمم بضربتين للوجه واليدين إلى المرفقين فإنه يمسح بالأولى وجهه ويمسح بالثانية يديه فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى، ويمرّها على ظهر الكفّ، فإذا بلغ الكوع قبض أصابعه على حرف الذراع ويمرّها إلى مرفقه، ثم يدير بطن الكف إلى بطن الذراع ويمرها عليه، ويرفع إبهامه، فإذا بلغ الكوع أمر الإبهام على ظهر إبهام يده اليمنى ويمسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك. ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى. ويجب مسح اليدين إلى الموضع الذي يقطع منه السارق، أومأ أحمد إلى هذا لما سئل عن التيمم، فأومأ إلى كفه ولم يجاوزه. وقال: قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما من أين تقطع يد السارق؟ أليس من هاهنا؟ وأشار إلى الرسغ. والجريح والمريض إذا أمكنه غسل بعض جسده دون بعض لزمه ما غسل ما أمكنه وتيمم للباقي وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك: إن كان أكثر بدنه صحيحا غسله، ولا يتيمم. وإن كان أكثره جريحا تيمم ولا غسل عليه، لأن الجمع بين المبدل والبدل لا يجب ولنا ما روى جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا شجة في وجهه، ثم احتلم فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك، فقال: «قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا، إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ثم يغسل سائر جسده» . ولأن كل جزء من الجسد يجب تطهيره بشيء إذا استوى الجسم كله في المرض أو الصحة. فيجب ذلك فيه وإن خالفه غيره. وما لا يمكن غسله في الصحيح إلا بانتشار الماء إلى الجريح، حكمه حكم الجريح فإن لم يمكنه ضبطه، وقدر أن يستنيب من يضبطه، لزمه ذلك، فإن عجز عن ذلك تيمم وصلى وأجزأه. وإذا كان الجريح جنبا، فهو مخير، إن شاء قدّم التيمم على الغسل، وإن شاء أخره، بخلاف ما إذا كان التيمم لعدم ما يكفيه لجميع أعضائه، فإنه يلزمه استعمال الماء أولا، لأن التيمم للعدم، لا يتحقق إلا بعد فراغ الماء. وإن كان الجريح يتطهر للحدث الأصغر، فذكر القاضي أنه يلزمه الترتيب فيجعل التيمم في مكان الغسل الذي يتيمم بدلا عنه. فإن كان الجرح في بعض وجهه خيّر بين غسل صحيح وجهه ثم تيمم- أو العكس- وإن كان الجرح في عضو آخر، لزمه غسل ما قبله، واحتاج كل عضو إلى تيمم في محل غسله، ليحصل الترتيب.

[سورة النساء (4) : آية 44]

[سورة النساء (4) : آية 44] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت. (295) والثاني: أنها نزلت في رجلين كانا إذا تكلّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لويا ألسنتهما وعاباه، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: أنها نزلت في اليهود، قاله قتادة. وفي النصيب الذي أوتوه قولان: أحدهما: أنه علم نبوّة محمّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: العلم بما في كتابهم دون العمل. قوله تعالى: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ قال ابن قتيبة: هذا من الاختصار، والمعنى: يشترون الضلالة بالهدى، ومثله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ «1» أي: تركنا عليه ثناءً حسناً، فحذف الثناء لعلم المخاطب. وفي معنى اشترائِهم الضلالة أربعة أقوال: أحدها: أنه استبدالهم الضلالة بالايمان، قاله أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أنه استبدالهم التكذيب بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره، قاله مقاتل. والثالث: أنه إِيثارهم التكذيب بالنبي لأخذ الرشوة، وثبوت الرئاسة لهم، قاله الزجاج. والرابع: أنه إِعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا خطاب للمؤمنين. والمراد بالسّبيل: طريق الهدى. [سورة النساء (4) : آية 45] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ فهو يعلمكم ما هم عليه، فلا تستنصحوهم، وهم اليهود، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا لكم، فمن كان وليه، لم يضره عدوه. قال الخطابي: «الولي» : الناصر، و «الولي» : المتولي للأمر، والقائم به، وأصله من الولي، وهو القرب، و «النصير» : فعيل بمعنى فاعل. [سورة النساء (4) : آية 46] مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا قال مقاتل: نزلت في رفاعة بن زيد، ومالك ابن الضَّيف، وكعب بن أسيد، وكلهم يهود. وفي «من» قولان، ذكرهما الزجاج: أحدهما: أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب، فيكون المعنى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا. والثاني: أنها مستأنفة، فالمعنى: من الذين هادوا قوم يحرّفون، فيكون قوله:

_ ضعيف. أخرجه الطبري 9694 عن ابن عباس بإسناد ضعيف، فيه محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق، وهو مجهول.

[سورة النساء (4) : آية 47]

يحرّفون، صفة، ويكون الموصوف محذوفاً، وأنشد سيبويه: وَمَا الدَّهر إِلاَّ تَارَتانِ فمِنْهما ... أموتُ وأُخرى أبتغي العيشَ أكْدَحُ «1» والمعنى: فمنهما تارة أموت فيها. قال أبو علي الفارسي: والمعنى: وكفى بالله نصيراً من الذين هادوا، أي: إن الله ينصر عليهم. فأما «التحريف» ، فهو التغيير. والْكَلِمَ: جمع كلمة. وقيل: إِن «الكلام» مأخوذ من «الكلْم» ، وهو الجرحُ الذي يشق الجلد واللحم، فسمي الكلام كلاماً، لأنه يشق الأسماع بوصوله إِليها، وقيل: بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب. وفي معنى تحريفهم الكلم قولان: أحدهما: أنهم كانوا يسألون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الشيء، فإذا خرجوا، حرفوا كلامه، قاله ابن عباس. والثاني: أنه تبديلهم التوراة، قاله مجاهد. قوله تعالى: عَنْ مَواضِعِهِ، أي: عن أماكنه ووجوهه. قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا قال مجاهد: سمعنا قولك، وعصينا أمرك. قوله تعالى: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: اسمع لا سمعت، قاله ابن عباس، وابن زيد، وابن قتيبة. والثاني: أن معناه: اسمع غير مقبول ما تقول، قاله الحسن، ومجاهد. وقد تقدم في (البقرة) معنى: وراعنا. قوله تعالى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ قال قتادة: «اللي» : تحريك ألسنتهم بذلك. وقال ابن قتيبة معنى «لياً بألسنتهم» : أنهم يحرفون «راعنا» عن طريق المراعاة، والانتظار إلى السّبّ والرّعونة. قال ابن عباس: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مما بدّلوا وَأَقْوَمَ أي أعدل وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ بمحمد. قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فيه قولان: أحدهما: فلا يؤمن منهم إِلا قليل، وهم عبد الله بن سلام، ومن تبعه، قاله ابن عباس. والثاني: فلا يؤمنون إِلا إيماناً قليلاً، قاله قتادة، والزجاج. قال مقاتل: وهو اعتقادهم أن الله خلقهم ورزقهم. [سورة النساء (4) : آية 47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا سبب نزولها: (296) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا قوماً من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد إلى الإِسلام، وقال لهم: إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق، فقالوا: ما نعرف ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 9729 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 534 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد. وانظر «تفسير القرطبي» 2270 بتخريجنا.

[سورة النساء (4) : آية 48]

وفي الذين أوتوا الكتاب قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله الجمهور. والثاني: اليهود والنصارى، ذكره الماوردي. وعلى الأول يكون الكتاب: التوراة، وعلى الثاني: التوراة والإنجيل. والمراد بما نزلنا: القرآن، وقد سبق في (البقرة) بيان تصديقه لما معهم. قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً في طمس الوجوه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إِعماء العيون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. والثاني: أنه طمس ما فيها من عين، وأنف، وحاجب، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، واختيار ابن قتيبة. والثالث: أنه ردّها عن طريق الهدى، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي. وقال مقاتل: من قبل أن نطمس وجوهاً، أي: نحوّل الملّة عن الهدى والبصيرة. فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازاً. والمراد: البصيرة والقلوب. وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه: العضو المعروف. قوله تعالى: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها خمسة أقوال: أحدها: نُصيِّرُها في الأقفاء، ونجعل عيونها في الأقفاء، هذا قول ابن عباس، وعطيّة. والثاني: نُصيِّرُها كالأقفاء، ليس فيها فم، ولا حاجب، ولا عين، وهذا قول قوم، منهم ابن قتيبة. والثالث: نجعل الوجه منبتاً للشعر، كالقرود، هذا قول الفراء. والرابع: نَنفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها. وإِلى نحوه ذهب ابن زيد. قال ابن جرير: فيكون المعنى: من قبل أن نطمسَ وجوهَهم التي هم فيها. وناحيتهم التي هم بها نزول، (فنردها على أدبارها) من حيث جاءوا بديّاً «1» من الشام. والخامس: نردها في الضلالة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل. قوله تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ يعود إلى أصحاب الوجوه. وفي معنى لعن أصحاب السّبت قولان: أحدهما: مسخهم قردة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل. والثاني: طردهم في التيه حتى هلك فيه أكثرهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا قال ابن جرير: الأمر هاهنا بمعنى المأمور، سُمِّي باسم الأمر لحدوثه عنه. [سورة النساء (4) : آية 48] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (297) قال ابن عمر: لما نزلت

_ ضعيف. أخرجه الطبري 9735 و 9736 من طريقين عن ابن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع قال: أخبرني مخبر عن ابن عمر.... فذكره، وإسناده ضعيف، وله علتان: جهالة المخبر للربيع بن أنس، فهذه علة، والثانية: ضعف أبي جعفر الرازي واسمه عيسى ابن أبي عيسى. وسيأتي في سورة الزمر تمام البحث.

[سورة النساء (4) : آية 49]

يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «1» قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والشّرك؟ فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فنزلت هذه. وقد سبق معنى الإِشراك. والمراد من الآية: لا يغفر لمشرك مات على شركه. وفي قوله تعالى: لِمَنْ يَشاءُ نعمة عظيمة من وجهين: أحدهما: أنها تقتضي أن كل ميّت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب، وإِن مات مصراً. والثاني: أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع. [سورة النساء (4) : آية 49] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ. (298) سبب نزولها: أن مرحب بن زيد، وبحري بن عون- وهما من اليهود، أتيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأطفالهما، ومعهما طائفة من اليهود فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال: لا، قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إِلا كُفِّر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار، فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس. وفي قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ قولان: أحدهما: ألم تُخبر، قاله ابن قتيبة. والثاني: ألم تعلم، قاله الزجاج. وفي الذين يزكون أنفسهم قولان: أحدهما: اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنهم اليهود، والنصارى، وبه قال الحسن، وابن زيد. ومعنى «يزكون أنفسهم» : يزعمون أنهم أزكياء، يقال: زكى الشيء: إِذا نما في الصلاح. وفي الذي زكّوا به أنفسهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم برَّؤوا أنفسهم من الذنوب، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أن اليهود قالوا: إِن أبناءنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله، ويشفعون لنا، رواه عطية، عن ابن عباس. والثالث: أن اليهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم، هذا قول عكرمة، ومجاهد، وأبي مالك. والرابع: أن اليهود والنصارى قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «2» وقالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «3» ، هذا قول الحسن، وقتادة. قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي: يجعله زاكياً، ولا يظلم الله أحداً مقدار فتيل قال ابن جرير: وأصل «الفتيل» : المفتول، صُرف عن مفعول إلى فعيل، كصريع، ودهين. وفي الفتيل قولان: أحدهما: أنه ما يكون في شقّ النواة، رواه عكرمة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك، وقتادة، وعطية، وابن زيد، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إِذا دلكن، رواه العوفي، عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو مالك، والسّدّيّ، والفرّاء.

_ هذا الخبر ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 319 عن الكلبي بلا سند، والكلبي متهم بالكذب. وعزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 520 للثعلبي عن الكلبي فالخبر واه بمرة، ليس بشيء.

[سورة النساء (4) : آية 50]

[سورة النساء (4) : آية 50] انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهو قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وقولهم: لا ذنب لنا ونحو ذلك مما كذّبوا فيه، وَكَفى بِهِ أي: وحسبُهم بقيلهم الكذب إِثْماً مُبِيناً يتبيّن كذبهم لسامعيه. [سورة النساء (4) : آية 51] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ في سبب نزولها أربعة أقوال: أحدُها: أن جماعة من اليهود قدموا على قريش، فسألوهم: أديننا خيرٌ، أم دين محمد؟ فقال اليهود: بل دينكم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. (299) والثاني: أن كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، قدما مكة، فقالت لهما قريش: أنحن خيرٌ، أم محمدٌ؟ فقالا: أنتم، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة في روايةٍ. وقال قتادة: نزلت في كعب، وحيي، ورجلين آخرين من بني النضير قالوا لقريش: أنتم أهدى من محمد. والثالث: أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفار قريش: أنتم أهدى من محمد، فنزلت هذه الآية. وهذا قول مجاهد، والسدي، وعكرمة في رواية. والرابع: أن حيي بن أخطب قال للمشركين: نحن وإِياكم خيرٌ من محمد، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد. والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود. وفي «الجبت» سبعة أقوال: أحدها: أنه السّحر، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد، والشعبي. والثاني: الأصنام، رواه عطية، عن ابن عباس. وقال عكرمة: الجبت: صنم. والثالث: حيي بن أخطب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء. والرابع: كعب بن الأشرف، رواه الضحاك، عن ابن عباس، وليث عن مجاهد. والخامس: الكاهن، روي عن ابن عباس، وبه قال ابن سيرين، ومكحول. والسادس: الشيطان، قاله سعيد بن جبير في رواية، وقتادة، والسدي. والسابع: الساحر، قاله أبو العالية، وابن زيد. وروى أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الجبت: الساحرُ بلسان الحبشة. وفي المراد بالطاغوت ها هنا ستة أقوال: أحدها: الشيطان، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد في رواية، والشعبي، وابن زيد. والثاني: أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبّرون عنها ليضلوا الناس، رواه العوفي، عن ابن عباس. والثالث: كعب بن الأشرف، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء. والرابع: الكاهن، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وقتادة، والسدي. والخامس: أنه الصنم، قاله عكرمة. وقال: الجبت والطاغوت صنمان. والسادس: السّاحر،

_ أخرجه الطبري 9794 عن عكرمة مرسلا. وأخرج الطبري 9791 عن ابن عباس مختصرا، وعن السدي مرسلا أخرجه الطبري 9795 بنحوه، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم.

[سورة النساء (4) : الآيات 52 إلى 53]

روي عن ابن عباس، وابن سيرين، ومكحول. فهذه الأقوال تدل على أنهما اسمان لمسميين. وقال اللغويون منهم ابن قتيبة، والزجاج: كل معبود من دون الله، من حجر، أو صورة، أو شيطان، فهو جبت وطاغوت «1» . قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني لمشركي قريش: أنتم أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، يعنون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه سَبِيلًا في الدّيانة والاعتقاد. [سورة النساء (4) : الآيات 52 الى 53] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ هذا استفهام معناه الإِنكار، فالتقدير: ليس لهم. وقال الفراء: قوله فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً جوابٌ لجزاء مضمرٍ، تقديره: ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيراً. وفي «النقير» أربعة أقوال: أحدها: أنه النقطة التي في ظهر النواة، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد، ومقاتل، والفرّاء، وابن قتيبة في آخرين. والثاني: أنه القشر الذي يكون في وسط النواة، رواه التيمي، عن ابن عباس. وروي عن مجاهد: أنه الخيط الذي يكون في وسط النواة. والثالث: أنه نقر الرجل الشيء بطرف إِبهامه، رواه أبو العالية، عن ابن عباس. والرابع: أنه حبّة النواة التي في وسطها، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد. قال الأزهري: و «الفتيل» و «النقير» و «القطمير» : تضرب أمثالا للشيء التّافه الحقير. [سورة النساء (4) : آية 54] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ. (300) سبب نزولها: أن أهل الكتاب قالوا: يزعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، فأيُّ ملك أفضل من هذا، فنزلت، رواه العوفي، عن ابن عباس. وفي «أم» قولان: أحدهما: أنها بمعنى ألف الاستفهام، قاله ابن قتيبة. والثاني: بمعنى «بل» قاله

_ ضعيف. أخرجه الطبري 9828 عن ابن عباس وإسناده واه، فيه عطية العوفي ضعيف، وعنه مجاهيل. وورد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 9830.

[سورة النساء (4) : آية 55]

الزجاج. وقد سبق ذكر «الحسد» في (سورة البقرة) والحاسدون هاهنا: اليهود. وفي المراد بالناس ها هنا أربعة أقوال: أحدها: النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل. والثاني: النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر، وعمر، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثالث: العرب، قاله قتادة. والرابع: النبي والصحابة، ذكره الماوردي. وفي الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال: أحدها: إِباحة الله تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد، روي عن ابن عباس، والضحاك، والسدي. والثاني: أنه النبوّة، قاله ابن جريج، والزجاج. والثالث: بعثة نبي منهم على قول من قال: هم العرب «1» . قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ يعني: التوراة، والإِنجيل، والزبور. كله كان في آل إِبراهيم، وهذا النبي من أولاد إِبراهيم. وفي الحكمة قولان: أحدهما: النبوة، قاله السدي، ومقاتل. والثاني: الفقه في الدين، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الملك العظيم خمسة أقوال «2» : أحدها: ملك سليمان، رواه عطيّة، عن ابن عباس. والثاني: ملك داود، وسليمان في النساء، كان لداود مائة امرأة، ولسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سريّة «3» ، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدّي. والثالث: النبوّة، قاله مجاهد. والرابع: التأييد بالملائكة، قاله ابن زيد في آخرين. الخامس: الجمع بين سياسة الدنيا، وشرع الدين، ذكره الماورديّ. [سورة النساء (4) : آية 55] فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ فيمن تعود عليه الهاء والميم قولان: أحدهما: اليهود الذين أنذرهم نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول مجاهد، ومقاتل، والفراء في آخرين. فعلى هذا القول في هاء بِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: تعود على ما أنزل الله على نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد: قال أبو سليمان: فيكون الكلام مبنيا على قوله تعالى: عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو النبوة، والقرآن. والثاني: أنها تعود إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتكون متعلقة بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني بالناس: محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، ويكون المراد بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ عبد الله بن سلام، وأصحابه. والثالث: أنها تعود إلى النَّبأِ عن آل إِبراهيم، قاله الفرّاء.

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 142: وأولى القولين في ذلك بالصواب هو قول قتادة، وابن جريج الذي ذكر: أن معنى الفضل في هذا الموضع: النبوة التي فضل الله بها محمدا، وشرّف بها العرب، إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم. وليس النكاح وتزويج النساء، وإن كان من فضل الله عز وجل الذي آتاه عباده، بتقريظ لهم ومدح. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 144: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، القول الذي روي عن ابن عباس أنه قال: «يعني ملك سليمان» . لأن ذلك معروف من كلام العرب ولأن كلام الله الذي خوطب به العرب، غير جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه، إلا أن تأتي دلالة أو تقوم حجة على أن ذلك بخلاف ذلك، يجب التسليم بها. (3) أبو صالح واه، روى عنه الكلبي عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، والذي صح في سليمان أن له مائة امرأة كذا أخرجه البخاري 3424 ومسلم 1654.

[سورة النساء (4) : آية 56]

والقول الثاني: أن الهاء، والميم في قوله فَمِنْهُمْ تعود إِلى آل إِبراهيم، فعلى هذا في هاء بِهِ قولان: أحدهما: أنها عائدة إِلى إِبراهيم، قاله السدي. والثاني: إِلى الكتاب، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة، وابن يعمر، والجحدري: «من صُدّ عنه» برفع الصاد. وقرأ أُبيُّ بنُ كعبٍ، وأبو الجوزاء وأبو رجاء والجوني: بكسر الصاد. [سورة النساء (4) : آية 56] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) قوله تعالى: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً قال الزجاج: أي نشويهم في نارٍ. (301) ويروى أن يهوديّة أهدت إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم شاة مصليّة، أي مشوية. وفي قوله تعالى بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها قولان: أحدهما: أنها غيرها حقيقة، ولا يلزم على هذا أن يقال: كيف بُدلت جلود التذت بالمعاصي بجلود ما التذت، لأن الجلود آلة في إيصال العذاب إِليهم، كما كانت آلة في إيصال اللذّة، وهم المعاقبون لا الجلود. والثاني: أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها، كما تعاد بعد البلى في القبور. فتكون الغيرية عائدة إِلى الصفة، لا إِلى الذات، فالمعنى: بدلناهم جلوداً غير محترقة، كما تقول: صُغت من خاتمي خاتما آخر. وقال الحسن البصري: في هذه الآية: تأكلهم النارُ كل يوم سبعين ألف مرّة، كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا، فعادوا. [سورة النساء (4) : آية 57] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) قوله تعالى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قال الزجاج: هو الذي يُظلُّ من الحرّ والريح، وليس كلُّ ظلٍّ كذلك، فأعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حرّ معه، ولا برد. فان قيل: أفي الجنة برد أو حر يحتاجون معه إلى ظل؟ فالجواب: أن لا، وإنما خاطبهم بما يعقلون مثله، كقوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «1» . وجواب آخر: وهو أنه إِشارة إِلى كمال وصفها، وتمكين بنائِها، فلو كان البرد أو الحرّ يتسلط عليها، لكان في أبنيتها وشجرها ظلّ ظليل.

_ لم أره بهذا اللفظ. وحديث اليهودية، أخرجه البخاري 2617 عن أنس، أن يهودية أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم بشاة مسمومة فأكل منها ... وأخرجه البخاري 4229 من حديث أبي هريرة. وليس فيه اللفظ المذكور عند المصنف. وانظر «فتح الباري» 5/ 231 و 7/ 497. وورد في حديث موقوف، أخرجه الترمذي 686 وابن حبان 3585 عن صلة بن زفر قال: كنا عند عمار بن ياسر، فأتي بشاة مصلية، فقال كلوا، فتنحى بعض القوم، وقال: إني صائم، فقال عمار: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم، إسناده صحيح.

[سورة النساء (4) : آية 58]

[سورة النساء (4) : آية 58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (302) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكة، طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة، فذهب ليعطيه إِياه، فقال العباس: بأبي أنت وأُمّي اجمعه لي مع السقاية، فكفّ عثمان يده مخافة أن يعطيه للعباس، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هات المفتاح» فأعاد العباس قوله، وكفّ عثمان، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله وباليوم الآخر» فقال: هاكَه يا رسول الله بأمانة الله، فأخذ المفتاح، ففتح البيت، فنزل جبريل بهذه الآية، فدعا عثمان، فدفعه إِليه. رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزهري، وابن جريج، ومقاتل. والثاني: أنها نزلت في الأمراء. رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال زيد بن أسلم، وابنه، ومكحول، واختاره أبو سليمان الدمشقي، وقال: أُمر الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال المسلمين. والثالث: أنها نزلت عامة، وهو مروي عن أبي بن كعب، وابن عباس، والحسن، وقتادة، واختاره القاضي أبو يعلى. واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها، فإنها عامة في الودائع وغيرها من الأمانات. وقال ابن مسعود: الأمانة في الوضوء، وفي الصلاة، وفي الصوم، وفي الحديث، وأشد ذلك في الودائِع. قوله تعالى: نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ يقول: نعم الشيء يعظكم به، وقد ذكرناه في (البقرة) . [سورة النساء (4) : آية 59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في سبب نزولها قولان: (303) أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس السّهمي إِذ بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم في سريّة، أخرجه البخاري، ومسلم، من حديث ابن عباس.

_ أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح وفيه الكلبي ضعيف جدا. ومثله لا يحتج به، وذكره الواحدي في «الوسيط» 2/ 69- 70 وفي «الأسباب» 323 بدون إسناد، ودون اللفظ المرفوع. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 523: ذكره الثعلبي، ثم البغوي بغير إسناد. وخبر إعطاء المفتاح لعثمان ورد من وجوه، والوهن في هذا الخبر بذكر نزول الآية. وانظر «تفسير ابن كثير» 1/ 530 و «الدر» 2/ 312. صحيح. أخرجه البخاري 4584 ومسلم 1834 والترمذي 1672 والنسائي في «التفسير» 129 وأحمد 1/ 337 وابن الجارود 1040 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 311 عن ابن عباس به. وانظر كلام الحافظ في «فتح الباري» 8/ 245 حول هذا الخبر. - ولعبد الله بن حذافة قصة معروفة أخرجها أحمد 3/ 67 وابن ماجة 2863 وأبو يعلى 1349 وابن حبان 4558 من حديث أبي سعيد وإسناده حسن، لأجل محمد بن عمرو، وصححه البوصيري في الزوائد 183 أن أبا سعيد الخدري قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علقمة بن محرز على بعث أنا فيهم، حتى انتهينا إلى رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق، أذن لطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد الله بن حُذافة بن قيس السّهمي وكان من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة- يعني مزاحا- وكنت ممن رجع معه، فنزلنا ببعض الطريق قال: وأوقد القوم نارا ليصنعوا عليها صنيعا لهم أو يصطلون، قال: فقال لهم: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال: فما أنا بآمركم بشيء إن صنعتموه؟ قالوا بلى، قال: أعزم عليكم بحقي وطاعتي لما تواثبتم في هذه النار، فقام ناس فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واثبون، قال: احبسوا أنفسكم، فإنما كنت أضحك معكم، فذكروا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قدموا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أمركم بمعصية فلا تطيعوه» لفظ أحمد. وانظر «تفسير القرطبي» 2292 و «الشوكاني» 673 بتخريجنا.

(304) والثاني: أن عمّار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سريّة، فهرب القوم، ودخل رجلٌ منهم على عمار، فقال: إِني قد أسلمتُ، هل ينفعني، أو أذهب كما ذهب قومي؟ قال عمار: أقم فأنت آمن، فرجع الرجل، وأقام فجاء خالد، فأخذ الرجل، فقال عمّار: إِني قد أمنته، وإِنه قد أسلم، قال: أتجير علي وأنا الأمير؟ فتنازعا، وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. قوله تعالى: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ طاعة الرسول في حياته: امتثال أمره، واجتناب نهيه، وبعد مماته: اتباع سُنّته. وفي أولي الأمر أربعة أقوال: أحدها: أنهم الأمراء، قاله أبو هريرة، وابن عباس في رواية، وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل. والثاني: أنهم العلماء، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول جابر بن عبد الله والحسن وأبي العالية وعطاء والنخعي والضحاك، ورواه خصيف عن مجاهد. والثالث: أنهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال بكر بن عبد الله المزني. والرابع: أنهم أبو بكر وعمر، وهذا قول عكرمة «1» . قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ قال الزجاج: معناه: اختلفتم. وقال كل فريق: القول قولي. واشتقاق المنازعة: أن كل واحد ينتزع الحجة. قوله تعالى: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ في كيفيّة هذا الرد قولان: أحدهما: أن ردّه إلى الله ردّه إلى كتابه، ورده إِلى النبي رده إلى سنّته، هذا قول مجاهد، وقتادة، والجمهور. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الرّد يكون من وجهين: أحدهما: إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه. والثاني: الرّد إِليهما من جهة الدلالة عليه، واعتباره من طريق القياس، والنظائر. والقول الثاني: أن ردّه إلى الله ورسوله أن يقول من لا يعلم الشيء: الله ورسوله أعلم، ذكره قومٌ، منهم الزجّاج.

_ ضعيف. أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 530 من طريق الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس. والحكم بن ظهير متروك الحديث وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس. واسم أبي صالح باذام. وأخرجه الطبري 9866 عن السدي وهذا معضل، ومع ذلك فالسدي متكلم فيه إذا وصل الحديث فكيف إذا رواه معضلا. وخبر خالد وعمار في الصحيح بغير هذا السياق، وليس فيه ذكر نزول الآية.

[سورة النساء (4) : آية 60]

وفي المراد بالتأويل أربعة أقوال: أحدها: أنه الجزاء، والثواب، وهو قول مجاهد، وقتادة. والثاني: أنه العاقبة، وهو قول السدي، وابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج. والثالث: أنه التصديق، مثل قوله تعالى: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ. قاله ابن زيد في رواية. والرابع: أن معناه: ردّكم إِياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم، ذكره الزجّاج «1» . [سورة النساء (4) : آية 60] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا في سبب نزولها أربعة أقوال: (305) أحدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إِلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، فأتيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقضى لليهودي، فلمّا خرجا، قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إِلَيه، فقصّا عليه القصّة، فقال: رويداً حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج، فضرب به المنافق حتى برد «2» ، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 331 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بدون إسناد، والكلبي متروك متهم. وكذا ذكره السيوطي في «الدر» 2/ 320 ونسبه للثعلبي من حديث ابن عباس. - وأخرجه الطبري 9900 عن قتادة مرسلا بنحوه دون ذكر عجزه، أي دون ذكر عمر بن الخطاب وفعله. - وورد بنحوه عن عتبة بن ضمرة مرسلا كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية. وكذا ذكره السيوطي في «الدر» 2/ 322 عن عتبة بن ضمرة ونسبه للحافظ دحيم في «تفسيره» . وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود مرسلا كما في «الدر» 2/ 322 وقال الحافظ ابن كثير 1/ 533: وهذا مرسل غريب. وكذا أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن مكحول مرسلا كما في «الدر» 2/ 323. الخلاصة: أما قتل عمر للمنافق فهو ضعيف، وأما أصل التحاكم من غير ذكر عمر وما بعده، فله شواهد تعضده، راجع تفصيل ذلك في «أحكام القرآن» لابن العربي 515 بتخريجي. وانظر الآتي.

[سورة النساء (4) : آية 61]

(306) والثاني: أنّ أبا برزة» الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود، فتنافر إليه ناس من المسلمين فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة، عن ابن عباس. (307) والثالث: أن يهودياً ومنافقاً كانت بينهما خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي، لأنه لا يأخذ الرشوة، ودعا المنافق إلى حكامهم، لأنهم يأخذُون الرشوة، فلما اختلفا، اجتمعا أن يحكما كاهناً، فنزلت هذه الآية، هذا قول الشعبي. (308) والرابع: أن رجلاً من بني النضير قتل رجلاً من بني قريظة، فاختصموا، فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن، فقال المسلمون من الفريقين: بل إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأبى المنافقون، فانطلقوا إِلى الكاهن، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي. والزَّعم والزُّعم لغتان، وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقّق صحته، وفي الذين زعموا أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله قولان: أحدهما: أنه المنافق. والثاني: أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إِليه المنافق، والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله اليهودي. والطاغوت: كعب بن الأشرف، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والربيع، ومقاتل. قوله تعالى: وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ قال مقاتل: أن يتبرؤوا من الكهنة، و «الضلال البعيد» : الطّويل. [سورة النساء (4) : آية 61] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال مجاهد: هذه الآية والتي قبلها نزلتا في خصومة اليهودي، والمنافق، والهاء والميم في «لهم» : إِشارة إِلى الذين يزعمون، وما أَنْزَلَ اللَّهُ: أحكام القرآن. وَإِلَى الرَّسُولِ أي: إلى حكمه «2» .

_ حسن. أخرجه الطبراني 11/ 12045 والواحدي في «أسباب النزول» 328 عن ابن عباس وإسناده حسن، وقال الحافظ في «الإصابة 4/ 19: إسناده جيد. وأخرجه ابن أبي بسند صحيح كما في «الدر» 320. مرسل. أخرجه الطبري 9898 عن الشعبي مرسلا، وهو شاهد لأصل الخبر المتقدم أولا. مرسل. أخرجه الطبري 9901 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف، لكن يشهد للحديث المتقدم أولا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 332 عن السدي بدون إسناد.

[سورة النساء (4) : آية 62]

[سورة النساء (4) : آية 62] فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أي: كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة من الله؟ وفي المراد بالمصيبة قولان: أحدهما: أنه تهديد ووعيد. والثاني: أنه قتل المنافق الذي قتله عمر. وفي الذي قدمت أيديهم ثلاثة أقوال: أحدها: نفاقهم واستهزاؤهم. والثاني: ردّهم حكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثالث: معاصيهم المتقدّمة. قوله تعالى: إِنْ أَرَدْنا بمعنى. ما أردنا. قوله تعالى: إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لما قتل عمر صاحبهم، جاءوا يطلبون بدمه، ويحلفون ما أردنا في المطالبة بدمه إِلا إِحساناً إِلينا، وما يوافق الحق في أمرنا. والثاني: ما أردنا بالترافع إلى عمر إلا إحسانا وتوفيقا. والثالث: أنهم جاءوا يعتذرون إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من محاكمتهم إِلى غيره، ويقولون: ما أردنا في عدولنا عنك إِلا إحساناً بالتقريب في الحكم، وتوفيقاً بين الخصوم دون الحمل على مرّ الحقّ. [سورة النساء (4) : آية 63] أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي: من النفاق والزيغ. وقال ابن عباس: إِضمارهم خلاف ما يقولون فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تعاقبهم وَعِظْهُمْ بلسانك وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أي: تقدّم إِليهم: إِن فعلتم الثانية، عاقبتكم. وقال الزجاج: يقال: بَلُغ الرجل يبْلُغُ بلاغة فهو بليغ: إِذا كان يبلغ بعبارة لسانه كُنه ما في قلبه. وقد تكلم العلماء في حدّ «البلاغة» فقال بعضهم: «البلاغة» : إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وقيل: «البلاغة» : حسن العبارة مع صحة المعنى، وقيل: البلاغة: الإِيجاز مع الإِفهام، والتصرّف من غير إِضجار. قال خالد بن صفوان: أحسن الكلام ما قلت ألفاظه، وكثرت معانيه، وخيرُ الكلام ما شوّق أوّله إِلى سماع آخره، وقال غيره: إِِنما يستحق الكلام اسم البلاغة إِذا سابق لفظه معناه، ومعناه لفظه، ولم يكن لفظه إِلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك. فصل: وقد ذهب قوم إلى أن «الإِعراض» المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السيف. [سورة النساء (4) : آية 64] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ قال الزجاج: «من» دخلت للتوكيد. والمعنى:

[سورة النساء (4) : آية 65]

وما أرسلنا رسولاً إِلا ليطاع. وفي قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ قولان: أحدهما: أنه بمعنى: الأمر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الاذن نفسه، قاله مجاهد. وقال الزجاج: المعنى: إِلا ليطاع بأن الله أذن له في ذلك. وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما. قال ابن عباس: ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرّسول: جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من صنيعهم. [سورة النساء (4) : آية 65] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ في سبب نزولها قولان: (309) أحدهما: أنها نزلت في خصومة كانت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شراج الحرّة «1» ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للزبير: «اسق ثم أرسل إِلى جارك» فغضب الأنصاري، قال: يا رسول الله، أن كان ابن عمّتك! فتلوّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال للزبير: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ الجَدْر» قال الزبير: فو الله ما أحسب هذه الآية نزلت إِلاّ في ذلك. أخرجه البخاري ومسلم. والثاني: أنها نزلت في المنافق، واليهودي اللذين تحاكما إِلى كعب بن الأشرف، وقد سبقت قصتهما، قاله مجاهد «2» . قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ أي: لا يكونون مؤمنين حتى يحكموك، وقيل: «لا» ردٌ لزعمهم أنهم مؤمنون، والمعنى: فلا، أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا، وهم يخالفون حكمك. ثم استأنف، فقال: وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، أي: فيما اختلفوا فيه. وفي «الحرج» قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: الضيق، قاله أبو عبيدة، والزجاج. وفي قوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً قولان: أحدهما: يسلموا لما أمرتهم به، فلا يعارضونك، هذا قول ابن عباس، والزجاج، والجمهور. والثاني: يسلّموا ما تنازعوا فيه لحكمك، قاله الماورديّ «3» .

_ صحيح. أخرجه البخاري 2708 عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن عروة بن الزبير عن الزبير. وأخرجه البخاري 2359 و 2361 و 2362 و 4585 ومسلم 2357 وأبو داود 3637 والترمذي 1363 والنسائي 8/ 245 وابن ماجة 15 و 2480 وأحمد 4/ 4- 5 و 165 وابن حبان 24 وابن الجارود 1021 والطبري 9917 و 9918 والبيهقي 6/ 153 و 154 و 10/ 106 من طرق عن الزهري به.

[سورة النساء (4) : الآيات 66 إلى 68]

[سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (310) سبب نزولها: أن رجلاً من اليهود قال: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلناها. فقال ثابت بن قيس بن الشماس: والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي. قال الزجاج: «لو» يمتنع به الشيء لامتناع غيره، تقول: لو جاءني زيد لجئته. والمعنى: أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه، وكَتَبْنا بمعنى: فرضنا. والمعنى: لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم. قرأ أبو عمرو: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، بكسر النون، «أو اخرجوا» بضم الواو. وقرأ ابن عامر، وابن كثير، ونافع، والكسائي: «أن اقتلوا» «أو اخرجوا» بضم النون والواو. وقرأ عاصم، وحمزة بكسرهما. والمعنى: لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى، لم يفعله إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر: «إِلا قليلاً» بالنصب. وَلَوْ أَنَّهُمْ يعني: المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي: ما يذكرون به من طاعة الله، والوقوف مع أمره، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وأثبت لأمورهم. وقال السّدّيّ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي: تصديقا. [سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (311) أحدها: أن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان شديد المحبّة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فرآه رسول الله يوما

_ أخرجه الطبري 9925 وابن أبي حاتم كما في ابن كثير 1/ 534 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 334 م عن الكلبي بدون إسناد، والكلبي متروك متهم، لكن ورد بنحو هذا السياق من حديث عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ... الآية. أخرجه الطبراني في «الأوسط» 480 و «الصغير» 52 والضياء المقدسي في «صفة الجنة» كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 535. وقال ابن كثير: قال الحافظ الضياء المقدسي: لا أرى بإسناده بأسا ووافقه ابن كثير. - وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 7: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة اه. - وفي الباب أيضا من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في «الكبير» 12559 وفي إسناده عطاء بن السائب، وقد اختلط كذا قال الهيثمي. لكن يصلح شاهدا لما قبله. وفي الباب أحاديث أخرى، انظر «الدر المنثور» 2/ 324 فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم، راجع «أحكام القرآن» 518 بتخريجنا.

فعرف الحزن في وجهه، فقال: يا ثوبان ما غير وجهك؟ قال: ما بي من وجع غير أني إِذا لم أرك اشتقت إِليك، فأذكر الآخرة، فأخاف أن لا أراك هناك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (312) والثاني: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا له: ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا، فانك إِذا فارقتنا رفعت فوقنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول مسروق. (313) والثالث: أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو محزون، فقال: ما لي أراك محزوناً؟ فقال: يا رسول الله غداً ترفع مع الأنبياء، فلا نصل إِليك. فنزلت هذه الآية. هذا قول سعيد بن جبير. قال ابن عباس: ومن يطع الله في الفرائض، والرسول في السُنن. قال ابن قتيبة: والصدّيق: الكثير الصدق، كما يقال: فسّيق، وسكّير، وشرّيب، وخمّير، وسكيت، وفجّير، وعشّيق، وضلّيل، وظلّيم: إِذا كثر منه ذلك. ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرّة، أو مرتين حتى يكثر منه ذلك، أو يكون عادة. فأما الشهداء، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله. وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال: أحدها: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنّة، قاله ثعلب. والثاني: لأن ملائكة الرحمة تشهده. والثالث: لسقوطه بالأرض، والأرض: هي الشاهدة، ذكر القولين ابن فارس اللغوي. والرابع: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل، قاله أبو سليمان الدمشقي. والخامس: لأنه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة بالقتل، قاله شيخنا على بن عبيد الله. فأما الصالحون، فهو اسم لكل من صَلُحَتْ سريرتُه وعلانيتُه. والجمهور على أن النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين عام في جميع من هذه صفته. وقال عكرمة: المراد بالنبيين هاهنا محمد، والصديقين أبو بكر، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي، وبالصالحين سائر الصحابة. قوله تعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً قال الزجاج: «رفيقاً» منصوب على التمييز، وهو ينوب عن رفقاء، قال الشاعر: بِها جِيَفُ الْحَسْرَى فأَمّا عظامُها ... فبيضٌ وأَمّا جلدُها فصليب «1» وقال آخر: في حلقكم عظم وقد شجينا «2» يريد: في حلوقكم عظام. ذلِكَ الْفَضْلُ الذي أعطى المذكورين مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بالمقاصد والنيات.

_ مرسل. أخرجه الطبري 9930 والواحدي 335 عن مسروق مرسلا، وكرره 9931 من مرسل قتادة و 9932 من مرسل السدي، فهذه المراسيل تتقوى بمجموعها، وانظر ما قبله. و «تفسير القرطبي» 2310. مرسل. أخرجه الطبري 9929 عن سعيد بن جبير مرسلا، وهو شاهد قوي لما تقدم.

[سورة النساء (4) : آية 71]

[سورة النساء (4) : آية 71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ فيه قولان: أحدهما: احذروا عدوّكم. والثاني: خذوا سلاحكم. قوله تعالى: فَانْفِرُوا ثُباتٍ قال ابن قتيبة: أي: جماعات، واحدتها: ثبة، يريد جماعة بعد جماعة. وقال الزجاج: «الثباتُ» : الجماعات المتفرّقة. قال زهير: وقد أغْدُوا على ثُبَةٍ كِرامٍ ... نَشَاوى واجدين لما نشاء قال ابن عباس: فانفروا ثبات، أي: عصباً، سرايا متفرِّقين، أو انفروا جميعاً، يعنى كلكم. فصل: وقد نقل عن ابن عباس أن هذه الآية وقوله انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «1» وقوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً «2» منسوخات بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «3» قال أبو سليمان الدمشقي: والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإِمام، وليس في هذا من المنسوخ شيء. [سورة النساء (4) : الآيات 72 الى 73] وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: (314) أحدهما: أنها في المنافقين، كعبد الله بن أُبيّ، وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد، فان لقيت السريّة نكبة، قال من أبطأ منهم: لقد أنعم الله عليّ، وإِن لقوا غنيمةً، قال: يا ليتني كنت معهم. هذا قول ابن عباس، وابن جريج. والثاني: أنها نزلت في المسلمين الذين قلّت علومُهم بأحكام الدين، فتثبطوا لقلة العلم، لا لضعف الدين، ذكره الماوردي وغيره. فعلى الأول تكون إِضافتهم إِلى المؤمنين بقوله «منكم» لموضع نطقهم بالإِسلام، وجريان أحكامه عليهم، وعلى الثاني تكون الإِضافة حقيقة. قال ابن جرير: اللام في لَمَنْ لام تأكيد. قال الزجاج: واللام في لَيُبَطِّئَنَّ لام القسم، كقولك: إِن منكم لمن أحلف بالله ليبطئن، يقال: «أبطأ الرجل» و «بطؤ» فمعنى «أبطأ» : تأخّر، ومعنى «بطؤ» : ثقُل. وقرأ أبو جعفر: «ليبطئن» بتخفيف الهمزة. وفي معنى «ليبطئن» قولان: أحدهما: ليبطئن هو نفسه، وهو قول ابن عباس. والثاني: ليبطئن غيره، قاله ابن جريج. قال ابن عباس: و «المصيبة» : النكبة. و «الفضل من الله» : الفتح والغنيمة. قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ قرأ ابن كثير، وحفص، والمفضّل، عن عاصم:

_ ضعيف. أخرجه الطبري 9943 عن ابن جريج، وهذا معضل. - وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» 2/ 183 عن مقاتل بن حيان، وهذا معضل أيضا. - وعزاه المصنف لابن عباس، والظاهر أنه من رواية الكلبي، وهو متروك عن أبي صالح عن ابن عباس.

[سورة النساء (4) : آية 74]

(كأن لم تكن) بالتاء، لأن الفاعل المسند إِليه مؤنّث في اللفظ، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: يكن بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقي. قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: ليقولن يا ليتني كنت معهم، كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة، أي: كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم، ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به، فيكون المعنى: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فان أصابتكم مصيبة، قال: قد أنعم الله علي، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة. فيكون معنى «المودّة» أي: كأنه لم يعاقدكم على الإيمان. [سورة النساء (4) : آية 74] فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) قوله تعالى: الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يشرون هاهنا: بمعنى يبتغون في قول الجماعة. وأنشدوا: وشرَيْتُ ... بُرداً ليتني ... من بَعْدِ بُردٍ كُنْتُ هامة «1» و «برد» غلام له باعه. ومعنى الآية: ليكن قتال المقاتِلينَ على وجه الإِخلاص وطلب الآخرة. قوله تعالى: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ خرج مخرج الغالب، وقد يثاب من لم يَغلِب ولَم يُقتل. [سورة النساء (4) : آية 75] وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ قال الفراء: تقديره: وفي المستضعفين. وكذلك روي عن ابن عباس. وقال الزجاجِ: المستضعفون في موضع خفض، والمعنى في سبيل الله، وسبيل المستضعفين، أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء؟ قال ابن عباس: وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا. و «القرية» : مكة في قول الجماعة. قال الفراء: وإِنما خفض الظَّالِمِ لأنه نعت للأهل، فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إِليها بمنزلة فعلها، تقول: مررت بالرجل الواسعة داره. قوله تعالى: وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا قال أبو سليمان: سألوا الله ولياً من عنده يلي إِخراجهم منها، ونصيراً يمنعهم من المشركين. قال ابن عباس: (315) فلما فتح رسول الله مكّة، جعل الله عزّ وجلّ النبيّ عليه السلام وليّهم، واستعمل عليهم

_ سيأتي تخريجه إن شاء الله.

[سورة النساء (4) : آية 76]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتاب بن أسيد، فكان نصيراً لهم، ينصف الضعيف من القوي. [سورة النساء (4) : آية 76] الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) قوله تعالى: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ الطاغوت هاهنا في معنى جماعة، كقوله وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ معناه: ولحم الخنازير. قوله تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ يعني: مكره وصنيعه كانَ ضَعِيفاً حيث خذل أصحابه يوم بدر. [سورة النساء (4) : آية 77] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: (316) أحدهما: أنها نزلت في نفر من المهاجرين، كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكّة قبل أن يُفرَضَ القتال، فنُهوا عن ذلك، فلما أُذِنَ لهم فيه، كَرِههُ بعضُهُم. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول قتادة، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنها نزلت واصفةً أحوال قومٍ كانوا في الزمان المتقدّم، فحُذّرت هذه الأمّة من مثلِ حالهم، روى هذا المعنى عطية، عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومئ إِلى قصة الذين قالوا: إِبعث لنا مَلِكاً. وقال مجاهد: هي في اليهود. فأما كفُّ اليد، فالمراد به: الامتناع عن القتال، ذلك كان بمكة. و «كُتب» بمعنى: فُرض، وذلك بالمدينة، هذا على القول الأول. قوله تعالى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ في هذا الفريق ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون. والثاني: أنهم كانوا مؤمنين، فلما فرض القتال، نافقوا جُبناً وخوفاً. والثالث: أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم، فنفرت نفوسُهم عن القتال. قوله: يَخْشَوْنَ النَّاسَ في المراد بالناس قولان: أحدهما: كفار مكة. والثاني: جميع الكفار. قوله تعالى: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً قيل: إِن «أو» بمعنى الواو، و «كتبت» بمعنى: فرضت. و «لولا» بمعنى «هلاّ» ، قال الفراء: إِذا لم تر بعدها اسماً فهي استفهامٌ بمعنى هلاّ، وإِذا رأيت بعدها اسما مرفوعا، فهي

_ خبر منكر. وورد بذكر ابن عوف وجماعة، لم يسم غير ابن عوف برواية عكرمة عن ابن عباس أخرجه النسائي 6/ 3 وفي «التفسير» 132 والحاكم 2/ 66 و 307 والبيهقي 9/ 11 والواحدي 339 ورجاله ثقات وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، مع أن في إسناده حسين بن واقد وهو من رجال مسلم فقط، فهو على شرط مسلم، ومع ذلك حسين بن واقد فيه ضعف، وقد استنكر الإمام أحمد بعض ما ينفرد به، وهذا الخبر غريب، فإن ظاهر القرآن يدل على أن المخاطب بذلك فئة من المنافقين كابن سلول وأمثاله، ولا يصح هذا السياق في أحد من المهاجرين السابقين والله أعلم.

[سورة النساء (4) : آية 78]

التي جوابها اللام، تقول: لولا عبد الله لضربتك. وقال ابن قتيبة: إِذا رأيتها بغير جواب، فهي بمعنى «هلاّ» ، تقول: لولا فعلت كذا، ومثلها «لوما» ، فاذا رأيت ل «لولا» جواباً، فليست بمعنى «هلاّ» ، إِنما هي التي تكون لأمر يقع بوقوع غيره، كقوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «1» . قلت: فأما «لولا» التي لها جوابٌ فكثيرة في الكلام، وأنشدوا في ذلك: لولا الحياءُ وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت امَّ القاسم «2» وأما التي بمعنى «هلاّ» فأنشدوا منها: تعدّون عقر النّيب أفضَلَ مجدِكُم ... بني ضَوْطَرى لولا الكَميَّ المقنَّعا «3» أراد: فهلاّ تعدون الكمي، والكمي: الداخل في السّلاح. وفي الأجل القريب قولان: أحدهما: أنه الموت، فكأنهم قالوا: هلاّ تركتنا نموت موتاً، وعافيتنا من القتل، هذا قول السدي، ومقاتل. والثاني: أنه إِمهال زمان، فكأنهم قالوا: هلاّ أخرت فرض الجهاد عنّا قليلاً حتى نكثر ونقوى، قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين. قوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ أي: مدّة الحياة فيها قليلة. قوله تعالى: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ولا يظلمون بالياء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم: بالتاء، وقد سبق ذكر المتاع والفتيل. [سورة النساء (4) : آية 78] أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حقّ شهداء أُحُد: لو كانوا عندنا ما ماتوا، وما قتلوا، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس «4» ، ومقاتل. والبروج: الحصون، قاله ابن عباس وابن قتيبة. وفي «المشيّدة» خمسة أقوال «5» : أحدها: أنها الحصينة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: المطولة، قاله أبو مالك، ومقاتل، وابن قتيبة. والثالث: المجصّصة، قاله

_ (1) سورة الصافات: 143- 144. [.....] (2) البيت لعدي بن الرقاع وفي «اللسان» عثا فيه المشيب: أفسده أشد الإفساد. (3) البيت لجرير بن عطية كما في «الخزانة» 1/ 461 وقوله: عقر النبيب، عقر الناقة المسنّة: ضرب قوائمها فقطعها. وفي حديث ابن عباس: «لا تأكلوا من تعاقر الأعراب فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله» . هو عقرهم الإبل كان يتبارى الرجلان في الجود والسخاء، فيعقر هذا إبلا ويعقر هذا إبلا حتى يعجز أحدهما الآخر. وقوله: «بني ضوطرى» يعني: يا بني الحمقى، ويقال للقوم إذا كانوا لا يغنون غناء: بنو ضوطرى. والكمي: الشجاع الذي لا يرهب، والمقنع: على رأسه البيضة والمغفر. (4) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 340 برواية أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح وعنه الكلبي رويا تفسيرا مصنوعا عن ابن عباس. فالإسناد ساقط، وإن كان ظاهر الآية يدل على أن المراد بذلك المنافقون. (5) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 271: واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج، فقال الأكثر وهو الأصح: إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصّن والمنعة، فمثّل الله لهم بها.

[سورة النساء (4) : آية 79]

هلال بن خبّاب، واليزيدي. والرابع: أنها المبنيّة بالشيِّد، وهو الجص، قاله أبو سليمان الدمشقي. والخامس: أنها بروج في السماء، قاله الربيع بن أنس، والثوري. وقال السدّي: هي قصور بيض في السماء مبنيّة. قوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون واليهود، قاله ابن عباس. والثاني: المنافقون، قاله الحسن. والثالث: اليهود، قاله ابن السري. وفي الحسنة والسيئة قولان: أحدهما: أن الحسنة: الخصب، والمطر. والسيئة: الجدب، والغلاء، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أن الحسنة: الفتح والغنيمة، والسيئة: الهزيمة والجراح، ونحو ذلك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي قوله تعالى: مِنْ عِنْدِكَ قولان: أحدهما: بشؤمك، قال ابن عباس. والثاني: بسوء تدبيرك، قاله ابن زيد. قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قال ابن عباس: الحسنة والسيئة، أما الحسنة، فأنعم بها عليك، وأما السيئة، فابتلاك بها. قوله تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ وقف أبو عمرو، والكسائي على الألف من «فما» في قوله تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ ومالِ هذَا الْكِتابِ ومالِ هذَا الرَّسُولِ وفَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا، والباقون وقفوا على اللام. فأما «الحديث» ، فقيل: هو القرآن، فكأنّه قال: لا يفقهون القرآن، فيؤمنون به، ويعلمون أن الكل من عند الله. [سورة النساء (4) : آية 79] ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ في المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عامٌ، فتقديره: ما أصابك أيها الإِنسان، قاله قتادة. والثاني: أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به غيره، ذكره الماوردي. وقال ابن الأنباري: ما أصابك الله من حسنة، وما أصابك الله به من سيئة، فالفعلان يرجعان إلى الله عزّ وجلّ. وفي «الحسنة» و «السيئة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحسنة: ما فُتح عليه يوم بدر، والسيئة: ما أصابه يوم أُحد، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. والثاني: الحسنة: الطاعة، والسيئة: المعصية، قاله أبو العالية. والثالث: الحسنة: النعمة، والسيئة: البليّة، قاله ابن قتيبة، وعن أبي العالية نحوه، وهو أصح، لأن الآية عامة. وروى كرداب، عن يعقوب: «ما أصابك من حسنة فمن الله» بتشديد النون ورفعها ونصب الميم وخفض اسم الله، «وما أصابك من سيئة فمن نَفسُك» بنصب الميم ورفع السين. وقرأ ابن عباس: «وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك» . وقرأ ابن مسعود: «وأنا عددتها عليك» . قوله تعالى: فَمِنْ نَفْسِكَ أي: فبذنبك، قاله الحسن، وقتادة، والجماعة، وذكر فيه ابن الأنباري وجهاً آخر، فقال: المعنى: أفمن نفسك، فأضمرت ألف الاستفهام كما أضمرت في قوله وَتِلْكَ نِعْمَةٌ أي: أوَ تلك نعمة. قوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا قال الزجاج: ذكر الرسول مؤكّد لقوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ، والباء في «بالله» مؤكّدة. والمعنى: وكفى بالله شهيدا. و «شهيدا» : منصوب على التمييز، لأنك إذا قلت: كفى بالله، ولم تبيّن في أي شيء الكفاية كنت مبهماً. وفي المراد بشهادة الله هاهنا ثلاثة أقوال:

[سورة النساء (4) : آية 80]

أحدها: شهيداً لك بأنك رسوله، قاله مقاتل. والثاني: على مقالتهم، قاله ابن السائب. والثالث: لك بالبلاغ، وعليهم بالتكذيب والنفاق، قاله أبو سليمان الدمشقي. فان قيل: كيف عاب الله هؤلاء حين قالوا: إِن الحسنة من عند الله، والسيئة من عند النبي عليه السلام، وردّ عليهم بقوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثم عاد فقال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فهل قال القوم إِلا هكذا؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنهم أضافوا السّيئة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تشاؤماً به، فردّ عليهم، فقال: كلٌ بتقدير الله. ثم قال: ما أصابك من حسنة، فمن الله، أي: من فضله، وما أصابك من سيئة، فبذنبك، وإِن كان الكل من الله تقديراً. والثاني: أن جماعة من أرباب المعاني قالوا: في الكلام محذوف مقدّر، تقديره: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً، يقولون: ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك. فيكون هذا من قولهم. والمحذوف المقدّر في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «1» أي: يقولان: ربنا. ومثله أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ «2» أي: فحلق، ففدية. ومثله فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ «3» أي: فيقال لهم. ومثله وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ «4» أي: يقولون سلام. ومثله أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ «5» أراد: لكان هذا القرآنَ. ومثله وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «6» أراد: لعذّبكم. ومثله رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي: يقولون. وقال النَّمِرُ بنُ تولب: فإنَّ المنيَّة من يخشَها ... فَسَوْفَ تُصَادِفُه أينما أراد: أينما ذهب. وقال غيره: فأُقْسِمُ لَوْ شيءٌ أتانا رسولُه ... سواكَ وَلكِن لم نجد لَك مدفعا «7» أراد: لرددناه. [سورة النساء (4) : آية 80] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ سبب نزولها: (317) أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن أحبني، فقد أحب الله» فقال المنافقون: لقد قارب هذا الرجل الشرك، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.

_ لا أصل له بهذا اللفظ، عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالوضع. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 539: لم أجده. وبعض الحديث المرفوع صحيح، ورد في خبر مسند عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني. وإنما الإمام جنّة يقاتل من ورائه، ويتقى به. فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه» . وهذا صحيح. أخرجه البخاري 2957 و 7137 ومسلم 1835 والنسائي 7/ 154 وابن ماجة 3 وابن حبان 3556 وعبد الرزاق 20679 وأحمد 2/ 342 و 416 من حديث أبي هريرة، وليس فيه سبب نزول ولا قول المنافقين وقال الحافظ في «الفتح» 2957: قوله: «من أطاعني فقد أطاع الله» : هذه الجملة منتزعة من قوله تعالى: (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) .

[سورة النساء (4) : آية 81]

ومعنى الكلام: من قَبِلَ ما أتى به الرسول، فانما قبل: ما أمر الله به، ومن تولّى، أي: أعرض عن طاعته. وفي «الحفيظ» قولان: أحدهما: أنه الرّقيب، قاله ابن عباس. والثاني: المحاسب، قاله السدي، وابن قتيبة. فصل: قال المفسّرون: وهذا كان قبل الأمر بالقتال، ثم نسخ بآية السيف. [سورة النساء (4) : آية 81] وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) قوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ. (318) نزلت في المنافقين، كانوا يؤمنون عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليأمنوا، فاذا خرجوا، خالفوا، هذا قول ابن عباس. قال الفرّاء: والرّفع في «طاعة» على معنى: أمرُك طاعة. قوله تعالى: بَيَّتَ طائِفَةٌ قرأ أبو عمرو، وحمزة: بيت، بسكون «التاء» وإدغامها في «الطاء» ، ونصب الباقون «التاء» ، قال أبو علي: التاء والطاء والدال من حيز واحد، فحسن الإِدغام، ومَن بيّن، فلانفصال الحرفين، واختلاف المخرجين. قال ابن قتيبة: والمعنى (فاذا برزوا من عندك) أي خرجوا، (بيت طائفة منهم غير الذي تقول) ، أي «1» قالوا، وقدّروا ليلاً غير ما أعطوك نهاراً. قال الشاعر: أتوني فلم أرض ما بيَّتوا ... وكانوا أتَوْني بشيء نُكُرْ «2» والعرب تقول: هذا أمر قد قُدِّر بليل، [وفرغ منه بليل، ومنه قول الحارث بن حِلِّزة: أجمعوا أمرهم عشاءً فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء] «3» وقال بعضهم: بيّت، بمعنى: بدّل، وأنشد: وبيَّتَ قولِيَ عند المليك ... قاتلك الله عبدا كفورا «4» وفي قوله تعالى: غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ قولان: أحدهما: غير الذي تقول الطائفة عندك، وهو قول ابن عباس، وابن قتيبة. والثاني: غير الذي تقول أنت يا محمّد، وهو قول قتادة، والسّدّيّ.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 9991 عن العوفي عن ابن عباس وإسناده واه لأجل عطية بن سعد العوفي.

[سورة النساء (4) : آية 82]

قوله تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يكتبه في الأعمال التي تثبتها الملائكة، قاله مقاتل في آخرين. والثاني: ينزله إِليك في كتابه. والثالث: يحفظه عليهم ليجازوا به، ذكر القولين الزجاج. قال ابن عباس: فأعرض عنهم: فلا تعاقبهم، وثق بالله عز وجل، وكفى بالله ثقة لك. قال: ثم نسخ هذا الإِعراض، وأُمِر بقتالهم. فإن قيل: ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة، ثم قال: بَيَّتَ طائِفَةٌ، والكل منافقون؟ فالجواب من وجهين، ذكرهما أهل التفسير: أحدهما: أنه أخبر عمن سهر ليله، ودبَّر أمرهُ منهم دون غيره منهم. والثاني: أنه ذكر من علم أنه يبقى على نفاقه دون من علم أنّه يرجع. [سورة النساء (4) : آية 82] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ قال الزجاج: «التدبّر» : النظر في عاقبة الشيء. و «الدّبْر» النحل، سُمي دبراً، لأنه يُعْقِبُ ما يُنتفع به، و «الدّبْر» : المال الكثير، سُمي دبراً لكثرته، لأنه يبقى للأعقاب، والأدبار. وقال ابن عباس: أفلا يتدبّرون القرآن، فيتفكّرون فيه، فيرون تصديق بعضه لبعض، وأن أحداً من الخلائق لا يقدر عليه. قال ابن قتيبة: والقرآن من قولك: ما قرأت الناقة سلى «1» قط، أي: ما ضمّت في رحمها ولداً، وأنشد أبو عبيدة: هِجانُ اللّون لم تقرأ جنينا «2» وإنما سُمي قرآنا، لأنه جمع السور، وضمها. قوله تعالى: لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التناقض، قاله ابن عباس، وابن زيد، والجمهور. والثاني: الكذب، قاله مقاتل، والزجاج. والثالث: أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام، ومرذول، إِذ لا بدّ للكلام إِذا طال من مرذول، وليس في القرآن إِلا بليغ، ذكره الماورديّ في جماعة. [سورة النساء (4) : آية 83] وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) قوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ في سبب نزولها قولان: (319) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلّق

_ صحيح. أخرجه مسلم 1479 عن ابن عباس عن عمر في أثناء خبر مطول، وكرره لكن دون ذكر الآية. - وسيأتي باستيفاء في سورة الأحزاب.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه، فدخل على النبي عليه السلام فسأله: أطّلقت نساءك؟ قال: «لا» . فخرج فنادى: ألا إِن رسول الله لم يطلّق نساءه. فنزلت هذه الآية. فكان هو الذي استنبط الأمر. انفرد بإخراجه مسلم، من حديث ابن عباس، عن عمر. (320) والثاني: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إِذا بعث سريّة من السرايا فَغَلَبَتْ أو غُلِبَت، تحدثوا بذلك، وأفشوه، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدِّث به. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وفي المشار إِليهم بهذه الآية قولان: أحدهما: أنهم المنافقون. قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أهل النفاق، وضعفة المسلمين، ذكره الزجاج. وفي المراد بالأمن أربعة أقوال: أحدها: فوز السريّة بالظفر والغنيمة، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه الخبر يأتي إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه ظاهر على قوم، فيأمن منهم، قاله الزجاج. والثالث: أنه ما يعزم عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الموادعة والأمان لقومٍ، ذكره الماوردي. والرابع: أنه الأمن يأتي من المأمَن وهو المدينة، ذكره أبو سليمان الدمشقي مُخرجاً من حديث عمر. وفي الْخَوْفِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النكبة التي تُصيب السريّة، ذكره جماعة من المفسّرين. والثاني: أنه الخبر يأتي أن قوماً يجمعون للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيخاف منهم، قاله الزجاج. والثالث: ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال، ذكره الماوردي. قوله تعالى: أَذاعُوا بِهِ قال ابن قتيبة: أشاعوه. وقال ابن جرير: والهاء عائدة على الأمر. قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ يعني: الأمر إِلَى الرَّسُولِ حتى يكون هو المخبر به وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وفيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم أبو بكر، وعمر، قاله عكرمة. والثالث: العلماء، قاله الحسن، وقتادة، وابن جريج. والرابع: أمراء السرايا، قاله ابن زيد، ومقاتل. وفي الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ قولان: أحدهما: أنهم الذين يتتبعونه من المذيعين له، قاله مجاهد. والثاني: أنهم أُولو الأمر، قاله ابن زيد. و «الاستنباط» في اللغة: الاستخراج. قال الزجاج: أصله من النبط، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، يقال من ذلك: قد أنبط فلان في غضراء، أي: استنبط الماء من طين حُرّ. والنبط: سُموا نبطاً، لاستنباطهم ما يخرج من الأرض. قال ابن جرير: ومعنى الآية: وإِذا جاءهم خبر عن سريّة للمسلمين بخير أو بشر أفشوه، ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذوو الأمر يتولون الخبر عن ذلك، فيصححوه إِن كان صحيحاً، أو يبطلوه إِن كان باطلاً، لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أُولى الأمر. قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. في المراد بالفضل أربعة أقوال: أحدها: أنه رسول الله. والثاني: الإِسلام. والثالث: القرآن. والرابع: أُولو الأمر. وفي الرحمة أربعة أقوال: أحدها: أنها الوحي. والثاني: اللّطف. والثالث: النعمة. والرابع: التّوفيق.

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.

[سورة النساء (4) : آية 84]

قوله تعالى: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال: أحدها: أنه راجع إِلى الإِذاعة، فتقديره: أذاعوا به إِلا قليلاً. وهذا قول ابن عباس وابن زيد، واختاره القرّاء وابن جرير. والثاني: أنه راجع إِلى المستنبطين، فتقديره: لَعلمه الذين يستنبطونه منهم إِلا قليلاً، وهذا قول الحسن وقتادة، واختاره ابن قتيبة. فعلى هذين القولين في الآية تقديم وتأخير. والثالث: أنه راجع إلى اتِّباع الشيطان، فتقديره: لاتبعتم الشيطان إِلا قليلاً منكم، وهذا قول الضحاك، واختاره الزجاج. وقال بعض العلماء: المعنى: لولا فضل الله بإرسال النبي إِليكم، لضللتم إلا قليلاً منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله، ويعرفون ضلال من يَعبُد غيره، كقس بن ساعدة. [سورة النساء (4) : آية 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سبب نزولها: (321) أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما ندب الناس لموعد أبي سفيان ببدر الصُغرى بعد أُحُد، كره بعضهم ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وفي «فاء» فَقاتِلْ قولان: أحدهما: أنه جوابُ قوله وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ. والثاني: أنها متصلة بقوله وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذكرهما ابن السريّ. والمرادُ بسبيل الله: الجهاد. قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي: إِلا المجاهدة بنفسك. و «حرّض» : بمعنى حضّض. قال الزجاج: ومعنى عَسَى في اللغة: معنى الطمع والإِشفاق. والإِطماع من الله واجب. و «البأس» : الشدّة. وقال ابن عباس: والله أشدّ عذابا. قال قتادة: و «التّنكيل» : العقوبة. [سورة النساء (4) : آية 85] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً، في المراد بالشفاعة أربعة أقوال: أحدها: أنها شفاعة الإِنسان للانسان، ليجتلب له نفعاً، أو يُخلصه من بلاء، وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة، وابن زيد. والثاني: أنها الإِصلاح بين اثنين، قاله ابن السائب. والثالث: أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، ذكره الماوردي. والرابع: أن المعنى: مَن يَصرْ شفعاً لوِترِ أصحابك يا محمد، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي. وفي الشفاعة السيئة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها السعي بالنميمة، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: أنها الدّعاء على المؤمنين والمؤمنات، وكانت اليهود تفعله، ذكره الماوردي. والثالث: أن المعنى: من يشفع وتر أهل الكفر، فيقاتل المؤمنين قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي.

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من رواية الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.

[سورة النساء (4) : آية 86]

قال الزجاج: و «الكفل» في اللغة: النصيب، وأخذ من قولهم: اكتفلت البعير: إذا أدرت على سنامه، أو على موضع من ظهره كِساء، وركبتَ عليه. وإِنما قيل له: كِفل، لأنه لم يستعمل الظهر كله، وإِنما استعمل نصيباً منه. وفي المقيت» سبعة أقوال: أحدها: أنه المقتدر، قال أحيحة بن الجلاّح: وذي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفس عنه ... وكنتُ على مساءته مُقيتاً «1» وإِلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، وابن جرير، والسدي، وابن زيد، والفراء، وأبو عبيد، وابن قتيبة، والخطّابي. والثاني: أنه الحفيظ، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والزجاج. وقال: هو بالحفيظ أشبه، لأنه مشتقّ من القوت، يقال: قُتُّ الرجل أقوته قوتاً: إِذا حفظت عليه نفسه بما يقوته. والقوت: اسم الشيء الذي يحفظ نفسه، ولا فضل فيه على قدر الحفظ، فمعنى المقيت: الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ. قال الشاعر: أليَ الفَضْلُ أمْ عليّ إِذا حُو ... سبْتُ إِنّي على الحساب مُقيتُ والثالث: أنه الشهيد، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، واختاره أبو سليمان الدمشقي. والرابع: أنه الحسيب، رواه خصيف عن مجاهد. والخامس: الرقيب، رواه أبو شيبة عن عطاء. والسادس: الدائم، رواه ابن جريج عن عبد الله بن كثير. والسابع: أنه معطي القوت، قاله مقاتل بن سليمان. وقال الخطّابي: المقيت يكون بمعنى معطي القوت، قال الفرّاء: يقال: قاته وأقاته. [سورة النساء (4) : آية 86] وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ في التحيّة قولان: أحدهما: أنها السلام، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: الدّعاء، ذكره ابن جرير والماوردي. فأما «أحسن منها» فهو الزيادة عليها، وردها: قول مثلها. قال الحسن: إِذا قال أخوك المسلم: السلام عليكم، فردَّ السلام، وزد: ورحمة الله. أو رُد ما قال ولا تزد. وقال الضحاك: إِذا قال: السلام عليك، قلت: وعليكم السلام ورحمة الله، وإِذا قال: السلام عليك ورحمة الله، قلتَ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وهذا منتهى السلام. وقال قتادة: بأحسن منها للمسلم، أو ردّوها على أهل الكتاب «2» .

_ (1) في «اللسان» الضغن: الحقد والعداوة. (2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 283: واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها، فروى ابن وهب عن مالك أن هذه الآية بتشميت العاطس والردّ على المشمّت. وهذا ضعيف. والرد على المشمّت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه. وقال أصحاب أبي حنيفة: التحية هنا الهدية، لقوله تعالى: أَوْ رُدُّوها والصحيح أن التحية هاهنا السلام وعلى هذا جماعة المفسرين. وأجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنّة مرغب فيها، وردّه فريضة لقوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها. واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أو لا. فمذهب الشافعي ومالك إلى الإجزاء. واحتجوا بما رواه داود عن علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجزئ من الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم» قال أبو عمر: حديث حسن لا معارض له. وقد ضعفه بعضهم وجعلوه حديثا منكرا. واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام: «يسلّم القليل على الكثير» . وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يسلّم الراكب على الماشي وإذا سلّم واحد من القوم أجزأ عنهم» . قلت: هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد، وفيه قلق. وقوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها رد الأحسن أن يزيد فيقول: عليك السلام ورحمة الله، لمن قال: سلام عليك. فإن قال: سلام عليك ورحمة الله زدت في ردّك: وبركاته. وهذا هو النهاية فلا مزيد. فإن انتهى بالسلام غايته، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وينبغي أن يكون السلام. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: إذا سلّمت على الواحد فقل: السلام عليكم، فإن معه الملائكة، وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع. والاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق قال تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. فإن ردّ فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرّما ولا مكروها. ومن السنة تسليم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير. هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة. قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويسلّم الصغير على الكبير» . وأما تسليم الكبير على الصغير قال أكثر العلماء: التسليم عليهم أفضل من تركه، وفيه تدريب للصغير وحضّ على تعليم السّنن ورياضة لهم على آداب الشريعة فيه، وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت فمرّ بصبيان فسلم عليهم، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمرّ بصبيان فسلّم عليهم، وحدّث أنه كان يمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمرّ بصبيان فسلّم عليهم. وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين. وأما المتجالات- المتجالة الهرمة المسنة- والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء. ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن ردّ السّلام فلم يسلّم عليهن. والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال: كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت ولم؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة- قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة- فتأخذ من أصول السّلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلّم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله، ولا كنا نقيل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة. تكركر أي تطحن. ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي، وعندنا تكفي إذا كان على بعد وأما الكافر فحكم الردّ عليه أن يقال له: وعليكم. وقال عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلّم من غيرهم قيل له: عليك، كما جاء في الحديث في صحيح مسلم: «عليك» بغير واو وهي الرواية الواضحة، ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر، وعليها من العلماء أكثر. ولا يسلّم على المصلي فإن سلّم عليه فهو بالخيار، إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يردّ. ولا ينبغي أن يسلّم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه.

[سورة النساء (4) : آية 87]

[سورة النساء (4) : آية 87] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال مقاتل: نزلت في الذين شكّوا في البعث. قال الزجاج: واللام في «لَيجمعنكم» لام القسم، كقولك: واللهِ ليجمعنّكم، قال: وجائِز أن تكون سُميت القيامة، لقيام الناس من قبورهم، وجائِز أن تكون، لقيامهم للحساب. قوله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً إِنما وصف نفسه بهذا، لأن جميع الخلق يجوز عليهم الكذب، ويستحيل في حقّه. [سورة النساء (4) : آية 88] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)

قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ في سبب نزولها سبعة أقوال «1» : (322) أحدها: أن قوماً أسلموا، فأصابهم وَبَاء بالمدينة وحِماها، فخرجوا فاستقبلهم نفرٌ من المسلمين، فقالوا: ما لكم خرجتم؟ قالوا: أصابنا وباء بالمدينة، واجتويناها «2» ، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوةٌ؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه. (323) والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرج إِلى أُحد، رجع ناسٌ ممن خرج معه، فافترق فيهم أصحاب رسول الله، ففرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا نقتلهم، فنزلت هذه الآية، هذا في «الصحيحين» من قول زيد بن ثابت. (324) والثالث: أن قوماً كانوا بمكة تكلموا بالإِسلام وكانوا يعاونون المشركين، فخرجوا من مكة لحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين: اخرجوا إِليهم فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عدوّكم. وقال قوم: كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به؟ فنزلت هذه الآية، رواه عطية عن ابن عباس. (325) والرابع: أن قوماً قدموا المدينة، فأظهروا الإِسلام، ثم رجعوا إلى مكة، فأظهروا الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، ومجاهد. (326) والخامس: أن قوماً أعلنوا الإِيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة، فاختلف المؤمنون فيهم، فنزلت هذه الآية، وهذا قول الضّحّاك.

_ ضعيف. أخرجه أحمد 1/ 192 والواحدي في «أسباب النزول» 342 عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه بنحوه، وإسناده منقطع، أبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئا. وله علة ثانية ابن إسحاق مدلس، وقد عنعن. وورد بنحوه عن السدي مرسلا أخرجه الطبري 10064، وهو ضعيف. والصواب في ذلك ما رواه الشيخان، وهو الآتي. صحيح. أخرجه البخاري 1884 و 4050 و 4589 ومسلم 1384 و 2776 والترمذي 3028 والنسائي في «التفسير» 133 وأحمد 5/ 184 و 187 و 188 والطبري 10055 والواحدي 341 عن زيد بن ثابت. ضعيف. أخرجه الطبري 10060 عن عطية، عن ابن عباس، وإسناده واه لأجل عطية العوفي. ضعيف. أخرجه الطبري 10058 عن مجاهد مرسلا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 342 م عن مجاهد بدون إسناد، وهو ضعيف لكونه مرسلا، والصحيح ما رواه الشيخان. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» 2/ 190 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. ضعيف. أخرجه الطبري 10063 عن الضحاك، مرسلا.

[سورة النساء (4) : آية 89]

(327) والسادس: أن قوماً من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إِنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة، فلعلنا نخرج فنتماثل، فإنا كنا أصحاب بادية، فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي. (328) والسابع: أنها نزلت في شأن ابن أُبيّ حين تكلّم في عائشة بما تكلّم، وهذا قول ابن زيد. وقوله تعالى: فَما لَكُمْ خطاب للمؤمنين. والمعنى: أي شيء لكم في الاختلاف في أمرهم؟ و «الفئة» : الفرقة. وفي معنى «أركسهم» أربعة أقوال: أحدها: ردّهم، رواه عطاء، عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: ركست الشيء، وأركسته: لغتان، أي: نكسهم وردهم في كفرهم، وهذا قول الفراء، والزجاج. والثاني: أوقعهم، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. والثالث: أهلكهم، قاله قتادة. والرابع: أضلّهم، قاله السدّي. فأما الذي كسبوا، فهو كفرهم، وارتدادهم. قال أبو سليمان. إِنما قال: أتريدون أن تهدوا مَن أضل الله، لأن قوماً من المؤمنين قالوا: إِخواننا، وتكلموا بكلمتنا. قوله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا فيه قولان: أحدهما: إِلى الحجة، قاله الزجاج. والثاني: إِلى الهدى، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. [سورة النساء (4) : آية 89] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا أخبر الله عزّ وجلّ المؤمنين بما في ضمائِر تلك الطائِفة، لئلا يحسنوا الظنّ بهم، ولا يجادلوا عنهم، وليعتقدوا عداوتهم. قوله تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ أي: لا توالوهم فإنهم أعداء لكم حَتَّى يُهاجِرُوا أي: يرجعوا إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عباس: فإن تولوا عن الهجرة والتوحيد، فَخُذُوهُمْ أي: ائسروهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحِل والحرم. فصل: قال القاضي أبو يعلى: كانت الهجرة فرضاً إِلى أن فتحت مكّة «1» . وقال الحسن: فرض

_ ضعيف. أخرجه الطبري 10064 عن السدي مرسلا. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 10065 عن ابن زيد مرسلا، وابن زيد متروك، ليس بشيء.

[سورة النساء (4) : آية 90]

الهجرة باق، واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: أحدها: من تجب عليه، وهو الذي لا يقدر على إِظهار الإِسلام في دار الحرب، خوفاً على نفسه، وهو قادرٌ على الهجرة، فتجب عليه لقوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «1» . والثاني: من لا تجب عليه بل تستحب له، وهو من كان قادراً على إِظهار دينه في دار الحرب. والثالث: من لا تستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر على إِظهار دينه، ولا على الحركة كالشيخ الفاني، والزّمِن، فلم تستحب له للحوق المشقّة. [سورة النساء (4) : آية 90] إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ هذا الاستثناء راجع إِلى القتل، لا إِلى الموالاة وفي «يصلون» قولان: أحدهما: أنه بمعنى يتّصلون ويلجئون. (329) قال ابن عباس: كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يعينه ولا يعين عليه. فكان من وصل إِلى هلال من قومه وغيرهم، فلهم من الجوار مثل ما لهلال. والثاني: أنه بمعنى ينتسبون، قاله ابن قتيبة، وأنشد. إِذا اتَّصلَتْ قالتْ أبكرَ بنَ وائلٍ ... وبكرٌ سَبَتْها والأنوفُ رواغمُ يريد: إِذا انتسبت، قالت: أبكراً، أي: يا آل بكر. وفي القوم المذكورين أربعة أقوال: أحدها: أنهم بنو بكر بن زيد مناة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، قاله عكرمة. والثالث: أنهم بنو مدلج، قاله الحسن. والرابع: خزاعة وبنو مدلج، قاله مقاتل. قال ابن عباس: «والميثاق» : العهد. قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: أو يصلون إلى قوم جاءوكم، قاله الزجاج في جماعة. والثاني: أنه يعود إِلى المطلوبين للقتل. فتقديره: أو رجعوا فدخلوا فيكم، وهو بمعنى قول السدي. قوله تعالى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ فيه قولان: أحدهما: أن فيه إِضمار «قد» . والثاني: أنه خبرٌ بعد خبر، فقوله جاؤُكُمْ: خبرٌ قد تم، وحصِرت: خبرٌ مستأنف، حكاهما

_ عزاه السيوطي في «أسباب النزول» 328 لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

[سورة النساء (4) : آية 91]

الزجاج. وقرأ الحسن ويعقوب والمفضل، عن عاصم: «حَصِرةً صدورُهم» على الحال. و «حصرت» : ضاقت، ومعنى الكلام: ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم، أو يقاتلوا قومَهم، يعني قريشاً. قال مجاهد: هلال بن عويمر هو الذي حصِر صَدرُه أن يقاتلكم، أو يقاتل قومه. قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: أخبر أنه إِنما كفّهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم. وفي السَّلَمَ قولان: أحدهما: أنه الإِسلام، قاله الحسن. والثاني: الصُلح، قاله الربيع، ومقاتل. فصل: قال جماعة من المفسّرين: معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال القاضي أبو يعلى: لما أعزّ الله الإِسلام أُمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إِلاَّ الإسلام أو السّيف «1» . [سورة النساء (4) : آية 91] سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: (330) أحدها: أنها نزلت في أسد وغطفان، كانوا قد تكلموا بالإِسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم، ويأمنوا قومهم بكفرهم، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في بني عبد الدار، رواه الضحاك، عن ابن عباس. (331) والثالث: أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، قاله قتادة. (332) والرابع: أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان يأمن في المسلمين والمشركين،

_ ضعيف جدا، فهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، والكلبي متروك متهم، وأبو صالح روى عن ابن عباس مناكير. ضعيف. أخرجه الطبري 10087 عن قتادة مرسلا. وذكره السيوطي في «الدر» 2/ 343 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. ضعيف. أخرجه الطبري 10088 عن السدي مرسلا. وذكره السيوطي في «الدر» 2/ 343 وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

[سورة النساء (4) : آية 92]

فينقل الحديث بين النبي عليه السلام وبينهم، ثم أسلم نُعيم، هذا قول السدي. ومعنى الآية: ستجدون قوماً يظهرون الموافقة لكم ولقومهم، ليأمنوا الفريقين، كلما دعوا إلى الشرك، عادوا فيه، فان لم يعتزلوكم في القتال، ويلقوا إليكم الصّلح، ويكفوا أيديهم عن قتالكم، فخذوهم، أي: ائسروهم، واقتلوهم حيث أدركتموهم، وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجة بيّنة في قتلهم. فصل: قال أهل التفسير: والكف عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السّيف. [سورة النساء (4) : آية 92] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً في سبب نزولها قولان: (333) أحدهما: أن عياش بن أبي ربيعة أسلم بمكّة قبل هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم خاف أن يظهر إِسلامه لقومه، فخرج إِلى المدينة فقالت أُمُّه لابنيها أبي جهل، والحارث ابني هشام، وهما أخواه لأمّه: والله لا يُظلّني سقف، ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتياني به. فخرجا في طلبه، ومعهما الحارث بن زيد، حتى أتوا عيّاشاً وهو مُتحَصّنٌ في أُطُم «1» ، فقالوا له: انزل فإن أُمّك لم يُؤوها سقفٌ، ولم تذق طعاماً، ولا شراباً، ولك علينا أن لا نحول بينكَ وبين دينك، فنزل، فأوثقوه، وجلده كلُّ واحد منهم مائة جلدة، فقدموا به على أُمّه، فقالت: والله لا أحُلُّك من وَثاقك حتى تكفُر، فطُرِحَ موثقاً في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا، فقال له الحارث بن زيد: يا عياش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته، وإِن كان ضلالاً لقد ركبته فغضب، وقال: والله لا ألقاك خالياً إلا قتلتك، ثم أفلت عياش بعد ذلك وهاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، ثم أسلم الحارث بعده وهاجر، ولم يعلم عياش، فلقيه يوماً فقتله، فقيل له: إنه قد أسلم، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بما كان، وقال: لم أشعر باسلامه، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وهو قول سعيد بن جبير، والسدّي، والجمهور. (334) والثاني: أن أبا الدرداء قتل رجلاً قال لا إِله إِلا الله في بعض السّرايا، ثم أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم،

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بإثر 343 عن الكلبي بدون إسناد، وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، وورد بمعناه، أخرجه الطبري 10098 عن السدي مرسلا و 10097 عن عكرمة مرسلا و 10095 و 10096 عن مجاهد مرسلا. وورد مختصرا عند الواحدي في «أسباب النزول» 343 والبيهقي 8/ 72 عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، وهذا مرسل، ولعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 10099 عن ابن زيد وهو معضل ومع ذلك عبد الرحمن بن زيد ضعيف الحديث ليس بشيء إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله؟! وقد صح ذلك في أسامة بن زيد. انظر «تفسير ابن كثير» 1/ 547 بتخريجنا.

فذكر له ما صنع، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد. قال الزجاج: معنى الآية: وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنا البتّة. والاستثناء ليس من الأوّل، وإنما المعنى: إلا أن يخطئ المؤمن. روى أبو عبيدة، عن يونس: أنه سأل رؤبة عن هذه الآية، فقال: ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأ «1» ، ولكنّه أقام «إِلا» مقام «الواو» قال الشاعر: وكلُّ أخٍ مُفَارقُه أخوهُ ... لَعَمْرُ أبيكَ إِلاَّ الفَرقَدَانِ «2» أرَادَ: والفَرْقَدَانِ. وقال بعضُ أهل المعاني: تقديرُ الآية: لكن قد يقتله خطأ، وليس ذلك فيما جعل الله له، لأن الخطأ لا تصح فيه الإِباحة، ولا النهي. وقيل: إِنما وقع الاستثناء على ما تضمنته الآية من استحقاق الإثم، وإِيجاب القتل. قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قال سعيدُ بنُ جبير: عتق الرقبة واجبٌ على القاتِل في ماله، واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصلاة والصيام، فروي عن أحمد جوازه، وكذلك روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهذا قول عطاء، ومجاهد. وروي عن أحمد: لا يجزئ إِلا من صام وصلى، وهو قول ابن عباس في رواية، والحسن، والشعبي، وإِبراهيم، وقتادة. قوله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ قال القاضي أبو يعلى: ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدية، واتفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين، كل سنة ثلثها، والعاقلة: العصبات من ذوي الأنساب. ولا يلزم الجاني منها شيء. وقال أبو حنيفة: هو كواحد من العاقلة «3» . وللنفس ستة أبدال: من الذهب ألف دينار، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم، ومن الإبل مائة، ومن البقرة مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل روايتان عن أحمد. إِحداهما: أنها أصل، فتكون مائتا حلة. فهذه دية الذكر الحرّ المسلم، ودية الحُرّة المسلمة على النصف من ذلك «4» . قوله

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 206: والصواب في ذلك أن يقال: إن الله عرّف عباده بهذه الآية على من قتل مؤمنا خطأ من كفارة ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأي ذلك كان، فالذي عنى الله تعالى بالآية: تعريف عباده ما ذكرناه، وقد عرف من عقل عنه من عباده تنزيله، وغير ضائرهم جهلهم بما نزلت فيه. (2) البيت لعمرو بن معديكرب كما في «الكامل» 3/ 1240، وفي «اللسان» الفرقدان: نجمان في السماء لا يغربان، ولكنهما يطوفان بالجدي. (3) قال الإمام الموفق رحمه الله في المغني 12/ 21: ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الخطأ على العاقلة. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة. وفي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرفع يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» ، قال ابن إسحاق: وبعث عليا، فودى قتلاهم، وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب. وهذا يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال. [.....] (4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 6- 12: أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل في الدية، وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل. وهنا إحدى الروايتين عن أحمد، رحمه الله. وقال القاضي: لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل، والذهب، والورق، والبقر، والغنم، فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها. ولنا، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن في قتيل عمد الخطأ، قتيل السوط والعصا، مائة من الإبل» ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فرّق بين دية العمد والخطأ فغلّظ بعضها، وخفف بعضها، ولا يتحقق هذا في غير الإبل، ولأنه بدل متلف حقا لآدمي، فكان متعينا، كعوض الأموال. فإن قلنا: هي خمسة أصول، فإن قدرها من الذهب ألف مثقال، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم، ومن البقر والحلل مائتان، ومن الشاة ألفان، ولم يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها من الذهب، ولا من سائرها، إلا الورق. فإن الثوري وأبا حنيفة وصاحبيه قالوا: قدرها عشرة آلاف من الورق. وعلى هذا، أي شيء أحضره من عليه الدية من القاتل أو العاقلة من هذه الأصول، لزم الولي أخذه، ولم يكن له المطالبة بغيره، لأنها أصول في قضاء الواجب، يجزئ واحد منها.

تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا قال سعيد بن جبير: إِلا أن يتصدّق أولياء المقتول بالدية على القاتل. قوله تعالى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: وإِن كان المقتول خطأ من قوم كفار، ففيه تحرير رقبة من غير دية، لأن أهل ميراثه كفار. والثاني: وإِن كان مقيماً بين قومه، فقتله من لا يعلم بإيمانه، فعليه تحرير رقبة ولا دية، لأنه ضيّع نفسه بإقامته مع الكفار، والقولان مرويّان عن ابن عباس، وبالأول قال النخعي، وبالثاني سعيد بن جبير. وعلى الأول تكون «مِن» للتبعيض، وعلى الثاني تكون بمعنى في. قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الرجل من أهل الذّمة يُقتل خطأ، فيجب على قاتله الدية، والكفارة، هذا قول ابن عباس، والشّعبيّ، وقتادة، والزّهريّ. ولأبي حنيفة، والشافعي، ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدية «1» . والثاني: أنه المؤمن يقتل، وقومه مشركون، ولهم عقد، فديته لقومه، وميراثه للمسلمين، هذا قول النخعي. قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ اختلفوا هل هذا الصيام بدل من الرقبة وحدها إِذا عدِمها، أو بدل من الرقبة والدية؟ فقال الجمهور: عن الرقبة وحدها، وقال مسروق، ومجاهد، وابن سيرين: عنهما. واتفق العلماء على أنه إِذا تخلّل صوم الشهرين إِفطار لغير عذر، فعليه الابتداء، فأما إِذا تخللها المرض، أو الحيض، فعندنا لا ينقطع التتابع. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: المرض يقطع! والحيض لا يقطع، وفرق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض، ولا يمكن ذلك في الحيض، وعندنا أنها معذورة في الموضعين «2» .

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 51- 54: ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم، ونساؤهم، على النصف من دياتهم. هذا ظاهر المذهب، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك. وعن أحمد، أنها ثلث دية المسلم. إلا أنه رجع عنها، فإن صالحا روى عنه أنه قال: كنت أقول: إن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، وأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم، وهذا صريح في الرجوع عنه. (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 11/ 88- 90: فإن أفطر فيهما من عذر بنى، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ. أجمع أهل العلم على وجوب التتابع في الصيام في الكفّارة، وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر، ثم قطعه لغير عذر، وأفطر، أن عليه استئناف الشهرين، وإنما كان ذلك لورود لفظ الكتاب والسنة به، ومعنى التتابع الموالاة بين صيام أيامها، فلا يفطر فيهما. ولم يفتقر التتابع إلى نية كالمتابعة بين الركعات، وأجمع أهل العلم على أن الصائمة متتابعا، إذا حاضت قبل إتمامه، تقضي إذا طهرت، وتبني، وذلك لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس، وفيه تغرير بالصوم، والنفاس كالحيض، في أنه لا يقطع التتابع، في أحد الوجهين، لأنه بمنزلة في أحكامه، ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما، والوجه الثاني: أن النفاس يقطع التتابع، لأنه فطر أمكن التحرز منه، لا يتكرر كل عام، ولا يصح قياسه على الحيض، لأنه أندر منه، ويمكن التحرز عنه. وإن أفطر لمرض مخوّف، لم ينقطع التتابع أيضا. وبه قال مالك، والشافعي في القديم وقال في الجديد: ينقطع التتابع، لأنه أفطر اختيارا، فانقطع التتابع. وإن أفطر في أثناء الشهرين لغير عذر، أو قطع التتابع بصوم نذر، أو قضاء، أو تطوّع لزمه استئناف الشهرين، لأنه أخلّ بالتتابع المشترط، ويقع صومه عمّا نواه.

[سورة النساء (4) : آية 93]

قوله تعالى: تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ قال الزجاج: معناه: فعل الله ذلك توبة منه. قوله: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً أي: لم يزل عليماً بما يُصلح خلقه من التكليف حَكِيماً فيما يقضي بينهم، ويدبّره في أمورهم. [سورة النساء (4) : آية 93] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً. (335) سبب نزولها: أن مقيس بن صُبابة وجد أخاه هشام بنُ صبابة قتيلاً في بني النّجار، وكان مسلما، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسولاً من بني فهر، فقال له: إِيت بني النجّار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إِن رسول الله يأمركم إِن علمتم قاتل هشام، فادفعوه إلى مقيس، وإِن لم تعلموا له قاتلاً، فادفعوا إِليه ديته، فأبلغهم الفهري ذلك، فقالوا: والله ما نعلم له قاتلاً، ولكنّا نعطي ديته، فأعطوه مائة من الإِبل، ثم انصرفا راجعين إِلى المدينة، فأتى الشيطان مقيس بن صُبابة، فقال: تقبل دية أخيك، فيكون عليك سبّة ما بقيت. اقتل الذي معك مكان أخيك، وافضل بالدّية، فرمى الفهري بصخرةٍ، فشدخ رأسه، ثم ركب بعيراً منها، وساق بقيّتها راجعاً إلى مكة، وهو يقول: قتلت به فهراً وحمَّلْتُ عقلهُ ... سُراةَ بني النّجار أرباب فارِع وأدركت ثأري واضَّطجعْتُ موسداً ... وكنت إِلى الأصنام أول راجع «1» فنزلت هذه الآية، ثم أهدر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دمه يوم الفتح، فقتل، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وفي قوله تعالى: مُتَعَمِّداً قولان: أحدهما: متعمداً لأجل أنه مؤمن، قاله سعيد بن جبير. والثاني: متعمداً لقتله، ذكره بعض المفسرين. وفي قوله تعالى: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ قولان: أحدهما: أنها جزاؤه قطعاً. والثاني: أنها جزاؤه إِن جازاه. واختلف العلماء هل للمؤمن إِذا قتل مؤمناً متعمداً توبة أم لا؟ فذهب الأكثرون إِلى أن له توبة، وذهب ابن عباس إِلى أنه لا توبة له. فصل: اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فقال قوم: هي محكمة،

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 344 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بدون إسناد. وهذا إسناد ساقط مع كونه معلقا، الكلبي متروك متهم. وأخرجه الطبري 1091 مختصرا عن عكرمة مرسلا.

واحتجّوا بأنها خبرٌ، والأخبار لا تحتمل النسخ، ثم افترق هؤلاء فرقتين، إِحداهما قالت: هي على ظاهرها، وقاتل المؤمن مخلد في النار، والفرقة الثانية قالت: هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر، ثم أسلم الكافر، انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص، فأي دليل صلح للتخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التخصيص أن يكون قَتله مستحلاً، فيستحق الخلود لاستحلاله. وقال قومٌ: هي مخصوصة في حقّ من لم يَتُب، واستدلوا بقوله تعالى في «الفرقان» : إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «1» . وقال آخرون: هي منسوخة بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» .

_ (1) سورة الفرقان: 70. (2) سورة النساء: 48. قال الشوكاني رحمه الله في «تفسيره» 1/ 576: وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيه علماء أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء، وقد روى النسائي نحو هذا وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه، وممن ذهب: إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبو سلمة، وعبيد بن عمير، والحسن، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب الجمهور: إلى أن التوبة منه مقبولة، واستدلوا بمثل قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقوله: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وقوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قالوا أيضا: والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان، فيكون معناهما: جزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد السبب- وهو القتل- والموجب، وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضا: بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره: في الذي قتل مائة نفس، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: إلى أن القاتل عمدا دخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. والحق: أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله، ويقبل من صاحبه الخروج منه، والدخول في باب التوبة، فكيف ما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا؟ لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل، وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجبا، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا، وكان القاتل غنيا متمكنا من تسليمها أو بعضها، وأما مجرد التوبة من القاتل عمدا، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد، من دون اعتراف، ولا تسليم نفس، فنحن لا نقطع بقبولها، والله أرحم الراحمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 550: وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردّها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم. واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام على قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون: نعم يجب عليه لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى وأصحاب الإمام أحمد وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس. وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال: عن واثلة بن الأسقع قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من بني سليم فقالوا إن صاحبا لنا قد أوجب قال: «فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضوا من النار» . والله أعلم.

[سورة النساء (4) : آية 94]

[سورة النساء (4) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا في سبب نزولها أربعة أقوال: (336) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث سريّة فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم، وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مالٌ كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إِله إِلا الله، فأهوى إِليه المقداد بن الأسود فقتله. فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلاً يشهد أن لا إِله إِلا الله؟! لأذكرن ذلك للنبي. فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا له: يا رسول الله إِن رجلاً شهد أن لا إِله إِلا الله، فقتله المقداد، فقال: ادعوا لي المقداد، فقال: يا مقداد أقتلت رجلاً قال: لا إِله إِلا الله، فكيف لك ب «لا إِله إِلا الله غداً» ! فنزلت هذه الآية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إِيمانه مع قوم كفار فأظهر إِيمانه فقتلته؟ وكذلك كنت تخفي إِيمانك بمكة قبل. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. (337) والثاني: أن رجلاً من بني سليم مرَّ على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه غنم، فسلّم عليهم، فقالوا: ما سلّم عليكم إِلا ليتعوّذ منا، فعمدوا إِليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. رواه عكرمة، عن ابن عباس. (338) والثالث: أن قوماً من أهل مكة سمعوا بسريّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها تريدهم فهربوا، وأقام

_ حسن، أخرجه البزار 2202 والطبراني في «الكبير» 12379 وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 8: رواه البزار، وإسناده جيد. ويمكن الجمع بين هذا وما بعده بتعدد الحادثة، والله أعلم. صحيح. أخرجه الترمذي 3030 وأحمد 1/ 229 و 272 و 324 والطبري 10222 والطبراني 11731 والحاكم 2/ 235 والبيهقي 9/ 115 والواحدي في «أسباب النزول» 346 من طرق عن عكرمة به. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن اه. وأخرجه البخاري 4591 ومسلم 3025 وأبو داود 3974، والطبري 10219 و 10220 و 10221 والواحدي 345 والبيهقي 9/ 115 من طرق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس بنحوه. ضعيف جدا بهذا اللفظ، قال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 552: أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس اه. والكلبي متهم بالكذب، وخصوصا في روايته عن أبي صالح. وأخرجه الطبري 10226 من رواية أسباط عن السدي مرسلا وليس فيه استغفار النبي صلّى الله عليه وسلّم لأسامة، وقوله: «أعتق رقبة» . - وأصل الخبر في الصحيحين البخاري 4269 ومسلم 96 من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الحرقة فصبّحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكفّ الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» فهذا الذي صح في ذلك، فعليك به، والله الموفق.

رجل منهم كان قد أسلم، يقال له: مرداس، وكان على السريّة رجل، يقال له: غالب بن فضالة، فلما رأى مرداس الخيل، كبر، ونزل إِليهم، فسلم عليهم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، ورجعوا إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا، وأنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السدي: كان أسامة أمير السريّة. (339) والرابع: أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلمي، وأبا قتادة، ومحلِّم بن جثامة في سريّة إِلى إِضم «1» ، فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعي، فحيّاهم بتحية الإِسلام، فحمل عليه محلم بن جثامة، فقتله، وسلبه بعيراً وسقاء. فلما قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أخبروه، فقال: أقتلته بعد ما قال آمنت؟! ونزلت هذه الآية. رواه ابن أبي حدرد، عن أبيه. فأما التفسير، فقوله تعالى: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: سرتم وغزوتم. وقوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: فَتَبَيَّنُوا بالنون من التبيين للأمر قبل الإِقدام عليه. وقرأ حمزة والكسائي وخلف «فتثبّتوا» بالثاء من الثبات وترك الاستعجال، وكذلك قرءوا في «الحجرات» . قوله تعالى: لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص، عن عاصم، والكسائي: «السلام» بالألف مع فتح السين. قال الزجاج: يجوز أن يكون بمعنى التسليم، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام. وقرأ نافع. وابن عامر، وحمزة، وخلف، وجبَلة عن المفضل عن عاصم: «السلم» بفتح السين واللام من غير ألف وهو من الاستسلام. وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم بكسر السّين وإِسكان اللام من غير ألف. و «السلم» : الصُلح. وقرأ الجمهور: لست مؤمناً، بكسر الميم، وقرأ علي، وابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية، ويحيى بن يعمر وأبو جعفر: بفتح الميم من الأمان. قوله تعالى: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا و «عرضها» : ما فيها من مال، قلَّ أو كثر. قال المفسّرون: والمراد به: ما غنموه من الرجل الذي قتلوه. قوله تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ فيه قولان: أحدهما: أنه ثواب الجنة، قاله مقاتل. والثاني: أنها أبواب الرّزق في الدنيا، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة، فلا تُخيفوا من قالها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني:

_ حسن، أخرجه أحمد 6/ 11 والطبري 5/ 140 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 305 والواحدي 349 من حديث أبي حدرد عن أبيه، وإسناده حسن. وانظر «تفسير الشوكاني» 692 بتخريجنا.

[سورة النساء (4) : آية 95]

كذلك كنتم تُخفون إِيمانكم بمكة كما كان هذا يخفي إِيمانه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: كذلك كنتم من قبل مشركين، قاله مسروق وقتادة وابن زيد. قوله تعالى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ في الذي مَنّ به أربعة أقوال: أحدها: الهجرة، قاله ابن عباس. والثاني: إِعلان الإِيمان، قاله سعيد بن جبير. والثالث: الإِسلام، قاله قتادة، ومسروق. والرابع: التوبة على الذي قتل ذلك الرجل، قاله السدي. قوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا تأكيد للأول. [سورة النساء (4) : آية 95] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ قال أبو سليمان الدمشقي: نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إِذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود. (340) وقال زيد بن ثابت: إني لقاعد إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إِذ غشيَته السكينة، ثم سرِّي عنه، فقال: «اكتب» (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ... ) الآية، فقام ابن أمِّ مكتوم، فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فو الله ما قضى كلامَه حتى غشيت رسول الله السكينة، ثم سرِّي عنه، فقال: اقرأ، فقرأت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون) ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فألحقتها. قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ يعني عن الجهاد، والمعنى: أن المجاهدين أفضل. قال ابن عباس: وأُريد بهذا الجهاد غزوة بدر. وقال مقاتل: غزاة تبوك. قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة: «غيرُ» برفع الرّاء، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وخلف، والمفضل: بنصبها. قال أبو علي: من رفع الراء، جعل «غير» صفة للقاعدين، ومن نصبها، جعلها استثناءً من القاعدين «1» . وفي «الضّرر» قولان:

_ صحيح. أخرجه البخاري 2832 و 4592 والترمذي 3033 والنسائي 6/ 9 و 10 وأحمد 5/ 184 وابن حبان 4713 والطبري 10244 وابن الجارود 1034 والطبراني 4814 و 4815 و 4899 وأبو نعيم في «الدلائل» 175 كلهم عن سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره ... - وورد بنحوه من حديث الفلتان بن عاصم أخرجه ابن حبان 4712 والطبراني 18/ 856 والبزار 2203 وأبو يعلى 1583. وقال الهيثمي في «المجمع» 9444: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات. ويشهد له أيضا حديث البراء بن عازب أخرجه البخاري 4593 و 4594 ومسلم 1898 والترمذي 1670 والنسائي 6/ 10 والطبري 10238- 10242 والبيهقي 9/ 23. وحديث زيد بن أرقم أخرجه الطبري 10243 والطبراني 5053 وفي الباب أحاديث، فهو حديث مشهور.

[سورة النساء (4) : آية 96]

أحدهما: أنه العجز بالزّمانة والمرض، ونحوهما. قال ابن عباس: هم قوم كانت تحسبهم عن الغزاة أمراض وأوجاع. وقال ابن جبير، وابن قتيبة: هم أولو الزّمانة. وقال الزجاج: الضرر: أن يكون ضريراً أو أعمى أو زمناً. والثاني: أنه العذر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً في هؤلاء القاعدين قولان: أحدهما: أنهم القاعدون بالضرر، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: القاعدون من غير ضرر، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: والدرجة: الفضيلة. فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة. قوله تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ قال ابن عباس: القاعدون هاهنا: غير أولي الضرر، وقال سعيد بن جبير: هم الذين لا عذر لهم. [سورة النساء (4) : آية 96] دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) قوله تعالى: دَرَجاتٍ مِنْهُ قال الزجاج: درجات، في موضع نصب بدلا من قوله تعالى: أَجْراً عَظِيماً، وهو مفسر للأجر. وفي المراد بالدرجات قولان «1» : أحدهما: أنها درجات الجنة، قال ابن مُحيريز: الدرجات: سبعون درجة ما بين كل درجتين حُضْرُ الفرس الجواد المضَّمرِ «2» سبعين سنة، وإِلى نحوه ذهب مقاتل. والثاني: أن معنى الدرجات: الفضائل، قاله سعيد بن جبير. قال قتادة: كان

_ (1) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 327: قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وقد قال بعد هذا: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل: إن معنى درجة علوّ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ. وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات. (2) في «اللسان» الحضر: ارتفاع الفرس في عدوه. وضمّرت الخيل: علفتها القوت بعد السمن. وتضمير الفرس أيضا أن تعلفه حتى يسمن ثم تردّه إلى القوت، وذلك في أربعين يوما. وهذه المدة تسمى المضمار.

[سورة النساء (4) : آية 97]

يقال: الإِسلام درجة، والهجرة في الإِسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة. وقال ابن زيد: الدرجات: هي السبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ... إِلى قوله: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ... «1» . فان قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة، وفي آخره درجات؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الدرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر منزلة، والدرجات: تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر منازل كثيرة، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني: أن الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم، والدرجات: منازل الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى. [سورة النساء (4) : آية 97] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (341) أحدها: أن أناساً كانوا بمكة قد أقروا بالإِسلام، فلمّا خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إِلى بدر لم تدع قريش أحداً إِلا أخرجوه معهم، فقتل أولئك الذين أقروا بالإِسلام، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. (342) وقال قتادة: نزلت في أناس تكلموا بالإِسلام، فخرجوا مع أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، واعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبل منهم. (343) والثاني: أن قوماً نافقوا يوم بدر، وارتابوا، وقالوا: غرّ هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا، فنزلت فيهم هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. (344) والثالث: أنها نزلت في قوم تخلفوا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي، ضربت الملائكة وجهه ودبره، رواه العوفي عن ابن عباس. وفي «التوّفي» قولان: أحدهما: أنه قبض الأرواح بالموت، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: الحشر إِلى النار، قاله الحسن. قال مقاتل: والمراد بالملائكة ملك الموت وحده. وقال في موضع

_ صحيح. أخرجه الطبري 10265 من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس بأتم منه. وورد من وجه آخر عن أبي الأسود عن عكرمة عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية. لفظ البخاري. أخرجه البخاري 4596 والنسائي في «الكبرى» 1119 والطبري 10266 و 10267 والواحدي 356 وانظر تفسير القرطبي بتخريجنا. مرسل. أخرجه الطبري 10272 عن قتادة مرسلا، وهو شاهد لما قبله. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس. ضعيف. أخرجه الطبري 10268 برواية العوفي عن ابن عباس، والعوفي وهو محمد بن سعد واه، والصواب ما تقدم عن ابن عباس برواية البخاري.

[سورة النساء (4) : الآيات 98 إلى 99]

آخر: ملك الموت وأعوانه، وهم ستة، ثلاثة يَلون أرواح المؤمنين، وثلاثة يَلون أرواح الكفّار. قال الزجاج: «ظالمي أنفسهم» نصب على الحال، والمعنى: تتوفّاهم في حال ظلمهم أنفسهم، والأصل. ظالمين، لأن النون حذفت استخفافاً. فأما ظلمهم لأنفسهم، فيحتمل على ما ذكر في قصّتهم أربعة أقوال: أحدها: أنه ترك الهجرة. والثاني: رجوعهم إلى الكفر. والثالث: الشك بعد اليقين. والرابع: إِعانة المشركين. قوله تعالى: فِيمَ كُنْتُمْ قال الزجاج: هو سؤال توبيخ، والمعنى: كنتم في المشركين أو في المسلمين. قوله تعالى: قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قال مقاتل: كنا مقهورين في أرض مكة، لا نستطيع أن نذكر الإِيمان، قالت الملائكة: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً يعني المدينة فَتُهاجِرُوا فِيها يعني: إليها. وقول الملائكة لهم يدل على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة. [سورة النساء (4) : الآيات 98 الى 99] إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) قوله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ. (345) سبب نزولها: أن المسلمين قالوا في حق المستضعفين من المسلمين بمكة: هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر، فنزلت هذه الآية. قاله مجاهد. قال الزجاج: «المستضعفين» نصب على الاستثناء من قوله تعالى: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ. قال أبو سليمان: «المستضعفون» : ذوو الأسنان، والنساء، والصبيان. قوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي: لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة، ولا على نفقةٍ، ولا قوّةٍ. وفي قوله تعالى: وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا قولان: أحدهما: أنهم لا يعرفون الطريق إِلى المدينة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد. والثاني: أنهم لا يعرفون طريقاً يتوجّهون إِليه، فإن خرجوا هلكوا، قاله ابن زيد. وفي عَسَى قولان: أحدهما: أنها بمعنى الإِيجاب، قاله الحسن. والثاني: أنها بمعنى الترجّي، فالمعنى: أنهم يرجون العفو، قاله الزجّاج. [سورة النساء (4) : آية 100] وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) قوله تعالى: يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً قال سعيد بنُ جبير، ومجاهد: متزحزحاً عما يكره. وقال ابن قتيبة: المراغم والمهاجر: واحد، يقال: راغمت وهاجرت، وأصله: أن الرجل كان إِذا أسلم، خرج عن قومه، مُراغِماً، أي: مغاضِباً لهم، ومهاجِراً، أي: مقاطِعاً من الهجران، فقيل للمذهب: مراغم، وللمصير إلى النبي عليه السلام هجرة، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه. وفي السّعة قولان: أحدهما: أنها السّعة في الرّزق، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: التمكّن

_ مرسل، أخرجه الطبري 10281 عن مجاهد مرسلا، وهو يتأيد بما تقدم عن ابن عباس.

[سورة النساء (4) : آية 101]

من إِظهار الدين، قاله قتادة. قوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ اتفقوا على أنه نزل في رجل خرج مهاجراً، فمات في الطريق، واختلفوا فيه على ستة أقوال: (346) أحدها: أنه ضمرة بن العيص، وكان ضريراً موسِراً، فقال: احملوني فحمل، وهو مريض، فمات عند التنعيم، فنزل فيه هذا الكلام، رواه سعيد بن جبير. (347) والثاني: أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي، أمر أهله أن يحملوه على سريره، فلما بلغ التنعيم، مات، فنزلت فيه هذه الآية، رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير. (348) والثالث: أنه ابن ضمرة الجندعي، مرض فقال لبنيه: أخرجوني من مكة، فقد قتلني غمّها، فقالوا: أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة، يريد الهجرة، فخرجوا به، فمات في الطريق، فنزل فيه هذا، ذكره ابن إِسحاق. وقال مقاتل: هو جُندب بن ضمرة. (349) والرابع: أن اسمه سبرة، فلما نزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلى قوله: مُراغَماً كَثِيراً قال لأهله وهو مريض: احملوني، فإني موسِر، ولي من المال ما يُبلغني إِلى المدينة، فلما جاوز الحرم، مات فنزل فيه هذا، قاله قتادة. (350) والخامس: أنه رجل من بني كنانة هاجر فمات في الطريق، فسخر منه قومُه، فقالوا: لا هو بلغ ما يريد، ولا أقام في أهله حتى يدفن، فنزل فيه هذا، قاله ابن زيد. (351) والسادس: أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام، خرج مهاجراً، فمات في الطريق، ذكره الزبير بن بكّار. وقوله تعالى: وَقَعَ معناه وجب. [سورة النساء (4) : آية 101] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ.

_ مرسل. أخرجه الطبري 10287 عن سعيد بن جبير، مرسلا. هو مرسل كسابقه. علقه الواحدي في «أسباب النزول» 357 عن ابن عباس من رواية عطاء. وورد مختصرا من حديث ابن عباس، أخرجه أبو يعلى 2679 والطبراني في «الكبير» 11709 وفي إسناده عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي، وأشعث بن سوّار وكلاهما ضعيف. وانظر «الإصابة في تمييز الصحابة» 1/ 251. مرسل. أخرجه الطبري 10291 عن قتادة مرسلا دون ذكر اسم الصحابي وإنما ذكر رجلا من المسلمين. - الخلاصة: هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والاضطراب فقط في تعيين الرجل وأما أصل الخبر فصحيح. ضعيف. أخرجه الطبري عن ابن زيد، وهذا معضل. ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 556 من حديث الزبير بن العوام، وله قصة. - وقال الحافظ ابن كثير: وهذا الأثر غريب جدا، فإن القصّة مكية، ونزول هذه الآية مدني. - قلت: فيه عبد الرحمن بن عبد الملك، وهو لين الحديث، وفيه المنذر بن عبد الله الحزامي، وهو مجهول.

(352) روى مجاهد عن أبي عياش الزَّرقي قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعُسفان «1» ، وعلى المشركين خالد بن الوليد، قال: فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غِرّة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر. والضرب في الأرض: السفر، والجُناح: الإِثم، والقصر: النقص، والفتنة: القتل. وفي القصر قولان: أحدهما: أنه القصر مِن عدد الركعات. والثاني: أنه القصرُ من حدودها. وظاهر الآية يدل على أن القصر لا يجوز إِلا عند الخوف، وليس الأمر كذلك، وإِنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو. وقيل: إِن قوله: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ كلام تام. وقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ كلامٌ مبتدأ، ومعناه: وإِن خفتم. واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا؟ فقال قوم: ليست مقصورة، وإِنما فرض المسافر ذلك، وهو قول ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، والسدي، وأبي حنيفة، فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة، ولا يجوز ذلك إِلا بوجود السفر والخوف، لأن عند هؤلاء أن الركعتين في السفر إِذا لم يكن فيه خوفٌ تمام غير قصر. (353) واحتجوا بما روى ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلى بذي قرد «2» ، فصف الناس خلفه صفّين، صفاً خلفه، وصفاً موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء، إِلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا. (354) وعن ابن عباس أنه قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. والثاني: أنها مقصورةٌ، وليست بأصل، وهو قول مجاهد وطاوس، وأحمد، والشافعي. (355) قال يعلى بن أميّة: قلت لعمر بن الخطاب: عجبت من قصر الناس اليوم، وقد أمنوا وإنما

_ جيد. أخرجه أبو داود 1236 والنسائي 3/ 176 و 177 و 178 وابن أبي شيبة 2/ 465 والطيالسي 1347 وأحمد 4/ 59 و 60 والدارقطني 2/ 59 و 60 وابن حبان 2875 و 2876 والطبري 10383 والحاكم 1/ 337- 338 والواحدي في «أسباب النزول» 359 والبيهقي 3/ 254- 255 والبغوي في «شرح السنة» 1091 من طرق عن منصور عن مجاهد عن أبي عياش مطولا. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الدارقطني: صحيح. وكذا قال البيهقي، وجوده الحافظ في الإصابة 4/ 143. صحيح. أخرجه النسائي 3/ 169 وأحمد 1/ 232 والحاكم 1/ 335 وابن حبان 2871 والطبري 10339 و 10340 والطحاوي 1/ 309 والبيهقي 3/ 262. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي! وإنما هو على شرط مسلم فقط، لأن أبا بكر بن أبي الجهم لم يخرج له البخاري. صحيح. أخرجه مسلم 687 وأبو داود 1247 والنسائي 3/ 168- 169 وابن ماجة 1068 وابن خزيمة 943 وأبو يعلى 2346 وأحمد 1/ 237 و 254 من حديث ابن عباس. صحيح. أخرجه مسلم 686 وأبو داود 1199 و 1200 والترمذي 3034 وابن ماجة 945 وأحمد 1/ 25 و 36 والدارمي 1/ 354 والطحاوي 1/ 415 والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص 116 وابن خزيمة 945 وابن حبان 2739 و 2740 و 2741 والطبري 10315 و 10316 و 10317 والطحاوي في «المعاني» 1/ 415 والبيهقي 3/ 134 و 140 و 141 من طرق عن يعلى بن أمية.

قال الله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: صدقةٌ تصدق الله بها عليكم. فاقبلوا صدقته. فصل: وإِنما يجوز للمسافر القصر إِذا كان سفرُهُ مُباحاً، وبهذا قال مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز له القصر في سفر المعصية. فأما مدة الإِقامة التي إِذا نواها أتم الصلاة، وإِن نوى أقلَّ منها، قصر، فقال أصحابنا: إِقامة اثنين وعشرين صلاة، وقال أبو حنيفة: خمسة عشر يوماً. وقال مالك، والشّافعيّ: أربعة أيام «1» .

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 3/ 104: وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفرا تقصر في مثله الصلاة في حج، أو عمرة، أو جهاد، أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد قيل له: مسيرة يوم تام؟ قال: لا، أربعة برد، ستة عشر فرسخا، ومسيرة يومين. فمذهب أبي عبد الله أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخا. وقد قدّره ابن عباس، فقال: من عسفان إلى مكة، ومن الطائف إلى مكة، ومن جدة إلى مكة. فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين. وهذا قول ابن عباس، وابن عمر، وإليه ذهب مالك، والليث، والشافعي. وروي عن ابن عمر أنه كان يقصر إلى مسيرة عشرة فراسخ وروي نحو ذلك عن ابن عباس، فإنه يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه. ويروى عن ابن مسعود، أنه يقصر في مسيرة ثلاثة أيام وبه قال أبو حنيفة. لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «يمسح المسافر في ثلاثة أيام ولياليهن» . وهذا يقتضي أن كل مسافر له ذلك، ولأن الثلاثة متفق عليها وليس في أقل من ذلك توقيف ولا اتفاق. وقال الأوزاعي: كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ. وروي عن علي، أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة، فصلى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه، فقال: أردت أن أعلمكم سنتكم. وعن جبير بن نفير عن شرحبيل بن السمط. قال رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالحليفة ركعتين وقال: إنما فعلت كما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يفعل. رواه مسلم. واحتج أصحابنا بقول ابن عباس وابن عمر، قال ابن عباس: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من عسفان إلى مكة. وقال الخطابي: وهو أصح الروايتين عن ابن عمر. ولم يجز فيما دونها، لأنه لم يثبت دليل يوجب القصر فيه. وإذا كان في سفينة في البحر، فهو كالبر، إن كانت مسافة سفره تبلغ مسافة القصر، أبيح له، وإلا فلا، سواء قطعها في زمن طويل أو قصير، اعتبارا بالمسافة. وإن شك هل السفر مبيح للقصر أو لا؟ لم يبح له، لأن الأصل وجوب الإتمام، فلا يزول بالشك. وليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته، ولنا قول الله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ولا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يبتدئ القصر إذا خرج من المدينة. وإن الرخص المختصة بالسفر، من القصر، والجمع، والفطر، والمسح ثلاثا، والصلاة على الراحلة تطوعا، يباح في السفر الواجب- حج أو جهاد والمندوب والمباح كالتجارة. وبه قال الأوزاعي، والشافعي، وإسحاق وأهل المدينة وعن ابن مسعود: لا يقصر إلا في حج أو جهاد، لأن الواجب لا يترك إلا لواجب. ولا تباح هذه الرّخص في سفر المعصية كالإباق، وقطع الطّريق، والتجارة في الخمر والمحرمات. نصّ عليه أحمد. وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة: له ذلك، لأنه مسافر، فأبيح له التّرخص كالمطيع. ولنا، قول الله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. وفي سفر التنزه والتفرّج روايتان: إحداهما تبيح الرخص. وهذا ظاهر كلام الخرقي، لأنه سفر مباح، والثانية: لا يترخص فيه. قال أحمد: إذا خرج الرجل إلى بعض البلدان تنزها وتلذذا، وليس في طلب حديث ولا حج ولا عمرة ولا تجارة فإنه لا يقصر الصلاة والأول أولى. والمشهور عن أحمد، أن المسافر إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء أتم. وروي عنه أنه توقف، وقال: أنا أحب العافية في هذه المسألة. وممن روي عنهم الإتمام في السفر: عثمان، وابن مسعود، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الشافعي والمشهور عن مالك. وقال حمّاد: ليس له الإتمام في السفر وهو قول الثوري، وأبو حنيفة وروي عن ابن عباس أنه قال: من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين ولنا، قول الله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهذا يدل على أن القصر رخصة مخيّر بين فعله وتركه، كسائر الرّخص وقال يعلى بن أمية: قلت لعمر بن الخطاب: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ.. الآية، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» رواه مسلم. وهذا يدل على أنها رخصة وليست بعزيمة، وأنها مقصورة. [.....]

[سورة النساء (4) : آية 102]

[سورة النساء (4) : آية 102] وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ سبب نزولها: (356) أن المشركين لما رأوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه قد صلّوا الظهر، ندموا إِذْ لم يكبوا عليهم، فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائِهم، يعنون العصر، فإذا قاموا فشدوا عليهم، فلما قاموا إِلى صلاة العصر، نزل جبريل بهذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ خطابٌ للنبيّ عليه السلام، ولا يدلُ على أن الحكم مقصورٌ عليه، فهول كقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «1» وقال أبو يوسف: لا تجوزُ صلاة الخوف بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والهاء والميم مِن «فيهم» تعودُ على الضاربين في الأرض «2» .

_ ذكره البغوي برواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا الإسناد مع كونه معلقا، الكلبي متروك متهم، وأبو صالح ليس بثقة عن ابن عباس، وانظر الحديث المتقدم برقم 352.

قوله تعالى: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي: ابتدأتها، فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ أي: لتقف، ومثله وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا «1» . وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فيهم قولان: أحدهما: أنهم الباقون، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم المصلون معه، ذكره ابن جرير، قال: وهذا السّلاح كالسّيف، يتقلده الإِنسان، والخنجر يشده إِلى ذراعه. قوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا يعني المصلين معه فَلْيَكُونُوا في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الطّائفة التي لم تصل، أُمرت أن تحرس الطائفة المصلية، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني: أنهم المصلون معه، أُمروا إِذا سجدوا أن ينصرفوا إِلى الحَرَس. واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود، فقال قوم: إِذا أتموا مع الإِمام ركعةً أتموا لأنفسهم ركعةً، ثم سلموا وانصرفوا، وقد تمت صلاتهم، وقال آخرون: ينصرفون عن ركعةٍ، واختلف هؤلاء، فقال بعضهم: إِذا صلوا مع الإِمام ركعة وسلموا، فهي تجزئهم. وقال آخرون منهم أبو حنيفة: بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحَرَس وهم على صلاتهم، فيكونوا في وجه العدو مكان الطّائفة التي لم تصل، وتأتي تلك الطائفة. واختلفوا في الطائفة الأخرى، فقال قوم: إِذا صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائِتة، ثم يسلّم بهم، وقال آخرون: بل يسلم هو عند فراغه من الصلاة بهم، فإذا سلم قضوا ما فاتهم. وقال آخرون: بلى يصلي بالطائفة الثانية ركعة ويسلم هو، ولا تسلم هي، بل ترجع إلى وجه العدو، ثم تجيء الأولى، فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلم، وتمضي وتجيء الأخرى، فتتم صلاتها، وهذا مذهب أبي حنيفة «2» .

_ (1) البقرة: 20. (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 3/ 298- 313: وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو وهو في سفر، صلى بطائفة ركعة، وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة، ثم ذهبت تحرس، وجاءت الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو، فصلت معه ركعة وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة، ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد، ويسلم بهم. وجملة ذلك أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام والمأموم جميعا، فإذا كان سفر يبيح القصر، صلى بهم ركعتين، بكل طائفة ركعة وتتم لأنفسها أخرى على الصفة المذكورة. وإن صلى بهم كمذهب أبي حنيفة جاز، نصّ عليه أحمد. ولكن يكون تاركا للأولى والأحسن. ولا تجب التسوية بين الطائفتين، لأنه لم يرد بذلك نص ولا قياس. ويجب أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها، ومتى خشي اختلال حالهم واحتيج إلى معونتهم بالطائفة الأخرى. فللإمام أن ينهد إليهم بمن معه، ويبنوا على ما مضى من صلاتهم. وإن خاف وهو مقيم، صلى بكل طائفة ركعتين وأتمت الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى تتم بالحمد لله وسورة. واختلفت الرواية فيما يقضيه المسبوق، فروي أنه أول صلاته، وما يدركه مع الإمام آخرها وهذا ظاهر المذهب وروي عن أحمد أن ما يقضيه آخر صلاته. ويستحب أن يحمل السلاح في صلاة الخوف. ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أحمد: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز. وقال: ستة أوجه أو سبعة يروى فيها، كلها جائز. وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه، أو تختار واحدا منها، قال: أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره. والحديث الذي اختاره الإمام أحمد رواه. ولفظه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه في الخوف، فصفهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى الذين خلفهم ركعة، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم. ومتى صلى بهم صلاة الخوف من غير خوف، فصلاته وصلاتهم فاسدة. وإذا كان الخوف شديدا وهم في حال المسايفة، صلوا رجالا وركبانا، إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون إيماء، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا، أو إلى غيرها. إن لم يمكنهم، يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويجعلون السجود أخفض من الركوع، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها. وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا يصلي مع المسايفة، ولا مع المشي، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصلّ يوم الخندق- قد ورد الرد على هذا القول قبل قليل: انظر التعليق السابق- وأخّر صلاته. وقال الشافعي: يصلي، ولكن إن تابع الطعن، أو الضرب، أو فعل ما يطول، بطلت صلاته. ولنا قول الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه من غير شدة خوف، فأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو، ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم، فمع الخوف الشديد أولى. والله أعلم.

[سورة النساء (4) : آية 103]

قوله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ قال ابن عباس: يريد الذين صلوا أوّلاً. وقال الزجاج: يجوز أن يريد به الذين وجاه العدو، لأن المصلي غير مقاتل، ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السلاح، لأنه أرهب للعدو، وأحرى أن لا يقدموا عليهم. و «الجناح» الإِثم، وهو من: جنحت: إِذا عدلت عن المكان، وأخذت جانبا عن القصد. فالمعنى: أنكم إِذا وضعتم أسلحتكم، لم تعدلوا عن الحق. قوله تعالى: إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ قال ابن عباس: رخّص لهم في وضع الأسلِحة لثقلها على المريض وفي المطر، وقال: وخذوا حذركم كي لا يتغفّلوكم. [سورة النساء (4) : آية 103] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ يعني صلاة الخوف، وقَضَيْتُمُ بمعنى: فرغتم. قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ في هذا الذِّكر قولان: أحدهما: أنه الذكر لله في غير الصلاة، وهذا قول ابن عباس، والجمهور قالوا: وهو التسبيح، والتكبير، والدعاء، والشكر. والثاني: أنه الصلاة، فيكون المعنى: فصلوا قياماً، فان لم تستطيعوا فقعوداً، فان لم تستطيعوا فعلى جنوبكم، هذا قول ابن مسعود. وفي المراد بالطمأنينة قولان: أحدهما: أنه الرجوع إلى الوطن عن السفر، وهو قول الحسن، ومجاهد وقتادة. والثاني: أنه الأمن بعد الخوف، وهو قول السدي، والزجاج، وأبي سليمان الدمشقي. وفي إِقامة الصلاة قولان: أحدهما: إِتمامها، قاله مجاهد وقتادة والزجاج وابن قتيبة. والثاني: أنه إِقامة ركوعها وسجودها، وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف، هذا قول السدي.

[سورة النساء (4) : آية 104]

قوله تعالى: كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي: فرضا. وفي «الموقوتا» قولان: أحدهما: أنه بمعنى المفروض، قاله ابن عباس. ومجاهد، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنه الموقت في أوقات معلومة، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابن قتيبة. [سورة النساء (4) : آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ قال أهل التفسير: (357) سبب نزولها: أن النبي عليه السلام أمر أصحابه لما انصرفوا من أُحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه، فشكوا ما بِهِم من الجراحات، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: ومعنى «تهنوا» : تضعفوا، يقال: وَهَنَ يهِنُ: إذا ضَعُفَ، وكلُّ ضَعْفٍ فهو وَهْنٌ. وابتغى القوم: طلبهم بالحرب. و «القوم» هاهنا: الكفار إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ أي: توجَعون، فانهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتعب، كما تجدون، وأنتم مع ذلك ترجون ما لا يرجون. وفي هذا الرجاء قولان: أحدهما: أنه الأمل، قاله مقاتل. قال الزجاج: وهو إِجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم. والثاني: أنه الخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الفرّاء: ولم نجد الخوف بمعنى الرجاء إِلا ومعه جحد، فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف، وكان الرجاء كذلك، كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «1» وقوله: لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ «2» قال الشاعر: لا ترتجي حين تلاقي الذّائدا ... أسبعةً لاقَتْ معاً أم واحداً «3» وقال الهذلي: إِذا لَسَعَتْه النَّحل لم يَرْجُ لَسْعَها ... وخالفها في بيت نُوْبٍ عَوامِلِ «4» ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك. قال الزجاج: وإِنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف، لأنه أمل قد يخاف أن لا يتم، فعلى القول الأول يكون المعنى: ترجون

_ ذكره البغوي في تفسيره 1/ 476 بدون إسناد. وأخرجه الطبري 10412 عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان قتال أحد، وأصاب المسلمين ما أصاب، صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم الجبل، فجاء أبو سفيان فقال: «يا محمد، ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحرب سجال، يوم لنا ويوم لكم» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أجيبوه» . فقالوا: لا سواء، لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فقال أبو سفيان: «أعل هبل» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا له: الله أعلى وأجل» فقال أبو سفيان: «موعدنا وموعدكم بدر الصغرى» ونام المسلمون وبهم الكلوم. وقال عكرمة وفيها نزلت الآية (آل عمران: 140) وهذه الآية إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ ولم يذكر الطبري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث طائفة في آثارهم وأنهم شكوا ألم الجراحات.

[سورة النساء (4) : آية 105]

النصر وإِظهار دينكم والجنة. وعلى الثاني: تخافون من عذاب الله ما لا يخافون. [سورة النساء (4) : آية 105] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (358) أحدها: أن طُعمة بن أبيرق سرق درعاً لقتادة بن النعمان، وكان الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتشر من خرق في الجراب، حتى انتهى إِلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود، فالتمست الدرعَ عند طعمة، فلم توجد عنده، وحلف: ما لي بها علم، فقال أصحابها: بلى والله، لقد دخل علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق، فلما حلف تركوه، واتّبعوا أثر الدّقيق حتى انتهوا إلى منزلي اليهودي فأخذوه، فقال: دفعَها إِليَّ طعمة، فقال قوم طعمة: انطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليجادل عن صاحبنا فإنه بريء، فأتوه فكلموه في ذلك، فهم أن يفعل، وأن يعاقب اليهودي، فنزلت هذه الآيات كلها. رواه أبو صالح عن ابن عباس. (359) والثاني: أن رجلاً من اليهود، استودع طُعمة بن أبيرق درعاً، فخانها، فلما خاف اطلاعهم عليها، ألقاها في دار أبي مُليل الأنصاري، فجادل قوم طعمة عنه، وأتوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فسألوه أن يبرئه، ويكذّب اليهودي، فنزلت الآيات. هذا قول السدي، ومقاتل. (360) والثالث: أن مشربة «1» رفاعة بن زيدُ نقبت، وأخذ طعامه وسلاحه، فاتهم به بنو أبيرق، وكانوا ثلاثة: بشير، ومبشّر، وبشر، فذهب قتادة بن النعمان إِلى النبيّ عليه السلام فقال: يا رسول الله إِن أهل بيت منّا فيهم جفاء «2» نقبوا مشربة لعمّي رفاعة بن زيد، وأخذوا سلاحه، وطعامه، فقال: أنظرُ في ذلك، فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إِن قتادة بن النعمان، وعمّه عمدوا إلى

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 361 بدون إسناد، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 561: ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وانظر «أسباب النزول» 373 و 374 للسيوطي. وأخرجه الطبري 10417 من رواية سعيد عن قتادة مرسلا مع اختلاف يسير. ويشهد لهذا الخبر الحديث الآتي برقم 360. مرسل. أخرجه الطبري 10420 عن السدي مرسلا، ويشهد لأصله ما بعده. حسن. أخرجه الترمذي 3036 والحاكم 4/ 385 والطبري 10416 من حديث قتادة بن النعمان، وفيه ابن إسحاق مدلس، وقد عنعن. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وورد مختصرا عن قتادة مرسلا أخرجه الطبري 10417، وورد موصولا عن ابن عباس أخرجه الطبري 10418 وفيه عطية العوفي، واه. وكرره 10419 عن ابن زيد، وهو عبد الرحمن، مرسلا و 10420 عن السدي مرسلا و 10421 عن عكرمة مرسلا و 10422 عن الضحاك مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، فالحديث حسن في أقل تقدير، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» 707 بتخريجنا.

[سورة النساء (4) : آية 106]

أهل بيت منّا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت إِسلام وصلاح، فقال النبي لقتادة: رميتهم بالسرقة على غير بيّنة! فنزلت هذه الآيات. قاله قتادة بن النعمان. والكتاب: القرآن. والحق: الحكم بالعدل. لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ: أي لتقضي بينهم. وفي قوله تعالى: بِما أَراكَ اللَّهُ قولان «1» : أحدهما: أنه الذي علّمه، والذي علّمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إِلا ببرهان. والثاني: أنه ما يؤدي إليه اجتهاده، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً قال الزجاج: لا تكن مخاصماً، ولا دافعاً عن خائن. واختلفوا هل خاصم عنه أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه قام خطيباً فعذره. رواه العوفي عن ابن عباس «2» . والثاني: أنه همَّ بذلك، ولم يفعله، قاله سعيد بن جبير، وقتادة «3» . قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يخاصم عن غيره في إِثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره، لأن الله تعالى عاتب نبيّه على مثل ذلك. [سورة النساء (4) : آية 106] وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ في الذي أُمر بالاستغفار منه قولان «4» : أحدهما: أنه القيام بعذر. والثاني: أنه العزم على ذلك.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 563: وقوله لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلّى الله عليه وسلّم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال «ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها» . وروى الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظاما في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان وقال كل منهما حقي لأخي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما. ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه» . (2) واه. أخرجه الطبري 10418 عن ابن عباس من رواية عطية العوفي، واه. (3) هذا ضعيف بل منكر، والصواب ما تقدم من وجوه، وأن السرقة وقعت. (4) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 359: ذهب الطبري إلى أن المعنى. استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين، فأمره بالاستغفار لما همّ بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي. وهذا مذهب من جوّز الصغائر على الأنبياء. صلوات الله عليهم وسلامه. قال ابن عطية: وهذا ليس بذنب لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد براءتهم. والمعنى: استغفر الله للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب. وقيل: هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: أستغفر الله على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد بنو أبيرق. [.....]

[سورة النساء (4) : الآيات 107 إلى 108]

[سورة النساء (4) : الآيات 107 الى 108] وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ أي: يُخوِّنون أنفسهم، فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة. قال عكرمة: والمراد بهم: طُعمة بن أُبيرق، وقومه الذين جادلوا عنه. (361) وفي حديث العوفي عن ابن عباس قال: انطلق نفرٌ من عشيرةِ طُعمة ليلاً إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إِن صاحبنا بريء. و «الاستخفاء» : الاستتار، والمعنى: يستترون من الناس لئلاَّ يطّلعوا على خيانتهم وكذبهم، ولا يستترون من الله، وهو معهم بالعلم. وكلُّ ما فُكِّر فيه، أو خيض فيه بليل، فقد بُيّت. وجمهور العلماء على أن المشار إِليه بالاستخفاء والتبييت، قوم طعمة. والذي بيّتوا: احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب. وقال الزجاج: هو السارق نفسه، والذي بيّت أنه قال: أرمي اليهودي بأنّه سارق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها، فتقبل يميني، ولا تقبل يمين اليهوديّ. [سورة النساء (4) : آية 109] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ قال الزجاج: «ها» للتنبيه، وأعيدت في أوله. والمعنى: ها أنتم الذين جادلتم. و «المجادلة، والجدال» : شدة المخاصمة، و «الجدل» : شدّة الفتل. والكلام يعود إلى مَن احتج عن السارق. فأما قوله: «عنهم» فانه عائِد إلى السارق. و «عليهم» بمعنى «لهم» . والوكيل: القائم بأمر مَن وكله. فكأنه قال: من الذي يتوكّل لهم منكم في خصومة ربّهم؟! [سورة النساء (4) : آية 110] وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت خطاباً للسارق، وعَرْضاً للتّوبة عليه. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، ومقاتل. والثاني: أنها للذين جادلوا عنه من قومه، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه عنى بها كل مسيء ومُذنب. ذكره أبو سليمان الدمشقي. وإِطلاقُها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب. وفي هذا السوء ثلاثة أقوال: أحدها: أنه السرقة. والثاني: الشّرك. والثالث: أنه كل ما يأثم به. وفي هذا الظلم قولان: أحدهما: أنه رمي البريء بالتُّهمة. والثاني: ما دون الشّرك. [سورة النساء (4) : آية 111] وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً أي: ومن يعمل ذنباً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ يقول: إنّما يعود

_ هو بعض المتقدم.

[سورة النساء (4) : آية 112]

وباله عليه. قاله مقاتل. وهذه في طُعمة أيضا. [سورة النساء (4) : آية 112] وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة بقصة طُعمة بن أبيرق. (362) وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أبيِّ بن سلول إِذ رمى عائشة عليها السلام بالإفك. وفي قوله تعالى: خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً أربعة أقوال «1» : أحدها: أن «الخطيئة» يمين السارق الكاذبة، و «الإِثم» : سرقته الدرع، ورميه اليهودي، قاله ابن السائب. والثاني: أن «الخطيئة» ما يتعلق به من الذنب، و «الإِثم» : قذفه البريء، قاله مقاتل. والثالث: أن «الخطيئة» قد تقع عن عمد، وقد تقع عن خطأ، و «الإثم» : يختصّ العمد. قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي. وذكر الزجاج أن الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإِثم. والرابع: أنه لمّا سمى الله عزّ وجلّ بعض المعاصي خطيئة، وبعضها إِثماً، أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين، ثم قذف به بريئاً، فقد احتمل بهتانا، ذكره الزجّاج أيضا. فأمّا قوله تعالى: ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً أي: يقذفُ بما جناه بريئاً منه. فإن قيل: الخطيئة والإِثم اثنان، فكيف قال: به، فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه أراد: ثم يرم بهما، فاكتفى بإعادة الذكر على الإثم من إِعادته على الخطيئة، كقوله تعالى: انْفَضُّوا إِلَيْها «2» فخصّ التجارة، والمعنى للتجارة واللهو. والثاني: أن الهاء تعودُ على الكسب، فلما دلّ ب «يكسب» على الكسب، كنى عنه. والثالث: أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإِثم، كأنه قال: ومَن يكسب ذنباً، ثم يرم به. ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري. والرابع: أن الهاء تعود على الإِثم خاصة، قاله ابن جرير الطبري. وفي المراد بالبريء الذي قذفه هذا السارق قولان: أحدهما: أنه كان يهودياً، قاله ابن عباس، وعكرمة، وابن سيرين وقتادة وابن زيد، وسمّاه عكرمة، وقتادة: زيد بن السمين «3» . والثاني: أنه كان مسلماً، روي عن ابن عباس، وقتادة بن النعمان، والسدي، ومقاتل، واختلفوا في ذلك المسلم، فقال

_ منكر جدا، ذكره المصنف عن الضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك. والصواب ما ذهب إليه الجمهور.

[سورة النساء (4) : آية 113]

الضحاك عن ابن عباس: هو عائشة لما قذفها ابن أبيّ، وقال قتادة بن النعمان: هو لبيد بن سهل، وقال السدي، ومقاتل: هو أبو مُليل الأنصاري. فأما البهتان: فهو الكذب الذي يُحيّر من عِظَمه، يقال: بهت الرجل: إِذا تحيّر. قال ابن السائب: فقد احتمل بهتاناً برميه البريء، وإِثماً مبيناً بيمينه الكاذبة. [سورة النساء (4) : آية 113] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنها متعلقة بقصة طُعمة وقومه، حيث لبَّسُوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر صاحبهم، هذا قول ابن عباس من طريق ابن السائب «1» . (363) والثاني: أنَّ وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: جئناك نبايعك على أن لا نُحشرْ ولا نُعشرْ، وعلى أن تمتّعنا بالعزَّى سنةً، فلم يجبهم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس في رواية الضحاك. وفي المراد بفضل الله ورحمته قولان: أحدهما: النبوّة والعصمة. والثاني: الإِسلام والقرآن، رويا عن ابن عباس. قال مقاتل: لولا فضل الله عليك حيث بيّن لك أمر طعمة وحوّلك بالقرآن عن تصديق الخائِن لهمّت طائفة منهم أن يُضِلُّوك. قال الفرّاء: والمعنى لقد همّت. فإن قيل: كيف قال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ وقد همت باضلاله؟ فالجواب: أنه لولا فضل الله، لظهر تأثير ما همّوا به. فأما الطائفة، فعلى رواية ابن السائب عن ابن عباس: قوم طعمة، وعلى رواية الضحاك: وفد ثقيف. وفي الإِضلال قولان «2» : أحدهما: التخطئة في الحكم: والثاني: الاستزلال عن الحقّ. قال

_ لا أصل له. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، وانظر المقدمة. - وخبر وفد ثقيف ورد بسياق آخر مطول، وليس فيه نزول الآية. انظر «طبقات» ابن سعد 1/ 237- 238.

[سورة النساء (4) : آية 114]

الزجاج: وما يضلُّون إِلا أنفسهم، لأنهم يعملون عمل الضّالين، فيرجع الضلال إِليهم. فأما «الكتاب» ، فهو القرآن. وفي «الحكمة» ثلاثة أقوال: أحدها: القضاء بالوحي، قالَه ابن عباس. والثاني: الحلال والحرام، قاله مقاتل. والثالث: بيانُ ما في الكتاب، وإِلهام الصواب، وإِلقاء صحة الجواب في الرّوع، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي قوله تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الشرع، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أخبار الأولين والآخرين، قاله أبو سليمان. والثالث: الكتاب والحكمة، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى: وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ثلاثة اقوال: أحدها: أنه المنة بالإِيمان. والثاني: المنّة بالنبوّة، هذان عن ابن عباس. والثالث: أنه عامّ في جميع الفضل الذي خصّه الله به، قاله أبو سليمان. [سورة النساء (4) : آية 114] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ قال ابن عباس: هُم قومُ طعمة، وقال مقاتل: وكلهم يهود تناجوا في أمر طعمة، وقال مجاهد: هو عام في نجوى جميع الناس. قال الزجاج: ومعنى النجوى: ما تنفردُ به الجماعة أو الاثنان، سِرَّاً كان أو ظاهراً. ومعنى «نجوت الشيء» في اللغة. خلّصته وألقيته، يقال: نجوت الجلد: إِذا ألقيته عن البعير وغيره. قال الشاعر: فقلتُ انجُوَا عنها نجا الجلد إِنّه ... سيرُضيكما منها سَنَامٌ وغارِبُهُ «1» وقد نجوت فلاناً: إِذا استنكهته، قال الشاعر: نجوتُ مجالداً فوجدتُ منه ... كريحِ الكلب مات قديمَ عهد «2» وأصله كله من النَّجوة، وهو ما ارتفع من الأرض، قال الشاعر يصف سيلاً: فَمَنْ بنجوَته كَمَن بعَقوَته ... والمُسْتكنُّ كَمَن يمشي بقِرْواح «3» والمراد بنجواهم: ما يدبِّرونه بينهم من الكلام. فأما قوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ فيجوز أن يكون بمعنى: إِلا في نجوى من أمر بصدقة، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول، فيكون بمعنى: لكن من أمر بصدقةٍ، ففي نجواهم خير. وأمّا قوله تعالى: أَمَرَ بِصَدَقَةٍ فالمعنى: حثّ عليها. وأما المعروف، ففيه قولان: أحدهما: أنه الفرض، روي عن ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنه عام في جميع أفعال البرّ، وهو

_ (1) البيت لأبي الغمر الكلابي كما في «الخزانة» 2/ 227 ونسب أيضا إلى عبد الرحمن بن ثابت وقال ابن السيرافي في «إصلاح المنطق» 94: يريد قشّر عنها لحمها وشحمها، كما يقشر الجلد فإنها سمينة. وغاربها: ما بين السنام والعنق. (2) البيت في «الحيوان» للحكم بن عبدل الأسدي. (3) البيت لأوس بن حجر في «ديوانه» 16. وهو في «اللسان» لعبيد بن الأبرص وفي «ديوانه» 53، والعقوة: الساحة وما حول الدار والمحلة، والقرواح: البارز الذي ليس يستره من السماء شيء. وقيل: الناقة الطويلة. وكذلك النخلة الطويلة يقال لها: قرواح.

[سورة النساء (4) : آية 115]

اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي سليمان الدمشقي. [سورة النساء (4) : آية 115] وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ في سبب نزولها قولان: (364) أحدهما: أنه لما نزل القرآن بتكذيب طُعمة، وبيان ظلمه، وخاف على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إِلى مكة، فلحق بأهل الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والسدي. (365) وقال مقاتل: لما قدم مكة نزل على الحجاج بن علاط السُلمي فأحسن نزله، فبلغه أن في بيته ذهباً، فخرج في الليل فنقب حائط البيت، فعلموا به فأحاطوا بالبيت، فلما رأوه، أرادوا أن يرجموه، فاستحيا الحجاج، لأنه ضيفه، فتركوه، فخرج، فلحق بحرّة بني سليم يعبُد صنمهم حتى مات على الشرك، فنزل فيه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. وقال غيره: بل خرج مع تجارٍ فسرق منهم شيئاً، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وقيل: ركب سفينةً، فسرق فيها مالاً، فعُلِمَ به، فألقي في البحر. والقول الثاني: أن قوماً قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا، ثم ارتدُّوا، فنزلت فيهم هذه الآية، روي عن ابن عباس. ومعنى الآية: ومَن يخالف الرسول في التوحيد، والحدود، مِن بعد ما تبيّن له التوحيد والحكم، ويتبع غير دين المسلمين، نولِّه ما تولى، أي: نكله إِلى ما اختار لنفسه، ونصله جهنم: ندخله إِياها. قال ابن فارس: تقول صليت اللحم أصليه: إِذا شويته، فإن أردت أنك أحرقته، قلت: أصليته. وساءت مصيراً، أي: مرجعاً يصار إليه «1» .

_ انظر الأحاديث المتقدمة (عند الآية 105) . عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان، وقد كذبه غير واحد، فخبره لا شيء. وذكره البغوي في «تفسيره» 1/ 480 بدون إسناد، ومن غير عزو لأحد.

[سورة النساء (4) : آية 116]

[سورة النساء (4) : آية 116] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنها نزلت في حق طعمة بن أبيرق لما هرب من مكة، ومات على الشرك، وهذا قول الجمهور، منهم سعيد بن جبير. (366) والثاني: أن شيخاً من الأعراب جاء إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني مُنهَمك في الذنوب، إِلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته، وإني لنادمٌ مستغفرٌ، فما حالي؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس. فأما تفسيرها، فقد تقدم. [سورة النساء (4) : الآيات 117 الى 118] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً، «إن» بمعنى: «ما» ويَدْعُونَ بمعنى: يعبدون. والهاء في دُونِهِ ترجع إلى الله عزّ وجلّ. والقراءة المشهورة إِناثاً. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «إِلا وَثَناً» ، بفتح الواو، والثاء من غير ألف. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين: «أُنُثاً» ، برفع الهمزة والنون من غير ألف. وقرأ أبو العالية، ومعاذ القارئ، وأبو نُهيك: (أناثاً) ، برفع الهمزة وبألف بعد الثاء. وقرأ أبو هريرة، والحسن، والجوني: «إِلا أنثى» ، على وزن «فعلى» . وقرأ أيوب السختياني: «إِلا وُثنا» ، برفع الواو والثاء من غير ألف. وقرأ مورّق العجلي: (أُثُناً) ، برفع الهمزة والثاء من غير ألف. قال الزجاج: فمن قال: إِناثاً، فهو جمع أنثى وإِناث، ومَن قال: أنثاً، فهو جمع إِناث، ومن قال: أُثنا، فهو جمع وثن، والأصل: وُثنٌ، إِلا أن الواو إِذا انضمّت جاز إِبدالها همزة، كقوله تعالى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ «1» الأصل: وقتت. وجائز أن يكون أُثُن أصلها: أُثْن، فأتبعت الضمّةُ الضمةَ، وجائِز أن يكون أثن، مثل أسد وأسد.

_ واه بمرة. عزاه الشوكاني في «فتح القدير» 1/ 595 للثعلبي عن الضحاك عن ابن عباس، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 566: هو منقطع اه. قلت: والثعلبي يروي الموضوعات. والضحاك لم يلق ابن عباس، وعامة روايات الضحاك إنما هي من طريق جويبر بن سعيد ذاك المتروك، ويجتنب أهل التفسير ذكره بسبب وضوح حاله، فالخبر واه بمرة.

[سورة النساء (4) : آية 119]

فأما المفسرون، فلهم في معنى الإِناث أربعة أقوال «1» : أحدها: أن الإِناث بمعنى الأموات، قاله ابن عباس: والحسن في رواية، وقتادة. وقال الحسن: كل شيء لا روح فيه، كالحجر، والخشبة، فهو إِناث. قال الزجاج: والموات كلها يخبر عنها، كما يخبر عن المؤنّث، تقول من ذلك: الأحجار تعجبني، والدراهم تنفعني. والثاني: أن الإِناث. الأوثان، وهو قول عائشة، ومجاهد. والثالث: أن الإِناث اللاّت والعُزّى ومناة، كلهن مؤنّث، وهذا قول أبي مالك، وابن زيد والسدي. وروى أبو رجاء عن الحسن قال: لم يكن حيٌ من أحياء العرب إِلاّ ولهم صنم يسمّونه: أُنثى بني فلان، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: والمعنى: ما يدعون إِلا ما يُسمّونه باسم الإِناث. والرابع: أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بناتُ الله، قاله الضحاك. وفي المراد بالشيطان ثلاثة أقوال: أحدها: شيطانٌ يكون في الصنم. قال ابن عباس: في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم. وقال أبيُّ بن كعب: مع كل صنم جنيّة. والثاني: أنه إِبليس، وعبادته: طاعته فيما سوّل لهم، هذا قول مقاتل، والزجاج. والثالث: أنه أصنامهم التي عبدوا، ذكره الماوردي. فأما «المريد» فقال الزجاج: «المريد» : المارد، وهو الخارج عن الطاعة، ومعناه: أنه قد مرد في الشّر، يقال: مرد الرجل يمرُد مُروداً: إِذا عتا، وخرج عن الطاعة. وتأويل المرود: أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، وأصله في اللغة: املساس الشيء، ومنه قيل للانسان: أمرد: إِذا لم يكن في وجهه شعر، وكذلك يقال: شجرة مرداء: إِذا تناثر ورقها، وصخرة مرداء: إذا كانت ملساء. وفي قوله تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه ابتداء دعاء عليه باللعن، وهو قول من قال: هو الأوثان. والثاني: أنه إِخبار عن لعن متقدم، وهو قول من قال: هو إِبليس. قال ابن جرير: المعنى: قد لعنه الله. قال ابن عباس: معنى الكلام: دحره الله، وأخرجه من الجنة. وَقالَ يعني إِبليس: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. قال ابن قتيبة: أي حظاً افترضته لنفسي منهم، فأضلّهم. وقال مقاتل: النّصيب المفروض في اللغة: القطع أنَّ مِنْ كل ألفٍ إنسانٌ واحد في الجنة، وسائِرهم في النار. قال الزجاج: «الفرض» في اللغة: القطع، و «الفُرضة» : الثلمة تكون في النهر. و «الفرض» في القوس: الحز الذي يشد فيه الوتر، والفرض فيما ألزمه الله العباد: جعله حتما عليهم قاطعا. [سورة النساء (4) : آية 119] وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119)

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 279: وأولى التأويلات من قال: عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ويسمونها الإناث من الأسماء، كاللات والعزّى ونائلة ومناة. وإنما قلنا ذلك بتأويل الآية، لأن الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب ما عرّف بالتأنيث دون غيره. يقول جل ثناؤه: حسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة أربابا. والإناث من كل شيء أخسّه، فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته، ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شيء وبيده الخلق والأمر.

قوله تعالى: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ قال ابن عباس: عن سبيل الهدى، وقال غيره: ليس له من الضلال سوى الدّعاء إليه. وفي قوله تعالى: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أربعة أقوال: أحدها: أنه الكذب الذي يخبرهم به، قال ابن عباس: يقول لهم: لا جنة، ولا نار، ولا بعث. والثاني: أنه التسويف بالتوبة، روي عن ابن عباس. والثالث: أنه إيهامُهم أنهم سينالون من الآخرة حظاً، قاله الزجاج. والرابع: أنه تزيين الأماني لهم، قاله أبو سليمان. قوله تعالى: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ قال قتادة، وعكرمة، والسدي: هو شق أذن البَحيرة، قال الزجاج: ومعنى «يبتكن» يُشقّقن، يقال: بتكت الشيء أبتكه بتكاً: إِذا قطعته، وَبتَكه وبَتَك، مثل قطعه وقطع. وهذا في البحيرة كانت الجاهلية إِذا ولدت الناقة خمسة أبطن، وكان الخامس ذكراً، شقّوا أذن الناقة، وامتنعوا من الانتفاع بها، ولم تُطردْ عن ماءٍ، ولا مرعى، وإِذا لقيها المعيي، لم يركبها. سوّل لهم إِبليس أن هذا قربةٌ إِلى الله تعالى. وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه تغيير دين الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن في رواية، وسعيد بن المسيّب وابن جبير والنخعي والضحاك والسدي وابن زيد ومقاتل. وقيل: معنى تغيير الدّين: تحليل الحرام وتحريم الحلال. والثاني: أنه تغيير الخلق بالخصاء، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو مرويٌ عن أنس بن مالك، وعن مجاهد وقتادة وعكرمة، كالقولين. والثالث: أنه التغيير بالوشم، وهو قول ابن مسعود، والحسن في رواية. والرابع: أنه تغيير أمر الله، رواه أبو شيبة عن عطاء. والخامس: أنه عبادة الشمس والقمر والحجارة، وتحريم ما حرّموا من الأنعام، وإِنما خلق ذلك للانتفاع به، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ في المراد بالولي قولان: أحدهما: أنه بمعنى الرب، قاله مقاتل. والثاني: من الموالاة، قاله أبو سليمان الدمشقي. فان قال قائل: من أين لإِبليس العلم بالعواقب حتى قال: ولأضلنّهم. وقال في سورة الأعراف وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «2» . وقال في سورة بني إِسرائيل لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا «3» ، فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها: أنه ظن ذلك، فتحقّق ظنه، وذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «4» قاله الحسن، وابن زيد. وفي سبب ذلك الظن قولان: أحدهما: أنه لما قال الله تعالى له:

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 285: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: معناه وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ قال: دين الله، وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه، وهي قوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره 1/ 569: على قول من جعل ذلك أمرا أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم. كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء» . وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» . (2) سورة الأعراف: 17. (3) سورة الإسراء: 62. [.....] (4) سورة سبأ: 20.

[سورة النساء (4) : الآيات 120 إلى 122]

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «1» علم أنه ينال ما يريد. والثاني: أنه لما استزلَّ آدم، قال: ذرّية هذا أضعف منه. والثاني: أن المعنى: لأحرضنّ ولأجتهدنّ في ذلك، لا انه كان يعلم الغيب، قاله ابن الأنباري. والثالث: أن من الجائِز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون، ذكره الماوردي. فان قيل: فلم اقتصر على بعضهم؟ فقال: نَصِيباً مَفْرُوضاً «2» وقال: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ وقال: إِلَّا قَلِيلًا فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها: أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة، كما بينّا. والثاني: أنه لما لم ينلْ من آدم كل ما يريد، طمع في بعض أولاده، وأيس من بعض. والثالث: انه لما عاين الجنّة والنار، علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما، فأشار بالنصيب المفروض إلى ساكني النار. [سورة النساء (4) : الآيات 120 الى 122] يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) قوله تعالى: يَعِدُهُمْ يعني: الشيطان يعد أولياءه. وفيما يعدهم به قولان: أحدهما: أنه لا بعث لهم، قاله مقاتل. والثاني: النصرة لهم، ذكره أبو سليمان الدمشقي، وفيما يُمنِّيهم قولان: أحدهما: الغرور والأماني، مثل أن يقول: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا مرادك: والثاني: الظفر بأولياء الله. قوله تعالى: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي: باطلاً يغرُّهم به. فأما المحيص، فقال الزجاج: هو المعدِل والملجأ، يقال: حِصتُ عن الرجل أحيص، ورووا: جضتُ أجيض بالجيم والضاد، بمعنى: حصت، ولا يجوز ذلك في القرآن، وإِن كان المعنى واحداً، لأن القراءة سنّة، والذي في القرآن أفصحُ مما يجوز، ويقال: حُصتُ أحوص حوصاً وحياصة: إِذا خطت، قال الأصمعي: يقال: حصْ عين صقرك، أي: خط عينه، والحوصُ في العين: ضيق مؤخرها، ويقال: وقع في حيصَ بيصَ، وحاص باص: إِذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه. [سورة النساء (4) : آية 123] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (367) أحدها: أن أهل الأديان اختصموا، فقال أهل التّوراة: كتابنا خير الكتاب، ونبيّنا خير

_ أخرجه الطبري 10501 عن ابن عباس برواية العوفي، وهو واه. وورد مرسلا، أخرجه الطبري 10495 و 10496 عن مسروق و 10499 عن السدي، و 10500 عن الضحاك، و 10502 عن أبي صالح.

الأنبياء، وقال أهل الإِنجيل مثل ذلك، وقال المسلمون: كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم الأنبياء، فنزلت هذه الآية، ثم خيّر بين الأديان بقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. رواه العوفي عن ابن عباس، وإِلى هذا المعنى ذهب مسروق وأبو صالح وقتادة والسدي. (368) والثاني: أن العرب قالت: لا نُبعثُ، ولا نعذبُ، ولا نحاسب، فنزلت هذه الآية، هذا قول مجاهد. (369) والثالث: أن اليهود والنصارى قالوا: لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش: لا نُبعث، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة. قال الزجاج: اسم «ليس» مضمر، والمعنى: ليس ثواب الله عز وجل بأمانيكم، وقد جرى ما يدل على الثواب، وهو قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. وفي المشار إليهم بقوله «أمانيكم» قولان «1» : أحدهما: أنهم المسلمون على قول الأكثرين. والثاني: المشركون على قول مجاهد. فأما أماني المسلمين، فما نقل من قولهم: كتابنا ناسخ للكتب، ونبينا خاتم الأنبياء، وأماني المشركين قولهم: لا نبعث، وأماني أهل الكتاب قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإِن النار لا تمسُّنا إِلا أياماً معدودة، وأنّ كتابنا خير الكتاب، ونبيّنا خير الأنبياء، فأخبر الله عزّ وجلّ أن دخول الجنة والجزاء، بالأعمال لا بالأماني. وفي المراد «بالسوء» قولان «2» : أحدهما: أنه المعاصي.

_ ضعيف، أخرجه الطبري 10507 عن مجاهد مرسلا. هو مرسل، فهو واه، والمتن غريب.

[سورة النساء (4) : آية 124]

(370) ومنه حديث أبي بكر الصديق أنه قال: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فإذا عملنا سوءاً جُزينا به، فقال: غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء «1» ؟ فذلك ما تُجزَون به. والثاني: أنه الشرك، قاله ابن عباس، ويحيى بن أبي كثير. وفي هذا الجزاء قولان: أحدهما: أنه عام في كل من عمل سوءاً فإنه يجازى به، وهو معنى قول أُبيِّ بن كعب، وعائشة، واختاره ابن جرير، واستدل عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه. والثاني: أنه خاص في الكفار يجازَوْن بكل ما فعلوا، فأما المؤمن فلا يجازى بكل ما جنى، قاله الحسن البصري. وقال ابن زيد: وعد الله المؤمنين أن يكفّر عنهم سيئاتهم، ولم يَعِد المشركين. قوله تعالى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا قال أبو سليمان: لا يجد مَن أراد الله أن يجزيه بشيءٍ من عمله ولياً، وهو القريب، ولا ناصراً يمنعه من عذاب الله وجزائِه. [سورة النساء (4) : آية 124] وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)

_ حسن. أخرجه أحمد 1/ 11، والطبري 10528 و 10529 و 10531 و 10532 و 10533 والمروزي في «مسند أبي بكر» 111 و 112، وأبو يعلى 98 و 99 و 100 و 101 وابن حبان 2910 والحاكم 3/ 74- 75 والبيهقي 3/ 373 من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبي بكر الصديق. وإسناده ضعيف لانقطاعه: أبو بكر بن زهير لم يدرك الصديق. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. - وأخرجه أبو يعلى 99 من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر الصديق. وأخرجه الطبري 10526 عن عائشة عن أبي بكر بنحوه. وأخرجه الطبري 10534 عن مسلم بن صبيح قال: قال أبو بكر. وأورده ابن كثير في «تفسيره» 1/ 572 عن مسلم بن صبيح، عن مسروق قال: قال أبو بكر. وأخرجه المروزي 22 وأبو يعلى 18 والطبري 10527 والحاكم 3/ 552- 553 من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن أبي بكر. وزياد وعلي بن زيد ضعيفان. وأخرجه الترمذي 3039 وأبو يعلى 21 عن روح بن عبادة، عن موسى بن عبيدة، عن مولى ابن سبّاع، عن ابن عمر يحدث عن أبي بكر. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال. وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد، وأحمد بن حنبل ومولى ابن سبّاع مجهول. ويشهد له حديث عائشة أخرجه الترمذي 2991 وأحمد 6/ 218 والطبري 10536 كلهم من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أمية ابنة عبد الله أنها سألت عائشة عن قول الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وعن قوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هذه معاتبة الله العبد فيما يصيبه من الحمى والنكبة حتى البضاعة يضعها في كم قميصه فيفقدها فيفزع لها حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة. وأخرجه الحاكم 2/ 308 من طريق آخر موقوفا عليها. وصححه ووافقه الذهبي وانظر ما أخرجه ابن حبان 2923. ويشهد له أيضا حديث أبي هريرة أخرجه مسلم 2574 والترمذي 3038 وأحمد 2/ 249، والطبري 10525، وابن حبان 2926 والبيهقي 3/ 373. وانظر «تفسير ابن كثير» 1/ 571 و «تفسير القرطبي» 2473 بتخريجنا.

[سورة النساء (4) : آية 125]

قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ. (371) قال مسروق: لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فنزلت وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، وهذه تدل على ارتباط الإِيمان بالعمل الصالح، فلا يقبل أحدهما إِلاّ بوجود الآخر، وقد سبق ذكر «النّقير» . [سورة النساء (4) : آية 125] وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ قال ابن عباس: خيّر الله بين الأديان بهذه الآية. وأَسْلَمَ بمعنى: أخلص. وفي «الوجه» قولان: أحدهما: أنه الدين. والثاني: العمل. وفي الإحسان قولان: أحدهما: أنه التوحيد، قاله ابن عباس. والثاني: القيام لله بما فرض الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي اتِّباع ملة إِبراهيم قولان: أحدهما: اتباعه على التوحيد والطاعة. والثاني: اتباع شريعته، اختاره القاضي أبو يعلى. فأما الخليل، فقال ابن عباس: الخليل الصفي، وقال غيره: المصافي، وقال الزجاج: هو المُحبُّ الذي ليس في محبّته خلل. قال: وقيل: الخليل: الفقير، فجائِز أن يكون إبراهيم سُمّي خليل الله بأنه أحبّه محبةً كاملةً، وجائِز أن يكون لأنه لم يجعل فقرَه وفاقته إِلاّ إِليه، و «الخُلّة» : الصداقة، لأن كلَّ واحد يسدُّ خلل صاحبه، و «الخَلة» بفتح الخاء: الحاجة: سُميت خَلَّة للاختلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إِليه، وسمي الخَلّ الذي يؤكل خلاً، لأنه اختلّ منه طعم الحلاوة. وقال ابن الأنباري: الخليل: فعيل من الخُلة، والخلّة: المودّة. وقال بعض أهل اللغة: الخليل، المحب، والمحب الذي ليس في محبته نقص ولا خلل، والمعنى: أنه كان يحبُ الله، ويحبهُ الله محبة لا نقص فيها، ولا خلل، ويقال: الخليل: الفقير، فالمعنى: اتّخذه فقيرا ينزل فقره وفاقته به، لا بغيره. وفي سبب اتخاذ الله له خليلاً ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اتخذه خليلاً لإِطعامه الطعام. (372) روى عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا جبريل، لم اتخذ الله إِبراهيم خليلا؟ قال: لإِطعامه الطعام» . (373) والثاني: أن الناس أصابتهم سنَة فأقبلوا إِلى باب إِبراهيم يطلبون الطعام، وكانت له مِيرَة من صديق له بمصر في كل سنة، فبعث غلمانه بالإِبل إِلى صديقه، فلم يعطهم شيئا، فقالوا: لو احتملنا

_ أخرجه الطبري 10495 عن مسروق. ضعيف. أخرجه البيهقي 9616 من حديث عبد الله بن عمرو، وفيه ابن لهيعة والراوي عنه ليس من العبادلة، فالحديث ضعيف والمتن منكر، فإن الأمر أعم من ذلك. وانظر «تفسير القرطبي» 2478. لا أصل له في المرفوع. عزاه المصنف لرواية أبي صالح عن ابن عباس وهو في «تفسير البغوي» برواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط، الكلبي متروك، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس، والكلبي وأبو صالح أقرّا أنهما كانا يكذبان على ابن عباس. راجع ترجمتهما في «الميزان» . وذكر هذا الخبر الطبري بدون إسناد في «تفسيره» 4/ 297، ونقله عنه ابن كثير في «تفسيره» 1/ 573، وقال: وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يصدق ولا يكذب.

[سورة النساء (4) : آية 126]

من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة، فملؤوا الغرائِر» رملاً، ثم أتوا إِبراهيم عليه السلام، فأعلموه، فاهتم إِبراهيم لأجل الخلق. فنامَ وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان، ففتحت الغرائر، فاذا دقيق حُواري، فأمرت الخبازين فخبزوا، وأطعموا الناس، فاستيقظ إِبراهيم، فقال: من أين هذا الطعام؟ فقالت: من عند خليلك المصري، فقال: بل من عند خليلي الله عزّ وجلّ، فيومئذٍ اتخذه الله خليلا، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه اتخذه خليلاً لكسره الأصنام، وجداله قومه، قاله مقاتل. [سورة النساء (4) : آية 126] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أي: أحاط علمه بكل شيء. [سورة النساء (4) : آية 127] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) قوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ في سبب نزولها خمسة أقوال: (374) أحدها: أنهم كانوا في الجاهلية لا يورِّثون النساء والأطفال، فلما فرض الله المواريث في هذه السورة، شق ذلك عليهم، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد. (375) والثاني: أن ولي اليتيمة كان يتزوّجها إِذا كانت جميلةً وهَوِيَها، فيأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت، فاذا ماتت ورثها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. (376) والثالث: أنهم كانوا لا يؤتون النساء صَدُقَاتِهِنَّ، ويتملَّك ذلك أولياؤهنّ، فلما نزل قوله

_ حسن صحيح، أخرجه الطبري 10544 و 10546 عن ابن عباس، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط. وورد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري 10552 و 10553 ومن مرسل سعيد بن جبير، أخرجه برقم 10558 ومن مرسل ابن زيد، برقم 10562. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها. أخرجه الطبري 10576 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. وأخرجه الطبري 10554 عن عطية العوفي عن ابن عباس قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيرغب أن ينكحها أو يجامعها، ولا يعطيها مالها، رجاء أن تموت فيرثها. وأخرجه الطبري 10549 و 10550 عن إبراهيم النّخعي مرسلا. وأخرجه برقم 10551 عن أبي مالك مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها. صحيح. أخرجه البخاري 4600 ومسلم 3018 وأبو داود 2068 والنسائي في «التفسير» 144 والواحدي 368 في «أسباب النزول» والبيهقي 7/ 141- 142 والطبري 10559 كلهم عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ إلى قوله: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قالت عائشة: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها فنزلت هذه الآية. وقوله «فيعضلها» : أي لم يعاملها معاملة الأزواج لنسائهم، ولم يتركها تتصرف في نفسها، فكأنه قد منعها.

تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة عليها السلام. (377) والرابع: أن رجلاً كانت له امرأة كبيرة، وله منها أولاد، فأراد طلاقها، فقالت: لا تفعل، واقسم لي في كل شهر إِن شئت أو أكثر فقال: لئن كان هذا يصلحُ، فهو أحبُ إِليّ، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر له ذلك، فقال: «قد سمع الله ما تقول، فإن شاء أجابك» ، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها، رواه سالم الأفطس عن سعيد بن جبير. والخامس: أن ولي اليتيمة كان إِذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها، فنزلت هذه الآية، ونهوا أن ينكحوهنّ، أو يبلغوا بهنّ سنتهن من الصداق، ذكره القاضي أبو يعلى. وقوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ أي: يطلبون منك الفتوى، وهي تبيين المشكل من الأحكام. وقيل: الاستفتاء: الاستخبار. قال المفسّرون: والذي اسْتَفْتَوه فيه، ميراث النساء، وذلك أنهم قالوا: كيف ترث المرأة والصبي الصغير؟ قوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ قال الزجاج: موضع «ما» رفع، المعنى: الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب أيضا يفتيكم فيهنّ. وهو قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية. والذي تلي عليهم في التزويج قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» . وفي يتامى النساء قولان: أحدهما: أنهنّ النساء اليتامى، فأضيفت الصّفة إِلى الاسم، كما تقول: يوم الجمعة. والثاني: أنهن أمهات اليتامى، فأضيف إِليهن أولادهن اليتامى. وفي الذي كتب لهن قولان: أحدهما: أنه الميراث، قاله ابن عباس، ومجاهد في آخرين. والثاني: أنه الصداق. ثم في المخاطب بهذا قولان: أحدهما: أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها. والثاني: ولي اليتيمة، كان إِذا تزوجها لم يعدل في صداقها. وفي قوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قولان: أحدهما: وترغبون في نكاحهن رغبة في جمالهن، وأموالهن، هذا قول عائشة، وعبَيدة. والثاني: وترغبون عن نكاحِهن لقبحهنّ، فتمسكوهن رغبة في أموالهن، وهذا قول الحسن. قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ قال الزجاج: موضع «المستضعفين» خفض على قوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ المعنى: وفي الولدان. قال ابن عباس: يريد أنهم لم يكونوا يورّثون صغيراً من الغلمان والجواري، فنهاهم الله عن ذلك، وبيّن لكلّ ذي سهم

_ لم أر من أسنده عن سعيد، وهو مرسل، والمرسل من قسم الضعيف، وتقدم روايات كثيرة، ليس فيها ما هو مرفوع لفظي، والله أعلم.

[سورة النساء (4) : آية 128]

سهمه. قوله تعالى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ قال الزجاج: موضع «أن» خفض، فالمعنى: في يتامى النساء، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. قال ابن عباس: يريد العدل في مهورهن ومواريثهنّ. [سورة النساء (4) : آية 128] وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (378) أحدها: أن سودة خشيت أن يطلّقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. (379) والثاني: أن بنت محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج، فكره منها أمراً، إِما كِبَراً، وإِما غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فنزلت هذه الآية، رواه الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب، وقال مقاتل: واسمها خويلة «1» . والثالث: قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها. (380) وقالت عائشة: نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلا يستكثر منها، ويريد فراقها، ولعلها تكون له محبة أو يكون لها ولد فتكره فراقه، فتقول له: لا تطلقني وأمسكني، وأنت في حل من شأني. رواه البخاري، ومسلم. وفي خوف النشوز قولان: أحدهما: أنه العلم به عند ظهوره. والثاني: الحذر من وجوده لأماراته. قال الزجاج: والنشوز من بعل المرأة: أن يُسيء عشرتها، وأن يمنعها نفسه ونفقته. وقال أبو

_ أخرجه الترمذي 3040 والطبري 10613 من حديث ابن عباس بهذا اللفظ، وقال الترمذي: حسن غريب. - قلت: إسناده غير قوي لأنه من رواية سماك عن عكرمة، وهي مضطربة، ولكن ورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه أبو داود 2135 والحاكم 2/ 186 من حديث عائشة وصححه، ووافقه الذهبي، وإسناده حسن لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد. وخبر سودة دون ذكر نزول الآية، أخرجه مسلم 1463 وابن حبان 4211 من حديث عائشة قالت: ما رأيت امرأة أحب إليّ أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة، من امرأة فيها حدة. قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة. قالت: يا رسول الله: قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة يومين، يومها ويوم سودة. أخرجه البخاري 5212 ومسلم 1463 والنسائي في «الكبرى» 7934 وابن ماجة 1972 مختصرا والبيهقي 7/ 74- 75 من حديث عائشة مطولا وليس فيه سبب نزول الآية. وانظر «تفسير القرطبي» 2481 بتخريجنا. مرسل. أخرجه الشافعي 1/ 250 والواحدي 370 والبيهقي 7/ 296 عن ابن المسيب مرسلا. - وورد من حديث رافع بن خديج. أخرجه مالك 2/ 548- 549، والحاكم 2/ 308، ولكن ليس فيه نزول الآية. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. صحيح. أخرجه البخاري 2450 و 2694 و 4601 ومسلم 3021 والبيهقي 7/ 296 والواحدي 369 والطبري 10589 و 10590 و 10591 عن عائشة به. وانظر «تفسير القرطبي» 2483.

[سورة النساء (4) : آية 129]

سليمان: نشوزاً، أي: نبواً عنها إِلى غيرها، أو إعراضا عنها، واشتغالاً بغيرها. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «يصّالحا» بفتح الياء والتشديد. والأصل: «يتصالحا» ، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «يُصلحا» بضم الياء والتخفيف. قال المفسرون: والمعنى: أن يوقعا بينهما أمرا يرضيان به، وتدوم بينهما الصحبة، مثل أن تصبر على تفضيله. وروي عن علي، وابن عباس: أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها، أو بعض أيامها، بأن يجعله لغيرها. وفي قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ قولان «1» : أحدهما: خير من الفرقة، قاله مقاتل، والزجاج. والثاني: خيرٌ من النشوز والإِعراض، ذكره الماوردي. قال قتادة: متى ما رضيت بدون ما كان لها، واصطلحا عليه، جاز، فان أبتْ لم يصلح أن يحبسها على الخسف. قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ «أحضرت» بمعنى: ألزمت. و «الشّح» : الإِفراط في الحرص على الشيء. وقال ابن فارس: «الشح» : البخل مع الحرص، وتشاح الرجلان على الأمر: لا يريدان أن يفوتهما، وفيمن يعود إِليه هذا الشح من الزوجين قولان: أحدهما: المرأة، فتقديره: وأحضرت نفس المرأة الشح بحقها من زوجها، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: الزوجان جميعاً، فالمرأة تشح على مكانها من زوجها، والرجل يشح عليها بنفسه إِذا كان غيرُها أحبَّ إِليه، هذا قول الزجاج. وقال ابن زيد: لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئاً فتحلله، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئاً من مالها، فتعطّفه عليها. قوله تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا فيه قولان: أحدهما: بالصّبر على التي يكرها. والثاني: بالإِحسان إِليها في عشرتها. قوله تعالى: وَتَتَّقُوا يعني الجور عليها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم عليه. [سورة النساء (4) : آية 129] وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ قال أهل التفسير: لن تطيقوا أن تسوّوا بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع، لأن ذلك ليس من كسبكم وَلَوْ حَرَصْتُمْ على ذلك فَلا تَمِيلُوا إِلى التي تحبون في النفقة والقسم. وقال مجاهد: لا تتعمّدوا الإِساءة فتذروا الأخرى كالمعلقة قال ابن عباس: المعلقة: التي لا هي أيِّم، ولا ذات بعل. وقال قتادة: المعلقة: المسجونة. قوله تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا أي: بالعدل في القسمة وَتَتَّقُوا الجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لميل القلوب.

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 262- 263: وإذا خافت المرأة نشوز زوجها وإعراضه عنها، لرغبته عنها، إما لمرض بها أو كبر أو دمامة، فلا بأس أن تضع عنه بعض حقوقها تسترضيه بذلك، لقول الله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ... الآية. ومتى صالحته على ترك شيء من قسمها أو نفقتها أو على ذلك كله، جاز، فإن رجعت، فلها ذلك. قال أحمد، في الرجل يغيب عن امرأته، فيقول لها: إن رضيت على هذا وإلا فأنت أعلم. فتقول: قد رضيت. فهو جائز، فإن شاءت رجعت.

[سورة النساء (4) : الآيات 130 إلى 132]

[سورة النساء (4) : الآيات 130 الى 132] وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) قوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يقول: وإِن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بإيثار التي يميل إِليها، واختارت الفرقة، فإن الله يغني كلَّ واحد من سعته. قال ابن السائِب: يغني المرأة برجل، والرجل بامرأة. ثم ذكر ما يوجبُ الرغبة إِليه في طلب الخير، فقال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني: أهل التوراة، والإِنجيل، وسائر الكتاب وَإِيَّاكُمْ يا أهل القرآن أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ قيل: وحّدوه وَإِنْ تَكْفُرُوا بما أوصاكم به فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يضرّه خلافكم. وقيل: له ما في السماوات، وما في الأرض من الملائكة، فهم أطوع له منكم. وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى «الغني الحميد» «1» ، وفي آل عمران معنى «الوكيل» «2» . [سورة النساء (4) : آية 133] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أطوع له منكم. وقال أبو سليمان: هذا تهدّد للكفار، يقول: إِن يشأ يهلككم كما أهلك مَن قبلكم إِذ كفروا به، وكذّبوا رسله. [سورة النساء (4) : آية 134] مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا قيل: إِن هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدِّقون بالقيامة، وإِنما يطلبون عاجل الدنيا، ذكره أبو سليمان. وقال الزجاج: كان مشركو العرب يتقربون إِلى الله ليعطيهم من خير الدنيا، ويصرف عنهم شرّها، ولا يؤمنون بالبعث، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن خير الدنيا والآخرة عنده. وذكر الماوردي أن المراد بثواب الدنيا: الغنيمة في الجهاد، وثواب الآخرة: الجنة. قال: والمراد بالآية: حث المجاهد على قصد ثواب الله. [سورة النساء (4) : آية 135] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ في سبب نزولها قولان:

_ (1) سورة البقرة: 267. (2) سورة آل عمران: 173.

(381) أحدهما: أن فقيراً وغنياً اختصما إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان صَغْوُه «1» مع الفقير يرى أن الفقير لا يَظلم الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي. والثاني: أنها متعلقة بقصّة ابن أُبيرق، فهي خطاب للذين جادلوا عنه، ذكره أبو سليمان الدمشقي «2» . و «القوّام» : مبالغة مِن قائِم. و «القسط» : العدل. قال ابن عباس: كونوا قوّالين بالعدل في الشهادة على من كانت، ولو على أنفسكم. وقال الزجاج: معنى الكلام: قوموا بالعدل، واشهدوا لله بالحق، وإِن كان الحق على الشاهد، أو على والديه، أو قريبه «3» ، إِنْ يَكُنْ المشهود له غَنِيًّا فالله أولى به، وإِن يكن فقيراً فالله أولى به. فأما الشهادة على النفس، فهي إِقرار الإِنسان بما عليه من حق. وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إِلى فقر المشهود عليه، ولا إِلى غناه، فإن الله تعالى أولى بالنظر إِليهما. قال عطاء: لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظموا الغني، فتمسكوا عن القول فيه. وممن قال: إِن الآية نزلت في الشهادات، ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، والزّهريّ، وقتادة، والضحاك. قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا فيه أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: فلا تتبعوا الهوى، واتقوا الله أن تعدِلوا عن الحق، قاله مقاتل. والثاني: ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا، قاله الزجاج. والثالث: فلا تتبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحق. والرابع: فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا، ذكرهما الماوردي. قوله

_ ضعيف، أخرجه الطبري 10683 عن السدي مرسلا. وذكره الواحدي بدون إسناد في «أسباب النزول» 371، وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي كما في «أسباب النزول» للسيوطي. - وفي الطبري والواحدي وكان- ضلعه- بدلا من وكان- صغوه-.

[سورة النساء (4) : آية 136]

تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، والكسائي، تلووا، بواوين، الأولى مضمومة، واللام ساكنة. وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال: أحدها: أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إِلى غير الحق. قال ابن عباس: يلوي لسانه بغير الحق، ولا يقيم الشهادة على وجهها، أو يعرض عنها ويتركها. وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد. والثاني: أن يلوي الحاكم وجهه إِلى بعض الخصوم، أو يُعرِضَ عن بعضهم، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أن يلوي الإِنسان عنقه إِعراضاً عن أمر الله لكبره وعتوِّه. ويكون: «أو تعرضوا» بمعنى: وتعرضوا، ذكره الماوردي. وقرأ الأعمش، وحمزة، وابن عامر: «تلوا» بواو واحدة، واللاّم مضمومة. والمعنى: أن تلوا أمور الناس، أو تتركوا، فيكون الخطاب للحكّام. [سورة النساء (4) : آية 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ في سبب نزولها قولان: (382) أحدهما: أن عبد الله بن سلام، وأسداً، وأُسيداً ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلاماً، وسلمة، ويامين. وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله نؤمن بك، وبكتابك، وبموسى، والتوراة، وعزير، ونكفر بما سوى ذلك من الكتاب والرسل، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل «1» . وفي المشار إليهم بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم المسلمون، قاله الحسن، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بمحمد والقرآن اثبتوا على إِيمانكم. والثاني: اليهود والنصارى، قاله الضحاك، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى، والتوراة، وبعيسى، والإِنجيل: آمنوا بمحمد والقرآن. والثالث: المنافقون، قاله مجاهد، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظّاهر بألسنتهم، آمنوا بقلوبكم.

_ باطل. ذكره البغوي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط: الكلبي متروك كذاب، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس. وانظر ترجمتهما في «الميزان» . وذكره الواحدي في أسباب النزول 372 عن الكلبي بدون إسناد، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 576: ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

[سورة النساء (4) : آية 137]

قوله تعالى: وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «نزِّل على رسوله، والكتاب الذي أُنزل من قبل» مضمومتين. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: نَزَلَ على رسوله، والكتاب الذي أنْزَلَ مفتوحتين. والمراد بالكتاب: الذي نزل على رسوله القرآن، والكتاب الذي أنزل من قبل: كل كتاب أنزل قبل القرآن، فيكون «الكتاب» ها هنا اسم جنس. [سورة النساء (4) : آية 137] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها في اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد عليه السلام، هذا قول ابن عباس. وروي عن قتادة قال: آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم آمنوا به بعد عوده، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد. والثاني: أنها في اليهود والنصارى، آمن اليهود بالتوراة، وكفروا بالإِنجيل، وآمن النصارى بالإِنجيل. ثم تركوه فكفروا به، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن وبمحمد، رواه شيبان عن قتادة. وروي عن الحسن قال: هم قوم من أهل الكتاب، قصدوا تشكيك المؤمنين، فكانوا يظهرون الإيمان ثم الكفر، ثم ازدادوا كفراً بثبوتهم على دينهم. وقال مقاتل: آمنوا بالتوراة وموسى، ثم كفروا من بعد موسى، ثم آمنوا بعيسى والإِنجيل، ثم كفروا من بعده، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن. والثالث: أنها في المنافقين آمنوا، ثم ارتدوا، ثم ماتوا على كفرهم، قاله مجاهد. وروى ابن جريج عن مجاهد ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال: ثبتوا عليه حتى ماتوا. قال ابن عباس: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ما أقاموا على ذلك وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي: لا يجعلهم بكفرهم مهتدين. قال: وإِنما علق امتناع المغفرة بكفر بعد كفر، لأن المؤمن بعد الكفر يُغفرُ له كفره، فإذا ارتدّ طولب بالكفر الأوّل «2» .

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 326: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال: عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم كذبوا بخلافهم إياه، ثم أقرّ من أقرّ منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذّب به بخلافه إياه، ثم كذّب بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والفرقان، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره. (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 264: ومن ارتد عن الإسلام من الرّجال والنساء، وكان بالغا عاقلا، دعي إليه ثلاثة أيام، وضيّق عليه، فإن رجع، وإلا قتل. فإنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا. هذا قول أكثر أهل العلم. وروي عن أحمد، رواية أخرى، أنه لا تجب استتابته، ولكن تستحب. وهذا القول الثاني للشافعي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من بدّل دينه فاقتلوه» ولم يذكر استتابته. وإن مفهوم كلام الخرقي، أنه إذا تاب قبلت توبته، ولم يقتل أي كفر كان، وهذا مذهب الشافعي. وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال، وقال إنه أولى على مذهب أبي عبد الله. والرواية الأخرى لا تقبل توبة الزنديق، ومن تكررت ردته. وهو قول مالك، والليث وإسحاق، وعن أبي حنيفة روايتان كهاتين. فأما من تكررت ردّته فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. وقد روي عن ظبيان بن عمارة، أن رجلا من بني سعد مرّ على مسجد بني حنيفة، فإذا هم يقرءون برجز مسيلمة، فرجع إلى ابن مسعود، فذكر له ذلك، فبعث إليهم، فأتي بهم فاستتابهم فتابوا، فخلّى سبيلهم، إلا رجلا منهم يقال له ابن النّوّاحة. قال: قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت، وأراك عدت. فقتله.

[سورة النساء (4) : آية 138]

[سورة النساء (4) : آية 138] بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ زعم مقاتل أنه لما نزلت المغفرة في سورة الفتح للنبي والمؤمنين قال عبد الله بن أُبيّ ونفر معه: فما لنا؟ فنزلت هذه الآية «1» . وقال غيره: كان المنافقون يتولَّون اليهود، فأُلحِقوا بهم في التبشير بالعذاب. وقال الزجاج: معنى الآية: اجعل موضع بشارتهم العذاب. والعرب تقول: تحيتك الضَّربُ، أي: هذا بدلٌ لك من التحيّة. قال الشاعر: وخيلٍ قد دلفتُ لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع «2» [سورة النساء (4) : آية 139] الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ قال ابن عباس: يتخذون اليهود أولياء في العون والنُّصرة. قوله تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي: القوة بالظهور على محمد وأصحابه، والمعنى: أيتقون بهم؟ قال مقاتل: وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الزجاج: أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزة. و «العزَّة» : المنعة، وشدة الغلبة، وهو مأخوذ من قولهم: أرض عَزاز. قال الأصمعي: العزاز: الأرض التي لا تنبت. فتأويل العزة: الغلبة والشدة التي لا يتعلق بها إذلال. قالت الخنساء: كَأَنْ لم يكونوا حِمىً يُتَّقَى ... إِذْ النَّاسُ إِذ ذَاكَ مَن عَزّ بَزَّا أي: من قوي وغَلَبَ سَلبَ. ويقال: قد استُعِزَّ على المريض، أي: اشتد وجعه. وكذلك قول الناس: يَعزُّ عليّ أن يفعل، أي: يشتد، وقولهم: قد عزَّ الشيء: إِذا لم يوجد، معناه: صعب أن يوجد، والباب واحد. [سورة النساء (4) : آية 140] وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ وقرأ عاصم، ويعقوب: «نَزَّل» بفتح النون والزاي. قال المفسّرون: الذي نزل عليهم في النهي عن مجالستهم، قوله في الأنعام وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ «3» وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن ويكذبون به، فنهى الله المسلمين عن مجالستهم. وآيات الله: هي القرآن. والمعنى: إِذا سمعتم الكفر بآيات الله، والاستهزاء بها، فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير الكفر، والاستهزاء. إِنَّكُمْ إِن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك، فأنتم مِثْلُهُمْ، وفي ماذا تقع المماثلة فيه، قولان: أحدهما:

_ (1) باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالوضع، كما تقدم، وخبره لا شيء، ليس له أصل. (2) في «الخزانة» 4/ 53 قال البغدادي: وهذا البيت نسبه شراح أبيات «الكتاب» وغيرهم إلى عمرو بن معديكرب الصحابي ولم أره في شعره. وفي «اللسان» : دلف: الدّليف: المشي الرّويد. ودلفت الكتيبة إلى الكتيبة في الحرب تقدمت. وجيع أي موجع. (3) سورة الأنعام: 68.

[سورة النساء (4) : آية 141]

في العصيان. والثاني: في الرضى بحالهم، لأن مُجالس الكافر غير كافر. وقد نبّهت الآية على التحذير من مجالسة العصاة. قال إِبراهيم النّخعيّ: إنّ الرجل ليجلس فيتكلم بالكلمة، فيرضي الله بها، فتصيبُه الرحمة فتعمُّ من حوله، وإِن الرجل ليجلس في المجلس، فيتكلم بالكلمة، فيسخط الله بها، فيصيبه السّخط، فيعمّ من حوله. [سورة النساء (4) : آية 141] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ قال أبو سليمان: هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة. قال مقاتل: كان المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائِر، فإن كان الفتح، قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ فاعطونا من الغنيمة. وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ، أي دولةٌ على المؤمنين، قالوا للكفار: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ؟ قال المبرِّد: ومعنى: ألم نستحوذ عليكم: ألم نغلبْكم على رأيكم. وقال الزجاج: ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم. و «نستحوذ» في اللغة، بمعنى: نستولي، يقال: حُذْت الإِبل، وحُزْتها: إِذا استوليت عليها وجمعتها. وقال غيره: ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة؟ وقال ابن جريج: ألم نبين لكم أنا على دينكم؟ وفي قوله تعالى: وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم. والثاني: بما نعلمكم من أخبارهم. والثالث: بصرفنا إيّاكم عن الدخول عن الإِيمان. ومراد الكلام: إِظهار المنّة من المنافقين على الكفار، أي: فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم. قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني المؤمنين والمنافقين. قال ابن عباس: يريد أنه أخّر عقاب المنافقين. قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة، روى يُسيْع الحضرمي عن علي بن أبي طالب أن رجلاً جاءه، فقال: أرأيت قول الله عزّ وجلّ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون، فقال: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ يوم القيامة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. هذا مروي عن ابن عباس، وقتادة. والثاني: أن المراد بالسبيل: الظهور عليهم، يعني: أن المؤمنين هم الظاهرون، والعاقبة لهم، وهذا المعنى في رواية عكرمة، عن ابن عباس. والثالث: أن السبيل: الحجة. قال السدي: لم يجعل الله عليهم حجة، يعني فيما فعلوا بهم من القتل والإِخراج من الديار. قال ابن جرير: لما وعد الله المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة، ولا المؤمنين مدخل المنافقين، لم يكن للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم: أنتم كنتم أعداءنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار. [سورة النساء (4) : آية 142] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ أي: يعملون عمل المخادع. وقيل: يخادعون نبيّه،

[سورة النساء (4) : آية 143]

وهو خادعهم، أي: مجازيهم على خداعهم. وقال الزجاج: لما أمر بقبول ما أظهروا، كان خادعاً لهم بذلك. وقيل: خداعه إِياهم يكون في القيامة بإطفاء نورهم، وقد شرحنا طرفاً من هذا في (البقرة) . قوله تعالى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى أي: متثاقلين. وكُسالى : جمع كسلان، و «الكسل» : التثاقل عن الأمر. وقرأ أبو عمران الجونيّ: «كسالى» بفتح الكاف، وقرأ ابن السّميقع: «كسلى» ، بفتح الكاف من غير ألف. وإنما كانوا هكذا، لأنهم يصلّون حذراً على دمائهم، لا يرجون بفعلها ثواباً، ولا يخافون بتركها عقابا. قوله تعالى: يُراؤُنَ النَّاسَ أي: يصلُّون ليراهم الناس. قال قتادة: والله لولا الناس ما صلى المنافق. وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سُمّي قليلاً، لأنه غير مقبول، قاله علي رضي الله عنه، وقتادة. والثاني: لأنه رياء، ولو كان لله لكان كثيراً، قاله ابن عباس، والحسن. والثالث: أنه قليل في نفسه، لأنهم يقتصرون على ما يظهر، دون ما يخفى من القراءة والتّسبيح، ذكره الماورديّ. [سورة النساء (4) : آية 143] مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ المذبذب: المتردّد بين أمرين، وأصل التذبذب: التحرّك، والاضطراب، وهذه صفة المنافق، لأنه محيّر في دينه لا يرجع إِلى اعتقاد صحيح. قال قتادة: ليسوا بالمشركين المصرّحين بالشرك، ولا بالمؤمنين المخلصين. قال ابن زيد: ومعنى بَيْنَ ذلِكَ: بين الاسلام والكفر، لم يظهروا الكفر فيكونوا إِلى الكفار، ولم يصدّقوا الإِيمان، فيكونوا إِلى المؤمنين. قال ابن عباس: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إِلى الهدى. (383) وقد روى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثل المنافق: مثل الشاة العائِرة «1» بين الغنمين تُعيرُ إِلى هذه مرةً، وإِلى هذه مرة، ولا تدري أيّها تتبّع» . [سورة النساء (4) : آية 144] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ في المراد بالكافرين قولان: أحدهما: اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: المنافقون، قال الزجاج: ومعنى الآية: لا تجعلوهم بطانتكم وخاصّتكم. والسلطان: الحجة الظاهرة، وإنما قيل للأمير: سلطان، لأنه حجة الله في أرضه، واشتقاق السلطان: من السليط. والسَّليط: ما يستضاء به، ومن هذا قيل للزيت: السَّليط. والعرب تؤنِّث السلطان وتذكِّره، تقول: قضت عليك السلطان، وأمرتك السلطان، والتذكير أكثر، وبه جاء القرآن، فمن أنَّث، ذهب إِلى معنى الحجة، ومن ذكَّر، أراد صاحب السلطان. قال ابن الأنباريّ: تقدير

_ صحيح. أخرجه مسلم 2784 والنسائي 8/ 124 وأحمد 2/ 102 و 143 والرامهرمزي في «الأمثال» ص 86 من طرق عن عبد الله بن عمر.

[سورة النساء (4) : آية 145]

الآية: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم بموالاة الكافرين حجة بيِّنة تلزمكم عذابه، وتكسبكم غضبه؟ [سورة النساء (4) : آية 145] إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: بفتح الراء، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: بتسكين الراء. قال الفراء: وهي لغتان. قال أبو عبيدة: جهنم أدراك، أي: منازلٌ، وأطباق. فكل منزل منها: درك. وحكى ابن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال: الدركات: مراق، بعضها تحت بعض. وقال الضحاك: الدرج: إِذا كان بعضها فوق بعضها، والدرك: إِذا كان بعضها أسفل من بعض. وقال ابن فارس: الجنة درجات، والنار دركات. وقال ابن مسعود في هذه الآية: هم في توابيت من حديد مبهمة عليهم. قال ابن الأنباري: المبهمة: التي لا أقفال عليها، يقال: أمرٌ مبهم: إذا كان ملتبسا ولا يعرف معناه، ولا بابه. قوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً قال ابن عباس: مانعاً من عذاب الله. [سورة النساء (4) : آية 146] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قال مقاتل: سبب نزولها: أن قوماً قالوا عند ذكر مستقر المنافقين: فقد كان فلان وفلان منافقين، فتابوا، فكيف يُفْعَل بهم؟ فنزلت هذه الآية «1» . ومعنى الآية: إِلا الذين تابوا من النفاق وَأَصْلَحُوا أعمالهم بعد التوبة وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي: استمسكوا بدينه. وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه الإِسلام، وإِخلاصه: رفع الشرك عنه، قاله مقاتل. والثاني: أنه العمل، وإِخلاصه: رفع شوائِب النفاق والرياء منه، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ في «مع» قولان: أحدهما: أنها على أصلها، وهو الاقتران. وفي ماذا اقترنوا بالمؤمنين؟ فيه قولان: أحدهما: في الولاية، قاله مقاتل. والثاني: في الدين والثواب. قاله أبو سليمان. والثاني: أنها بمعنى «مِن» فتقديره: فأولئك من المؤمنين، قاله الفراء. [سورة النساء (4) : آية 147] ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ «ما» حرف استفهام، ومعناه: التقرير، أي: إِن الله لا يعذِّب الشاكر المؤمن، ومعنى الآية: ما يصنع الله بعذابكم إِن شكرتم نعمه، وآمنتم به وبرسوله. والإيمان مقدّم في المعنى وإِن أخِّر في اللفظ. وروي عن ابن عباس أن المراد بالشكر: التوحيد. قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً أي: للقليل من أعمالكم، عليما بنيّاتكم، وقيل: شاكرا، أي: قابلا.

_ (1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط، وتقدم.

[سورة النساء (4) : آية 148]

[سورة النساء (4) : آية 148] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ في سبب نزولها قولان: (384) أحدهما: أن ضيفاً تضيّف قوماً فأساؤوا قِراهُ فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصةً في أن يشكوا، قاله مجاهد. (385) والثاني: أن رجلاً نال من أبي بكر الصّدّيق والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم حاضر، فسكت عنه أبو بكر مراراً، ثم ردّ عليه، فقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر: يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئاً، حتى إِذا رددت عليه قمت؟! فقال: «إِن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه، ذهب الملك، وجاء الشيطان» فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. واختلف القراء في قراءة إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فقرأ الجمهور بضم الظاء، وكسر اللام. وقرأ عبد الله بن عمرو، والحسن، وابن المسيب، وأبو رجاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، وزيد بن أسلم، بفتحهما. فعلى قراءة الجمهور، في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إِلا أن يدعو المظلوم على مَن ظلمه، فإن الله قد أرخص له، قاله ابن عباس. والثاني: إِلا أن ينتصر المظلومُ من ظالمه، قاله الحسن، والسدي. والثالث: إِلا أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. وروى ابن جريج عنه قال: إِلا أن يجهر الضيف بذم من لم يضيفه. فأما قراءة مَن فتح الظاء، فقال ثعلب: هي مردودة على قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِلا من ظلم. وذكر الزجاج فيها قولين: أحدهما: أن المعنى: إِلا أن الظالم يجهر بالسوء ظلماً. والثاني: إِلا أن تجهروا بالسوء للظالم. فعلى هذا تكون «إِلا» في هذا المكان استثناءً منقطعاً، ومعناها: لكن المظلوم يجوز له أن يجهرَ لظالمه بالسوء. ولكن الظالم قد يجهر بالسوء. واجهروا له بالسوء. وقال ابن زيد: إِلا من ظلم، أي: أقام على النفاق، فيجهر له بالسوء حتى يَنْزِع. قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً أي: لما تجهرون به من سوء القول عَلِيماً بما تخفون. وقيل: سميعاً لقول المظلوم، عليماً بما في قلبه، فليتق الله، ولا يقل إِلا الحق. وقال الحسن: من ظُلِم، فقد رخّص له أن يدعو على ظالمه من غير أن يعتدي، مثل أن يقول: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد.

_ ضعيف، أخرجه عبد الرزاق 654 والطبري 10758 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 373 بدون إسناد والبغوي في «التفسير» 1/ 494 عن مجاهد. عزاه المصنف لمقاتل، وهو واه. وورد دون ذكر الآية ونزولها. أخرجه أبو داود 4896 عن سعيد بن المسيب مرسلا. وأخرجه برقم 4897 من طريق ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بنحوه متصلا، وإسناده حسن لأجل محمد بن عجلان. وقال المنذري في «الترغيب» 4051 رواه أبو داود هكذا مرسلا ومتصلا من طريق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بنحوه، وذكر البخاري في تاريخه أن المرسل أصح. ولفظ مرسل سعيد بن المسيب: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر فآذاه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية، فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: أوجدت علي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نزل ملك من السماء يكذّبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان» .

[سورة النساء (4) : آية 149]

[سورة النساء (4) : آية 149] إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً قال ابن عباس: يريد من أعمال البرِّ كالصيام والصدقة. وقال بعضهم: إِن تبدوا خيراً بدلاً من السوء. وأكثرهم على أن «الهاء» في تُخْفُوهُ تعود إِلى الخير. وقال بعضهم: تعود إِلى السوء. قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قال أبو سليمان: أي: لم يزل ذا عفوٍ مع قدرته، فاعفوا أنتم مع القدرة. [سورة النساء (4) : آية 150] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، كانوا يؤمنون بموسى، وعزير، والتّوراة، ويكافرون بعيسى، والإِنجيل، ومحمد، والقرآن، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، آمَن اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإِنجيل وعيسى، وآمن النصارى بالإِنجيل وعيسى، وكفروا بمحمد والقرآن، قاله قتادة. ومعنى قوله تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي: يريدون أن يفرّقوا بين الإِيمان بالله، والإِيمان برسله، ولا يصح الإِيمان به والتكذيب برسله أو ببعضهم وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أي: بين إِيمانهم ببعض الرُسُلِ، وتكذيبهم ببعض سَبِيلًا أي: مذهباً يذهبون إِليه، وقال ابن جريج: دينا يدينون به. [سورة النساء (4) : الآيات 151 الى 152] أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ذكر «الحقّ» هاهنا توكيا لكفرهم إزالةً لتَوَهُّم مَن يتوهم أن إِيمانهم ببعض الرّسل يزيل عنهم اسم الكفر. [سورة النساء (4) : آية 153] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم سألوه أن ينزِّل كتاباً عليهم خاصّة، هذا قول الحسن، وقتادة.

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 346: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن أهل التوراة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابا من السماء، آية معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها، شاهدة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصدق، آمرة لهم باتباعه.

[سورة النساء (4) : آية 154]

(386) والثاني: أن اليهود والنصارى أتوا إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: لا نُبايعك حتى تأتينا بكتابٍ من عند الله إِلى فلان أنك رسول الله، وإِلى فلان بكتاب أنك رسول الله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن جريج. (387) والثالث: أن اليهود سألوا النبيّ عليه السلام أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً كما نزلت التوراة على موسى، هذا قول القرظي، والسدي. وفي المراد بأهل الكتاب قولان: أحدهما: اليهود والنصارى. والثاني: اليهود. وفي المراد بالكتاب المنزّل من السماء قولان: أحدهما: كتاب مكتوب غير القرآن. والثاني: كتاب بتصديقه في رسالته. وقد بيّنا في البقرة معنى سؤالهم رؤية الله جهرة، واتّخاذهم العجل. والْبَيِّناتُ الآيات التي جاء بها موسى. فإن قيل: كيف قال: ثم اتخذوا العجل، و «ثم» تقتضي التراخي، والتأخر، أفكان اتخاذ العجل بعد قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً؟ فعنه أربعة أجوبة: ذكرهن ابن الأنباري. أحدهن: أن تكون «ثم» مردودة على فعلهم القديم، والمعنى: وإِذْ وَعَدْنا موسى أربعين فخالفوا أيضاً، ثم اتخذوا العجل. والثاني: أن تكون مقدمة في المعنى، مؤخّرة في اللفظ، والتقدير: فقد اتخذوا العجل، ثم سألوا موسى أكبر من ذلك، ومثله فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ «1» المعنى: فألقه إِليهم، ثم انظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم. والثالث: أن المعنى، ثم كانوا اتخذوا العجل، فأضمر الكون. والرابع: أن ثم معناها التأخير في الإِخبار، والتقديم في الفعل، كما يقول القائِل: شربت الماء، ثم أكلت الخبز، يريد: شربت الماء، ثم أخبركم أني أكلت الخبز بعد إِخباري بشرب الماء. قوله تعالى: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أي: لم نستأصل عبدة العجل. و «السلطان المبين» : الحجّة البيّنة. قال ابن عباس: اليد والعصا. وقال غيره: الآيات التّسع. [سورة النساء (4) : آية 154] وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) قوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ أي: بما أعطوا الله من العهد والميثاق: ليعملُنَّ بما في التوراة. قوله تعالى: لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ قرأ نافع: «لا تعْدُّوا» بتسكين العين وتشديد الدال، وروى عنه ورش «تَعَدُّوا» بفتح العين وتشديد الدال، وقرأ الباقون «تَعْدوا» خفيفة، وقد ذكرنا هذا وغيره في البقرة. و «الميثاق الغليظ» : العهد المؤكّد.

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبري 10776 عن ابن جريج، وهذا معضل، وما يرسله ابن جريج واه، ليس بشيء. قال الذهبي في «الميزان» 2/ 659: قال الإمام أحمد: بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة. ضعيف. أخرجه الطبري 10773 عن السدي مرسلا. وبرقم 10774 عن كعب القرظي.

[سورة النساء (4) : آية 155]

[سورة النساء (4) : آية 155] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ «ما» صلة مؤكّدة. قال الزجاج: والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم، وهو أن الله أخذ عليهم الميثاق أن يُبيّنوا ما أنزل عليهم من ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وغيره. والجالب للباء العامل فيها، وقوله تعالى: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ «1» أي: بنقضهم ميثاقهم، والأشياء التي ذكرت بعده حرّمنا عليهم. وقوله تعالى: فَبِظُلْمٍ «2» بدل من قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ. وجعل الله جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم. وقال ابن فارس: الطّبع: الختم ومن ذلك طبع الله على قلب الكافر كأنه ختم عليه حتى لا يصل إِليه هدى ولا نور فلم يوفّق لخير، والطابع: الخاتم يختم به. قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فيه قولان: أحدهما: فلا يؤمن منهم إِلا القليل، وهم عبد الله بن سلام، وأصحابه، قاله ابن عباس. والثاني: المعنى: إِيمانهم قليل، وهو قولهم: ربنا الله، قاله مجاهد. [سورة النساء (4) : آية 156] وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) قوله تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ في إِعادة ذكر الكفر فائِدة وفيها قولان: أحدهما: أنه أراد: وبكفرهم بمحمد والقرآن، قاله ابن عباس. والثاني: وبكفرهم بالمسيح، وقد بشروا به، قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما «البهتان» فهو في قول الجماعة: قذفهم مريم بالزّنى. [سورة النساء (4) : الآيات 157 الى 158] وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ قال الزجاج: أي باعترافهم بقتلهم إِيَّاه، وما قتلوه، يُعذَّبون عذابَ من قتل، لأنهم قتلوا الذي قتلوا على أنّه نبي. وفي قوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ قولان: أحدهما: أنه من قول اليهود، فيكون المعنى: أنه رسول الله على زعمه. والثاني: أنه من قول الله، لا على وجه الحكاية عنهم. قوله تعالى: وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أي: أُلقِي شبهُه على غيره. وفيمن أُلقي عليه شبهه قولان: أحدهما: أنه بعض من أراد قتله من اليهود. روى أبو صالح عن ابن عباس: أن اليهود لما اجتمعت على قتل عيسى، أدخله جبريل خوخة لها رَوزنة «3» ، ودخل وراءه رجل منهم، فألقى الله عليه شبه عيسى، فلما خرج على أصحابه، قتلوه يظنونه عيسى، ثم صلبوه، وبهذا قال مقاتل وأبو سليمان. والثاني: أنه رجُلٌ من أصحاب عيسى، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن عيسى خرج على أصحابه لما أراد الله رفعه، فقال: أيكم يُلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شابّ، فقال:

_ (1) سورة النساء: 160. (2) سورة النساء: 160. [.....] (3) الروزنة: الكوّة، وقيل: الخرق في أعلى السقف، ويقال للكوّة النافذة: الرّوزن.

[سورة النساء (4) : آية 159]

أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد القول، فقام الشاب، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد، فقال الشاب: أنا، فقال: نعم أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى، وجاء اليهود، فأخذوا الرجل، فقتلوه، ثم صلبوه «1» . وبهذا القول قال وهب بن منبه، وقتادة، والسدي. قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في المختلفين قولان: أحدهما: أنهم اليهود، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها كناية عن قتله، فاختلفوا هل قتلوه أم لا؟ وفي سبب اختلافهم في ذلك قولان: أحدهما: أنهم لما قتلوا الشخص المشبّه كان الشبه قد أُلقي على وجهه دون جسده، فقالوا: الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره، ذكره ابن السائب. والثاني: أنهم قالوا: إِن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ وإِن كان هذا صاحبنا، فأين عيسى يعنون الذي دخل في طلبه، هذا قول السدي. والثاني: أن «الهاء» كناية عن عيسى، واختلافهم فيه قول بعضهم: هو ولد زنى، وقول بعضهم، هو ساحر. والثاني: أن المختلفين النصارى، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى قتله، هل قتل أم لا؟ والثاني: أنها ترجع إِليه، هل هو إِله أم لا؟ وفي هاء «منه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى قتله. والثاني: إِلى نفسه، هل هو إِلهٌ، أم لغيرِ رشدة «2» ، أم هو ساحر؟ قوله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ قال الزجاج: «اتباع» منصوب بالاستثناء، وهو استثناء ليس من الأول. والمعنى: ما لهم به من علم إِلا أنهم يتبعون الظن، وإِن رُفع جاز على أن يجعل علمهم اتباع الظن، كما تقول العرب: تحيّتك الضّرب. قوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ في «الهاء» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الظن فيكون المعنى: وما قتلوا ظنّهم يقيناً، هذا قول ابن عباس. والثاني: أنها ترجع إِلى العلم، أي: ما قتلوا العلم به يقيناً، تقول: قتلته يقيناً، وقتلته علماً للرأي والحديث. هذا قول الفراء، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: وأصل هذا: أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة، يقول: فلم يكن علمهم بقتل المسيح علماً أحيط به، إِنما كان ظناً. والثالث: أنها ترجع إلى عيسى، فيكون المعنى: وما قتلوا عيسى حقاً، هذا قول الحسن، وقال ابن الأنباري: اليقين مؤخر في المعنى، فالتقدير: وما قتلوه، بل رفعه الله إليه يقينا. [سورة النساء (4) : آية 159] وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قال الزجاج: المعنى: وما منهم أحد إلّا ليؤمننّ

_ (1) ذكره ابن كثير في «تفسيره» 1/ 587 وقال: وكان من خبر اليهود عليهم لعائن الله وغضبه وسخطه وعقابه أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم ... وذكر القصة. وأخرجه الطبري 10784 و 10785 عن وهب بن المنبه. وبرقم 10786 و 10787 عن قتادة. وبرقم 10788 عن السدي، وليس فيهم رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. فهذه روايات عن أهل الكتاب يستأنس بها، ولا يحتجّ، فالله أعلم. (2) في «اللسان» : وهو لرشدة، وهو نقيض زنية. هذا ولد رشدة: إذا كان لنكاح صحيح.

به، ومثله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» . وفي أهل الكتاب قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: اليهود والنصارى، قاله الحسن، وعكرمة. وفي هاء «به» قولان: أحدهما: أنها راجعة إلى عيسى، قاله ابن عباس: والجمهور. والثاني: أنها راجعة إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله عكرمة. وفي هاء «موته» قولان «2» : أحدهما: أنها ترجع إِلى المؤمِن. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ليس يهودي يموتُ أبداً حتى يؤمن بعيسى، فقيل لابن عباس: إِن خرّ من فوق بيْت؟ قال: يتكلم به في الهُويِّ «3» . قال: وهي في قراءة أُبي: «قبل موتهم» ، وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يؤمن اليهودي قبل أن يموت، ولا تخرج روح النصراني حتى يشهد أن عيسى عبد. وقال عكرمة: لا تخرج روج اليهوديّ والنّصرانيّ حتى يؤمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أنها تعود إِلى عيسى، روى عطاء عن ابن عباس قال: إِذا نزل إِلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني، ولا أحدٌ يعبد غير الله إِلا اتّبعه، وصدّقه، وشهد أنه روح الله، وكلمته، وعبده

_ (1) سورة مريم: 71. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 360: وأولى الأقوال بالصواب والصحة، قول من قال: تأويل ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 590: لا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه وإنه باق حي وإنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ولهذا قال: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي بأعمالهم التي شاهدها قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض. فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام، فهذا هو الواقع، وذلك أن كل واحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك كما قال الله تعالى في أول هذه السورة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الآية وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الآيتين، وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في ردّ هذا القول حيث قال: ولو كان المراد بهذه الآية هذا لكان كل من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو بالمسيح ممن كفر بهما يكون على دينهما حينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته، فهذا ليس بجيد إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلما ألا ترى قول ابن عباس: ولو تردّى من شاهق أو ضرب سيف أو افترسه سبع فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى فالإيمان به في هذه الحال ليس بنافع ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه والله أعلم. ومن تأمل هذا جيدا وأمعن النظر اتضح له أنه هو الواقع لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى عليه السلام وبقاء حياته في السماء وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ليكذّب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتصادمت وتعاكست وتناقضت وخلت عن الحق. (3) في «اللسان» : هوى، يهوي هويّا: إذا سقط من فوق إلى أسفل.

[سورة النساء (4) : آية 160]

ونبيّه. وهذا قول قتادة، وابن زيد، وابن قتيبة، واختاره ابن جرير، وعن الحسن كالقولين وقال الزجاج: هذا بعيدٌ، لعموم قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ والذين يبقوْن حينئِذ شرذمة منهم، إِلا أن يكون المعنى: أنهم كلهم يقولون: إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجّال نؤمن به. قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال قتادة: يكون عليهم شهيداً أنه قد بلَّغ رسالات ربه، وأقرّ بالعبودية على نفسه. [سورة النساء (4) : آية 160] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا قال مقاتل: حرّم الله على أهل التوراة الربا، وأن يأكلوا أموال الناس ظلماً، ففعلوا، وصدوا عن دين الله، وعن الإِيمان بمحمد عليه السلام، فحرّم الله عليهم ما ذكر في قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «1» عقوبة لهم. قال أبو سليمان: وظلمهم: نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وما ذكر في الآيات قبلها. وقال مجاهد: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال: صدّهم أنفسهم وغيرهم عن الحق. قال ابن عباس: صدهم عن سبيل الله، يعني الإِسلام، وأكلهم أموال الناس بالباطل، أي: بالكذب على دين الله، وأخذ الرُّشى على حكم الله، وتبديل الكتاب التي أنزلها الله ليستديموا المأكل. [سورة النساء (4) : آية 161] وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا أي: أعددنا للكافرين، يعني اليهود، وقيل: إِنما قال «منهم» ، لأنه علم أنّ قوما منهم يؤمنون، فيأمنون العذاب. [سورة النساء (4) : آية 162] لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال ابن عباس: هذا استثناء لمؤمني أهل الكتاب، فأما الراسخون، فهم الثّابتون في العلم. قال أبو سليمان: وهم عبد الله بن سلام، ومَن آمَن معه، والذين آمنوا من أهل الإِنجيل ممّن قَدِمَ مع جعفر من الحبشة، والمؤمنون، يعني أصحاب رسول الله. فأما قوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ فهم القائمون بأدائها كما أُمروا. وفي نصب «المقيمين» أربعة أقوال: أحدها: أنه خطأٌ من الكاتب، وهذا قول عائشة «2» ، وروي عن عثمان بن عفان أنه قال: إِن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها «3» . وقد قرأ ابن مسعود،

_ (1) سورة الأنعام: 146. (2) خبر عائشة، أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 160- 161 والطبري 10843 من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عنها، وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن في رواية أبي معاوية عن هشام اضطراب إلى عائشة، أبو معاوية هو محمد بن حازم، ويحمل هذا على اجتهاد من عائشة رضي الله عنها، والجمهور على خلافه، وهذا إن ثبت عنها ذلك. (3) لا يصح مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 159- 160 ح 20/ 49 وابن أبي داود في «المصاحف» ص 42 كلاهما عن الزبير بن خرّيت عن عكرمة، وهذا مرسل، فهو ضعيف. وأخرجه ابن أبي داود ص 41 عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، وهذا معضل مع جهالة القرشي هذا، وكرره من وجه آخر عن قتادة، وهو مرسل ومع إرساله فيه من لم يسمّ، وكرره ص 41- 42 من وجه آخر عن قتادة عن نصر بن عاصم الليثي عن عبد الله بن خطيم عن يحيى بن يعمر عن عثمان به، وهذا إسناد ضعيف لجهالة ابن خطيم هذا، وهذه الروايات جميعا واهية لا تقوم بها حجة.

[سورة النساء (4) : آية 163]

وأُبيّ، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والجحدري: «والمقيمون الصلاة» بالواو. وقال الزجاج: قول من قال إِنه خطأ، بعيدٌ جداً، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة، والقدوة، فكيف يتركون في كتاب الله شيئاً يُصلِحُه غيرهم؟! فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم. وقال الأنباري: حديثُ عثمان لا يصح، لأنه غير متصل، ومحال أن يؤخر عثمان شيئاً فاسداً، ليُصلحه من بعده. والثاني: أنه نسقٌ على «ما» والمعنى يؤمنون بما أنزل إِليك، وبالمقيمين الصلاة، فقيل: هم الملائكة، وقيل: الأنبياء. والثالث: أنه نسقٌ على الهاء والميم من قوله مِنْهُمْ فالمعنى: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إِليك. قال الزجاج: وهذا رديء عند النحويين، لا ينسق بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إِلا في الشّعر. والرابع: أنه منصوبٌ على المدح، فالمعنى: اذكر المقيمين الصلاة، وهم المؤتون الزكاة. وأنشدوا: لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سُمُّ العُداة وآفةُ الجُزْرِ النازلين بكلِّ معترَكٍ ... والطيبون مَعاقِدَ الأُزْرِ «1» وهذا على معنى: اذكر النازلين، وهم الطيبون، ومن هذا قولك: مررت بزيد الكريمِ، إن أردت أن تخلصَه من غيره. فالخفض هو الكلام، وإِن أردت المدح والثناء، فإن شئت نصبت، فقلت: بزيد الكريمَ، كأنك قلت: اذكر الكريم، وإِن شئت رفعت على معنى: هو الكريمُ. وتقول: جاءني قومك المطعمين في المحْل، والمغيثون في الشدائِد على معنى: اذكر المطعمين، وهم المغيثون، وهذا القول اختيار الخليل، وسيبويه. فهذه الأقوال حكاها الزجاج، واختار هذا القول. [سورة النساء (4) : آية 163] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال ابن عباس: قال عدي بن زيد، وسُكين: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشرٍ من شيءٍ بعد موسى، فنزلت هذه الآية. وقد ذكرنا في «آل عمران» معنى الوحي، وذكرنا نوحا هنالك. وإِسحاق: أعجمي، وإِن وافق لفظ العربي، يقال: أسحقه الله يسحقه إِسحاقاً، ويعقوب: أعجمي. فأما اليعقوب، وهو ذكر الحجل وهي القبج «2» فعربيّ، كذلك قرأته على شيخنا أبي

_ (1) البيتان للخرنق بنت هفان من قصيدة رثت بها زوجها بشر بن عمرو بن مرثد الضبعي وابنها علقمة، وأخويها حسان وشرحبيل، ومن قتل معه من قومه. كما في «الخزانة» 2/ 301. والآفة: العلّة. والجزر: جمع جزور، وهي الناقة التي تنحر. والطيبون معاقد الأزر: من عادة العرب إذا وصفوا الرجل بطهارة الإزار وطيبه فهو إشارة وكناية عن عفة الفرج. (2) في «اللسان» : القبج: الكروان، معرّب، وهو بالفارسية كبج، والقاف والجيم لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب.

[سورة النساء (4) : آية 164]

منصور اللغوي، وأيوب: أعجمي، ويونس: اسم أعجمي. قال أبو عبيدة، يقال: يُونُس ويُونِس بضم النون وكسرها، وحكى أبو زيد الأنصاري عن العرب همزة مع الكسرة والضمّة والفتحة. وقال الفراء: يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: يؤنس بالهمز، وبعض بني عُقيل يقول: يونس بفتح النون من غير همز. والمشهور في القراءة يونُس برفع النون من غير همز. وقد قرأ ابن مسعود، وقتادة، ويحيى بن يعمر، وطلحة: يؤنس بكسر النون مهموزا. وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري: يُونَس بفتح النون من غير همز. وقرأ أبو المتوكل: يؤنس بفتح النون مهموزاً. وقرأ أبو السّماك العدوي: يونِس بكسر النون من غير همز. وقرأ عمرو بن دينار برفع النون مهموزاً. وهارون: اسمٌ أعجمي، وباقي الأنبياء قد تقدم ذكرهم. فأما الزبور، فأكثر القرّاء على فتح الزَاي، وقرأ أبو رزين، وأبو رجاء، والأعمش، وحمزة بضم الزاي. قال الزجاج: فمن فتح الزاي، أراد: كتاباً، ومن ضم، أراد: كتُباً. ومعنى ذكر «داود» أي: لا تنكروا تفضيل محمد بالقرآن، فقد أعطى الله داود الزبور. وقال أبو علي: كأنَّ حمزة جعل كتاب داود أنحاء، وجعل كلَّ نحو زبراً، ثم جمع، فقال: زُبُوراً. وقال ابن قتيبة: الزَّبُور فَعُول بمعنى مفعول، كما تقول: حلوب وركوب بمعنى: محلوب ومركوب، وهو من قولك: زبرت الكتاب أزبره زبراً: إِذا كتبته، قال: وفيه لغة أخرى: الزُبور بضم الزاي، كأنه جمع. [سورة النساء (4) : آية 164] وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً تأكيد كلّم بالمصدر يدل على أنه سمع كلام الله حقيقة. روى أبو سليمان الدمشقي، قال: سمعت إِسماعيل بن محمد الصفّار يقول: سمعت ثعلبا يقول: لولا أن الله تعالى أكّد الفعل بالمصدر، لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر: قد كلمتُ لك فلاناً، بمعنى: كتبت إِليه رقعة، أو بعثت إِليه رسولاً، فلما قال: تكليماً، لم يكن إِلا كلاماً مسموعا من الله. [سورة النساء (4) : آية 165] رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ أي: لئلا يحتجوا في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل، لأن هذه الأشياء إِنما تجب بالرّسل. [سورة النساء (4) : آية 166] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) قوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ في سبب نزولها قولان: (388) أحدهما: أن النبي عليه السلام دخل على جماعة من اليهود، فقال: «إِني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله» ، فقالوا: ما نعلم ذلك. فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. (389) والثاني: أن رؤساء أهل مكّة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: سألنا عنك اليهود، فزعموا أنّهم

_ ضعيف. أخرجه الطبري 10854 عن ابن عباس به بسند ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق. باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 375 عن الكلبي بدون إسناد، والكلبي متهم بالوضع، فخبره لا شيء، بل هو باطل، فإن سورة النساء مدنية وسؤالات أهل مكة ومجادلاتهم مكية.

[سورة النساء (4) : آية 167]

لا يعرفونك، فائتنا بمن يشهد لك أن الله بعثك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن السائب. قال الزجاج: الشاهد: المبيِّن لما يشهد به، فالله عزّ وجلّ بيَّن ذلك، ويعلم مع إِبانته أنه حق. وفي معنى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنزله وفيه علمه، قاله الزجاج. والثاني: أنزله من علمه، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والثالث: أنزله إِليك بعلمٍ منه أنك خيرته من خلقه، قاله ابن جرير. قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، فيه قولان: أحدهما: يشهدون أنَّ الله أنزله. والثاني: يشهدون بصدقك. قوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً قال الزجاج: «الباء» دخلت مؤكِّدة. والمعنى: اكتفوا بالله في شهادته. [سورة النساء (4) : آية 167] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال مقاتل وغيرُهُ: هُم اليهود كفروا بمحمد، وصدُّوا الناس عن الإِسلام. قال أبو سليمان: وكان صدُّهم عن الإِسلام قولهم للمشركين ولأتباعهم: ما نجد صفة محمد في كتابنا. [سورة النساء (4) : الآيات 168 الى 169] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا قال مقاتل وغيره: هم اليهود أيضاً كفروا بمحمد والقرآن. وفي الظلم المذكور هاهنا قولان: أحدهما: أنه الشرك، قاله مقاتل. والثاني: أنه جحدهم صفة محمّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم. قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يريد من مات منهم على الكفر. وقال أبو سليمان: لم يكن الله ليستر عليهم قَبيح فعالهم، بل يفضحهم في الدنيا، ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسّبي، وفي الآخرة بالنار وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ينجون فيه. وقال مقاتل: طريقاً إِلى الهدى وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يعني كان عذابهم على الله هيّنا. [سورة النساء (4) : آية 170] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ الكلام عامّ، وروي عن ابن عباس أنه قال: أراد المشركين. قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ أي: بالهدى، والصدق. قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ قال الزجاج عن الخليل وجميع البصريين: إنه منصوبٌ بالحمل على معناه، لأنك إِذا قلت: انته خيراً لك، وأنت تدفعه عن أمرٍ فتدخله في غيره، كان المعنى: انته وأتِ خيراً لك، وادخل في ما هو خير لك. وأنشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة: فواعديه سَرْحَتَيْ مالك ... أَوِ الرُّبا بينهما أسهلا «1»

_ (1) في «اللسان» : السّرح: شجر كبار عظام طوال، لا يرعى وإنما يستظل فيه وهو كل شجر لا شوك فيه. وقال أبو حنيفة: السرحة: دوحة محلال واسعة يحل تحتها الناس في الصيف ويبتنون تحتها البيوت.

[سورة النساء (4) : آية 171]

كأنّه قال: ائتي مكاناً أسهل. قوله تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: هو غني عنكم. وعن إِيمانكم. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بما يكون من إِيمان أو كفر حَكِيماً في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم. [سورة النساء (4) : آية 171] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران: السّيد والعاقِب ومَن معهما «1» . والجمهور على أن المراد بهذه الآية: النصارى. وقال الحسن: نزلت في اليهود والنصارى. والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد، ومنه غلا السّعر. وقال الزجاج: الغلو: مجاوزة القدر في الظلم. وغلو النصارى في عيسى: قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة. وعلى قول الحسن غلو اليهود فيه قولهم: إنه لغير رشدة «2» . وقال بعض العلماء: لا تغلوا في دينكم بالزيادة في التشدّد فيه. قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي: لا تقولوا: إِن الله له شريك أو ابن أو زوجة. وقد ذكرنا معنى «المسيح» والكلمة في (آل عمران) . وفي معنى وَرُوحٌ مِنْهُ سبعة أقوال: أحدها: أنه روح ٌمن أرواح الأبدان. قال أبيّ بن كعب: لما أخذ الله الميثاق على بني آدم كان عيسى روحاً من تلك الأرواح، فأرسله إِلى مريم، فحملت به. والثاني: أن الروح النفخ، فسُمّي روحاً، لأنه حدث عن نفخة جبريل في درع «3» مريم. ومنه قول ذي الرمّة: وَقُلتُ لهُ ارْفعهَا إِليك وأحْيِها ... بروحِك واقْتَتْه لها قيتة قدرا «4»

_ (1) ذكره الواحدي بدون سند ولا عزو لأحد في «أسباب النزول» 376 ولم يذكر فيه أسماء، وعزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 603: ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إياه فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صحيحا أو كذبا، ولهذا قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وروى أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله» وقال الحافظ ابن حجر: وقوله: «لا تطروني» ، والإطراء: المدح بالباطل، تقول: أطريت فلانا، مدحته فأفرطت في مدحه، وقوله: «كما أطرت النصارى ابن مريم» أي: في دعواهم فيه الإلهية وغير ذلك. [.....] (3) في «اللسان» درع المرأة: قميصها. (4) يأمره بالرفق والنفخ القليل شيئا فشيئا، كأنه جعل النفخ قوتا لهذه النار، يقدر لها تقديرا شيئا بعد شيء حتى تكتمل. وقالوا: «أحيها بروحك» أي أحيها بنفخك.

[سورة النساء (4) : آية 172]

هذا قول أبي رَوق. والثالث: أن معنى وَرُوحٌ مِنْهُ إِنسان حيٌ باحياء الله له. والرابع: أن الروح: الرحمة، فمعناه: ورحمة منه، ومثله وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ «1» . والخامس: أن الروح هاهنا جبريل. فالمعنى ألقاها الله إلى مريم، والذي ألقاها روحٌ منه، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو سليمان الدمشقي. والسادس: أنه سمّاه روحاً، لأنه يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح، ولهذا المعنى سمي القرآن روحاً، ذكره القاضي أبو يعلى. والسابع: أن الرّوح: الوحي أوحى إلى مريم يبشرها به، وأوحى إِلى جبريل بالنفخ في درعها، وأوحى إِلى ذات عيسى أن: كن فكان. ومثله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ «2» أي. بالوحي، ذكره الثعلبي. فأما قوله «منه» فانه إِضافة تشريفٍ، كما تقول: بيت الله، والمعنى من أمره، ومما يقاربها قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ «3» . قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ قال الزجاج: رفعه بإضمار: لا تقولوا آلهتُنا ثلاثة إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي: ما هو إِلا إِلهٌ واحد سُبْحانَهُ ومعنى «سبحانه» : تبرئته مِن أن يكون له ولد. قاله أبو سليمان: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي: قيّما على خلقه، مدبّرا لهم. [سورة النساء (4) : آية 172] لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ. (390) سبب نزولها: أن وفد نجران وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا محمد لَمْ تذكر صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى، قال: وأي شيءٍ أقول له؟ هو عبد الله، قالوا: بل هو الله، فقال: إِنه ليس بعار عليه أن يكون عبد الله، قالوا: بلى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: معنى يستنكف: يأنَف، واصله في اللغة من نكفت الدمع: إِذا نحيته باصبُعِكَ من خدّك. قال الشاعر: فبانوا فلولا ما تذكَّرُ منهم ... من الحِلْفِ لم يُنكَفْ لعينيك مَدْمعُ «4» قوله تعالى: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ قال ابن عباس: هم حملة العرش. [سورة النساء (4) : آية 173] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي: ثواب أعمالهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مضاعفة الحسنات.

_ لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 377 عن الكلبي بلا سند، والكلبي متهم.

[سورة النساء (4) : آية 174]

(391) وروى ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ قال: يدخلون الجنة وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدّنيا. [سورة النساء (4) : آية 174] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ في البُرهان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحجة، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: القرآن، قاله قتادة. والثالث: أنه النبيّ محمّد عليه السلام، قاله سفيان الثوري. فأما النور المبين، فهو القرآن، قاله قتادة، وإنما سمّاه نوراً، لأن الأحكام تبين به بيان الأشياء بالنّور. [سورة النساء (4) : آية 175] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) قوله تعالى: وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي: استمسكوا. وفي «هاء» به قولان: أحدهما: أنها تعود إلى النور وهو القرآن، قاله ابن جريج. والثاني: تعود إِلى الله تعالى، قاله مقاتل. وفي «الرحمة» قولان: أحدهما: أنها الجنة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها نفس الرحمة، والمعنى: سيرحمهم، قاله أبو سليمان. وفي «الفضل» قولان: أحدهما: أنه الرزق في الجنة، قاله مقاتل. والثاني: أنه الإِحسان، قاله أبو سليمان. قوله تعالى: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: يوفقهم لإِصابة الطريق المستقيم. وقال ابن الحَنفية: الصراط المستقيم: دين الله. [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ في سبب نزولها قولان: (392) أحدهما: أنها نزلت في جابر بن عبد الله. روى أبو الزبير عن جابر قال: مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني هو وأبو بكر وهما ماشيان فوجدني قد أغمي عليّ، فتوضّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم صبَّ علي من وَضوئه، فأفقت، وقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي تسع أخوات، ولم

_ ضعيف. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 846 والطبراني 10462 من حديث ابن مسعود، وفيه إسماعيل بن عبد الله الكندي، وهو ضعيف وقال الذهبي في «الميزان» أتى بخبر منكر. وقال ابن كثير في «تفسيره» 1/ 605: لا يثبت. وصوب الوقف فيه. والمرفوع ضعفه أيضا السيوطي في «الدر» 2/ 440 ووافقه الشوكاني وهو كما قالوا. وانظر «تفسير الشوكاني» 735 بتخريجنا. صحيح. أخرجه البخاري 194 ومسلم 1616 وأبو داود 2886 والترمذي 2098 والبيهقي 6/ 231 وأحمد 3/ 298 وأبو يعلى 2018 والطيالسي 1945 والطبري 10873 والواحدي 378 من حديث جابر.

يكن لي ولد؟ فلم يجبني بشيء، ثم خرج وتركني، ثم رجع إِليّ وقال: يا جابر لا أراك ميتاً من وجعك هذا، وإنّ الله عزّ وجلّ قد أنزل في أخواتك، وجعل لهن الثلثين، فقرأ عليَّ هذه الآية: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيَّ. والثاني: أن الصحابة أهمّهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبي الله، فنزلت هذه الآية، هذا قول قتادة «1» . (393) وقال سعيد بن المسيب: سأل عمر بن الخطّاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف نورّث الكلالة؟ فقال: «أو ليس قد بين الله ذلك، ثم قرأ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً فأنزل الله عزّ وجلّ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. قوله تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ أي: مات لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يريد: ولا والِد: فاكتفى بذكر أحدهما، ويدلُ على المحذوف أنَّ الفتيا في الكلالة، وهي مَن ليس له ولد ولا والد «2» . قوله تعالى: وَلَهُ أُخْتٌ يريد من أبيه وأُمه فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ عند انفرادها وَهُوَ يَرِثُها أي: يستغرق ميراث الأُخت إِذا لم يكن لها ولد ولا والد، وهذا هو الأخ من الأب والأم، أو من الأب فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ يعني: أُختين. وسئل الأخفش ما فائدة قوله «اثنتين» وكانَتَا لا يُفسّر إِلا باثنتين؟ فقال: أفادت العدد العاري عن الصفة، لأنه يجوز في كانَتَا صغيرتين، أو حرتين، أو صالحتين، أو طالحتين، فلما قال: اثْنَتَيْنِ فاذا اطلاق العدد على أي وصف كانتا عليه. فَلَهُمَا الثُّلُثانِ من تركة أخيهما الميت وَإِنْ كانُوا يعني المخلفين. قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا قال ابن قتيبة: لئلا تضلوا. وقال الزجاج: فيه قولان: أحدهما: أن لا تضلوا، فأضمرت لا. والثاني: كراهية أن تضلوا، وهو قول البصريين. قال ابن جريج: أن تضلوا في شأن المواريث.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 10870 عن ابن المسيب مرسلا، ولا يصح كونها نزلت بسبب سؤال عمر، فقد أخرج مسلم 1617 ما يعارضه.

سورة المائدة

سورة المائدة قال ابن عباس، والضّحّاك: هي مدنيّة. وقال مقاتل: نزلت نهارا وكلّها مدنيّة. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ: فيها من المكّي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قال: وقيل: فيها من المكّيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ والصّحيح أنّ قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت بعرفة يوم عرفة، فلهذا نسبت إلى مكة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المائدة (5) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين: أحدهما: أنهم المؤمنون من أُمتنا، وهذا قول الجمهور. والثاني: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن جريج. وبِالْعُقُودِ: العهود، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والضحاك والسدي والجماعة وقال الزجاج: «العقود» : أوكد العهود. واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال «1» : أحدها: أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحلّ وحرّم، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنها عهود الدين كلها، قاله الحسن. والثالث: أنها عهود الجاهلية، وهي الحِلْفُ الذي كان بينهم، قاله قتادة. والرابع: أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإِيمان بالنبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن جريج، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين. والخامس: أنها عقود الناس بينهم من بيع ونكاح، أو عقد الإِنسان على نفسه من نذر أو يمين، وهذا قول ابن زيد «2» .

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 388: وأولى الأقوال عندنا بالصواب، ما قاله ابن عباس، وأن معناه: أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبها عليكم، وعقدها فيما أحلّ لكم وحرّم عليكم، وألزمكم فرضه وبين لكم حدوده. (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 444- 445: ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرّم، كان حلّها محرّما لأن حلها بفعل المحرّم، وهو محرّم وإن كانت على فعل مندوب، أو ترك مكروه. وإن كانت على فعل مباح، فحلّها مباح. فإن قيل: فكيف يكون حلّها مباحا وقد قال الله تعالى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها؟ قلنا: هذا في الأيمان في العهود والمواثيق، بدليل قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، والعهد يجب الوفاء به بغير يمين، فمع اليمين أولى، فإن الله تعالى. قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. وإن كانت على فعل مكروه، أو ترك مندوب، فحلّها مندوب إليه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك» وإن كانت اليمين على فعل محرّم، أو ترك واجب فحلّها واجب، لأن حلّها بفعل الواجب، وفعل الواجب واجب.

قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ في بهيمة الأنعام ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها أجنّة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أُمهاتها إِذا ذبحت الأُمهات، قاله ابن عمر، وابن عباس. والثاني: أنها الإِبل، والبقر، والغنم، قاله الحسن، وقتادة، والسدي. وقال الربيع: هي الأنعام كلها. وقال ابن قتيبة: هي الإِبل، والبقر، والغنم، والوحوش كلها. والثالث: أنها وحش الأنعام كالظباء، وبقر الوحش، روي عن ابن عباس، وأبي صالح. وقال الفراء: بهيمة الأنعام: بقر الوحش، والظباء، والحمر الوحشيّة. قال الزجاج: وإِنما قيل لها بهيمة، لأنها أبهمت عن أن تميّز، وكل حي لا يميّز فهو بهيمة. قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ، روي عن ابن عباس أنه قال: هي الميتة وسائِر ما في القرآن تحريمه. وقال ابن الأنباري: المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ قال أبو الحسن الأخفش: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، فانتصب على الحال. وقال غيره: المعنى: أُحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلي اصطيادها، وأنتم حرم، قال الزجاج: الحرم: المحرمون، وواحد الحرم: حرام، يقال: رجل حرام، وقومٌ حرمٌ. قال الشاعر: فقلت لها فيئي إِليك فإنني ... حرامٌ وإِني بعد ذاك لبيبُ «2» أي: ملبّ. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ أي: الخلق له يحل ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد على من يريد.

_ (1) فائدة: قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 308- 310: ما ملخصه: إذا خرج الجنين ميتا من بطن أمه بعد ذبحها، أو وجد ميتا في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح، فهو حلال روي هذا عن ابن عمر وعلي وبه قال ابن المسيب والنخعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وقال ابن عمر: ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر وروي ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد والزهري والحسن وقتادة ومالك والليث، لأن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وهذا إشارة إلى جميعهم. فكان إجماعا. وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوا إلى أن جاء النعمان، فقال: لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين، ولنا «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ولأن هذا إجماع من الصحابة فمن بعدهم، فلا يعول على ما خالفه، ولأن الجنين متصل بها اتصال خلقه، يتغذى بغذائها، فتكون ذكاته ذكاتها، كأعضائها، ولأن الزكاة في الحيوان تختلف على حسب الإمكان فيه والقدرة، بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية، والجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه، فيكون ذكاة له. فصل: واستحب أبو عبد الله- الإمام أحمد بن حنبل- أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه. فصل: فإن خرج حيا حياة مستقرة، يمكن أن يذكى، فلم يذكه حتى مات فليس بذكي. قال أحمد: إن خرج حيا فلا بد من ذكاته لأنه نفس أخرى. قلت: وقال أبو يوسف ومحمد بقول الجمهور، راجع «الهداية» 9/ 508 بتخريجي. (2) البيت للمضرب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى كما في «مجاز القرآن» 1/ 145 و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي 411.

[سورة المائدة (5) : آية 2]

[سورة المائدة (5) : آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ في سبب نزولها قولان. (394) أحدهما: أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة، فدخل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إِلام تدعو؟ فقال: «إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله، وأنِّي رسولُ الله» ، فقال: إِن لي أُمراء خلفي أرجع إِليهم أشاورهم، ثم خرج، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم» ، فمر شريح بسرح لأهل المدينة، فاستاقه، فلما كان عام الحُديبية، خرج شريح إِلى مكة معتمراً، ومعه تجارة، فأراد أهل السّرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السّدّي: اسمه الحطم بن هند البكري. قال: ولما ساق السَّرح جعل يرتجز: قدْ لَفَّها الليل بسوّاقٍ حُطَم ... ليس براعي إِبل ولا غنم ولا بجزّارٍ على ظَهْرِ وضم ... باتوا نيَاما وابنُ هندٍ لم ينم بات يُقاسِيهَا غلامٌ كالزَّلَمْ ... خَدلَّجُ الساقين ممسوحُ القدم «1» (395) والثاني: أن ناساً من المشركين جاءوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلّين بعمرة، فقال المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم، فنزل قوله تعالى وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ. قال ابن قتيبة: وشعائِر الله: ما جعله الله علماً لطاعته. وفي المراد بها هنا سبعة أقوال «2» : أحدها: أنها مناسك الحج، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. وقال الفرّاء: كان عامّة العرب لا يرون الصّفا

_ أخرجه الطبري 10961 عن السدي، وهذا مرسل، وكرره 10962 عن عكرمة وعن ابن جريج ونسبه الواحدي 379 لابن عباس بدون سند، فلعل هذه المراسيل المتقدمة تتأيد بمجموعها، والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» 610 بتخريجنا. ضعيف. أخرجه الطبري 10963 عن عبد الرحمن بن زيد مرسلا.

والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بينهما، فقال الله تعالى: لا تستحلوا ترك ذلك. والثاني: أنها ما حرم الله تعالى في حال الإحرام، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: دين الله كله، قاله الحسن. والرابع: حدود الله، قاله عكرمة وعطاء. والخامس: حَرمُ الله، قاله السدي. والسادس: الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام، قاله أبو عبيدة والزجاج. والسابع: أنها أعلام الحرم، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إِذا أرادوا دخول مكة، ذكره الماوردي، والقاضي أبو يعلى. قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ قال ابن عباس: لا تُحِلُّوا القتال فيه. وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ذو القَعدة، قاله عكرمة، وقتادة. والثاني: أن المراد به الأشهر الحرم. قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كلَّ سنة فيقول: ألا إِني قد أحللت كذا، وحرّمت كذا. والثالث: أنه رجب، ذكره ابن جرير الطبري. والهدي: كل ما أهدي إِلى بيت الله تعالى من شيءٍ. وفي الْقَلائِدَ قولان: أحدهما: أنها المقلَّدات مِن الهدي، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها ما كان المشركون يقلدون به إِبلهم وأنفسهم في الجاهلية، ليأمنوا به عدوّهم، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إِلا في الأشهر الحُرُم، فمن لقوة مقلِّداً نفسه، أو بعيره، أو مشعراً بُدُنَهُ أو سائِقاً هدياً لم يُتعرض له. قال ابن عباس: كانَ مَن أراد أن يسافر في غير الأشهر الحُرُم، قلد بعيره من الشعر والوبر، فيأمَن حيثُ ذهب. (396) وروى مالك بن مِغوَل عن عطاء قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، فيأمنون به إِذا خرجوا من الحرم، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إِذا خرج من بيته يريد الحج تقلّد من السَّمُرِ، فلم يَعرِض له أحد، وإِذا رجع تقلَّد قلادة شعر، فلم يعرض له أحد. وقال الفراء: كان أهل مكة يُقلّدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يُقلّدون بالوبر والشعر. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال «1» : أحدها: لا تستحلّوا المقلَّدات من الهدي. والثاني: لا تستحلوا أصحاب القلائد. والثالث: أن هذا نهيٌ للمؤمنين أن ينزعوا شيئاً من شجر الحرم، فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم، رواه عبد الملك عن عطاء، وبه قال مطرف، والربيع بن أنس. قوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ «الآمّ» : القاصد، و «البيت الحرام» : الكعبة، والفضل: الربح في التجارة، والرضوان من الله يطلبونه في حجّهم على زعمهم. ومثله قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي «2» ، وقيل: ابتغاء الفضل عام، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصّة.

_ أخرجه الطبري 10954 عن عطاء مرسلا، وكرره 10953 من مرسل قتادة.

قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا لفظُه لفظُ الأمر، ومعناه الإِباحة، نظيره فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «1» وهو يدلُ على إِحرامٍ متقدّم. قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ وروى الوليد عن يعقوب «يجرمنْكم» بسكون النون، وتخفيفها. قال ابن عباس: لا يحملنّكم، قال غيره: لا يدخلنكم في الجُرم، كما تقول: آثمتُه أي: أدخلته في الإثم، وقال ابن قتيبة: لا يكسبنكم يقال: فلان جارمُ أهله، أي: كاسُبهم، وكذلك جريمتهم. وقال الهُذلي: ووصف عقاباً: جريمةَ ناهضٍ في رأس نِيْقٍ ... تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَليبا «2» والناهض: فرخها، يقول: هي تكسب له، وتأتيه بقوته. و «الشنآن» البغض، يقال: شنئته أشنؤه: إِذا أبغضته. وقال ابن الأنباري: «الشنآن» : البغض، و «الشنآن» بتسكين النون: البغيض. واختلف القراء في نون الشنآن، فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بتحريكها، وأسكنها ابن عامر، وروى حفص عن عاصم تحريكها، وأبو بكر عنه تسكينها، وكذلك اختُلف عن نافع. قال أبو علي: «الشَّنآن» ، قد جاء وصفاً، وقد جاء اسماً، فمن حرّك، فلأنه مصدر، والمصدر يكثر على فَعَلان، نحو النَّزَوان، ومن سكَّن. قال: هو مصدر، وقد جاء المصدر على فَعْلان، تقول: لويته دينَه لَيَّانًا، فالمعنى في القراءتين واحد، وإِن اختلف اللفظان. واختلفوا في قوله تعالى: أَنْ صَدُّوكُمْ فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح جعل الصّد ماضياً، فيكون المعنى من أجل أن صدوكم، ومن كسرها، جعلها للشرط، فيكون الصّد مترقَّباً. قال أبو الحسن الأخفش: وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر، كقوله تعالى: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ «3» وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت، وأنشد أبو علي الفارسي: إِذا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْني لئيمةٌ ... وَلَمْ تَجِدي من أن تُقِرِّي بها بُدّا فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء، والجزاء إِنما يكون بالمستقبل فيكون المعنى إِن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة. قال ابن جرير: وقراءة مَن فتح الألف أبيَن، لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية، وقد كان الصدّ تقدّم. فعلى هذا في معنى الكلام قولان: أحدهما: ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه، فتقاتلوهم، وتأخذوا أموالهم إِذا دخلتموه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لا يحملنكم بغض أهل مكة، وصدّهم إِياكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين، على ما سبق في نزول الآية. قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى قال الفراء: لِيُعِن بعضكم بعضاً. قال ابن عباس: البرّ ما

_ (1) سورة الجمعة: 10. (2) الصليب: الودك. وقد تقدم وقال ابن فارس: يقال جرم وأجرم ولا جرم بمنزلة قولك لا بد ولا محالة وأصلها من جرم أي اكتسب. انظر «تفسير القرطبي» 6/ 44. (3) سورة يوسف: 77.

[سورة المائدة (5) : آية 3]

أُمرت به، و «التقوى» : ترك ما نُهيت عنه. فأمّا «الإثم» فالمعاصي. والعدوان: التّعدّي في حدود الله، قاله عطاء. فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها محكمة، روي عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شيء، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا: ولا يجوز استحلال الشعائر، ولا الهدي قبل أوان ذبحه، واختلفوا في «القلائد» فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر، وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلِّد من شجر الحرم، فقيل لهم: لا تستحلُّوا أخذ القلائد من الحرم، ولا تصدوا القاصدين إِلى البيت. والثاني: أنها منسوخة، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال: أحدها: أن جميعها منسوخ، وهو قول الشعبي. والثاني: أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلِّدون هداياهم، ويظهرون شعائِر الحج من الاحرام والتلبية، فنُهي المسلمون بهذه الآية عن التعرّض لهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» وهذا قول الأكثرين. والثالث: أن الذي نُسخ قوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ نسخه قوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «2» روي عن ابن عباس، وقتادة. والرابع: أن المنسوخ منها: تحريم الشهر الحرام، وآمّون البيت الحرام: إِذا كانوا مشركين، وهدي المشركين. إِذا لم يكن لهم من المسلمين أمان، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. [سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ مفسّرٌ في «البقرة» ، فأمّا وَالْمُنْخَنِقَةُ فقال ابن عباس: هي التي تختنق فتموت، وقال الحسن، وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره. قلت: والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك، قال ابن قتيبة: وَالْمَوْقُوذَةُ: التي تُضرب حتى توقَذ، أي: تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة، ومنه يقال: فلان وقيذ، وقد وقذته العبادة. و «المتردّية» : الواقعة من جبل أو حائط، أو في بئر، يقال: تردى: إِذا سقط. وَالنَّطِيحَةُ: التي تنطحها شاة أخرى أو بقرة، «فعيلة» في معنى «مفعولة» وَما أَكَلَ السَّبُعُ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وابن أبي ليلى: السَّبع: بسكون الباء. والمراد: ما افترسه فأكل بعضه إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي: إِلا ما لحقتم من هذا كله وبه حياة، فذبحتموه «3» . فأما الاستثناء، ففيه قولان: أحدهما: أنه يرجع إِلى المذكور من عند قوله تعالى:

_ (1) سورة التوبة: 5. (2) سورة التوبة: 38. (3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 291: «مسألة: وإذا ندّ بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه فقتله أكل» . قال: وكذلك إذا تردى في بئر فلم يقدر على تذكيته، فجرحه في أي موضع قدر عليه، فقتله أكل، إلا أن تكون رأسه في الماء فلا يؤكل، لأن الماء يعين على قتله، هذا قول أكثر الفقهاء، روي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة، وبه قال مسروق والأسود والحسن وعطاء وطاوس وإسحاق والشعبي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور. وقال مالك: لا يجوز أكله إلا أن يذكّى. وهو قول ربيعة والليث. قال أحمد: لعل مالكا لم يسمع حديث رافع بن خديج اه باختصار.

وَالْمُنْخَنِقَةُ. والثاني: أنه يرجع إِلى ما أكل السبع خاصة، والعلماء على الأول. فصل في الذكاة: قال الزجاج: أصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، فمنه الذكاء في السن، وهو تمام السِّن. قال الخليل: الذكاء: أن تأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة، ومنه الذكاء في الفهم، وهو أن يكون فهماً تاماً، سريع القبول. وذكّيت النار، أي: أتممت إِشعالها. وقد روي عن عليّ، وابن عباس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: ما أدركت ذكاته بأن توجد له عينٌ تَطْرِف أو ذنب يتحرك، فأكله حلالٌ. قال القاضي أبو يعلى: ومذهب أصحابنا أنه إِن كان يعيش مع ما به، حل بالذبح، فان كان لا يعيش مع ما به، نظرت، فان لم تكن حياته مستقرّة، وإِنما حركته حركة المذبوح، مثل أن شُقَّ جوفه، وأُبينت حشوته، فانفصلت عنه، لم يحل أكله، وإِن كانت حياته مستقرة يعيش اليوم واليومين، مثل أن يشق جوفه، ولم تقطع الأمعاء، حل أكله. ومن الناس من يقول: إِذا كانت فيه حياة في الجملة أُبيح بالذكاة، والصحيح ما ذكرنا، لأنه إِذا لم تكن فيه حياة مستقرة، فهو في حكم الميت. ألا ترى أن رجلاً لو قطع حُشْوَةَ آدمي، ثم ضرب عنقه آخر، فالأول هو القاتل، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول. وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان «1» : إِحداهما: أنه الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء، فإن نقص من ذلك شيئاً لم يؤكل، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله. والثانية: يجزئ قطع الحلقوم والمريء، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وقال مالك: يجزئ قطع الأوداج، وإِن لم يقطع الحلقوم. وقال الزجاج: الحلقوم بعد الفم، وهو موضع النفَس، وفيه شعب تتشعب منه في الرئة.

_ (1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 303- 308: يعتبر قطع الحلقوم والمريء وبهذا قال الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين وبه قال مالك وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة: يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين ولا خلاف أن الأكمل قطع الأربعة: الحلقوم والمريء والودجين اه ملخصا. ويسنّ الذبح بسكين حادّ، ويكره أن يسنّ السكين والحيوان يبصره ويكره أن يذبح شاة وأخرى تنظر إليه، ويستحب أن يستقبل القبلة. وإذا ذبح فأتى على المقاتل، فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. يعني وطئ عليها شيء يقتلها مثله غالبا. وقال أصحابنا المتأخرين: لا يحرم بذلك وهو قول أكثر الفقهاء، لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت، وكذلك لو أبين رأسها بعد الذّبح، لم تحرم. وإذا ذبحها من قفاها، وهو مخطئ، فأتت السكين على موضع ذبحها، وهي في الحياة أكلت. قال القاضي: معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه، فتأتي السكين على القفا، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها في محل ذبحها، فسقط اعتبار المحل. وقد روي أن الفضل بن زياد قال: سألت أبا عبد الله عن من ذبح في القفا؟ قال: عامدا أو غير عامد؟ قلت: عامدا. قال: لا تؤكل، فإذا كان غير عامد، كأنه التوى عليه، فلا بأس. ومن ذبحها من قفاها اختيارا. لا تؤكل. وقال القاضي: إن بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء، حلّت وإلا فلا. وهذا مذهب الشافعي. وهذا أصح. لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحلّه. ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلّت بذلك.

والمريء: مجرى الطعام، والودجان: عرقان يقطعهما الذابح. فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة، فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر، سواء كانا منزوعين أو غير منزوعين. وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين. فأما البعير إِذا توحش أو تردى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره. وقال مالك: ذكاته ذكاة المقدور عليه. فإن رمى صيداً فأبان بعضه وفيه حياة مستقرة فذكّاه، أو تركه حتى مات جاز أكله، وفي أكل ما بان منه روايتان. قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ في النصب قولان: أحدهما: أنها أصنام تنصب، فتُعبد من دون الله، قاله ابن عباس، والفراء، والزجاج، فعلى هذا القول يكون المعنى، وما ذبح على اسم النُّصب، وقيل لأجلها، فتكون «على» بمعنى «اللام» ، وهما يتعاقبان في الكلام، كقوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ «1» أي: عليك، وقوله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «2» . والثاني: أنها حجارة كانوا يذبحون عليها، ويشرِّحون اللحم عليها ويعظمونها، وهو قول ابن جريج. وقرأ الحسن، وخارجة عن أبي عمرو: على النَّصْب، بفتح النون، وسكون الصاد، قال ابن قتيبة، يقال: نُصُبٌ ونُصْبُ ونَصْبٌ، وجمعه أنصاب. قوله تعالى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قال ابن جرير: أي: وأن تطلبوا عِلم ما قُسم لكم، أو لم يقسم بالأزلام، واستفعلت من القسم، قسم الرزق والحاجات. قال ابن قتيبة: الأزلام: القداح، واحدها: زَلَم وزُلَم. والاستقسام بها: أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمرٍ أو نهي، فكانوا إِذا أرادوا أن يقتسموا شيئاً بينهم، فأحبُّوا أن يعرفوا قسم كل امرئٍ تعرفوا ذلك منها، فأخِذ الاستقسام من القِسم وهو النصيب. قال سعيد بن جبير: الأَزلام: حصى بيض، كانوا إِذا أرادوا غدواً، أو رواحاً، كتبوا في قدحين، في أحدهما: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ربي، ثم يضربون بهما، فأيهما خرج، عملوا به. وقال مجاهد: الأزلام: سهام العرب، وكعاب «3» فارس التي يتقامرون بها. وقال السدي: كانت الأزلام تكون عند الكهنة. وقال مقاتل: في بيت الأصنام. وقال قوم: كانت عند سدنة الكعبة. قال الزجاج: ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، أو اخرج من أجل نجم كذا. قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ في المشار إِليه بذلكم قولان: أحدهما: أنه جميع ما ذكر في الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أنه الاستقسام بالأزلام، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والفسق: الخروج عن طاعة الله إِلى معصيته. قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ في هذا «اليوم» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكة في حجة الوداع، قاله أبو صالح عن ابن عباس «4» . وقال ابن السائب: نزلت ذلك اليوم. والثاني: أنه يوم عرفة، قاله مجاهد، وابن زيد.

_ (1) سورة الواقعة: 91. (2) سورة الإسراء: 7. (3) في اللسان الكعاب: فصوص النّرد. واللعب بها حرام. (4) لا يصح عن ابن عباس، فهو من رواية أبي صالح، وهو غير ثقة في ابن عباس، وراوية أبي صالح هو محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.

والثالث: أنه لم يرد يوماً بعينه، وإِنما المعنى: الآن يئسوا، كما تقول: أنا اليوم قد كبرت، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي، فيقولون: قد كنت في غفلة، فاليوم استيقظت، يريدون: فالآن، ويقولون: كان فلان يزورنا، وهو اليوم يجفونا، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد. قال الشاعر: فيومٌ علينا ويوم لنا ... ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر «1» أراد: فزمان لنا، وزمان علينا، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إِليه غيره. وفي معنى يأسهم قولان: أحدهما: أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: يئسوا من بطلان الإِسلام، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وإِنما يئسوا من إِبطال دينهم لما نقل الله خوف المسلمين إِليهم. وأمنهم إِلى المسلمين، فعلموا أنهم لا يقدرون على إِبطال دينهم، ولا على استئصالهم، وإِنما قاتلوهم بعد ذلك ظناً منهم أن كفرهم يبقى. قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ قال ابن جريج: لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، وقال ابن السائب: لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم، واخشوني في مخالفة أمري. قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. (397) روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إِلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إِنكم تقرؤون آيةً من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأيّ آية هي؟ قال: قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فقال عمر: إِني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة. وفي لفظ «نزلت عشيّة عرفة» قال سعيد بن جبير: عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك أحداً وثمانين يوماً «2» . فأما قوله تعالى: الْيَوْمَ ففيه قولان: أحدهما: أنه يوم عرفة، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه ليس بيوم معيّن، رواه عطيّة عن ابن عباس، وقد ذكرنا هذا آنفاً. وفي معنى إِكمال الدين خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه إِكمال فرائضه وحدوده، ولم ينزل بعد هذه

_ صحيح. أخرجه البخاري 45 و 4407 و 4606 و 7268 ومسلم 3017 والترمذي 3043 والنسائي 8/ 114 وأحمد 1/ 28 والطبري 11098 و 11099 عن طارق بن شهاب عن عمر به.

[سورة المائدة (5) : آية 4]

الآية تحليل ولا تحريم، قاله ابن عباس، والسُدّي، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم شرائِع دينكم. والثاني: أنه بنفي المشركين عن البيت، فلم يحج معهم مشرك عامئذ، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. وقال الشعبي: كمال الدين هاهنا: عزه وظهوره، وذلّ الشّرك ودروسه، لا تكامل الفرائض والسّنن، لأنّها لم تزل تنزل إِلى أن قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم نصر دينكم. والثالث: أنه رفع النسخ عنه. وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قُبض، روي عن ابن جبير أيضاً. والرابع: أنه زوال الخوف من العدو، والظهور عليهم، قاله الزجاج. والخامس: أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها، كما نسخ بها ما تقدمها. وفي إِتمام النعمة ثلاثة أقوال: أحدها: منع المشركين من الحج معهم، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة. والثاني: الهداية إِلى الإيمان، قاله ابن زيد. والثالث: الإِظهار على العدو، قاله السدي. قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ أي: دعته الضرورة إِلى أكل ما حرُم عليه. فِي مَخْمَصَةٍ أي: مجاعة، والخمص: الجوع. قال الشاعر يذم رجلاً: يَرَى الخمْصَ تعذيباً وإِن يلق شَبْعَةً ... يَبِتْ قلبُه من قِلَّة الهمِّ مُبْهما «1» وهذا الكلامُ يرجع إِلى المحرمات المتقدّمة من الميتة والدم، وما ذكر معهما. قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ قال ابن قتيبة: غير مائل إلى ذلك، و «الجنف» : الميل. وقال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: غير متعمد لإِثم. وفي معنى «تجانف الإِثم» قولان: أحدهما: أن يتناول منه بعد زوال الضرورة، روي عن ابن عباس في آخرين. والثاني: أن يتعرّض لمعصية في مقصده، قاله قتادة. وقال مجاهد: من بغى وخرج في معصية، حرم عليه أكله. قال القاضي أبو يعلى: وهذا أصح من القول الأول، لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار، وذلك إنما يصحّ في سفر العاصي، ولا يصح حمله على تناول الزِّيادة على سد الرّمق، لأن الاضطرار قد زال. قال أبو سليمان: ومعنى الآية: فمن اضطر فأكله غير متجانف لإِثم، فإن الله غفور، أي: متجاوز عنه، رحيم إِذْ أحل ذلك للمضطر. [سورة المائدة (5) : آية 4] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ في سبب نزولها قولان: (398) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما أمر بقتل الكلاب، قال الناس: يا رسول الله ماذا أحلّ لنا من

_ ضعيف، أخرجه الحاكم 2/ 311 والطبري 11137 والطبراني 971 و 972 والواحدي في «الأسباب» 383 من حديث أبي رافع وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» 6096 والوهن في هذا الحديث ذكر جبريل عليه السلام، أما الأمر بقتل الكلاب ونزول الآية، فقد ورد من وجه آخر عن ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع عن أبي رافع، ورجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن إسحاق، وله شاهد من مرسل عكرمة أخرجه الطبري 11138 ومن مرسل محمد بن كعب برقم 11139، وقد صح لفظ «لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» فهذا أخرجه مسلم 2105، وليس فيه ذكر الآية والأمر بقتل الكلاب، وانظر «تفسير الشوكاني» 769 و «أحكام القرآن» 621 بتخريجي.

هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية، أخرجه أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي رافع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. (399) وكان السبب في أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأذن له، فلم يدخل وقال: «إِنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة» ، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. (400) والثاني: أن عدي بن حاتم، وزيد الخيل الذي سمّاه رسول الله: زيد الخير، قالا: يا رسول الله إِنا قومٌ نصيد بالكلاب والبُزاة «1» ، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما لا ندرك ذكاته، وقد حرّم الله الميتة، فماذا يحلُّ لنا منها؟ فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير. قال الزجاج: ومعنى الكلام: يسألونك أي شيء أُحل لهم؟ قل: أُحلّ لكم الطيبات، وأُحل لكم صيد ما علّمتم من الجوارح، والتأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم، لأن في الكلام دليلاً عليه. وفي الطيبات قولان: أحدهما: أنها المباح من الذبائح. والثاني: أنها ما استطابته العربُ مما لم يحرّم. فأما الْجَوارِحِ فهي ما صيد به من سباع البهائم والطير، كالكلب، والفهد، والصقر والبازي، ونحو ذلك مما يقبل التعليم «2» . قال ابن عباس: كل شيءٍ صاد فهو جارح. وفي تسميتها بالجوارح قولان: أحدهما: لكسب أهلها بها. قال ابن قتيبة: أصل الاجتراح: الاكتساب، يقال: امرأة لا جارح لها، أي: لا كاسب. والثاني: لأنها تجرح ما تصيد في الغالب، ذكره الماوردي. قال أبو سليمان الدمشقي: وعلامة التعليم أنك إِذا دعوته أجاب، وإذا أسّدته على الصيد استأسد، ومضى في طلبه، وإِذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه. وعلامة إِمساكه عليك: أن لا يأكل منه شيئاً، هذا في السباع والكلاب «3» ، فأما تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع، لأن الطائر إِنما يُعلّم الصيد بالأكل،

_ هو بعض المتقدم، وقوله «إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» دون باقي الخبر، متفق عليه، وسيأتي. أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في ابن كثير 2/ 22، وهو مرسل، ومع إرساله، فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وعطاء بن دينار روايته عن سعيد بن جبير صحيفة. وذكره الواحدي في أسبابه 384 بدون إسناد عن سعيد بن جبير. وله شاهد مرسل، أخرجه الطبري 4227 من حديث جابر وإسناده ضعيف. فيه أشعث بن سوّار، ضعيف والحسن لم يسمع من جابر. وقد أخرجه عبد الرزاق 2656 بإسناد على شرط مسلم عن جابر موقوفا وهو الصواب وورد عن جماعة من الصحابة. والإجماع منعقد على ذلك. وانظر «تفسير الشوكاني» 770 و 771 بتخريجنا.

والفهد، والكلب، وما أشبههما يعلمون بترك الأكل، فهذا فرق ما بينهما. وفي قوله تعالى: مُكَلِّبِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أصحاب الكلاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والسدي، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة. قال الزجاج: يقال: رجل مكلّب وكلاّبي، أي: صاحب صيد بالكلاب. والثاني: أن معنى مُكَلِّبِينَ: مُصرّين على الصيد، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثالث: ان مُكَلِّبِينَ بمعنى: معلمين. قال أبو سليمان الدمشقي: وإِنما قيل لهم: مكلبين، لأن الغالب من صيدهم إِنما يكون بالكلاب. قال ثعلب: وقرأ الحسن، وأبو رزين: مُكْلِبين، بسكون الكاف، يقال: أكلب الرجل: إِذا كثرت كلابه، وأمشى: إِذا كثرت ماشيته، والعرب تدعو الصائد مكلّبا. قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ قال سعيد بن جبير: تؤدّبونهن لطلب الصيد. وقال الفراء: تؤدّبونهن أن لا يأكلن صيدهن. واختلفوا هل إِمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شرط في كل الجوارح، فان أكلت، لم يؤكل، روي عن ابن عباس، وعطاء. والثاني: أنه ليس بشرط في الكل، ويؤكل وإِن أكلت، روي عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبي هريرة، وسلمان الفارسي. والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم، وليس بشرط في جوارح الطير، وبه قال الشعبي، والنخعي، والسدي، وهو أصح لما بيّنا أن جارح الطير يعلم على الأكل، فأبيح ما أكل منه، وسباع البهائم تعلم على ترك الأكل، فأبيح ما أكلت منه. فعلى هذا إِذا أكل الكلب والفهد من الصيد، لم يبحْ أكله. فأما ما أكل منه الصقر والبازي، فمباح، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، وقال مالك: يباح أكل ما أكل منه الكلب، والفهد، والصقر، فإن قتل الكلب، ولم يأكل، أُبيح. وقال أبو حنيفة: لا يباح، فان أدرك الصيد، وفيه حياة، فمات قبل أن يذكيه، فإن كان ذلك قبل القدرة على ذكاته أُبيح، وإِن أمكنه فلم يذكّه، لم يبحْ، وبه قال مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يباح في الموضعين. فأما الصيد بكلب المجوسي، فروي عن أحمد أنه لا يكره، وهو قول الأكثرين، وروي عنه الكراهة، وهو قول الثوري لقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ وهذا خطاب للمؤمنين «1» . قال القاضي أبو يعلى: ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود، وإِن كان معلماً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتله،

_ (1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 272: وإن صاد المسلم، بكلب مجوسيّ فقتل، حلّ صيده. وبهذا قال سعيد بن المسيّب، والحكم، ومالك والشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي. وعن أحمد: لا يباح. وكرهه جابر والحسن، ومجاهد، والنخعي، والثوري لقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ. وهذا لم يعلّمه. ولنا، أنه آلة صاد بها المسلم، فحلّ صيده، كالقوس والسهم. قال ابن المسيّب: هو بمنزلة شفرته. والآية دلّت على إباحة الصيد بما علمناه وما علمه غيرنا، فهو في معناه، فيثبت الحكم بالقياس الذي ذكرناه، يحققه أن التعليم إنما أثر في جعله آلة، ولا تشترط الأهلية في ذلك كعمل القوس والسهم. وإنما يشترط إرسال الآية من الكلب والسهم، وقد وجد هاهنا.

[سورة المائدة (5) : آية 5]

والأمر بالقتل: يمنع ثبوت اليد، ويبطل حكم الفعل، فيصير وجوده كالعدم، فلا يباح صيده «1» . قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ قال الأخفس: «من» زائدة كقوله تعالى: فِيها مِنْ بَرَدٍ «2» . قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الإِرسال، قاله ابن عباس، والسدي، وعندنا أن التسمية شرط في إِباحة الصيد «3» . والثاني: ترجع إِلى الأكل فتكون التسمية مستحبّة. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قال سعيد بن جبير: لا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه. [سورة المائدة (5) : آية 5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) قوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية، ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ، وفي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وقيل: ليس بيوم معيّن، وقد سبق الكلام في «الطيبات» وإنما كرّر إِحلالها تأكيداً. فأما أهل الكتاب، فهم اليهود والنّصارى. وطعامهم: ذبائحهم،

_ (1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 267: ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود، إذا كان بهيما لأنه شيطان. قال أحمد: الذي ليس فيه بياض وممن كره صيده الحسن، والنخعي، وقتادة، وإسحاق. قال أحمد: ما أعرف أحدا يرخّص فيه. يعني من السلف. وأباح صيده أبو حنيفة ومالك والشافعي، لعموم الآية والخبر، والقياس على غيره من الكلاب. ولنا، أنه كلب يحرم اقتناؤه، ويجب قتله، فلم يبح صيده كغير المعلّم، ودليل تحريم اقتنائه ما روى مسلم في «صحيحه» بإسناده عن عبد الله بن المغفّل، قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب، ثم نهى عن قتلها، فقال: «عليكم بالأسود البهيم، ذي النكتتين، فإنه شيطان» . فالنبي سماه شيطانا، ولا يجوز اقتناء الشيطان. وإباحة الصيد المقتول رخصة، فلا تستباح بمحرّم كسائر الرّخص. (2) سورة النور: 43. (3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 257- 265: مسألة، قال أبو القاسم، رحمه الله «وإذا سمّى وأرسل كلبه أو فهده المعلّم، واصطاد، وقتل، ولم يأكل منه، جاز أكله فاشترط في إباحة ما قتله الجارح شروط منها. أن يسمّي عند إرسال الجارح، فإن ترك التسمية عمدا أو سهوا لم يبح هذا تحقيق المذهب وهو قول الشعبي وأبي ثور، وعن أحمد أن التسمية تشترط في إرسال الكلب في العمد والنسيان، ولا يلزم ذلك في إرسال السهم. وممن أباح متروك التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة ومالك، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» . وقال الشافعي: يباح متروك التسمية عمدا أو سهوا لأن البراء روى، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم يذبح على اسم الله، سمّى أو لم يسمّ» . وعن أحمد رواية أخرى مثل هذا. ولنا قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أرسلت كلبك، وسمّيت، فكل» ، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: «لا تأكل، فإنك إنما سمّيت على كلبك ولم تسمّ على الآخر» متفق عليه. وحديث أبي ثعلبة، فهذه نصوص صحيحة لا يعرّج على ما خالفها. وأما أحاديث الشافعي، وإن صحت فهي في الذبيحة، ولا يصح قياس الصيد عليها، والتسمية المعتبرة «بسم الله» وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا ذبح قال: «بسم الله والله أكبر» . وجاء في تفسير قوله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ لا أذكر إلا ذكرت معي. ولنا، قوله صلّى الله عليه وسلّم: «موطنان لا أذكر فيهما، عند الذبيحة، والعطاس» رواه أبو محمد الخلّال بإسناده.

هذا قول ابن عباس، والجماعة. وإِنما أريد بها الذبائح خاصّة، لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن توَّلاه من مجوسي وكتابي، وإِنما الذكاة تختلف، فلما خصّ أهل الكتاب بذلك، دل على أن المراد الذبائح، فأما ذبائح المجوس، فأجمعوا على تحريمها. واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان «1» ، فروي عن ابن عباس أنه سُئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا بأس بها، وتلا قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وهذا قول الحسن، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعكرمة، وقتادة، والزهري، والحكم، وحماد. وقد روي عن علي، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل. ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين. إِحداهما: تباح ذبائحهم، وهو قول أبي حنيفة، ومالك. والثانية: لا تباح. وقال الشافعي: من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن، لم يبح أكل ذبيحته. قوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي: وذبائحكم لهم حلال، فاذا اشتروا منا شيئاً كان الثمن لنا حلالاً، واللحم لهم حلالاً. قال الزجاج. والمعنى: أُحل لكم أن تطعموهم. فصل: وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إِباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً وإِن ذكروا غير اسم الله عليها، فكان هذا ناسخاً لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ «2» والصحيح أنها أطلقت إِباحة ذبائحهم، لأن الأصل أنهم يذكرون الله فيُحمل أمرهم على هذا. فإن تيقنّا أنهم ذكروا غيره فلا نأكل ولا وجه للنسخ، وإِلى هذا الذي قلته ذهب علي، وابن عمر، وعبادة، وأبو الدرداء، والحسن في جماعة.

_ (1) فائدة: قال الإمام الخرقي في «المختصر» مسألة: وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال إذا سموا، أو نسوا التسمية» قال الإمام الموفق في «شرحه» : وجملة ذلك أن كل من أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب إذا ذبح حل أكل ذبيحته رجلا كان أو امرأة، بالغا أو صبيا، حرا أو عبدا، لا نعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي. ويشترط أن يكون عاقلا، فإن كان طفلا أو مجنونا أو سكران لا يعقل، لم يصح منه الذبح، وبهذا قال مالك، وقال الشافعي: لا يعتبر القول. ولنا أن الذكاة يعتبر لها القصد، فيعتبر لها العقل كالعبادة. فإن من لا عقل له، لا يصح منه القصد، فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها. قال: والتسمية مشترطة في كل ذابح مع العمد سواء كان مسلما أو كتابيا، فإن ترك الكتابي التسمية عن عمد، أو ذكر اسم غير الله، لم تحل ذبيحته، روي ذلك عن علي، وبه قال النخعي والشافعي وحماد وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال عطاء ومجاهد ومكحول: إذا ذبح النصراني باسم المسيح حلّ، فإن الله تعالى أحل لنا ذبيحته، وقد علم أنه سيقول ذلك. اه ملخصا 13، 311- 312. وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : وذبيحة المسلم والكتابي حلال. ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط، وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة، أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية والذبيحة لا تحل، لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد، والأقلف والمختون سواء، وإطلاق اسم الكتابي ينتظم: الكتابي والذمي والحربي والعربي والتغلبي. ولا تؤكل ذبيحة المجوسي والمرتد والوثني والمحرم، وكذا لا يؤكل ما ذبح من الصيد في الحرم، وإن ترك التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل، وإن تركها ناسيا أكل وقال الشافعي: أكل في الوجهين. وقال مالك: لا يؤكل في الوجهين والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء اه ملخصا «فتح القدير شرح الهداية» 9/ 497- 499 بتخريجي. (2) سورة الأنعام: 121.

قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ فيهن قولان: أحدهما: العفائف، قاله ابن عباس. والثاني: الحرائِر، قاله مجاهد. وفي قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قولان: أحدهما: الحرائِر أيضاً، قاله ابن عباس. والثاني: العفائِف، قاله الحسن، والشعبي، والنخعي، والضحاك والسدي، فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرّة منهن والأمة. فصل: وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية. وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائِلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية. وعن طلحة بن عبيد الله: أنه تزوج يهودية. وقد روي عن عمر، وابن عمر كراهة ذلك. واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية، فقال ابن عباس: لا تحل، والجمهور على خلافه، وإِنما كرهوا ذلك، لقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» ، والنكاح يوجب الود. واختلفوا في نكاح نساء تغلب، فروي عن عليّ رضي الله عنه الحظر، وبه قال جابر بن زيد، والنخعي، وروي عن ابن عباس الإباحة. وعن أحمد روايتان. واختلفوا في إماء أهل الكتاب، فروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد: أنه لا يجوز نكاحهن، وبه قال الأوزاعي، ومالك، واللّيث بن سعد، والشافعي، وأصحابنا، وروي عن الشعبي، وأبي ميسرة جواز ذلك، وبه قال أبو حنيفة. فأما المجوس، فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب، وقد شذّ من قال: إِنهم أهل كتاب. (401) ويبطل قولهم قولُه عليه السلام: «سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب» . فأما «الأجور» ، و «الإحصان» ، و «السّفاح» ، و «الأخذان» فقد سبق في سورة النساء. قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. (402) سبب نزول هذا الكلام: أن الله تعالى لما رخَّص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن الله تعالى قد رضي علينا، لم يبح للمؤمنين تزويجنا، وقال المسلمون: كيف يتزوّج الرجل منا الكتابية، وليست على ديننا، فنزلت: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل بن حيّان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إِحصان المسلمين إِياهن بالذي يخرجهن من الكفر. وروى ليث عن مجاهد: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ قال: الإِيمان بالله تعالى، وقال الزجاج: معنى الآية: من أحل ما حرّم الله، أو حرّم ما أحلّه الله فهو كافر. وقال أبو سليمان: من جحد ما أنزله الله من شرائِع الإِيمان، وعرفه من الحلال والحرام، فقد حبط

_ صحيح. أخرجه مالك في «الموطأ» عن محمد الباقر وهو مرسل لأنه لم يدرك عمر ولا عبد الرحمن بن عوف. ورواه ابن سعد وفيه شيخه الواقدي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص والواقدي ضعيف. لكن أخرجه البخاري 3157 وأبو داود 3043 والترمذي 1587 والدارمي 2406 وابن الجارود 1105 والبيهقي 9/ 189 وأحمد 1/ 190، 94 كلهم عن بجالة بن عبدة قال: «لم يكن عمر يأخذ الجزية من المجوس حتى حدثه ابن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر» فهذا إسناد صحيح متصل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس، ولم يسمع منه كما قال ابن حبان، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.

[سورة المائدة (5) : آية 6]

عمله المتقدّم. وسمعت الحسن بن أبي بكر النّيسابوريّ الفقيه يقول: إنّما أباح الله عزّ وجلّ الكتابيّات، لأنّ بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن، فَحَذَّر ناكحهنَّ من الميل إِلى دينهن بقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [سورة المائدة (5) : آية 6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قال الزجاج: المعنى: إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة، كقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «1» قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا آخيت فآخ أهل الحسب، وإِذا اتجرت فاتجر في البزّ «2» . قال: ويجوز أن يكون الكلام مقدّماً ومؤخراً، تقديره: إِذا غسلتم وجوهكم، واستوفيتم الطهور، فقوموا إِلى الصلاة. وللعُلماء في المراد بالآية قولان «3» . أحدهما: إِذا قمتم إِلى الصلاة محدثين، فاغسلوا، فصار الحدث مضمراً في وجوب الوضوء، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، والفقهاء. والثاني: أن الكلام على إِطلاقه من غير إِضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة، محدثاً كان، أو غير محدث، وهذا مروي عن عليّ رضي الله عنه وعكرمة، وابن سيرين. ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ، ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجباً، ثم نسخ بالسنّة. (403) وهو ما روى بُريدة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوءٍ واحدٍ، فقال له عمر: لقد صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال: «عمداً فعلته يا عمر» .

_ صحيح. أخرجه مسلم 277 وأبو داود 172 والترمذي 61 والنسائي 1/ 16 والدارمي 1/ 169 وأحمد 5/ 350- 351- 358 وأبو عوانة 1/ 237 والطحاوي في «المعاني» 1/ 41 وابن حبان 1706 و 1707 و 1708 والبيهقي 1/ 162 من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.

وقال قوم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناها: إِذا قمتم إِلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم «1» . قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ «إِلى» حَرْفٌ موضوعٌ للغاية، وقد تدخل الغاية فيها تارة، وقد لا تدخل، فلما كان الحديث يقيناً، لم يرتفع إِلا بيقين مثله، وهو غسل المرفقين. فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه «2» ، وهو قول مالك، وروي عنه: يجب مسح أكثره، وروي عن أبي حنيفة روايتان: إِحداهما: أنه يتقدّر بربع الرأس. والثانية: بمقدار ثلاث أصابع. قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب: بفتح اللام عطفاً على الغَسل، فيكون من المقدم والمؤخّر. قال الزجاج: الرِّجل من أصل الفخذ إِلى القدم، فلما حدّ الكعبين، عُلمَ أن الغسل ينتهي إِليهما، ويدل على وجوب الغَسل التحديد بالكعبين، كما جاء في تحديد اليد «إلى المرافق» ولم يجيء في شيء من المسح تحديد. ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض، لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل، فينسق بالغسل على المسح. قال الشاعر:

_ (1) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» 2/ 48: قال زيد بن أسلم: معناه إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ من النوم، وبين هذا أن النوم حدث، وبه قال جملة الأمة. وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 235- 237 ما ملخصه. فصل: والنوم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: نوم المضطجع، فينقض الوضوء يسيره وكثيره في قول كل من يقول بنقضه بالنوم. الثاني: نوم القاعد، إن كان كثيرا نقض، رواية واحدة، وإن كان يسيرا لم ينقض، وهذا قول حماد والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي، وقال الشافعي: لا ينقض وإن كثر، إذا كان القاعد متمكنا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض. الثالث: نوم القائم والراكع والساجد، فروي عن أحمد في جميع ذلك روايتان: إحداهما: ينقض، وهو قول الشافعي، والثانية: لا ينقض إلا إذا كثر. وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم في حال من أحوال الصلاة لا ينقض وإن كثر. لأنه حال من أحوال الصلاة، فأشبهت حال الجلوس. والظاهر عن أحمد التسوية بين القيام والجلوس. واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي. فعنه: لا ينقض يسيره. قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: الوضوء من النوم؟ قال: إذا طال. قيل: فالمحتبي؟ قال: يتوضأ. قيل: فالمتكئ؟ قال: الاتكاء شديد، والمتساند كأنه أشد من الاحتباء، ورأى منها كلها الوضوء، إلا أن يغفو قليلا، وعنه: ينقض بكل حال لأنه معتمد على شيء، فهو كالمضطجع، والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض أن لا ينقض منه إلا الكثير اه باختصار. وانظر «المدونة» 1/ 9- 10 و «تفسير القرطبي» 5/ 222. (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 175- 176: لا خلاف في وجوب مسح الرأس. واختلف في قدر الواجب، فروي عن أحمد وجوب مسح جميعه في حق كل أحد، وهو مذهب مالك. وعن أحمد: يجزئ مسح بعضه، وبه قال الحسن والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن الظاهر عن أحمد في حق الرجل وجوب الاستيعاب، وأن المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها اه ملخصا. وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 183- 184 ما ملخصه: فصل: والأذنان من الرأس، فقياس المذهب وجوب مسحهما مع مسحه. وقال الخلال: كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن ترك مسحهما عامدا أو ناسيا أنه يجزئه، وذلك لأنهما تبع للرأس، والأولى مسحهما معه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مسحهما مع رأسه. - وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : ومسح الأذنين، وهو سنة بماء الرأس عندنا خلافا للشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم دون الخلقة.

يا ليتَ بَعْلك قد غدا ... متقلِّداً سيفاً ورُمحاً «1» والمعنى: وحاملاً رمحاً. وقال الآخر. علفتها تبناً وماءً بارِداً «2» والمعنى: وسقيتها ماءً بارداً. وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز الجرّ على الإِتباع، والمعنى: الغسل، نحو قولهم: جحر ضبٍ خربٍ. وقال ابن الأنباري: لما تأخّرت الأرجل بعد الرؤوس، نسقت عليها للقرب والجوار، وهي في المعنى نسق على الوجوه كقولهم: جحر ضبٍّ خَربٍ، ويجوز أن تكون منسوقة عليها، لأن العرب تسمّي الغسل مسحاً، لأن الغسل لا يكون إِلا بمسح. وقال أبو علي: مَن جرّ فحُجَّتُه أنه وجد في الكلام عاملين: أحدهما: الغسل، والآخر: الباء الجارّة، ووجه العاملين إِذا اجتمعا: أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد، وهو «الباء» هاهنا، وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح: الغسل من وجهين «3» :

_ (1) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» : 165 و «الكامل» 1/ 289 و «اللسان» مادة: قلد. ونسبه في حواشي ابن القوطية على «الكامل» 189 لعبد الله بن الزبعرى. ويروى الشطر الأول منه «ورأيت زوجك في الوغى» وفي «اللسان» : تقلّد الأمر: احتمله. (2) هو صدر بيت وعجزه: حتى شتت همّالة عيناها. وهو في «الخزانة» 1/ 499 وشرح «شواهد المغني» 314. قال العيني: 4/ 181 أنشده الأصمعي وغيره، ولم أر أحدا عزاه إلى قائله. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 35: ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي 1/ 75 عن النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلته، وهو قائم، ثم قال: إن أناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع كما صنعت، وقال: «هذا وضوء من لم يحدث» . والأحاديث التي جاءت بالغسل كثيرة. ففي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو قال تخلف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «أسبغوا الوضوء، وبل للأعقاب من النار» . وروى مسلم عن عمر بن الخطاب «أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدم، فأبصره النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» قال ابن كثير: وإسناده جيد قوي صحيح. وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» : وغسل الرجلين واجب في قول أكثر أهل العلم، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على غسل القدمين. وروي عن علي أنه مسح على نعليه وقدميه، وحكي عن ابن عباس أنه قال: ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين. وحكي عن الشعبي أنه قال: الوضوء مغسولان وممسوحان، فالممسوحان يسقطان في التيمم. ولم نعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح على الرجلين غير ما ذكرنا إلا ما حكي عن ابن جرير أنه قال: هو مخيّر بين المسح والغسل، واحتج بظاهر الآية. وما روي عن ابن عباس. ولنا أن عبد الله بن زيد، وعثمان، حكيا وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالا: فغسل قدميه. وفي حديث عثمان: ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا، متفق عليهما. وعن علي أنه حكى وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا. فإن قيل: فعطفه على الرأس دليل على أنه أراد حقيقة المسح. قلنا: قد افترقا من وجوه: أحدها: أن الممسوح في الرأس شعر يشق غسله، والرجلين أشبه بالمغسولات. والثاني: أنهما محدودان بحد ينتهي إليه، فأشبها اليدين. والثالث: أنهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض بخلاف الرأس. وأما حديث أوس في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإنما أراد الغسل الخفيف وكذلك ابن عباس، ولذلك قال: أخذ ملء كفّه من ماء فرش على قدميه، والمسح يكون بالبلل لا برش الماء.

أحدهما: أن أبا زيد قال: المسح خفيف الغسل، قالوا: تمسحت للصلاة، وقال أبو عبيدة: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ «1» ، أي ضرباً، فكأن المسح في الآية غسل خفيف. فإن قيل: فالمستحب التكرار ثلاثاً؟ قيل: إِنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون. والوجه الثاني: أن التحديد والتوقيت إِنما جاء في المغسول دون الممسوح، فلما وقع التحديد مع المسح، عُلم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد، وحجة من نصب أنه حَمل ذلك على الغسل لاجتماع فُقهاء الأمصار على الغسل. قوله تعالى: إِلَى الْكَعْبَيْنِ «إِلى» بمعنى «مع» ، والكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم. قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أي: فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد، وقد بيّن الله عزّ وجلّ طهارة الجنب في سورة النّساء بقوله تعالى: حَتَّى تَغْتَسِلُوا «2» وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و «الحرج» : الضيق، فجعل الله الدين واسعاً حين رخّص في التيمم. قوله تعالى: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: يريد أن يطهركم. قال مقاتل: من الأحداث والجنابة، وقال غيره: من الذنوب والخطايا، لأن الوضوء يكفر الذنوب. قوله تعالى: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الذي يتمُّ به النعمة أربعة أقوال: أحدها: بغفران الذنوب. (404) قال محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد الله بن دارة، عن حمران قال: مررت على عثمان بفخّارةٍ من ماءٍ، فدعا بِها فتوضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة أو مرّتين أو ثلاثاً ما حدّثتكم، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما توضأ عبد فأحسن الوضوء، ثم قام إِلى الصلاة، إِلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» قال محمد بن كعب: وكنت إِذا سمعت الحديث التمسته في القرآن. فالتمست هذا فوجدته في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ «3» فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في المائدة: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلى قوله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم.

_ ضعيف بهذا اللفظ والإسناد. أخرجه البيهقي في «الشعب» 2728 من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب به، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر، واسمه عيسى بن أبي عيسى. - والذي صح عن عثمان ما أخرجه البخاري 159 و 1934 و 6433 ومسلم 226 وغيرهما عن حمران مولى عثمان أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كل رجل ثلاثا، ثم قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه» .

[سورة المائدة (5) : آية 7]

والثاني: بالهداية إِلى الإِيمان، وإِكمال الدين، وهذا قول ابن زيد. والثالث: بالرخصة في التيمم، قاله مقاتل، وأبو سليمان. والرابع: ببيان الشرائِع، ذكره بعض المفسّرين. [سورة المائدة (5) : آية 7] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني النعم كلَّها. وفي هذا حثٌ على الشكر. وفي الميثاق أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه إِقرار كل مؤمن بما آمن به. قال ابن عباس: لما أنزل الله الكتاب، وبعث الرسول، فقالوا: آمنا، ذكَّرهم ميثاقه الذي أقرُّوا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء. والثاني: أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن زيد. والثالث: أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقرّوا به من الإِيمان. روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنه الميثاق الذي أخذ من الصّحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، ذكره بعض المفسّرين. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قال مقاتل: اتقوه في نقض الميثاق إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها من إيمان وشكّ. [سورة المائدة (5) : آية 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضا، وقد تقدّم ذكرهم في قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ روى نحو هذا أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. (405) والثاني: أن قريشاً بعثت رجلاً ليقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأطلع الله نبيه على ذلك، ونزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول الحسن. (406) والثالث: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذهب إِلى يهود بني النضير يستعينهم في ديةٍ، فهمُّوا بقتله، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وقتادة. ومعنى الآية: كونوا قوامين لله بالحق، ولا يحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل اعْدِلُوا في

_ هو الآتي بعد حديث. هو الآتي بعد حديث جابر.

[سورة المائدة (5) : الآيات 9 إلى 10]

الولي والعدو هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي: إِلى التقوى. والمعنى: أقرب إِلى أن تكونوا متقين، وقيل: هو أقرب إلى اتّقاء النّار. [سورة المائدة (5) : الآيات 9 الى 10] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ في معناها قولان: أحدهما: أن المعنى: وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى. والثاني: أن المعنى: وعدهم فقال: لهم مغفرة. وقد بيّنّا في البقرة معنى «الجحيم» » . [سورة المائدة (5) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) في سبب نزولها أربعة أقوال «2» : (407) أحدها: أن رجلاً من محارب قال لقومه: الا أقتل لكم محمداً، فقالوا: وكيف تقتله؟ فقال: أفتك به، فأقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيفه في حجره، فأخذه، وجعل يهزّه، ويهمّ به، فيَكْبِتُه الله، ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: لا، قال: لا تخافني وفي يدي السّيف؟! قال: يمنعني الله منك، فأغمد السيف، فنزلت هذه الآية، رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد الله. وفي بعض الألفاظ: فسقط السّيف من يده. وفي لفظ آخر: فما قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئاً ولا عاقبه. واسم هذا الرجل: غورث بن الحارث من محارب خصفة.

_ ذكر نزول الآية ضعيف. أخرجه الواحدي 385 من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر به، وإسناده ضعيف، فيه عنعنة ابن إسحاق والحسن وكلاهما مدلس، وفيه عمرو بن عبيد، وهو ضعيف، والوهن في هذا الخبر بذكر نزول الآية، وأما أصل الحديث فصحيح. أخرجه البخاري 4135 و 4136 ومسلم 843 والواحدي 386 والبيهقي 6/ 319 والطبري 11569 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل نجد فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت سمرة، فعلّق بها سيفه، قال جابر، فنمنا نومة فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت له: الله، فها هوذا جالس» ثم لم يعاقبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وليس فيه سبب نزول الآية. والقائلة: شدة الحر. والعضاه: شجر له شوك. واختراط السيف: سله. صلتا: مجردا من غمده.

[سورة المائدة (5) : آية 12]

(408) والثاني: أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكفاه الله شرّهم، قال ابن عباس: صنعوا له طعاماً، فأوُحِيَ إِليه بشأنهم، فلم يأت. (409) وقال مجاهد، وعكرمة: خرج إِليهم يستعينهم في دية، فقالوا: اجلس حتى نعطيك، فجلس هو وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن، فمن يظهر على هذا البيت، فيطرح عليه صخرة؟ فقال عمرو بن جحّاش: أنا، فجاء إِلى رحى عظيمة ليطرحها عليه، فأمسك الله يده، وجاء جبريل، فأخبره، وخرج، ونزلت هذه الآية. (410) والثالث: أن بني ثعلبة، وبني مُحارب أرادوا أن يفتكوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبأصحابه، وهم ببطن نخلة في غزاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السابعة، فقالوا: إِِن لهم صلاة هي أحبّ إِليهم من آبائِهم وأمهاتهم، فإذا سجدوا وقعنا بهم، فأطلع الله نبيه على ذلك، وأنزل صلاة الخوف، ونزلت هذه الآية، هذا قول قتادة. والرابع: أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هذا قول ابن زيد. [سورة المائدة (5) : آية 12] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال أبو العالية: أخذ الله ميثاقهم أن يخلصوا له العبادة، ولا يعبُدوا غيره. وقال مقاتل: أن يعملوا بما في التوراة. وفي معنى النقيب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضمين، قاله الحسن، ومعناه: أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده، ولا يجوز أن يكون ضميناً عنهم بالوفاء، لأن ذلك لا يصح ضمانه. وقال ابن قتيبة: هو الكفيل على القوم. والنقابة شبيهة بالعرافة. والثاني: أنه الشاهد، قاله قتادة. وقال ابن فارس: النقيب: شاهد القوم، وضمينهم. والثالث: الأمين، قاله الربيع بن أنس، واليزيدي، وهذه الأقوال تتقارب. قال الزجاج: النقيب في اللغة، كالأمين والكفيل، يقال: نقب الرجل على القوم ينقب: إِذا صار نقيباً عليهم، وصناعته النقابة، وكذلك عرِّف عليهم: إِذا صار عريفاً، ويقال لأول ما يبدو من الجرب: النّقبة، ويجمع النّقب والنّقب. وقال الشاعر:

_ أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 2/ 489- 490 من طريق عطاء عن ابن عباس وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس مطوّلا، ومقاتل متهم، والضحاك لم يلق ابن عباس، وأخرجه الطبري 11567 بسند فيه مجاهيل. وانظر ما بعده، أخرجه الطبري برقم 11561 و 11562 عن مجاهد، وبرقم 11565 عن عكرمة، وكلاهما مرسل. مرسل. أخرجه الطبري 11568 عن قتادة مرسلا. فهذه المراسيل تتأيد بمجموعها، وإن اختلفت ألفاظها، والله أعلم، فإن المعنى متحد، وهو محاولة الكفرة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم.

[سورة المائدة (5) : آية 13]

متبذِلاً تبدو محاسنُه ... يضعُ الهناء مواضِعَ النُّقب «1» ويقال: في فلان مناقب جميلة، وكل الباب معناه: التأثير الذي له عُمق ودخول، ومن ذلك نقبت الحائِط، أي: بلغت في النقب آخِرَه، والنقبة من الجرب: داء شديد الدخول. وإِنما قيل: نقيب، لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إِلى معرفة أمورهم. ونقل أن الله تعالى أمر موسى وقومه بالسّير إلى الأرض المقدسة، وكان يسكنها الجبارون، فقال تعالى: يا موسى اخرج إِليها وجاهد من فيها من العدو، وخُذْ من قومك اثني عشر نقيباً، من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به، فاختاروا النقباء. وفيما بعثوا له قولان: أحدهما: أن موسى بعثهم إِلى بيت المقدس، ليأتوه بخبر الجبارين، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنهم بعثوا ضمناء على قومِهِمْ بالوفاء بميثاقهم، قاله الحسن، وابن إِسحاق. وفي نبوّتهم قولان: أصحهما: أنهم ليسوا بأنبياء. قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ في الكلام محذوف. تقديره: وقال الله لهم. وفي المقول لهم قولان: أحدهما: أنهم بنو إِسرائيل، قاله الجمهور. والثاني: أنهم النقباء، قاله الربيع، ومقاتل. ومعنى إِنِّي مَعَكُمْ أي: بالعون والنصرة، وفي معنى: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ قولان: أحدهما: أنه الإِعانة والنصر، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد وقتادة والسدي. والثاني: أنه التعظيم والتوقير، قاله عطاء واليزيدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. قوله تعالى: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً في هذا الإقراض قولان: أحدهما: أنه الزكاة الواجبة. والثاني: صدقة التطوع. وقد شرحنا في البقرة معنى القرض الحسن. قوله تعالى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ يشير إِلى الميثاق فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي: أخطأ قصد الطريق. [سورة المائدة (5) : آية 13] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ في الكلام محذوف، تقديره: فنقضوا، فبنقضهم لعنّاهم. وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التعذيب بالجزية، قاله ابن عباس. والثاني: التعذيب بالمسخ، قاله الحسن، ومقاتل. والثالث: الإِبعاد من الرحمة، قاله عطاء، والزجاج. قوله تعالى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: قاسِيَةً بالألف، يقال: قست، فهي قاسية، وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضّل، عن عاصم: «قسيّةً» بغير ألف مع تشديد الياء، لأنه قد يجيء فاعل وفعيل، مثل شاهد وشهيد، وعالم وعليم. و «القسوة» : خلاف اللّين والرّقة. وقد ذكرنا هذا في (البقرة) .

_ (1) البيت لدريد بن الصّمة كما في «اللسان» مادة- نقب. [.....]

[سورة المائدة (5) : آية 14]

وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال: أحدها: تغيير حدود التوراة، قاله ابن عباس. والثاني: تغيير صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. والثالث: تفسيره على غير ما أُنزل، قاله الزجاج. قوله تعالى: عَنْ مَواضِعِهِ مبيّن في (سورة النساء) . قوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ النسيان هاهنا: الترك عن عمد. والحظ: النصيب. قال مجاهد: نسوا كتاب الله الذي أُنزل عليهم، وقال غيره: تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم. وفي معنى ذُكِّرُوا بِهِ قولان: أحدهما: أمروا. والثاني: أوصوا. قوله تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وقرأ الأعمش «على خيانة منهم» قال ابن قتيبة: الخائِنة: الخيانة. ويجوز أن تكون صفة للخائِن، كما يقال: رجلٌ طاغية، وراوية للحديث. قال ابن عباس: وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخروج كعب بن الأشرف إِلى أهل مكة للتّحريض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم ينقضوا العهد، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: بل القليل ممن لم يؤمن. قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ واختلفوا في نسخها على قولين: أحدهما: أنها منسوخة، قاله الجمهور. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها آية السّيف. والثاني: قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... «1» . والثالث: قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ... «2» . (411) والثاني: أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد، فغدروا، وأرادوا قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأظهره الله عليهم، ثم أنزل الله هذه الآية، ولم تنسخ. قال ابن جرير: يجوز أن يعفى عنهم في غدرةٍ فعلوها، ما لم ينصبوا حرباً، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصّغار، فلا يتوجّه النّسخ. [سورة المائدة (5) : آية 14] وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ قال الحسن: إِنما قال: قالوا: إِنا نصارى، ولم يقُل: من النصارى، لِيَدل على أنهم ليسوا على منهاج النصارى حقيقة، هم الذين اتبعوا المسيح. وقال قتادة: كانوا بقرية، يقال لها: ناصرة، فسمّوا بهذا الاسم، قال مقاتل: أُخذ عليهم الميثاق، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد، فتركوا ما أُمروا به. قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ قال النّصر: هيّجنا، وقال المؤرّج: حرّشنا بعضهم على بعض وقال الزجاج: ألصقنا بهم ذلك، يقال: غريت بالرّجل غرى مقصوراً: إِذا لصقت به، هذا قول الأصمعيّ.

_ تقدم آنفا، وقد ساقه المصنف بمعناه. وانظر كلام الطبري في «تفسيره» 4/ 498- 499.

[سورة المائدة (5) : آية 15]

وقال غير الأصمعي: غريت به غراءً ممدود، وهذا الغراء الذي يُغرى به إِنما يلصق به الأشياء، ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء: أنهم صاروا فرقاً يكفّر بعضهم بعضاً. وفي الهاء والميم مِن قوله بَيْنَهُمُ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى اليهود والنصارى، قاله مجاهد وقتادة والسدي. الثاني: أنها ترجع إِلى النصارى خاصة، قاله الربيع. وقال الزجاج: هم النصارى، منهم النسطوريّة واليعقوبيّة والملكيّة، وكل فرقة منهم تعادي الأخرى. وفي تمام الآية وعيد شديد لهم. [سورة المائدة (5) : آية 15] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود. والثاني: اليهود والنّصارى. و «الرّسول» : محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ قال ابن عباس: أخفوا آية الرّجم «1» ، وأمر محمّد عليه السلام وصفته وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يتجاوز، فلا يخبرهم بكتمانه. فان قيل: كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه كان متلقياً ما يؤمر به، فإذا أُمِر باظهار شيءٍ من أمرهم، أظهره، وأخذهم به، وإِلا سكت. والثاني: أن عقد الذّمة إِنما كان على أن يُقرّوا على دينهم، فلما كتموا كثيراً مما أُمروا به، واتخذوا غيره ديناً، أظهر عليهم ما كتموه مِن صفته وعلامة نبوته، لتتحقّق معجزته عندهم، واحتكموا إِليه في الرجم، فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته، وسكت عن أشياء ليتحقق إِقرارهم على دينهم. قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ قال قتادة: يعني بالنور: النبي محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. وقال غيره: هو الإِسلام، فأما الكتاب المبين، فهو القرآن. [سورة المائدة (5) : آية 16] يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ يعني: بالكتاب. ورضوانه: ما رضيه الله تعالى. و «السُبل» ، جمع سبيل، قال ابن عباس: سبل السلام: دين الاسلام. وقال السدي: «السلام» : هو الله، و «سبله» : دينه الذي شرعه. قال الزجاج: وجائِز أن يكون «سُبل السلام» طريق السَّلامة التي مَن سلكها سَلِمَ في دينه، وجائز أن يكون «السلام» اسم الله عزَّ وجلَّ، فيكون المعنى: طرق الله عزّ وجلّ. قوله تعالى: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ قال ابن عباس: يعني الكفر إِلَى النُّورِ يعني: الإِيمان بِإِذْنِهِ أي: بأمره وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام. وقال الحسن: طريق الحقّ. [سورة المائدة (5) : آية 17] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)

_ (1) أخرجه الطبري 11612 بسند حسن عن ابن عباس.

[سورة المائدة (5) : آية 18]

قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قال ابن عباس: هؤلاء نصارى أهل نجران، وذلك أنهم اتخذوه إِلهاً قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: فمن يقدر أن يدفع من عذابه شيئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي: فلو كان إِلهاً كما تزعمون لقَدَرَ أن يردّ أمرَ اللهِ إِذا جاءه بإهلاكه أو إِهلاك أمّه، ولما نزل أمر الله بأمّه، لم يقدرْ أن يدفع عنها. وفي قوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ ردٌ عليهم حيث قالوا للنبي: فهات مثله من غير أب «1» . فإن قيل: فلم قال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ولم يقل: وما بينهن؟ فالجواب أن المعنى: وما بَين هذين النوعين من الأشياء، قاله ابن جرير. [سورة المائدة (5) : آية 18] وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى قال مقاتل: هم يهود المدينة، ونصارى نجران. وقال السدي: قالوا: إِن الله تعالى أوحى إِلى إِسرائيل: إِنَّ ولدك بكري من الولد. فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى تطهّرهم، وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أخرجوا كلَّ مختون من بني إِسرائيل. وقيل: إِنهم لما قالوا: المسيح ابن الله، كان معنى قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ أي: منّا ابن الله. وفي قوله: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ إِبطال لدعواهم، لأن الأب لا يعذّب ولده، والحبيبُ لا يُعذّبُ حبيبه وهم يقولون: إِن الله يعذبنا أربعين يَوماً بالنار. وقيل: معنى الكلام: فلمَ عذّب منكم من مسخه قردةً وخنازير؟ وهم أصحاب السبت والمائِدة. قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي: أنتم كسائِر بني آدم تُجازَوْن بالإِحسان والإِساءة. قال عطاء: يغفر لمن يشاء، وهم الموحدون، ويعذّب من يشاء، وهم المشركون. [سورة المائدة (5) : آية 19] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا. (412) سبب نزولها: أن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب، قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله، والله إِنكم لتعلمون أنه رسول الله، كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته. فقال وهب بن يهوذا، ورافع: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله بعد موسى من كتاب، ولا أرسل رسولاً بشيراً ولا نذيراً بعده، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. فأما «الفترة» فأصلها السكون، يقال: فتر الشيء يَفتر فتوراً: إذا سكنت حدّته، وانقطع عمّا كان

_ ضعيف. أخرجه الطبري 11619 من طريق محمد بن إسحاق به. وشيخه محمد بن أبي محمد مجهول كما في التقريب، وقال الذهبي في «الميزان» لا يعرف.

[سورة المائدة (5) : آية 20]

عليه، والطرف الفاتر: الذي ليس بحديد. والفتور: الضعف. وفي مدّة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة أقوال: أحدها: أنه كان بين عيسى ومحمّد عليهما السلام ستمائة سنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سلمان الفارسي، ومقاتل. والثاني: خمسمائة سنة وستون سنة، قاله قتادة. والثالث: أربع مائة وبضع وثلاثون سنة، قاله الضحاك. والرابع: خمسمائة سنة وأربعون سنة، قاله ابن السائب. وقال أبو صالح عن ابن عباس عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي: انقطاع منهم، قال: وكان بين ميلاد عيسى، وميلاد محمّد عليهما السّلام خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة، وهي فترة. وكان بعد عيسى أربعة من الرسل، فذلك قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «1» . قال: والرابع لا أدري من هو. وكان بين تلك السنين مائة سنة، وأربع وثلاثون نبوّة وسائِرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع، والله أعلم: خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (413) «نبيٌ ضيَّعه قومُه» . قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا قال الفرّاء: كي لا تقولوا: مثل قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «2» . وقال غيره: لئلا تقولوا، وقيل: كراهة أن تقولوا. [سورة المائدة (5) : آية 20] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فيهم قولان: أحدهما: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى، وانطلقوا معه إِلى الجبل، جعلهم الله أنبياء بعد موسى وهارون، وهذا قول ابن السائب ومقاتل. والثاني: أنهم الأنبياء الذين أُرْسِلوا من بني إِسرائيل بعد موسى، ذكره الماوردي. وبماذا جعلهم ملوكاً؟ فيه ثمانية أقوال: أحدها: بالمن والسلوى والحجر. والثاني: بأن جعل للرجل منهم زوجةً وخادماً. والثالث: بالزوجة والخادم والبيت، رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس، وهذا الثالث اختيار الحسن، ومجاهد. والرابع: بالخادم والبيت، قال عكرمة. والخامس: بتمليكهم الخدم. وكانوا أول مَن ملك الخدم، ومن اتخذ خادماً فهو ملك، قاله قتادة. والسادس: بكونهم أحراراً يملك الإِنسان منهم نفسه وأهله وماله، قاله السدّي. والسابع: بالمنازل الواسعة، فيها المياه الجارية، قاله الضحاك. والثامن: بأن جعل لهم الملك والسلطان، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين: أحدهما: أنهم قوم موسى، وهذا مذهب ابن عباس، ومجاهد. قال ابن عباس: ويعني بالعالمين: الذين

_ ضعيف منكر. أخرجه البزار 2361 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف قيس بن الربيع. وهو معارض بحديث «أنا أولى الناس بعيسى، الأنبياء أبناء علات، وليس بيني وبين عيسى نبي» . - أخرجه البخاري 3443 ومسلم 2365 وأحمد 2/ 319 وغيرهم من حديث أبي هريرة. - فهذا يرد الحديث المتقدم، بل ولا يصح ثبوت نبوة رجل بخبر ضعيف.

[سورة المائدة (5) : آية 21]

هم بين ظهرانيهم. وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال: أحدها: المن والسّلوى والحجر والغمام، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثاني: أنه الدار والخادم والزوجة، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن جرير: ما أُوتي أحد من النِّعم في زمان قوم موسى ما أُوتوا. والثالث: كثرة الأنبياء فيهم، ذكره الماورديّ. والثاني: أن الخطاب لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي مالك. [سورة المائدة (5) : آية 21] يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا وقرأ ابن محيصن: «يا قوم ادخلوا» بضمّ الميم، وكذلك «يا قوم اذكروا» و «يا قوم اعبدوا» «1» . وفي معنى الْمُقَدَّسَةَ قولان: أحدهما: المطهرة، قاله ابن عباس، والزجاج. قال: وقيل للسطل: القَدَس، لأنهُ يتطهّر منه، وسُمّي بيت المقدس، لأنه يتطهر فيه من الذنوب. وقيل: سمّاها مقدّسة، لأنها طهرت من الشرك، وجعلت مسكناً للأنبياء والمؤمنين. والثاني: أن المقدَّسة: المباركة، قاله مجاهد. وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال: أحدها: أنها أريحا: رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن زيد. قال السدي: أريحا هي أرض بيت المقدس. وروي عن الضحاك أنه قال: المراد بهذه الأرض إيلياء وبيت المقدس. قال ابن قتيبة: وقرأت في مناجاة موسى أنه قال: اللهم إِنَّك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن البيوت بكة وإِيلياء ومن إِيلياء بيت المقدس، فهذا يدل على أن إِيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن إِيلياء بيت المقدس، وهو معرَّب. قال الفرزدق: وبيتانِ بَيْتُ الله نحْنُ ولاته ... وبيت بأعلى إيلياء مشرّف والثاني: أنها الطور وما حوله، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثالث: أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردُن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أنها الشام كلها، قاله قتادة. وفي قوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى أمرَكم وفرض عليكم دخولها، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنه بمعنى: وهبها الله لكم، قاله محمد بن إِسحاق. وقال ابن قتيبة: جعلها لكم. والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم. فإن قيل: كيف قال: فإنها محرمة عليهم، وقد كتبها لهم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه إِنما جعلها لهم بشرط الطاعة، فلما عصَوْا حرَّمها عليهم. والثاني: أنه كتبها لبني إِسرائيل، وإِليهم صارت، ولم يعنِ موسى أن الله كتبها للذين أُمِرُوا بدخولها بأعيانهم. قال ابن جرير: ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم، وأُريد به الخصوص فتكون مكتوبة لبعضهم، وقد دخلها يوشع، وكالب. قوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فيه قولان: أحدهما: لا ترجعوا عن أمر الله إِلى معصيته. والثاني: لا ترجعوا إلى الشّرك به.

_ (1) سورة الأعراف: 59.

[سورة المائدة (5) : آية 22]

[سورة المائدة (5) : آية 22] قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قوله تعالى: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ قال الزجاج: الجبار من الآدميّين: الذي يُجبِر الناس على ما يريد، يقال: جبار: بَيِّنُ الجَبَرِيَّة، والجِبِرِيَّة بكسر الجيم والباء، والجَبَرُوَّةُ والجُبُّورة والتَّجبار والجَبَرُوت. وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبارين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا ذوي قوّة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا عظام الخلْق والأجسام، قاله قتادة. والثالث: أنهم كانوا قتَّالين، قاله مقاتل. (الإِشارة إِلى القصَّة) قال ابن عباس: لما نزل موسى وقومه بمدينة الجبارين، بعث اثني عشر رجلاً، ليأتوه بخبرهم، فلقيَهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائِه، فأتى بهم المدينة، ونادى في قومه، فاجتمعوا، فقالوا لهم: من أين أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بعثنا لنأتيَه بخبركم، فأعطوهم حبَّةً من عنبٍ توقر «1» الرجل، وقالوا لهم، قولوا لموسى وقومه: اقدروا قدر فاكههم، فلما رجعوا، قالوا: يا موسى إِن فيها قوماً جبارين. وقال السدي: كان الذي لقيهم، يقال له: عاج، يعني: عوج بن عناق، فأخذ الاثني عشر، فجعلهم في حُجرته وعلى رأسه حُزمة حطب، وانطلق بهم إِلى امرأته، فقال: انظري إِلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، فطرحهم بين يديها، قال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا، بل خلِّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. فلما خرجوا قالوا: يا قوم إِن أخبرتم بني إِسرائيل بخبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك، فنكث عشرة، وكتم رجلان، وقال مجاهد: لما رأى النُّقباءُ الجبارينَ، وجدوهم يدخل في كمِّ أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إِلا خمسة أو أربعة، ويدخل في شطر الرّمّانة إذ نزع حبّها خمسة أو أربعة، فرجع النقباء كلُّهم ينهى سبطه عن قتالهم إِلا يوشع، وابن يوقنّا «2» . [سورة المائدة (5) : آية 23] قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ في الرجلين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنة، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: ابن يوقنّا، وهما من النقباء. والثاني: أنهما كانا من الجبارين فأسلما، روي عن ابن عباس. والثالث: أنهما كانا في مدينة الجبارين، وهما على دين موسى، قاله الضحاك. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأيوب: «يُخافون» بضم الياء، على معنى أنهما كانا من العدوّ، فخرجا مؤمنين. وفي معنى «خوفهم» ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم خافوا الله وحده. والثاني: خافوا الجبارين، ولم يمنعهم خوفهم قول الحق. والثالث: يُخاف منهم، على قراءة ابن جبير. وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال: أحدها: الإِسلام، قاله ابن عباس.

_ (1) في «اللسان» : الوقر: الحمل الثقيل. (2) هذه الأخبار من مجازفات الإسرائيليين وترّهاتهم، وفيها من المبالغة ما لا يخفى.

[سورة المائدة (5) : آية 24]

والثاني: الصلاح والفضل واليقين، قاله عطاء. والثالث: الهُدى، قاله الضحاك. والرابع: الخوف، ذكره ابن جرير عن بعض السلف. قوله تعالى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ قال ابن عباس: قال الرجلان: ادخلوا عليهم باب القرية فانهم قد مُلئوا منّا رعبا وفرقا. [سورة المائدة (5) : آية 24] قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا قال ابن زيد: قالوا له: انظر كما صنع ربك بفرعون وقومه، فليصنع بهؤلاء. وقال مقاتل: فاذهب أنت وسل ربَّك النصر. وقال غيرهما: اذهب أنت وليُعِنْكَ ربك. (414) قال ابن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون صاحبه أحبُّ إِليَّ مما عُدِلَ به، أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون، ولكنّا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك. فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشرق لذلك وجهه وسُرّ به. (415) وقال أنس: استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس يوم خرج إِلى بدر، فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم، فأشار عليه عمر فسكت، فقال رجل من الأنصار: إِنما يريدكم، فقالوا: يا رسول الله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب وأنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون، ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنّا معك. [سورة المائدة (5) : آية 25] قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قوله تعالى: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فيه قولان: أحدهما: لا أملك إِلا نفسي، وأخي لا يملك إِلا نفسه. والثاني: لا أملك إِلا نفسي وإِلاّ أخي، أي: وأملك طاعة أخي، لأن أخاه إِذا أطاعه فهو كالمِلْكِ له، وهذا على وجه المجاز، كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (416) «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر» فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إِلا لك يا رسول الله، يعني: أنِّي متصرّف حيث صرّفتني، وأمرك جائِز في مالي. قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال ابن عباس: اقض بيننا وبينهم. وقال أبو عبيدة: باعد، وافصل، وميّز. وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال: أحدها: العاصون، قاله ابن عباس.

_ صحيح. أخرجه البخاري 3952 و 4609 والنسائي في «التفسير» 160 من حديث ابن مسعود. صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» 161 وأحمد 3/ 105 و 188 وأبو يعلى 3766 و 3803 وابن حبان 4721 من حديث حميد الطويل عن أنس، وإسناده على شرط الشيخين. وأخرجه مسلم 1779 وأبو داود 2681 وأحمد 3/ 219- 220 وابن حبان 4722 من طريق حماد عن ثابت عن أنس نحوه. صحيح. أخرجه النسائي في «فضائل الصحابة» 9 وابن ماجة 94 وابن أبي شيبة 12/ 6- 7 وأحمد 2/ 253- 366. وابن حبان 6858، وهو حديث صحيح، رووه من حديث أبي هريرة. وأخرجه بأطول مما هنا الترمذي 3661 وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأصله متفق عليه.

[سورة المائدة (5) : آية 26]

والثاني: الكاذبون، قاله ابن زيد. والثالث: الكافرون، قاله أبو عبيدة، قال السدي: غضب موسى حين قالوا له: اذهب أنت وربك، فدعا عليهم، وكانت عجلة من موسى عجلها. [سورة المائدة (5) : آية 26] قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ الإِشارة إِلى الأرض المقدَّسة. ومعنى تحريمها عليهم: منعهم منها. فأمّا نصب «الأربعين» ، فقال الفراء: هو منصوب بالتحريم، وجائز أن يكون منصوباً ب «يتيهون» . وقال الزجاج: لا يجوز أن ينتصب بالتحريم، لأن التفسير جاء أنها محرَّمة عليهم أبداً، قلت: وقد اختلف المفسرون في ذلك، فذهب الأكثرون، منهم عكرمة، وقتادة، إِلى ما قال الزجاج، وأنها حرّمت عليهم أبداً، قال عكرمة: فإنها محرّمة عليهم أبداً يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذهب قومٌ، منهم الربيع بن أنس، إِلى أنها حُرِّمَت عليهم أربعين سنة، ثم أمروا بالسير إِليها، وهذا اختيار ابن جرير. قال: إِنما نصبت بالتحريم، والتحريم كان عاماً في حق الكلِّ، ولم يدخلها في هذه المدة منهم أحد، فلما انقضت، أُذن لمن بقي منهم بالدخول مع ذراريهم. قال أبو عبيدة: ومعنى: يتيهون: يحورون ويضلون. (الإشارة إلى قصتهم) قال ابن عباس: حرّم الله على الذين عَصَوْا دُخُولَ بيت المقدس، فلبثوا في تيههم أربعين سنة، وماتوا في التيه، ومات موسى وهارون، ولم يدخل بيت المقدس إِلا يوشع وكالب بأبناء القوم، وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتحها. وقال مجاهد: تاهوا أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا. وقال السدي: لما ضرب الله عليهم التيه، ندم موسى على دعائه عليهم، وقالوا له: ما صنعت بنا، أين الطعام؟ فأنزل الله المنَّ. قالوا: فأين الشراب؟ فأُمِر موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فأين الظلُّ؟ فظلّل عليهم الغمام. قالوا: فأين اللباس؟ وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرّق لهم ثوب، وقُبض موسى ولم يبق أحد ممن أبى دخول قرية الجبارين إِلاَّ مات، ولم يشهد الفتح. وفيه قول آخر أنه لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إِسرائيل من التيه، وقال لهم: ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغداً، وادخلوا الباب سجداً، وقولوا حطةٌ ... إِلى آخر القصّة. وهذا قول الربيع بن أنس، وعبد الرّحمن بن زيد. قال ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي: وهذا الصحيح، وأن موسى هو الذي فتح مدينة الجبارين مع الصالحين من بني إِسرائيل، لأن أهل السيرة أجمعوا على أن موسى هو قاتل عوج، وكان عوج ملكهم، وكان بلعم بن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله، ولم يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب، وإِنما حرِّمت على الذين لم يطيعوا. وفي مسافة أرض التيه قولان: أحدهما: تسعة فراسخ، قاله ابن عباس. قال مقاتل: هذا عرضها، وطولها ثلاثون فرسخاً. والثاني: ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخاً، حكاه مقاتل أيضاً. قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال الزجاج: لا تحزن على قوم شأنهم المعاصي، ومخالفة الرسل. وقال ابن قتيبة: يقال أسيت على كذا، أي: حزنت، فأنا آسي أسى.

[سورة المائدة (5) : آية 27]

[سورة المائدة (5) : آية 27] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ النبأ: الخبر. وفي ابنيْ آدم قولان: أحدهما: أنهما ابناه لِصُلبه، وهما قابيل وهابيل، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنهما أخوان من بني إِسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وهذا قول الحسن، والعلماء على الأول، وهو أصح لقوله تعالى: لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ «1» ولو كان من بني إِسرائيل، لكان قد عرف الدّفن. (417) ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال عنه: «إِنه أول من سن القتل» . وقوله تعالى: بِالْحَقِّ أي: كما كان. والقربان: فعلان من القرب، وقد ذكرناه في آل عمران. وفي السبب الذي قربا لأجله قولان: أحدهما: أن آدم عليه السلام كان قد نُهِي أن يُنْكِحَ المرأة أخاها الذي هو توأمها، وأُجيز له أن يُنكحها غيره من إِخوتها، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأُنثى، فولدت له ابنة وسيمة، وأخرى دميمة، فقال أخو الدميمة لأخي الوسيمة: أنكحني أُختك، وأُنكحك أُختى، فقال أخو الوسيمة: أنا أحق بأختي، وكان أخو الوسيمة صاحب حرث، وأخو الدميمة صاحب غنم، فقال: هلمَّ فلنقرّب قرباناً، فأينا تُقُبِّل قربانُه فهو أحقُّ بها، فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن، وجاء صاحب الحرث بصُبْرَةٍ «2» من طعام، فتُقُبِّل الكبش، فخزنه الله في الجنة أربعين خريفاً، فهو الذي ذبحه إِبراهيم، فقتله صاحب الحرث، فوَلَدُ آدم كلهم من ذلك الكافر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهما قرّباه من غير سبب. روى العوفي عن ابن عباس أن ابنيْ آدم كانا قاعدَين يوماً، فقالا: لو قرّبنا قرباناً، فجاء صاحب الغنم بخير غنمه وأسمنها، وجاء الآخر ببعض زرعه، فنزلت النار، فأكلت الشاة، وتركت الزرع، فقال لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أن قربانك تُقُبِّل، وأنك خيٌر مني لأقتلنَّك. واختلفوا هل قابيل وأُخته وُلدا قبل هابيل وأُخته، أم بعدهما؟ على قولين، وهل كان قابيل كافراً أو فاسقاً غير كافر؟ فيه قولان: وفي سبب قبول قربان هابيل قولان: أحدهما: أنه كان أتقى الله من قابيل. والثاني: أنه تقرّب بخيار ماله، وتقرب قابيل بشرِّ ماله. وهل كان قربانهما بأمر آدم، أم من قِبل أنفسهما؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كان وآدم قد ذهب إِلى زيارة البيت. والثاني: أن آدم أمرهما بذلك.

_ صحيح. أخرجه البخاري 3335 و 6867 و 7321 ومسلم 1677 والترمذي 2673 والنسائي 7/ 81- 82 في «التفسير» 162 وعبد الرزاق 19718 وابن ماجة 2616 وأحمد 1/ 383 وابن أبي شيبة 9/ 364 وابن حبان 5983 والطحاوي في «المشكل» 1/ 483 من حديث ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمِها، لأنه أول من سنّ القتل؟» . وانظر «تفسير الشوكاني» 794 و «أحكام القرآن» 690 بتخريجنا.

[سورة المائدة (5) : آية 28]

وهل قُتل هابيل بعد تزويج أُخت قابيل، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه قتله قبل ذلك لئلا يصل إِليها. والثاني: أنه قتله بعد نكاحها. قوله تعالى: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ وروى زيد عن يعقوب: «لأقتلنْك» بسكون النون وتخفيفها. والقائل: هو الذي لم يُتقبَّل منه. قال الفراء: إِنما حذف ذكره، لأن المعنى يدل عليه، ومثل ذلك في الكلام أن تقول: إِذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت، وإِذا اجتمع السفيه والحليم حُمِد، وإِنما كان ذلك، لأن المعنى لا يشكل، فلو قلت: مرّ بي رجلٌ وامرأةٌ، فأعنتُ، وأنت تريد أحدهما، لم يجز، لأنه ليس هناك علامة تدل على مُرادِك. وفي المراد بالمتقين قولان: أحدهما: أنهم الذين يتقون المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين يتقون الشرك، قاله الضحاك. [سورة المائدة (5) : آية 28] لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) قوله تعالى: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ فيه قولان: أحدهما: أما أنا بمنتصرٍ لنفسي، قاله ابن عباس. والثاني: ما كنت لأبتدئك، قاله عكرمة. وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان: أحدهما: أنه منعه التحرُّج مع قدرته على الدفع وجوازه له، قاله ابن عمر وابن عباس. والثاني: أن دفع الانسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزاً، قاله الحسن ومجاهد. وقال ابن جرير: ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله، ثم ترك الدفع عن نفسه، وقد ذُكر أنه قتله غِيلةً، فلا يدَّعى ما ليس في الآية إلا بدليل. [سورة المائدة (5) : آية 29] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فيه قولان: أحدهما: إِني أُريد أن ترجع بإثم قتلي وإِثمك الذي في عنقك، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس. ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثاني: أن تبوء بإثمي في خطاياي، وإِثمك في قتلك لي، وهو مروي عن مجاهد أيضاً. قال ابن جرير: والصحيح عن مجاهد القول الأول. (418) وقد روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمِها، لأنه كان أول من سن القتل» . فإن قيل: كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإِثم وهو معصية، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ فعنه ثلاثة أجوبة «1» : أحدها: أنه ما أراد لأخيه الخطيئة، وإِنما أراد: إِن قتلتني أردت أن تبوء بالإِثم، وإِلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثاني: أن في الكلام محذوفا، وتقديره: إني

_ هو الحديث المتقدم.

[سورة المائدة (5) : آية 30]

أُريد أن لا تبوء بإثمي وإِثمك، فحذف «لا» كقوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي: أن لا تميد بكم، ومنه قول امرئ القيس: فقلتُ يمينُ اللهِ أبرحُ قَاعِدَاً ... وَلَوْ قطَّعوا رأسي لَدَيْكِ وأوصالي «1» أراد: لا أبرح. وهذا مذهب ثعلب. والثالث: أن المعنى: أريد زوال أن تبوء باثمي وإِثمك، وبطلان أن تبوء باثمي وإِثمك. فحذف ذلك، وقامت «أن» مقامه، كقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «2» أي: حبّ العجل، ذكره والذي قبله ابن الأنباري. قوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ الإِشارة إلى مصاحبة النّار. [سورة المائدة (5) : آية 30] فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ فيه خمسة أقوال: أحدها: تابعته على قتل أخيه، قاله ابن عباس. والثاني: شجَّعته، قاله مجاهد. والثالث: زيَّنت له، قاله قتادة. والرابع: رخَّصت له، قاله أبو الحسن الأخفش. والخامس: أنَّ «طوّعت» فعَّلت من «الطوع» والعرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول هذا الشجر، وطاع له كذا، أي: أتاه طوعاً، حكاه الزجاج عن المبرّد. وقال ابن قتيبة: شايعتْه وانقادت له، يقال: لساني لا يَطوع بكذا، أي: لا ينقاد، وهذه المعاني تتقارب. وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال: أحدها: أنه رماه بالحجارة حتى قتله، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: ضرب رأسه بصخرة وهو نائم، رواه مجاهد عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه. والثالث: رضخ رأسه بين حجرين، قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، فتمثّل له إِبليس، وأخذ طائِراً فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، ففعل به هكذا، وكان ل «هابيل» يومئذٍ عشرون سنة. وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال: أحدها: على جبل ثور، قاله ابن عباس. والثاني: بالبصرة، قاله جعفر الصادق. والثالث: عند عَقْبَة حِرَاء، حكاه ابن جرير الطّبريّ. وفي قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: من الخاسرين الدنيا والآخرة، فخسرانه الدنيا: أنه أسخط والديه، وبقي بلا أخ، وخسرانه الآخرة: أنه أسخط ربه، وصار إِلى النار، قاله ابن عباس. والثاني أنه أصبح من الخاسرين الحسنات، قاله الزجاج. والثالث: من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إيّاها، قاله القاضي أبو يعلى. [سورة المائدة (5) : آية 31] فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ قال ابن عباس: حمله على عاتقه، فكان إِذا مشى تخطُّ يداه ورجلاه في الأرض، وإِذا قعد وضعه إِلى جنبه حتى رأى غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، ثم بحث

_ (1) في «اللسان» : الوصل: كل عظم على حدة لا يكسر، ولا يخلط بغيره، ولا يوصل به غيره والجمع أوصال والأوصال: مجتمع العظام. (2) سورة البقرة: 93. [.....]

[سورة المائدة (5) : آية 32]

له الأرض حتى واراه بعد أن حمله سنين. وقال مجاهد: حمله على عاتقه مائة سنة. وقال عطية: حمله حتى أروح «1» . وقال مقاتل: حمله ثلاثة أيام. وفي المراد بسوأة أخيه قولان: أحدهما: عورة أخيه. والثاني: جيفة أخيه. قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ، فان قيل: أليس الندم توبة، فَلِم لم يقبل منه؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدَّمنا، ويكون توبة لهذه الأمة، لأنها خصّت بخصائِص لم تشارَك فيها، قاله الحسن بن الفضل. والثاني: أنه ندم على حمله لا على قتله. والثالث: أنه ندم إِذ لم يواره حين قتله. والرابع: أنه ندم على فوات أخيه، لا على ركوب الذنب. وفي هذه القصّة تحذير من الحسد، لأنه الذي أهلك قابيل. [سورة المائدة (5) : آية 32] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ قال الضحاك: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً، وقال أبو عبيدة: من جناية ذلك، ومن جري ذلك. قال الشاعر: وأهل خباءٍ صالحٍ ذَاتُ بينهم ... قدِ احتربوا في عاجِلٍ أنا آجِلُه «2» أي: جانيه وجارٌ ذلك عليهم. وقال قوم: الكلام متعلق بما قبله، والمعنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك. فعلى هذا يَحسن الوقف هاهنا، وعلى الأول لا يحسن الوقف. والأوّل أصحّ. وكَتَبْنا بمعنى: فرضنا. ومعنى قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: قتلها ظلماً ولم تقتل نفساً. أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ «فساد» منسوق على نَفْسٍ، المعنى: أو بغير فساد تستحق به القتل. وقيل: أراد بالفساد هاهنا: الشرك. وفي معنى قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً خمسة أقوال: أحدها: أن عليه إِثم من قتل الناس جميعاً، قاله الحسن، والزجاج. والثاني: أنه يصلى النار بقتل المسلم، كما لو قتل الناس جميعاً، قاله مجاهد، وعطاء. وقال ابن قتيبة: يُعذَّبُ كما يُعذَّب قاتل النَّاسِ جميعاً. والثالث: أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعاً، قاله ابن زيد. والرابع: أن معنى الكلام: ينبغي لجميع الناس أن يُعينوا ولي المقتول حتى يُقيدوه منه، كما لو قتل أولياءَهم جميعاً، ذكره القاضي أبو يعلى. والخامس: أن المعنى: من قتل نبياً أو إِماماً عادلاً، فكأنما قتل الناس جميعاً، رواه عكرمة عن ابن عباس. والقول بالعموم أصح. فإن قيل: إِذا كان إِثم قاتل الواحد كاثم من قتل الناس جميعاً، دل هذا على أنه لا إِثم عليه في

_ (1) في «اللسان» أروح اللحم: تغيّرت رائحته. (2) نسبه أبو عبيدة في «مجاز القرآن» إلى الخفوت وهو توبة بن مضرس. ونسبه التبريزي في شرح «إصلاح المنطق» إلى خوات بن جبير وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى في ديوانه بشرح الشنتمري.

[سورة المائدة (5) : آية 33]

قتل مَن يقتله بعد قتل الواحد إِلى أن يفنى الناس؟ فالجواب: أن المقدار الذي يستحقّه قاتل الناس جميعاً معلوم عند الله محدود، فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإِثم المعلوم، والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه، وكلما زاد قتلاً زاده الله إِثماً، ومثل هذا قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها، فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات. وهذا الجواب عن سؤال سائل إِن قال: إِذا كان من أحيا نفساً فله ثواب من أحيا الناس، فما ثواب من أحيا الناس كلَّهم؟ هذا كله منقول عن المفسرين. والذي أراه أن التشبيه بالشيء تقريبٌ منه، لأنه لا يجوز أن يكون إِثم قاتل شخصين كإثم قاتل شخص، وإِنما وقع التشبيه ب «كأنما» ، لأن جميع الخلائِق من شخص واحد، فالمقتول يتصوّر منه نشر عدد الخلق كلِّهم. وفي قوله تعالى: وَمَنْ أَحْياها خمسة أقوال: أحدها: استنقذها من هلكةٍ، روي عن ابن مسعود، ومجاهد. قال الحسن. من أحياها من غرق أو حرق أو هلاك. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: من شدَّ عَضُدَ نبي أو إِمامٍ عادِلٍ، فكأنما أحيا الناس جميعاً. والثاني: ترك قتل النفس المحرّمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية. والثالث: أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص، قاله الحسن وابن زيد وابن قتيبة. والرابع: أن يزجر عن قتلها وينهى. والخامس: أن يعين الوليَّ على استيفاء القصاص لأن في القصاص حياةً، ذكرهما القاضي أبو يعلى. وفي قوله تعالى: فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً قولان: أحدهما: فله أجر من أحيا الناس جميعاً، قاله الحسن وابن قتيبة. والثاني: فعلى جميع الناس شكره كما لو أحياهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ يعني: بني إِسرائيل الذين جرى ذكرهم. [سورة المائدة (5) : آية 33] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سبب نزولها أربعة أقوال: (419) أحدها: أنها نزلت في ناسٍ من عُرَينة قدموا المدينة، فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في

_ حديث صحيح دون ذكر نزول الآية. أخرجه البخاري 4193 ومسلم 1671 وأبو داود 4366 والترمذي 72 و 1845 و 2042 والنسائي 7/ 97 و 160 وابن أبي شيبة 7/ 75 وأحمد 3/ 186- 198 وابن حبان 1376 والبغوي في «التفسير» 782 من طرق كلهم من حديث أنس، رووه بألفاظ متقاربة والمعنى متحد، وليس في شيء من طرقه ذكر نزول الآية، وإنما ورد من طريق قتادة وحده، وليس في الصحيح. وورد نزول الآية من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 11812، وورد من مرسل سعيد بن جبير، أخرجه الطبري 11814، وورد موصولا من حديث جرير البجلي، أخرجه الطبري 11815 لكن فيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو متروك. وورد عن قتادة عن أنس، أخرجه الطبري 11819 ولعل الصواب كونه من مرسل قتادة كما تقدم آنفا، فوصله أحد الرواة وهما. وورد من وجه آخر عن أنس أخرجه الطبري 11820 وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وورد من مرسل السدي، أخرجه الطبري 11821. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، إلا أن روايات الصحيح خالية من ذكر نزول الآية، فالله أعلم.

إِبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فصحوا، وارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإِبل، فأرسل رسول الله في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمَّر أعينهم، وألقاهم بالحرَّة حتى ماتوا، ونزلت هذه الآية، رواه قتادة عن أنس، وبه قال سعيد بن جبير، والسدي. (420) والثاني: أن قوماً من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخيّر الله رسوله بهذه الآية: إِن شاء أن يقتلهم، وإِن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. (421) والثالث: أن أصحاب أبي بُردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الاسلام، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (422) وقال ابن السائب: كان أبو بردة، واسمه هلال بن عويمر، وادع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين لم يُهَجْ، ومن مرّ بهلال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يُهِجْ، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناسٍ من قوم هلال، فَنَهَدُوا إِليهم، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، ولم يكن هلال حاضراً، فنزلت هذه الآية. والرابع: أنها نزلت في المشركين، رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن «1» . واعلم أن ذكر «المحاربة» لله عزّ وجلّ في الآية مجاز. وفي معناها للعلماء قولان: أحدهما: أنه سمّاهم محاربين له تشبيهاً بالمحاربين حقيقة، لأن المخالف محارب، وإِن لم يحارب. فيكون المعنى:

_ ضعيف. أخرجه الطبري 11807 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وفيه إرسال، علي لم يسمع من ابن عباس. وورد عن الضحاك مرسلا، أخرجه الطبري 11808 وفيه جويبر بن سعيد وهو متروك. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فحديثه لا شيء. عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي، واسمه محمد، وهو ساقط متهم، فخبره باطل.

يخالفون الله ورسوله بالمعاصي. والثاني: أن المراد: يحاربون أولياء الله، وأولياء رسوله. وقال سعيد بن جبير: أراد بالمحاربة لله ورسوله، الكفر بعد الاسلام. وقال مقاتل: أراد بها الشرك «1» . فأما «الفساد» فهو القتل والجراح وأخذ الأموال، وإِخافة السبيل. قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا اختلف العلماء هل هذه العقوبة على التّرتيب، أم على التّخيير؟ فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على الترتيب «2» ، وأنهم إِذا قتلوا، وأخذوا المال، أو قتلوا ولم يأخذوا، قُتِلوا وصلِّبوا، وإِن أخذوا المال، ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإِن لم يأخذوا المال، نُفوا. قال ابن الأنباري: فعلى هذا تكون «أو» مبعّضة، فالمعنى: بعضهم يفعل به كذا، وبعضهم كذا، ومثله قوله تعالى: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «3» المعنى: قال بعضهم هذا، وقال بعضهم هذا. وهذا القول اختيار أكثر اللغويين. وقال الشافعي: إِذا قتلوا وأخذوا المال، قُتِلوا وصُلِّبوا، وإِذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلَّبوا، وإِذا أخذوا المال ولم يَقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقال مالك: الإِمام مخير في إِقامة أيِّ الحدود شاء، سواء قتلوا أو لم يقتلوا، أخذوا المال أو لم يأخذوا، والصلب بعد القتل. وقال أبو حنيفة، ومالك: يُصْلب ويُبعج برمحٍ حتى يموت. واختلفوا في مقدار زمان الصّلب. فعندنا أنه يُصلب بمقدار ما يشتهر صلبُه. واختلف أصحاب الشافعي، فقال بعضهم: ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال بعضهم: يترك حتى يسيل صديده. قال أبو عبيدة: معنى «من خلاف» أن تُقطَع يدُه اليُمنى ورجله اليسرى، يُخالَف بين قطعهما. فأما «النفي» فأصله الطرد والإِبعاد. وفي صفة نفيهم أربعة أقوال: أحدها: إِبعادهم من بلاد الاسلام إِلى دار الحرب، قاله أنس بن مالك، والحسن، وقتادة، وهذا إِنما يكون في حق المحارب المشرك، فأما المسلم فلا ينبغي أن يُضطر إِلى ذلك. والثاني: أن يُطلبوا لِتُقام عليهم الحدود، فيُبعدوا، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثالث: إِخراجهم مِن مدينتهم إِلى مدينة أُخرى، قاله سعيد بن جبير. وقال مالك: ينفى إِلى بلدٍ غير بلده، فيحبس هناك. والرابع: أنه الحبس، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وقال أصحابنا: صِفَةُ النفي: أن يُشرّد ولا يترك يأوي في بلد، فكلما حَصَل في بلد نُفي إِلى بلد غيره. وفي «الخزي»

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 552: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: «المحارب لله ورسوله» من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة. (2) قال الإمام الموفق في «المغني» 12/ 475: مسألة: «فمن قتل منهم وأخذ المال، قتل وإن عفا صاحب المال، وصلب حتى يشتهر، ودفع إلى أهله، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، في مقام واحد، ثم حسمتا وخلي» قال الإمام الموفق في شرحه: روينا نحو هذا عن ابن عباس، وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق: وعن أحمد: أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع، كما لو زنى وسرق، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخيّر فيهم بين القتل والصلب، والقطع والنفي لأن «أو» تقتضي التخيير، وهذا قول ابن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبي ثور وداود، وقال أصحاب الرأي: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطع، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين قتله وصلبه، وبين قتله وقطعه، وبين أن يجمع له ذلك كله. لأنه وجد منه ما يوجب القتل والقطع اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 150. (3) سورة البقرة: 135.

[سورة المائدة (5) : آية 34]

قولان: أحدهما: أنه العقاب. والثاني: الفضيحة. وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر، أم لا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي، وأبو يوسف: المصر والصحارى سواء «1» ، ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب، كما يُعتبر في حقِّ السَّارِقِ، خلافاً لمالك. [سورة المائدة (5) : آية 34] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قال أكثر المفسّرين: هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إِذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم، وآمنوا قبل القدرة عليهم، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دمٍ، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون، فاختلفوا فيهم، ومذهب أصحابنا: أن حدود الله تسقط عنهم مِن انحتام القتل والصلب والقطع والنفي. فأما حقوق الآدميين من الجراح والأموال، فلا تسقطها التوبة، وهذا قول الشّافعيّ «2» . [سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ في «الوسيلة» قولان: أحدهما: أنها القربة، قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، والفراء. وقال قتادة: تقربوا إِليه بما يرضيه. قال أبو عبيدة: يقال: توسلت إليه، أي: تقرّبت إليه. وأنشد:

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 474: والمحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء، فيغصبونهم المال مجاهرة. وجملته أن المحاربين الذين تثبت لهم أحكام المحاربة، تعتبر لهم شروط ثلاث: أحدها: أن يكون ذلك في الصحراء، فإن كان منهم في القرى والأمصار، فقد توقف أحمد رحمه الله فيهم، وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق وقال كثير من أصحابنا هو قاطع حيث كان. وبه قال الأوزاعي، والليث والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب، ولأن ذلك إذا وجد في مصر كان أعظم خوفا، وأكثر ضررا، فكان بذلك أولى. (2) جاء في «المغني» 12/ 483: مسألة «فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم، سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين، من الأنفس والجراح والأموال، إلا أن يعفى لهم عنها» قال الإمام الموفق: لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل فيه قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ... فعلى هذا يسقط عنهم تحتّم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح، وغرامة المال والديّة لما لا قصاص فيه، فأما إن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط عنه شيء من حدود الله تعالى. وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة: كالزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة، لأنها حدود الله تعالى، إلا حد القذف، لأنه حق آدمي، ويحتمل أن لا تسقط اه ملخصا.

[سورة المائدة (5) : آية 38]

إِذا غفل الواشُونَ عُدْنَا لِوَصِْلَنا ... وَعَاَد التَّصَافي بيننا وَالوَسَائلُ «1» والثاني: المحبة، يقول: تحببوا إِلى الله، هذا قول ابن زيد. [سورة المائدة (5) : آية 38] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما قال ابن السائب: نزلت في طُعمة بن أُبيرق «2» ، وقد مضت قصّته في سورة النّساء. ووَ السَّارِقُ: إِنما سُمّي سارقاً، لأنه يأخذ الشيء في خفاءٍ، واسترق السّمع: إِذا تسمَّع مستخفياً. قال المبرّد: والسارق هاهنا مرفوع بالابتداء، لأنه ليس القصد منه واحداً بعينه، وإِنما هو، كقولك: مَنْ سَرَق فاقطعْ يده. وقال ابن الأنباري: وإِنّما دخلت الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط، تقديره: من سرق فاقطعوا يَدَهُ، قال الفرّاء: وإِنما قال: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما لأن كلَّ شيءٍ موحّد من خلق الإنسان إِذا ذُكِرَ مضافاً إِلى اثنين فصاعداً، جُمع، تقول: قد هشمت رؤوسَهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضرباً، ومثله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «3» وإِنما اختير الجمع على التثنية، لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الانسان: اليدين، والرجلين، والعينين، فلما جرى أكثره على هذا، ذُهِبَ بالواحد منه إِذا أُضيف إِلى اثنين مذهب التثنية، وقد يجوز تثنيتهما. قال أبو ذؤيب. فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ ... كَنَوَافِذِ العُبُط التي لا تُرقَع «4» فصل: وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كلِّ سارق «5» ، وبينت السُنَّة أن المراد به السارقُ لِنِصابٍ من حِرْزِ مثله، كما قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» . (423) ونهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن قتل النساء، والصبيان، وأهل الصّوامع. واختُلِفَ في مقدار النصاب، فمذهب أصحابنا: أن للسّرقة نصابين: أحدهما: من الذهب ربع دينار، ومن الورق ثلاثة دراهم، أو

_ متفق عليه، وتقدم.

قيمة ثلاثة دراهم مِن العروض وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى تبلغ السّرقة عشرة دراهم. وقال الشافعي: الاعتبار في ذلك بربع دينار، وغيره مقوَّمٌ به، فلو سرق درهمين قيمتهما ربع دينار، قُطع، فان سَرق نصاباً من التّبر، فعليه القطع. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى يبلغ ذلك نصاباً مضروباً، فان سرق منديلاً لا يساوي نصاباً، في طرفه دينار، وهو لا يعلم، لا يقطع. وقال الشافعي: يقطع. فإن سرق ستارة الكعبة، قطع، خلافاً لأبي حنيفة. فإن سرق صَبياً صغيراً حُراً، لم يقطع، وإِن كان على الصغير حُلي. وقال مالك: يقطع بكل حال. وإِذا اشترك جماعة في سرقة نصاب، قطعوا «1» ، وبه قال مالك، إِلا أنه اشترط أن يكون المسروق ثقيلاً يحتاج إِلى معاونة بعضهم لبعض في إِخراجه. وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا قطع عليه بحال ويجبُ القطع على جاحد العاريَّة عندنا، وبه قال سعيد بن المسيب، والليث بن سعد، خلافاً لأكثر الفقهاء. فصل: فأما الحرز، فهو ما جعل للسكنى، وحفظ الأموال، كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس، ويحفظون أمتعتهم بها، فكل ذلك حِرز، وإِن لم يكن فيه حافظ ولا عنده، وسواء سُرِق من ذلك وهو مفتوح الباب، أو لا باب له إِلا أنه محجّر بالبناء. فأما ما كان في غير بناءٍ ولا خيمة، فإنه ليس في حرز إِلا أن يكون عنده من يحفظه. ونقل الميموني عن أحمد: إِذا كان المكان مشتركاً في الدّخول إِليه، كالحمام والخيمة لم يقطع السارق منه، ولم يُعتَبَر الحافظ. ونقل عنه ابن منصور: لا يقطع سارق الحمام إِلا أن يكون على المتَاع أجير حافظ. فأما النبّاش، فقال أحمد في رواية أبي طالب: يقطع، وبه قال مالك، والشافعي، وابن أبي ليلى. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة: لا يقطع. فصل: فأما موضع قطع السارق «2» ، فمن مَفْصِل الكَفِّ، ومِن مَفْصِلِ الرِّجْلِ. فأمّا اليد اليسرى

_ (1) جاء في «المغني» 12/ 468: «وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا» قال الإمام الموفق: وبهذا قال مالك وأبو ثور. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق: لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا، كما لو انفرد كل واحد بدون النصاب اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 146. وجاء في «المغني» 13/ 172- 173: «ولا يقام الحد على المسلم في أرض العدو» وجملته أن من أتى حدا من الغزاة، أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب، لم يقم عليه حتى يقفل، فيقام عليه حده، وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق: وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يقام الحد في كل موضع، لأن الله تعالى أمر بإقامته في كل مكان وزمان، إلا أن الشافعي قال: إذا لم يكن أمير الجيش الإمام، أو أمير إقليم، فليس له إقامة الحد، ويؤخّر حتى يأتي الإمام. لأن إقامة الحدود إليه، وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود، أو قوة به، أو شغل عنه أخّر. وقال أبو حنيفة: لا حد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع. اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 171 بتخريجي. (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 440: لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف، وهو الكوع، لأنها آلة السرقة، فناسب عقوبته بإعدام آلتها، وإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، وبذلك قال جماعة إلا عطاء حكي عنه أنه تقطع يده اليسرى، وروي عن داود وربيعة، وهذا شذوذ يخالف قول جماعة فقهاء الأمصار من أهل الفقه والأثر، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وقول أبي بكر وعمر. وأما الآية فالمراد بها قطع يد كل واحد منهما. وفي قراءة ابن مسعود «فاقطعوا أيمانهما» إذا ثبت هذا، فإنه تقطع رجله اليسرى لقوله تعالى: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم، وفعل ذلك عمر وكان علي يقطع من نصف القدم، من معقد الشراك، ويدع له عقبا يمشي عليها، وهو قول أبي ثور. - قال: وإذا قطع حسم، وهو أن يغلى الزيت فيغمس عضوه فيه، لتنسد أفواه العروق اه ملخصا. وانظر «أحكام الجصاص» 4/ 69- 74، و «تفسير القرطبي» 6/ 171- 172. وجاء في «المغني» 12/ 446- 447 ما ملخصه: مسألة: «فإن عاد حبس، ولا يقطع غير يد ورجل» يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده ورجله، لم يقطع منه شيء آخر وحبس، وبهذا قال علي والحسن والشعبي والنخعي والزهري وحماد والثوري وأصحاب الرأي، وعن أحمد أنه تقطع في الثالثة يده اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وفي الخامسة يعزر ويحبس، وروي عن أبي بكر وعمر أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل، وهذا قول قتادة ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز، أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة، والرجل اليمنى في الرابعة، ويقتل في الخامسة لحديث جابر: «جيء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بسارق فقال: اقتلوه.....» ولنا ما روى سعيد عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبيه قال: حضرت عليّ بن أبي طالب، أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين. قال: قتلته إذا، وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام، بأي شيء يتوضأ بأي شيء يغتسل، بأي شيء يقوم على حاجته، فرده إلى السجن، ثم جلده جلدا شديدا ثم أرسله اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 172 و «أحكام الجصاص» 4/ 72- 73.

[سورة المائدة (5) : الآيات 39 إلى 40]

والرجل اليُمنى، فروي عن أحمد: لا تقطع، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي حنيفة، وروي عنه: أنها تقطع، وبه قال مالك، والشافعي. ولا يثبت القطع إِلا باقراره مرتين، وبه قال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يثبت بمرّة. ويجتمع القطع والغرم موسِراً كان أو معسراً. وقال أبو حنيفة: لا يجتمعان، فان كانت العين باقية أخذها ربُّها، وإِن كانت مستهلكة، فلا ضمان. وقال مالك: يضمنها إِن كان موسراً، ولا شيء عليه إِن كان معسراً «1» . قوله تعالى: نَكالًا مِنَ اللَّهِ قد ذكرنا «النكال» في البقرة. قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال سعيد بن جبير: شديد في انتقامه، حكيم إذا حكم بالقطع. قال الأصمعي: قرأت هذه الآية، وإِلى جنبي أعرابيٌ، فقلت: والله غفور رحيم، سهواً، فقال الأعرابي: كلام مَن هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعد فأعدت: والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلام الله، فتنبهت، فقلت: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فقال: أصبت، هذا كلام الله. فقلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع. [سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 40] فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) قوله تعالى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ. سبب نزولها:

_ (1) قال الإمام الموفق في «المغني» 12/ 454 ما ملخصه: لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة إذا كانت باقية، فأما إن كانت تالفة، فعلى السارق رد قيمتها، أو مثلها إن كانت مثلية، قطع أو لم يقطع، موسرا كان أو معسرا، وهذا قول الحسن والنخعي وحماد والبتّي والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يجتمع الغرم والقطع، إن غرمها قبل القطع سقط القطع، وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم، وقال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول: لا غرم على السارق إذا قطع، ووافقهم مالك في المعسر، ووافقنا في الموسر. وانظر «أحكام الجصاص» 4/ 83- 84.

[سورة المائدة (5) : آية 41]

(424) أن امرأة كانت قد سرقت، فقالت: يا رسول الله هل لي من توبة؟ فنزلت هذه الآية. قاله عبد الله بن عمرو. وقال سعيد بن جبير: فمن تاب من بعد ظلمه، أي: سرقته، وأصلح العمل، فإن الله يتجاوز عنه، إِن الله غفور لما كان منه قبل التوبة، رحيم لمن تاب. [سورة المائدة (5) : آية 41] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «1» : (425) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّ بيهودي وقد حمموه «2» وجلدوه، فقال: أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدُك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولكنّه كثر في أشرافنا، فكنا نترك الشريف، ونُقيمه على الوضيع، فقلنا: تعالوا نُجْمِعْ على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ إنّي أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمَرَ به فَرُجم، ونزلت هذه الآية، رواه البراء بن عازب.

_ أخرجه أحمد 2/ 177 والطبري 11922 من حديث عبد الله بن عمرو قال: «إن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقطعوا يدها، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال نعم. أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك. فأنزل الله عز وجل: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ إلى آخر الآية. وفيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف الحديث، وهذا الحديث يعرف بحديث المخزومية، وأصله في الصحيحين دون ذكر نزول الآية، وبسياق آخر. وانظر «تفسير الشوكاني» 803 بتخريجنا. صحيح. أخرجه مسلم 1700 وأبو داود 4447 و 4448 وأحمد 4/ 286 وابن ماجة 2558 والبيهقي 8/ 246 والطبري 12039 من حديث البراء بن عازب.

(426) والثاني: أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر، وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة. (427) والثالث: أنها نزلت في يهودي قتل يهودياً، ثم قال: سلوا محمداً فإن كان بُعِثَ بالدّية، اختصمنا إِليه، وإِن كان بعث بالقتل، لم نأته، قاله الشعبي. والرابع: أنها نزلت في المنافقين، قاله ابن عباس، ومجاهد «1» . (428) والخامس: أن رجلاً من الأنصار أشارت إِليه قريظة يوم حِصارهم: على ماذا ننزل؟ فأشار إِليهم: أنه الذّبح، قاله السدي. (429) قال مقاتل: هو أبو لبابة بن عبد المنذر، قالت له قريظة: اننزل على حُكم سعدٍ؟ فأشار بيده: أنه الذّبح، وكان حليفاً لهم. قال أبو لبابة: فعلمت أني قد خُنتُ الله ورسوله، فنزلت هذه الآية. ومعنى الكلام: لا يحزنك مسارعة الذي يُسارِعُون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم وهم المنافقون، ومن الذين هادوا وهم اليهود. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قال سيبويه: هو مرفوعٌ بالابتداء. قال أبو الحسن الأخفش: ويجوز أن يكونَ رفعُه على معنى: ومن الذين هادوا سماعون للكذب. وفي معناه أربعة أقوال: أحدها: سماعون منك ليكذبوا عليك. والثاني: سماعون للكذب، أي: قائلون له. والثالث: سماعون للكذب الذي بدَّلوه في توراتهم. والرابع: سماعون للكذب، أي قابلون له، ومنه: «سمع الله لمن حمده» أي: قبل. وفي قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ قولان: أحدهما: يسمعون لأولئك، فهم عيونٌ لهم. والثاني: سمّاعون من قوم آخرين، وهم رؤساؤهم المبدِّلون التوراة. وفي السمّاعين للكذب، وللقوم الآخرين قولان: أحدهما: أن «السّماعين للكذب» يهود المدينة، والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهود فدَك. والثاني: بالعكس من هذا. وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال: أحدها: أنه تغيير حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيّروا الرّجم، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: تغيير ما يسمعونه من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالكذب عليه، قاله الحسن. والثالث: إِخفاء صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والرابع: إِسقاط القود بعد استحقاقه. والخامس: سوء التأويل. وقال ابن جرير: المعنى يُحرّفون حكم الكلم، فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين بذلك.

_ أخرجه الطبري 11926 و 11928 و 11929 عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وإسناد ضعيف، فيه راو لم يسمّ، وهو عجز حديث مطول. وأخرجه أبو داود 4450 و 4451 والطبري 12013 والواحدي 392 من حديث أبي هريرة، ولم يذكر فيه أنه ابن صوريا. ضعيف. أخرجه الطبري 11924 و 11925 عن الشعبي مرسلا، وهو معارض بحديث البراء، وذاك أصح. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 11923 عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، والمتن منكر، معارض بما تقدم عن البراء، ومراسيل السدي مناكير. وانظر «أحكام القرآن» 717 بتخريجنا. مقاتل متروك، وكذبه غير واحد، فخبره لا شيء، والصواب ما رواه البراء.

[سورة المائدة (5) : آية 42]

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ قال الزجاج: أي من بعد أن وَضَعه الله مواضعه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه. قوله تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ في القائلين لهذا قولان: (430) أحدهما: أنهم اليهود، وذلك أن رجلاً وامرأةً من أشرافهم زنيا، فكان حدهما الرّجم، فكرهت اليهود رجمهما، فبعثوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألونه عن قضائه في الزّانيين إِذا أُحصِنَا، وقالوا: إِن أفتاكم بالجلد فخذوه، وإِن أفتاكم بالرّجم فلا تعملوا به، هذا قول الجمهور. (431) والثاني: أنهم المنافقون. قال قتادة: وذلك أن بني النضير كانوا لا يُعطون قريظة القود إِذا قتلوا منهم، وإِنما يعطونهم الدية، فإذا قتلت قريظة من النضير لم يَرْضوا إلا بالقود تعززا عليهم، فقتل بنو النضير رجلا من قريظة عمداً، فأرادوا رفع ذلك إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال رجل من المنافقين: إِن قتيلكم قتيل عمد، ومتى ترفعوا ذلك إِلى محمد خشيتُ عليكم القود، فان قُبِلَتْ منكم الدِّية فأعطوا، وإِلا فكونوا منه على حذر. وفي معنى فَاحْذَرُوا ثلاثة أقوال: أحدها: فاحذروا أن تعملوا بقوله الشديد. والثاني: فاحذروا أن تُطْلِعُوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به. والثالث: فاحذروا أن تسألوه بعدها. قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ في «الفتنة» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى الضلالة، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني: العذاب، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: الفضيحة، ذكره الزجاج. قوله تعالى: فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا تغني عنه، ولا تقدر على استنقاذه. وفي هذا تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من حزنه على مسارعتهم في الكفر. قوله تعالى: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ قال السدّي: يعني المنافقين واليهود، لم يُرِدْ أن يطهر قلوبهم من دَنَسِ الكُفر، ووسَخ الشِّرك بطهارة الإِيمان والإِسلام. قوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أما خزي المنافقين، فبهتك ستره وإِطلاع النبي على كفرهم، وخزي اليهود بفضيحتهم في إِظهار كذبهم إِذ كتموا الرجم، وبأخذ الجزية منهم. قال مقاتل: وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي النّضير بإجلائهم. [سورة المائدة (5) : آية 42] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قال الحسن: يعني حكام اليهود يسمعون الكذب ممن يكذبُ عندهم في دعواه، ويأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان: هم اليهود يسمعون الكذب، وهو قول بعضهم لبعض: محمد كاذب، وليس بنبي، وليس في التوراة رجم، وهم يعلمون كذبهم. قوله تعالى:

_ أخرجه الطبري 11941 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورجاله ثقات لكنه منقطع بينهما، ومع ذلك هو يتأيد بحديث البراء. ضعيف. أخرجه الطبري 11944 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.

[سورة المائدة (5) : آية 43]

أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر «السُّحُتُ» مضمومة الحاء مثقَّلة. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة «السُّحْتُ» ساكنة الحاء خفيفة. وروى خارجة بن مصعب عن نافع «أكّالون للسَّحْت» بفتح السين وجزم الحاء. قال أبو علي: السُّحْت والسُّحُتُ لغتان، وهما اسمان للشيء المسحوت، وليسا بالمصدر، فأما من فتح السين، فهو مصدر سحتٍ، فأوقع اسم المصدر على المسحوت، كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير. وفي المراد بالسحت ثلاثة أقوال: أحدها: الرشوة في الحكم. والثاني: الرشوة في الدين، والقولان عن ابن مسعود. والثالث: أنه كل كسب لا يحل، قاله الأخفش. قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فيمن أُريد بهذا الكلام قولان: أحدهما: اليهوديان اللذان زنيا، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: رجلان من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان حيي بن أخطب قد جعل للنضيريّ ديتين، والقرظي دية، لأنه كان من النضير، فقالت قريظة: لا نرضى بحكم حُيي، ونتحاكم إِلى محمد، فقال الله تعالى لنبيّه: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ الآية. فصل: اختلف علماء التفسير في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها منسوخة، وذلك أن أهل الكتاب كانوا إِذا ترافعوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان مخيَّراً، إِن شاء حكم بينهم، وإِن شاء أعرض عنهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فلزمه الحكم، وزال التخيير، وهذا مروي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، والسدي. والثاني: أنها محكمة، وأن الإِمام ونوابه في الحكم مخيّرون إِذا ترافعوا إِليهم، إِن شاؤوا حكموا بينهم، وإِن شاؤوا أعرضوا عنهم، وهذا مروي عن الحسن، والشعبي، والنخعي، والزهري، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو الصحيح، لأنه لا تنافي بين الآيتين، لأن إِحداهما: خيَّرت بين الحكم وتركه. والثانية: بينت كيفية الحكم إِذا كان. [سورة المائدة (5) : آية 43] وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) قوله تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ قال المفسّرون: هذا تعجيب من الله عزّ وجلّ لنبيه من تحكيم اليهود إِياهُ بعد علمهم بما في التوراة من حكم ما تحاكموا إِليه فيه، وتقريع لليهود إِذ يتحاكمون إِلى مَن يجحدون نبوته، ويتركون حكم التوراة التي يعتقدون صحتها. قوله تعالى: فِيها حُكْمُ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: حكم الله بالرجم، وفيه تحاكموا، قاله الحسن. والثاني: حكمه بالقود، وفيه تحاكموا، قاله قتادة. قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: من بعد حكم الله في التوراة. والثاني: من بعد تحكيمك. وفي قوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ قولان: أحدهما: ليسوا بمؤمنين لتحريفهم التوراة. والثاني: ليسوا بمؤمنين أن حكمك من عند الله لجحدهم نبوّتك.

[سورة المائدة (5) : آية 44]

[سورة المائدة (5) : آية 44] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية: استفتاء اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمر الزانيين، وقد سبق «1» . و «الهدى» : البيان. فالتّوراة مبيّنة صحة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومبينة ما تحاكموا فيه إِليه. و «النور» : الضياء الكاشف للشبهات، والموضح للمشكلات. وفي «النبيين الذين أسلموا» ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الأنبياء من لَدُنْ موسى إِلى عيسى، قاله الأكثرون. فعلى هذا القول في معنى «أسلموا» أربعة أقوال: أحدها: سلموا لحكم الله، ورضوا بقضائه. والثاني: انقادوا لحكم الله، فلم يكتموه كما كتم هؤلاء. والثالث: أسلموا أنفسهم إِلى الله عزّ وجلّ. والرابع: أسلموا لما في التوراة ودانوا بها، لأنه قد كان فيهم من لم يعمل بكل ما فيها كعيسى عليه السلام. قال ابن الأنباري: وفي «المسلم» قولان: أحدهما: أنه سُمّي بذلك لاستسلامه وانقياده لربه. والثاني: لإِخلاصه لربّه، من قوله تعالى: وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ «2» أي: خالصاً له. والثاني: أن المراد بالنبيين نبيّا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله الحسن، والسدي. وذلك حين حكم على اليهود بالرّجم، وذكره بلفظ الجمع كقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «3» . وفي الذي حكم به منها قولان: أحدهما: الرجم والقود. والثاني: الحكم بسائِرها ما لم يرد في شرعه ما يخالف. والثالث: النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم، قاله عكرمة. قوله تعالى: لِلَّذِينَ هادُوا قال ابن عباس: تابوا من الكفر. قال الحسن: هم اليهود. قال الزجاج: ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير. على معنى: إِنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونورٌ للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا. فأما «الربانيون» فقد سبق ذكرهم في (آل عمران) . وأما «الأحبار» فهم العلماء واحدهم حَبر وحِبر، والجمع أحبار وحبور. وقال الفراء: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار: حِبر بكسر الحاء. وفي اشتقاق هذا الاسم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من الحَبار وهو الأثر الحسن، قاله الخليل. والثاني: أنه من الحِبر الذي يكتب به، قاله الكسائي. والثالث: أنه من الحبر الذي هو الجمال والبهاء. (432) وفي الحديث «يخرج رجل من النار قد ذهَبَ حِبْرُه وسبره» أي: جماله وبهاؤه. فالعالم

_ لم أره مسندا، وإنما أورده الزمخشري في «الفائق» 1/ 85 وابن الجوزي في «غريب الحديث» 1/ 186 بدون إسناد، ومن غير عزو، فهذا مما لا أصل له. أي لا إسناد له.

بَهِيٌ بجمال العلم، وهذا قول قطرب. وهل بين الرّبانيين والأحبار فَرْق أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا فرق، والكل العلماء، هذا قول الأكثرين، منهم ابن قتيبة، والزجاج. وقد روي عن مجاهد أنه قال: الرّبانيون: الفُقهاء العُلماء، وهم فوق الأحبار. وقال السدي: الربانيون العلماء، والأحبار القُرّاء. وقال ابن زيد: الربانيون: الولاة، والأحبار: العُلماء، وقيل: الربانيون: علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود. قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ قال ابن عباس: بما استودعوا من كتاب الله وهو التوراة. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: يحكمون بحكم ما استحفظوا. والثاني: العلماء بما استحفظوا. قال ابن جرير: «الباء» في قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا من صلة الأحبار. وفي قوله تعالى: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ قولان: أحدهما: وكانوا على ما في التوراة من الرَّجم شهداء، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وكانوا شهداء لمحمد عليه السلام بما قال أنه حق. رواه العوفي عن ابن عباس. قوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، وابن عامر، والكسائي «واخشون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو بياء في الوصل، وبغير ياء في الوقف، وكلاهما حسنٌ. وقد أشرنا إِلى هذا في سورة آل عمران «1» . ثم في المخاطبين بهذا قولان. أحدهما: أنهم رؤساء اليهود، قيل لهم: فلا تخشوا الناس في إِظهار صفة محمد، والعمل بالرّجم، واخشوني في كتمان ذلك، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. قال مقاتل: الخطاب ليهود المدينة، قيل لهم: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرّجم، ونعت محمد، واخشوني في كتمانه. والثاني: أنهم المسلمون، قيل لهم: لا تخشوا الناس، كما خشيت اليهود الناس، فلم يقولوا الحق، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا في المراد بالآيات قولان: أحدهما: أنها صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. والثاني: الأحكام والفرائِض. والثمن القليل مذكور في البقرة. فأمّا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. وقوله تعالى بعدها: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال «2» : أحدها: أنها نزلت في اليهود خاصة، رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: أنها نزلت في المسلمين، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى. والثالث: أنها عامّة في

_ (1) سورة آل عمران: 173. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 597: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها. وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرا عنهم أولى قلت: ومع ذلك العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن فعل من هذه الأمة مثل أفعال اليهود ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، ومن فعل أفعال المشركين ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، ومن فعل أفعال النصارى ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، فإن هذا القرآن ما نزل لمجرد التلاوة والتبرك به، بل ليهتدى به، وليعتبر به. والله ولي التوفيق.

[سورة المائدة (5) : آية 45]

اليهود، وفي هذه الأمَّة، قاله ابن مسعود، والحسن، والنخعي، والسدي. والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، قاله أبو مجلز. والخامس: أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، قاله الشعبي. وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان: أحدهما: أنه الكفر بالله تعالى. والثاني: أنه الكفر بذلك الحكم، وليس بكفر ينقل عن الملّة. وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله، كما فعلت اليهود، فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إِلى الهوى من غير جحود، فهو ظالم وفاسِق. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومَن أقرَّ به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم. [سورة المائدة (5) : آية 45] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) قوله تعالى: وَكَتَبْنا أي: فرضنا عَلَيْهِمْ أي: على اليهود فِيها أي: في التوراة. قال ابن عباس: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، فما بالهم يخالفون، فيقتلون النفسين بالنفس، ويفقئون العينينِ بالعين؟ وكان على بني إِسرائيل القصاص أو العفو، وليس بينهم دية في نفس ولا جُرح، فخفف الله عن أُمة محمد بالدية. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: النَّفسَ بالنفسِ، والعينَ بالعينِ، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنَ بالسنِ، ينصبون ذلك كلَّه، ويرفعون «والجروحُ» . وكان نافع، وعاصم، وحمزة ينصبون ذلك كلَّه، وكان الكسائي يقرأ: «أن النفس بالنفس» نصباً، ويرفع ما بعد ذلك. قال أبو علي: وحجّته أن الواو لعطف الجُمل، لا للاشتراك في العامل، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى، لأن معنى: وكتبنا عليهم: قلنا لهم: النفس بالنفس، فحمل العين على هذا، وهذه حجّة من رفع الجروح. ويجوز أن يكون مستأنفاً، لا أنه ممّا كُتب على القوم، وإِنما هو ابتداء ايجاب. قال القاضي أبو يعلى: وقوله تعالى: العين بالعين، ليس المراد قلع العين بالعين، لتَعذّر استيفاء المماثلة، لأنا لا نقف على الحدِّ الذي يجب قلعه، وإِنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمةٌ، وصفة ذلك أن تُشدَّ عين القالع، وتُحمى مرآة، فتقدّم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها. وأما الأنف فإذا قطع المارن، وهو ما لان منه، وتركت قصبته، ففيه القصاص، وأما إِذا قطع من أصله، فلا قصاص فيه، لأنه لا يمكن استيفاء القصاص، كما لو قطع يده من نصف الساعد. وقال أبو يوسف، ومحمد: فيه القصاص إِذا استوعب. وأما الأُذن، فيجب القصاص إذا استُوعِبَت، وعرف المقدار. وليس في عظمٍ قصاص إِلا في السن، فان قلعت قلع مثلها، وإِن كُسِرَ بعضُها، برد بمقدار ذلك. وقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ يقتضي إِيجاب القصاص في سائِر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها. قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يشير إِلى القصاص. فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ في هاء «له» قولان:

[سورة المائدة (5) : آية 46]

أحدهما: أنها إِشارة إِلى المجروح، فاذا تصدّق بالقصاص كفّر من ذنوبه، وهو قول ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والحسن، والشعبي. والثاني: إِشارة إِلى الجارح إِذا عفا عنه المجروح، كفر عنه ما جنى، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته، لأنه إِذا كان مُصرّاً فعقوبة الإِصرار باقية. [سورة المائدة (5) : آية 46] وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) قوله تعالى: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي: وأتبعنا على آثار النبيّين الذين أسلموا بِعِيسَى فجعلناه يقفو آثارهم مُصَدِّقاً أي: بعثناه مُصدّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً ليس هذا تكرار للأول، لأن الأول لعيسى، والثاني للإنجيل، لأن عيسى كان يدعو إِلى التصديق بالتوراة، والإِنجيل أنزل وفيه ذكر التّصديق بالتّوراة. [سورة المائدة (5) : آية 47] وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) قوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ قرأ الأكثرون بجزم اللام على معنى الأمر، تقديره: وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه. وقرأ الأعمش، وحمزة بكسر اللام، وفتح الميم على معنى «كي» ، فكأنه قال: وآتيناه الإِنجيل لكي يحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه. [سورة المائدة (5) : آية 48] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن بِالْحَقِّ أي: بالصدق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ قال ابن عباس: يريد كلَّ كتاب أنزله الله تعالى. وفي «المهيمن» أربعة أقوال: أحدها: أنه المؤيمن، رواه التميمي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. وعكرمة، وعطاء، والضحاك. وقال المبرّد: «مهيمن» في معنى: «مؤيمن» إِلا أن الهاء بدل من الهمزة، كما قالوا: أرقت الماء، وهرقت، وإِيّاك وهِيّاك. وأرباب هذا القول يقولون: المعنى: أن القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتاب. إِلا أن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد: ومُهيمَناً عليه. قال: محمد مؤتمن على القرآن. فعلى قوله، في الكلام محذوف، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه، فتكون هاء «عليه» راجعة إِلى القرآن. وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتاب المتقدّمة. والثاني: أنه الشاهد، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل. والثالث: أنه المصدِّق على ما أخبر عن الكتاب، وهذا قول ابن زيد، وهو قريبٌ من القول الأول. والرابع: أنه الرقيب الحافظ، قاله الخليل.

قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ يشير إِلى اليهود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إِليك في القرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ. قاله أبو سليمان: المعنى: فترجع عما جاءك. قال ابن عباس: لا تأخذ بأهوائِهم في جَلد المُحصَن. قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قال مجاهد: الشرعة: السُّنة، والمنهاج: الطريق. وقال ابن قتيبة: الشرعة والشريعة واحد، والمنهاج: الطريق الواضح. فان قيل: كيف نسق «المنهاج» على «الشرعة» وكلاهما بمعنى واحد؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن بينهما فرقاً من وجهين: أحدهما: أن «الشرعة» ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر، قاله المبرّد. والثاني: أن «الشرعة» الطريق الذي ربما كان واضحاً، وربما كان غير واضح، والمنهاج: الطريق الذي لا يكون إِلا واضحاً، ذكره ابن الأنباري. فلما وقع الاختلاف بين الشرعة والمنهاج، حَسُنَ نسق أحدهما على الآخر. والثاني: أن الشِّرعة والمنهاج بمعنى واحد، وإِنما نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين. قال الحطيئة: ألا حَبَّذّا هندٌ وأرضٌ بها هِندُ ... وهندٌ أتى من دُونها النَّأْي والبُعْدُ فنسق البُعد على النأي لما خالفه في اللفظ، وإِن كان موافقاً له في المعنى، ذكره ابن الأنباري. وأجاب عنه أربابُ القول الأول، فقالوا: «النأي» كل ما قلّ بعده أو كثُر كأنه المفارقة، والبعد إِنما يُستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته. وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: لكل ملة جعلنا شرعةً ومنهاجاً، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإِنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة، هذا قول الأكثرين. قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث: أمةِ موسى، وعيسى، وأمة محمد، فللتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللفرقان شريعة، يُحِلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرّم ما يشاء بلاءً، ليعلمَ من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يُقبل غيره، التوحيدُ والإِخلاصُ لله الذي جاءت به الرسل. والثاني: أن المعنى: لكل مَن دخل في دين محمّد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا، هذا قول مجاهد. قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فيه قولان: أحدهما: لجمعكم على الحق. والثاني: لجعلكم على ملةٍ واحدةٍ وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم فِي ما آتاكُمْ من الكتاب، وبيّن لكم من الملل. فإن قيل: إِذا كان المعنى بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً: نبينا محمداً مع سائر الأنبياء قبله، فمن المخاطب بقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ؟ فالجواب: أنه خطاب لنبينا، والمراد به سائِر الأنبياء والأمم. قال ابن جرير: والعرب من شأنها إِذا خاطبت غائباً، فأرادت الخبر عنه أن تغلِّب المخاطَب، فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب. قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ قال ابن عباس، والضحاك: هو خطابٌ لأمة محمد عليه السلام. قال مقاتل: و «الخيرات» : الأعمال الصالحة: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مِن الدِّين. قال ابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالأدلّة والحجج، وغدا بيبّنه بالمجازاة.

[سورة المائدة (5) : آية 49]

[سورة المائدة (5) : آية 49] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ سبب نزولها: (433) أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسد «1» ، وعبد الله بن صُوريا، وشأس بن قيس، قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إِلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فأتَوه، فقالوا: يا محمد، قد عرفتَ أنَّا أحبارُ اليهود وأشرافُهم، وأنَّا إِن تبعناك، اتبعك اليهود، وإِن بيننا وبين قوم خصومة، فنحاكمهم إِليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل: أن جماعة من بني النضير قالوا له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء، كما كنا عليه من قبلُ، ونبايعك؟ فنزلت هذه الآية. قال القاضي أبو يعلى: وليس هذه الآية تكراراً لما تقدّم، وإِنما نزلتا في شيئين مختلفين: أحدهما: في شأن الرّجم. والآخر: في التسوية في الديات حتى تحاكموا إِليه في الأمرين. قوله تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ أي: يصرفوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ وفيه قولان: أحدهما: أنه الرّجم، قاله ابن عباس. والثاني: شأن القصاص والدماء، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فيه قولان: أحدهما: عن حكمك. والثاني: عن الإِيمان، فاعلم أن إِعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم. وفي ذكر البعض قولان: أحدهما: أنه على حقيقته، وإِنما يصيبهم ببعض ما يستحقونه. والثاني: أن المراد به الكل، كما يُذكر لفظ الواحد ويراد به الجماعة، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «2» والمراد: جميع المسلمين. وقال الحسن: أراد ما عجَّله من إِجلاء بني النضير وقتل بني قريظة. قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ قال المفسّرون: أراد اليهود. وفي المراد بالفسق هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: الكذب، قاله ابن زيد. والثالث: المعاصي، قاله مقاتل. [سورة المائدة (5) : آية 50] أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قرأ الجمهور «يبغون» بالياء، لأن قبله غَيبة، وهي قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء، على معنى: قل لهم. (434) وسبب نزولها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما حكم بالرّجم على اليهوديّين تعلّق بنو قريظة ببني النّضير،

_ ضعيف. أخرجه الطبري 12156 من حديث ابن عباس بسند ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس. وورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه النسائي 8/ 18- 19 والدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدّى مائة وسق من تمر، فلما بعث صلّى الله عليه وسلّم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأتوه فنزلت وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. وهو حديث حسن. رجاله ثقات، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة وليس فيه اللفظ المرفوع. وكرره النسائي ومن وجه آخر عن داود بن حصين، عن عكرمة عن ابن عباس، وداود ضعّف في روايته عن عكرمة، وورد من وجه آخر، أخرجه أحمد 2212 والطبراني 10732 وإسناده لين لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد، لكن هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم.

[سورة المائدة (5) : آية 51]

وقالوا: يا محمد هؤلاء إِخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، إِذا قتلوا منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً من تمر، وإِن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا أربعين ومائة وسْق، وإِن قتلنا منهم رجلاً قتلوا به رجلين، وإِن قتلنا امرأةً قتلوا بها رجلاً، فاقض بيننا بالعدل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم» فقال بنو النضير: والله لا نرضى بقضائك، ولا نطيع أمرك، ولنأخذن بأمرنا الأوّل، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: ومعنى الآية: أتطلب اليهود حكماً لم يأمر الله به، وهم أهل كتاب الله، كما تفعل الجاهلية؟! قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً قال ابن عباس: ومن أعدل؟! وفي قوله تعالى: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قولان: أحدهما: يوقنون بالقرآن، قاله ابن عباس. والثاني: يوقنون بالله، قاله مقاتل. وقال الزجاج: من أيقن تبيّن عدلَ الله في حكمه. [سورة المائدة (5) : آية 51] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (435) أحدها: أنها نزلت في أبي لُبابة حين قال لبني قريظة إِذ رضوا بحكم سعد: إِنه الذّبح، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول عكرمة. (436) والثاني: أن عُبادة بن الصّامت قال: يا رسول الله إِن لي موالي من اليهود، وإِني أبرأ إِلى الله مِن ولاية يهود، فقال عبد الله بن أُبيّ: إِنّي رجلٌ أخاف الدوائر، ولا أبرأ إِلى الله مِن ولاية يهود، فنزلت هذه الآية، قاله عطية العوفي.

_ أخرجه الطبري 12166 عن عكرمة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. - وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة كما تقدّم مرارا. أخرجه الطبري 12162 عن عطية العوفي مرسلا، ومع إرساله، عطية واه. وورد من مرسل الزهري، أخرجه الطبري 12163، ومراسيل الزهري واهية. وله شاهد موصول، أخرجه الطبري 12164 عن عبادة بن الوليد، وهذا مرسل حسن، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 729 بتخريجنا.

[سورة المائدة (5) : آية 52]

(437) والثالث: أنه لما كانت وقعة أُحد خافت طائفةٌ من الناس أن يُدال عليهم الكُفَّارُ، فقال رجل لصاحبه: أمّا أنا فألحق بفلان اليهودي، فآخذ منه أماناً، أو أتهوّد معه، فنزلت هذه الآية، قاله السدي، ومقاتل. قال الزجاج: لا تتولوهم في الدين. وقال غيره: لا تستنصروا بهم، ولا تستعينوا، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في العون والنصرة. قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: من يتولهم في الدين، فانه منهم في الكفر. والثاني: من يتولهم في العهد فانه منهم في مخالفة الأمر. [سورة المائدة (5) : آية 52] فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) قوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ قال المفسّرون: نزلت في المنافقين، ثم لهم في ذلك قولان: (438) أحدهما: أن اليهود والنصارى كانوا يميرون «1» المنافقين ويقرضونهم فيُوادُّونهم، فلما نزلت لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ قال المنافقون: كيف نقطع مودّة قوم إِن أصابتنا سنة وسَّعوا علينا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وممن قال: نزلت في المنافقين، ولم يعين: مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أُبيّ، قاله عطيّة العوفي «2» . وفي المراد بالمرض قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله مقاتل. والثاني: النّفاق، قاله الزجّاج. وفي قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: يسارعون في موالاتهم ومناصحتهم، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: في رضاهم، قاله ابن قتيبة. والثالث: في معاونتهم على المسلمين، قاله الزجاج. وفي المراد «بالدائرة» قولان: أحدهما: الجدب والمجاعة، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة: نخشى أن يدور علينا الدّهر بمكروه، يعنون الجدب، فلا يبايعوننا، ونمتار فيهم فلا يميروننا. والثاني: انقلاب الدولة لليهود على المسلمين، قاله مقاتل. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال: أحدها: فتح مكة، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: فتح قرى اليهود، قاله الضحاك. والثالث: نصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على مَن خالفه، قاله قتادة، والزجاج. والرابع: الفَرَج، قاله ابن قتيبة. وفي الأمر أربعة أقوال: أحدها: إجلاء

_ ضعيف. أخرجه الطبري 12165 عن السدي، مرسلا، فهو ضعيف. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة كما تقدم مرارا.

[سورة المائدة (5) : آية 53]

بني النضير وأخذ أموالهم، وقتل قريظة، وسبي ذراريهم، قاله ابن السائِب، ومقاتل. والثاني: الجزية، قاله السدي. والثالث: الخصب، قاله ابن قتيبة. والرابع: أن يؤمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم باظهار أمر المنافقين وقتلهم، قاله الزجاج. وفيما أسرُّوا قولان: أحدهما: موالاتهم. والثاني: قولهم: لعل محمّدا لا ينصر. [سورة المائدة (5) : آية 53] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ أبو عمرو، بنصب اللام على معنى: وعسى أن يقول. ورفعه الباقون، فجعلوا الكلام مستأنفاً. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «يقول» ، بغير واو، مع رفع اللام، وكذلك في مصاحف أهل مكة والمدينة. قال المفسرون: لما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني النضير، اشتد ذلك على المنافقين، وجعلوا يتأسفون على فراقهم، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إِذا رآه جادّاً في معاداة اليهود: أهذا جزاؤهم منك، طال والله ما أشبعوا بطنك؟ فلما قُتلت قريظة، لم يُطق أحدٌ من المنافقين ستر ما في نفسه، فجعلوا يقولون: أربعمائة حُصِدوا في ليلةٍ، فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين، قالوا: أَهؤُلاءِ يعنون المنافقين الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قال ابن عباس: أغلظوا في الأيمان. وقال مقاتل: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ القسم بالله. وقال الزجاج: اجتهدوا في المبالغة في اليمين إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ على عدوّكم حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بنفاقهم. [سورة المائدة (5) : آية 54] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) قوله تعالى: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: يرتدَّ، بإدغام الدال الأولى في الأخرى، وقرأ نافع، وابن عامر: يرتدد، بدَّالين. قال الزجاج: «يرتدد» هو الأصل، لأن الثاني إِذا سُكِّن مِن المضاعف، ظهر التضعيف. فأما «يرتد» فأدغمت الدال الأولى في الثانية، وحرِّكت الثانية بالفتح، لالتقاء الساكنين. قال الحسن: علم الله أن قوماً يرجعون عن الإِسلام بعد موت نبيهم عليه السلام، فأخبرهم أنه سيأتي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. وفي المراد بهؤلاء القوم ستة أقوال «1» : أحدها: أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرّدَّة، قاله علي بن أبي طالب، والحسن عليهما السلام، وقتادة، والضحاك، وابن جريج. قال أنس بن مالك: كرهت الصحابة قتال مانِعي الزكاة، وقالوا: أهل القبلة، فتقلَّد ابو بكر سيفه، وخرج وحده، فلم يجدوا بُداً من الخروج على أثره. والثاني: أبو بكر، وعمر، روي عن الحسن، أيضاً. والثالث: أنهم قومُ أبي موسى الأشعريّ.

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 626: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما روي به الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنهم أهل اليمن، قومُ أبي موسى الأشعري.

[سورة المائدة (5) : الآيات 55 إلى 56]

(439) روى عياض الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم قوم هذا» يعني: أبا موسى. والرابع: أنهم أهل اليمن، رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد. والخامس: أنهم الأنصار، قاله السدي. والسادس: المهاجرون والأنصار، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: وقد أنجز الله ما وَعَد فأتى بقومٍ في زمن عمر كانوا أحسن موقعاً في الإِسلام ممّن ارتد. قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أهل رِقَّة على أهل دينهم، أهل غِلظةٍ على من خالفهم في دينهم. وقال الزجاج: معنى «أذلة» : جانبهم ليّن على المؤمنين، لا أنهم أذلاّءُ. يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ لأن المنافقين يراقبون الكفار، ويظاهرونهم، ويخافون لومهم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن الصحيحَ الإِيمان لا يخاف في الله لومة لائم، ثم أعلمك أن ذلك لا يكون إِلا بتوفيقه، فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني: محبتهم لله، ولين جانبهم للمسلمين، وشدّتهم على الكافرين. [سورة المائدة (5) : الآيات 55 الى 56] إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: (440) أحدها: أن عبد الله بن سلام وأصحابه جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إِن قوماً قد أظهروا لنا العداوة، ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبُعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقالوا: رضينا

_ حسن. أخرجه الحاكم 2/ 313 والطبري 12193 والطبراني 17/ 371 وابن سعد 4/ 80 من حديث عياض الأشعري، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في «المجمع» 10976: رجال الطبراني رجال الصحيح. ويشهد له ما أخرجه البيهقي في «الدلائل» 5/ 352 من حديث أبي موسى، وما أخرجه الطبراني في «الأوسط» 1414 من حديث جابر وقال الهيثمي 1977: إسناده حسن اه. إسناده ضعيف جدا. بل موضوع. أخرجه الواحدي 397 بهذا اللفظ، وأتم، عن محمد بن مروان عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا إسناد ساقط ليس بشيء. محمد بن مروان هو السدي الصغير متروك متهم بالكذب، وابن السائب هو الكلبي أقر على نفسه بالكذب، راجع الميزان، وأبو صالح اسمه باذام غير ثقة في ابن عباس، والمتن باطل. وهذه السلسلة تعرف عند علماء الحديث بسلسلة الكذب. وأخرجه عبد الرزاق كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 92- 93 عن ابن عباس بنحوه. باطل، قال ابن كثير: فيه عبد الوهاب بن مجاهد، لا يحتج به اه. وقال الذهبي في «الميزان» 2/ 682: قال يحيى: ليس يكتب حديثه وقال أحمد: ليس بشيء. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال البخاري: يقولون: لم يسمع من أبيه اه. والظاهر أن هذا المتن سرقه من الكلبي فركبه على هذا الإسناد. وأخرجه الطبري 12219 عن مجاهد مرسلا، وفيه غالب بن عبيد الله متروك. وكرره 12216 عن أبي جعفر بلاغا، ومع ذلك هو معضل. وورد من حديث علي أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 93 وورد من حديث عمار بن ياسر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» 10978. وقال الهيثمي: فيه من لم أعرفهم اه. وزاد ابن كثير نسبته لابن مردويه عن أبي رافع وقال ابن كثير: وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها، وجهالة رجالها وانظر «تفسير الشوكاني» 815 و 816 بتخريجنا.

[سورة المائدة (5) : آية 57]

بالله وبرسوله وبالمؤمنين، وأذَّن بلال بالصلاة، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا مساكين يسأل الناس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل أعطاك أحدٌ شيئاً» ؟ قال: نعم. قال: «ماذا» ؟ قال: خاتم فضة. قال: «من أعطاكه» ؟ قال: ذاك القائِم، فاذا هو علي بن أبي طالب، أعطانيه وهو راكع، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. وقال مجاهد: نزلت في علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع «1» . والثاني: أن عبادة بن الصّامت لما تبرأ من حلفائه اليهود نزلت هذه الآية في حقه «2» ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنها نزلت في أبي بكر الصديق، قاله عكرمة. والرابع: أنها نزلت فيمن مضى من المسلمين ومن بقي منهم، قاله الحسن. قوله تعالى: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ فيه قولان: أحدهما: أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم، وهو تصدق علي عليه السلام بخاتمه في ركوعه. والثاني: أن من شأنهم إِيتاء الزكاة وفعل الركوع. وفي المراد بالركوع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه نفس الركوع على ما روى أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: إِن الآية نزلت وهُم في الركوع. والثاني: أنه صلاة التطوّع بالليل والنهار، وإنما أُفرد الركوع بالذكر تشريفاً له، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. والثالث: أنه الخضوع والخشوع، وأنشدوا «3» : لا تُذِلَّ الفقيرَ عَلََّك أنْ ... تركع يَوْماً والدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ ذكره الماوردي. فأما حِزْبَ اللَّهِ فقال الحسن: هم جند الله. وقال أبو عبيدة: أنصار الله. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم المهاجرون والأنصار، قاله ابن عباس. والثاني: الأنصار، ذكره أبو سليمان. [سورة المائدة (5) : آية 57] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً سبب نزولها: (441) أن رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث كانا قد أظهرا الإسلام، ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 12221 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.

[سورة المائدة (5) : آية 58]

فأما اتخاذهم الدّين هزُواً ولعباً، فهو إِظهارهم الإِسلام وإِخفاؤهم الكفر وتلاعبهم بالدين. والذين أُوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، والكفار: عبدة الأوثان. قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة: وَالْكُفَّارَ بالنّصب على معنى: لا تتخذوا الكفار أولياء. وقرأ أبو عمرو والكسائي: «والكفارِ» خفضاً، لقرب الكلام من العامل الجارِّ، وأمال أبو عمرو الألف. وَاتَّقُوا اللَّهَ أن تولّوهم. [سورة المائدة (5) : آية 58] وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ في سبب نزولها قولان: (442) أحدهما: أن منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إِذا نادى إِلى الصلاة، وقام المسلمون إِليها، قالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلّوا، على سبيل الاستهزاء والضحك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب. (443) والثاني: أن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين على ذلك، وقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية، فان كنت تدَّعي النبوّة، فقد خالفت في هذا الأذان الأنبياء قبلك، فما أقبح هذا الصوت، وأسمج هذا الأمر، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسّرين. (444) وقال السُدّي: كان رجل من النصارى بالمدينة إِذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: حُرِق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنارٍ وهو نائم، وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. والمناداة: هي الأذان، واتخاذهم إِيّاها هزواً: تضاحكهم وتغامزهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما لهم في إِجابة الصلاة، وما عليهم في استهزائهم بها. [سورة المائدة (5) : آية 59] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا. (445) سبب نزولها: أن نفراً من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسألوه عمّن يؤمن به من الرُّسل، فذكر جميع الأنبياء، فلما ذكر عيسى، جحدوا نبوّته، وقالوا: والله ما نعلم ديناً شراً من دينكم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله ابن عباس. وقرأ الحسن، والأعمش: «تَنْقَمون» بفتح القاف. قال الزجاج: يقال: نَقَمْتُ على الرجل أنقم،

_ عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وتقدم مرارا أنه يضع الحديث. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 400 م، بدون إسناد، ومن غير عزو لقائل، فهو لا شيء. ضعيف أخرجه الطبري 12223 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف. ضعيف. أخرجه الطبري 12224 عن ابن عباس من طريق ابن إسحاق به، ومداره على محمد بن أبي محمد، وهو مجهول كما في «التقريب» ، و «الميزان» . وانظر «تفسير الشوكاني» 818 بتخريجنا.

[سورة المائدة (5) : آية 60]

ونَقِمْت عليه أنقَمُ، والأول أجود. ومعنى «نقمت» : بالغت في كراهة الشيء، والمعنى: هل تكرهون منا إِلا إِيماننا، وفسقكم، لأنكم علمتم أننا على حقّ، وأنكم فسقتم. [سورة المائدة (5) : آية 60] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قال المفسرون: سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين: والله ما علمنا أهل دينٍ أقلّ حظّاً منكم في الدنيا والآخرة، ولا ديناً شرّاً من دينكم. وفي قوله تعالى: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قولان: أحدهما: بشرٍّ من المؤمنين، قاله ابن عباس. والثاني: بشرٍّ مما نقمتم مِن إِيماننا، قاله الزجاج. فأما «المثوبة» فهي الثواب. قال الزجاج: وموضع «مَنْ» في قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ إِن شئت كان رفعاً، وإِن شئت كان خفضاً، فمن خفض جعله بدلاً مِن «شرٍّ» فيكون المعنى: أُنبئكم بمن لعنه الله؟ ومن رفع فباضمار «هو» كأنَّ قائلاً قال: مَن ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله. قال أبو صالح عن ابن عباس: من لعنه الله بالجزية، وغضب عليه بعبادة العجل، فهم شر مثوبة عند الله. وروي عن ابن عباس أن المسخَين من أصحاب السبت: مسخ شبابهم قردة، ومشايخهم خنازير. وقال غيره: القردة: أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى. وكان ابن قتيبة يقول: أنا أظنُّ أن هذه القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت. قال: واستدللت بقوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ فدخول الألف واللام يدل على المعرفة، وعلى أنها القردة التي تعاين، ولو كان أراد شيئاً انقرض ومضى، لقال: وجعل منهم قردة وخنازير، إِلا أن يصحّ حديث أم حبيبة في «المسوخ» فيكون كما قال عليه السلام. قلت أنا: (446) وحديث أم حبيبة في «الصحيح» انفرد بإخراجه مسلم، وهو أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، القردة والخنازير هي ممّا مُسِخ؟ فقال النبي عليه السلام: «إن الله لم يمسخ قوماً أو يهلك قوماً، فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة، وإِن القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك» وقد ذكرنا في سورة البقرة عن ابن عباس زيادة بيان ذلك، فلا يُلتفت إِلى ظن ابن قتيبة. قوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فيها عشرون قراءة. قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع، والكسائي: «وعبد» بفتح العين والباء والدال، ونصب تاء «الطاغوت» . وفيها وجهان: أحدهما: أن المعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت. والثاني: أن المعنى: من لعنه الله وعبد الطاغوت. وقرأ حمزة: «وعَبُدَ الطاغوتِ» بفتح العين والدال، وضم الباء، وخفض تاء الطاغوت. قال ثعلب: ليس لها وجه إِلا أن يجمع فَعْل على فَعُل. وقال الزجاج: وجهها أن الاسم بني على «فَعُل» كما تقول: عَلُم زيد، ورجل حَذُر، أي: مبالغ في الحذر. فالمعنى: جعل منهم خَدَمة

_ صحيح. أخرجه مسلم 2663 والحميدي 125 وأحمد 1/ 395- 396- 397- 422 وأبو يعلى 5313 من حديث ابن مسعود عن أم حبيبة.

[سورة المائدة (5) : آية 61]

الطاغوت ومن بلغ في طاعة الطاغوت الغاية. وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، «وعَبَدُوا» ، بفتح العين والباء ورفع الدال على الجمع «الطاغوتَ» بالنصب. وقرأ ابن عباس، وابن أبي عبلة: «وعَبَدَ» بفتح العين والباء والدال، إِلا أنهما كسرا تاء «الطاغوت» . قال الفراء: أرادا «عبدة» فحذفا الهاء. وقرأ أنس بن مالك: «وعَبيدَ» بفتح العين والدال وبياء بعد الباء وخفض تاء «الطاغوت» . وقرأ أيوب، والأعمش: «وعُبَّدَ» ، برفع العين ونصب الباء والدال مع تشديد الباء، وكسر تاء «الطاغوت» . وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وابن السميفع، «وعابد» بألف، مكسورة الباء مفتوحة الدال، مع كسر تاء الطّاغوت. وقرأ أبو العالية، ويحيى بن وثَّاب: «وعُبُدَ» برفع العين والباء وفتح الدال، مع كسر تاء الطاغوت. قال الزجاج: هو جمع عبيد، وعُبُد مثل رغيف، ورغُف، وسرير، وسُرُر، والمعنى: وجعل منهم عبيد الطاغوت. وقرأ أبو عمران الجوني، ومورّق العجلي، والنخعي: «وعُبِدَ» برفع العين وكسر الباء مخففة، وفتح الدال مع ضم تاء «الطاغوت» . وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعكرمة: «وعَبَّد» بفتح العين والدال وتشديد الباء، مع نصب تاء الطاغوت. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو نهيك: «وعَبْدَ» بفتح العين والدال، وسكون الباء خفيفة مع كسر تاء الطّاغوت. وقرأ قتادة، وهذيل بن شرحبيل: «وعَبَدَة» بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ منصوبة بعد الدال «الطواغيت» بالف وواو وياء بعد الغين على الجمع. وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار: «وعُبَدَ» برفع العين وفتح الباء والدال مع تخفيف الباء، وكسر تاء «الطاغوت» . وقرأ سعيد بن جبير، والشعبي: «وعَبْدَة» مثل حمزة، إِلا أنهما رفعا تاء «الطاغوت» . وقرأ يحيى بن يعمر، والجحدري: «وعَبُدُ» بفتح العين ورفع الباء مع كسر تاء «الطاغوت» . وقرأ أبو الأشهب العطاردي: «وعُبْدَ» برفع العين وتسكين الباء، ونصب الدال، مع كسر تاء «الطاغوت» . وقرأ أبو السّمّال: «وعبدة» بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ بعد الدال مرفوعة مع كسر تاء «الطّاغوت» . وقرأ معاذ القارئ: «وعابد» مثل قراءة أبي هريرة إِلا أنه ضم الدال. وقرأ أبو حياة: «وعُبّادَ» بتشديد الباء وبألف بعدها مع رفع العين، وفتح الدال. وقرأ ابن حَذْلَمْ، وعمرو بن فائد: «وعبّاد» مثل أبي حياة إِلا أن العين مفتوحة والدال مضمومة. وقد سبق ذكر «الطاغوت» في سورة البقرة. وفي المراد به هاهنا قولان: أحدهما: الأصنام. والثاني: الشيطان. قوله تعالى: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي: هؤلاء الذين وصفناهم شر مكاناً من المؤمنين، ولا شرّ في مكان المؤمنين، ولكن الكلام مبني على كلام الخصم، حين قالوا للمؤمنين: لا نعرف شراً منكم، فقيل: من كان بهذه الصّفة، فهو شرّ منهم. [سورة المائدة (5) : آية 61] وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا. (447) قال قتادة: هؤلاء ناسٌ من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به، وهم متمسّكون بضلالتهم.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 12234 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.

[سورة المائدة (5) : آية 62]

قوله تعالى: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ أي: دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين، فالكفر معهم في حالتيهم، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من الكفر والنّفاق. [سورة المائدة (5) : آية 62] وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) قوله تعالى: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعني: اليهود يُسارِعُونَ، أي: يبادرون فِي الْإِثْمِ وفيه قولان: أحدهما: أنه المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: الكفر، قاله السدي. فأما العدوان فهو الظلم. وفي «السحت» ثلاثة أقوال: أحدها: الرّشوة في الحكم. والثاني: الرشوة في الدين. والثالث: الربا. [سورة المائدة (5) : آية 63] لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) قوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ «لولا» بمعنى: «هلاّ» ، و «الربّانيون» مذكورون في آل عمران، ووَ الْأَحْبارُ قد تقدم ذكرهم في هذه السورة. وهذه الآية من أشد الآيات على تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الله تعالى جمع بين فاعل المنكر وتارك الإِنكار في الذم. قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخاً من هذه الآية. [سورة المائدة (5) : آية 64] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في فنحاص اليهودي وأصحابه، قالوا: يد الله مغلولة. وقال مقاتل: فنحاص وابن صلوبا «1» ، وعازر بن أبي عازر. وفي سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله تعالى كان قد بسط لهم الرزق، فلما عصوا الله تعالى في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم وكفروا به كفَّ عنهم بعض ما كان بسط لهم، فقالوا: يد الله مغلولة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والثاني: أن الله تعالى استقرض منهم كما استقرض من هذه الأمة، فقالوا: إِن الله بخيل، ويده مغلولة فهو يستقرضنا، قاله قتادة. والثالث: أن النصارى لما أعانوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت المقدس، قالت اليهود: لو كان الله صحيحاً لمنعنا منه، فيده مغلولة، ذكره قتادة أيضاً. والمغلولة: الممسَكة المنقبضة. وعن ماذا عَنوا أنها ممسكة، فيه قولان: أحدهما: عن العطاء، قاله ابن عباس، وقتادة، والفرّاء، وابن قتيبة، والزجّاج. والثاني: ممسكة من عذابنا، فلا يعذبنا إِلا تحلّة القسم بقدر عبادتنا العجل، قاله الحسن. وفي قوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: غلت في جهنم، قاله الحسن. والثاني: أُمسكت عن الخير، قاله مقاتل. والثالث: جُعِلوا بُخلاء، فهم أبخل قوم، قاله الزجّاج. قال ابن

_ (1) كذا في الأصل، وفي بعض كتب التفسير «صوريا» .

الأنباري: وهذا خبر أخبر الله تعالى به الخلق أن هذا قد نزل بهم، وموضعه نصب على معنى الحال. تقديره: قالت اليهود هذا في حال حكم الله بغل أيديهم، ولعنته إِياهم، ويجوز أن يكون المعنى: فغلت أيديهم، ويجوز أن يكون دعاء، معناه: تعليم الله لنا كيف ندعو عليهم، كقوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1» وقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «2» . وفي قوله تعالى: وَلُعِنُوا بِما قالُوا ثلاثة أقوال: أحدها: أُبعدوا من رحمة الله. والثاني: عذّبوا قردة بالجزية، وفي الآخرة بالنّار. الثالث: مُسخوا قردة وخنازير. (448) وروى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من لعن شيئاً لم يكن للعنه أهلاً رجعت اللعنة على اليهود بلعنة الله إِياهم» . قال الزجاج: وقد ذهب قومٌ إِلى أن معنى «يد الله» : نعمته، وهذا خطأ ينقضه بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ فيكون المعنى على قولهم: نعمتاه، ونعم الله أكثر من أن تحصى. والمراد بقوله: بل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ: أنه جواد ينفق كيف يشاء، وإِلى نحو هذا ذهب ابن الأنباري. قال ابن عباس: إِن شاء وسَّع في الرزق، وإِن شاء قتَّر. قوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً قال الزجاج: كلما أُنزل عليك شيء كفروا به، فيزيد كفرهم. و «الطّغيان» هاهنا: الغلو في الكفر. وقال مقاتل: وليزيدن بني النضير ما أُنزل إِليك من ربك من أمر الرجم والدّماء طغياناً وكفراً. قوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فيمن عني بهذا قولان: أحدهما: اليهود والنصارى، قاله ابن عباس: ومجاهد، ومقاتل. فإن قيل: فأين ذكر النصارى؟ فالجواب: أنه قد تقدم في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ. والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة. قوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ذِكْر إِيقاد النار مَثَلٌ ضُربَ لاجتهادهم في المحاربة، وقيل: إِن الأصل في استعارة اسم النار للحرب أن القبيلة من العرب كانت إِذا أرادت حرب أُخرى أوقدت النار على رؤوس الجبال، والمواضع المرتفعة، ليعلم استعدادهم للحرب، فيتأهب من يريد إِعانتهم. وقيل: كانوا إِذا تحالفوا على الجدِّ في حربهم، أوقدوا ناراً، وتحالفوا. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: كلما جمعوا لحرب النبي صلّى الله عليه وسلّم فرّقهم الله. والثاني: كلما مكروا مكراً رده الله. قوله

_ لا أصل له في المرفوع، وقد صح ما يعارضه، وهو ما أخرجه أبو داود 4908 والترمذي 1978 وابن حبان 5745 والطبراني 12757 عن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلعن الريح، فإنها مأمورة، وليس أحد يلعن شيئا ليس له بأهل إلا رجعت عليه اللعنة» . رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن فيه عنعنة قتادة. وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد 1/ 408 وجوده المنذري في «الترغيب» 4108. وله شاهد من حديث أبي الدرداء، أخرجه أبو داود 4905 بإسناد ضعيف لكن يصلح شاهدا لما قبله. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، فهو خبر صحيح. وهو يعارض حديث المصنف، لأن في هذه الأحاديث عود اللعنة على صاحبها إن لم يكن الآخر أهلا لها، في حين سياق المصنف ابن الجوزي فيه عودها على اليهود في جميع الأحوال.

[سورة المائدة (5) : آية 65]

تعالى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً فيه أربعة أقوال: أحدها: بالمعاصي، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: بمحو ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من كتبهم، ودفع الإِسلام، قاله الزجاج. والثالث: بالكفر. والرابع: بالظّلم، ذكرهما الماورديّ. [سورة المائدة (5) : آية 65] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ يعني: اليهود والنصارى آمَنُوا بالله وبرسله وَاتَّقَوْا الشرك لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي سلفت. [سورة المائدة (5) : آية 66] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قال ابن عباس: عملوا بما فيها. وفيما أُنزل إِليهم من ربهم قولان: أحدهما: كتب أنبياء بني إِسرائيل. والثاني: القرآن، لأنهم لما خوطبوا به، كان نازلاً إِليهم. قوله تعالى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فيه قولان: أحدهما: لأكلوا بقطر السماء، ونبات الأرض، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أن المعنى: لوسِّع عليهم، كما يقال: فلان في خير من قرنه إِلى قدمه، ذكره الفراء، والزجاج. وقد أعلم الله تعالى بهذا أن التقوى سبب في توسعة الرزق كما قال: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» وقال: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «2» . قوله تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يعني: من أهل الكتاب، وهم الذين أسلموا منهم، قاله ابن عباس، ومجاهد. وقال القرظي: هم الذين قالوا: المسيح عبد الله ورسوله. و «الاقتصاد» الاعتدال في القول والعمل من غير غلوّ ولا تقصير. [سورة المائدة (5) : آية 67] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت على أسباب: روى الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (449) «لما بعثني الله برسالته، ضقت بها ذرعاً، وعرفت أن من الناس من يكذِّبني» ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يهابُ قريشاً واليهود والنصارى، فأنزل الله هذه الآية.

_ ضعيف. أخرجه أبو الشيخ كما في «أسباب النزول» للسيوطي 438. وهو مرسل. ومراسيل الحسن واهية كما هو مقرر في كتب المصطلح. وانظر «تفسير الشوكاني» 825 بتخريجنا.

(450) وقال مجاهد: لما نزلت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قال: «يا رب كيف أصنع؟ إِنما أنا وحدي يجتمع عليَّ الناس» ، فأنزل الله وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. (451) وقال مقاتل: لما دعا اليهود، وأكثر عليهم، جعلوا يستهزئون به، فسكت عنهم، فحُرِّض بهذه الآية. (452) وقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُحرَسُ فيرسل معه أبو طالب كلَّ يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية، فقال: «يا عمّاه إِن الله قد عصمني من الجن والإِنس» . (453) وقال أبو هريرة: نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجلٌ فأخذه، فقال: يا محمد من يمنعني منك؟ فقال: «الله» ، فنزل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. (454) وقالت عائشة: سهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فقلت: ما شأنك؟ قال: ألا رجلٌ صالح يحرسني الليلة، فبينما نحن في ذلك إِذ سمعت صوت السّلاح، فقال: «من هذا» ؟ فقال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى سمعت غطيطه «1» ، فنزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من قبة أدم «2» وقال «انصرفوا أيها النّاس، فقد عصمني الله تعالى» .

_ ضعيف. أخرجه الطبري 12275 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان إذا أطلق، وخبره معضل، وهو متروك متهم إذا وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟! باطل. أخرجه الطبراني 1663 وابن عدي 7/ 22/ 1960 من حديث ابن عباس، وأعلّه ابن عدي بالنضر بن عبد الرحمن الخزّاز ونقل عن البخاري قوله: منكر الحديث. وقال النسائي متروك. وكذا ضعفه الهيثمي به في «المجمع» 10981 وله علة ثانية عبد الحميد بن عبد الرحمن الحمّاني وثقه ابن معين وفي رواية: ضعفه. وكذا ضعفه أحمد وابن سعد وقال النسائي: ليس بالقوي. والآية مدنية كما ذكر المصنف فالمتن منكر جدا، بل هو باطل. وانظر «تفسير القرطبي» 2751 و «ابن كثير» 2/ 102 بتخريجنا. أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 103 من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وإسناده حسن، رجاله ثقات سوى محمد بن عمرو، وهو حسن الحديث. أخرجه الترمذي 3046 والحاكم 2/ 313 والطبري 12279 والواحدي 404 من حديث عائشة. صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث غريب ورواه بعضهم مرسلا بدون ذكر عائشة اه. والمرسل أخرجه الطبري 12277، وإسناده أصح من الموصول. وورد بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبراني في «الصغير» 418 والأوسط كما في «المجمع» 10980 وأعله الهيثمي بعطية العوفي، وقال ضعيف. وأصله عند البخاري 2885 ومسلم 2410 دون ذكر الآية وسبب النزول فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم سهر، فلما قدم المدينة قال: «ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة» إذ سمعنا صوت السلاح، فقال «من هذا؟» فقال: أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك. «فنام النبي صلّى الله عليه وسلّم» لفظ البخاري. وانظر «تفسير الشوكاني» 829 بتخريجنا.

[سورة المائدة (5) : آية 68]

قال الزجّاج: قوله تعالى: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ معناه: بلغ جميع ما أُنزل إِليك، ولا تراقبن أحداً، ولا تتركنَّ شيئاً منه مخافة أن ينالك مكروه، فان تركت منه شيئاً، فما بلَّغت. قال ابن قتيبة: يدل على هذا المحذوف قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ. وقال ابن عباس: إِن كتمت آية فما بلَّغت رسالتي. وقال غيره: المعنى: بلِّغ جميع ما أُنزل إِليك جهراً، فان أخفيت شيئاً منه لخوف أذىً يلحقك، فكأنك ما بلَّغت شيئاً. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «رسالته» على التوحيد. وقرأ نافع «رسالاته» على الجمع. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ قال ابن قتيبة: أي يمنعك منهم. وعصمة الله: منعه للعبد من المعاصي، ويقال: طعام لا يعصم، أي: لا يمنع من الجوع. فان قيل: فأين ضمان العصمة وقد شُجَّ جبينه، وكسِرت رَباعيته، وبولغ في أذاه؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه عصمه من القتل والأسرِ وتلفِ الجملة، فأمّا عوارض الأذى، فلا تمنع عصمة الجملة. والثاني: أن هذه الآية نزلت بعد ما جرى عليه ذلك، لأن «المائدة» من أواخر ما نزل. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فيه قولان: أحدهما: لا يهديهم إِلى الجنة. والثاني: لا يعينهم على بلوغ غرضهم. [سورة المائدة (5) : آية 68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ سبب نزولها: (455) أن اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألست تؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها حق؟ قال: بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، فأنا بريء من إِحداثكم. فقالوا: نحن على الهدى، ونأخذ بما في أيدينا، ولا نؤمن بك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. فأما أهل الكتاب، فالمراد بهم اليهود والنّصارى. وقوله تعالى: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي: لستم على شيء من الدين الحق حتى تقيموا التوراة والإِنجيل، وإِقامتهما: العمل بما فيهما، ومن ذلك الإِيمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وفي الذي أُنزل إِليهم من ربهم قولان قد سبقا، وكذلك باقي الآية. [سورة المائدة (5) : آية 69] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ قد ذكرنا تفسيرها في البقرة. وكذلك اختلفوا في إِحكامها ونسخها كما بينا هناك. فأما رفع «الصابئين» فذكر الزجاج عن البصريين، منهم الخليل، وسيبويه أن قوله: «والصابئون» محمول على التأخير، ومرفوع بالابتداء. والمعنى: إِن الذين آمنوا والذين هادوا من آمَن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

_ إسناده ضعيف. أخرجه الطبري 12287 من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد به، ومحمد هذا مجهول كما تقدم مرارا. وانظر «تفسير الشوكاني» بتخريجنا.

[سورة المائدة (5) : آية 70]

والصابئون والنصارى كذلك أيضاً، وأنشدوا: وإِلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بقينا في شقاق «1» المعنى: فاعلموا أنا بُغاة ما بقينا في شقاق، وأنتم أيضا كذلك. [سورة المائدة (5) : آية 70] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال مقاتل: أخذ ميثاقهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها. قال ابن عباس: كان فيمن كُذِّبُوا. محمد وعيسى، وفيمن قتلوا: زكريا ويحيى. قال الزجاج: فأما التكذيب، فاليهود والنصارى يشتركون فيه. وأمّا القتل فيختصّ اليهود. [سورة المائدة (5) : آية 71] وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) قوله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: تَكُونَ بالنصب، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «تكون» بالرفع، ولم يختلفوا في رفع «فتنة» . قال مكي بن أبي طالب: من رفع جعل «أن» مخفّفة من الثقيلة، وأضمر معها «الهاء» ، وجعل «حسبوا» بمعنى: أيقنوا، لأن «أن» للتأكيد، والتأكيد لا يجوز إِلا مع اليقين. والتقدير: أنه لا تكون فتنة. ومن نصب جعل «أن» هي الناصبة للفعل، وجعل «حسبوا» بمعنى: ظنوا. ولو كان قبل «أن» فعلٌ لا يصلح للشك، لم يجز أن تكون إِلا مخففة من الثقيلة، ولم يجز نصب الفعل بها، كقوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ «2» وعَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ «3» . وقال أبو علي: الأفعال ثلاثة: فعلٌ يدلُ على ثبات الشيء واستقراره، نحو العلم والتيقّن، وفعلٌ يدلُ على خلاف الثبات والاستقرار، وفعلٌ يجذب إِلى هذا مرة، وإِلى هذا أُخرى، فما كان معناه العلم، وقعت بعده «أن» الثقيلة، لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره، كقوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ «4» أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى «5» ، وما كان على غير وجه الثبات والاستقرار نحو: أطمع وأخاف وأرجو، وقعت بعده «أن» الخفيفة، كقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ «6» تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ «7» فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما «8» أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي «9» ، وما كان متردداً بين الحالين مثل حسبتُ وظننت، فإنه يُجعلُ تارةً بمنزلة العلم، وتارةً بمنزلة أرجو وأطمع، وكلتا القراءتين في وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قد جاء بها التنزيل. فمثل مذهب من نصب: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ «10» أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا «11»

_ (1) البيت لبشر بن أبي خازم كما في «شواهد المعيني» 2/ 271. [.....] (2) سورة طه: 89. (3) سورة المزمل: 20. (4) سورة النور: 25. (5) سورة العلق: 14. (6) سورة البقرة: 229. (7) سورة الأنفال: 26. (8) سورة الكهف: 80. (9) سورة الشعراء: 82. (10) سورة الجاثية: 21. (11) سورة العنكبوت: 4.

[سورة المائدة (5) : آية 72]

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا «1» ، ومثلُ مذهب مَنْ رفع: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ «2» أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ «3» . قال ابن عباس: ظنوا أن الله لا يعذّبهم، ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء، وتكذيبهم الرسل. قوله تعالى: فَعَمُوا وَصَمُّوا قال الزجاج: هذا مثل تأويله: أنهم لم يعملوا بما سمعوا ورأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصمّ. قوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فيه قولان: أحدهما: رفع عنهم البلاء، قاله مقاتل. وقال غيره: هو ظفرهم بالأعداء، وذلك مذكور في قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ. والثاني: أن معنى «تاب عليهم» : أرسل إِليهم محمداً يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إِن آمنوا وصدقوا، قاله الزجاج. وفي قوله تعالى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا قولان: أحدهما: لم يتوبوا بعد رفع البلاء، قاله مقاتل. والثاني: لم يؤمنوا بعد بعثة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله الزجاج. قوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ أي: عمي وصم كثيرٌ منهم، كما تقول: جاءني قومُك أكثرُهم. قال ابن الأنباري: هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما بعث كذبوه بغياً وحسداً، وقدَّروا أن هذا الفعل لا يكون مُوبقاً لهم، وجانياً عليهم، فقال الله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإِصرار على الكفر، فعموا وصموا بمجانبة الحق. ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: عرّضهم للتّوبة بأن أرسل محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وإِن لم يتوبوا، ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد، كثيرٌ منهم، فخصّ بعضهم بالفعل الأخير، لأنهم لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. [سورة المائدة (5) : آية 72] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران، قالوا ذلك. قوله تعالى: وَقالَ الْمَسِيحُ أي: وقد كان المسيح قال لهم وهو بين أظهرهم: إِنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة. [سورة المائدة (5) : آية 73] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ قال مجاهد: هم النصارى. قال وهب بن منبّه: لما وُلد عيسى لم يبق صنم إِلا خرَّ لوجهه، فاجتمعت الشياطين إِلى إِبليس، فأخبروه، فذهب فطاف أقطار الأرض، ثم رجع، فقال: هذا المولود الذي ولد من غير ذكر، أردت أن أنظر إِليه، فوجدت الملائكة قد حفّت بأمِّه، فليتخلف عندي اثنان من مردتكم، فلما أصبح. خرج بهما في

_ (1) سورة العنكبوت: 2. (2) سورة المؤمنون: 95. (3) سورة الزخرف: 80.

[سورة المائدة (5) : آية 74]

صورة الرجال، فأتوا مسجد بني إِسرائيل وهم يتحدثون بأمر عيسى، ويقولون: مولود من غير أب. فقال إِبليس: ما هذا ببشر، ولكن الله أحبَّ أن يتمثّل في امرأةٍ ليختبر العباد، فقال أحد صاحبيه: ما أعظم ما قلت، ولكن الله أحب أن يتخذ ولداً. وقال الثالث: ما أعظم ما قلت، ولكن الله أراد أن يجعل إِلها في الأرض، فألقوا هذا الكلام على ألسنة الناس، ثم تفرَّقوا، فتكلم به الناس. وقال محمد بن كعب: لمّا رفع عيسى اجتمع مائة من علماء بني إِسرائيل، وانتخبوا منهم أربعة، فقال أحدهم: عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له، ثم صعِد إِلى السماء، لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إِلا الله. وقال الثاني: ليس كذلك، لأنا قد عرفنا عيسى، وعرفنا أُمه، ولكنّه ابن الله. وقال الثالث: لا أقول كما قلتما، ولكن جاءت به أُمه من عمل غير صالح. فقال الرابع: لقد قلتم قبيحاً، ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته، فخرجوا، فاتبع كلَّ رجل منهم عُنُقٌ «1» من الناس. قال المفسّرون: ومعنى الآية: أن النصارى قالت: الإِلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم، وكل واحد منهم إِلهٌ. وفي الآية إِضمار، فالمعنى: ثالث ثلاثة آلهة، فحذف ذكر الآلهة، لأن المعنى مفهوم، لأنه لا يكفر من قال: هو ثالث ثلاثة، ولم يرد الآلهة، لأنه ما من اثنين إِلا وهو ثالثهما، وقد دل على المحذوف قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ. قال الزجاج: ومعنى ثالث ثلاثة: أنه أحد ثلاثة. ودخلت «من» في قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ للتوكيد. والذين كفروا منهم، هم المقيمون على هذا القول. وقال ابن جرير: المعنى: ليَمسّن الذين يقولون: المسيح هو الله، والذين يقولون: إِن الله ثالث ثلاثة، وكلّ كافر يسلك سبيلهم، عذاب أليم. [سورة المائدة (5) : آية 74] أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) قوله تعالى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ قال الفراء: لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الأمر، كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. [سورة المائدة (5) : آية 75] مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ فيه ردٌ على اليهود في تكذيبهم رسالته، وعلى النصارى في ادّعائهم إِلهيَّته. والمعنى: أنه ليس بالهٍ، وإِنما حكمُه حكم من سبقه من الرسل. وفي قوله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ردٌ على من نسبها من اليهود إِلى الفاحشة. قال الزجاج: والصدّيقة: المبالغة في الصدق، وصدِّيق «فعِّيل» من أبنية المبالغة، كما تقول: فلانٌ سكّيت، أي: مبالغ في السكوت. وفي قوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ قولان: أحدهما: أنه بيّن أنهما يعيشان بالغذاء، ومن لا يُقيمه إِلا أكل الطعام فليس باله، قاله الزجاج. والثاني: أنه نبه بأكل الطعام على عاقبته، وهو الحدث، إِذ لا بد لآكل الطعام من الحدث، قاله ابن قتيبة. قال: وقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ من ألطف ما يكون من الكناية. و «يؤفكون» : يُصرفون عن الحق ويُعدَلون، يقال: أفِك الرجل عن كذا:

_ (1) في «اللسان» العنق: الجماعة الكثيرة من الناس. [.....]

[سورة المائدة (5) : آية 76]

إِذا عدل عنه، وأرض مأفوكة: محرومة المطر والنّبات، كأنّ ذلك صرف عنها وعدل. [سورة المائدة (5) : آية 76] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قوله تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال مقاتل: قل لنصارى نجران: أتعبدون من دون الله، يعني عيسى ما لا يملك لكم ضراً في الدنيا، ولا نفعاً في الآخرة. والله هو السميع لقولهم: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، العليم بمقالتهم. [سورة المائدة (5) : آية 77] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ قال مقاتل: هم نصارى نجران. والمعنى: لا تغلوا في دينكم، فتقولوا غير الحق في عيسى. وقد بيّنا معنى «الغلو» في آخر سورة (النساء) . قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ قال أبو سليمان: من قبل أن تَضِلُّوا. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم رؤساء الضَّلالَةِ من اليهود. والثاني: رؤساء اليهود والنصارى، والآية خطاب للذين كانوا في عصر نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم نُهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم. [سورة المائدة (5) : آية 78] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ في لعنهم قولان: أحدهما: أنه نفس اللعن، ومعناه المباعدة من الرحمة. قال ابن عباس: لُعنوا على لسان داود، فصاروا قردة، ولعنوا على لسان عيسى في الإِنجيل. قال الزجاج: وجائز أن يكون داود وعيسى أُعْلِمَا أن محمداً نبيّ، ولعنا من كفر به. والثاني: أنه المسخ، قاله مجاهد، لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، وعلى لسان عيسى، فصاروا خنازير. وقال الحسن، وقتادة: لعن أصحاب السبت على لسان داود، فانهم لما اعتدوا، قال داود: اللهم العنهم، واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولعن أصحاب المائدة على لسان عيسى، فانهم لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت، فجُعلوا خنازير. قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا أي: ذلك اللعن بمعصيتهم لله تعالى في مخالفتهم أمره ونهيه، وباعتدائِهم في مجاوزة ما حدّه لهم. [سورة المائدة (5) : آية 79] كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ التناهي: تفاعل من النهي، أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً عن المنكر. وذكر المفسّرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال: أحدها: صيدُ السّمك يوم السبت. والثاني: أخذ الرشوة في الحكم. والثالث: أكل الربا، وأثمان الشحوم. وذِكْر المنكر منكَّراً يدل على الإِطلاق، ويمنع هذا الحصر، ويدلُ على ما قلنا:

[سورة المائدة (5) : الآيات 80 إلى 81]

(456) ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِن الرجل من بني إِسرائيل كان إِذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيراً، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم» . قوله تعالى: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ قال الزجاج: اللاّم دخلت للقسم والتوكيد، والمعنى: لبئس شيئاً فعلهم. [سورة المائدة (5) : الآيات 80 الى 81] تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) قوله تعالى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المنافِقُون، روي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثاني: أنهم اليهود، قاله مقاتل في آخرين، فعلى هذا القول انتظام الآيات ظاهر، وعلى الأول يرجع الكلام إلى قوله تعالى فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ. وفي الذين كفروا قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله أرباب القول الأول. والثاني: أنهم مشركو العرب، قاله أرباب هذا القول الثاني. قوله تعالى: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي: بئسما قدموا لمعادهم أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال الزجاج: يجوز أن تكون «أن» في موضع رفع على إِضمار هو، كأنه قيل: هو أن سخط الله عليهم. [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 83] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ قال المفسّرون: نزلت هذه الآية وما بعدها مما يتعلق بها في النجاشي وأصحابه. قال سعيد بن جبير: بعث النجاشي قوما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلموا، فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها، وسنذكر قصّتهم فيما بعد. قال الزجاج: واللام في «لتجدن» لام القسم، والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال، و «عداوة» منصوب على التمييز، واليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسداً للنبيّ عليه السّلام. قوله تعالى: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: عبدة الأوثان. فأما الذين قالوا إِنا نصارى، فهل هذا عام

_ أخرجه أبو داود 4336 و 4337 والترمذي 3050 وابن ماجة 4006 وأحمد 1/ 391 من حديث أبي عبيدة عن أبيه عن ابن مسعود، وفيه إرسال بينهما. وله شاهد من حديث أبي موسى، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 12153 وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح اه. وفي الباب أحاديث يحسن بها، وقد وهم من حكم بضعفه.

في كل النصارى أم خاص؟ فيه قولان: أحدهما: أنه خاص، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه أراد النجاشي وأصحابه لما أسلموا، قاله ابن عباس وابن جبير. والثاني: أنهم قوم من النصارى كانوا متمسّكين بشريعة عيسى، فلما جاء محمد عليه السلام أسلموا، قاله قتادة. والقول الثاني: أنه عام. قال الزجاج: يجوز أن يراد به النصارى لأنهم كانوا أقلَّ مظاهرةً للمشركين من اليهود. قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً قال الزجاج: «القس» و «القسيس» من رؤساء النصارى. وقال قطرب: القسيس: العالم بلغة الروم، فأما الرهبان: فهم العباد أرباب الصوامع. قال ابن فارس: الترهّب: التعبّد، فان قيل: كيف مدحهم بأن منهم قسيسين ورهبانا وليس ذلك من أمرِ شريعتنا؟ فالجواب: أنه مدحهم بالتمسّك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ عليهم في كتابهم، وقد كانت الرهبانية مستحسنة في دينهم. والمعنى: بأن فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قال القاضي أبو يعلى: وربما ظن جاهلٌ أن في هذه الآية مدح النصارى، وليس كذلك، لأنه إِنما مدح مَن آمن منهم، ويدل عليه ما بعد ذلك، ولا شك أن مقالة النصارى أقبح من مقالة اليهود. قوله تعالى: وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، أي: لا يتكبرون عن إتباع الحق. قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ. (457) قال ابن عباس: لمّا حضر أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين يدي النّجاشيّ، وقرءوا القرآن، سمع ذلك القسيسون والرهبان، فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فقال الله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ إلى قوله تعالى: الشَّاهِدِينَ. (458) وقال سعيد بن جبير: بعث النجاشي من خيار أصحابه ثلاثين رجلاً إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم القرآن، فبكوا ورقُّوا، وقالوا: نعرف والله، وأسلموا، وذهبوا إِلى النجاشي فأخبروه فأسلم، فأنزل الله فيهم وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ... الآية. (459) وقال السدي: كانوا اثني عشر رجلاً سبعة من القسيسين، وخمسة من الرّهبان، فلمّا قرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن، بكوا وآمنوا، فنزلت هذه الآية فيهم «1» .

_ حسن. أخرجه الطبري 12320 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بأتم منه، ورجاله ثقات، لكن فيه إرسال بين علي وابن عباس. وله شاهد عن عبد الله بن الزبير، أخرجه النسائي في «التفسير» 168 والطبري 12330، وله شاهد من مرسل عطاء، أخرجه الطبري 12322. مرسل. أخرجه الطبري 12318 عن خصيف الجزري عن سعيد بن جبير مرسلا. - وكرره برقم 12328 عن سالم الأفطس عن سعيد به. مرسل. أخرجه الطبري 12321 بأتم منه عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وله شاهد عن أبي صالح، أخرجه الطبري 12326 وهو مرسل، وفيه راو لم يسمّ. الخلاصة: هذه الروايات جميعا تتأيد بمجموعها، فيكون النجاشي وأصحابه الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم من هؤلاء، ويدخل في ذلك كل من اتصف بذلك من أهل الكتاب، وأصح ما في الباب حديث ابن الزبير وابن عباس. وانظر التعليق الآتي.

[سورة المائدة (5) : الآيات 84 إلى 86]

قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ، أي: مع من يشهد بالحق. وللمفسرين في المراد بالشاهدين هاهنا أربعة أقوال: أحدها: محمد وأُمته، رواه علي بن أبي طلحة، وعكرمة عن ابن عباس. والثاني: أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: الذين يشهدون بالإِيمان، قاله الحسن. والرابع: الأنبياء والمؤمنون، قاله الزجّاج. [سورة المائدة (5) : الآيات 84 الى 86] وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) قوله تعالى: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ قال ابن عباس: لامهم قومهم على الإِيمان، فقالوا هذا، وفي القوم الصالحين ثلاثة أقوال: أحدها: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، قاله ابن زيد. والثالث: المهاجرون الأولون، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: ثواب المؤمنين. [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (460) أحدها: أن رجالاً من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، منهم عثمان بن مظعون، حرّموا اللحم والنساء على أنفسهم، وأرادوا جبّ أنفسهم ليتفرّغوا للعبادة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم أُومر بذلك» ، ونزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس.

_ حسن. أخرجه الطبري 12350 وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس وكرره 12351 من وجه آخر عنه، وفيه عطية العوفي واه، وورد مرسلا عن عكرمة أخرجه الطبري وهذا ضعيف لإرساله ومن مرسل قتادة أخرجه الطبري 12348 مطولا، ومن مرسل السدي أخرجه 12349 وكرره 12340 من مرسل أبي مالك و 12345 من مرسل أبي قلابة. وذكره الواحدي في «الأسباب» 411 بقوله: قال المفسرون اه. رووه بألفاظ متقاربة، والمعنى متحد، وهذه الروايات المرسلة والموصولة تتأيد بمجموعها، فالحديث حسن. - وفي الصحيح أن عثمان بن مظعون نهاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن التبتل دون ذكر الآية وهو عند البخاري 5073 و 5074، ومسلم 1402 والترمذي 1083 والنسائي 6/ 58 وابن ماجة 1848 وأحمد 1/ 175- 183 والدارمي 2/ 133 وابن حبان 4027 والبغوي 2237 والبيهقي 7/ 97 من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا. وانظر «أحكام القرآن» 737.

(461) وروى أبو صالح عن ابن عباس، قال: كانوا عشرة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وعثمان بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وسالم مولى أبي حذيفة، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، فتواثقوا على ذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «من رغب عن سنَّتي فليس مني» ونزلت هذه الآية. (462) قال السدي: كان سبب عزمهم على ذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس يوماً، فلم يزدهم على التخويف، فرقَّ الناس، وبكوا، فعزم هؤلاء على ذلك، وحلفوا على ما عزموا عليه. (463) وقال عكرمة: إِن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان بن مظعون، والمقداد، وسالماً مولى أبي حُذيفة في أصحابه، تبتَّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح «1» ، وحرموا طيبات الطعام واللباس، إِلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إِسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية. (464) والثاني: أن رجلاً أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إِني إِذا أكلت من هذا اللحم، أقبلت على النساء، وإِني حرَّمته عليّ، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. (465) والثالث: أن ضيفاً نزل بعبد الله بن رواحة، ولم يكن حاضراً، فلما جاء، قال لزوجته: هل أكل الضيف؟ فقالت: انتظرتك. فقال: حبست ضيفي من أجلي؟! طعامك عليّ حرام. فقالت: وهو عليَّ حرام إِن لم تأكله، فقال الضيف: وهو عليَّ حرام إِن لم تأكلوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال: قرّبي طعامك، كلوا بسم الله، ثم غدا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بذلك فقال: أحسنت، ونزلت هذه الآية، وقرأ حتى بلغ لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، رواه عبد الرحمن بن زيد عن أبيه. فأما «الطيبات» فهي اللذيذات التي تشتهيها النّفوس ممّا أبيح، وفي قوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا خمسة أقوال: أحدها: لا تجبّوا أنفسكم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وإِبراهيم. والثاني: لا

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس، وراويته هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، وذكر أبي بكر وعمر في هذا الحديث غريب جدا. أخرجه الطبري 12349 عن السدي مرسلا مطولا، وهذا المتن أصله محفوظ بشواهده المرسلة والموصولة. هو مرسل، وانظر ما تقدم. ضعيف. أخرجه الترمذي 3054 والطبري 2354 وابن عدي 5/ 1070 والواحدي 410 من حديث ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف عثمان بن سعد الكاتب، وبه أعله ابن عدي. وأما الترمذي فقال: حسن غريب، ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلا، ليس فيه عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلا اه. قلت: هو خبر ضعيف، والصواب ما ذكره أئمة التفسير ومنهم ابن عباس، انظر الحديث المتقدم. انظر «أحكام القرآن» 740 بتخريجنا. ضعيف جدا، أخرجه الطبري 12353 عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا، ومع إرساله عبد الرحمن متروك الحديث. والصحيح في سبب النزول ما قبله. وحديث ابن رواحة في الصحيح، وليس فيه ذكر نزول الآية راجع البخاري 3581 وصحيح مسلم 2057. وانظر «أحكام القرآن» 738 بتخريجنا.

[سورة المائدة (5) : آية 89]

تأتوا ما نهى الله عنه، قاله الحسن. والثالث: لا تسيروا بغير سيرة المسلمين مِن ترك النساء، وإِدامة الصيام، والقيام، قاله عكرمة. والرابع: لا تحرّموا الحلال، قاله مقاتل. والخامس: لا تغصبوا الأموال المحرّمة، ذكره الماورديّ. [سورة المائدة (5) : آية 89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ سبب نزولها: (466) أنه لما نزل قوله تعالى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ قال القوم الذين كانوا حرّموا النساء واللحم: يا رسول الله كيف نصنع بأيْماننا التي حلفنا عليها؟ فنزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس. وقد سبق ذكر «اللغو» في سورة البقرة. قوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «عقدتم» بغير ألف، مشددة القاف. قال أبو عمرو: معناها: وكدّتم، وقرأ أبو بكر، والمفضّل عن عاصم: «عقَدْتُم» خفيفة بغير ألف، واختارها أبو عبيد. قال ابن جرير: معناها: أوجبتموها على أنفسكم «1» . وقرأ ابن عامر: «عاقدتم» بألف، مثل «عاهدتم» . قال القاضي أبو يعلى: وهذه القراءة المشددة لا تحتمل إِلا عقد قول. فأما المخففة، فتحتمل عقد القلب، وعقد القول. وذكر المفسّرون في

_ ضعيف. أخرجه الطبري 12360 عن عطية بن سعد العوفي عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف عطية.

معنى الكلام قولين: أحدهما: ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم عليه قلوبكم في التعمد لليمين، قاله مجاهد. والثاني: بما عقَّدتم عليه قلوبكم أنه كذب، قاله سعيد بن جبير. قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ «1» قال ابن جرير: الهاء عائدةٌ على «ما» في قوله: «بما عقَّدتم» . فصل: فأما إِطعام المساكين «2» ، فروي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن في آخرين: أنّ لكلّ مساكين مدّ برّ، وبه قال مالك، والشافعي. وروي عن عمر، وعليّ، وعائشة في آخرين: لكلّ مساكين نصف صاع من بُرّ، قال عمر، وعائشة: أو صاعاً من تمر، وبه قال أبو حنيفة. ومذهب أصحابنا في جميع الكفارات التي فيها إِطعام، مثل كفارة اليمين، والظهار، وفدية الأذى، والمفرّطة في قضاء رمضان، مُدّ بُرٍّ، أو نصف صاع تمر أو شعير. ومِنْ شرط صحة الكفارة، تمليك الطعام للفقراء، فإن غدَّاهم وعشَّاهم، لم يجزئه، وبه قال سعيد بن جبير، والحكم، والشافعي. وقال الثوري، والأوزاعي: يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، ومالك «3» . ولا يجوز صرف مدّين إلى مساكين واحد «4» ، ولا إخراج القيامة في الكفارة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز. قال الزجاج: وإِنما وقع لفظ التّذكير في المساكين، ولو كانوا إِناثاً لأجزأ، لأن المغلَّب في كلام العرب التذكير. وفي قوله تعالى: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قولان: أحدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد.

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 481- 482: كفارة سائر الأيمان تجوز قبل الحنث وبعده، صوما كانت أو غيره، في قول أكثر أهل العلم، وبه قال مالك، وممن روي عنه جواز تقديم التكفير عمر وابنه وابن عباس وسلمان الفارسي ومسلمة بن مخلد، وبه قال الحسن وابن سيرين وربيعة والأوزاعي والثوري وابن المبارك وإسحاق وأبو عبيد وأبو خيثمة وسليمان بن داود، وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث، لأنه تكفير قبل وجود سببه، وقال الشافعي كقولنا، في الإعتاق والإطعام والكسوة. وكقولهم في الصيام من أجل أنه عبادة بدنية. قلت: ويخطئ أكثر العامة حيث يظنون أن المتعين هو صيام ثلاثة أيام. ولا يعرفون غير ذلك؟!! (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 511: لا يجزئ في الكفارة إخراج قيمة الطعام، ولا الكسوة، في قول إمامنا ومالك والشافعي وابن المنذر، وهو الظاهر من قول عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي. وأجازه الأوزاعي وأصحاب الرأي اه ملخصا. وانظر القرطبي 6/ 280. (3) قال الإمام القرطبي في «تفسيره» 6/ 277: قال مالك: إن غدّى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه. وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة، لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مساكين مدا. وروي عن علي: لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة. يعني غداء دون عشاء، أو عشاء دون غداء حتى يغدّيهم ويعشيهم. قال أبو عمر: وهو قول أئمة أهل الفتوى بالأمصار. وانظر ما ذكره 6/ 276. (4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 513: المكفّر لا يخلو من أن يجد المساكين بكمال عددهم، أو لا يجدهم، فإن وجدهم لم يجزئه إطعام أقل من عشرة في كفارة اليمين، ولا أقل من ستين في كفارة الظهار، وكفارة الجماع في رمضان وبهذا قال الشافعي وأبو ثور. وأجاز الأوزاعي دفعها إلى واحد. وقال أبو عبيد: إن خص بها أهل بيت شديدي الحاجة جاز. وقال أصحاب الرأي: يجوز أن يرددها على مساكين واحد في عشرة أيام إن كانت كفارة يمين، أو في ستين إن كان الواجب إطعام ستين مسكينا. ولا يجوز دفعها إليه في يوم واحد. وحكاه أبو الخطاب عن أحمد اه ملخصا. وانظر القرطبي 6/ 278.

والثاني: مِن أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، والأسود، وعَبيدة، والحسن، وابن سيرين. وروي عن ابن عباس قال: كان أهل المدينة يقرون للحُرِّ مِن القوت أكثر ما للمملوك، وللكبير أكثر ما للصغير، فنزلت مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ليس بأفضله ولا بأخسِّه. وفي كسوتهم خمسة أقوال: أحدها: أنها ثوبٌ واحدٌ، قاله ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، والشافعي. والثاني: ثوبان، قاله أبو موسى الأشعري، وابن المسيّب، والحسن، وابن سيرين، والضحاك. والثالث: إِزار ورداء وقميص، قاله ابن عمر. والرابع: ثوب جامع كالملحفة، قاله إِبراهيم النخعي. والخامس: كسوة تجزئ فيها الصلاة، قاله مالك. ومذهب أصحابنا: أنه إِن كسا الرجل، كساه ثوباً، والمرأة ثوبين، درعاً وخماراً، وهو أدنى ما تُجزئ فيه الصلاة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو الجوزاء ويحيى بن يعمر: «أو كُسوتهم» بضم الكاف. وقد قرأ سعيد بن جبير وأبو العالية وأبو نهيك ومعاذ القارئ: «أو كاسوتهم» بهمزة مكسورة مفتوحة الكاف مكسورة التاء والهاء. وقرأ ابن السميفع وأبو عمران الجوني مثله، إِلا إنهما فتحا الهمزة. قال المصنف: ولا أرى هذه القراءة جائزة لأنها تسقط أصلاً من أصول الكفارة. قوله تعالى: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تحريرها: عتقها، والمراد بالرقبة: جملة الشخص. واتفقوا على اشتراط إِيمان الرقبة في كفارة القتل لموضع النص. واختلفوا في إِيمان الرقبة المذكورة في هذه الكفارة على قولين: أحدهما: أنه شرط، وبه قال الشافعي، لأن الله تعالى قيد بذكر الإِيمان في كفارة القتل، فوجب حمل المطلق على المقيّد. والثاني: ليس بشرط، وبه قال أبو حنيفة، وعن أحمد رضي الله عنه في إِيمان الرقبة المعتقة في كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع، والمنذورة، روايتان. قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ اختلفوا فيما إِذا لم يجده، صام، على خمسة أقوال: أحدها: أنه إِذا لم يجد درهمين صام، قاله الحسن. والثاني: ثلاثة دراهم، قاله سعيد بن جبير. والثالث: إِذا لم يجد إِلا قَدْرَ ما يكفِّر به، صام، قاله قتادة. والرابع: مائتي درهم، قاله أبو حنيفة. والخامس: إِذا لم يكن له إِلا قدر قوته وقوت عائلته يومه وليلته «1» ، قاله أحمد، والشافعي. وفي تتابع الثّلاثة أيام «2» ، قولان: أحدهما: أنه

_ (1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 533: ويكفّر بالصوم من لم يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته، مقدار ما يكفر به وجملة ذلك أن كفارة اليمين تجمع تخييرا وترتيبا، فيتخير بين الخصال الثلاث، ويعتبر أن لا يجد فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته قدرا يكفّر به، وهذا قول إسحاق، وأبو عبيد وقال الشافعي من جاز له الأخذ من الزكاة لحاجته وفقره، أجزأه الصيام، لأنه فقير. وقال سعيد بن جبير، إذا لم يملك إلا ثلاثة دراهم، كفّر بها. وقال الحسن: درهمين. وهذان القولان نحو قولنا، ووجه ذلك أن الله اشترط للصيام، أن لا يجد. فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله، يومه وليلته، كصدقة الفطر. (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 528: ظاهر المذهب اشتراط التتابع في الصوم كذلك قال النخعي، والثوري، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال عطاء ومجاهد، وعكرمة. وعن أحمد رواية أخرى، أنه يجوز تفريقها. وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه لأن الأمر بالصوم مطلق، فلا يجوز تقييده إلا بدليل. وفي قراءة ابن مسعود: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» كذلك ذكره أحمد: إن كان قرآنا فهو حجة، وإن لم يكن قرآنا، فهو رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأيضا هو حجة فوجب التتابع.

[سورة المائدة (5) : آية 90]

شرط، وكان أُبيّ، وابن مسعود يقرآن: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وبه قال ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، وقتادة، وأبو حنيفة، وهو قول أصحابنا. والثاني: ليس بشرط، ويجوز التفريق، وبه قال الحسن، ومالك. وللشافعي فيه قولان. قوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ فيه إِضمار تقديره: إذا حلفتم وحنثتم. وفي قوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أقلّوا منها، ويشهد له قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ، وأنشدوا: قليل الألايا حافظ ليمينه «1» والثاني: احفظوا أنفسكم من الحنث فيها. والثالث: راعوها لكي تؤدّوا الكفّارة عند الحنث فيها. [سورة المائدة (5) : آية 90] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ في سبب نزولها أربعة أقوال: (467) أحدها: أن سعد بن أبي وقاص أتى نفراً من المهاجرين والأنصار، فأكل عندهم، وشرب الخمر قبل أن تحرم، فقال: المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجلٌ لَحْي جمل فضربه، فجدع أنفه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فنزلت هذه الآية، رواه مصعب بن سعد عن أبيه. (468) وقال سعيد بن جبير: صنع رجل من الأنصار صنيعاً، فدعا سعد بن أبي وقاص، فلما أخذت فيهم الخمرة افتخروا واستبُّوا، فقام الأنصاري إِلى لحي بعير، فضرب به رأس سعد، فإذا الدم على وجهه، فذهب سعد يشكو إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزل تحريم الخمر في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله تعالى: تُفْلِحُونَ. (469) والثاني: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في «البقرة» فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في النساء لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية، رواه أبو ميسرة عن عمر. (470) والثالث: أن أُناساً من المسلمين شربوها، فقاتل بعضهم بعضاً، وتكلموا بما لا يرضاه الله من القول، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

_ صحيح. أخرجه مسلم 4/ 1877 ح 1748 والواحدي 412 وأحمد 1/ 181- 185 والبيهقي 8/ 285 والطبري 12522 و 12523 من حديث سعد. وانظر «تفسير الشوكاني» 851 بتخريجنا. هو مرسل، لكن يشهد له ما قبله. مضى في سورة البقرة، وهو حديث حسن. فيه انقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس، لكن يشهد له ما تقدم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 91 إلى 92]

(471) والرابع: أن قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثَمِلوا عبث بعضهم ببعض، فلما صحَوْا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته، فيقول: صنع بي هذا أخي فلان!! والله لو كان بي رؤوفاً ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، وكانوا إِخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقد ذكرنا الخمر والميسر في البقرة «1» وذكرنا في «النصب» في أوّل هذه السورة «2» قولين، وهما اللذان ذكرهما المفسرون في الأنصاب. وذكرنا هناك «الأزلام» . فأما الرجس، فقال الزجاج: هو اسمٌ لكل ما اسْتُقْذِرَ من عمل، يقال: رَجُس الرَّجل يرجُس، ورَجِسَ يَرْجَسُ: إِذا عمل عملاً قبيحاً، والرَّجس بفتح الراء: شدّة الصوت، فكأن الرِّجسَ، العملُ الذي يقبح ذكره، ويرتفع في القبح، ويقال: رعدٌ رجّاس: إِذا كان شديد الصوت. قوله تعالى: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ قال ابن عباس: من تزيين الشيطان. فإن قيل: كيف نُسِبَ إِليه، وليس من فعله؟ فالجواب: أن نسبته إِليه مجاز، وإِنما نسب إِليه، لأنه هو الداعي إِليه، المزيّن له، ألا ترى أن رجلاً لو أغرى رجلاً بضرب رجل، لجاز أن يقال له: هذا من عملك. قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ قال الزجاج: اتركوه. واشتقاقه في اللغة: كونوا جانباً منه. فإن قيل: كيف ذكر في هذه الآية أشياء، ثم قال: فاجتنبوه؟ فالجواب: أن الهاء عائدةٌ على الرجس، والرجس واقعٌ على الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، ورجوع الهاء عليه بمنزلة رجوعها على الجمع الذي هو واقعٌ عليه، ومنبئ عنه، ذكره ابن الأنباريّ. [سورة المائدة (5) : الآيات 91 الى 92] إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أما «الخمر» فوقوع العداوة والبغضاء فيها على نحو ما ذكرنا في سبب نزول الآية من القتال والمماراة. وأما الميسر، فقال قتادة: كان الرجل يقامر على أهله وماله، فيُقمَرُ ويبقى حزيناً سليباً، فينظر إِلى ماله في يد غيره، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء. قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فيه قولان: أحدهما: أنه لفظ استفهام، ومعناه الأمر. تقديره: انتهوا. قال الفراء: ردّد علي أعرابيٌ: هل أنت ساكتٌ، هل أنت ساكت؟ وهو يريد: اسكت، اسكت. والثاني: أنه استفهام، لا بمعنى الأمر. ذكر شيخنا علي بن عبيد الله أن جماعة كانوا يشربون الخمر بعد

_ حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 171 والطبري 12526 والحاكم 4/ 141 والبيهقي 8/ 285 والطبراني 12459، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وسكت عنه الحاكم، وصححه الذهبي على شرط مسلم، وهو كما قال، ويشهد له ما قبله، بل ربما تعددت الأسباب فنزلت الآيات في جميع ذلك.

[سورة المائدة (5) : آية 93]

هذه الآية، ويقولون: لم يحرّمها، إِنما قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، فقال بعضنا: انتهينا، وقال بعضنا: لم ننته، فلما نزلت قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ حُرّمت، لأن «الإِثم» اسمٌ للخمر. وهذا القول ليس بشيء، والأوّل أصح. قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمَرَاكم، واحذروا خلافهما فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي: أعرضتم، فاعلموا أنما على رسولنا محمد البلاغ المبين وهذا وعيدٌ لهم، كأنه قال فاعلموا أنّكم قد استحققتم العقاب لتولّيكم. [سورة المائدة (5) : آية 93] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا سبب نزولها: (472) أن ناسا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ماتوا وهم يشربون الخمر، إِذ كانت مباحة، فلما حرِّمت قال ناس: كيف بأصحابنا وقد ماتوا وهم يشربونها؟! فنزلت هذه الآية، قاله البراء بن عازب. و «الجناح» : الإِثم. وفيما طعموا ثلاثة أقوال: أحدها: ما شربوا من الخمر قبل تحريمها، قاله ابن عباس، قال ابن قتيبة: يقال: لم أطعم خُبْزاً وأدماً ولا ماءً ولا نوماً. قال الشاعر: فَإنْ شئتِ حرَّمتُ النِّساء سِواكُم ... وإِن شئتِ لم أطْعَمْ نُقَاخاً ولا بَرْدَا «1» النقاخ: الماء البارد الذي ينقخ الفؤاد ببرده، والبرد: النوم. والثاني: ما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر. والثالث: ما طعموا من المباحات. وفي قوله تعالى: إِذا مَا اتَّقَوْا ثلاثة أقوال: أحدها: اتقوا بعد التحريم، قاله ابن عباس. والثاني: اتقوا المعاصي والشرك. والثالث: اتقوا مخالفة الله في أمره. وفي قوله تعالى: وَآمَنُوا قولان: أحدهما: آمنوا بالله ورسوله. والثاني: آمنوا بتحريمها. قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال مقاتل: أقاموا على الفرائض.

_ صحيح. أخرجه الترمذي 3050 و 3051 والطيالسي 715 وأبو يعلى 1719 و 1720 وابن حبان 5350 والطبري 12533 من حديث البراء، وإسناده صحيح على شرطهما، لكن فيه عنعنة أبي إسحاق، وهو مدلس، وجاء في رواية أبي يعلى: قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: أسمعته من البراء، قال: لا اه. ومع ذلك يعتضد بحديث أنس: قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا فنادى فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت قال: فخرجت، قال: فجرت في سكك المدينة قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ، فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم قال: فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا. أخرجه البخاري 4620 ومسلم 1980 والحميدي 1210 وأحمد 3/ 183 والنسائي 8/ 287 وابن حبان 5352 و 5363 و 5364 والبيهقي 8/ 286 والبغوي 2043 من طرق عن أنس، رووه بألفاظ متقاربة، واللفظ للبخاري.

[سورة المائدة (5) : آية 94]

قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا في هذه التقوى المعادة أربعة أقوال: أحدها: أن المراد خوف الله عزّ وجلّ. والثاني: أنها تقوى الخمر والميسر بعد التحريم. والثالث: أنها الدوام على التقوى. والرابع: أن التقوى الأولى مخاطبة لمن شربها قبل التحريم، والثانية لمن شربها بعد التحريم. قوله تعالى: وَآمَنُوا في هذا الإِيمان المُعاد قولان: أحدهما: صدّقوا بجميع ما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: آمنوا بما يجيء من الناسخ والمنسوخ. قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا في هذه التقوى الثالثة أربعة أقوال: أحدها: اجتنبوا العودَ إِلى الخمر بعد تحريمها، قاله ابن عباس: والثاني: اتقوا ظلم العباد. والثالث: توقوا الشبهات. والرابع: اتقوا جميع المحرّمات. وفي الإِحسان قولان: أحدهما: أحسنوا العمل بترك شربها بعد التحريم، قاله ابن عباس. والثاني: أحسنوا العمل بعد تحريمها، قاله مقاتل. [سورة المائدة (5) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ. (473) قال المفسّرون: لما كان عام الحديبية، وأقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالتنعيم، كانت الوحوش والطير تغشاهم في رحالهم، وهم مُحرِمون، فنزلت هذه الآية، ونهوا عنها ابتلاء. قال الزجاج: اللام في «ليبلونَّكم» لام القسم، ومعناه: لنختبرن طاعتكم من معصيتكم. وفي «من» قولان: أحدهما: أنها للتبعيض، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه عنى صيد البرِّ دون صيد البحر. والثاني: أنه عنى الصيد ما داموا في الإِحرام كأنَّ ذلك بعض الصيد. والثاني: أنها لبيان الجنس، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ. قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال مجاهد: الذي تناله اليد: الفراخ والبيض، وصغار الصيد، والذي تناله الرماح: كبار الصيد. قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ قال مقاتل: ليرى الله من يخافه بالغيب ولم يَره، فلا يتناول الصيد وهو مُحرم فَمَنِ اعْتَدى فأخذ الصيد عمداً بعد النهي للمُحرِم عن قتل الصيد فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ قال ابن عباس: يوسع بطنه وظهره جلدا، وتسلب ثيابه. [سورة المائدة (5) : آية 95] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)

_ ورد ذلك عن مقاتل بن حيان، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 2/ 576، وهذا معضل، ومقاتل له مناكير كثيرة، وتفرده بهذا يدل على وهنه بل وبطلانه أيضا، حيث لم أجده عن غيره، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 2/ 170 بتخريجنا.

قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بيّن الله عزّ وجلّ بهذه الآية من أيِّ وجهٍ تقع البلوى، وفي أيِّ زمانٍ، وما على من قتله بعد النهي؟. وفي قوله: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ثلاثة أقوال: أحدها: وأنتم محرمون بحج أو عمرة، قاله الأكثرون. والثاني: وأنتم في الحرم، يقال: أحرم: إِذا دخل في الحرم، وأنجد: إِذا أتى نجداً. والثالث: الجمع بين القولين. قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فيه قولان: أحدهما: أن يتعمّد قتله ذاكراً لإِحرامه، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: أن يتعمد قتله ناسياً لإِحرامه، قاله مجاهد. فأما قتله خطأً، ففيه قولان: أحدهما: أنه كالعمد، قاله عمر، وعثمان، والجمهور. قال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنّة في الخطأ، يعني: ألحقت المخطئ بالمتعمّد في وجوب الجزاء. (474) وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الضبع صيد وفيه كبش إِذا قتله المحرم» . وهذا عامّ في العامد والمخطئ. قال القاضي أبو يعلى: أفاد تخصيص العمد بالذكر ما ذكر في أثناء الآية من الوعيد، وإِنما يختصّ ذلك بالعامد. والثاني: أنه لا شيء فيه، قاله ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء وسالم والقاسم وداود. وعن أحمد روايتان، أصحهما الوجوب. قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «فجزاء مثل» مضافة وبخفض «مثل» . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «فجزاءٌ» منون «مثلُ» مرفوع. قال أبو علي: من أضاف، فقوله تعالى: مِنَ النَّعَمِ يكون صفة للجزاء، وإِنما قال: مثل ما قتل، وإِنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، لأنهم يقولون: أنا أُكرِمُ مثلك، يريدون: أنا أُكرِمُك، فالمعنى: جزاء ما قتل. ومَن رفع «المثل» ، فالمعنى: فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول، والتقدير: فعليه جزاء. قال ابن قتيبة: النعم: الإِبل، وقد يكون البقر والغنم، والأغلب عليها الإِبل. وقال الزجاج: النعم في اللغة: الإِبل والبقر والغنم، فان انفردت الابل، قيل لها: نعم، وإِن انفردت البقر والغنم، لم تسم نعماً. فصل: قال القاضي أبو يعلى: والصيد الذي يجب الجزاء بقتله: ما كان مأكول اللحم، كالغزال، وحمار الوحش، والنعامة، ونحو ذلك، أو كان متولداً من حيوان يؤكل لحمه، كالسِّمع، فإنه متولد من الضبع، والذئب، وما عدا ذلك من السباع كلها، فلا جزاء على قاتلها سواء ابتدأ قتلها، أو عدت عليه فقتلها دفعاً عن نفسه، لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة، فلم يدخل تحت الآية. (475) ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاز للمحرم قتل الحيّة، والعقرب، والفويسقة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور، والسَّبع العادي. قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثلٌ من الأنعام مثله، وفيما لا مثل

_ صحيح. أخرجه أبو داود 3801 وابن ماجة 3085 والدارمي 2/ 74 والحاكم 1/ 452، والدارقطني 2/ 246 وابن حبان 3964 من حديث جابر، وصححه الحاكم على شرطهما وجاء في «تلخيص الحبير» 2/ 278. قال الترمذي: سألت عنه البخاري فصححه، وكذا صححه عبد الحق، وجوّده البيهقي، وأعلّه بعضهم بالوقف. وانظر «تفسير القرطبي» 2809 بتخريجنا. يشير المصنف للحديث الصحيح الوارد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» . أخرجه البخاري 1829 ومسلم 1198 وأحمد 6/ 259 وابن حبان 5632 وأبو يعلى 4503 والطحاوي 2/ 166. والدارقطني 2/ 231 من طرق عن عائشة، رووه بألفاظ متقاربة. وفي رواية مسلم برقم 1198 ح 68. «الحية والكلب العقور» . وفيه «السبع العادي» . أخرجه أبو داود 1848 والترمذي 838 وابن ماجة 3089 والطحاوي 1/ 385 وأحمد 3/ 3- 32- 79 والبيهقي 5/ 210 من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد في أثناء حديث، وإسناده غير قوي لأجل يزيد بن أبي زياد، فقد ضعفه غير واحد. والألفاظ الواردة في الصحيحين ليس فيها ذكر «السبع العادي» . والفويسقة: هي الفأرة.

له قيمته، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه القيامة، وحمل المثل على القيامة، وظاهرُ الآية يردُّ ما قال، ولأن الصحابة حملوا الآية على المثل من طريق الصورة، فقال ابن عباس: المثل: النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير. قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني بالجزاء، وإِنما ذكر اثنين، لأن الصيد يختلف في نفسه، فافتقر الحكم بالمثل إلى عدلين. وقوله تعالى: مِنْكُمْ يعني: من أهل ملتكم. قوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ قال الزجاج: هو منصوب على الحال، والمعنى: يحكمان به مقدّراً أن يهدى «1» . ولفظ قوله «بالغ الكعبة» لفظ معرفة، ومعناه: النكرة. والمعنى: بالغاً الكعبة، إِلا أن التنوين حُذف استخفافاً. قال ابن عباس: إِذا أتى مكّة ذبحه، وتصدّق به. قوله تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أَوْ كَفَّارَةٌ منوناً طَعامُ رفعاً. وقرأ نافع، وابن عامر: «أو كفّارة» رفعا غير منوّن «طعام مساكين» على الاضافة. قال أبو علي: من رفع ولم يضف، جعله عطفاً على الكفارة عطف بيان، لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة إِلى الطعام، لأن الكفارة لقتل الصيد، لا للطعام، ومن أضاف الكفارة إِلى الطعام، فلأنه لما خيّر المكفِّر بين الهدي، والطعام، والصيام، جازت الإِضافة لذلك، فكأنه قال: كفارةُ طعامٍ، لا كفارة هدي، ولا صيام. والمعنى: أو عليه بدل الجزاء والكفارة، وهي طعامُ مساكين «2» . وهل يعتبر في إِخراج الطعام قيمة النظير، أو قيمة الصيد؟ فيه قولان: أحدهما: قيمة النظير، وبه قال عطاء، والشافعي، وأحمد. والثاني: قيمة الصيد، وبه قال قتادة، وأبو حنيفة، ومالك. وفي قدر الإطعام لكلّ

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 5/ 450- 451 ما ملخصه: أما فدية الأذى، فتجوز في الموضع الذي حلق فيه، نص عليه أحمد، وقال الشافعي: لا تجوز إلا في الحرم لقوله تعالى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. ولنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية، ولم يأمر ببعثه إلى الحرم. - وأما جزاء الصيد، فهو لمساكين الحرم لقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ. فصل: وما وجب نحره بالحرم، وجب تفرقة لحمه به، وبهذا قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا ذبحها في الحرم، جاز تفرقة لحمها في الحل. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 413. [.....] (2) قال الإمام الموفق رحمه الله 5/ 451: فصل: والطعام كالهدي، يختص بمساكين الحرم فيما يختص الهدي به، وقال عطاء والنخعي: ما كان من هدي فبمكة، وما كان من طعام وصيام. فحيث شاء، وهذا يقتضيه مذهب مالك وأبي حنيفة، ولنا قول ابن عباس: الهدي والطعام بمكة، والصوم حيث شاء. - فصل: ومساكين الحرم من كان فيه من أهل، أو وارد إليه من الحاجّ وغيرهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، ولو دفع إلى من ظاهره الفقر فبان غنيا خرّج فيه وجهان كالزكاة، وللشافعي فيه قولان، وما جاز تفريقه بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وجوزه أصحاب الرأي، ولنا أنه كافر، فلم يجز الدفع إليه، كالحربي.

[سورة المائدة (5) : آية 96]

مساكين قولان: أحدهما: مدّان من بُرٍّ، وبه قال ابن عباس، وأبو حنيفة. والثاني: مُدُّ بُرٍّ، وبه قال الشافعي، وعن أحمد روايتان، كالقولين. قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قرأ أبو رزين، والضحاك، وقتادة، والجحدري، وطلحة: «أو عِدل ذلك» ، بكسر العين. وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة. قال أصحابنا: يصوم عن كل مُدّ بُرٍّ، أو نصف صاع تمر، أو شعير يوماً. وقال أبو حنيفة: يصوم يوماً عن نصف صاع في الجميع. وقال مالك، والشافعي: يصوم يوماً عن كلِّ مدٍّ من الجميع. فصل: وهل هذا الجزاء على الترتيب، أم على التخيير؟ فيه قولان: أحدهما: أنه على التخيير بين إِخراج النظير، وبين الصيام، وبين الإِطعام. والثاني: أنه على الترتيب، إِن لم يجد الهدي، اشترى طعاماً، فإن كان معسراً صام، قاله ابن سيرين. والقولان مرويّان عن ابن عباس، وبالأول قال جمهور الفقهاء. قوله تعالى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي: جزاء ذنبه. قال الزجاج: «الوبال» : ثقل الشيء في المكروه، ومنه قولهم: طعامٌ وبيل، وماءُ وبيل: إذا كانا ثقيلين. قال الله عزّ وجلّ: فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي: ثقيلاً شديداً. قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ فيه قولان: أحدهما: ما سلف في الجاهلية، من قتلهم الصيد، وهم محرمون، قاله عطاء. والثاني: ما سلف من قتل الصيد في أوّل مرّة، حكاه ابن جرير، والأول أصح. فعلى القول الأول يكون معنى قوله: وَمَنْ عادَ في الإِسلام، وعلى الثاني: وَمَنْ عادَ ثانية بعد أولى. قال أبو عبيدة: «عاد» في موضع يعود، وأنشد: إِن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... وإِن ذكِرْتُ بسوءٍ عندهم أذِنُوا «1» قوله تعالى: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «الانتقام» : المبالغة في العقوبة، وهذا الوعيد بالانتقام لا يمنع إِيجاب جزاء ثانٍ إِذا عاد، وهذا قول الجمهور، وبه قال مالك والشافعي، وأحمد. وقد روي عن ابن عباس، والنخعي، وداود: أنه لا جزاء عليه في الثاني، إنّما وعد بالانتقام. [سورة المائدة (5) : آية 96] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ قال أحمد: يؤكل كلُّ ما في البحر إِلا الضِّفدِع والتِّمساح، لأن التمساح يأكل الناس يعني: أنه يَفْرِسُ. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا يباح منه إِلا السمك. وقال ابن أبي ليلى، ومالك: يباح كلُّ ما فيه من ضفدع وغيره.

_ (1) البيت لقعنب ابن أم صاحب، وهو في «اللسان» مادة- أذن- ملفق من بيتين هما: إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً ... مِنَّي وما سمعوا من صالح دفنوا صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا جهلا علينا وجبنا عن عدوّهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن

[سورة المائدة (5) : الآيات 97 إلى 98]

فأما طعامه، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما نبذه البحر ميّتاً، قاله أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وأبو أيوب، وقتادة. والثاني: أنه مليحه، قاله سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير والسدّي، وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة كالقولين. واختلفت الرواية عن النخعي. فروي عنه كالقولين، وروي عنه أنه جمع بينهما، فقال: طعامه المليح «1» ، وما لفظه. والثالث: أنه ما نبت بمائة من زروع البرّ، وإِنما قيل لهذا: طعام البحر، لأنه ينبت بمائه، حكاه الزجاج. وفي المتاع قولان: أحدهما: أنه المنفعة، قاله ابن عباس، والحسن وقتادة. والثاني: أنه الحلّ قاله النخعي. قال مقاتل: متاعاً لكم يعني المقيمين، وللسيارة، يعني المسافرين. قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً أما الاصطياد فمحرّم على المحرم «2» ، فإن صيد لأجله، حَرُم عليه أكله خلافاً لأبي حنيفة، فإن أكل فعليه الضمان خلافاً لأحد قولي الشافعي. فإن ذبح المُحرم صيداً، فهو ميتة، خلافاً لأحد قولي الشافعي أيضاً. فإن ذبح الحلال صيداً في الحرم، فهو ميتة أيضاً، خلافا لأكثر الحنفيّة. [سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 98] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ جعل بمعنى: صيّر. وفي تسمية الكعبة كعبة قولان: أحدهما: لأنها مربعة، قاله عكرمة، ومجاهد. والثاني: لعُلوها ونتوئها، يقال: كعبت المرأة كعابة، وهي كاعب، إِذا نتأ ثديها. ومعنى تسمية البيت بأنه حرام: أنه حَرُم أن يصاد عنده، وأن يختلى ما عنده من الخلا، وأن يُعضَدَ شجرُه، وعظمت حرمته. والمراد بتحريم البيت سائِر الحرم، كما قال: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «3» وأراد: الحرم. والقيام: بمعنى القوام. وقرأ ابن عامر: قيما بغير ألف. قال أبو علي: وجهه على أحد أمرين، إِما أن يكون جعله مصدراً، كالشبع. أو حذف الألف وهو يريدها، كما يُقصر الممدود. وفي معنى الكلام ستة أقوال: أحدها: قياماً للدين، ومعالم للحج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: قياماً لأمرِ مَن توجه إِليها، رواه العوفي عن ابن عباس. قال قتادة: كان الرجل لو جرّ كلّ

_ (1) في «اللسان» الملح والمليح: خلاف العذب من الماء. (2) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 6/ 321- 322: اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد، فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق، وهو الصحيح عن عثمان: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله لحديث جابر. وقال أبو حنيفة وأصحابه أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أم لا. واحتجوا بحديث أبي قتادة، وهو قول عمر وعثمان في رواية. وروي عن علي وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد، وبه قال إسحاق، وروي عن الثوري، واحتجوا بحديث الصعب بن جثّامة اه ملخصا، وانظر «المغني» 5/ 135- 136. (3) سورة المائدة: 95.

[سورة المائدة (5) : آية 99]

جريرة، ثم لجأ إليها، لم يتناول. والثالث: قياماً لبقاء الدين، فلا يزال في الأرض دين ما حُجَّت واستُقْبِلت، قاله الحسن. والرابع: قوام دنيا وقوام دين، قاله أبو عبيدة. والخامس: قياماً للناس، أي: مما أُمروا أن يقوموا بالفرض فيه، ذكره الزجاج. والسادس: قياماً لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التجارة عندها، ذكره بعض المفسرين. فأما الشهر الحرام، فالمراد به الأشهر الحرم، كانوا يأمن بعضهم بعضاً فيها، فكان ذلك قواماً لهم، وكذلك إِذا أهدى الرجل هدياً أو قلد بعيره أمِنَ كيف تصرّف، فجعل الله تعالى هذه الأشياء عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها. قوله تعالى: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا ذكر ابن الأنباري في المشار إِليه بذلك أربعة أقوال: أحدها: أن الله تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار الأنبياء وغيرهم، وأطلع على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين، فقال: ذلك لتعلموا، أي: ذلك الغيب الذي أنبأتكم به عن الله يدلكم على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ولا تخفى عليه خافية. والثاني: أن العرب كانت تسفك الدماء بغير حلها، وتأخذ الأموال بغير حقها، ويقتل أحدهم غير القاتل، فاذا دخلوا البلد الحرام، أو دخل الشهر الحرام، كفُّوا عن القتل. والمعنى: جعل اللهِ الكعبة أمناً، والشهر الحرام أمناً، إِذ لو لم يجعل للجاهلية وقتاً يزول فيه الخوف لهلكوا، فذلك يدل على أنه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض. والثالث: أن الله تعالى صرف قلوب الخلق إِلى مكة في الشهور المعلومة، فاذا وصلوا إِليها عاش أهلها معهم، ولولا ذلك ماتوا جوعاً، لعلمه بما في ذلك من صلاحهم، وليستدلوا بذلك على أنه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض. والرابع: أن الله تعالى جعل مكة أمناً، وكذلك الشهر الحرام، فإذا دخل الظبي الوحشي الحرم، أنس بالناس، ولم ينفر من الكلب، ولم يطلبه الكلب، فإذا خرجا عن حدود الحرم، طلبه الكلبُ، وذُعِر هو منه، والطائِر يأنس بالناس في الحرم، ولا يزالُ يطير حتى يقرب من البيت، فإذا قرب منه عدل عنه، ولمْ يطرْ فوقه إِجلالاً له، فإذا لحقه وجعٌ طرح نفسه على سقف البيت استشفاءً به، فهذه الأعاجيب في ذلك المكان، وفي ذلك الشهر قد دللن على أن الله تعالى يعلم ما في السّماوات وما في الأرض. [سورة المائدة (5) : آية 99] ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ في هذه الآية تهديدٌ شديد. وزعم مقاتل أنها نزلت والتي بعدها، في أمر شُريح بن ضُبيعة وأصحابه، وهم حجاج اليمامة حين همّ المسلمون بالغارة عليهم، وقد سبق ذكر ذلك في أول السورة. وهل هذه الآية محكمةٌ، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنها محكمة، وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ، وليس عليه الهُدى. والثاني: أنها كانت قبل الأمر بالقتال، ثم نسخت بآية السّيف.

[سورة المائدة (5) : آية 100]

[سورة المائدة (5) : آية 100] قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ. (476) روى جابر بن عبد الله أن رجلاً قال: يا رسول الله إِن الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إِن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِن الله لا يقبل إِلاّ الطيِّب» فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي الخبيث والطيب أربعة أقوال: أحدها: الحلال والحرام، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: المؤمِن والكافر، قاله السدي. والثالث: المطيع والعاصي. والرابع: الرديء والجيِّد، ذكرهما الماوردي. ومعنى الإعجاب هاهنا: السّرور بما يتعجّب منه. [سورة المائدة (5) : آية 101] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ في سبب نزولها ستة أقوال: (477) أحدها: أن الناس سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى أحفوه بالمسألة، فقام مغضباً خطيباً، فقال: «سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم» ، فقام رجل من قريش، يقال له: عبد الله بن حُذافة كان إِذا لاحى «1» يُدعى إِلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله مَن أبي؟ قال: أبوك حُذافة، فقام آخر، فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إِماماً، إِنَّا حديثو عهدٍ بجاهلية، والله أعلم مَن أباؤنا، فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن أبي هريرة، وقتادة عن أنس. (478) والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس، فقال: «إِن الله كتب عليكم الحجّ، فقام عكاشة

_ باطل. أخرجه الواحدي 417 والأصبهاني في «الترغيب» 1235 عن جابر بن عبد الله، وإسناده ساقط. فيه محمد بن يوسف بن يعقوب الرازي وضّاع، انظر ضعفاء ابن الجوزي 3254 و «الميزان» 4/ 72. حديث صحيح. أما حديث أبي هريرة، فأخرجه الطبري 12806، وفيه قيس بن الربيع، وهو غير قوي، لكن للحديث شواهد كثيرة منها الآتي. وأما حديث أنس. فأخرجه البخاري 4621 و 4362 و 7295 ومسلم 2359 والنسائي في «التفسير» 174 والترمذي 3056 وابن حبان 6429 والبغوي في «التفسير» 839 من طرق عن أنس، رووه بألفاظ متقاربة، وطوله بعضهم. انظر «أحكام القرآن» 801 بتخريجنا. صحيح. أخرجه مسلم 1337 والنسائي 5/ 110- 111 وأحمد 2/ 508 وابن حبان 3704 و 3705 والبيهقي 4/ 326 والدارقطني 2/ 281 والطبري 12809. وأخرجه الطبري 12808 من طريق عبد الرحيم بن سليمان والدارقطني 2/ 282 عن محمد بن فضيل، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم الهجري- وهو ضعيف- عن أبي عياض عن أبي هريرة.

[سورة المائدة (5) : آية 102]

ابن مُحصن، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: أما إِني لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عني ما سكتُّ عنكم، فإنما هلكَ من هلك ممن كان قبلكم بكثرة سؤالِهم، واختلافهم على أنبيائهم» فنزلت هذه الآية، رواه محمد بن زياد عن أبي هريرة. وقيل: إِن السائل عن ذلك الأقرع بن حابس. (479) والثالث: أن قوما كانوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء، فيقول الرجل: مَن أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو الجويرية «1» عن ابن عباس. (480) والرابع: أن قوماً سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فنزلت هذه الآية، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير. والخامس: أن قوماً كانوا يسألون الآيات والمعجزات، فنزلت هذه الآية، روي هذا المعنى عن عكرمة. والسادس: أنها نزلت في تمنيهم الفرائض، وقولهم: وددنا أن الله تعالى أذِنَ لنا في قتال المشركين، وسؤالهم عن أحبِّ الأعمال إِلى الله، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال الزجاج: أَشْياءَ في موضع خفض إِلا أنها فتحت، لأنها لا تنصرف. وتُبْدَ لَكُمْ: تظهر لكم. فأعلم الله تعالى أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع، لأنه يسوء الجواب عنه. وقال ابن عباس: إِن تبد لكم، أي: إِن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك. قوله تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي: حين ينزل القرآن فيها بفرض أو إِيجاب، أو نهي أو حكم، وليس في ظاهر ما نزل دليل على شرح ما بكم إِليه حاجة، فإذا سألتم حينئذ عنها تبد لكم. وفي قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْها قولان: أحدهما: أنها إِشارة إِلى الأشياء. والثاني: إِلى المسألة. فعلى القول الأول في الآية تقديم وتأخير. والمعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، عفا الله عنها. ويكون معنى: عفا الله عنها: أمسك عن ذكرها، فلم يوجب فيها حكماً. وعلى القول الثاني، الآية على نظمها، ومعنى: عفا الله عنها: لم يؤاخذ بها. [سورة المائدة (5) : آية 102] قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) قوله تعالى: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ في هؤلاء القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين سألوا عيسى نزول المائدة، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنهم قوم صالح حين سألوا النّاقة، هذا

_ صحيح. أخرجه البخاري 4622 والطبري 12798 والطبراني 12695 والواحدي 418 والبغوي 842 كلهم عن ابن عباس به. وانظر «أحكام القرآن» 802 بتخريجنا. ضعيف. أخرجه الطبري 12815 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، فيه خصيف الجزري، وهو صدوق لكنه سيء الحفظ كثير الخطأ، وكرره الطبري 12816 عن عكرمة مرسلا، وهو أصح، والمتقدم عن ابن عباس أصح، وكذا المتقدم عن أنس وأبي هريرة، والظاهر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد سئل مسائل كثيرة، فنزلت هذه الآية في ذلك جميعا، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 804 بتخريجنا.

[سورة المائدة (5) : آية 103]

على قول السدي. وهذان القولان يخرجان على أنهما سألوا الآيات. والثالث: أن القوم هم الذين سألوا في شأن البقرة وذبحها، فلو ذبحوا بقرةً لأجزأت، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم، قاله ابن زيد. وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحج، إِذ لو أراد الله أن يشدِّد عليهم بالزيادة في الفرض لشدّد. والرابع: أنهم الذين قالوا لنبيٍ لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، وهذا عن ابن زيد أيضاً، وهو يخرج على من قال: إِنما سألوا عن الجهاد والفرائض تمنياً لذلك. قال مقاتل: كان بنو إِسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدّقوهم، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين. [سورة المائدة (5) : آية 103] ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ أي: ما أوجب ذلك، ولا أمر به. وفي «البحيرة» أربعة أقوال: أحدها: أنها الناقة إِذا نُتِجَتْ خمسة أبطن نظروا إِلى الخامس، فإن كان ذكراً نحروه، فأكله الرجال والنساء، وإِن كان أنثى شقوا أُذنها، وكانت حراماً على النساء لا ينتفعن بها، ولا يذقن من لبنها، ومنافعها للرجال خاصة، فإذا ماتت، إشترك فيها الرجال والنساء، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة. والثاني: أنها الناقة تلد خمس إِناث ليس فيهن ذكر، فيَعْمِدون إِلى الخامسة، فيَبْتِكُون أُذنها، قاله عطاء. والثالث: أنها ابنة السائِبة، قاله ابن إِسحاق، والفراء. قال ابن إِسحاق: كانت الناقة إِذا تابعت بين عشر إِناث، ليس فيهن ذكر، سُيِّبت، فإذا نُتِجَتْ بعد ذلك أُنثى، شقّت أُذنها، وسمّيت بحيرة، وخليت مع أُمها. والرابع أنها الناقة كانت إِذا نُتِجَت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكراً بحروا أُذنها، أي: شقُّوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع عن مرعى، وإِذا لقيها لم يركبها، قاله الزجاج. فأما «السائبة» ، فهي فاعلة بمعنى: مفعولة، وهي المسيّبة، كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ: أي مرضيّة. وفي السائِبة خمسة أقوال: أحدها: أنها التي تُسيّب من الأنعام للآلهة، لا يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبناً، ولا يجزُّون منها وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أن الرجل كان يُسيّب من ماله ما شاء، فيأتي به خزنة الآلهة، فيطعمون ابن السبيل من ألبانِه ولحومه إِلا النساء، فلا يطعمونهن شيئاً منه إِلا أن يموت، فيشترك فيه الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقال الشّعبيّ: كانوا يهدون آلهتهم الإِبل والغنم، ويتركونها عند الآلهة، فلا يشرب منها إِلا رجلٌ، فان مات منها شيءٌ أكله الرجال والنساء. والثالث: أنها الناقة إِذا ولدت عشرة أبطن، كلهن إِناث، سيّبت، فلم تركب، ولم يجز لها وبر، ولم يشرب لبنها إِلا ضيف أو ولدُها حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء، ذكره الفراء. والرابع: أنها البعير يُسيّب بنذر يكون على الرجل إِن سلمه الله تعالى من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك، قاله ابن قتيبة. قال الزجاج: كان الرجل إِذا نذر لشيء من هذا، قال: ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ولا تمنع من ماء ومرعى. والخامس: أنه البعير يحج عليه الحجة، فيُسيّب، ولا يستعمل شكراً لنجحها، حكاه الماوردي عن الشافعي.

[سورة المائدة (5) : آية 104]

وفي «الوصيلة» خمسة أقوال: أحدها: أنها الشاة إِذا نُتِجَت سبعة أبطن، نظروا إِلى السابع، فإن كان أُنثى، لم ينتفع النساء منها بشيء إِلا أن تموت، فيأكلها الرجال والنساء، وإِن كان ذكراً، ذبحوه، فأكلوه جميعاً، وإِن كان ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء، فإذا ماتت، اشترك فيها الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذهب إِلى نحوه ابن قتيبة، فقال: إِن كان السابع ذكراً، ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإِن كان أُنثى، تركت في النعم، وإِن كان ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم تذبح، لمكانها، وكانت لحومها حراماً على النساء، ولبن الأُنثى حراماً على النساء إِلا أن يموت منها شيء فيأكله الرجال والنساء. والثاني: أنها الناقة البكر تبتكر في أول نتاج الإِبل بالأُنثى، ثم تثنّي بالأنثى، فكانوا يستبقونها لطواغيتهم، ويَدْعونها الوصيلة، أي: وصلت إِحداهما بالأُخرى، ليس بينهما ذكر، رواه الزهري عن ابن المسيّب. والثالث: أنها الشاة تنتج عشر إِناثٍ متتابعاتٍ في خمسة أبطن، فيدعونها الوصيلة، وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإِناث، قاله ابن إِسحاق. والرابع: أنها الشاة تنتج سبعة أبطن، عناقين عناقين «1» ، فإذا ولدت في سابعها عناقاً وجدياً، قيل: وصلت أخاها، فجَرت مجرى السائبة، قاله الفراء. والخامس: أن الشاة كانت إِذا ولدت أُنثى، فهي لهم، وإِذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم فإن ولدت ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، قاله الزجاج. وفي «الحام» ستة أقوال: أحدها: أنه الفحل، ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقولون: قد حمى ظهره، فيسيبونه لأصنامهم، ولا يحملُ عليه، قاله ابن مسعود، وابن عباس، واختاره أبو عبيدة، والزجاج. والثاني: أنه الفحل يولد لولده، فيقولون: قد حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه، ولا يجزُّون وبره، ولا يمنعونه ماءً، ولا مرعى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، واختاره الفراء، وابن قتيبة. والثالث: أنه الفحل يظهر من أولاده عشر إِناثٍ من بناته، وبنات بناته، قاله عطاء. والرابع: أنه الذي ينتج له سبع إِناث متواليات، قاله ابن زيد. والخامس: أنه الذي لصُلبه عشرة كلها تضرِب في الإِبل، قاله أبو روق. والسادس: أنه الفحل يضرب في إِبل الرجل عشر سنين، فيخلَّى ويقال: قد حمى ظهره، ذكره الماوردي عن الشافعي. قال الزجاج: والذي ذكرناه في البحيرة، والسائِبة، والوصيلة، والحام أثبت ما روينا عن أهل اللغة. وقد أعلم الله عزّ وجلّ في هذه الآية أنه لم يحرّم من هذه الأشياء شيئاً، وأن الذين كفروا افتروا على الله عزّ وجلّ. قال مقاتل: وافتراؤهم: قولهم: إِن الله حرَّمه، وأمرنا به. وفي قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ قولان: أحدهما: وأكثرهم، يعني: الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب على الله من الرؤساء الذين حرموا، قاله الشعبي. والثاني: لا يعقلون أن هذا التحريم من الشّيطان، قاله قتادة. [سورة المائدة (5) : آية 104] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)

_ (1) في «اللسان» : العناق: الأنثى من ولد المعز.

[سورة المائدة (5) : آية 105]

قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني: إِذا قيل لهؤلاء المشركين الذين حرَّموا على أنفسهم هذه الأنعام: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من تحليل ما حرّمتم على أنفسكم، قالوا: حَسْبُنا أي: يكفينا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين والمنهاج أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الدين وَلا يَهْتَدُونَ له، أيتّبعونهم في خطئهم. [سورة المائدة (5) : آية 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ في سبب نزولها قولان: (481) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتب إِلى هَجَر، وعليهم المنذر بن ساوي يدعوهم إِلى الإسلام، فإن أبوا فليُؤدُّوا الجزية، فلما أتاه الكتاب، عرضه على مَن عنده من العرب واليهود والنصارى والمجوس، فأقرُّوا بالجزية، وكرهوا الإسلام، فكتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما العرب فلا تقبل منهم إِلا الإسلام أو السّيف، وأما أهل الكتاب والمجوس، فاقبل منهم الجزية» فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمت العرب، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية، فقال منافقو مكة: عجباً لمحمدٍ يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، وقد قبل من مجوس هَجر، وأهل الكتاب الجزية، فهلاّ أكرههم على الإسلام، وقد ردَّها على إِخواننا من العرب، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (482) وقال مقاتل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقبل الجزية إِلا من أهل الكتاب فلما أسلمت العرب طوعاً وكرهاً، قبلها من مجوس هَجَر، فطعن المنافقون في ذلك، فنزلت هذه الآية. والثاني: أن الرجل كان إِذا أسلم، قالوا له: سفهت آباءك وضللتهم، وكان ينبغي لك أن تنصرهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد «1» . قال الزجاج: ومعنى الآية: إِنما ألزمكم الله أمر أنفسكم، ولا يؤاخذكم بذنوب غيركم، وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف، لأن المؤمن إِذا تركه وهو مستطيع له، فهو ضالّ، وليس بمهتدٍ. وقال عثمان بن عفان: لم يأت تأويلُها بعد. وقال ابن مسعود: تأويلُها في آخر الزّمان: قولوا ما قبل منكم، فإذا غلبتم، فعليكم أنفسكم. وفي قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قولان:

_ لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس. وكذا عزاه الواحدي في «أسباب النزول» 420 للكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط، الكلبي يضع الحديث، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وقد رويا تفسيرا مصنوعا ونسباه لابن عباس، راجع ترجمتهما في «الميزان» وهذا المتن أمارة الوضع لائحة عليه. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.

[سورة المائدة (5) : آية 106]

أحدهما: لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف إِذا اهتديتم أنتم للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قاله حُذيفة بن اليمان، وابن المسيّب. والثاني: لا يضرُّكم من ضل من أهل الكتاب إِذا أدُّوا الجزية، قاله مجاهد. وفي قوله تعالى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تنبيهٌ على الجزاء. فصل: فعلى ما ذكرنا عن الزجاج في معنى الآية، هي محكمة، وقد ذهب قومٌ من المفسرين إِلى أنها منسوخة، ولهم في ناسخها قولان: أحدهما: أنه آية السيف. والثاني: أن آخرها نسخ أولها. روي عن أبي عبيد أنه قال: ليس في القرآن آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه، وموضع المنسوخ منها إلى قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ والناسخ: قوله: إِذا اهتديتم. والهُدى هاهنا: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. [سورة المائدة (5) : آية 106] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ. (483) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان تميم الدّاري، وعدي بن بداء يختلفان إِلى مكة، فصحبهما رجلٌ من قريش من بني سهم، فمات بأرض ليس فيها أحد من المسلمين، فأوصى إِليهما بتركته، فلما قدما، دفعاها إِلى أهله، وكتما جاماً كان معه من فضة، وكان مخوَّصاً بالذهب، فقالا: لم نره، فأُتي بهما إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستحلفهما بالله: ما كتما، وخلى سبيلهما، ثم إِن الجام وُجدَ عند قومٍ من أهل مكة، فقالوا: ابتعناه من تميم الدّاري، وعدي بن بداء، فقام أولياء السهمي، فأخذوا الجام، وحلف رجلان منهم بالله: إِن هذا الجام جام صاحبنا، وشهادتنا أحق مِن شهادتهما، وما اعتدينا، فنزلت هذه الآية، والتى بعدها. قال مقاتل: واسم الميِّت: بُزيلُ بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي، وكان تميم، وعدي نصرانيين، فأسلم تميم، ومات عديٌ نصرانياً. فأما التفسير: فقال الفراء: معنى الآية: ليشهدكم اثنان إِذا حضر أحدكم الموت. قال الزجاج: المعنى: شهادة هذه الحال شهادة اثنين، فحذف «شهادة» ويقوم «اثنان» مقامهما. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليشهدكم في سفركم إِذا حضركم الموت، وأردتم الوصيّة اثنان. وفي هذه الشهادة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الشهادة على الوصيّة التي ثبتت عند الحكام، وهو قول ابن مسعود، وأبي موسى، وشريح، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والثوري، والجمهور. والثاني: أنها أيمان الوصي بالله تعالى إذا

_ صحيح. أخرجه البخاري 2780 وأبو داود 3606 والترمذي 3060 والدارقطني 4/ 166 والطبري 12670 والجصاص في «الأحكام» 4/ 160 والطبراني 12/ 71 والواحدي 421 والبيهقي 10/ 165 كلهم من حديث ابن عباس به، فهو من مسند ابن عباس، وهو مختصر كما ترى، وانظر «أحكام ابن العربي» 826 و «تفسير الشوكاني» 872 بتخريجي ولله الحمد والمنة.

ارتاب الورثة بهما، وهو قول مجاهد. والثالث: أنها شهادة الوصيّة، أي: حضورها، كقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ «1» ، جعل الله الوصي هاهنا اثنين تأكيداً، واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ قالوا: والشاهد لا يلزمه يمينٌ. فأما «حضور الموت» فهو حضور أسبابه ومقدماته. وقوله تعالى: حِينَ الْوَصِيَّةِ، أي: وقت الوصية. وفي قوله: «منكم» قولان: أحدهما: من أهل دينكم وملتكم، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير وشريح، وابن سيرين، والشعبي، وهو قول أصحابنا. والثاني: من عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله الحسن وعكرمة، والزّهريّ، والسّدّيّ. قوله تعالى: أَوْ آخَرانِ تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم. وفي قوله تعالى: مِنْ غَيْرِكُمْ قولان: أحدهما: من غير ملتكم ودينكم، قاله أرباب القول الأول. والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله أرباب القول الثاني. وفي «أوْ» قولان: أحدهما: أنها ليست للتخيير، وإِنما المعنى: أو آخران من غيركم إِن لم تجدوا منكم، وبه قال ابن عباس، وابن جبير. والثاني: أنها للتّخيير، ذكره الماورديّ. فصل: والقائل بأن المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة، أو من غير القبيلة لا يشك في إِحْكَامِ هذه الآية. فأما القائل بأن المراد بقوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أهل الكتاب إِذا شهدوا على الوصيّة في السفر، فلهم فيها قولان: أحدهما: أنها محكمة، والعمل على هذا باق، وهو قول ابن عباس. وابن المسيب، وابن جبير، وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والثوري، وأحمد في آخرين. والثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «2» وهو قول زيد بن أسلم، وإليه يميل أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، قالوا: وأهل الكفر ليسوا بعدول. والأول أصح، لأن هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس والاستهلال. قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ هذا الشرط متعلق بالشهادة، والمعنى: ليشهدكم اثنان إِن أنتم ضربتم في الأرض، أي: سافرتم. فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فيه محذوفٌ، تقديره: وقد أسندتم الوصية إِليهما، ودفعتم إِليهما مالكم تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ خطابٌ للورثة إِذا ارتابوا. وقال ابن عباس: هذا من صلة قوله: «أو آخران من غيركم» أي: من الكفار، فأما إِذا كانا مسلمين، فلا يمين عليهما. وفي هذه الصلاة قولان «3» : أحدهما: صلاة العصر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال شريح، وابن جبير، وإِبراهيم، وقتادة، والشعبي. والثاني: من بعد صلاتهما في دينهما، حكاه السدي عن ابن عباس «4» . وقال به. وقال الزجاج: كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس. وقال ابن قتيبة: لأنه وقت يعظمه أهل الأديان. قوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أي: فيحلفان إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: شككتم يا أولياء الميّت. ومعنى

_ (1) سورة البقرة: 133. (2) سورة الطلاق: 65. (3) قال الإمام الطبري رحمه الله 5/ 111: وأولى القولين بالصواب عندنا، قول من قال: «تحبسونهما من بعد صلاة العصر» . وهي الصلاة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، لقربه من غروب الشمس. (4) السدي لم يسمع من ابن عباس، وهذا قول منكر، ليس بشيء.

[سورة المائدة (5) : آية 107]

الآية: إِذا قدم الموصى إِليهما بتركة المتوفي، فاتهمهما الوارث، استحلفا بعد صلاة العصر: أنهما لم يسرقا، ولم يخونا. فالشرط في قوله: «إِن ارتبتم» متعلق بتحبسونهما، كأنه قال: إِن إِرتبتم حبستموهما فاستحلفتموهما، فيحلفان بالله: لا نَشْتَرِي بِهِ أي: بأيماننا، وقيل: بتحريف شهادتنا، فالهاء عائدة على المعنى. ثَمَناً أي: عرضاً من الدنيا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي: ولو كان المشهود له ذا قرابة منا، وخصّ ذا القرابة، لميل القريب إِلى قريبه. والمعنى: لا نحابي في شهادتنا أحداً، ولا نميل مع ذي القربى في قول الزور وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنما أُضيفت إِليه، لأمره بإقامتها، ونهيه عن كتمانها، وقرأ سعيد بن جبير: «ولا نكتم شهادةً» بالتنوين «الله» بقطع الهمزة وقصرها، وكسر الهاء، ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيب، وعكرمة «شهادة» بالتنوين والوصل منصوبة الهاء. وقرأ أبو عمران الجوني «شهادة» بالتنوين وإِسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة وقصرها مفتوحة الهاء، وقرأ الشعبي وابن السميفع «شهادة» بالتنوين وإِسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة، ومدّها، وكسر الهاء. وقرأ أبو العالية، وعمرو بن دينار مثله، إِلاّ أنهما نصبا الهاء. واختلف العلماء لأي معنىً وجبت اليمين على هذين الشاهدين، على ثلاثة أقوال: أحدها: لكونهما من غير أهل الإسلام، روي هذا المعنى عن أبي موسى الأشعري. والثاني: لوصيّةٍ وقعت بخط الميِّت وفَقَدَ ورثتُهُ بعضَ ما فيها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: لأن الورثة كانوا يقولون: كان مال ميِّتنا أكثر، فاستخانوا الشاهدين، قاله الحسن، ومجاهد. [سورة المائدة (5) : آية 107] فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) قوله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً. قال المفسرون: (484) لما نزلت الآية الأولى، دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عديًّا وتميماً، فاستحلفهما عند المنبر: أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع إِليهما فحلفا، وخلَّى سبيلهما، ثم ظهر الإِناء الذي كتماه، فرفعهما أولياء الميّت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً. ومعنى «عثر» : اطّلع أي: إِن عثر أهل الميت، أو مَن يلي أمره، على أن الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا اسْتَحَقَّا إِثْماً لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أي: مقام هذين الخائنين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «استُحِق» بضم التاء، الْأَوْلَيانِ على التثنية. وفي قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قولان: أحدهما: أنهما الذمّيان. والثاني: الوليّان. فعلى الأول في معنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أربعة أقوال: أحدها: استحق عليهم الإِيصاء، قال ابن الأنباري: المعنى: من القوم الذين استحق فيهم الإِيصاء، استحقه الأوليان بالميت، وكذلك قال

_ عزاه المصنف للمفسرين، وأصله محفوظ بما تقدم سوى لفظ «عند المنبر» فهذا لم يرد في شيء من الروايات الصحيحة الموصولة بل ولا المرسلة، فهو واه.

الزجاج: المعنى: من الذين استحقت الوصية أو الإِيصاء عليهم. والثاني: أنه الظلم، والمعنى: من الذين استحق عليهم ظلم الأولَيان فحذف الظلم، وأقام الأوليين مقامه، ذكره ابن القاسم أيضاً. والثالث: أنه الخروج مما قاما به من الشهادة، لظهور خيانتهما. والرابع: أنه الإثم، والمعنى: استحق منهم الإثم، ونابت «على» عن «مِن» كقوله تعالى: عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ «1» أي: منهم. وقال الفراء: «على» بمعنى «في» كقوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ «2» أي: في ملكه، ذكر القولين أبو علي الفارسي. وعلى هذه الأقوال مفعول «استُحق» محذوف مُقدّر. وعلى القول الثاني في معنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قولان: أحدهما: استحق منهم الأوليان، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني: جني عليهم الإثم، ذكره الزجاج. فأما «الأوليان» فقال الأخفش: الأوليان: اثنان، واحدهما: الأولى، والجمع: الأولون: ثم للمفسرين فيهما قولان: أحدهما: أنهما أولياء الميت، قاله الجمهور، قال الزجاج: «الأوليان» في قول أكثر البصريين يرتفعان على البَدَلِ مما في «يقومان» والمعنى: فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين. وقال أبو علي: لا يخلو الأوليان أن يكون ارتفاعهما على الابتداء، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان، أو يكون بدلاً من الضمير الذي في «يقومان» والتقدير: فيقوم الأوليان. والقول الثاني: أن الأوليان: هما الذّميان، والمعنى: أنهما الأوليان بالخيانة، ذكرهما ابن الأنباريّ، فعلى هذا يكون المعنى: يقومان، إِلا من الذين استحق عليهم. قال الشاعر: فليتَ لنا مِنْ ماءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً باتَتْ على طهيان «3» أي بدلاً من ماء زمزم. وروى قرّة عن ابن كثير، وحفص عن «4» عاصم: «استحق» بفتح التاء والحاء «الأوليان» على التثنية، والمعنى: استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها، فحذف المفعول. وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: «استحق» برفع التاء، وكسر الحاء، «الأولين» بكسر اللام، وفتح النون على الجمع، والتقدير: من الأولين الذين استحق فيهم الإِثم، أي: جني عليهم، لأنهم كانوا أولين في الذكر، ألا ترى أنه قد تقدم ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ على قوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وروى الحلبي عن عبد الوارث «الأوَّلَين» بفتح الواو وتشديدها، وفتح اللام، وسكون الياء، وكسر النون، وهو تثنية: أوَّل. وقرأ الحسن البصري: «استحق» بفتح التاء والحاء، «الأوّلان» تثنية «أوَّل» على البدل من قوله: «فآخران» . وقال ابن قتيبة: أشبه الأقوال بالآية أن الله تعالى أراد أن يعرِّفنا كيف يشهد بالوصية عند حضور الموت فقال: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: عدلان من المسلمين، وعلم أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت، فلا يجد من يشهده من المسلمين، فقال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، أي: من غير أهل دينكم، فالذّمّيّان في السّفر

_ (1) سورة المطففين: 2. [.....] (2) سورة البقرة: 102. (3) في «اللسان» الطهيان: كأنه اسم قلّة جبل، والطهيان: خشبة يبرد عليها الماء. ونسب البيت للأحول الكندي. (4) وقع في الأصل «و» بدل «عن» والمثبت هو الصواب.

[سورة المائدة (5) : آية 108]

خاصّة إذا لم يوجد غيرهما، تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إِن ارتبتم في شهادتهما، وخشيتم أن يكونا قد خانا، أو بدَّلا فإذا حلفا، مضت شهادتهما، فإن عثر أي: ظهر على أنهما استحقا إِثماً، أي: حنثا في اليمين بكذب أو خيانة، فآخران، أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليان يقال: هذا الأولى بفلان، ثم يحذف من الكلام «بفلان» فيقال: هذا الأولى، وهذان الأوليان، و «عليهم» بمعنى: «منهم» فيحلفان بالله: لقد ظهرنا على خيانة الذميين، وكذبهما، وما اعتدينا عليهما، ولشهادتنا أصح، لكفرهما وإِيماننا، فيرجع على الذّميين بما اختانا، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك. وقال غيره: لشهادتنا، أي: ليميننا أحق، وسميت اليمين شهادة، لأنها كالشهادة على ما يحلفُ عليه أنه كذلك. قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص، والمطّلب بن أبي وَداعة السهميان، فحلفا بالله، ودُفِعَ الإناء إِليهما وإلى أولياء الميّت. [سورة المائدة (5) : آية 108] ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أي: ذلك الذي حكمنا به من ردّ اليمين، أَقرب إِلى إِتيان أهل الذّمّة بالشهادة على وجهها، أي: على ما كانت، وأقرب أن يخافوا أن تردَّ أيمان أولياء الميت بعد أيْمانهم، فيحلفون على خيانتهم، فيفتضحوا، ويغرموا، فلا يحلفون كاذبين إِذا خافوا ذلك. وَاتَّقُوا اللَّهَ أن تحلفوا كاذبين، أو تخونوا أمانة، واسمعوا الموعظة. [سورة المائدة (5) : آية 109] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قال الزجّاج: نصب «يوم» محمول على قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ: واتقوا يوم جمعة للرسل. ومعنى مسألته للرسل توبيخ الذين أُرسلوا إِليهم. فأما قول الرسل: لا عِلْمَ لَنا ففيه ستة أقوال «1» : أحدها: أنهم طاشت عقولهم حين زفرت جهنم، فقالوا: لا عِلْمَ لَنا ثم تُرَدُّ إِليهم عقولُهم، فينطلقون بحجتهم، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: أن المعنى لا عِلْمَ لَنا إِلاّ علمٌ أنت أعلم به منا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنّ المراد بقوله تعالى: ماذا أُجِبْتُمْ: ماذا عملوا بعدكم، وأحدثوا، فيقولون: لا عِلْمَ لَنا، قاله ابن جريج، وفيه بُعْد. والرابع: أن المعنى: لا عِلْمَ لَنا مع علمك، لأنك تعلم الغيب، ذكره الزجاج. والخامس: أن المعنى: لا عِلْمَ لَنا كعلمك، إِذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا، ولا نعلم ما أضمروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا، هذا اختيار ابن الأنباري. والسادس: لا عِلْمَ لَنا بجميع أفعالهم إِذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا، وإِنما يستحق الجزاء بما تقع به الخاتمة، حكاه ابن الأنباريّ. قال المفسّرون: إذا ردّ الأنبياء

_ (1) صوب الإمام الطبري رحمه الله 5/ 126، القول الثاني.

[سورة المائدة (5) : آية 110]

العلم إِلى الله أُبْلِسَتِ الأممُ، وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه، وأن الكل لا يخرجون عن قبضته. قوله تعالى: عَلَّامُ الْغُيُوبِ قال الخطابي: العلاَّم: بمنزلة العليم، وبناء «فعَّال» بناء التكثير، فأما «الغيوب» فجمع غيب، وهو ما غاب عنك. [سورة المائدة (5) : آية 110] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى قال ابن عباس: معناه: وإِذ يقول. قوله تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ في تذكيره النعم فائدتان: إِحداهما: إِسماع الأمم ما خصه به من الكرامة. والثانية: توكيد حجَّته على جاحده. ومن نعمه على مريم أنه اصطفاها وطهرها، وأتاها برزقها من غير سبب. وقال الحسن: المراد بذكر النعمة: الشكر. فأما النعمة، فلفظها لفظ الواحد، ومعناها الجمع. فإن قيل: لم قال هاهنا: فَتَنْفُخُ فِيها وفي آل عمران (فيه) «1» ؟ فالجواب: أنه جائِز أن يكون ذكر الطير على معنى الجميع، وأنَّث على معنى الجماعة، وجاز أن يكون «فيه» للطّير، «وفيها» للهيئة ذكره أبو علي الفارسي. قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قرأ ابن كثير، وعاصم هاهنا، وفي «هود» و «الصف» : إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، وقرأ في «يونس» : لَسِحْرٌ مُبِينٌ بألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، الأربعة «سحرٌ مبين» بغير ألف، فمن قرأ «سحر» أشار إِلى ما جاء به، ومن قرأ «ساحر» ، أشار إلى الشّخص. [سورة المائدة (5) : آية 111] وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) وفي الوحي إلى الحواريين قولان: أحدهما: أنه بمعنى الإِلهام، قاله الفراء. وقال السدي: قذف في قلوبهم. والثاني: أنه بمعنى الأمر، فتقديره: أمرت الحواريين، و «إلى» صلة، قاله أبو عبيدة. وفي قوله تعالى: وَاشْهَدْ قولان: أحدهما: أنهم يعنون الله تعالى. والثاني: عيسى عليه السّلام. وقوله تعالى: بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أي: مخلصون للعبادة والتوحيد. وقد سبق شرح ما أهمل هاهنا فيما تقدم. [سورة المائدة (5) : آية 112] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)

_ (1) سورة آل عمران: 49.

[سورة المائدة (5) : آية 113]

قوله تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قال الزجاج: أي: هل يقدر. وقرأ الكسائي: «هل تستطيع» بالتاء، ونصْب الرب. قال الفراء: معناه: هل تقدر أن تسأل ربك. قال ابن الأنباري: ولا يجوز لأحدٍ أن يتوهم أن الحواريين شكُّوا في قدرة الله، وإِنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي، وهو يعلم أنه مستطيع، ولكنّه يريد: هل يسهل عليك. وقال أبو علي: المعنى: هل يفعل ذلك بمسألتك إِيّاه. وزعم بعضهم أنهم قالوا ذلك قبل استحكام إِيمانهم ومعرفتهم، فردَّ عليهم عيسى بقوله: اتقوا الله، أن تنسبوه إِلى عجز، والأول أصح. فأما «المائدة» فقال اللغويون: المائدة: كل ما كان عليه من الأخونة «1» طعام، فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة، والكأس: كل إِناء فيه شراب فإذا لم يكن فيه شراب، فليس بكأس، ذكره الزجاج. قال الفراء: وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي تهدى عليه الهدية: هُوَ المُهْدَى، مقصور، ما دامت عليه الهدية، فإذا كان فارغاً رجع إِلى اسمه إِن كان طبقاً أو خواناً أو غير ذلك. وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن لفظها فاعلة، وهي في المعنى مفعولة، مثل عِيشَةٍ راضِيَةٍ. قال أبو عبيدة: وهي من العطاء، والممتاد: المفتعل المطلوب منه العطاء، قال الشاعر: إِلى أمير المؤمنين الممتادِ «2» وَمَادَ زيدٌ عَمْراً: إِذا أعطاه. قال الزجاج: والأصل عندي في «مائدة» أنها فاعلةٌ من: ماد يميد: إِذا تحرّك، فكأنها تميد بما عليها. وقال ابن قتيبة: المائدة: الطعام، من: مادني يميدني، كأنها تميد الآكلين، أي: تعطيهم، أو تكون فاعلة بمعنى: مفعول بها، أي: ميد بها الآكلون. قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: اتقوه أن تسألوه البلاء، لأنها إِن نزلت وكذّبتم، عُذبتم، قاله مقاتل. والثاني: أن تسألوه ما لم تسأله الأُمم قبلكم، ذكره أبو عبيد. والثالث: أن تشكُّوا في قدرته. [سورة المائدة (5) : آية 113] قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قوله تعالى: قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها هذا اعتذار منهم بيّنوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه. وفي إِرادتهم للأكل منها ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا ذلك للحاجة، وشدة الجوع، قاله ابن عباس. والثاني: ليزدادوا إِيماناً، ذكره ابن الأنباري. والثالث: للتبرك بها، ذكره الماورديّ. وفي قوله تعالى: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ثلاثة أقوال: أحدها: تطمئن إِلى أن الله تعالى قد بعثك إِلينا نبياً. والثاني: إِلى أن الله تعالى قد إختارنا أعواناً لك. والثالث: إِلى أن الله تعالى قد أجابك. وقال ابن عباس: قال لهم عيسى: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً، ثم لا تسألونه شيئاً إِلا أعطاكم؟ فصاموا، ثم سألوا المائدة. فمعنى: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في أنّا إِذا صمنا ثلاثين يوماً لم نسأل الله شيئاً إِلا أعطانا. وفي هذا العلم قولان: أحدهما: أنه علمٌ يحدث لهم لم يكن، وهو قول مَن قال: كان سؤالهم قبل استحكام معرفتهم. والثاني: أنه زيادة علم إِلى علم، ويقين إِلى يقين، وهو قول من قال: كان سؤالهم بعد

_ (1) في «اللسان» أخاوين جمع خوان: وهو ما يوضع عليه الطعام عند الأكل. (2) هذا الرجز لرؤبة كما في اللسان (ميد) . والممتاد: المطلوب منه العطاء.

[سورة المائدة (5) : آية 114]

معرفتهم. وقرأ الأعمش: «وتعلم» بالتاء، والمعنى: وتعلم القلوب أن قد صدقتنا. وفي قوله تعالى: مِنَ الشَّاهِدِينَ أربعة أقوال: أحدها: من الشاهدين لله بالقدرة، ولك بالنبّوة. والثاني: عند بني إِسرائيل إِذا رجعنا إِليهم، وذلك أنهم كانوا مع عيسى في البرِيّة عند هذا السؤال. والثالث: من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدنا من الآيات الدالة على أنك نبي. والرابع: من الشاهدين لك عند الله بأداء ما بعثت به. [سورة المائدة (5) : آية 114] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قوله تعالى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وقرأ ابن محيصن، وابن السميفع، والجحدري: «لأولانا وأخرانا» برفع الهمزة، وتخفيف الواو، والمعنى: يكون اليوم الذي نزلت فيه عيداً لنا، نعظِّمه نحن ومن بعدنا، قاله قتادة، والسدي. وقال كعب: أُنزلت عليهم يوم الأحد، فاتخذوه عيداً. وقال ابن قتيبة: عيداً، أي: مجمعاً. قال الخليل بن أحمد: العيد: كل يوم يجمع، كأنهم عادوا إِليه. وقال ابن الأنباري: سُمِّيَ عيداً للعودِ من الترح إِلى الفرح. قوله تعالى: وَآيَةً مِنْكَ أي علامة منك تدل على توحيدك، وصحة نبوة نبيك. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، والضحاك «وأنه منك» بفتح الهمزة، وبنون مشدّدة. وفي قوله تعالى: وَارْزُقْنا قولان: أحدهما: ارزقنا ذلك من عندك. والثاني: ارزقنا الشكر على ما أنعمت به من إجابتك لنا. [سورة المائدة (5) : آية 115] قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) قوله تعالى: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ قرأ نافع وعاصم وابن عامر «منزِّلها» بالتشديد، وقرأ الباقون خفيفة. وهذا وعدٌ بإجابة سؤال عيسى. واختلف العلماء: هل نزلت أم لا؟ على قولين «1» : أحدهما: أنها نزلت، قاله الجمهور، فروى وهب بن منبِّه عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: لما رأى عيسى أنهم قد جدّوا في طلبها لبس جُبَّة من شعر، ثم توضأ، واغتسل، وصفَّ قدميه في محرابه حتى استويا، وألصق الكعب بالكعب، وحاذى الأصابع بالأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وطأطأ رأسه خضوعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت تسيل دموعه على خده، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض من دموعه حيال وجهه، ثم رفع رأسه إِلى السماء، فقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، فبينما عيسى كذلك، هبطت عليهم مائدةٌ من السماء، سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من تحتها، وغمامة من فوقها، وعيسى يبكي ويتضرَّع، ويقول: إِلهي اجعلها سلامةً، لا تجعلها عذاباً، حتى استقرَّت بين يديه، والحواريون من حوله، فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها، وإِذا عليها منديلٌ مغطَّى، فقال عيسى: أيكم أوثق بنفسه وأقل بلاءً عند ربه فليأخذ

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 5/ 135: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى ذلك.

هذا المنديل، وليكشف لنا عن هذه الآية. قالوا: يا روح الله أنت أولانا بذلك، فاكشف عنها، فاستأنف وضوا جديداً، وصلى ركعتين، وسأل ربه أن يأذن له بالكشف عنها، ثم قعد إِليها، وتناول المنديل، فإذا عليها سمكة مشوية، ليس فيها شوك، وحولها من كل البقل ما خلا الكرَّاث، وعند رأسها الخل، وعند ذنبها الملح، وحولها خمسة أرغفةٍ، على رغيف تمر، وعلى رغيف زيتون، وعلى رغيف خمس رمانات. فقال شمعون رأس الحواريين: يا روح الله أمِن طعام الدنيا هذا، أمِّن طعام الجنة؟ فقال عيسى: سبحان الله أما تنتهون! ما أخوفني عليكم. قال شمعون: لا وإِله بني إِسرائيل ما أردت بهذا سوءاً. قال عيسى: ليس ما ترون عليها من طعام الدنيا، ولا من طعام الجنة، إِنما هو شيءٌ ابتدعه الله، فقال له: «كن» فكان أسرع من طرفة عين. فقال الحواريون: يا روح الله إِنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية، فقال: سبحان الله! ما اكتفيتم بهذه الآية؟! ثم أقبل على السمكة فقال: عودي بإذن الله حيةً طريةً، فعادت تضطرب على المائدة، ثم قال: عودي كما كنت، فعادت مشوية، فقال: يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها، فقال: معاذ الله بل يأكل منها مَن سألها، فلما رأوا امتناعه، خافوا أن يكون نزولها عقوبة، فلما رأى عيسى ذلك دعا لها الفقراء والزَّمنى واليتامى، فقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، ليكون مهنؤها لكم، وعقوبتها على غيركم، فأكل منها ألف وسبعمائة إِنسان، يصدرون عنها شباعاً وهي كهيئتها حين نزلت، فصحَّ كل مريض، واستغنى كل فقير أكل منها، ثم نزلت بعد ذلك عليهم، فازدحموا عليها، فجعلها عيسى نوباً بينهم، فكانت تنزل عليهم أربعين يوماً، تنزل يوماً وتغبُّ «1» يوماً، وكانت تنزل عند ارتفاع الضحى، فيأكلون منها حتى إِذا قالوا، ارتفعت إِلى السماء وهم ينظرون إِلى ظلها في الأرض «2» . وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرةً وعشية، حيث كانوا. وقال غيره: نزلت يوم الأحد مرتين. وقيل: نزلت غدوة وعشية يوم الأحد، فلذلك جعلوه عيداً. وفي الذي كان على المائدة ثمانية أقوال: أحدها: أنه خبز ولحم، روي عن عمار بن ياسر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (485) «نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحما» .

_ ضعيف جدا، شبه موضوع، والصواب وقفه. أخرجه الترمذي 3061 والطبري 13016 من حديث عمار مرفوعا، وقال الترمذي: رواه غير واحد عن سعيد به موقوفا، وهو أصح من المرفوع، ولا نعلم للمرفوع أصلا اه. قلت: إسناده واه، وله علل ثلاث: الأولى: رواه غير واحد موقوفا. الثانية: قتادة مدلس، وقد عنعن. الثالثة: خلاس كثير الإرسال والرواية عمن لم يلقه. وقد أخرجه الطبري 13018 عن قتادة عن خلاس عن عمار به موقوفا، ورجاله رجال الشيخين سوى خلاس روى له البخاري متابعة. وأخرجه الطبري 13015 من وجه آخر عن عمار، وفيه راو لم يسم. وأخرجه الطبري 13019 عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال ذكر لنا ... فذكره. وإسناده صحيح إلى قتادة، فلو كان هذا الحديث مرفوعا عند قتادة لما رواه بصيغة التمريض، ومن غير عزو لأحد. فالأشبه في هذا كونه موقوفا، والموقوف ضعيف جدا، شبه موضوع.

[سورة المائدة (5) : آية 116]

والثاني: أنها سمكة مشوية، وخمس أرغفة، وتمر، وزيتون، ورمان. وقد ذكرناه عن سلمان. والثالث: ثمرٌ من ثمار الجنة، قاله عمار بن ياسر، وقال قتادة: ثمرٌ من ثمار الجنة، وطعامٌ من طعامها. والرابع: خبزٌ، وسمكٌ، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وأبو عبد الرحمن السلمي. والخامس: قطعةٌ من ثريد، رواه الضحاك عن ابن عباس. والسادس: أنه أنزل عليها كل شيء إِلا اللحم، قاله سعيد بن جبير. والسابع: سمكةٌ فيها طعم كلِّ شيءٍ من الطعام، قاله عطية العوفي. والثامن: خبز أرز وبقل، قاله ابن السائِب. والقول الثاني: أنها لم تنزل، روى قتادة عن الحسن أن المائِدة لم تنزل، لأنه لما قال الله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قالوا: لا حاجة لنا فيها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: أُنزلت مائدة عليها ألوانٌ من الطعام، فعرضها عليهم، وأخبرهم أنه العذاب إِن كفروا، فأبوها فلم تنزل. وروى ليث عن مجاهد قال: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لخلقه، لينهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه، ولم ينزل عليهم شيء، والأول أصح. قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أي: بعد إِنزال المائدة. وفي العذاب المذكور قولان: أحدهما: أنه المسخ. والثاني: جنسٌ من العذاب لم يعذَّب به أحد سواهم. قال الزجاج: ويجوز أن يعجل لهم في الدنيا، ويجوز أن يكون في الآخرة. وفي «العالمين» قولان: أحدهما: أنه عام. والثاني: عالمو زمانهم. وقد ذكر المفسرون أن جماعة من أصحاب المائدة مسخوا. وفي سبب مسخهم ثلاثة أقوال: (486) أحدها: أنهم أمروا أن لا يخونوا، ولا يدَّخِروا، فخانوا وادخروا، فمسخوا قردةً وخنازير، رواه عمار بن ياسر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أن عيسى خصَّ بالمائدة الفقراء، فتكلم الأغنياء بالقبيح من القول، وشكَّكوا الناس فيها، وارتابوا، فلما أمسى المرتابون بها، وأخذوا مضاجعهم، مسخهم الله خنازير، قاله سلمان الفارسي. والثالث: أن الذين شاهدوا المائدة، ورجعوا إِلى قومهم، فأخبروهم، فضحك بهم من لم يشهد، وقالوا: إِنما سحر أعينكم، وأخذ بقلوبكم، فمن أراد الله به خيراً، ثبت على بصيرته، ومن أراد به فتنة، رجع إِلى كفره. فلعنهم عيسى، فأصبحوا خنازير، فمكثوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا، قاله ابن عباس. [سورة المائدة (5) : آية 116] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ في زمان هذا القول قولان: أحدهما: أنه يقوله له يوم القيامة، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج.

_ هو الحديث المتقدم، المرفوع ضعيف جدا.

[سورة المائدة (5) : آية 117]

والثاني: أنه قاله له حين رفعه إِليه، قاله السدي، والأول أصح. وفي «إِذْ» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها زائِدة، والمعنى: وقال الله، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنها على أصلها، والمعنى: وإذ يقول الله له، قاله ابن قتيبة. والثالث: أنها بمعنى: «إذا» ، كقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا «1» والمعنى: إِذا. قال أبو النجم: ثم جزاكَ الله عنِّي إِِذ جزى ... جنَّاتِ عَدْنٍ في السّماوات العلا ولفظ الآية لفظ الاستفهام، ومعناها التوبيخ لِمن ادّعى ذلك على عيسى. قال أبو عبيدة: وإِنما قال: «إِلهين» ، لأنهم إِذ أشركوا فعل ذكر مع فعل أنثى ذكَّروهما. فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلهاً، فكيف قال الله تعالى ذلك فيهم؟ فالجواب: أنهم لما قالوا: لم تلد بشراً، وإِنما ولدت إِلهاً، لزمهم أن يقولوا: إِنها من حيث البعضية بمثابة مَن ولدته، فصاروا بمثابة من قاله. قوله تعالى: قالَ سُبْحانَكَ أي: براءة لك من السوء ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي: لست أستحق العبادة فأدعو الناس إِليها. وروى عطاء بن السائب عن ميسرة قال: لما قال الله تعالى لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ رُعِد كل مَفْصِل منه حتى وقع مخافة أن يكون قد قاله، وما قال: إِني لم أقل، ولكنه قال: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ. فإن قيل: ما الحكمة في سؤال الله تعالى له عن ذلك وهو يعلم أنه ما قاله؟ فالجواب: أنه تثبيت للحجة على قومه، وإِكذاب لهم في ادّعائهم عليه أنه أمرهم بذلك، ولإِنه إِقرارٌ من عيسى بالعجز في قوله: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ وبالعبودية في قوله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ. قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي قال الزجاج: تعلم ما أُضمره، ولا أعلم ما عندك علمُه، والتأويل: تعلم ما أعلم وأنا لا أعلم ما تعلم. [سورة المائدة (5) : آية 117] ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ قال مقاتل: وحِّدوه. قوله تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي: على ما يفعلون ما كنت مقيماً فيهم، وقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي فيه قولان: أحدهما: بالرفع إِلى السماء. والثاني: بالموت عند انتهاء الأجل. و «الرقيب» مشروحٌ في سورة (النساء) ، و «الشّهيد» في (آل عمران) . [سورة المائدة (5) : آية 118] إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ قال الحسن، وأبو العالية: إِن تعذبهم، فبإقامتهم على كفرهم، وإِن تغفر لهم، فبتوبة كانت منهم. وقال الزجاج: علم عيسى أن منهم من آمن، ومنهم من أقام

_ (1) سورة سبأ: 51.

[سورة المائدة (5) : الآيات 119 إلى 120]

على الكفر، فقال في جملتهم: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ أي: إِن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك، وأنت العادل فيهم، لأنك قد أوضحت لهم الحق، فكفروا، وإِن تغفر لهم، أي: وإِن تغفر لمن أقلع منهم، وآمَن، فذلك تفضّل منك، لأنه قد كان لك أن لا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم، وأنت في مغفرتك لهم عزيز، لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك. وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا ينبغي لأحدٍ أن يعترض عليك، فإن عذبتهم، فلا اعتراض عليك، وإِن غفرت لهم- ولست فاعلاً إِذا ماتوا على الكفر- فلا اعتراض عليك. وقال غيره: العفو لا ينقص عزّك، ولا يخرج عن حكمك. (487) وقد روى أبو ذر قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيام ليلةٍ بآيةٍ يردِّدها: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. [سورة المائدة (5) : الآيات 119 الى 120] قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) قوله تعالى: قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قرأ الجمهور برفع «اليوم» ، وقرأ نافع بنصبه على الظرف. قال الزجاج: المعنى: قال الله هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويجوز أن يكون على معنى: قال الله هذا الذي ذكرناه يقع في يوم ينفع الصادقين صدقهم. والمراد باليوم: يوم القيامة. وإِنما خصّ نفع الصدق به لأنه يوم الجزاء. وفي هذا الصدق قولان: أحدهما: أنه صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة. والثاني: صدقهم في الآخرة ينفعهم هنالك. وفي هذه الآية تصديقٌ لعيسى فيما قال. قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي: بطاعتهم، وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه. وفي قوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تنبيهٌ على عبودية عيسى، وتحريضٌ على تعليق الآمال بالله وحده.

_ ضعيف. أخرجه النسائي في «الكبرى» 11161 وأحمد 5/ 149 من حديث أبي ذر، وفي إسناده جسرة بنت دجاجة، وثقها ابن حبان والعجلي، وهما ممن يوثق المجاهيل، في حين قال البخاري وهو إمام هذا الفن: عند جسرة عجائب، راجع «تهذيب التهذيب» 12/ 435.

الجزء الثاني

الجزء الثاني فهرس الموضوعات الموضوع: الصفحة 6- تفسير سورة الأنعام: 7 7- تفسير سورة الأعراف: 100 8- تفسير سورة الأنفال: 186 9- تفسير سورة التوبة: 230 10- تفسير سورة يونس: 314 11- تفسير سورة هود: 355 12- تفسير سورة يوسف: 411 13- تفسير سورة الرعد: 479 14- تفسير سورة إبراهيم: 503 15- تفسير سورة الحجر: 522 16- تفسير سورة النحل: 548.

سورة الانعام

سورة الانعام (فصل في نزولها:) روى مجاهد عن ابن عباس: أنّ سورة الأنعام مما نزل بمكّة. وهذا قول الحسن، وقتادة، وجابر بن زيد. (488) وروى يوسف بن مهران عن ابن عبّاس، قال: نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكّة. وحولها سبعون ألف ملك. (489) وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مكيّة، نزلت جملة واحدة، ونزلت ليلا وكتبوها من ليلتهم، غير ست آيات منها مدنيّات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى آخر الثّلاث آيات «1» ، وقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» الآية. وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ «3» إلى آخر الآيتين. وذكر مقاتل نحو هذا. وزاد آيتين: قوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ «4» ، وقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ «5» . وروي عن ابن عباس، وقتادة قالا: هي مكّيّة، إلّا آيتين نزلتا بالمدينة قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ «6» . وذكر أبو الفتح بن شيطاء: أنّها

_ روي موقوفا ومرفوعا، والمرفوع لا يصح، والصحيح موقوف. - أما الموقوف، فأخرجه الطبراني 12/ 12930 من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس موقوفا، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان، وورد من وجوه أخر موقوفا، وهو الراجح. - وورد مرفوعا بنحوه عن جماعة من الصحابة فقد أخرجه الطبراني في «الأوسط» 6443 وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 159 من حديث أنس. وقال الهيثمي في «المجمع» 10992: رواه الطبراني عن شيخه عمر بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد السالمي ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات ا. هـ. قلت: ابن عرس توبع عند ابن مردويه، فانحصر الإسناد في أحمد السالمي، وقد تفرد به. - وفي الباب من حديث ابن عمر عند الطبراني في «الصغير» 220 وقال الهيثمي في «المجمع» 10991: وفيه يوسف بن عطية الصفّار، وهو ضعيف اهـ. بل متروك. ومن حديث جابر عند الحاكم 2/ 315، وصححه، ورده الذهبي بقوله: لا والله لم يدرك جعفر السدي، وأظن هذا موضوعا اه. موقوف، صدره له شواهد منها ما تقدم، وعجزه واه بمرة. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وروايته الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، ولفظ «غير ست آيات ... » واه ليس بشيء.

[سورة الأنعام (6) : آية 1]

مكية، غير آيتين نزلتا بالمدينة قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، والتي بعدها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنعام (6) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) فأمّا التّفسير، فقال كعب: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمتها خاتمة هود وإنما ذكر السّماوات والأرض، لأنهما من أعظم المخلوقات. والمراد «بالجَعل» : الخلق. وقيل: إنّ «جعل» هاهنا: صلة والمعنى: والظلمات. وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال: أحدها: الكفر والإيمان، قاله الحسن. والثاني: الليل والنهار، قاله السدي. والثالث: جميع الظّلمات والأنوار. قال قتادة: خلق السّماوات قبل الأرض، والظلماتِ قبل النور، والجنةَ قبل النار. قوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: المشركين بعد هذا البيان بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أي: يجعلون له عَدِيلاً، فيعبدون الحجارة المواتَ، مع إِقرارهم بأنه الخالق لِما وُصِف. يقال: عدلت هذا بهذا: إِذا ساويته به. قال أبو عبيدة: هو مقدَّم ومؤخَّر، تقديره: يعدلون بربهم. وقال النّصر بن شميل: الباء: بمعنى «عن» . [سورة الأنعام (6) : آية 2] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعني: آدم، وذلك أنه لما شك المشركون في البعث، وقالوا: من يحيي هذه العظام؟ أعلمهم أنه خلقهم من طين، فهو قادر على إِعادة خلقهم. قوله تعالى: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فيه ستة اقوال «1» : أحدها: أن الأجل الأول: أجل الحياة إلى الموت والأجل الثّاني: أجل الموت إلى البعث، روي عن ابن عباس، والحسن، وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، ومقاتل. والثاني: أن الأجل الأول: النوم الذي تُقْبَضُ فيه الروح، ثم ترجع في حال اليقظة والأجل المسمى عنده: أجل موت الإِنسان. رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن الأجل الأول: أجل الآخرة متى يأتي، والأجل الثاني: أجل الدنيا، قاله مجاهد في رواية. والرابع: أن الأول: خلق الأشياء في ستة أيام، والثاني: ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة، قاله عطاء الخراساني. والخامس: أن الأول: قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه، والثاني: الحياة في الدنيا، قاله

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 148: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم قضى أجل الحياة الدنيا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو أجل البعث عنده. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب. لأنه تعالى ذكره نبّه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس إن الذي يعدل به كفاركم الآلهة والأنداد هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين، فجعلكم صورا أجساما أحياء بعد إذ كنتم طينا جمادا، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم ليعيدكم ترابا وطينا كالذي كنتم قبل أن ينشئكم ويخلقكم، وأجل مسمى عنده لإعادتكم أحياء وأجساما كالذي كنتم قبل مماتكم. وذلك نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 28] .

[سورة الأنعام (6) : آية 3]

ابن زيد، كأنه يشير إِلى أجل الذرية حين أحياهم وخاطبهم. والسادس: أن الأول: أجل من قد مات من قبل، والثاني: أجل من يموت من بعد، ذكره الماوردي. قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ أي بعد هذا البيان تَمْتَرُونَ وفيه قولان: أحدهما: تشكّون قاله قتادة، والسدي. وفيما شكوا فيه قولان: أحدهما: الوحدانية. والثاني: البعث. والثاني: يختلفون: مأخوذ من المراء، ذكره الماورديّ. [سورة الأنعام (6) : آية 3] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ فيه أربعة اقوال «1» : أحدها: هو المعبود في السماوات وفي الأرض، قاله ابن الأنباري. والثاني: وهو المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض، قاله الزجاج. والثالث: وهو الله في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، قاله ابن جرير. والرابع: أنه مقدَّم ومؤخَّر. والمعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض، ذكره بعض المفسّرين. [سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 5] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) قوله تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ نزلت في كفار قريش. وفي «الآية» قولان: أحدهما: أنها الآية من القرآن. والثاني: المعجزة، مثل انشقاق القمر. والمراد بالحق: القرآن. والأنباء: الأخبار. والمعنى: سيعلمون عاقبة استهزائهم. [سورة الأنعام (6) : آية 6] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) قوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ القرن: اسم أهل كل عصر. وسمُّوا بذلك، لاقترانهم في الوجود: وللمفسرين في المراد بالقرن سبعة أقوال «2» : (490) أحدها: أنه أربعون سنة، ذكره ابن سيرين عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني: ثمانون سنة، رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

_ عزاه المصنف لابن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مرسل فهو واه، ولم أقف على إسناده، وهو منكر، والمحفوظ ما بعده.

(491) والثالث: مائة سنة، قاله عبد الله بن بسر «1» المازني وأبو سلمة بن عبد الرحمن. والرابع: مائة وعشرون سنة، قاله زُرارة بن أوفى، وإياس بن معاوية. والخامس: عشرون سنة، حكاه الحسن البصري. والسادس: سبعون سنة، ذكره الفراء. والسابع: أن القرن: أهل كل مدة كان فيها نبيٌّ، أو طبقة من العلماء، قلَّتِ السّنون، أو كثرت بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (492) «خيركم قرني» يعني: أصحابي «ثم الذين يلونهم» يعني: التابعين «ثم الذين يلونهم» يعني: الذين أخذوا عن التابعين. فالقرن: مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان فهو في كل قوم على مقدار أعمالهم. واشتقاق القرن: من الاقتران. وفي معنى ذلك الاقتران قولان: أحدهما: أنه سمي قرنا، لأنه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه أهل ذلك الزمان في بقائهم. هذا اختيار الزجاج. والثاني: أنه سمي قرناً، لأنه يَقْرِنُ زماناً بزمانٍ، وأُمَّةً بأمَّةٍ، قاله ابن الأنباري. وحكى ابن قتيبة عن أبي عبيدة قال: يرون أن أقل ما بين القرنين: ثلاثون سنة. قوله تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: أعطيناهم ما لم نُعطِكم. يقال: مكَّنتُه ومكَّنتُ له: إذا أقدرته على الشيء باعطاء ما يصح به الفعل من العدة. وفي هذه الآية رجوع من الخبر إلى الخطاب. فأما السماء: فالمراد بها المطر. ومعنى «أرسلنا» : أنزلنا. و «المدرار» : مفعال، من درَّ يَدِرُّ والمعنى: نرسلها كثيرة الدَّرِّ. ومِفعال: من أسماء المبالغة، كقولهم: امرأة مذكار: إذا كانت كثيرة الولادة للذكور، وكذلك مئناث. فان قيل: السماء مؤنَّثَة، فلم ذكَّر مدراراً؟! فالجواب: أن حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه، أن يلزم التذكير في كلِّ حال، سواء كان وصفاً لمذكّر أو مؤنّث كقولهم: امرأة مذكار، ومعطار وامرأة مذكر، ومؤنث: وهي كفور، وشكور. ولو

_ ورد ذلك مرفوعا وهو حديث قوي. علقه البخاري في «التاريخ الكبير» 1/ 323 و «الصغير» 1/ 216 قال: قال داود بن رشيد حدثنا أبو حياة شريح بن يزيد الحضرمي عن إبراهيم بن محمد بن زياد عن أبيه عن عبد الله بن بسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يعيش هذا الغلام قرنا» ، فعاش مائة سنة. وذكره الهيثمي في «المجمع» 16119 بأتم منه وقال رواه الطبراني والبزار باختصار إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليدركن قرنا» ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي، وهو ثقة اهـ. وورد بنحوه عن الحسن بن أيوب الحضرمي قال: أراني عبد الله بن بسر شامة في قرنه فوضعت إصبعي عليها فقال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه عليها وقال: «لتبلغن قرنا» أخرجه أحمد 4/ 189 والطبراني كما في «المجمع» 16120. قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب، وهو ثقة، ورجال الطبراني ثقات اهـ. وانظر «الإصابة» 2/ 281- 282 (4565) . الخلاصة هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده. حديث صحيح. لكن لفظ «يعني ... » ليس من الحديث. أخرجه البخاري 2651 و 3650 و 6428 و 6695 ومسلم 214 و 215 و 2535 وأبو داود 4657، والترمذي 2222 والنسائي 7/ 17 و 18، والطيالسي 852 وأحمد 4/ 427 و 436 و 440 وابن حبان 6729. والبيهقي 10/ 123 و 160 وفي «الدلائل» 6/ 552. من حديث عمران بن حصين. وله شواهد.

[سورة الأنعام (6) : آية 7]

بُنيتْ هذه الأوصاف على الفعل، لقيل: كافرة، وشاكرة، ومُذْكِرَة فلما عدل عن بناء الفعل، جرى مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة كقولهم: النعلَ لبستُها، والفأسَ كسرتُها، وكان إيثارهم التذكير للفرق بين المبني على الفعل، والمعدول عن مِثْلِ الأفاعيل. والمراد بالمدرار: المبالغة في اتصال المطر ودوامه يعني: أنها تَدِرُّ وقت الحاجة إليها لا أنها تدوم ليلاً ونهاراً، فتفسد، ذكره ابن الأنباري. [سورة الأنعام (6) : آية 7] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ. (493) سبب نزولها: أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة، يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب. قال ابن قتيبة: والقرطاس: الصحيفة، يقال للرامي إذا أصاب الصحيفة: قَرْطَسَ. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: القرطاس قد تكلموا به قديماً. ويقال: إن أصله غير عربي. والجمهور على كسر قافه، وضمها أبو رزين، وعكرمة، وطلحة، ويحيى بن يعمر. فأما قوله تعالى: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فهو توكيد لنزوله، وقيل: إنما علَّقه باللمس باليد إبعاداً له عن السحر، لأن السحر يُتَخَيَّلُ في المرئيات دون الملموسات. ومعنى الآية: إنّهم يدفعون الصّحيح. [سورة الأنعام (6) : آية 8] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ قال مقاتل: (494) نزلت في النَّضْر بن الحارث، وعبد الله بن أبي أُمية، ونوفل بن خويلد. و «لولا» بمعنى «هلاّ» أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ نصدقه: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً فعاينوه ولم يؤمنوا، لَقُضِيَ الْأَمْرُ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: لماتوا، ولم يؤخروا طرفة عين لتوبة، قاله ابن عباس. والثاني: لقامت الساعة، قاله عكرمة، ومجاهد. والثالث: لعجل لهم العذاب، قاله قتادة. [سورة الأنعام (6) : آية 9] وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)

_ لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب، وهو محمد بن السائب الكلبي، وهو ساقط الرواية، ممن يضع الحديث. وعزاه البغوي 2/ 110 للكلبي ومقاتل، ومقاتل أيضا يضع الحديث. وانظر «أسباب النزول» 422 للواحدي. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق وهو كذاب وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» 3/ 8 عن محمد بن إسحاق قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم، فيما بلغني، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث، وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله في ذلك من قولهم.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 إلى 11]

قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ أي: ولو جعلنا الرسول إليهم مَلكَاً، لجعلناه في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون رؤية المَلَك على صورته، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ أي: لشبَّهنا عليهم. يقال: ألبست الأمر على القوم، أُلبِسه أي: شبهته عليهم، وأشكلته. والمعنى: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكّوا، فلا يدرون أمَلَكٌ هو أم آدميٌ؟ فأضللناهم بما به ضلّوا قبل أن يُبعث المَلَك. وقال الزجاج: كانوا يلبسون على ضعفتهم في أمر النّبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم فقال تعالى: لو رأوا المَلَك رجلاً، لكان يلحقهم فيه من الَّلبْسِ مثلُ ما لحق ضعفتهم منه. وقرأ الزّهريّ، ومعاذ القارئ، وأبو رجاء: «وللبّسنا» ، بالتشديد، «عليهم ما يلبّسون» ، مشدّدة أيضا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قوله تعالى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا أي: أحاط. قال الزجاج: الحيق في اللغة: ما اشتمل على الإِنسان من مكروه فعله، ومنه: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «1» أي: لا ترجع عاقبة مكروهه إلا عليهم. قال السّدّيّ: وقع بهم العذاب الّذي استهزءوا به. [سورة الأنعام (6) : آية 12] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المعنى: فان أجابوك، وإلا ف قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قال ابن عباس: قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين. قال الزجاج: ومعنى كتب: أوجب ذلك إيجاباً مؤكداً، وجائز أن يكون كتب في اللوح المحفوظ وإنما خُوطِبَ الخلقُ بما يعقلون، فهم يعقلون أن توكيد الشيء المؤخَّر أن يحفظ بالكتاب. وقال غيره: رحمته عامة فمنها تأخير العذاب عن مستحقِّه، وقبول توبة العاصي. قوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ اللام: لام القسم. كأنه قال: والله ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه. وذهب قوم إلى أن «إلى» بمعنى: «في» ثم اختلفوا، فقال قوم: في يوم القيامة. وقال آخرون: في قبوركم إلى يوم القيامة. قوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: بالشرك، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، لِما سبق فيهم من القضاء. وقال ابن قتيبة: قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مردود إلى قوله: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين خسروا. [سورة الأنعام (6) : آية 13] وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.

_ (1) سورة فاطر: 43.

[سورة الأنعام (6) : آية 14]

(495) سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيباً في أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلاً، وترجع عما أنت عليه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وفي معنى «سكن» قولان: أحدهما: أنه من السكنى. قال ابن الأعرابي: «سكن» بمعنى حلّ. والثاني: أنه من السكون الذي يضاد الحركة. قال مقاتل: من المخلوقات ما يستقر بالنهار، وينتشر بالليل ومنها ما يستقر بالليل، وينتشر بالنهار. فان قيل: لم خص السكون بالذكر دون الحركة؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن السكون أعم وجوداً من الحركة. والثاني: أن كل متحرك قد يسكن، وليس كل ساكن يتحرك. والثالث: أن في الآية إضماراً والمعنى: وله ما سكن وتحرك كقوله تعالى تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» أراد: والبرد فاختصر. [سورة الأنعام (6) : آية 14] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا. (496) ذكر مقاتل أن سبب نزولها، أن كفَّار قريش قالوا: يا محمد، ألا ترجع إلى دين آبائك؟ فنزلت هذه الآية. وهذا الاستفهام معناه الإنكار أي: لا أتخذ وليا غير الله أتولاه، وأعبده، وأستعينه. قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الجمهور على كسر راء «فاطر» . وقرأ ابن أبي عبلة برفعها. قال أبو عبيدة: الفاطر، معناه: الخالق. وقال ابن قتيبة: المبتدئ. (497) ومنه «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على ابتداء الخلقة، وهو الإقرار بالله حين أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتُها، أي: أنا ابتدأتها. قال الزجاج: إن قيل: كيف يكون الفطر بمعنى الخلق والانفطار الانشقاق في قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) «2» فالجواب: إنما يرجعان إلى شيء واحد، لأن معنى «فطرهما» : خلقهما خلقاً قاطعاً. والانفطار، والفطور: تقطُّعٌ وتشقُّقٌ. قوله تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قرأ الجمهور بضم الياء من الثاني ومعناه: وهو يرزق ولا

_ باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 423 من رواية الكلبي عن ابن عباس. وهذه رواية ساقطة، الكلبي متروك كذاب. وقد روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره لا شيء. حديث صحيح. أخرجه البخاري 1358 و 1385 و 1359. ومسلم 2658 2380، وأبو داود 4705 و 4706 والترمذي 3150، والطيالسي 2433 وأحمد 2/ 253 و 282 و 346 و 481. وابن حبان 128 و 129 من حديث أبي هريرة، وله شواهد.

[سورة الأنعام (6) : آية 15]

يُرزق، لأن بعض العبيد يرزق مولاه. وقرأ عكرمة والأعمش «ولا يَطعم» بفتح الياء. قال الزجاج: وهذا الاختيار عند البصراء بالعربية، ومعناه: وهو يَرزق ويُطْعِمُ ولا يأكل. قوله تعالى: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أي: أول مسلم من هذه الأمة وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال الأخفش: معناه: وقيل لي: لا تكوننَّ، فصارت: أمرت، بدلاً من ذلك لأنه حين قال: أمرت، قد أخبر أنه قيل له. [سورة الأنعام (6) : آية 15] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) زعم بعض المفسرين أنه كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذنوب، ثم نسخ ذلك بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» ، والصحيح أن الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ، وإنما هو معلق بشرط، ومثله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «2» . [سورة الأنعام (6) : آية 16] مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) قوله تعالى: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم مَنْ يُصْرَفْ بضم الياء وفتح الراء، يعنون: العذاب. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يَصرِف» بفتح الياء وكسر الراء الضمير قوله: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ومما يحسّن هذه القراءة قوله تعالى: فَقَدْ رَحِمَهُ، فقد اتفق إسناد الضميرين إلى اسم الله عزّ وجلّ، ويعني بقوله: يصرف العذاب يَوْمَئِذٍ، يعني: يوم القيامة، وَذلِكَ يعني: صرف العذاب. [سورة الأنعام (6) : آية 17] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ الضر: اسم جامع لكل ما يتضرَّرُ به الإِنسان، من فقر ومرض وغير ذلك والخير: اسم جامع لكلّ ما ينتقع به الإِنسان. وللمفسرين في الضر والخير قولان: أحدهما: أن الضر السقم والخير: العافية. والثاني: أنّ الضّرّ: الفقر، والخير: الغنى. [سورة الأنعام (6) : آية 18] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ القاهر: الغالب، والقهر: الغلبة. والمعنى: أنه قهر الخلق فصرّفهم على ما أراد طوعاً وكرهاً فهو المستعلي عليهم، وهم تحت التّسخير والتذليل. [سورة الأنعام (6) : آية 19] قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً.

_ (1) سورة الفتح: 3. (2) سورة الزمر: 66.

[سورة الأنعام (6) : آية 20]

(498) سبب نزولها: أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ما نرى أحداً يصدِّقُك بما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الآية: قل لقريش: أيُّ شيء أعظم شهادة؟ فان أجابوك، وإلا فقل: الله، وهو شهيد بيني وبينكم على ما أقول. وقال الزّجّاج: أمره الله تعالى أن يحتجّ عليهم بأنّ شهادة الله عزّ وجلّ في نُبُوَّته أكبر شهادة، وأن القرآن الذي أتى به، يشهد له أنه رسول الله، وهو قوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ففي الإِنذار به دليل على نبوته، لأنه لم يأت أحد بمثله، ولا يأتي وفيه خبر ما كان وما يكون ووعد فيه بأشياء، فكانت كما قال. وقرأ عكرمة، وابن السميفع، والجحدري «وأَوحَى إليَّ» بفتح الهمزة والحاء «القرآن» بالنّصب فأمّا «الإنذار» ، فمعناه: التّخويف، ومعنى وَمَنْ بَلَغَ أي: من بلغ إليه هذا القرآن، فإني نذير له. قال القرظي: من بلغه القرآن فكأنّما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلَّمه. (499) وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ. قوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى هذا استفهام معناه الانكار عليهم. قال الفراء: وإنما قال: «أُخرى» ولم يقل: «آخر» لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث، كما قال: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «1» . وقال: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى «2» . [سورة الأنعام (6) : آية 20] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، في الكتاب قولان: أحدهما: أنه التوراة والإِنجيل وهذا قول الجمهور. والثاني: أنه القرآن. وفي هاء يَعْرِفُونَهُ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. (500) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعبد الله بن سلام: إن الله قد أنزل على نبيه بمكة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأَنَا أشد معرفة بمحمّد صلى الله عليه وسلم مني بابني. فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: إني أشهد أنه رسول الله حقا، ولا أدري ما يصنع النساء «3» .

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته هو الكلبي وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 424 عن الكلبي والكلبي ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء. باطل، عزاه السيوطي في «الدر» 3/ 12- 13 لأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس، ولم أقف على إسناده وهو باطل لتفردهما به، ولأن السورة مكية وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك في العهد المدني وليس في مكة. عزاه السيوطي في «الدر» 1/ 271 للثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس وهي رواية ساقطة. السدي هذا متروك متهم، والكلبي يضع الحديث. وورد من وجوه أخر واهية، لا تقوم بها حجة.

[سورة الأنعام (6) : آية 21]

والثاني: أنها ترجع إلى الدين والنبي. فالمعنى: يعرفون الإسلام أنّه دين الله عزّ وجلّ، وأن محمداً رسول الله، قاله قتادة. والثالث: أنها ترجع إلى القرآن. فالمعنى: يعرفون الكتاب الدال على صدقه ذكره الماوردي. وفي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ قولان: أحدهما: أنهم مشركو مكة. والثاني: كفّار أهل الكتابين. [سورة الأنعام (6) : آية 21] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: اختلق على الله الكذب في ادعاء شريك معه. وفي «آياته» قولان: أحدهما: أنها محمد والقرآن، قاله ابن السائب. والثاني: القرآن، قاله مقاتل. والمراد بالظلم المذكور في هذه الآية: الشّرك. [سورة الأنعام (6) : آية 22] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً انتصب «اليوم» بمحذوف تقديره: واذكر يوم نحشرهم. قال ابن جرير: والمعنى: لا يفلحون اليوم، ولا يوم نحشرهم. وقرأ يعقوب: «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء فيهما. وفي الذين عني قولان: أحدهما: المسلمون والمشركون. والثاني: العابدون والمعبودون. وقوله: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ سؤال توبيخ. والمراد بشركائهم: الأوثان وإِنما أضافها إليهم لأنّهم زعموا أنّها شركاء لله. وفي معنى تَزْعُمُونَ قولان: أحدهما: يزعمون أنهم شركاء مع الله. والثاني: يزعمون أنها تشفع لهم. [سورة الأنعام (6) : آية 23] ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «ثم لم تكن» بالتاء، «فتنتُهم» بالرفع. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «تكن» بالتاء أيضا، «فتنتَهم» بالنصب وقد رُويت عن ابن كثير ايضاً. وقرأ حمزة، والكسائي: «يكن» بالياء، «فتنتَهم» بالنصب. وفي «الفتنة» أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها بمعنى الكلام والقول. قال ابن عباس، والضحاك: لم يكن كلامُهُم. والثاني: أنها المعذرة. قال قتادة، وابن زيد: لم تكن معذرتهم. قال ابن الأنباري: فالمعنى: اعتذروا بما هو مُهْلِكٌ لهم، وسبب لفضيحتهم. والثالث: أنها بمعنى البلية. قال عطاء الخراساني: لم تكن بليتهم. وقال ابو عبيد: لم تكن بليتهم التي ألزمتهم الحجة، وزادتهم لائمة. والرابع: أنها بمعنى الافتتان. والمعنى: لم تكن عاقبة فتنتهم. قال الزجاج: لم يكن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤوا منه. ومثل ذلك في اللغة

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 166 والصواب من القول في ذلك أن يقال: معناه: ثم لم يكن قبلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فوصفت «الفتنة» موضع «القول» لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما الفتنة التي هي الاختبار والابتلاء ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلا عند الاختبار، وضعت «الفتنة» التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم ا. هـ.

[سورة الأنعام (6) : آية 24]

أن ترى إنسانا يحب غاوياً، فاذا وقع في هَلَكَةٍ تبرأ منه فيقول: ما كانت محبتك لفلان إِلا أن انتفيت منه. قال: وهذا تأويل لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرُّفَ العربِ في ذلك. وقال ابن الأنباري: المعنى: أنهم افتتنوا بقولهم هذا، إذ كذبوا فيه، ونفوَا عن أنفسهم ما كانوا معروفين به في الدنيا. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «واللهِ ربِّنا» بكسر الباء. وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف: بنصب الباء. وفي هؤلاء القوم الذين هذا وصفهم قولان «1» : أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: المنافقون. ومتى يحلفون؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان مسلماً، قالوا: تعالوا نكابر عن شركنا، فحلفوا، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم إذا دخلوا النار، ورأوا أهل التّوحيد يخرجون، فحلفوا واعتذروا، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. والثالث: أنهم إذا سئلوا: أين شركاؤكم؟ تبرؤوا، وحلفوا: ما كنا مشركين، قاله مقاتل. [سورة الأنعام (6) : آية 24] انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: باعتذارهم بالباطل. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي: ذهب ما كانوا يدّعون ويختلقون من أن الاصنام شركاء لله، وشفعاؤهم في الآخرة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. (501) سبب نزولها: أن نفراً من المشركين، منهم عتبة، وشيبة، والنضر بن الحارث، وأُميَّةُ وأُبيّ ابنا خلف، جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمعوا إليه، ثم قالوا للنضر بن الحارث: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بَِنيَّةً، ما أدري ما يقول؟ إلا أني أرى تحرك شفتيه، وما يقول إلا أساطير الأولين، مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. فأما «الأكنّة» ، فقال الزجاج: هي جمع كنان، وهو الغطاء مثل عنان وأعنّة.

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 425. تعليقا بقوله: قال ابن عباس في رواية أبي صالح ... فذكره فهذه علة وثمّ علة ثانية: أبو صالح، اسمه باذام ضعفه غير واحد، ولم يلق ابن عباس وذكره الواحدي في «الوسيط» 2/ 261 بقوله: نزلت. من غير عزو لقائل.

وأما: «أن يفقهوه» ، فمنصوب على انه مفعول له. المعنى: وجعلنا على قلوبهم أكنَّة لكراهة أن يفقهوه، فلما حذفت اللام، نصبت الكراهة ولما حذفت الكراهة، انتقل نصبُها إلى «أنْ» . «الوقر» : ثِقَلُ السمع، يقال: في أذنه وَقْر، وَقد وُقِرَتِ الأذن تُوْقَر. قال الشاعر: وكلامٌ سيّئ قد وُقِرَتْ ... أُذُني عنه وما بي من صَمَمْ «1» والوقِر، بكسر الواو أن يُحَمَّل البعير وغيره مقدار ما يطيق، يقال: عليه وَقْر، ويقال: نخلة موقِر، وموقِرة، وإنما فُعل ذلك بهم مجازاة لهم باقامتهم على كفرهم، وليس المعنى أنهم لم يفهموه، ولم يسمعوه ولكنهم لما عدلوا عنه، وصرفوا فكرهم عما عليهم في سوء العاقبة، كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ أي: كل علامة تدل على رسالتك، لا يُؤْمِنُوا بِها. ثمّ أعلم الله عزّ وجلّ مقدار احتجاجهم وجدلهم، وأنهم إنما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا: إِنْ هذا، أي: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وفيها قولان: أحدهما: أنها ما سُطِّر من أخبارهم وأحاديثهم. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: أساطير الأولين: كذبهم، وأحاديثهم في دهرهم. وقال أبو الحسن الاخفش: يزعم بعضهم أن واحدة الأساطير: أسطورة. وقال بعضهم: أسطارة ولا أُراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو عباديد ومذاكير وأبابيل. وقال ابن قتيبة: أساطير الأولين: أخبارهم وما سطر منها، أي: ما كتب، ومنه قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ «2» أي: يكتبون، واحدها سطر، ثم أسطار، ثم أساطير جمع الجمع، مثل قول، وأقوال، وأقاويل. والقول الثاني: أن معنى أساطير الأولين: الترهات. قال أبو عبيدة: واحد الأساطير: أسطورة، وإسطارة، ومجازها مجاز التُرهات. قال ابن الأنباري: الترهات عند العرب: طرق غامضة، ومسالك مشكلة، يقول قائلهم: قد أخذنا في ترهات البسابس، يعني: قد عدلنا عن الطريق الواضح إلى المشكل وعمّا يعرف إلى ما لا يعرف. و «البسابس» : الصحاري الواسعة، والتُّرَّهات: طرق تتشعب من الطريق الأعظم، فتكثر وتُشكِل، فجُعلت مثلا لما لا يصح وينكشف. فان قيل: لم عابوا القرآن بأنه أساطير الأولين، وقد سطر الأولون ما فيه علم وحكمة، وما لا عيب على قائله؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنهم نسبوه إلى أنه ليس بوحي من الله. والثاني: أنهم عابوه بالإِشكال والغموض، استراحة منهم إلى البهت والباطل. فعلى الجواب الأول تكون «أساطير» من التسطير، وعلى الثاني تكون بمعنى الترهات، وقد شرحنا معنى التُّرَّهات. قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ في سبب نزولها قولان: (502) أحدهما: أن أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عمّا جاء

_ أخرجه الحاكم 2/ 315 والواحدي 426 كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن سعد بن جبير عن ابن عباس به، وحبيب مدلس وقد عنعن ورواه عبد الرزاق في «تفسيره» 785 والطبري 13173 و 13174 و 13175 من

به، فنزلت فيه هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول عمرو بن دينار، وعطاء بن دينار، والقاسم بن مخيمرة. (503) وقال مقاتل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإِسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم سوءاً، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إِليهم، فيقتلوه، فقال: ما لي عنه صبر فقالوا: ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك، فقال أبو طالب: حين تروح الإِبل، فان حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعتُه إليكم، وقال: والله لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم ... حَتَّى أُوَسَّدَ في التُّرَابِ دَفِينَا فَاصْدَعْ بأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وابْشِرْ وقَرَّ بذاكَ مِنْكَ عُيُونا وَعَرضْتَ دِيناً لاَ مَحَالَةَ أنَّه ... مِنْ خَيْرِ أدْيانِ البريَّةِ دِينا لَولا المَلاَمَةُ أو حَذَاري سُبَّةُ ... لَوَجَدْتَني سَمْحَاً بذَاكَ مُبِيْنَا «1» فنزلت فيه هذه الآية (504) والثاني: أن كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتّباع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون بأنفسهم عنه، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال ابن الحنفية، والضحاك، والسدّي. فعلى القول الأول، يكون قوله تعالى: «وهم» كنايةً عن واحد وعلى الثاني: عن جماعة. وفي هاء «عنه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى النّبي صلى الله عليه وسلم. ثم فيه قولان «2» . أحدهما: ينهون عن أذاه والثاني: عن اتِّباعه. والقول الثاني: أنها تَرْجِع إلى القرآن، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. وَيَنْأَوْنَ بمعنى

_ طريق الثوري عن حبيب عمن سمع ابن عباس عن ابن عباس، وهذا أصح فالإسناد فيه راو مجهول ومع ذلك صححه الحاكم! وسكت عنه الذهب!. ولا يصح وما يأتي عن ابن عباس أرجح، وانظر «تفسير الشوكاني» 890 بتخريجنا. عزاه المصنف لمقاتل، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 426 عن مقاتل بدون إسناد ومع ذلك فهو معضل، ومقاتل هو ابن سليمان متهم بالكذب والخبر لم يصح بكل حال وهو واه بمرة. أخرجه الطبري 13163 والبيهقي 2/ 341 من طريق علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس، وفيه إرسال بينهما. وله شواهد عند الطبري عن ابن الحنفية 13162 وعن السدي 13164. وفي الباب روايات.

[سورة الأنعام (6) : آية 27]

يبعدون. وفي هاء «عنه» قولان: أحدهما: أنها راجعة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني: إلى القرآن. قوله تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ أي: وما يهلكون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بالتباعد عنه وَما يَشْعُرُونَ أنّهم يهلكونها. [سورة الأنعام (6) : آية 27] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ في معنى «وقفوا» ستة أقوال. أحدها: حُبِسُوا عليها، قاله ابن السائب. والثاني: عُرِضُوا عليها، قاله مقاتل. والثالث: عاينوها. والرابع: وقفوا عليها وهي تحتهم. والخامس: دخلوا إليها فعرفوا مقدار عذابها، تقول: وقفت على ما عند فلان، أي فهمته وتبيَّنته، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الزجاج، واختار الأخير. وقال ابن جرير: عَلَى هاهنا بمعنى «في» . السادس: جعلوا عليها وقفا، كالوقوف المؤبَّدة على سبلها، ذكره الماورديّ. والخطاب بهذه الآية للنّبي صلى الله عليه وسلم، والوعيد للكفار، وجواب «لو» محذوف، ومعناه: لو رأيتهم في تلك الحال، لرأيت عجباً. قوله تعالى: وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم برفع الباء من «نكذبُ» والنون من «نكونُ» . قال الزجاج: والمعنى أنهم تمنَّوا الرد، وضمنوا أنهم لا يكذِّبون. والمعنى: يا ليتنا نُرَدُّ، ونحن لا نكذب بآيات ربِّنا، رُدِدْنا أو لم نُردَّ، ونكون من المؤمنين، لأنّا قد عاينّا مالا نكذب معه أبداً. قال: ويجوز الرفع على وجه آخر، على معنى «يا ليتنا نرد» ، يا ليتنا لا نكذب، كأنهم تمنوا الرد والتوفيق للتصديق. وقال الأخفش: إذا رفعت جعلته على مثل اليمين، كأنهم قالوا: ولا نكذب- واللهِ- بآيات ربِّنا، ونكون- والله- من المؤمنين. وقرأ حمزة إلا العجليَّ «1» ، وحفص عن عاصم، ويعقوب: بنصب الباء من «نكذبَ» ، والنون من «نكونَ» . قال مكي بن أبي طالب: وهذا النصب على جواب التمني، وذلك بإضمار «أن» ، حملاً على مصدر «نرد» ، فأضمرت «أن» لتكون مع الفعل مصدراً، فعطف بالواو مصدراً على مصدر. وتقديره: يا ليت لنا ردّا، وانتفاء من التكذيب، وكوناً من المؤمنين. وقرأ ابن عامر برفع الباء من «نُكذبُ» ، ونصب النون من «نكون» بالرّفع قد بيَّنا علته، والنصب على جواب التمني. [سورة الأنعام (6) : الآيات 28 الى 29] بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) قوله تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ «بل» : ها هنا ردّ لكلامهم، أي: ليس الأمر على ما قالوا من أنهم لو ردُّوا لآمنوا. وقال الزجاج: «بل» استدراك وإيجاب بعد نفي تقول: ما جاء زيد بل عمرو. وفي معنى الآية أربعة أقوال: أحدها: بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض، قاله الحسن. والثاني: بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم، قاله مقاتل. والثالث: بدا لهم جزاء ما كانوا

_ (1) العجلي: هو أبو أحمد عبد الله بن صالح بن مسلم بن صالح العجلي الكوفي نزيل بغداد مقرئ مشهور ثقة. أخذ القراءة عرضا عن حمزة الزيات وعن سليم عن حمزة أيضا، مات في حدود العشرين ومائتين.

[سورة الأنعام (6) : آية 30]

يخفونه، قاله المبرد. والرابع: بدا للأتباع ما كان يُخفيه الرؤساء، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن عباس: لعادوا إلى ما نُهوا عنه من الشرك، وإنهم لكاذبون في قولهم: وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قال ابن الانباري: كذَّبهم الله في إخبارهم عن أنفسهم أنهم إن رُدُّوا آمنوا ولم يكذبوا، ولم يكذِّبْهم في التمني. قوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا هذا إِخبار عن منكري البعث. (505) قال مقاتل: لما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث، قالوا هذا. وكان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: هذا حكاية قولهم، لو ردوا لقالوا «1» . [سورة الأنعام (6) : آية 30] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قال مقاتل: عُرِضُوا على ربهم قالَ أَلَيْسَ هذا العذاب بِالْحَقِّ. وقال غيره: أليس هذا البعث حقا؟ فعلى قول مقاتل: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بالعذاب، وعلى قول غيره: تَكْفُرُونَ بالبعث. [سورة الأنعام (6) : آية 31] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إنما وُصِفُوا بالخسران، لأنهم باعوا الإيمان بالكفر، فعظم خسرانهم. والمراد بلقاء الله: البعث والجزاء والساعة: القيامة والبغتة: الفجأة. قال الزجاج: كلُّ ما أتى فجأة فقد بغت يقال: قد بغته الأمر يَبْغَتُه بَغْتاً وبغتةً: إذا أتاه فجأة. قال الشاعر: وَلكَِنَّهم بانُوا وَلَمْ أَخْشَ بَغْتَةً ... وَأَفْظَعُ شيءٍ حِينَ يَفْجَؤُكَ البَغْتُ «2» قوله تعالى: يا حَسْرَتَنا الحسرة: التلهف على الشيء الفائت، وأهل التفسير يقولون: يا ندامتنا. فإن قيل: ما معنى دعاء الحسرة، وهي لا تعقِلُ؟ فالجواب: أن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم ما تقع فيه، جعلته نداءً، فتدخِلُ عليه «يا» للتنبيه، والمراد تنبيه الناس، لا تنبيه المنادي. ومثله قولهم: لا أرينّك ها هنا. لفظه لفظ الناهي لنفسه، والمعنى للمنهي ومن هذا قولهم: يا خَيْلَ الله اركبي، يراد: يا فرسان خيل الله. وقال سيبويه: إذا قلتَ: يا عجباه، فكأنك قلت: احضر وتعال يا عَجَبُ، فهذا زمانك. فأما التفريط فهو: التضييع. وقال الزجاج: التفريط في اللغة: تقدمه العجز. وفي المكني عنه بقوله: «فيها» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الدنيا، فالمعنى: على ما ضيعنا في الدنيا من عمل الآخرة، قاله مقاتل. والثاني: أنها الصَّفقة، لأن الخسران لا يكون إلّا في صفقة، وترك

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الحديث.

[سورة الأنعام (6) : آية 32]

ذكرها اكتفاءً بذكر الخسران قاله ابن جرير. والثالث: أنها الطاعة ذكره بعض المفسرين. فأما الأوزار، فقال ابن قتيبة: هي الآثام، وأصل الوزر: الحمل على الظهر. وقال ابن فارس: الوزر: الثقل. وهل هذا الحمل حقيقة؟ فيه قولان: أحدهما: أنه على حقيقته. قال عمير بن هانئ: يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح، كلمَّا كان هَوْلٌ عظَّمه عليه، وزاده خوفا، فيقول: بئس الجليس أنت، ما لي ولك؟ فيقول: أنا عملك، طالما ركبتني في الدنيا، فلأركبنك اليوم حتى أُخزيَك على رؤوس الناس، فيركبُه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه، فذلك قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ وهذا قول السدي، وعمرو بن قيس الملائي، ومقاتل. والثاني: أنه مثل، والمعنى: يحملون ثقل ذنوبهم، قاله الزجاج. قال. فجعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أَثْقَلِ ما يُتحَمَّل. ومعنى أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ: بئس الشيء شيئا يزرونه، أي يحملونه. [سورة الأنعام (6) : آية 32] وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: وما الحياة الدنيا في سرعة انقطاعها، وقصر عمرها إلا كالشيء يلعب به. والثاني: وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو، فأما فعل الخير، فهو من عمل الآخرة، لا من الدنيا. والثالث: وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو، لاشتغالهم عما أمروا به. واللعب: ما لا يُجدي نفعاً. قوله تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ اللام: لام القسم، والدار الآخرة: الجنة «أفلا يعقلون» فيعملون لها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو وحمزة، والكسائي، «يعقلون» بالياء، في الأنعام والأعراف ويوسف ويس، وقرءوا في القصص بالتاء. وقرأ نافع كل ذلك بالياء، وروى حفص، عن عاصم كل ذلك بالتاء، إلا في يس فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ «1» ، بالياء وقرأ ابن عامر الذي في يس بالياء، والباقي بالتاء. [سورة الأنعام (6) : آية 33] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ في سبب نزولها أربعة أقوال: (506) أحدها: أن رجلا من قريش يقال له: الحارث بن عامر، قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتَّهِمَك اليوم، ولكنا إن نتَّبعْك نُتَخَطَّفْ من أرضنا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذِّب النبي في العلانية، فاذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمد من أهل الكذب، فنزلت فيه هذه الآية «2» .

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.

والثاني: أن المشركين كانوا إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا فيما بينهم: إنه لَنبي، فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح «1» . (507) والثالث: أن أبا جهل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نُكذب الذي جئت به، فنزلت هذه الآية، قاله ناجية بن كعب. (508) وقال أبو يزيد المدني: لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فصافحه أبو جهل فقيل له: أتصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعاً لبني عبد مناف؟ فأنزل الله هذه الآية. (509) والرابع: أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل فقال الأخنس: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو، أم كاذب؟ فليس ها هنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسقاية، والحجابة، والنُّبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية، قاله السّدّيّ، ذكره الطبريّ مطوّلا. فأما الذي يقولون، فهو التّكذيب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والكفر بالله. وفي الآية تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتعزية عما يواجهونه به. قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قرأ نافع، والكسائي: «يُكْذِبُونَك» بالتخفيف وتسكين الكاف. وفي معناها قولان: أحدهما: لا يُلْفُونَك كاذباً قاله ابن قتيبة. والثاني: لا يكذِّبون الشيء الذي جئت به، إنما يجحدون آياتِ الله، ويتعرَّضون لعقوباته. قال ابن الأنباري: وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة بأن العرب تقول: كذبْتُ الرجل: إذا نسبْتَه إلى الكذب وصنعة الأباطيل من القول وأكذبتُه: إذا أخبرتَ أن الذي يحدث به كذب، ليس هو الصانع له. قال: وقال غير الكسائي: يقال: أكذبتُ الرجل: إذا أدخلتَه في جملة الكذابين، ونسبتَه إلى صفتهم، كما يقال: أبخلتُ الرجل: إذا نسبتَه إلى البخل، وأجبنتُه: إذا وجدتَه جبانا. قال الشاعر: فَطَائِفَةٌ قَدْ أكْفَرُونِي بِحُبِّكُمْ ... وَطَائِفَةٌ قالوا مُسِيءٌ ومذنب «2»

_ ورد موصولا ومرسلا. أخرجه الترمذي 3064 والحاكم 2/ 315 ح 3230 كلاهما عن ناجية بن كعب عن علي به، صححه الحاكم على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: لم يخرجا لناجية شيئا ا. هـ، وكرره الترمذي عن ناجية مرسلا، وكذا الطبري 13197 و 13198 وصوب الترمذي المرسل. والله أعلم. انظر والقرطبي 2195 بتخريجنا. أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير «ابن كثير» 2/ 167 عن أبي يزيد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وأخرجه أبو الشيخ كما في «الدر المنثور» 3/ 18 عن أبي يزيد مرسلا نحوه. أخرجه الطبري 13196 عن السدي مرسلا. وذكره الواحدي بقوله السدي. فذكره. وهذا ضعيف فالسدي فيه ضعف إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله. - الخلاصة: أكثر الأقوال أنها نزلت في شأن أبي جهل، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.

[سورة الأنعام (6) : آية 34]

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة وابن عامر: «يكَذِّبونك» بالتشديد وفتح الكاف وفي معناها خمسة أقوال: أحدها: لا يكذِّبونك بحجة، وإنما هو تكذيب عِناد وبَهْتٍ، قاله قتادة، والسدي. والثاني: لا يقولون لك: إنك كاذب، لعلمهم بصدقك، ولكن يكذِّبون ما جئت به، قاله ناجية ابن كعب. والثالث: لا يكذِّبونك في السر، ولكن يكذِّبونك في العلانية، عداوةً لك، قاله ابن السائب، ومقاتل. والرابع: لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم: كذبت. والخامس: لا يكذِّبونك بقلوبهم، لأنهم يعلمون أنك صادق، ذكر القولين الزجاج. وقال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً وإن اختلفت اللفظتان، إلا أن «فعّلتُ» : إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من «فعلت» . ويؤكد أنَّ القراءتين بمعنىً، ما حكاه سيبويه أنهم قالوا: قلَّلتُ، وأقللت، وكثَّرتُ، وأكثرت بمعنىً. قال أبو علي: ومعنى «لا يكذِّبونك» : لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرتَ به مما جاء في كتبهم، ويجوز أن يكون معنى الحقيقة: لا يصادفونك كاذباً، كما تقول: أحمدت فلانا: إذا أصبتَه محموداً، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ بألسنتهم ما يعلمونه يقينا، لعنادهم. وفي «آيات الله» ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. والثاني: محمد والقرآن، قاله ابن السّائب. والثالث: القرآن، قاله مقاتل. [سورة الأنعام (6) : آية 34] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ هذه تعزية له على ما يلقى منهم. قال ابن عباس: فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا رجاء ثوابي، وَأُوذُوا حتى نُشروا بالمناشير، وحُرقوا بالنار حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا بتعذيب من كذبهم. قوله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فيه خمسة أقوال: أحدها: لا خُلْفَ لمواعيده، قاله ابن عباس. والثاني: لا مبدِّل لما أخبر به وما أمر به، قاله الزجاج. والثالث: لا مبدل لحكوماته وأقضيته النافذة في عباده، فعبّرت الكلمات عن هذا المعنى، كقوله تعالى: وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي: وجب ما قضي عليهم. فعلى هذا القول، والذي قبله، يكون المعنى: لا مبدل لحكم كلمات الله، ولا ناقض لما حكم به، وقد حكم بنصر أنبيائه بقول: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» . والرابع: أن معنى الكلام معنى النهي، وإن كان ظاهره الإخبار فالمعنى: لا يُبدِّلَن أحد كلمات الله، فهو كقوله: لا رَيْبَ فِيهِ. والخامس: أن المعنى: لا يقدر أحد على تبديل كلام الله، وإن زخرف واجتهد، لأن الله تعالى صانه برصين اللفظ، وقويم الحكم، أن يختلط بألفاظ أهل الزيغ، ذكر هذه الألفاظ الثلاثة ابن الأنباري. قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: فيما صبروا عليه من الأذى فنُصروا. وقيل: إن «مِن» صلة.

_ (1) سورة المجادلة: 21.

[سورة الأنعام (6) : آية 35]

[سورة الأنعام (6) : آية 35] وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) قوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ. (510) سبب نزولها: أنّ الحارث بن عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش فقال: يا محمد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات، فإن فعلت آمنا بك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. و «كبر» : بمعنى «عظم» . وفي إعراضهم قولان: أحدهما: عن استماع القرآن. والثاني: عن اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأما «النفق» ، فقال ابن قتيبة: النفق في الأرض: المدخل، وهو السَّرب. والسُّلَّم في السماء: المصعد. وقال الزجاج: النفق: الطريق النافذ في الأرض. والنافقاء، ممدود: أحد جحِرة اليربوع يَخرِقه من باطن الأرض إلى جلدة الأرض، فاذا بلغ الجلدة أرقَّها، حتى إنْ رابه ريب، دفع برأسه ذلك المكان وخرج، ومنه سمي المنافق، لأنه أبطن غير ما أظهر، كالنافقاء الذي ظاهره غير بين، وباطنه حفر في الأرض. و «السلّم» مشتق من السلامة، وهو الشيء الذي يسلّمك إلى مصعدك. والمعنى: فان استطعت هذا فافعل، وحذف «فافعل» ، لأن في الكلام دليلا عليه. وقال أبو عبيدة: السلّم: السبب والمرقاة، تقول: اتخذتني سُلَّماً لحاجتك، أي: سببا. وفي قوله تعالى: فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ قولان: أحدهما: بآية قد سألوك إيّاها، وذلك أنهم سألوا نزول ملك الموت، ومثل آيات الأنبياء، كعصا موسى، وناقة صالح. والثاني: بآية هي أفضل من آيتك. قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لو شاء أن يطبعهم على الهدى لطبعهم. والثاني: لو شاء لأنزل ملائكة تضطرُّهم إلى الإيمان. ذكرهما الزجاج. والثالث: لو شاء لآمنوا كلهم، فأخبر إنما تركوا الإيمان بمشيئته، ونافذ قضائه. قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تجهل أنه لو شاء لجمعهم على الهدى. والثاني: لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم، ويكفر بعضهم. والثالث: لا تكونن ممن لا صبر له، لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين. [سورة الأنعام (6) : آية 36] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أي: إنما يجيبك من يسمع، والمراد به سماع قبول. وفي المراد بالموتى قولان: أحدهما: أنهم الكفار، قاله الحسن، ومجاهد وقتادة، فيكون المعنى: إنما يستجيب المؤمنون فأما الكفار، فلا يستجيبون حتى يبعثهم الله تعالى: ثم يحشرهم كفاراً، فيجيبون اضطراراً. والثاني: أنهم الموتى حقيقة، ضربهم الله تعالى مثلاً والمعنى: أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله، فكذلك الذين لا يسمعون.

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وراويته هو الكلبي، وقد كذبه غير واحد، فالخبر لا شيء.

[سورة الأنعام (6) : آية 37]

قوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يعني: المؤمنين والكافرين، فيجازي الكلّ. [سورة الأنعام (6) : آية 37] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قال ابن عباس: نزلت في رؤساء قريش. و «لولا» : بمعنى «هلاّ» وقد شرحناها في سورة النساء. وقال مقاتل: أرادوا بالآية مثل آيات الأنبياء. وقال غيره: أرادوا نزول ملك يشهد له بالنبوَّة. وفي قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يعلمون بأنّ الله سبحانه وتعالى قادر على إنزال الآية. والثاني: لا يعلمون ما عليهم من البلاء في إنزالها، لأنهم إن لم يؤمنوا بها، زاد عذابهم. والثالث: لا يعلمون المصلحة في نزول الآية. [سورة الأنعام (6) : آية 38] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: يريد كل ما دبَّ على الأرض. قال الزجاج: وذكر الجناحين توكيد، وجميع ما خُلق لا يخلو إما أن يدبّ، وإمّا أن يطير. وقوله تعالى: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قال مجاهد: أصناف مصنفة. وقال أبو عبيدة: أجناس يعرفون الله ويعبدونه. وفي معنى «أمثالكم» أربعة أقوال: أحدها: أمثالكم في كون بعضها يفقه عن بعض، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في معرفة الله، قاله عطاء. والثالث: أمثالكم في الخلق والموت والبعث، قاله الزجاج. والرابع: أمثالكم في كونها تطلب الغذاء، وتبتغي الرزق، وتتوقَّى المهالك، قاله ابن قتيبة. قال ابن الانباري: وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله تعالى ركَّب في المشركين عقولاً، وجعل لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبَّروا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ويتمسكوا بطاعته، كما جعل للطير أفهاما يعرف بها بعضها إشارة بعض، وهدى الذَّكَرَ منها لإتيان الأنثى، وفي كل ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها. قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ في الكتاب قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة، وابن زيد. والثاني: أنه القرآن. روى عطاء عن ابن عباس: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم. فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المعنى: ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب، إما نصاً، وإما مجملاً، وإما دلالة، كقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «1» أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين. قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فيه قولان «2» : أحدهما: أنه الجمع يوم القيامة.

_ (1) سورة النحل: 89. (2) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 188: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن كل دابة وطائر محشور إليه، وجائز أن يكون معنيا بذلك حشر القيامة، وجائز أن يكون معنيا به حشر الموت، وجائز أن يكون معنيا به الحشرات جميعا، ولا دلالة في ظاهر التنزيل، ولا في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم أي ذلك المراد بقوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إذ كان (الحشر) في كلام العرب الجمع، من ذلك قول الله تعالى ذكره جامعا خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت، كان أصوب القول في ذلك أن يعم بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها. وأن يقال: كل دابة وكل طائر محشور إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة، إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله: «ثم إلى ربهم يحشرون» ولم يخصص به حشر دون حشر. فإن قال قائل: فما وجه قوله وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بجناحيه وهل يطير الطائر إلا بجناحيه فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟ قيل: قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنزل هذا الكتاب بلسان قوم، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم. فإذا كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا: (كلمت فلانا بفمي) ، و (مشيت إليه برجلي) و (ضربته بيدي) خاطبهم الله تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم، ويستعملونه في خطابهم، ومن ذلك قوله تعالى ذكره: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص: 23] .

[سورة الأنعام (6) : آية 39]

(511) روى أبو ذر قال: «انتطحت شاتان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر، أتدري فيما انتطحتا؟ قلت: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما» . (512) وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدله أن يأخذ للجمَّاء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً، فيقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا. والثاني: أن معنى حشرها: موتها، قاله ابن عباس، والضّحّاك. [سورة الأنعام (6) : آية 39] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صُمٌّ عن القرآن لا يسمعونه، وَبُكْمٌ عنه لا ينطقون به فِي الظُّلُماتِ أي: في الشرك والضلالة. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فيموت على الكفر وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام. [سورة الأنعام (6) : آية 40] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «أرأيتم»

_ حسن. أخرجه أحمد 5/ 173 والبزار 350 و 3451 «كشف» من حديث أبي ذر وفي إسناده ليث بن أبي سليم غير قوي، وبقية رجاله ثقات وقد توبع فقد أخرجه أحمد 5/ 162 والطبري 13226 وفيه راو لم يسم وأخرجه الطبري 13227 عن منذر الثوري عن أبي ذر. وهذا منقطع بين أبي ذر ومنذر الثوري. والصواب الرواية المتقدمة حيث رواه منذر عن أشياخ له عن أبي ذر. وبكل حال الحديث حسن بطرقه وفي الباب أحاديث تعضده وانظر ما بعده، وانظر «الشوكاني» 894 بتخريجنا. موقوف صحيح أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 786 ومن طريقه الطبري 13225 عن أبي هريرة موقوفا، وإسناده صحيح. وورد بعضه مرفوعا. أخرجه مسلم 2582 والترمذي 2420 وعبد الرزاق 34765 وأحمد 2/ 323 وابن حبان 8363 عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) وله شواهد. انظر «تفسير الشوكاني» 895 و «تفسير القرطبي 2896 بتخريجنا.

[سورة الأنعام (6) : آية 41]

و «أرأيتكم» و «أرأيت» بالألف في كل القرآن مهموزاً وليَّن الهمزة نافع في الكل. وقرأ الكسائي بغير همز ولا ألف. قال الفراء: العرب تقول: أرأيتك، وهم يريدون: أخبرني. فأمّا عذاب الله، ففي المراد به ها هنا قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس. والثاني: العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية، قاله مقاتل. فأما الساعة، فهي القيامة. قال الزجاج: وهو اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد، وللوقت الذي يبعثون فيه. قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أي: أتدعون صنماً أو حجراً لكشفِ ما بكم؟! فاحتج عليهم بما لا يدفعونه، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله. وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جواب لقوله تعالى: «أرأيتكم» ، لأنه بمعنى أخبروا، كأنه قيل لهم: إن كنتم صادقين، فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم؟. [سورة الأنعام (6) : آية 41] بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) قوله تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ قال الزجاج: أعلمهم أنهم لا يدعون في الشدائد إلا إياه وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لأنهم عبدوا الأصنام. فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ المعنى: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم، وهذا على اتساع الكلام مثل قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» ، أي: اهل القرية. وَتَنْسَوْنَ: يجوز أن يكون بمعنى «تتركون» ويجوز أن يكون المعنى: إنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم. [سورة الأنعام (6) : آية 42] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ في الآية محذوف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أُمم من قبلك رسلا فخالفوهم، فأخذناهم بالبأساء وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الزمانة والخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها البؤس، وهو الفقر، قاله ابن قتيبة. والثالث: أنها الجوع، ذكره الزجاج. وفي الضرَّاء ثلاثة أقوال: أحدها: البلاء، والجوع، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: النقص في الأموال والأنفس، ذكره الزجاج. والثالث: الاسقام والأمراض، قاله أبو سليمان. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي: لكي يتضرعوا. والتضرع: التذلل والاستكانة. وفي الكلام محذوف تقديره: فلم يتضرّعوا. [سورة الأنعام (6) : آية 43] فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) قوله تعالى: فَلَوْلا معناه: «فهلاَّ» . والبأس: العذاب. ومقصود الآية: أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قد أرسل إلى قوم قبله بلغوا من القسوة أنهم أخذوا بالشدائد، فلم يخضعوا، وأقاموا على كفرهم، وزين لهم الشيطان ضلالتهم فأصرّوا عليها.

_ (1) سورة يوسف: 82.

[سورة الأنعام (6) : آية 44]

[سورة الأنعام (6) : آية 44] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ قال ابن عباس: تركوا ما وعظوا به. فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ يريد رخاء الدنيا وسرورها. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: «فتَّحنا» بالتشديد هنا وفي الأعراف، وفي الأنبياء: «فُتِّحت» ، وفي القمر: «فتّحنا» ، والجمهور على تخفيفهن. قال الزجاج: أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير، حتى إذا ظنوا أن ما كان نزل بهم، لم يكن انتقاماً، وما فُتح عليهم، باستحقاقهم، أخذناهم بغتة، أي: فاجأهم عذابنا. وقال ابن الانباري: إنما أراد بقوله تعالى: «كل شيء» : التأكيد، كقول القائل: أكلنا عند فلان كلَّ شيء، وكنا عنده في كل سرور، يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه والإطناب فيه، كقوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «1» . وقال الحسن: من وُسِّع عليه فلم ير أنه لم يُمكر به، فلا رأي له ومن قُتِّر عليه فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ هذه الآية، وقال: مُكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجاتهم ثم أُخذوا. قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ في المبلس خمسة اقوال: أحدها: أنه الآيس من رحمة الله عزّ وجلّ، رواه الضحاك عن ابن عباس وقال في رواية أخرى: الآيس من كل خير. وقال الفراء: المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي يسكت عند انقطاع حجته، فلا يكون عنده جواب: قد أبلس. قال العجَّاج: يا صَاحِ هَلْ تعْرِفُ رَسْماً مُكْرَساً ... قَالَ نَعَمْ! أعْرِفُه! وأبْلَسَا «2» أي: لم يَحِرْ جواباً. وقيل: المكرس: الذي قد بعرت فيه الإبل، وبوَّلت، فيركب بعضه بعضاً. والثاني: أنه المفتضح. قال مجاهد: الإبلاس: الفضيحة. والثالث: أنه المهْلك، قاله السدي. والرابع: أنه المجهود المكروب الذي قد نزل به من الشّر ما لا يستطيعه، قاله ابن زيد. والخامس: أنه الحزين النادم، قاله أبو عبيدة، وأنشد لرؤبة: وحَضَرتْ يوم الخميس الأخماس ... وفي الوجوه صُفرةٌ وإِبلاس أي: اكتئاب، وكسوف، وحزن. وقال الزجاج: هو الشديد الحسرة، الحزين، اليائس. وقال في موضع آخر: المبلس: السّاكت المتحيّر. [سورة الأنعام (6) : آية 45] فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن السائب: دابرهم: الذي يتخلف في آخرهم. والمعنى: أنهم استؤصلوا. وقال أبو عبيدة: دابرهم: آخرهم الذي يدبرهم: قال ابن قتيبة: هو كما

_ (1) سورة النمل: 23. (2) في «اللسان» كرس، تكرس الشيء تكارس أي تراكم وتلازب. وأبلس: سكت غما.

[سورة الأنعام (6) : آية 46]

يقال: اجتُثَّ أصلهم. قال المفسرون: وإنما حمد نفسه على قطع دابرهم، لأن ذلك إنعام على رسلهم الذين كذبوهم، وعلّم الحمد على كفايته شرّ الظّالمين. [سورة الأنعام (6) : آية 46] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أي: أذهبها وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ حتى لا تعرفون شيئا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟ في هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعود على الفعل، والمعنى: يأتيكم بما أخذ الله منكم، قاله الزجاج. وقال الفراء: إذا كنيت عن الأفاعيل، وإن كثرتْ، وحَّدتَ الكناية، كقولك للرجل: إقبالك وإدبارك يؤذيني. والثاني: أنها تعود إلى الهدى، ذكره الفراء. فعلى هذا تكون الكناية عن غير مذكور، ولكن المعنى يشتمل عليه، لأن من أُخذ سمعه وبصره وُختم على قلبه لم يهتد. والثالث: أنها تعود على السمع، ويكون ما عُطف عليه داخلاً معه في القصة، لأنه معطوف عليه، ذكره الزّجّاج. والجمهور يقرءون: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ بكسر هاء «به» . وروى المسيبَّي عن نافع: «بهُ انظر» : بالضم. قال أبو علي: من كسر، حذف الياء التي تلحق الهاء في نحو: بهي عيب، ومن ضم، فعلى قول من قال: فخسفنا بهو بدارهو الأرض، فحذف الواو. قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ قال مقاتل: يعني تكون العلامات في أُمور شتى، فيخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب، وبما صُنع بالأُمم الخالية ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ، أي: يعرضون فلا يعتبرون. [سورة الأنعام (6) : آية 47] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً قال الزجاج: البغتة: المفاجأة والجهرة: أن يأتيهم وهم يرونه. هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أي: هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم، لأنكم كفرتم معاندين، فقد علمتم أنكم ظالمون. [سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49] وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) قوله تعالى: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ أي: بالثواب ومنذرين بالعقاب وليس إرسالهم ليأتوا بما يقترحونه من الآيات. ثم ذكر ثواب من صدق، وعقاب من كذب في تمام الآية والتي بعدها. وقال ابن عباس: يفسقون: بمعنى يكافرون. [سورة الأنعام (6) : آية 50] قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 51]

(513) سبب نزولها: أن أهل مكة قالوا: يا محمد، لو أنزل الله عليك كنزاً فتستغني به، فانك فقير محتاج أو تكون لك جنة تأكل منها، فانك تجوع، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الزّجّاج: وهذه الآية متّصلة بقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فأعلمهم أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي، ولا يعلم الغيب فيخبرهم به إلا بوحي، ولا يقول: إنه مَلَكٌ، لأن الملك يشاهد من أمور الله تعالى ما لا يشاهده البشر. وقرأ ابن مسعود، وابن جبير، وعكرمة، والجحدري: «إني ملك» بكسر اللام. وفي الأعمى والبصير قولان: أحدهما: أن الأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: الأعمى: الضال، والبصير: المهتدي، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. وفي قوله تعالى: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ قولان: أحدهما: فيما بُيِّن لكم من الآيات الدالة على وحدانيته وصدق رسوله. والثاني: فيما ضُرب لكم من مثل الأعمى والبصير وأنهما لا يستويان. [سورة الأنعام (6) : آية 51] وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) قوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ قال الزجاج: يعني بالقرآن، وإنما ذكر الذين يخافون الحشر دون غيرهم، وإن كان مُنْذِراً لجميع الخلق، لأن الحجة على الخائفين الحشر أظهر، لاعترافهم بالمعاد، فهم أحد رجلين: إما مسلم، فيُنذَر ليؤديَ حق الله عليه في إسلامه، وإما كتابي، فأهل الكتاب مجمعون على البعث. وذِكر الولي والشفيع، لأن اليهود والنصارى ذكرت أنها أبناء الله وأحبّاؤه، فأعلم عزّ وجلّ أن أهل الكفر ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع. وقال غيره: ليس لهم من دونه ولي، أي: ليس لهم غير الله ولي ولا شفيع، لأن شفاعة الشافعين بأمره. وقال أبو سليمان الدمشقي: هذه الآية متعلقة بقوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ «1» . روى سعد بن أبي وقّاص قال:. [سورة الأنعام (6) : آية 52] وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، روى سعد بن أبي وقاص قال: (514) نزلت هذه الآية في ستة: فيّ، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمار، والمقداد، وبلال. قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء، فاطردهم عنك. فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فنزلت هذه الآية.

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة واهية، وتقدم الكلام على ذلك مرارا. حسن. أخرجه الطبري 13266 عن سعد وإسناده حسن وانظر ما بعده.

(515) وقال خباب بن الأرتِّ: نزلت فينا، كنا ضعفاء عند النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا، فجاء الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، فقالا: إنا من أشراف قومنا، وإنا نكره أن يرونا معهم، فاطردهم إذا جالسناك. قال: «نعم» . فقالوا: لا نرضى حتى تكتب بيننا كتاباً، فأتُي بأديم ودواة، ودعا علياً ليكتب، فلما أراد ذلك، ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بقوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إلى قوله: فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فرمى بالصحيفة ودعانا، فأتيناه وهو يقول: «سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة» . فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على ركبته. (516) وقال ابن مسعود: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خبَّاب، وصهيب، وبلال، وعمَّار، فقالوا: يا محمد، رضيتَ بهؤلاء، أتريد أن نكون تبعاً لهم؟! فنزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ. (517) وقال عكرمة: جاء عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل، في أشراف بني عبد مناف، إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم في صدورنا، وأدنى لاتِّباعنا إياه، فأتاه أبو طالب فحدثه بذلك، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، فنزلت هذه الآيات، فأقبل عمر يعتذر من مقالته. (518) وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في الموالي، منهم بلال، وصهيب، وخبّاب، وعمّار، ومهجع، وسلمان، وعامر بن فهيرة، وسالم مولى أبي حذيفة وأن قوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ نزلت فيهم أيضا. (519) وقد روى العوفي عن ابن عباس: أنّ أناسا من الأشراف قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: نؤمن لك، وإذا صلينا فأخِّر هؤلاء الذين معك، فليصلوا خلفنا. فعلى هذا، إنما سألوه تأخيرهم عن الصّفّ، وعلى

_ ضعيف. أخرجه ابن ماجة 4127 والطبري 13261، والواحدي في «الوسيط» 2/ 247 وفي «أسباب النزول» 432 من حديث خباب بن الأرتّ وإسناده ضعيف أبو سعد قارئ الأزد وعبد الله بن عامر أبو الكنود كلاهما مجهول. وللمتن علة أخرى: وهي كون الخبر مدني والسورة مكية، ولذا استغربه الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 173 وقال: فالآية مكية، والخبر مدني اهـ قلت: قدوم الأقرع وعيينة كان في المدينة. - وأصلح من ذلك كله ما أخرجه: مسلم 2413 والنسائي في «التفسير» 183 وابن ماجة 4128 وأبو يعلى 826 والطبري 13266 والواحدي 431 والحاكم 3/ 319 عن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنا وابن مسعود وبلال ورجل من هذيل، ورجلان لست أسميهما. فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم اطردهم لا يجترءون علينا فنزلت» اهـ. وانظر «تفسير الشوكاني» 897 و 798 بتخريجنا. حديث حسن. أخرجه أحمد 3975 والبزار 2209 والطبراني 10520 والواحدي 433 من حديث ابن مسعود، وقال الهيثمي في «المجمع» 10997: رجال أحمد رجال الصحيح غير كردوس، وهو ثقة. اهـ. ويشهد له ما تقدم عن سعد من حديث ابن مسعود. انظر «تفسير الشوكاني» 897 وابن كثير 2/ 172 و 173. بتخريجنا. أخرجه الطبري 13267 عن عكرمة مرسلا والمرسل من قسم الضعيف، وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 173. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وراويته الكلبي يضع الحديث، والمتن منكر جدا بذكر سلمان فإن إسلامه كان في المدينة، والسورة مكية. أخرجه الطبري 13386 عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف جدا، فيه عطية العوفي ضعيف، وعنه مجاهيل.

الأقوال التي قبله، سألوه طردهم عن مجلسه. قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ في هذا الدعاء خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه الصلاة المكتوبة، قاله ابن عمر، وابن عباس. وقال مجاهد: هي الصلوات الخمس وفي رواية عن مجاهد، وقتادة قالا: يعني صلاة الصبح والعصر. وزعم مقاتل أن الصلاة يومئذ كانت ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك. والثاني: أنه ذكر الله تعالى، قاله إبراهيم النخعي، وعنه كالقول الأول. والثالث: أنه عبادة الله، قاله الضحاك. والرابع: أنه تعلم القرآن غدوة وعشية، قاله أبو جعفر. والخامس: أنه دعاء الله بالتوحيد، والإخلاص له، وعبادته، قاله الزجاج. وقرأ الجمهور: «بالغداة» وقرأ ابن عامر ها هنا وفي سورة الكهف أيضا: «بالغُدْوَةِ» بضم الغين وإسكان الدال وبعدها واو. قال الفراء: والعرب لا تدخل الألف واللام على «الغدوة» لأنها معرفة بغير ألف ولام، ولا تضيفها العرب يقولون: أتيتك غداة الخميس، ولا يقولون: غُدوة الخميس، فهذا دليل على أنها معرفة. وقال أبو علي: الوجه: الغداة، لأنها تستعمل نكرة، وتتعرف باللام وأما غُدوة، فمعرفة. وقال الخليل: يجوز أن تقول: أتيتك اليوم غُدوة وبُكرة، فجعلها بمنزلة ضحوة، فهذا وجه قراءة ابن عامر. فان قيل: دعاء القوم كان متصلاً بالليل والنهار، فلماذا خص الغداة والعشي؟ فالجواب: أنه نبه بالغداة على جميع النهار، وبالعشي على الليل، لأنه إذا كان عمل النهار خالصا له، كان عمل الليل أصفى. قوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال الزّجّاج: أي يريدون الله، فشهد الله لهم بصحة النيات، وأنهم مخلصون في ذلك. وأما الحساب المذكور في الآية، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حساب الأعمال،

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 203- 204: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي «والدعاء لله» يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولا وكلاما، وقد يكون بالعمل له بالجوارح، الأعمال التي كان عليهم فرضها، وغيرها من النوافل التي ترضي عن العامل له عابده بما هو عامل له، وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشي، لأن الله قد سمى «العبادة» «دعاء» فقال تعالى ذكره وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 6] وقد يجوز أن يكون ذلك على خاص من الدعاء. ولا قول أولى بذلك بالصحة من وصف القوم بما وصفهم الله به: من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي فيعمون بالصفة التي وصفهم بها ربهم ولا يخصون منها بشيء من دون شيء. فتأويل الكلام إذا: يا محمد أنذر بالقرآن الذي أنزلته إليك، الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير في العمل له دائبون إذا أعرض عن إنذارك واستماع ما أنزل الله عليك المكذبون بالله واليوم الآخر من قومك استكبارا على الله ولا تطردهم ولا تقصهم، فتكون ممن وضع الإقصاء في غير موضعه، فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه، وقرب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدنائه فإن الذين نهيتك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألون عفوه ومغفرته بصالح أعمالهم، وأداء ما ألزمهم من فرائضه، ونوافل تطوعهم، وذكرهم إياه بألسنتهم بالغداة والعشي يلتمسون بذلك القربة إلى الله، والدنو من رضاه ا. هـ.

[سورة الأنعام (6) : آية 53]

قاله الحسن. والثاني: حساب الأرزاق. والثالث: أنه بمعنى الكفاية. والمعنى: ما عليك من كفايتهم، ولا عليهم كفايتك. قوله تعالى: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ قال ابن الأنباري: عظم هذا الأمر على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخُوِّفَ بالدخول في جملة الظالمين، لأنه كان قد همّ بتقديم الرّؤساء على الضّعفاء. [سورة الأنعام (6) : آية 53] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) قوله تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ المعنى: وكما ابتلينا قبلك الغني بالفقير، ابتلينا أيضاً بعضهم ببعض. و «فتنا» بمعنى: ابتلينا واختبرنا لِيَقُولُوا، يعني الكبراء: أَهؤُلاءِ يعنون الفقراء والضعفاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهدى؟ وهذا استفهام معناه الانكار، كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة. قال ابن السائب: ابتلى الله الرؤساء بالموالي فاذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله، أنف أن يسلم، ويقول: سبقني هذا! قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أي: بالذين يشكرون نعمته إذا منَّ عليهم بالهداية. والمعنى: إنما يهدي الله من يعلم أنه يشكر. والاستفهام في «أليس» ، معناه التقرير، أي: إنه كذلك. [سورة الأنعام (6) : آية 54] وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) قوله تعالى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال: (520) أحدها: أنها نزلت في رجال أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظيمة، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك. (521) والثاني: أنها نزلت في الذين نُهي عن طردهم، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسّلام، وقال: «الحمد الله الذي جعل في أُمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» ، قاله الحسن وعكرمة. (522) والثالث: أنها نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة، ومصعب بن عمير، وسالم، وأبي سلمة، والأرقم بن أبي الأرقم، وعمار، وبلال، قاله عطاء. (523) والرابع: أن عمر بن الخطاب كان اشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأخير الفقراء، استمالة

_ ليس له أصل عن أنس، وإنما ورد عن ماهان وهو أبو صالح الحنفي الكوفي أخرجه الطبري 13294 و 13295 عن ماهان مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 436 بدون إسناد عن ماهان. وعزاه في «الدر» 3/ 26 للفريابي وعبد بن حميد ومسدد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ماهان، وتفرد المصنف بنسبته لأنس. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 435 بدون سند عن عكرمة مرسلا وسيأتي في سورة الكهف. عزاه المصنف لعطاء، فهو مرسل، ولم أقف على إسناده، ولا يصح. عزاه المصنف للكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فخبره هذا لا شيء.

[سورة الأنعام (6) : آية 55]

للرؤساء إلى الإسلام، فلما نزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، جاء عمر بن الخطّاب يعتذر من مقالته ويستغفر منها، فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن السائب. (524) والخامس: أنها نزلت مبِّشرة باسلام عمر بن الخطاب فلما جاء وأسلم تلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه أبو سليمان الدمشقي. فأما قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فمعناه: يصدِّقون بحججنا وبراهيننا. قوله تعالى: فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه أُمر بالسلام عليهم تشريفا لهم وقد ذكرناه عن الحسن، وعكرمة. والثاني: أنه أُمر بابلاغ السلام إليهم عن الله تعالى، قاله ابن زيد. قال الزجاج: ومعنى السلام: دعاء للانسان بأن يسلم من الآفات. وفي السوء قولان: أحدهما: أنه الشرك. والثاني: المعاصي. وقد ذكرنا في سورة النساء معنى الجهالة. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي: «أنه من عمل منكم سوءاً» «فانه غفور» بكسر الألف فيهما. وقرأ عاصم، وابن عامر: بفتح الألف فيهما. وقرأ نافع. بنصب ألف «أنه» وكسر ألف «فانه غفور» . قال أبو علي: من كسر ألف «إنه» جعله تفسيرا للرحمة ومن كسر ألف «فانه غفور» فلأن ما بعد الفاء حكمه الابتداء، ومن فتح ألف «أنه من عمل» جعل «أنَّ» بدلا من الرحمة، والمعنى: كتب ربكم «أنه من عمل» ، ومن فتحها بعد الفاء أضمر خبراً تقديره: فله «أنه غفور رحيم» والمعنى: فله غفرانه. وكذلك قوله تعالى: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «1» معناه: فله أن له نار جهنم، وأما قراءة نافع، فانه أبدل من الرحمة: واستأنف ما بعد الفاء. [سورة الأنعام (6) : آية 55] وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين، كذلك نبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل. قال ابن قتيبة: ومعنى تفصيلها: إتيانها متفرقة شيئاً بعد شيء. قوله تعالى: وَلِتَسْتَبِينَ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «ولتستبين» بالتاء، «سبيل» بالرفع. وقرأ نافع، وزيد عن يعقوب: بالتاء أيضا، إلا أنهما نصبا السبيل. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «وليستبين» بالياء، «سبيل» بالرفع. فمن قرأ وَلِتَسْتَبِينَ بالياء أو التاء، فلأن السبيل تذكر وتؤنث على ما بينا في آل عمران، ومن نصب اللام، فالمعنى: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين. وفي سبيلهم التي بُيِّنت له، قولان: أحدهما: أنها طريقهم في الشرك، ومصيرهم إلى الخزي، قاله ابن عباس. والثاني: أنها مقصودهم في طرد الفقراء عنه، وذلك إنما هو الحسد، لا إيثار مجالسته واتِّباعه، قاله أبو سليمان.

_ لم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه، فالمتن منكر، وليس له أصل.

[سورة الأنعام (6) : آية 56]

فان قيل: كيف انفردت لام «كي» في قوله: «ولتستبين» وسبيلها أن تكون شرطاً لفعل يتقدمها أو يأتي بعدها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري بجوابين: أحدهما: أنها شرط لفعل مضمر، يراد به: ونفعل ذلك لكي تستبين. والثاني: أنها معطوفة على لام مضمرة، تأويله: نفصّل الآيات لينكشف أمرهم، ولتستبين سبيلهم. [سورة الأنعام (6) : آية 56] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قوله تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام. وفي معنى تَدْعُونَ قولان: أحدهما: تدعونهم آلهة. والثاني: تعبدون قاله ابن عباس. وأهواؤهم: دينهم. قال الزجاج: أراد إنما عبدتموها على طريق الهوى، لا على طريق البيّنة والبرهان. ومعنى «إذاً» معنى الشرط والمعنى: قد ضللت إن عبدتها. وقرأ طلحة، وابن أبي ليلى: «قد ضللت» بكسر اللام. [سورة الأنعام (6) : آية 57] قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قوله تعالى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي. (525) سبب نزولها أن النضر بن الحارث وسائر قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بالعذاب الذي تَعِدُنا به، استهزاءً وقام النضر عند الكعبة وقال: اللهم إن كان ما يقول حقا، فائتنا بالعذاب فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس. فأما البينة، فهي الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل. قال الزجاج: أنا على أمر بيِّن، لا متبعٌ لهوى. قوله تعالى: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ في هاء الكناية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الرب. والثاني: ترجع إلى البيان. والثالث: ترجع إلى العذاب الذي طلبوه استهزاءً. قوله تعالى: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي: ما بيدي. وفي الذي استعجلوا به قولان: أحدهما: أنه العذاب قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنه الآيات التي كانوا يقترحونها ذكره الزجاج. قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فيه قولان: أحدهما: أنه الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بايجاب الثواب والعقاب. والثاني: أنه القضاء بانزال العذاب على المخالف. قوله تعالى: يَقُصُّ الْحَقَّ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع «يَقُصُّ الحق» بالصاد المشددة، من القصص والمعنى: أن كل ما أخبر به فهو حق. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «يقضي الحق» من القضاء والمعنى: يقضي القضاء الحقّ.

_ باطل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من رواية الكلبي، وهذا إسناد موضوع. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 437 بدون سند عن الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.

[سورة الأنعام (6) : آية 58]

[سورة الأنعام (6) : آية 58] قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) قوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي: من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قال ابن عباس: يقول: لم أمهلكم ساعة، ولأهلكتكم. قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: إن شاء عاجلهم، وإن شاء أخَّر عقوبتهم. والثاني: أعلم بما يؤول إليهم أمرهم، وأنه قد يهتدي منهم قوم، ولا يهتدي آخرون فلذلك يؤخّرهم. [سورة الأنعام (6) : آية 59] وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قال ابن جرير: المفاتح: جمع مفتح يقال: مفتح ومفتاح، فمن قال: مفتح، جمعه: مفاتح. ومن قال: مفتاح، جمعه: مفاتيح. وفي «مفاتح الغيب» سبعة أقوال: أحدها: أنها خمس لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ. (526) روى البخاري في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله» . (527) قال ابن مسعود: أُوتي نبيُّكم علم كل شيء إلا مفاتيحَ الغيب. والثاني: أنها خزائن غيب السماوات من الأقدار والأرزاق، قاله ابن عباس. والثالث: ما غاب عن الخلق من الثواب والعقاب، وما تصير إليه الأمور، قاله عطاء. والرابع: خزائن غيب العذاب، متى ينزل، قاله مقاتل. والخامس: الوُصلة إلى علم الغيب إذا اسْتُعْلم، قاله الزجاج. والسادس: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال. والسابع: ما لم يكن، هل يكون، أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون، وما لا يكون إن كان، كيف يكون؟ فأما البَرُّ، فهو القفر. وفي البحر قولان: أحدهما: أنه الماء، قاله الجمهور. والثاني: أنه القرى، قاله مجاهد. قوله تعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها قال الزجاج: المعنى: أنه يعلمها ساقطة وثابتة، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، ليس تأويله: اعرفه في حال مجيئه فقط. فأما ظلمات الأرض، فالمراد بها بطن الأرض. وفي الرطب واليابس، خمسة أقوال: أحدها: أن الرطب: الماء، واليابس: البادية. والثاني: الرّطب. ما ينبت، واليابس: ما لا يُنبِت. والثالث: الرطب: الحي، واليابس: الميت. والرابع: الرطب: لسان المؤمن يذكر الله، واليابس: لسان الكافر لا يتحرك بذكر الله. والخامس: أنهما الشيء

_ حديث صحيح. أخرجه البخاري 1039 و 4379 و 4627 و 4697 و 4778، وأحمد 2/ 24 و 52 و 58 و 85 و 86، وابن حبان 70 و 71 والطبراني 13246. من حديث ابن عمر. جيد. أخرجه الطبري 13309 ك عن ابن مسعود، وإسناده قوي.

[سورة الأنعام (6) : آية 60]

ينتقل من إحدى الحالتين إلى الأخرى، فهو يعلمه رطباً، ويعلمه يابساً. وفي الكتاب المبين قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ قاله مقاتل. والثاني: أنه علم الله المتقَنُ ذكره الزجاج. فان قيل: ما الفائدة في إِحصاء هذه الأشياء في كتاب؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرهن ابن الأنباري: أحدها: أنه أحصاها في كتاب، لتقف الملائكة على نفاذ علمه. والثاني: أنه نبه بذلك عباده على تعظيم الحساب، وأعلمهم أنه لا يفوته ما يصنعون، لأن من يثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب، فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع. والثالث: أن المراد بالكتاب: العلم فالمعنى: أنها مثبتة في علمه. [سورة الأنعام (6) : آية 60] وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ يريد به النوم، لأنه يقبض الأرواح عن التصرف، كما يقبض بالموت. وقال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم. وجرحتم: بمعنى كسبتم. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ أي: يوقظكم فيه، أي: في النهار. لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي: لتبلغوا الأجل المسمى لانقطاع حياتكم، فدل باليقظة بعد النوم على البعث بعد الموت. [سورة الأنعام (6) : آية 61] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) قوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً الحفظة: الملائكة، واحدهم: حافظ، والجمع: حفظة، مثل كاتب وكتبة، وفاعل وفعلة. وفيما يحفظونه قولان: أحدهما: أعمال بني آدم قاله ابن عباس. والثاني: أعمالهم وأجسادهم، قاله السدي. قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وقرأ حمزة: «توفاه رسلنا» وحجته أنه فعل مسند إلى مؤنث غير حقيقي، وإنما التأنيث للجمع، فهو مثل: وَقالَ نِسْوَةٌ «1» . وفي المراد بالرسل ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أعوان مَلَك الموت، قاله ابن عباس. وقال النخعي: أعوانه يتوفَّون النفوس، وهو يأخذها منهم. والثاني: أن المراد بالرسل: مَلَك الموت وحده، قاله مقاتل. والثالث: أنهم الحفظة، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ قال ابن عباس: لا يضيِّعون. فان قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وبين قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «2» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه يجوز أن يريد بالرّسل ملك كالموت وحده، وقد يقع الجمع على الواحد. والثاني: أن أعوان مَلَك الموت يفعلون بأمره، فأضيف الكل إلى فعله. وقيل: تَوَفيّ أعوان ملك الموت بالنزع، وتوفِّي ملك الموت بأن يأمر الأرواح فتجيب، ويدعوها فتخرج، وتوفِّي الله تعالى بأن يخلق الموت في الميّت.

_ (1) سورة يوسف: 30. (2) سورة السجدة: 11.

[سورة الأنعام (6) : آية 62]

[سورة الأنعام (6) : آية 62] ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ يعني العباد. وفي متولي الردِّ قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، رَدَّتهم بالموت إلى الله تعالى. والثاني: أنه الله عزّ وجلّ، ردهم بالبعث في الآخرة. وفي معنى ردهم إلى الله تعالى، قولان: أحدهما: أنهم ردوا إلى المكان الذي لا يملك الحكم فيه إلا الله وحده. والثاني: أنهم ردوا إلى تدبيره وحده لأنه لما أنشأهم كان منفرداً بتدبيرهم، فلما مكنهم من التصرف صاروا في تدبير أنفسهم، ثم كفهم عنه بالموت فصاروا مردودين إلى تدبيره. قوله تعالى: أَلا لَهُ الْحُكْمُ يعني القضاء. وبيان سرعة الحساب، في سورة البقرة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ، مشدَّدَين. وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: بسكون النون وتخفيف الجيم. قال الزجاج: والمشدَّدة أجود للكثرة. وظلمات البر والبحر: شدائدها والعرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شدة: يوم مظلم، حتى إنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل. قال الشاعر: فِدَىً لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي ... إذا كَانَ يَوْماً ذا كَواكَب أشْنَعَا «1» قوله تعالى: تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً أي: مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر إلى الشيء، والحاجة. قوله تعالى: وَخُفْيَةً قرأ عاصم إلا حفصا: «وخِفية» بكسر الخاء وكذلك في سورة الأعراف. وقرأ الباقون بضم الخاء، وهما لغتان. قال الفراء: وفيها لغة أخرى بالواو، ولا تصلح في القراءة: خِفْوة، وخَفْوة. ومعنى الكلام، أنكم تدعونه في أنفسكم، كما تدعونه ظاهراً: «لئن أنجيتنا» ، كذلك قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو: «لئن أنجيتنا» ، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «لئن أنجانا» بألف، لمكان الغيبة في قوله: «تدعونه» . وكان حمزة، والكسائي، وخلف، يميلون الجيم. قوله تعالى: مِنْ هذِهِ يعني: في أي شدة وقعتم، قلتم: «لئن أنجيتنا من هذه» . قال ابن عباس: و «الشّاكرون» ها هنا: المؤمنون. وكانت قريش تسافر في البر والبحر، فاذا ضلوا الطريق وخافوا الهلاك، دعَوُا الله مخلصين، فأنجاهم. فأما «الكرب» فهو الغم الذي يأخذ بالنّفس، ومنه اشتقّت الكربة. [سورة الأنعام (6) : آية 65] قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

_ (1) البيت أنشده سيبويه في «الكتاب» 1/ 21 ونسبه لمقاس العائذي. وأراد باليوم يوما من أيام الحرب، وصفه بالشدة فجعله كالليل تبدو فيه الكواكب، إما لكثرة السلاح الصقيل فيه، وإما لما ذكره من النجوم.

قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ فيه قولان: أحدهما: أن الذي فوقهم: العذاب النازل من السماء، كما حُصب قوم لوط، وأصحاب الفيل. والذي من تحت أرجلهم: كما خُسف بقارون، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل. وقال غيرهم: ومنه الطوفان، والريح، والصيحة، والرجفة. والقول الثاني: أن الذي من فوقهم: من قِبَل أمرائهم. والذي من تحتهم من سَفَلتهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال في رواية أخرى: الذي من فوقهم: أئمة السوء والذي من تحت أرجلهم: عبيد السوء. قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً قال ابن عباس: يَبُثُّ فيكم الأهواء المختلفة، فتصيرون فِرَقاً. قال ابن قتيبة: يلبسكم: من الالتباس عليهم. والمعنى: حتى تكونوا شِيعَاً، أي: فرقا مختلفين. ثم يذيق بعضكم بأس بعض بالقتال والحرب. وقال الزجاج: يلبسكم، أي: يخلط أمركم خلط اضطراب، لا خلط اتفاق. يقال: لَبَسْتُ عليهم الأمر، ألبسه: إذا لم أبيِّنه. ومعنى شيعاً: أي يجعلكم فرقاً، فاذا كنتم مختلفين، قاتل بعضكم بعضاً. قوله تعالى: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أي: يقتل بعضكم بيد بعض. وفيمن عُني بهذه الآية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها في المسلمين أهل الصلاة، هذا مذهب ابن عباس، وأبي العالية، وقتادة. (528) وقال أُبي بن كعب في هذه الآية: هن أربع خلال، وكلُّهن عذاب، وكلُّهن واقع قبل يوم القيامة، فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، أُلبسوا شيعاً، وأذيق بعضهم بأس بعض. وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف، والرجم. والثاني: أن العذاب للمشركين، وباقي الآية للمسلمين، قاله الحسن. (529) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يصيبكم بعذاب أصابه مَن كان قبلكم، فأعطانيها، وسألته إن لا يسلِّط عليكم عدواً يستبيح بيضتكم، فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض، فمنعنيها» . والثالث: أنها تهدُّدٌ للمشركين، قاله ابن جرير الطّبريّ، وأبو سليمان الدّمشقي.

_ موقوف. أخرجه أحمد 5/ 135 عن أبي بن كعب موقوفا، وإسناده غير قوي، فيه أبو جعفر الرازي، وهو صدوق، لكنه سيء الحفظ. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 21 وقال رواه أحمد ورجاله ثقات. صحيح. أخرجه مسلم 2890 وابن أبي شيبة 10/ 320 وأحمد 1/ 175 و 181 و 182، وأبو يعلى 734 وابن حبان 7237 من حديث سعد، وبعضهم اختصره. وأخرجه الطبري 3370 رواية نافع بن خالد الخزاعي عن أبيه أن النبي.. وفي الباب أحاديث منها: حديث ثوبان عند مسلم 2889 وأبو داود 4252 والترمذي 2176 وابن ماجة 3952 وأحمد 5/ 278 و 284 وابن حبان 7238 والبيهقي في «الدلائل» 6/ 526- 527 والبغوي 3910. وحديث خباب بن الأرت عند الترمذي 2175 والنسائي 3/ 216- 217 وأحمد 5/ 108 و 109 وابن حبان 7236 والمزي في تهذيب «الكمال» 14/ 447- 448 والطبراني 3621 و 3622 و 3624 و 3626. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح اهـ.

[سورة الأنعام (6) : آية 66]

[سورة الأنعام (6) : آية 66] وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ في هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كناية عن القرآن. والثاني: عن تصريف الآيات. والثالث: عن العذاب. قوله تعالى: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فيه قولان: أحدهما: لست حفيظاً على أعمالكم لأُجازيكم بها، إنما أنا منذر، قاله الحسن. والثاني: لست حفيظاً عليكم، أخذكم بالإيمان، إنما أدعوكم إلى الله تعالى، قاله الزجاج. فصل: وفي هذا القدر من الآية قولان: أحدهما: أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة، ثم نسخ ذلك بآية السيف. والثاني: أن معناه: لست حفيظاً عليكم، إنما أُطالبكم بالظواهر من الإِقرار والعمل، لا بالأسرار فعلى هذا هو محكم. [سورة الأنعام (6) : آية 67] لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي: لكل خبر يخبر الله به وقت يقع فيه من غير خلف ولا تأخير. قال السدي: فاستقر نبأ القرآن بما كان يَعِدهم من العذاب يوم بدر. وقال مقاتل: منه في الدنيا يوم بدر، وفي الآخرة جهنّم. [سورة الأنعام (6) : آية 68] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فيمن أريد بهذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: المشركون. والثاني: اليهود. والثالث: أصحاب الأهواء. والآيات: القرآن. وخوض المشركين فيه: تكذيبهم به واستهزاؤهم، ويقاربه خوض اليهود، وخوض أهل الأهواء، والمراء، والخصومات. قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: فاترك مجالستهم، حتى يكون خوضهم في غير القرآن. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ وقرأ ابن عامر: «يُنَسِّينَّكَ» ، بفتح النون، وتشديد السين، والنون الثانية. ومثل هذا: غَرّمْتُهُ وأغرمتُه. وفي التنزيل: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ «1» والمعنى: إذا أنساك الشيطان، فقعدت معهم ناسياً نَهْيَنَا لك، فلا تقعد بعد الذكرى. والذكر والذكرى: واحد. قال ابن عباس: قم إذا ذكرت والظّالمون: المشركون. [سورة الأنعام (6) : آية 69] وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (530) أحدها: أن المسلمين قالوا: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه

_ عزاه المصنف لابن عباس ولم أقف عليه وهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.

[سورة الأنعام (6) : آية 70]

فمنعناهم، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا أن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية. (531) والثاني: أن المسلمين قالوا: إنا نخاف الإثم إن لم ننههم عن الخوض، فنزلت هذه الآية. (532) والثالث: أن المسلمين قالوا: لو قمنا عنهم إذا خاضوا، فانا نخشى الإثم في مجالستهم، فنزلت هذه الآية. هذا عن مقاتل، والأولان عن ابن عباس. قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: يتقون الشرك. والثاني: يتقون الخوض. قوله تعالى: مِنْ حِسابِهِمْ يعني: حساب الخائضين. وفي «حسابهم» قولان: أحدهما: أنه كفرهم وآثامهم. والثاني: عقوبة خوضهم. قوله تعالى: وَلكِنْ ذِكْرى أي: ولكن عليكم أن تذكروهم، وفيما تذكرونهم به، قولان: أحدهما: المواعظ. والثاني: قيامكم عنهم. قال مقاتل: إذا قمتم عنهم، منعهم من الخوض الحياء منكم، والرغبة في مجالستكم. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: يتقون الاستهزاء. والثاني: يتقون الوعيد. فصل: وقد ذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة، لأنها اقتضت جواز مجالسة الخائضين والاقتصار على تذكيرهم، ثم نسخت بقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ «1» . والصحيح أنها محكمة، لأنها خبر، وإنما دلت على أن كل عبد يختص بحساب نفسه، ولا يلزمه حساب غيره. [سورة الأنعام (6) : آية 70] وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قوله تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فيهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار. والثاني: اليهود والنصارى. وفي اتخاذهم دينهم لعباً ولهواً، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه استهزاؤهم بآيات الله إذا سمعوها. والثاني: أنهم دانوا بما اشتَهوا، كما يلهون بما يشتهون. والثالث: أنهم يحافظون على دينهم إذا اشتَهوا، كما يلهون إذا اشتَهوا. قال الفراء: ويقال: إنه ليس من قوم إلا ولهم عيد، فهم يلهون في أعيادهم، إلّا أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، فان أعيادهم صلاة وتكبير وبرٌ وخير. فصل: ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، قولان: أحدهما: أنه خرج مخرج

_ ذكره البغوي في «تفسيره» 2/ 133 عن ابن عباس بدون إسناد ولم أقف على إسناده والظاهر أنه من رواية الكلبي أو الضحاك وكلاهما يروي عن ابن عباس تفسيرا واهيا. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 إلى 72]

التّهديد، كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1» . فعلى هذا هو محكم، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد. والثاني: أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف وإلى هذا ذهب قتادة، والسدي. قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أي: عظ بالقرآن. وفي قوله: أَنْ تُبْسَلَ قولان: أحدهما: لئلا تبسل نفس، كقوله تعالى: أَنْ تَضِلُّوا «2» . والثاني: ذكرّهم إبسال المبسلين بجناياتهم لعلَّهم يخافون. وفي معنى «تبسل» سبعة اقوال: أحدها: تُسْلَم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، والسدي. وقال ابن قتيبة: تُسْلَم إلى الهلكة. قال الشاعر: وإبسالي بَنّي بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْناه ولا بِدِمٍ مُرَاقِِ «3» أي: بغير جرم أجرمناه والبَعْوُ: الجناية. وقال الزجاج: تُسْلَمُ بعملها غير قادرة على التخلص. والمستبسل: المستسلم الذي لا يعلم أنه يقدر على التخلص. والثاني: تُفْضَح، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: تُدفع، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: تُهلَكُ، روي عن ابن عباس أيضاً. والخامس: تُحبس وتُؤخذ، قاله قتادة، وابن زيد. والسادس: تُجزى، قاله ابن السائب، والكسائي. والسابع: تُرتهن، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: تُرتهن وتسلم وأنشد: هُنَالِكَ لا أرْجُو حَياةً تَسُرُّنِي ... سَمِيْرَ اللَّيالي مُبْسَلاً بالجَرَائِر «4» سمير الليالي: أبَدَ الليالي. فأما الولي: فهو الناصر الذي يمنعها من عذاب الله. والعدل: الفداء. قال ابن زيد: وإن تفتد كلَّ فداء لا يقبل منها. فأما الحميم، فهو الماء الحار. قال ابن قتيبة: ومنه سمي الحمّام. [سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 72] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) قوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أنعبد ما لا يضرنا إن لم نعبده، ولا ينفعنا إن عبدناه، وهي الأصنام. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي: نرجع إلى الكفر بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى الإسلام، فنكون كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ. وقرأ حمزة: «استهواه الشياطين» ، على قياس قراءته: «توفاه رُسْلُنا» . وفي معنى «استهوائها» قولان: أحدهما: أنها هوت به وذهبت، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: تُشبَّه له الشياطين، فيتبعها حتى تهوي به في الأرض، فتضلّه. والثاني: زيَّنت له هواه، قاله الزجاج. قال: و «حيران» منصوب على الحال، أي: استهوته في حال حيرته. قال السّدّيّ: قال المشركون للمسلمين:

_ (1) سورة المدثر: 11. (2) سورة النساء: 176. (3) البيت لعوف بن الأحوص الكلابي «مجاز القرآن» 1/ 194 و «اللسان» بسل. (4) البيت للشنفرى وهو شاعر جاهلي من صعاليك العرب وفتاكهم «مجاز القرآن» 1/ 195، «اللسان» بسل. قوله: سمير الليالي ويروى «سجيس الليالي» . وهما بمعنى: ومعنى «مبسلا بالجرائر» : أنه أسلم إلى عدوه بما جنى عليهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 73]

اتَّبِعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فقال تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ فنكون كرجل كان مع قوم على طريق، فضلّ، فحيرته الشياطين، وأصحابه على الطريق يدعونه: يا فلان هلم إلينا، فانا على الطريق، فيأبى. (533) وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق، دعاه أبوه وأُمه إلى الإسلام فأبى. قال مقاتل: والمراد بأصحابه: أبواه «1» . قوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى هذا رد على من دعا إلى عبادة الأصنام، وزجرٌ عن إجابته، كأنه قيل له: لا تفعل ذلك، لأن هدى الله هو الهدى، لا هدى غيره. قوله تعالى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ قال الزجاج: العرب تقول: أمرتك أن تفعل، وأمرتك لتفعل، وأمرتك بأن تفعل. فمن قال: «بأن» فالباء للالصاق. والمعنى: وقع الأمر بهذا الفعل، ومن قال: «أن تفعل» فعلى حذف الباء ومن قال: «لتفعل» فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الامر. قال: وفي قوله: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وجهان: أحدهما: أُمرنا لأن نسلم، ولأن نقيم الصلاة. والثاني: أن يكون محمولاً على المعنى، لأن المعنى: أُمرنا بالإسلام، وبإقامة الصّلاة. [سورة الأنعام (6) : آية 73] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ فيه أربعة أقوال: أحدها: خلقهما للحق. والثاني: خلقهما حقاً. والثالث: خلقهما بكلامه وهو الحق. والرابع: خلقهما بالحكمة. قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قال الزجاج: الأجود أن يكون منصوباً على معنى: واذكر يوم يقول كن فيكون، لأن بعده وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ فالمعنى: واذكر هذا وهذا. وفي الذي يقول له كن فيكون، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم القيامة، قاله مقاتل. والثاني: ما يكون في القيامة. والثالث: أنه الصور، وما ذكر من أمر الصور يدل عليه، قالهما الزجاج. قال: وخُصَّ ذلك اليوم بسرعة إيجاد الشيء، ليدل على سرعة أمر البعث. قوله تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ أي: الصدق الكائن لا محالة وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ. وروى إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمرو «ننفخ» بنونين. ومعنى الكلام: أن الملوك يومئذ لا ملك لهم، فهو المنفرد بالملك وحده، كما قال: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «2» . وفي «الصور» قولان: أحدهما: أنه قرن ينفخ فيه.

_ باطل. عزاه المصنف لابن عباس، وهو من رواية أبي صالح كما في «تفسير القرطبي» 7/ 20 وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته الكلبي يضع الحديث، والمتن باطل.

(534) روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور، فقال: «هو قرن ينفخ فيه. وقال مجاهد: الصّور كهيئة البوق. وحكى ابن قتيبة: أن الصور: القرن، في لغة قوم من أهل اليمن، وأنشد: نحن نطحنا غَدَاةَ الجَمْعَيْن ... بالضَّابِحَاتِ في غُبارِ النَّقْعَيْن نَطْحاً شَدِيدَاً لا كَنَطْحِ الصّورَيْن «1» وأنشد الفراء: لَوْلاَ ابنُ جَعْدَةَ لَم يُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُم ... وَلاَ خُرَاسَانُ حتَّى يُنْفَخَ الصُّوْرُ «2» وهذا اختيارُ الجمهور. والثاني: أن الصور جمع صورة يقال: صورة وصور، بمنزلة سورة وسور، كسورة البناء والمراد نفخ الأرواح في صُوَرِ الناس، قاله قتادة، وأبو عبيدة. وكذلك قرأ الحسن، ومعاذ القارئ، وأبو مِجْلَز، وأبو المتوكل «في الصُّوَر» بفتح الواو. قال ثعلب: الأجود أن يكون الصور: القرن، لأنه قال عزّ وجلّ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ثم قال: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ولو كان الصُّوَر، كان: ثم نُفخ فيها، أو فيهن وهذا يدل على أنه واحد وظاهر القرآن يشهد أنه يُنفخ في الصُّور مرتين. (535) وقد روى أهل التفسير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصّور قرن ينفخ فيه

_ حسن صحيح. أخرجه أبو داود 4742 والترمذي 2430 و 3244 والنسائي في «الكبرى» 11312 و 11381 و 11456 وأحمد 2/ 162 و 192 والدارمي 2/ 325 وابن حبان 7312 والحاكم 2/ 436 و 506 و 4/ 560 وأبو نعيم في «الحلية» 7/ 243 والمزي في «تهذيب الكمال» 4/ 130 وابن المبارك في «الزهد» 1599. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الترمذي كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. هو بعض حديث الصور المطول. أخرجه الطبراني في «الطوال» 36، وأبو الشيخ في «العظمة» 388 و 389 و 390، والبيهقي في «البعث» 668 و 669، والطبري 2/ 330 و 331 و 17/ 110 و 24/ 30 و 61 و 30/ 26 و 31 و 32 وإسحاق بن راهويه كما في «المطالب العالية» 2991 من طرق عن إسماعيل بن رافع، وهو واه، فرواه تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة وتارة عن محمد بن يزيد ابن أبي زيادة عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع، ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد، وهو واه. جاء في الميزان 872: ضعفة أحمد ويحيى وجماعة، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر اهـ. باختصار. وقد اضطرب فيه كما سبق. وقد نص الحفاظ على وهن هذا الحديث بطوله فقال الحافظ في «المطالب العالية» 2991: فيه ضعف ا. هـ. وقال البوصيري، في 1/ 21: تابعيه مجهول. وجاء في الفتح

[سورة الأنعام (6) : آية 74]

ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع. والثانية: نفخة الصعق. والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين» . قال ابن عباس: وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي الأولى، يعني: نفخة الصعق. قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه، وَالشَّهادَةِ وهو ما شاهدوه ورأوه. وقال الحسن: يعني بذلك السر والعلانية. [سورة الأنعام (6) : آية 74] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ في «آزر» أربعة أقوال: أحدها: أنه أسم أبيه، روي عن ابن عباس، والحسن، والسدي، وابن إسحاق. والثاني: أنه اسم صنم، فأما اسم أبي إبراهيم، فتارح، قاله مجاهد. فيكون المعنى: أتتخذ آزر أصناماً؟ فكأنه جعل أصناماً بدلاً من آزر، والاستفهام معناه الإنكار. والثالث: أنه ليس باسم، إنما هو سبّ بعيب، وفي معناه قولان: أحدهما: أنه المعوَّج، كأنه عابه بزيغه وتعويجه عن الحق، ذكره الفراء. والثاني: أنه المخطئ، فكأنّه قال: يا مخطئ أتتخذ أصناماً؟ ذكره الزجاج. والرابع: أنه لقب لأبيه، وليس باسمه، قاله مقاتل بن حيان. قال ابن الانباري: قد يغلب على اسم الرجل لقبه، حتى يكون به أشهر منه باسمه. والجمهور على قراءة «آزر» بالنصب. وقرأ الحسن، ويعقوب بالرفع. قال الزجاج: من نصب، فموضع «آزر» خفضٌ بدلاً من أبيه ومن رفع فعلى النداء. [سورة الأنعام (6) : آية 75] وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ أي: وكما أريناه البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه، نريه مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقيل: «نري» بمعنى أرينا. قال الزجاج: والملكوت بمنزلة المُلك، إلا أن الملكوت أبلغ في اللغة، لأن الواو والتاء يزادان للمبالغة ومثل الملكوت: الرغبوت والرهبوت. قال مجاهد: ملكوت السماوات والأرض: آياتها تفرّجت له السماوات السبع، حتى العرشُ، فنظر فيهن، وتفرجت له الأرضون السبع، فنظر فيهن. وقال قتادة: ملكوت السّماوات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار. وقال السدي: أُقيم على صخرة، وفتحت له السماوات والأرض، فنظر إلى ملك الله عزّ وجلّ، حتى نظر إلى العرش، وإلى منزله من الجنّة، وفتحت

_ 11/ 368- 369 عقب حديث 6518 ما ملخصه: وأخرجه عبد بن حميد وأبي يعلى في «الكبير» وعلي بن معبد في «الطاعة والمعصية» ومداره على إسماعيل بن رافع، واضطرب في سنده مع ضعفه، وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في «تفسيره» عن محمد بن عجلان عن محمد القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع، وخفي عليه أن الشامي أضعف منه، ولعله سرقه من إسماعيل فلزقه بابن عجلان وقد قال الدارقطني: يضع الحديث. وقد قال الحافظ ابن كثير: جمعه إسماعيل بن رافع من عدة آثار فساقه كله مساقا واحدا ا. هـ. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو بكر بن العربي في «سراجه» وتبعه القرطبي في «التذكرة» وقول عبد الحق في تضعيفه أولى، وضعفه قبله البيهقي اهـ كلام الحافظ، وتكلم عليه أيضا ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية» 2/ 223 و 224. وخلاصة القول: أنه حديث ضعيف بهذا التمام، وبعض ألفاظه في الصحيحين وغيرهما وبعضه في الكتاب المعتبرة وبعضه الآخر منكر لا يتابع عليه انظر «تفسير ابن كثير» 2/ 190.

[سورة الأنعام (6) : آية 76]

له الأرضون السبع، حتى نظر إلى الصخرة التي عليها الأرضون. قوله تعالى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ هذا عطف على المعنى، لأن معنى الآية: نريه ملكوت السّماوات والأرض ليستدل به، وليكون من الموقنين. وفي ما يوقِن به ثلاثة أقوال: أحدها: وحدانية الله وقدرته. والثاني: نبوته ورسالته. والثالث: ليكون موقنا بعلم كل شيء حساً، لا خبراً. [سورة الأنعام (6) : آية 76] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قال الزجاج: يقال: جن عليه الليل، وأجنه الليل: إذا أظلم، حتى يستر بظلمته ويقال لكل ما ستر: جنّ، وأجنّ، والاختيار أن يقال: جنّ عليه الليل، وأجنه الليل. الإشارة إلى بذء قصة إبراهيم عليه السلام: روى أبو صالح عن ابن عباس قال: وُلد إبراهيم في زمن نُمروذ، وكان لنمروذ كُهَّان، فقالوا له: يولد في هذه السنة مولود يفسد آلهة أهل الأرض، ويدعوهم إلى غير دينهم، ويكون هلاك أهل بيتك على يديه، فعزل النساء عن الرجال، ودخل آزر إلى بيته، فوقع على زوجته، فحملت، فقال الكهان لنمروذ: إن الغلام قد حمل به الليلة. فقال: كل من ولدت غلاما فاقتلوه. فلما أخذ أُم إبراهيم المخاضُ، خرجت هاربة، فوضعته في نهر يابس، ولفّته في خرقة، ثم وضعته في حَلْفاء، وأخبرت به أباه، فأتاه، فحفر له سرباً، وسد عليه بصخرة، وكانت أُمه تختلف إليه فترضعه، حتى شب وتكلم، فقال لأُمه: من ربي؟ فقالت: أنا. قال: فمن ربكِ؟ قالت: أبوك. قال: فمن رب أبي؟ قالت: اسكت. فسكت، فرجعت إلى زوجها، فقالت: إن الغلام الذي كنا نتحدث أنه يغير دين أهل الأرض، ابنك. فأتاه، فقال له مثل ذلك. فلما جنَّ عليه الليل، دنا من باب السرب، فنظر فرأى كوكباً. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم «رأى» ، بفتح الراء والهمزة وقرأ أبو عمرو: «رَإى» بفتح الراء وكسر الهمزة، وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم. «رِإى» ، بكسر الراء والهمزة، واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن، وهو آت في ستة مواضع: رَأَى الْقَمَرَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ وفي النحل وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا «1» وفي الكهف: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ «2» ، وفي الأحزاب: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ «3» . وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة إلا العبسي، وخلف في اختياره: بكسر الراء وفتح الهمزة في الكل، وروى العبسي كسرة الهمزة أيضاً، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: وابن عامر، والكسائي: بفتح الراء والهمزة. فان اتصل ذلك بمكني، نحو: رآك، ورآه، ورآها فان حمزة، والكسائي، وخلف، والوليد عن ابن عامر، والمفضل، وأبان، والقزاز عن عبد الوارث، والكسائي عن أبي بكر: يكسرون الراء، ويميلون الهمزة. وفي الكوكب الذي رآه قولان: أحدهما: أنه الزهرة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: المشتري، قاله مجاهد، والسدي. قوله تعالى: قالَ هذا رَبِّي فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه على ظاهره. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قال هذا ربي، فعبده حتى

_ (1) سورة النحل: 85 و 86. (2) سورة الكهف: 53. (3) سورة الأحزاب: 22.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 77 إلى 78]

غاب، وعبد القمر حتى غاب، وعبد الشمس حتى غابت واحتج أرباب هذا القول بقوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي وهذا يدل على نوع تحيير، قالوا: وإنما قال هذا في حال طفولته على ما سبق إلى وهمه، قبل أن يثبت عنده دليل. وهذا القول لا يرتضى، والمتأهِلّون للنبوة محفوظون من مثل هذا على كل حال. فأما قوله: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي فما زال الأنبياء يسألون الهدى، ويتضرّعون في دفع الضّلال عنهم، كقولهم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «1» ، ولأنه قد آتاه رشده من قبل، وأراه ملكوت السّماوات والأرض ليكون موقناً، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التحيير؟! والثاني: أنه قال ذلك استدراجاً للحجة، ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها عند أفولها، ولا بد أن يضمر في نفسه: إما على زعمكم، أو فيما تظنون، فيكون كقوله: أَيْنَ شُرَكائِيَ «2» ، وإما أن يضمر: يقولون، فيكون كقوله تعالى: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «3» ، أي: يقولان ذلك، ذكر نحو هذا أبو بكر بن الانباري، ويكون مراده استدراج الحجة عليهم، كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون صنما، فأظهر تعظيمه، فأكرموه، وصدروا عن رأيه، فدهمهم عدو، فشاورهم ملِكهم، فقال: ندعو إلهنا ليكشف ما بنا، فاجتمعوا يدعونه، فلم ينفع، فقال: ها هنا إله ندعوه، فيستجيب، فدعَوُا الله، فصرف عنهم ما يحذرون، وأسلموا. والثالث: أنه قال مستفهما، تقديره: أهذا ربي؟ فأضمرت ألف الاستفهام، كقوله: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «4» ؟ أي: أفَهُمُ الخالدون؟ قال الشاعر: كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلام مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ «5» أراد: أكذبتك؟ قال ابن الأنباري: وهذا القول شاذ، لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان فارقاً بين الإخبار والاستخبار وظاهر قوله: هذا رَبِّي أنه إشارة إلى الصانع. وقال الزجاج: كانوا أصحاب نجوم، فقال: هذا ربي، أي هذا الذي يدبرني، فاحتج عليهم أن هذا الذي تزعمون أنه مدبر، لا نرى فيه إلّا مدَّبر. و «أفل» بمعنى: غاب يقال: أفل النجم يأفُل ويأفِل أفولاً. قوله تعالى: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي: حبَّ ربٍّ معبود، لأن ما ظهر وأفل كان حادثا مدبّرا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 77 الى 78] فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ قال ابن قتيبة: سمي القمر قمراً لبياضه والأقمر: الأبيض وليلة قمراء، أي: مضيئة. فأما البازغ، فهو الطالع. ومعنى لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي: لئن لم يثبِّتني على الهدى. فان قيل: لم قال في الشمس: هذا، ولم يقل: هذه؟ فعنه أربعة أجوبه: أحدها: أنه رأى ضوء الشمس، لا عينها، قاله محمد بن مقاتل. والثاني: أنه أراد: هذا الطالع ربي، قاله الأخفش. والثالث: أن الشمس بمعنى الضياء والنور، فحمل الكلام على المعنى. والرابع: أن الشمس ليس في لفظها علامة من علامات التأنيث، وإنما يشبه لفظها لفظ المذكَّر، فجاز تذكيرها. ذكره والذي قبله ابن الأنباري.

_ (1) سورة إبراهيم: 35. (2) سورة النحل: 27. (3) سورة البقرة: 127. [.....] (4) سورة الأنبياء: 34. (5) البيت للأخطل من قصيدة يهجو بها جريرا، ديوانه 41 و «اللسان» كذب.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 79 إلى 80]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 79 الى 80] إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ قال الزجاج: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين عزّ وجلّ. وباقي الآية قد تقدم. وقوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قال ابن عباس: جادلوه في آلهتهم، وخوَّفوه بها، فقال منكراً عليهم: أَتُحاجُّونِّي. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أَتُحاجُّونِّي وتَأْمُرُونِّي بتشديد النون. وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيفها، فحذفا النون الثانية لالتقاء النونين. ومعنى أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي: في توحيده. وَقَدْ هَدانِ، أي: بيَّن لي ما به اهتديت. وقرأ الكسائي: «هداني» ، بامالة الدال. والإمالة حسنة فيما كان أصله الياء، وهذا من هدى يَهدي. قوله تعالى: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي: لا أرهب آلهتكم، وذلك أنهم قالوا: نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء، فقال: لا أخافها لأنها لا تضر ولا تنفع إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً فله أخاف وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: عَلِمه علماً تاما. [سورة الأنعام (6) : الآيات 81 الى 82] وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) قوله تعالى: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ أي: من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخافون أنتم أنكم أشركتم بالله الذي خلقكم ورزقكم، وهو قادر على ضركم ونفعكم ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي: حجة فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي: بأن يأمن العذاب، الموحّدُ الذي يعبد من بيده الضر والنفع؟ أم المشرك الذي يعبد ما لا يضر ولا ينفع؟ ثم بين الأحق من هو بقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أي: لم يخلطوه بشرك. (536) روى البخاري، ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك؟ فقال: إنّما هو الشّرك، ألم تسمعوا ما قاله لقمان لابنه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» ؟

_ حديث صحيح. أخرجه البخاري 32 و 3428 و 3429 و 4776 و 6918 و 6937 ومسلم 124، والترمذي 3067 والنسائي في «الكبرى» 11390 والطيالسي 270 وأحمد 1/ 387 و 424 و 444، والطبري 13483 و 13484 و 13487. وابن حبان 253 وابن مندة في «الإيمان» 265 و 266 و 267 و 268 والبيهقي 10/ 185 من حديث ابن مسعود.

[سورة الأنعام (6) : آية 83]

وفيمن عني بهذه الآية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إبراهيم وأصحابه، وليست في هذه الأمة، قاله علي بن أبي طالب. وقال في رواية أخرى: هذه الآية لإبراهيم خاصة، ليس لهذه الأمة منها شيء. والثاني: أنه من هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة. والثالث: أنها عامة، ذكره بعض المفسرين. وهل هي من قول ابراهيم لقومه، أم جواب من الله تعالى؟ فيه قولان. [سورة الأنعام (6) : آية 83] وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا يعني ما جرى بينه وبين قومه من الاستدلال على حدوث الكوكب والقمر والشمس، وعيبهم، إذ سووا بين الصغير والكبير، وعبدوا من لا ينطق، وإلزامه إياهم الحجة. آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها بالإلهام. وقال مجاهد: الحجة قول ابراهيم: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ؟ قوله تعالى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عمرو وابن عامر: «درجاتِ من نشاء» ، مضافا. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ دَرَجاتٍ، منوّنا، وكذلك قرءوا في (يوسف) . ثم في المعنى قولان: أحدهما: أن الرفع بالعلم والفهم والمعرفة. والثاني: بالاصطفاء للرسالة. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ قال ابن جرير: حكيم في سياسة خلقه، وتلقينه أنبياءه الحج على أممهم المكذبة عَلِيمٌ بما يؤول إليه أمر الكلّ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 87] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولداً لصلبه وَيَعْقُوبَ ولدا لإسحاق كُلًّا من هؤلاء المذكورين هَدَيْنا أي: أرشدنا. قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ في «هاء الكناية» ، قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى نوح رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، ومقاتل، وابن جرير الطبري. والثاني: إلى إبراهيم، قاله عطاء. وقال الزجاج: كلا القولين جائز، لأن ذكرهما جميعاً قد جرى، واحتج ابن جرير للقول الأول بأن الله تعالى، ذكر في سياق الآيات لوطاً، وليس من ذرية إبراهيم، وأجاب عنه أبو سليمان الدمشقي بأنه يحتمل أن يكون أراد: ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة، ثم قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ من أبين دليل على انه إبراهيم، لأن افتتاح الكلام إنما هو بذكر ما أثاب به إبراهيم. فأما «يوسف» فهو اسم أعجمي. قال الفراء: «يوسف» . بضم السين من غير همز، لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: «يؤسف» ، بالهمز، وبعض العرب يقول: «يوسِف» بكسر السين، وبعض بني عُقيل يقول: «يوسَف» بفتح السين. قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه، بأن

[سورة الأنعام (6) : آية 88]

رفعنا درجته، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتقياء، كذلك نجزي المحسنين. فأما عيسى، وإلياس، واليسع، ولوطا، فأسماء أعجمية، وجمهور القرّاء يقرءون «اليسع» بلام واحدة مخففة، منهم ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو وابن عامر. وقرأ حمزة، والكسائيّ ها هنا وفي (ص) «إلِلْيَسَّعَ» بلامين مع التشديد. قال الفراء: وهي أشبه بالصواب، وبأسماء الأنبياء من بني إسرائيل، ولأن العرب لا تدخل على «يَفْعَل» ، إذا كان في معنى فلان، ألفاً ولاماً، يقولون: هذا يسع قد جاء، وهذا يعمر، وهذا يزيد، فهكذا الفصيح من الكلام. وأنشدني بعضهم. وَجَدْنا الوَلِيْد بنَ اليَزْيِد مباركاً ... شَدِيْداً بأحْناءِ الخِلافَةِ كاهِلُه «1» فلما ذكر الوليد بالألف واللام، أتبعه يزيد بالألف واللام، وكلٌ صواب. وقال مكي: من قرأه بلام واحدة، فالأصل عنده: يسع، ومن قرأه بلامين، فالأصل عنده: لَيْسَعُ، فأدخلوا عليه حرف التعريف. وباقي أسماء الأنبياء قد تقدم بيانها، والمراد بالعالمين: عالمو زمانهم. قوله تعالى: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ «من» ها هنا للتبعيض. قال الزجاج: المعنى: هدينا هؤلاء، وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم. وَاجْتَبَيْناهُمْ مثل اخترناهم واصطفيناهم، وهو مأخوذ من جبيت الشيء: إذا أخلصته لنفسك. وجبيت الماء في الحوض: إذا جمعته فيه. فأمّا الصّراط المستقيم، فهو التّوحيد. [سورة الأنعام (6) : آية 88] ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) قوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ قال ابن عباس: ذلك دين الله الذي هم عليه يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَلَوْ أَشْرَكُوا يعني الأنبياء المذكورين لَحَبِطَ أي: لبطل وزال عملهم، لأنه لا يقبل عمل مشرك. [سورة الأنعام (6) : آية 89] أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني الكتاب التي أنزلها عليهم. والحكم: الفقه والعلم فَإِنْ يَكْفُرْ بِها يعني بآياتنا. وفيمن أُشير إليه ب «هؤلاء» ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم أهل مكة، قاله ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة. والثاني: أنهم قريش، قاله السدي. والثالث: أمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن.

_ (1) البيت منسوب لابن ميادة الرماح بن أبرد، معاني القرآن 1/ 342. وأحناء: جمع الحنو هو الجهة والجانب. الكاهل اسم لما بين الكتفين ويعبر بشدة الكاهل عن القوة. (2) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 261: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: عني بقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ، كفار قريش فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرا عنهم أولى وأحق من أن يكون خبرا عن غيرهم. فتأويل الكلام إذا كان ذلك كذلك، فإن كفر قومك من قريش، يا محمد بآياتنا، وكذبوا وجحدوا حقيقتها فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رسلنا وأنبياءنا من قبلك الذين لا يجحدون حقيقتها ولا يكذبون بها ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها. ا. هـ.

[سورة الأنعام (6) : آية 90]

قوله تعالى: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قال أبو عبيدة: فقد رزقناها قوماً. وقال الزجاج: وكلنا بالإيمان بها قوماً. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم أهل المدينة من الأنصار، قاله ابن عباس، وابن المسيب، وقتادة، والسدي. والثاني: الأنبياء والصالحون، قاله الحسن. وقال قتادة: هم النبيُّون الثمانية عشر، المذكورون في هذا المكان، وهذا اختيار الزجاج، وابن جرير. والثالث: أنهم الملائكة، قاله أبو رجاء. والرابع: أنهم المهاجرون والأنصار. [سورة الأنعام (6) : آية 90] أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يعني النبيين المذكورين. وفي قوله تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قولان: أحدهما: بشرائعهم وبسننهم فاعملْ، قاله ابن السائب. والثاني: اقتدِ بهم في صبرهم، قاله الزجاج. وكان ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، يثبتون الهاء من قوله: «اقتده» في الوصل ساكنة. وكان حمزة، والكسائيّ وخلف، ويعقوب، والكسائي عن أبي بكر، واليزيدي في اختياره، يحذفون الهاء في الوصل. ولا خلاف في إثباتها في الوقف، وإسكانها فيه. قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً يعني على القرآن. والذكرى: العظة. والعالمون ها هنا: الجنّ والإنس. [سورة الأنعام (6) : آية 91] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ في سبب نزولها سبعة أقوال «1» :

_ (1) قال الطبري في تفسيره 5/ 264: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال، عني بقوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مشركو قريش، وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا، فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا مع ماضي الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتاب، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود: الإقرار بصحف إبراهيم وموسى، وزبور داود وإذا لم يأت بما روى من الخبر بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبر صحيح متصل السند، ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع، وكان الخبر من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة الأوثان، وكان قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ موصولا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولكني أظن أن الذين تأولوا ذلك خبرا عن اليهود، وجدوا قوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ فوجهوا تأويل ذلك إلى أن لأهل التوراة فقرأوه على وجه الخطاب لهم تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ فجعلوا ابتداء الآية خبرا عنهم إذا كانت خاتمتها خطابا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل، لما وصفت قبل من أن قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل فالأولى أن يكون ذلك خبرا عنهم. والأصوب من القراءة، في قوله: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً منها. أن يكون بالياء لا بالتاء، على معنى: أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، ويكون الخطاب بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ لمشركي قريش، وهذا هو المعنى الذي قصده كمجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك، وكذلك كان يقرأ. اهـ.

(537) أحدها: أن مالك بن الصيف رأس اليهود، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين» ؟ قال: نعم. قال: «فأنت الحبر السمين» . فغضب، ثم قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال سعيد بن جبير، وعكرمة: نزلت في مالك بن الصيف. (538) والثاني: أن اليهود قالوا: يا محمد، أنزل الله عليك كتاباً؟ قال: «نعم» . قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فنزلت هذه الآية، رواه الوالبي عن ابن عباس. (539) والثالث: أن اليهود قالوا: يا محمد، إن موسى جاء بألواح يحملها من عند الله، فائتنا بآية كما جاء موسى، فنزل: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ، إلى قوله: عَظِيماً «1» . فلما حدَّثهم بأعمالهم الخبيثة، قالوا: والله ما أنزل الله عليك ولا على موسى وعيسى، ولا على بشر، من شيء، فنزلت هذه الآية، قاله محمد بن كعب. والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، آتاهم الله علما، فلم ينتفعوا به، قاله قتادة. (540) والخامس: أنها نزلت في فنحاص اليهودي، وهو الذي قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قاله السدي. (541) والسادس: أنها نزلت في مشركي قريش، قالوا: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسابع: أن أولها، إلى قوله: مِنْ شَيْءٍ في مشركي قريش. وقوله تعالى: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى في اليهود، رواه ابن كثير عن مجاهد. وفي معنى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: ما عظَّموا الله حق عظمته، قاله ابن

_ ضعيف. أخرجه الطبري 13539 من رواية جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير مرسلا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 440 عن سعيد بن جبير بدون إسناد. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وهي رواية واهية فيه انقطاع بين علي الوالبي وابن عباس. - أخرجه الطبري 13544 من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 438 من رواية الوالبي عن ابن عباس. مرسل. أخرجه الطبري 13542 عن محمد بن كعب القرظي مرسلا والمرسل من قسم الضعيف. مرسل. أخرجه الطبري 13541 عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. الخلاصة هذه الروايات وإن كانت ضعيفة أو مرسلة لكنها تتأكد بمجموعها ومع ذلك اختار ابن جرير القول الآتي، انظر التعليق على ذلك. مرسل أخرجه الطبري 13547 عن مجاهد مرسلا والمرسل من قسم الضعيف.

[سورة الأنعام (6) : آية 92]

عباس، والحسن، والفراء، وثعلب، والزجاج. والثاني: ما وصفوه حقّ صفته، قاله أبو العالية، واختاره الخليل. والثالث: ما عرفوه حق معرفته، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: «يجعلونه قراطيس» معناه: يكتبونه في قراطيس. وقيل: إنما قال: قراطيس، لأنهم كانوا يكتبونه في قراطيس مقطَّعة، حتى لا تكون مجموعة، ليخفوا منها ما شاؤوا. قوله تعالى: «يبدونها» قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يجعلونه قراطيس يبدونها» و «يخفون» بالياء فيهن. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالتاء فيهن. فمن قرأ بالياء، فلأن القوم غُيّب، بدليل قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. ومن قرأ بالتاء، فعلى الخطاب والمعنى: تبدون منها ما تحبون، وتخفون كثيراً، مثل صفة محمّد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم، ونحو ذلك مما كتموه. قوله تعالى: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ في المخاطب بهذا قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله الجمهور. والثاني: أنه خطاب للمسلمين، قاله مجاهد. فعلى الأول: عُلِّموا ما في التوراة وعلى الثاني: عُلِّموا على لسان محمّد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ هذا جواب لقوله: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ وتقديره: فإن أجابوك، وإلا فقل: الله أنزله. قوله تعالى: ثُمَّ ذَرْهُمْ تهديد. وخوضهم: باطلهم. وقيل: إن هذا أمر بالإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف. [سورة الأنعام (6) : آية 92] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) قوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ يعني القرآن. قال الزجاج: والمبارك: الذي يأتي من قِبَله الخير الكثير. والمعنى: أنزلناه للبركة والإنذار. قوله تعالى: مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتاب. قوله تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى قرأ عاصم إلا حفصا: «ولينذر» بالياء فيكون الكتاب هو المنذر. وقرأ الباقون: بالتاء، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. فأما أم القرى، فهي مكة. قال الزجاج: والمعنى: لتنذر أهل أم القرى. وفي تسميتها بأم القرى أربعة أقوال: أحدها: أنها سميت بذلك، لأن الأرض دُحيت من تحتها، قاله ابن عباس. والثاني: لأنها أقدمُها، قاله ابن قتيبة. والثالث: لأنها قبلة جميع الناس، يَؤُمُّونها. والرابع: لأنها كانت أعظم القرى شأناً، ذكرهما الزجاج. قوله تعالى: وَمَنْ حَوْلَها قال ابن عباس: يريد الأرض كلها. قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن. والثاني: إلى النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: من آمن بالآخرة آمن به ومن لم يؤمن به، فليس إيمانه بالآخرة حقيقة، ولا يعتد به، ألا ترى إلى قوله: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فدل على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصّلوات.

[سورة الأنعام (6) : آية 93]

[سورة الأنعام (6) : آية 93] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أن أولها، إلى قوله: وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ نزل في مُسيلمة الكذاب. وقوله تعالى: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (542) نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان قد تكلم بالإسلام، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين فاذا أُملي عليه: «عزيز حكيم» كتب: «غفور رحيم» فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا وذاك سواء. فلما نزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: خَلْقاً آخَرَ عجب عبد الله بن سعد، فقال: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذا أنزلت عليَّ، فاكتبها» فشك حينئذ، وقال: لئن كان محمد صادقاً، لقد أوحي إليَّ كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً، لقد قلت كما قال، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال عكرمة: ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة. والقول الثاني: أن جميع الآية في عبد الله بن سعد، قاله السّدّيّ.

_ عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 442 عن ابن عباس من رواية الكلبي معلقا والكلبي متروك متهم. وأخرجه الطبري 13559 من مرسل عكرمة. وكرره 13560 من مرسل السدي، وأخرجه الحاكم 3/ 45 والواحدي في «أسباب النزول» 442 من مرسل شرحبيل بن سعد. فالحديث بهذه الطرق مع اختلاف مخارجها. والله أعلم- ربما يتقوى ولكن لا تبلغ درجة ما يحتج به. انظر «تفسير الشوكاني» 912، و «تفسير القرطبي» 2929 بتخريجنا.

[سورة الأنعام (6) : آية 94]

(543) والثالث: أنها نزلت في مسيلمة، والأسود العنْسيّ، قاله قتادة. فان قيل: كيف أفرد قوله: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ من قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى وذاك مفترٍ أيضا؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الوصفين لرجل واحد، وصف بأمر بعد أمر ليدل على جرأته. والثاني: أنه خص بقوله: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ بعد أن عم بقوله: افْتَرى عَلَى اللَّهِ لأنه ليس كل مفترٍ على الله يدعي أنه أوحي إليه، ذكرهما ابن الأنباري. قوله تعالى: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي: سأقول. قال ابن عباس: يعنون الشّعر، وهم المستهزئون. وقيل: هو قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح. قال الزجاج: وهذا جواب لقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا. قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فيهم ثلاثة أقوال: (544) أحدها: أنهم قوم كانوا مسلمين بمكة، فأخرجهم الكفار معهم إلى قتال بدر، فلما أبصروا قلّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا عن الإيمان فنزل فيهم هذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم الذين قالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قاله أبو سليمان. والثالث: الموصوفون في هذه الآية، وهم المفترون والمدَّعون الوحي إليهم، ومماثلة كلام الله. قال الزجاج: وجواب «لو» محذوف، والمعنى: لو تراهم في غمرات الموت لرأيت عذاباً عظيماً. ويقال لكل من كان في شيء كبير: قد غمر فلاناً ذلك. قال ابن عباس: غمرات الموت: سكراته. قال ابن الانباري: قال اللغويون: سميت غمرات لأن أهوالها يغمرن من يقعن به. قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بالضرب، قاله ابن عباس. والثاني: بالعذاب، قاله الحسن، والضحاك. والثالث: باسطوها لقبض الأرواح من الأجساد، قاله الفراء. وفي الوقت الذي يكون هذا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عند الموت. قال ابن عباس: هذا عند الموت، الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وملك الموت يتوفاهم. والثاني: يوم القيامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: في النار، قاله الحسن. قوله تعالى: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ فيه إضمار «يقولون» وفي معناه قولان: أحدهما: استسلموا لإخراج أنفسكم. والثاني: أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم. قوله تعالى: تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ قال أبو عبيدة: الهون: مضموم، وهو الهوان وإذا فتحوا أوله، فهو الرِّفق والدَّعة. قال الزجاج: والمعنى: تجزَون العذاب الذي يقع به الهوان الشّديد. [سورة الأنعام (6) : آية 94] وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبري 13561 عن قتادة مرسلا فهو ضعيف والمتن منكر، فالسورة مكية، وخبر مسيلمة مدني. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة لأن مدارها على الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.

[سورة الأنعام (6) : آية 95]

قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى. (545) سبب نزولها: أن النضر بن الحارث قال: سوف تشفع لي اللاَّت والعزى، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. ومعنى فرادى: وُحداناً. وهذا إخبار من الله تعالى بما يوبِّخ به المشركين يوم القيامة. قال أبو عبيدة: فرادى، أي: فرد فرد. وقال ابن قتيبة: فرادى: جمع فرد. وللمفسرين في معنى «فرادى» خمسة اقوال متقاربة المعنى: أحدها: فرادى من الأهل والمال والولد، قاله ابن عباس. والثاني: كل واحد على حدة، قاله الحسن. والثالث: ليس معكم من الدنيا شيء، قاله مقاتل. والرابع: كل واحد منفرد عن شريكه في الغيّ، وشقيقه، قاله الزجاج. والخامس: فرادى من المعبودين، قاله ابن كيسان. قوله تعالى: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه ثلاثة اقوال: أحدها: لا مال ولا أهل ولا ولد. والثاني: حفاةً عراةً غرلاً. والغرل: القلف. والثالث: أحياءً. وخولناكم: بمعنى ملّكناكم. وَراءَ ظُهُورِكُمْ أي: في الدنيا. والمعنى أن ما دأبتم في تحصيله في الدنيا فني، وبقي الندم على سوء الاختيار. وفي شفعائهم، قولان: أحدهما: أنها الأصنام. قال ابن عباس: شفعاؤكم، أي: آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم. وزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ أي: عندكم شركاء. وقال ابن قتيبة: زعمتم أنهم لي في خلقكم شركاء. والثاني: أنها الملائكة كانوا يعتقدون شفاعتها، قاله مقاتل. قوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: بالرفع. وقرأ نافع، والكسائي، وحفص عن عاصم: بنصب النون على الظرف. قال الزجاج: الرفع أجود، ومعناه: لقد تقطَّع وصلكم، والنصب جائز ومعناه: لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم. وقال ابن الانباري: التقدير: لقد تقطع ما بينكم، فحذف «ما» لوضوح معناها. قال أبو علي: الذين رفعوه، جعلوه اسماً، فأسندوا الفعل الذي هو «تقطَّع» إليه والمعنى: لقد تقطع وصلكم. والذين نصبوا، أضمروا اسم الفاعل في الفعل، والمضمر هو الوصل فالتقدير: لقد تقطع وصلكم بينكم. وفي الذي كانوا يزعمون قولان: أحدهما: شفاعة آلهتهم. والثاني: عدم البعث والجزاء. [سورة الأنعام (6) : آية 95] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى في معنى الفلق قولان: أحدهما: أنه بمعنى الخلق، فالمعنى: خالق الحب والنوى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل. والثاني: أن الفلق بمعنى الشق. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنه الشقان اللَّذان في الحب والنوى، قاله مجاهد، وأبو مالك. قال ابن السائب: الحب: ما لم يكن له نوى، كالبرّ

_ ضعيف أخرجه الطبري 13577 عن عكرمة مرسلا فهو ضعيف. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» 478 عن عكرمة مرسلا.

[سورة الأنعام (6) : آية 96]

والشعير والنوى: مثل نوى التمر. قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قد سبق تفسيره في (آل عمران) . قوله تعالى: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: كيف تُصرفون عن الحقّ بعد هذا البيان. [سورة الأنعام (6) : آية 96] فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ في معنى الفلق قولان قد سبقا. فأما الإصباح، فقال الأخفش: هو مصدر من أصبح. وقال الزجاج: الإصباح والصبح واحد. وللمفسرين في الإصباح، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه إضاءة الفجر، قاله مجاهد. وقال ابن زيد: فلق الإصباح من الليل. والثالث: أنه نوَّر النهار، قاله الضحاك. وقرأ أنس بن مالك، والحسن، وأبو مجلز، وأيوب، والجحدري: «فالق الأَصباح» بفتح الهمزة. قال أبو عبيدة: ومعناه جمع صبح. قوله تعالى: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «جاعل» بألف، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «وجعل» بغير ألف. «الليلَ» نصباً. قال أبو عليّ: من قرأ: «وجاعل» فلأجل «فالق» وهم يراعون المشاكلة. ومن قرأ: «جعل» فلأنّ «فاعلا» ها هنا. بمعنى: «فعل» بدليل قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً. فأما السكن، فهو ما سكنْتَ إليه. والمعنى: أن الناس يسكنون فيه سكون راحة. وفي الحسبان قولان: أحدهما: أنه الحساب، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة: يقال: خذ من كل شيء بحسبانه، أي: بحسابه. وفي المراد بهذا الحساب، ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يجريان إلى أجل جُعل لهما، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: يجريان في منازلهما بحساب، ويرجعان إلى زيادة ونقصان، قاله السدي. والثالث: أن جريانهما سبب لمعرفة حساب الشهور، والأعوام، قاله مقاتل. والقول الثاني: أن معنى الحسبان: الضياء، قاله قتادة. قال الماوردي: كأنه أخذه من قوله تعالى: وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ «1» أي: ناراً. قال ابن جرير: وليس هذا من ذاك في شيء. [سورة الأنعام (6) : آية 97] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ جعل، بمعنى خلق. وإنما امتنَّ عليهم بالنجوم، لأن سالكي القفار وراكبي البحار، إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها. [سورة الأنعام (6) : آية 98] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم فَمُسْتَقَرٌّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، إلا رُويساً: بكسر القاف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بفتحها. قال الزجاج: من كسر، فالمعنى: «فمنكم مستقِر» ومن نصب، فالمعنى: «فلكم مستقَرّ» . فأما مستودع،

_ (1) سورة الكهف: 40.

[سورة الأنعام (6) : آية 99]

فبالفتح، لا غير. ومعناه على فتح القاف: «ولكم مستودع» وعلى كسرها «ومنكم مستودع» . وللمفسّرين في معنى المستقر والمستودع تسعة أقوال «1» : أحدها: فمستقر في الأرحام، ومستودع في الأصلاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، والنخعي، وقتادة، والسدي، وابن زيد. والثاني: المستقر في الأرحام، والمستودع في القبر، قاله ابن مسعود. والثالث: المستقر في الأرض، والمستودع في الأصلاب، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والرابع: المستقر والمستودع في الرحم، رواه قابوس عن أبيه عن ابن عباس. والخامس: المستقر حيث يأوي، والمستودع حيث يموت، رواه مقسم عن ابن عباس. والسادس: المستقر في الدنيا والمستودع في القبر. والسابع: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وهو عكس الذي قبله، رويا عن الحسن. والثامن: المستقر في الدنيا، والمستودع عند الله تعالى، قاله مجاهد. والتاسع: المستقر في الأصلاب، والمستودع في الأرحام، قاله ابن بحر، وهو عكس الأول. [سورة الأنعام (6) : آية 99] وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ أي: بالمطر. وفي قوله تعالى: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ قولان: أحدهما: نبات كل شيء من الثمار، لأن كل ما ينبت، فنباته بالماء. والثاني: رزق كل شيء وغذاؤه. وفي قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ قولان: أحدهما: من الماء، أي: به. والثاني: من النبات. قال الزجاج: الخَضِر بمعنى الأخضر يقال: اخضرَّ، فهو أخْضر، وخَضِر، مثل أعوَّر، فهو أعْوَر، وعَوِر. قوله تعالى: نُخْرِجُ مِنْهُ أي: من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً كالسنبل والشعير. والمتراكب: الذي بعضه فوق بعض. قوله تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وروى الخفّاف عن أبي عمرو: «قُنوان» بضم القاف وروى هارون عنه بفتحها. قال الفراء: معناه: ومن النخل ما قنوانه دانية وأهل الحجاز يقولون: «قِنوان» بكسر القاف وقيس يضمّونها وضبّة، وتميم يقولون: «قنيان» أنشدني المفضّل عنهم:

_ (1) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 202: «فمستقر» أي في الأرحام و «مستودع» أي في الأصلاب وهذا القول هو الأظهر والله أعلم ا. هـ. وقال الطبري في «تفسيره» 5/ 286: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه عمّ بقوله: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ كل خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة، فمستقرا ومستودعا ولم يخص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أن في بني آدام مستقرا في الرحم، ومستودعا في الصلب، ومنهم من هو مستقر على ظهر الأرض أو بطنها، ومستودع في أصلاب الرجال، ومنهم مستقر في القبر، مستودع على ظهر الأرض. فكلّ «مستقر» أو «مستودع» . بمعنى من هذه المعاني، فداخل في عموم قوله فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ومراد به، إلا أن يأتي خبر يجب التسليم له بأنه معنى به معنى دون معنى، وخاص دون عام. ا. هـ.

فأثَّتْ أعَالِيْهِ وآدَتْ أصُوْلُه ... وَمَالَ بِقِنْيانٍ من البُسْرِ أحْمَرَا «1» ويجتمعون جميعاً، فيقولون: «قِنو» و «قُنو» ولا يقولون: «قِني» ولا «قُني» وكلب تقول: «ومال بقنيان» . قلت: هذا البيت لامرئ القيس رواه أبو سعيد السكري: «ومال بِقِنوان» مكسورة القاف مع الواو، ففيه أربع لغات: قِنوان، وقُنوان، وقنيان، وقنيان و «أثّت» : كثرت ومنه: شعر أثيث. و «آدت» : اشتدت. وقال ابن قتيبة: القنوان: عذوق النخل، واحدها: قنو، جمع على لفظ تثنية ومثله: صنو وصنوان في التثنية، وصنوان في الجميع. وقال الزجاج: قِنوان: جمع قِنو، وإذا ثنيته فهما قِنوان، بكسر النون. ودانية، أي: قريبة المتناول، ولم يقل: «ومنها قنوان بعيدة» لأن في الكلام دليلاً أن البعيدة السحيقة قد كانت غير سحيقة، فاجتزئ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» . وقال ابن عباس: القُنوان الدانية: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض. قوله تعالى: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ قال الزجاج: هو نسق على قوله: «خضراً» وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ المعنى: وأخرجنا منه شجر الزيتون والرمان وقد روى أبو زيد عن المفضّل: «وجنات» بالرفع. قوله تعالى: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مشتبها في المنظر وغير متشابه في الطعم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: مشتبهاً ورقه، مختلفاً ثمره، قاله قتادة، وهو في معنى الأول. والثالث: منه ما يشبه بعضه بعضاً، ومنه ما يخالف. قال الزجاج: وإنما قرن الزيتون بالرمان، لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره. قال الشاعر. بُورِكَ الميّت الغَريبُ كما بو ... رِكَ نَضْحُ الرُّمَّانِ والزَّيْتُونِ «3» ومعناه: أن البركة في ورقه اشتمالُه على عوده كلِّه. قوله تعالى: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ، وكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ، ولِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ: بالفتح في ذلك. وقرأ حمزة. والكسائي، وخلف: بالضّمّ فيهنّ. قال الزّجّاج: يقال: ثمرة، ثمر، وثِمَار، وثُمُر فمن قرأ: «إلى ثُمُره» بالضم أراد جمع الجمع. وقال أبو علي: يحتمل وجهين: أحدهما: هذا، وهو أن يكون الثمر جمع ثمار، والثاني: أن تكون الثمر جمع ثمرة، وكذلك: أكمة، وأُكُم، وخشبة وخُشُب. قال الفراء: يقول: انظروا إليه أول ما يَعْقِد، وانظروا إلى ينعه، وهو نضجه وبلوغه. وأهل الحجاز يقولون: يَنْعَ، بفتح الياء، وبعض أهل نجد يضمونها. قال ابن قتيبة: يقال: ينَعت الثّمر، وأينعت: إذا أدركت، وهو اليُنْع واليَنْع. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، والأعمش، وابن محصن: «ويُنعِه» بضم الياء. قال الزجاج: الينع: النُضج. قال الشاعر:

_ (1) البيت لامرئ القيس. ديوانه 67. «اللسان» قنا. وقوله: أثت أعاليه: عظمت والتفت من ثقل حملها. وقوله: آدت أي تثنت ومالت. (2) سورة النحل: 81. (3) البيت منسوب إلى أبي طالب بن عبد المطلب «اللسان» نضح.

[سورة الأنعام (6) : آية 100]

في قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعا «1» وبيَّن الله تعالى لهم بتصريف ما خلق، ونقله من حال إلى حال لا يقدر عليه الخلق، أنه كذلك يبعثهم. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس: يصدِّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى. وقال مقاتل: يصدّقون بالتّوحيد. [سورة الأنعام (6) : آية 100] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ جعلوا، بمعنى وصفوا. قال الزجاج: نصبُ «الجن» من وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولاً، فيكون المعنى: وجعلوا لله الجنَ شركاء ويكون الجن مفعولاً ثانيا، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «2» . والثاني: أن يكون الجن بدلاً من شركاء، ومفسراً للشركاء. وقرأ ابو المتوكل، وأبو عمران، وأبو حياة، والجحدري: «شركاء الجنُ» برفع النون وقرأ ابن عبلة، ومعاذ القارئ: «الجنِّ» بخفض النون. وفي معنى جعلهم الجن شركاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان، فجعلوهم شركاء لله، قاله الحسن، والزجاج. والثاني: قالوا: إن الملائكة بنات الله فهم شركاؤه، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً فسمى الملائكة جنَّاً لاجتنانهم، قاله قتادة والسدي، وابن زيد. والثالث: أن الزنادقة قالوا: الله خالق النور والماء والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب، وفيهم نزلت هذه الآية. قاله ابن السائب «3» . قوله تعالى: وَخَلَقَهُمْ في الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الجاعلين له الشركاء، فيكون المعنى: وجعلوا للذي خلقهم شركاء لا يخلقون. والثاني: أنها ترجع إلى الجن، فيكون المعنى: والله خلق الجن، فكيف يكون الشريك لله مُحدِثا؟ ذكرهما الزجاج. قوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ وقرأ نافع: «وخرّقوا» بالتشديد، للمبالغة والتكثير، لأن المشركين ادَّعوا الملائكةَ بناتِ الله، والنصارى المسيحَ. واليهود عزيراً. وقرأ ابن عباس، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «وحرّفوا» بحاء غير معجمة وبتشديد الراء وبالفاء. وقرأ ابن السّميفع، والجحدريّ: «وخارقوا» بألف وخاء معجمة قال السدي: أما «البنون» ، فقول اليهود، عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، وأما «البنات» فقول مشركي العرب: الملائكة بناتُ الله. قال الفراء: خرّقوا، واخترقوا، وخلقوا، واختلقوا، بمعنى افتروا. وقال أبو عبيدة: خرقوا: جعلوا. قال الزّجّاج: ومعنى:

_ (1) البيت منسوب إما للأحوص أو إلى يزيد بن معاوية. وهو في «اللسان» دسكر و «مجاز القرآن» 1/ 202. الدسكرة: بناء كالقصر. كانت الأعاجم تتخذه للشرب والملاهي. [.....] (2) سورة الصافات: 158. (3) عزاه المصنف للكلبي، وهو ساقط العدالة، يضع الحديث، فخبره لا شيء. - وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 443 عن الكلبي بدون إسناد.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 101 إلى 102]

«بغير علم» أنهم لم يذكروه من علم، إنما ذكروه تكذّبا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 101 الى 102] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ قال الزجاج: أي: من أين يكون له ولد، والولد لا يكون إلا من صاحبة؟! واحتج عليهم في نفي الولد بقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فليس مثل خالق الأشياء، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟! فاذا نُسب إليه الولد، فقد جعُل له مثل. [سورة الأنعام (6) : آية 103] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ في الإدراك قولان «1» : أحدهما: أنه بمعنى الإحاطة. والثاني: بمعنى الرؤية. وفي «الأبصار» قولان: أحدهما: أنها العيون، قاله الجمهور. والثاني: أنها العقول، رواه عبد الرّحمن بن مهدي عن أبي حصين القارئ. ففي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: لا تحيط به الأبصار، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء. وقال الزجاج: معنى الآية: الإحاطة بحقيقته، وليس فيها دفع للرؤية، لِما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرؤية، وهذا مذهب أهل السُنَّة والعلم والحديث. والثاني: لا تدركه الأبصار إذا تجلَّى بنوره الذي هو نوره، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: لا تدركه الأبصار في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال

_ (1) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 204- 205- 206. الآية لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ. فيه أقوال للأئمة من السلف أحدها: لا تدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد كما قال مسروق، عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب. فإن الله يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ. وقد خالفهما ابن عباس فعنه إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين. وقال آخرون: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ: أي جميعها، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة. وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الآية: أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، أما الكتاب فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وقال تعالى عن الكافرين كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. قال الإمام الشافعي: فدلّ هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى وأما السنة فقد تواترت الأخبار أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات، وفي روضات الجنان. جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين. وقيل: المراد بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي العقول وهذا غريب جدا. وخلاف ظاهر الآية، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية والله أعلم. وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أحصن من الرؤية، ولا يلزم نفي الأحصن انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي، ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته. فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى. وقال آخرون: المراد بالإدراك الإحاطة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم. قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً. ونفي هذا الإدراك الخاص، لا ينفي الرؤية يوم القيامة، يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه- تعالى وتقدس وتنزه- فلا تدركه الأبصار ا. هـ.

[سورة الأنعام (6) : آية 104]

الحسن، ومقاتل، ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا، قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» فقيَّد النظر إليه بالقيامة، وأطلق في هذه الآية، والمطلق يحمل على المقيد. وقوله تعالى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ فيه القولان: قال الزجاج: وفي هذا الإعلام دليل على أنَّ خَلْقَه لا يدركون الأبصار، أي: لا يعرفون حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه، دون أن يبصر من غيرهما من أعضائه فأعلم الله أن خلقاً من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه، ولا يحيطون بعلمه فكيف به عزّ وجلّ؟! فأما «اللطيف» ، فقال أبو سليمان الخطابي: هو البرّ بعباده، الذي يلطف لهم من حيث لا يعلمون، ويسبِّب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون. قال ابن الاعرابي: اللطيف: الذي يوصل إليك أرَبَك في رِفق ومنه قولهم: لطف الله بك ويقال: هو الذي لَطُفَ عن أن يُدرَك بالكيفية. وقد يكون اللطف بمعنى الدقة والغموض، ويكون بمعنى الصغر في نعوت الأجسام، وذلك مما لا يليق بصفات الباري سبحانه. وقال الأزهري: اللطيف من أسماء الله، معناه: الرفيق بعباده والخبير: العالم بكنه الشيء، المطّلع على حقيقته. [سورة الأنعام (6) : آية 104] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصائر: جمع بصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به. قال الزجاج: والمعنى: قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ نفع ذلك وَمَنْ عَمِيَ فعلى نفسه ضرر ذلك، لأن الله عزّ وجلّ غني عن خلقه. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ والوكيل، وهذا قبل الأمر بالقتال. (فصل:) وذكر المفسرون أن هذه الآية نسخت بآية السيف. وقال بعضهم: معناها: لست رقيباً عليكم، أحصي أعمالكم فعلى هذا لا وجه للنّسخ. [سورة الأنعام (6) : آية 105] وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ قال الأخفش: وَكَذلِكَ معناها: وهكذا. وقال الزجاج: المعنى: وَمِثْلُ ما بيَّنَّا فيما تُلي عليك، نُبيِّن الآيات، قال ابن عباس: نصرِّف الآيات، أي نبيِّنها في كل وجه، ندعوهم بها مرَّة، ونخوفهم بها أُخرى. وَلِيَقُولُوا يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن «دارست» . قال ابن الانباري: معنى الآية: وكذلك نصرف الآيات، لنلزمهم الحجة، وليقولوا: دارست وإنما صرّف الآيات ليسعد قوم بفهمها والعمل بها، ويشقى آخرون بالإعراض عنها فمن عمل بها سعد، ومن قال: دارست، شقي. قال الزجاج: وهذه اللام في «ليقولوا» يسميها أهل اللغة لام الصيرورة. والمعنى: أن السّبب الذي أدّاهم إلى أن يقولوا: دارست!، هو تلاوة الآيات، وهذا كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «2» وهم لم يطلبوا بأخذه أن يعاديهم، ولكن كان عاقبة الأمر أن صار لهم عدواً وحزناً. ومثله أن تقول: كتب فلان الكتاب لحتفه، فهو لم يقصد أن يُهلك نفسه بالكتاب. ولكن العاقبة كانت الهلاك. فأما «دارست» فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «دارست»

_ (1) سورة القيامة: 22- 23. (2) سورة القصص: 8.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 106 إلى 107]

بالألف وسكون السين وفتح التاء ومعناها: ذاكرت أهل الكتاب. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «درست» بسكون السين وفتح التاء، من غير ألف، على معنى: قرأت كتب أهل الكتاب. قال المفسرون: معناها: تعلمت من جبر، ويسار. وسنبين هذا في قوله: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «1» إن شاء الله. وقرأ ابن عامر، ويعقوب: «درست» بفتح الراء والسين وسكون التاء من غير ألف. والمعنى: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد درست. أي: قد مضت وامّحت. وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته. وقد روي عن نافع أنه قال: «دُرِسَت» برفع الدال وكسر الراء وتخفيف التاء، وهي قراءة ابن يعمر ومعناها قُرئت. وقرأ أبي بن كعب: «دَرُسَتْ» بفتح الدال والسين وضم الراء وتسكين التاء. قال الزجاج: وهي بمعنى: «دَرَسَتْ» أي: امّحت إلا أن المضمومة الراء أشدّ مبالغة. وقرأ معاذ القارئ، وأبو العالية، ومورِّق: «دُرِّسْتَ» برفع الدال، وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرّف: «دَرَسَ» بفتح الراء والسين بلا ألف ولا تاء. وروى عصمة عن الأعمش: «دارس» بألف. قوله تعالى: وَلِنُبَيِّنَهُ يعني: التصريف لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما تبين لهم من الحق فيقبلوه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 106 الى 107] اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قال المفسرون: نسخ بآية السيف. قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا فيه ثلاثة اقوال حكاها الزجاج: أحدها: لو شاء لجعلهم مؤمنين. والثاني: لو شاء لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان. والثالث: لو شاء لا ستأصلهم، فقطع سبب شركهم. قال ابن عباس: وباقي الآية نسخ بآية السيف. [سورة الأنعام (6) : آية 108] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في سبب نزولها قولان: (546) أحدهما: أنه لما قال للمشركين: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «2» قالوا: لتنتهينَّ يا محمد عن سبِّ آلهتنا وعيبها، أو لنهجونَّ إلهك الذي تعبده، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

_ ضعيف. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس. وأخرجه الطبري 13742 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وفيه إرسال بينهما وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 444 من رواية الوالبي عن ابن عباس.

[سورة الأنعام (6) : آية 109]

(547) والثاني: أن المسلمين كانوا يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوماً جهلة لا علم لهم بالله، قاله قتادة. ومعنى «يدعون» : يعبدون، وهي الأصنام. فَيَسُبُّوا اللَّهَ أي: فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك إلى الله تعالى، لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى، لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم، وإن أشركوا به. وقوله تعالى: عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ، أي: ظلماً بالجهل. وقرأ يعقوب: «عُدُوّاً» ، بضم العين والدال وتشديد الواو. والعرب تقول في الظلم: عدا فلان عَدْواً وعُدُوّاً وعُدواناً. وعدا، أي: ظلم. قوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أي: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام، وطاعة الشيطان، كذلك زينا لكل جماعة اجتمعت على حق أو باطل عملهم من خير أو شر. قال المفسرون: وهذه الآية نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف. [سورة الأنعام (6) : آية 109] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ في سبب نزولها قولان: (548) أحدهما: أنه لما نزل في (الشعراء) : إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً «1» قال المشركون: أنزلها علينا حتى والله نؤمن بها فقال المسلمون: يا رسول الله، أنزلها عليهم لكي يؤمنوا فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس. (549) والثاني: أن قريشاً قالوا: يا محمد، تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، فينفجر منها اثنتا عشرة عيناً، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا بمثل هذه الآيات حتى نصدَّقك: فقال: «أي شيء تحبون؟» قالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهباً. قال: «فان فعلت تصدقوني؟» فقالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتّبعنّك أجمعين. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل فقال: إن شئت أصبح الصّفا ذهبا، ولكني لم أرسل آية فلم يصدَّق بها، إلا أنزلت العذاب، وإن شئت تركتُهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتركهم حتى يتوب تائبهم» ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: يَجْهَلُونَ، هذا قول محمد بن كعب القرظي. وقد ذكرنا معنى جَهْدَ أَيْمانِهِمْ في (المائدة) وإنما حلفوا على ما اقترحوا من الآيات،

_ ضعيف. أخرجه الطبري 13743 عن قتادة مرسلا فهو ضعيف، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 445 عن قتادة مرسلا. موضوع. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، ورواية أبي صالح هو الكلبي وكلاهما روى عن ابن عباس تفسير موضوعا. ضعيف. أخرجه الطبري 13750 والواحدي 447 عن محمد بن كعب القرظي مرسلا ومع إرساله في إسناده أبو معشر نجيح السندي، وهو ضعيف فالخبر واه. وورد عن الكلبي، وهو لا شيء لأنه متروك متهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 110]

كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «1» . قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من خلقه وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها أي: يدريكم أنها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وخلف في اختياره: بكسر الألف، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله «يشعركم» للمشركين، ويكون تمام الكلام عند قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ ويكون المعنى: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون «إنها» مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم. وقال أبو علي: التقدير: وما يشعركم إيمانهم؟ فحذف المفعولُ. والمعنى: لو جاءت الآية التي اقترحوها، لم يؤمنوا. فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: «وما يشعركم إنها» فقلت: ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع إنما قال: وَما يُشْعِرُكُمْ ثم ابتدأ فأوجب، فقال: «إنها إذا جاءت لا يؤمنون» ولو قال: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ كان ذلك عذراً لهم. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي: «أنها» بفتح الألف فعلى هذا، المخاطب بقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وفي قراءة أُبي: «لعلها إذا جاءت لا يؤمنون» . والعرب تجعل «أن» بمعنى «لعل» . يقولون: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً، أي: لعلك. قال عدي بن زيد: أعَاذِلُ ما يُدْرِيْكِ أنَّ مَنِيَّتي ... إلى سَاعَةٍ في اليَوْمِ أو في ضُحَى غَدِ أي: لعل منيتي. وإلى هذا المعنى ذهب الخليل، والفراء في توجيه هذه القراءة. والثاني: أن المعنى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون، وتكون «لا» صلة كقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «2» وقوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «3» ، ذكره الفراء ورده الزجاج واختار الأول. والأكثرون على قراءة: «يؤمنون» بالياء منهم ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم وقرأ ابن عامر، وحمزة: بالتاء، على الخطاب للمشركين. قال أبو علي: من قرأ بالياء، فلأنَّ الذين أقسموا غُيَّبٌ، ومن قرأ بالتاء، فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب. [سورة الأنعام (6) : آية 110] وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ التقليب: تحويل الشيء عن وجهه. وفي معنى الكلام، أربعة أقوال: أحدها: لو أتيناهم بآية كما سألوا، لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها، وحُلْنا بينهم وبين الهدى، فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها، عقوبة لهم على ذلك. وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد. والثاني: أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرجوع إلى الدنيا فالمعنى: لو رُدُّوا لحُلْنا بينهم وبين الهدى كما حُلْنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا، روى هذا المعنى ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: ونقلّب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان بالآيات كما لم يؤمن أوائلهم

_ (1) سورة الإسراء: 90. (2) سورة الأعراف: 12. (3) سورة الأنبياء: 95.

[سورة الأنعام (6) : آية 111]

من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات، قاله مقاتل. والرابع: أن ذلك التقليب في النار، عقوبة لهم، ذكره الماوردي. وفي هاء «به» أربعة أقوال. أحدها: أنها كناية عن القرآن. والثاني: عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والثالث: عما ظهر من الآيات. والرابع: عن التقليب. وفي المراد ب «أول مرة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن المرة الأولى: دار الدنيا. والثاني: أنها معجزات الأنبياء قبل محمّد عليه السلام. والثالث: أنها صرف قلوبهم عن الإيمان قبل نزول الآيات أن لو نزلت والطغيان والعمه مذكوران في (البقرة) . [سورة الأنعام (6) : آية 111] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ. (550) سبب نزولها: أن المستهزئين أتوا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة، فقالوا له: ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحق ما تقول، أم باطل؟ أو أرنا الملائكة يشهدون لك أنك رسول الله، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الآية: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ كما سألوا وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى فشهدوا لك بالنبوة وَحَشَرْنا أي: جمعنا: عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ في الدنيا قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، فأخبر أن وقوع الإيمان بمشيئته، لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا لم يؤمنوا. فأمّا قوله تعالى: «قِبَلاً» ، فقرأ ابن عامر، ونافع: بكسر القاف وفتح الباء. قال ابن قتيبة: معناها: معاينة. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة والكسائي: «قُبُلا» بضم القاف والباء. وفي معناها، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جمع قبيل، وهو الصِّنْف فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلاً قبيلاً، قاله مجاهد، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: أنه جمع قبيل أيضاً، إلا أنه: الكفيل فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء، فكَفَلَ بصحة ما تقول، اختاره الفراء، وعليه اعتراض، وهو أن يقال: إذا لم يؤمنوا بانزال الملائكة، وتكليم الموتى، فَلأَنْ لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول، أولى. فالجواب: أنه لو كَفَلَت الأشياء المحشورة، فنطق ما لم ينطق، كان ذلك آية بينة. والثالث: أنه بمعنى المقابل، فيكون المعنى: وحشرنا عليهم كل شيء، فقابلهم، قاله ابن زيد. قال أبو زيد: يقال: لقيت فلاناً قِبَلاً وقَبَلاً وقُبُلاً وقبيلا وقبليّا ومقابلة، وكله واحد، وهو المواجهة. قال أبو علي: فالمعنى في القرآن- على ما قاله أبو زيد- واحد، وإن اختلفت الألفاظ. قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ فيه قولان: أحدهما: يجهلون أن الاشياء لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى. والثاني: أنهم يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا.

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا، راجع ترجمتهما في «الميزان» .

[سورة الأنعام (6) : آية 112]

[سورة الأنعام (6) : آية 112] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي: وكما جعلنا لك ولأُمتك شياطين الإنس والجن أعداءً، كذلك جعلنا لمن تقدَّمك من الأنبياء وأُممهم والمعنى: كما ابتليناك بالأعداء، ابتلينا مَنْ قبلك، ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى. قال الزّجّاج: «عدوّ» : في معنى أعداء، و «شياطين الإنس والجن» : منصوب على البدل من «عدو» ، ومفسر له ويجوز أن يكون: «عدواً» منصوب على أنه مفعول ثان، المعنى: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداءً لأُممهم «1» . وفي شياطين الإنس والجن ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مردة الإنس والجن، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أن شياطين الإنس: الذين مع الإنس، وشياطين الجن: الذين مع الجن، قاله عكرمة، والسدي. والثالث: أن شياطين الإنس والجن: كفارهم، قاله مجاهد. قوله تعالى: يُوحِي أصل الوحي: الإعلام والدلالة بِسَتر وإخفاء. وفي المراد به ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: يأمر. والثاني: يوسوس. والثالث: يشير. وأما زُخْرُفَ الْقَوْلِ، فهو ما زُيِّن منه، وحُسِّن، ومُوِّه، وأصل الزخرف: الذهب. قال أبو عبيدة: كل شيء حسَّنته وزيَّنتَه وهو باطل، فهو زخرف. وقال الزجاج: «الزخرف» في اللغة: الزينة فالمعنى: أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة و «غروراً» منصوب على المصدر وهذا المصدر محمول على المعنى، لأن معنى إيحاء الزخرف من القول: معنى الغرور، فكأنه قال: يَغرُّون غُروراً. وقال ابن عباس: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً: الأمانيُّ بالباطل. قال مقاتل: وَكّلَ إبليسُ بالإنس شياطين يُضِلُّونَهم، فاذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن قال أحدهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضللْ أنت صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحي بعضهم إلى بعض. وقال غيره: إن المؤمن إذا أعيا شيطانه، ذهب إلى متمرد من الإنس، وهو شيطان الإنس، فأغراه بالمؤمن ليفتنه. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين. وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد عليَّ من شيطان الجن، لأنّي كإذا تعوَّذت من ذاك ذهب عني، وهذا يجرني إلى المعاصي عِياناً. قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الوسوسة. والثاني: ترجع إلى الكفر. والثالث: إلى الغرور، وأذى النبيّين. قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ قال مقاتل: يريد كفار مكة وما يفترون من الكذب. وقال غيره: فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم، وما يختلقون من كذب، وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف.

_ (1) قال الحافظ ابن كثير «تفسيره» 2/ 211 الآية شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: الشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء قبحهم الله ولعنهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 113]

[سورة الأنعام (6) : آية 113] وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) قوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أي: ولتميل والهاء: كناية عن الزخرف والغرور. والأفئدة: جمع فؤاد، مثل غراب وأغربة. قال ابن الأنباري: فعلنا بهم ذلك لكي تصغى إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، «وليرضوا» الباطل، وَلِيَقْتَرِفُوا أي: ليكتسبوا، وليعملوا ما هم عاملون. [سورة الأنعام (6) : آية 114] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً. (551) سبب نزولها: أن مشركي قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حَكَمَاً إن شئت من أحبار اليهود، وإن شئت من أحبار النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي. فأما الحَكَمُ، فهو بمعنى الحاكم والمعنى: أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم؟! والْكِتابَ: القرآن، و «المفصل» : المبين الذي بان فيه الحق من الباطل، والأمر من النهي، والحلال من الحرام. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فيهم قولان: أحدهما: علماء أهل الكتابين، قاله الجمهور. والثاني: رؤساء أصحاب النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلم، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأشباههم، قاله عطاء. قوله تعالى: يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ قرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: «منزّل» بالتشديد وخفّفها الباقون. [سورة الأنعام (6) : آية 115] وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع: «كلمات» على الجمع وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، «كلمة» على التوحيد وقد ذكرت العرب الكلمة، وأرادت الكثرة يقولون: قال قُسّ في كلمته، أي: في خطبته، وزهير في كلمته، أي: في قصيدته. وفي المراد بهذه الكلمات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها القرآن، قاله قتادة. والثاني: أقضيتُه وعداته. والثالث: وعده ووعيده وثوابه وعقابه. وفي قوله تعالى: صِدْقاً وَعَدْلًا قولان: أحدهما: صدقاً فيما أخبر، وعدلاً فيما قضى وقدَّر. والثاني: صدقاً فيما وعد وأوعد، وعدلاً فيما أمر ونهى. وفي قوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ قولان: أحدهما: لا يقدر المفترون على الزيادة فيها والنقصان منها. والثاني: لا خُلف لمواعيده، ولا مغير لحكمه. [سورة الأنعام (6) : آية 116] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) قوله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ.

_ لم أقف عليه، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد. وذكره الماوردي في «تفسيره» 2/ 160 بدون سند ولا عزو لقائل.

[سورة الأنعام (6) : آية 117]

(552) سبب نزولها: أن الكفار قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل ربُّكم؟ فنزلت هذه الآية، ذكره الفراء. والمراد ب أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ: الكفار، وفي ماذا يطيعهم فيه أربعة أقوال: أحدها: في أكل الميتة. والثاني: في أكل ما ذبحوا للأصنام. والثالث: في عبادة الأوثان. والرابع: في اتباع ملل الآباء. وسَبِيلِ اللَّهِ: دينه. قال ابن قتيبة: ومعنى يَخْرُصُونَ: يحدسون ويوقعون ومنه قيل للحازر: خارص. فان قيل: كيف يجوز تعذيب من هو على ظنٍ من شركه، وليس على يقينٍ من كفره! فالجواب: انهم لما تركوا التماس الحجة، واتبعوا أهواءهم، واقتصروا على الظن والجهل، عُذِّبوا، ذكره الزّجّاج. [سورة الأنعام (6) : آية 117] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ قال الزجاج: موضع «مَنْ» رفع بالابتداء، ولفظها لفظ الاستفهام والمعنى: إن ربك هو أعلم أيُّ الناس يَضل عن سبيله. وقرأ الحسن: «من يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد، وهي رواية ابن أبي شريح. قال أبو سليمان: ومقصود الآية: لا تلتفت إلى قسم من أقسم أنه يؤمن عند مجيء الآيات، فلن يؤمن إلا من سبق له القدر بالإيمان. [سورة الأنعام (6) : آية 118] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

_ حديث قوي. ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة. فقد أخرجه أبو داود 1818 وابن ماجة 3173 والحاكم 4/ 113 و 231 والطبري 13813 و 13826 والبيهقي 9/ 241 من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس: إن المشركين قالوا للمسلمين ... الحديث. وهذا إسناد، رجاله ثقات، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة، وقد صحح الحافظ ابن كثير هذا الإسناد، وكدا صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وورد من وجه آخر نحوه، أخرجه النسائي في «التفسير» 191 والطبري 13815 عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس، وإسناده غير قوي لأجل هارون بن عنترة. وله شاهد من مرسل الحضرمي، أخرجه الطبري 13818 ومن مرسل الضحاك 13820 لكن في الطريق جويبر بن سعيد، وهو متروك ولكن توبع جويبر برقم 13828. وله شاهد من مرسل مجاهد 13821 و 13822 ومن مرسل قتادة 13823 و 13825 من مرسل السدي. وله شاهد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 13817 لكن فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح من هذا الوجه. وورد بذكر اليهود بدل المشركين، أخرجه الترمذي 3069 من طريق زياد بن عبد الله البكائي عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وإسناده ضعيف لضعف عطاء بن السائب، فإنه اختلط، وزياد لين الحديث وقد اضطرب عطاء فيه فقد أخرجه أبو داود 2819 والطبراني 13829 والطبري 12295، والبيهقي 9/ 240 كلهم عن عمران بن عيينة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «جاءت اليهود ... وذكر اليهود فيه نظر من وجوه ثلاثة. أحدها: أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا. الثاني: أن الآية مكية. الثالث: اضطراب الروايات عن ابن السائب. الخلاصة: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر ضعيف، وكون الذين جادلوا هم اليهود، ضعيف منكر والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» 861 و «فتح القدير» 932 بتخريجنا.

[سورة الأنعام (6) : آية 119]

(553) سبب نزولها: أن الله تعالى لما حرم الميتة، قال المشركون للمؤمنين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم، يريدون الميتة، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. [سورة الأنعام (6) : آية 119] وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) قوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا قال الزجاج: المعنى: وأي شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا؟ وموضع «أن» نصب، لأن «في» سقطت، فوصل المعنى إلى «أن» فنصبها. قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «فصَّل لكم ما حرم عليكم» مرفوعتان وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، ويعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: «فَصَّل» بفتح الفاء، «ما حَرَّم» بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «فَصَّل» بفتح الفاء، «ما حُرِّم» بضم الحاء. قال الزجاج: أي: فُصِّل لكم الحلال من الحرام، وأُحل لكم في الاضطرار ما حُرِّم. وقال سعيد بن جبير: فُصِّل لكم ما حُرِّم عليكم، يعني: ما بُيِّن في (المائدة) من الميتة، والدم، إلى آخر الآية. «وإن كثيراً ليضَلون بأهوائهم» يعني: مشركي العرب يَضلون في أمر الذبائح وغيره، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «ليضلون» ، وفي (يونس) : «ربنا ليَضِلوا» وفي (ابراهيم) : «أنداداً ليَضلوا» وفي (الحج) : «ثاني عطفه ليَضل» وفي (لقمان) : «ليَضل عن سبيل الله بغير علم» وفي (الزمر) : «أنداداً ليَضل» ، بفتح الياء في هذه المواضع الستة وضمهن عاصم وحمزة، والكسائي. وقرأ نافع، وابن عامر: «ليَضَلون بأهوائهم» . وفي (يونس) «ليَضلوا» بالفتح وضما الأربعة الباقية. فمن فتح، أراد: أنهم هم الذين ضلوا ومن ضم، أراد: أنهم أضلوا غيرهم، وذلك أبلغ في الضلال، لأن كل مضلّ ضالّ؟ وليس كلّ ضال مضلّا. [سورة الأنعام (6) : آية 120] وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) قوله تعالى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ، في الإثم ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الزنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس فعلى هذا، في ظاهره وباطنه قولان: أحدهما: أن ظاهره: الإعلان به، وباطنه: الاستسرار به، قاله الضحاك، والسدي. قال الضحاك: وكانوا يرون الاستسرار بالزنا حلالاً. والثاني: أن ظاهره نكاح المحرمات، كالأُمهات، والبنات، وما نكح الآباء. وباطنه: الزنا، قاله سعيد بن جبير. والثاني: أنه عام في كل إثم. والمعنى: ذروا المعاصي، سرَّها وعلانيتها وهذا مذهب أبي العالية، ومجاهد، وقتادة، والزجاج. وقال ابن الأنباري: المعنى: ذروا الإثم من جميع جهاته. والثالث: أن الإثم: المعصية، إلّا أنّ المراد به ها هنا أمر خاصّ. قال ابن زيد: ظاهره ها هنا: نزع أثوابهم، إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة، وباطنه: الزّنا.

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهذه الرواية واهية، لكن المتن محفوظ، انظر ما قبله.

[سورة الأنعام (6) : آية 121]

[سورة الأنعام (6) : آية 121] وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ سبب نزولها مجادلة المشركين للمؤمنين في قولهم: أتأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله! على ما ذكرنا في سبب قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا قول ابن عباس. (554) وقال عكرمة: كتبت فارس إلى قريش: إن محمداً وأصحابه لا يأكلون ما ذبحه الله، ويأكلون ما ذبحوا لأنفسهم فكتب المشركون إلى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فوقع في أنفس ناسٍ من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت هذه الآية. وفي المراد بما لم يذكر اسم الله عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه الميتة، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنه الميتة والمنخنقة، إلى قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، روي عن ابن عباس. والثالث: أنها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها، قاله عطاء. والرابع: أنه عام فيما لم يسمَّ الله عند ذبحه وإلى هذا المعنى ذهب عبد الله بن يزيد الخطمي، ومحمد بن سيرين. (فصل:) فان تعمَّد ترك التسمية، فهل يباح؟ فيه عن أحمد روايتان «1» . وإن تركها ناسياً أُبيحت. وقال الشافعي: لا يحرم في الحالين جميعاً. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: فاذا قلنا: إن ترك التسمية عمداً يمنع الإباحة، فقد نُسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ «2» . وعلى قول الشافعي: الآية محكمة. قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يعني: وإنَّ أكلَ ما لم يُذكر عليه اسم الله لفسق، أي: خروج عن الحقّ والدّين. وفي المراد بالشياطين ها هنا قولان: أحدهما: أنهم شياطين الجن، روي عن ابن عباس الثاني: قوم من أهل فارس، وقد ذكرناه عن عكرمة. فعلى الأولى: وحيهم الوسوسة، وعلى الثاني: وحيهم الرسالة. والمراد ب «أوليائهم» الكفار الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك أكل الميتة «3» . ثم

_ ضعيف منكر. أخرجه الطبري 13809 عن عكرمة مرسلا فهو ضعيف، وكرره 13810 عن عكرمة بنحوه مرسلا أيضا، وذكره «فارس» منكر، وتقدم الراجح.

[سورة الأنعام (6) : آية 122]

فيهم قولان: أحدهما: أنهم مشركو قريش. والثاني: اليهود وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. [سورة الأنعام (6) : آية 122] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال: (555) أحدها: أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث، وحمزة لم يؤمن بَعْدُ، فأُخبر حمزةُ بما فعل أبو جهل، فأقبل حتى علا أبا جهل بالقوس، فقال له: أما ترى ما جاء به؟ سفَّه عقولنا، وسبَّ آلهتنا، فقال حمزة: ومن أسفهُ منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله؟! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. (556) والثاني: أنَّها نزلت في عمَّار بن ياسر، وأبي جهل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. (557) والثالث: في عمر بن الخطاب، وأبي جهل، قاله زيد بن أسلم، والضّحّاك. والرابع: في النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي جهل، قاله مقاتل. والخامس: أنها عامة في كل مؤمن وكافر، قاله الحسن في آخرين. وفي قوله تعالى: كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ قولان: أحدهما: كان ضلا فهديناه، قاله مجاهد. والثاني: كان جاهلاً، فعلَّمناه، قاله الماوردي. وقرأ نافع: «ميّتاً» بالتشديد قال أبو عبيدة: الميتة،

_ لم أره مسندا. وذكره الواحدي في أسباب النزول 450 بدون إسناد عن ابن عباس فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد، والصحيح عموم الآية. واه. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة. وأخرجه الطبري 13842 عن عكرمة مرسلا، فهو ضعيف وفيه انقطاع وكرره 13841 عن عكرمة بنحوه مرسلا وفيه راو لم يسم. والصحيح عموم الآية، ولا يصح تخصيصها بروايات واهية. ضعيف. أخرجه الطبري 13840 عن الضحاك مرسلا، فهو ضعيف. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 451 عن زيد بن أسلم مرسلا، ومع إرساله فيه مبشر بن عبيد وهو ممن يضع الحديث.

[سورة الأنعام (6) : آية 123]

مخففة: من ميّتة، والمعنى واحد. وفي «النور» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الهدى، قاله ابن عباس. والثاني: القرآن، قاله الحسن. والثالث: العلم. وفي قوله تعالى: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ثلاثة أقوال: أحدها: يهتدي به في الناس، قاله مقاتل. والثاني: يمشي به بين الناس إلى الجنة. والثالث: ينشر به دينه في الناس، فيصير كالماشي! ذكرهما الماوردي. قوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ المثل: صلة والمعنى: كمن هو في الظلمات. وقيل: المعنى: كمن لو شُبّه بشيء كان شبيهُه من في الظلمات. وقيل: المراد بالظّلمات ها هنا: الكفر. قوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ أي: كما بقي هذا في ظلماته لا يتخلص منها، كذلك زين لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الشّرك والمعاصي. [سورة الأنعام (6) : آية 123] وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ: أي: وكما زينا للكافرين عملهم، فكذلك جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها، وقيل معناه: وكما جعلنا فُسَّاق مكة أكابرها، فكذلك جعلنا فُسَّاق كل قرية أكابرها. وإنما جعل الأكابر فُسَّاقَ كلِّ قرية، لأنهم أقرب إلى الكفر بما أعطوا من الرياسة والسعة. وقال ابن قتيبة: تقدير الآية: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر و «أكابر» لا ينصرف، وهم العظماء. قوله تعالى: لِيَمْكُرُوا فِيها قال أبو عبيدة: المكر: الخديعة، والحيلة، والفجور، والغدر، والخلاف. قال ابن عباس: ليقولوا فيها الكذب. قال مجاهد: أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعةً، ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم، يقولون للناس: هذا شاعر، وكاهن. قوله تعالى: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ أي: ذلك المكر بهم يحيق. [سورة الأنعام (6) : آية 124] وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) قوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ. (558) سبب نزولها: أن أبا جهل قال: زاحمتنا بنو عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كَفَرَسَيْ رِهَان، قالوا: منَّا نبيٌ يوحى إليه. والله لا نؤمن به ولا نَتَّبعِهُ أو أن يأتيَنَا وحي كما يأتيه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قال الزجاج: الهاء والميم تعود على الأكابر الذين جرى ذكرهم. وقال أبو سليمان: تعود على المجادلين في تحريم الميتة، قال مقاتل: والآية: انشقاق القمر، والدخان، قال ابن عباس في قوله تعالى: مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قال: حتى يوحى إلينا، ويأتينا جبريل، فيخبرنا أن محمداً صادق. قال

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الحديث، كذبه غير واحد. وأصل الحديث له شواهد واهية، دون ذكر نزول الآية.

[سورة الأنعام (6) : آية 125]

الضحاك: سأل كل واحد منهم أن يختص بالرسالة والوحي. قوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالاته» وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: «رسالتَه» بنصب التاء على التوحيد والمعنى: أنهم ليسوا لها بأهل، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النبوة حقاً لكنتُ أولى بها منك، لأني أكبرُ منك سناً، وأكثرُ منك مالاً، فنزل قوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالاته» . وقال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل مبعثهم مطاعين في قومهم، لأن الطعن كان يتوجه عليهم، فيقال: إنما كانوا رؤساء فاتُّبِعوا، فكان الله أعلم حيث جعل الرسالة ليتيم أبي طالب، دون أبي جهل والوليد، وأكابر مكة. قوله تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ قال أبو عبيدة: الصَّغَار: أشد الذل. وقال الزجاج: المعنى: هم، وإن كانوا أكابر في الدّنيا، فسيصيبهم صغار عند الله، أي: صغار ثابت لهم عند الله. وجائز أن يكون المعنى: سيصيبهم عند الله صغار، وقال الفراء: معناه: صغار من عند الله، فحذفت «مِنْ» . وقال ابو رَوقْ: صغار في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة. [سورة الأنعام (6) : آية 125] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ قال مقاتل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل. قوله تعالى: يَشْرَحْ صَدْرَهُ قال ابن الاعرابي: الشرح: الفتح. قال ابن قتيبة: ومنه يقال: شرحتُ لك الأمر، وشرحتُ اللحم: إذا فتحتَه. وقال ابن عباس: «يشرحْ صدره» أي: يوسعْ قلبه للتوحيد والإيمان. (559) وقد روى ابن مسعود أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فقيل له: يا رسول الله، وما هذا الشرح؟ قال: «نور يقذفه الله في القلب، فينفتح القلب» . قالوا: فهل لذلك من أمارة؟ قال: «نعم» . قيل: وما هي؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» . قوله تعالى: ضَيِّقاً قرأ الأكثرون بالتشديد. وقرأ ابن كثير: «ضيقا» ، وفي (الفرقان) :

_ متن باطل بأسانيد واهية. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 852 والطبري 13856 و 13857 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 1/ 257 عن أبي جعفر المدائني مرسلا. ومع إرساله أبي جعفر المدائني ذكره الذهبي في «الميزان» 4608 وقال: قال أحمد وغيره: أحاديثه موضوعة. وورد من حديث ابن مسعود عند الحاكم 4/ 311 والبيهقي في الشعب 10552 وإسناده ضعيف لضعف عدي بن الفضل، وقد سكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: ابن الفضل ساقط اهـ. وفيه المسعودي اختلط بأخرة. وأخرجه الطبري 13859 عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، وإسناده منقطع، وفيه سعيد بن عبد الملك الحراني، وهو متروك روى أحاديث كذب. وكرره الطبري 13861 عن عبد الرحمن- هو المسعودي- عن ابن مسعود، وهذا معضل بينهما. فهذه روايات واهية ليست بشيء، والأشبه كونه من كلام أبي جعفر المدائني، حيث رواه الطبري عنه من طرق. انظر «تفسير الشوكاني» 940 بتخريجنا.

[سورة الأنعام (6) : آية 126]

«ضَيْقاً» «1» بتسكين الياء خفيفة. قال أبو علي: الضَّيِّق، والضَّيْق: مثل الميّت، والميْت. قوله تعالى: حَرَجاً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: حَرَجاً بفتح الراء. وقرأ نافع، وابو بكر عن عاصم: بكسر الراء، قال الفراء: وهما لغتان. وكذلك قال يونس بن حبيب النحوي: هما لغتان، إلا أن الفتح أكثر على ألسنة العرب من الكسر، ومجراهما مجرى الدَّنَفِ والدَّنِفَ. وقال الزجاج: الحرج في اللغة: أضيق الضّيق. قوله تعالى: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «يصَّعد» بتشديد الصاد والعين وفتح الصاد من غير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «يصّاعد» بتشديد الصاد وبعدها ألف. وقرأ ابن كثير: «يَصْعَد» بتخفيف الصاد والعين من غير ألف والصاد ساكنة، وقرأ ابن مسعود، وطلحة: «تصْعَدُ» بتاء من غير ألف. وقرأ أُبيُّ بن كعب: «يتصاعد» بألف وتاء. قال الزّجّاج: قوله تعالى: «كأنما يصّاعد في السماء» و «يصَّعَّد» ، أصله: «يتصاعد» ، و «يتصعد» ، إلا أن التاء تدغم في الصاد لقربها منها، والمعنى كأنه قد كُلِّف أن يَصْعَدَ إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه. ويجوز أن يكون المعنى: كأن قلبه يصعد في السماء نُبُوّاً عن الإسلام والحكمة. وقال الفراء: ضاق عليه المذهب، فلم يجد إلا أن يصعد في السماء، وليس يقدر على ذلك. وقال ابو علي: «يَصَّعَّد» و «يَصّاعد» : من المشقة، وصعوبة الشيء، ومنه قول عمر: ما تَصَعَّدني شيء كما تصعدتني خطبة النكاح، أي: ما شق عليَّ شيء مشقتها. قوله تعالى: كَذلِكَ أي: مثل ما قصصنا عليك. يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ وفيه خمسة أقوال: أحدها: أنه الشيطان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. يعني: أن الله يسلِّطه عليهم. والثاني: أنه المأثم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه مالا خير فيه، قاله مجاهد. والرابع: العذاب، قاله عطاء، وابن زيد، وأبو عبيدة. والخامس: أنه اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، قاله الزجاج. وهذه الآية تقطع كلام القَدَريَّة، إذ قد صرحت بأن الهداية والإضلال متعلّقة بإرادة الله تعالى. [سورة الأنعام (6) : آية 126] وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) قوله تعالى: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن مسعود. والثاني: التوحيد، قاله ابن عباس. والثالث: ما هو عليه من الدِّين، قاله عطاء. ومعنى استقامته: أنه يؤدِّي بسالكه إلى الفوز، قال مكي بن أبي طالب: و «مستقيماً» : نصب على الحال من «صراط» ، وهذه الحال يقال لها: الحال المؤكدة، لأن صراط الله، لا يكون إلا مستقيماً، ولم يؤت بها لتفرق بين حالتين، إذ لا يتغير صراط الله عن الاستقامة أبدا، وليست هذه الحال كالحال من قولك: «هذا زيد راكباً» ، لأن زيداً قد يخلو من الرّكوب. [سورة الأنعام (6) : آية 127] لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) قوله تعالى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ يعني الجنة. وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال: أحدها: أن السّلام،

_ (1) سورة الفرقان: 13.

[سورة الأنعام (6) : آية 128]

هو الله، وهي داره، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة والسدي. والثاني: أنها دار السلامة التي لا تنقطع، قاله الزجاج. والثالث: أن تحية أهلها فيها السلام، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والرابع: أن جميع حالاتها مقرونة بالسلام، ففي ابتداء دخولهم: ادْخُلُوها بِسَلامٍ «1» ، وبعد استقرارهم: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ «2» . وقوله تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «3» وعند لقاء الله سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ «4» ، وقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «5» . ومعنى: عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: مضمونة لهم عنده، وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي: متولي إيصال المنافع إليهم، ودفع المضار عنهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطّاعات. [سورة الأنعام (6) : آية 128] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) قوله تعالى: «ويوم نحشرهم جميعاً» يعني الجن والإنس. وقرأ حفص عن عاصم: «يحشرهم» بالياء. قال أبو سليمان: يعني: المشركين وشياطينهم الذين كانوا يوحون إليهم بالمجادلة لكم فيما حرَّمه الله من الميتة. قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ فيه إضمار، فيقال لهم: يا معشر والمعشر: الجماعة أمرهم واحد، والجمع: المعاشر. وقوله: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي: من إغوائهم وإضلالهم. وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني الذين أضلهم الجن: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فيه ثلاثة أقوال: (560) أحدها: أن استمتاع الإنس بالجن: أنهم كانوا إذا سافروا، فنزلوا وادياً، وأرادوا مبيتاً، قال أحدهم: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله واستمتاع الجن بالإنس: أنهم كانوا يفخرون على قومهم، ويقولون: قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، والفراء. والثاني: أن استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي. واستمتاع الإنس بالجن: أن الجن زَيَّنَتْ لهم الأمور التي يهوَوْنَها، وشَّهوْها إليهم حتى سهل عليهم فعلها، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال محمد بن كعب، والزجاج. والثالث: أن استمتاع الجن بالإنس: إغواؤهم إياهم. واستمتاع الإنس بالجن: ما يتلقَّون منهم من السحر والكهانة ونحو ذلك. والمراد بالجن في هذه الآية: الشياطين. قوله تعالى: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا فيه قولان: أحدهما: الموت، قاله الحسن، والسّدّيّ.

_ عزاه المصنف لابن عباس من رواية الكلبي، وهي رواية ساقطة. وكذا عزاه لمقاتل، وهو متهم. وأخرجه الطبري 13893 عن ابن جريج قوله. ويأتي شيء من هذا في سورة الجن.

[سورة الأنعام (6) : آية 129]

والثاني: الحشر، ذكره الماوردي. قوله تعالى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ قال الزجاج: المثوى: المقام و «خالدين» منصوب على الحال. المعنى: النار مقامكم في حال خلود دائم إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ هو استثناء من يوم القيامة، والمعنى: خالِدِينَ فِيها مذ يبعثون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من مقدار حشرهم من قبورهم، ومدتهم في محاسبتهم. ويجوز أن تكون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يزيدهم من العذاب. وقال بعضهم: إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب وقيل في هذا غير قول، ستجدها مشروحة في (هود) إن شاء الله. [سورة الأنعام (6) : آية 129] وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً في معناه أربعة اقوال «1» : أحدها: نجعل بعضهم أولياء بعض، رواه سعيد عن قتادة. والثاني: نُتْبِعُ بعضهم بعضاً في النار بأعمالهم من الموالاة، وهي المتابعة، رواه معمر عن قتادة. والثالث: نسلِّط بعضهم على بعض، قاله ابن زيد. والرابع: نكل بعضهم إلى بعض ولا نعينهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: من المعاصي. [سورة الأنعام (6) : آية 130] يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ قرأ الحسن، وقتادة: «تأتكم» بالتاء، سُلٌ مِنْكُمْ . واختلفوا في الرسالة إلى الجن على أربعة اقوال «2» : أحدها: أن الرسل كانت تبعث إلى الإِنس خاصة، وأن الله تعالى بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم إلى الإِنس والجن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن رسل الجن، هم الذين سمعوا القرآن، فولَّوا إلى قومهم منذرين، روي عن ابن عباس أيضاً. وقال مجاهد: الرسل من الإِنس، والنذر من الجن، وهم قوم يسمعون كلام الرسل، فيبلِّغون الجن ما

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 344: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: معناه وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعض أولياء لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول المشركين، فقال جل ثناؤه: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وأخبر جل ثناؤه: أن بعضهم أولياء بعض، ثم عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضا بتوليته إياهم، فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض يستمتاع بعضهم ببعض، كذلك نجعل بعضهم أولياء بعض في كل الأمور بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من معاصي الله ويعملونه. ا. هـ. (2) قال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 225 الآية لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ: هذا استفهام تقريرا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ، أي من جملتكم والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة، من السلف والخلف، وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلا، واحتج بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر، لأنها محتملة وليس بصريحة. وهي- والله أعلم- كقوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ أي المالح والحلو بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ إلى أن قال يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من الملح لا من الحلو، وهذا واضح ولله الحمد. ا. هـ.

[سورة الأنعام (6) : آية 131]

سمعوا. والثالث: أن الله تعالى بعث إليهم رسلاً منهم، كما بعث إلى الإِنس رسلاً منهم، قاله الضحاك ومقاتل وأبو سليمان، وهو ظاهر الكلام. والرابع: أن الله تعالى لم يبعث إليهم رسلاً منهم وإنما جاءتهم رسل الإِنس، قاله ابن جريج والفراء والزجاج. قالوا: ولا يكون الجمع في قوله تعالى: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ مانعاً أن تكون الرسل من أحد الفريقين، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، وإنما هو خارج من الملح وحده. وفي دخول الجن الجنة إذا آمنوا قولان: أحدهما: يدخلونها، ويأكلون ويشربون، قاله الضّحّاك. والثاني: ثوابهم أن يجاروا من النار ويصيروا تراباً، رواه سفيان عن ليث. قوله تعالى: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي أي: يقرءون عليكم كتبي، يُنْذِرُونَكُمْ أي: يخوّفونكم بيوم القيامة. وفي قوله تعالى: هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا قولان: أحدهما: أقررنا على أنفسنا بانذار الرسل لنا. والثاني: شهد بعضنا على بعض بانذار الرسل إياهم. ثم أخبرنا الله تعالى بحالهم، فقال: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي: بزينتها وإمهالهم فيها شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: أقروا أنهم كانوا في الدنيا كافرين. وقال مقاتل: ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشّرك والكفر. [سورة الأنعام (6) : آية 131] ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) قوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ قال الزجاج: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل، وأمر عذاب من كذب، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، أي: لا يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولاً. قال ابن عباس: «بظلم» أي: بشرك وَأَهْلُها غافِلُونَ لم يأتهم رسول. [سورة الأنعام (6) : آية 132] وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) قوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: لكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات، أي: منازل يبلغها بعمله، إن كان خيراً فخيراً، وإن كان شراً فشراً. وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط، كتفاضل الدرج. قوله تعالى: عَمَّا يَعْمَلُونَ قرأ الجمهور بالياء وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب. [سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 134] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ يريد: الغني عن خلقه ذُو الرَّحْمَةِ قال ابن عباس: بأوليائه وأهل طاعته. وقال غيره: بالكل. ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ بالهلاك وقيل: هذا الوعيد لأهل مكة وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ أي: ابتدأكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ يعني: آباءهم الماضين. إِنَّ ما تُوعَدُونَ به من مجيء السّعة والحشر لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: بفائتين. قال أبو عبيدة: يقال: أعجزني كذا، أي: فاتني وسبقني.

[سورة الأنعام (6) : آية 135]

[سورة الأنعام (6) : آية 135] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) قوله تعالى: عَلى مَكانَتِكُمْ وقرأ أبو بكر عن عاصم: «مكاناتكم» على الجمع. قال ابن قتيبة: أي: على موضعكم، يقال: مكان ومكانة، ومنزل ومنزلة. وقال الزجاج: اعملوا على تمكنكم. قال: ويجوز أن يكون المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه. تقول للرجل إذا أمرته أن يثبت على حال: كن على مكانتك. قوله تعالى: إِنِّي عامِلٌ أي: عامل ما أمرني به ربي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو. وابن عامر، وعاصم: «تكون» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي: بالياء. وكذلك خلافهم في (القصص) ، ووجه التأنيث، اللفظ، ووجه التذكير، أنه ليس بتأنيث حقيقي. وعاقبة الدار: الجنة. والظالمون ها هنا: المشركون. فان قيل: ظاهر هذه الآية أمرهم بالاقامة على ما هم عليه، وذلك لا يجوز. فالجواب: أن معنى هذا الأمر المبالغة في الوعيد فكأنه قال: أقيموا على ما أنتم عليه، إن رضيتم بالعذاب، قاله الزجاج. (فصل:) وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أن المراد بها التهديد فعلى هذا هي محكمة. والثاني: أن المراد بها ترك القتال، فعلى هذا هي منسوخة بآية السيف. [سورة الأنعام (6) : آية 136] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ قال ابن قتيبة: ذرأ، بمعنى خلق. مِنَ الْحَرْثِ وهو الزرع. (والأنعام) : الإبل والبقر والغنم، وكانوا إذا زرعوا، خطوا خطاً، فقالوا: هذا لله، وهذا لآلهتنا، فإذا حصدوا ما جعلوه لله، فوقع منه شيء فيما جعلوه لآلهتهم، تركوه وقالوا: هي إليه محتاجة وإذا حصدوا ما جعلوه لآلهتهم، فوقع منه شيء في مال الله، أعادوه إلى موضعه. وكانوا يجعلون من الأنعام شيئا لله فاذا ولدت إناثها ميِّتاً أكلوه، وإذا ولدت أنعام آلهتهم ميِّتاً عظموه فلم يأكلوه. وقال الزجاج: معنى الآية: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيباً، وجعلوا لشركائهم نصيباً، يدل عليه قوله تعالى: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فدل بالإِشارة إلى النصيبين على نصيب الشركاء وكانوا إذا زكا ما لله، ولم يزكُ ما لشركائهم، ردوا الزاكي على أصنامهم، وقالوا: هذه أحوج، والله غني وإذا زكا ما للأصنام، ولم يزكُ ما لله، أقروه على ما به. قال المفسرون: وكانوا يَصرفون ما جعلوا لله إلى الضِّيفان والمساكين. فمعنى قوله: فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي: إلى هؤلاء. ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على خُدَّامها. فأما نصيبها في الأنعام، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان للنفقة عليها أيضاً. والثاني: أنهم كانوا يتقربون به، فيذبحونه لها. والثالث: أنه البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وقال الحسن: كان إذا هلك ما لأوثانهم غَرِموه، وإذا هلك ما لله لم يَغْرَمُوه. وقال

[سورة الأنعام (6) : آية 137]

ابن زيد: كانوا لا يأكلون ما جعلوه لله حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم، ولا يذكرون الله على ما جعلوه للأوثان. فأما قوله: «بزَعمهم» فقرأ الجمهور: بفتح الزاي وقرأ الكسائي، والأعمش: بضمها. وفي الزعم ثلاث لغات: ضم الزاي، وفتحها، وكسرها ومثله: السُّقط، والسَّقط والسِّقط والفَتْك والفُتْك، والفِتْك والزَّعم، والزُّعم، والزِّعم، قال الفراء: فتح الزاي في الزَّعم، لأهل الحجاز وضمها لأسد وكسرها لبعض قيس فيما يحكي الكسائيّ. [سورة الأنعام (6) : آية 137] وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) قوله تعالى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ أي: ومثل ذلك الفعل القبيح فيما قسموا بالجهل زيَّن. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون «وكذلك» مستأنفاً، غير مشارٍ به إلى ما قبله فيكون المعنى: وهكذا زيّن. وقرأ الجمهور: «زَيَّن» بفتح الزاي والياء، ونصب اللام من «قَتْلَ» ، وكسر الدال من «أولادِهم» ، ورفع «الشّركاء» ووجه هذه القراءة ظاهر. وقرأ ابن عامر: بضم زاي «زين» ، ورفع اللام، ونصب الدال من «أولادهم» ، وخفض «الشركاء» . قال أبو علي: ومعناها: قتلُ شركائهم أولادَهمُ ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به، وهذا قبيح، قليل في الاستعمال. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن: «زُيِّن» بالرفع، «قتلُ» بالرفع أيضاً، «أولادِهم» بالجر، «شركاؤُهم» رفعاً. قال الفراء: رفع القتل إذا لم يسمَّ فاعله، ورفع الشركاء بفعل نواه، كأنه قال: زيَّنه لهم شركاؤهم. وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة كأنه قيل: مَن زيَّنه؟ فقال: شركاؤهم. قال مكي بن أبي طالب: وقد روي عن ابن عامر أيضاً أنه قرأ بضم الزاي، ورفع اللام، وخفض الأولاد والشركاء فيصير الشركاء اسماً للأولاد، لمشاركتهم للآباء في النسب والميراث والدِّين. وللمفسرين في المراد بشركائهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الشياطين، قاله الحسن، ومجاهد، والسدِّي. والثاني: شركاؤهم في الشرك، قاله قتادة. والثالث: قوم كانوا يخدمون الاوثان، قاله الفراء، والزجاج. والرابع: أنهم الغُواة من الناس، ذكره الماوردي. وإنما أضيف الشركاء إليهم، لأنهم هم الذين اختلقوا ذلك وزعموه. وفي الذي زيَّنوه لهم من قتل أولادهم قولان: أحدهما: أنه وأدْ البنات أحياءً خيفة الفقر، قاله مجاهد. والثاني: أنه كان يحلف أحدهم أنه إن ولد له كذا وكذا غلاماً أن ينحر أحدهم، كما حلف عبد المطلب في نحر عبد الله، قاله ابن السائب، ومقاتل. قوله تعالى: لِيُرْدُوهُمْ أي: ليهلكوهم. وفي هذه اللام قولان: أحدهما: أنها لام «كي» . والثاني: أنها لام العاقبة، كقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا «1» أي: آل أمرهم إلى الردى، لا أنهم قصدوا ذلك. قوله تعالى: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي: ليخلطوا. قال ابن عباس: ليُدخلوا عليهم الشك في دينهم وكانوا على دين إسماعيل، فرجعوا عنه بتزيين الشّياطين.

_ (1) سورة القصص: 8.

[سورة الأنعام (6) : آية 138]

قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا دفنوا بناتهم قالوا: إن الله أمرنا بذلك فقال: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ أي: يكذبون وهذا تهديد ووعيد، فهو محكم، وقال قوم: مقصوده ترك قتالهم، فهو منسوخ بآية السيف. [سورة الأنعام (6) : آية 138] وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) قوله تعالى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ الحرث: الزرع، والحجر: الحرام والمعنى: أنهم حرَّموا أنعاماً وحرثاً جعلوه لأصنامهم. قال ابن قتيبة: وإنما قيل للحرام: حجر، لأنه حُجر على الناس أن يصيبوه. وقرأ الحسن، وقتادة: «حُجْر» بضم الحاء. قال الفراء: يقال: حِجْر، وحُجْر، بكسر الحاء وضمها وهي في قراءة ابن مسعود: «حرج» ، مثل: «جذب» و «جبذ» . وفي هذه الأنعام التي جعلوها للأصنام قولان: أحدهما: أنها البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. والثاني: أنها الذبائح للأوثان، وقد سبق ذكرهما. قوله تعالى: لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ هو كقولك: لا يذوقها إلا من نريد. وفيمن أطلقوا له تناولها قولان: أحدهما: أنهم منعوا منها النساء، وجعلوها للرجال، قاله ابن السائب. والثاني: عكسه، قاله ابن زيد. قال الزجاج: أعلم الله عزّ وجلّ أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة فيه ولا برهان. وفي قوله تعالى: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحام، قاله ابن عباس. والثاني: البحيرة، كانوا لا يحجُّون عليها، قاله أبو وائل. والثالث: البحيرة، والسائبة، والحام، قاله السدي. قوله تعالى: وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا هي قربان آلهتهم، يذكرون عليها اسم الأوثان خاصة. وقال أبو وائل. هي التي كانوا لا يحجُّون عليها وقد ذكرنا هذا عنه في قوله تعالى: حُرِّمَتْ ظُهُورُها، فعلى قوله، الصفتان لموصوف واحد. وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء لا إن رُكِبوا ولا إن حملوا ولا إن حلبوا، ولا إن نتجوا. وفي قوله تعالى: افْتِراءً عَلَيْهِ قولان: أحدهما: أن ذكر أسماء أوثانهم وترك ذكر الله! هو الافتراء. والثاني: أن إضافتهم ذلك إلى الله تعالى، هو الافتراء لأنهم كانوا يقولون: هو حرّم ذلك. [سورة الأنعام (6) : آية 139] وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قوله تعالى: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعني بالأنعام: المحرمات عندهم، من البحيرة، والسائبة، والوصيلة. وللمفسرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه اللبن،

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 358- 359: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام- يعني أنعامهم-: «هذا محرم على أزواجنا» و «الأزواج» إنما هي نساؤهم في كلامهم، وهن لا شك بنات من هن أولاده، وحلائل من هن أزواجه. وفي قوله الله عز وجل: وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا الدليل الواضح على أن تأنيث «الخالصة» كان لما وصفت من المبالغة في وصف ما في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور، لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل: «ومحرمة على أزواجنا» ولكن لما كان التأنيث في «الخالصة» لما ذكرت، ثم لم يقصد في «المحرم» ما قصد في «الخالصة» من المبالغة، رجع فيها إلى تذكير «ما» واستعمال ما هو أولى به من صفته ا. هـ.

[سورة الأنعام (6) : آية 140]

قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: الأجنَّة، قاله مجاهد. والثالث: الولد واللبن، قاله السدي، ومقاتل. قوله تعالى: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا قرأ الجمهور: «خالصة» على لفظ التأنيث. وفيها أربعة أوجه. أحدها: أنه إنما أُنثت، لأن الأنعام مؤنثة، وما في بطونها مثلها، قاله الفراء. والثاني: أن معنى «ما» التأنيث، لأنها في معنى الجماعة فكأنه قال: جماعة ما في بطون هذه الأنعام خالصة، قاله الزجاج. والثالث: أن الهاء دخلت للمبالغة في الوصف، كما قالوا: «علاّمة» و «نسّابة» . والرابع: أنه أُجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكَّرة كقولك: عطاؤك عافية، والرخص نعمة، ذكرهما ابن الأنباري. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والضحاك، والأعمش، وابن أبي عبلة: «خالصٌ» بالرفع، من غير هاء. قال الفراء: وإنما ذُكِّر لتذكير «ما» . وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، وابن يعمر: «خالصُهُ» برفع الصاد والهاء على ضمير مذكَّر، قال الزجاج: والمعنى: ما خلص حياً. وقرأ قتادة: «خالصةً» بالنصب. فأما الذكور، فهم الرجال، والأزواج: النساء. قوله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً قرأ الأكثرون: «يكن» بالياء، «ميتة» بالنصب وذلك مردود على لفظ «ما» . والمعنى وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. وقرأ ابن كثير: «يكن» بالياء، «ميتةٌ» بالرفع. وافقه ابن عامر في رفع الميتة غير أنه قرأ: «تكن» بالتاء. والمعنى: وإن تحدث وتقع، فجعل «كان» : تامة لا تحتاج إلى خبر. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «تكن» بالتاء، «ميتةً» بالنصب. والمعنى: وإن تكن الأنعام التي في البطون ميتة. قوله تعالى: فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ يعني الرجال والنساء. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ قال الزجاج: أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب. [سورة الأنعام (6) : آية 140] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ وقرأ ابن كثير، وابن عامر: «قتَّلوا» بالتشديد. قال ابن عباس: نزلت في ربيعة، ومضر، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياءً في الجاهلية من العرب. وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه. قال الزجاج: وقوله: «سفهاً» منصوب على معنى اللام. تقديره: للسفه تقول: فعلت ذلك حذر الشر. وقرأ ابن السّميفع، والجحدريّ، ومعاذ القارئ: «سفهاء» برفع السين وفتح الفاء والهمزة بالمدّ وبالنصب والهمز. قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ: أي: كانوا يفعلون ذلك للسفه من غير أن أتاهم علم في ذلك وحرَّموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث، وزعموا أن الله أمرهم بذلك.

[سورة الأنعام (6) : آية 141]

[سورة الأنعام (6) : آية 141] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن المعروشات ما انبسط على وجه الأرض، فانتشر مما يعرَّش، كالكرم، والقرع، والبِطيخ وغير معروشات: ما قام على ساق، كالنخل، والزرع، وسائر الأشجار. والثاني: أن المعروشات: ما أنبته الناس وغير معروشات: ما خرج في البراري والجبال من الثمار، رويا عن ابن عباس. والثالث: أن المعروشات، وغير المعروشات: الكرم، منه ما عرش، ومنه ما لم يعرش، قاله الضحاك. والرابع: أن المعروشات: الكروم التي قد عُرّش عنبها، وغير المعروشات: سائر الشّجر الذي لا يعرّش، قاله أبو عبيدة. والأُكُلُ: الثمر. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً قد سبق تفسيره. قوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ هذا أمر إباحة وقيل: إنما قدَّم الأكل لينهى عن فعل الجاهلية في زروعهم من تحريم بعضها. قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قرأ ابن عامر، وعاصم وأبو عمرو: بفتح الحاء، وهي لغة أهل نجد، وتميم. وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي: بكسرها، وهي لغة أهل الحجاز، ذكره الفراء. وفي المراد بهذا الحق قولان «1» : أحدهما: أنه الزكاة، روي عن أنس بن مالك، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وطاوس، وجابر بن زيد، وابن الحنفية، وقتادة في آخرين فعلى هذا، الآية محكمة. والثاني: أنه حق غير الزكاةُ فرض يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر، وترك ما سقط من الزرع والثمر، قاله عطاء ومجاهد. وهل نُسخ ذلك، أم لا؟ إن قلنا: إنه أمر وجوب، فهو منسوخ بالزكاة وإن قلنا: إنه أمر استحباب، فهو باقي الحكم. فان قيل: هل يجب إيتاء الحق يوم الحصاد؟ فالجواب: إن قلنا: إنه

_ (1) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» 2/ 282. الآية وَآتُوا حَقَّهُ: اختلف في تفسير هذا الحق على ثلاثة أقوال: الأول: أنه الصدقة المفروضة، قاله سعيد بن المسيب وغيره، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية. الثاني: أنها الصدقة في المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصرام وهي إطعام من حضر والإيتاء لمن غير قاله مجاهد. الثالث: أن هذا منسوخ بالزكاة قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقد زعم قوم أن هذا اللفظ مجمل ولم يحصلوا القول فيه، وحقيقة الكلام عليه: أن قوله آتُوا مفسر، وقوله حَقَّهُ مفسر في المؤتى، مجمل في المقدار. وإنما يقع النظر في رفع الإشكال الذي أنشأه احتمال هذه الأقوال. وقد بينا فيما سبق وجه أنه ليس في الماء حق سوى الزكاة، وتحقيقه في القسم الثاني من علوم القرآن، وفي سورة البقرة من هذا التأليف، وثبت أن المراد بذلك ها هنا الصدقة المفروضة. وقد أفادت هذه الآية وجوب الزكاة فيما سمى الله سبحانه، وأفادت بيان ما يجب فيه من مخرجات الأرض التي أجملها الله في قوله وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [البقرة: 267] وفسرها ها هنا، فكانت آية البقرة عامة في المخرج كله مجملة في القدر، فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بأن يبين للناس ما نزل إليهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 142]

إطعام من حضر من الفقراء، فذلك يكون يوم الحصاد وإن قلنا: إنه الزكاة، فقد ذُكرت عنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن الأمر بالإِيتاء محمول على النخيل، لأن صدقتها تجب يوم الحصاد. فأما الزروع، فالأمر بالإيتاء منها محمول على وجوب الإخراج إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد فيؤخَّر إلى زمان التنقية، ذكره بعض السلف. والثاني: أن اليوم ظرف للحق، لا للايتاء فكأنه قال: وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية. والثالث: أن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه، إنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه. وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه، فأفادت الآية أن الوجوب فيما يحصل في اليد، دون ما يتلف، ذكر الجوابين القاضي أبو يعلى. وفي قوله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا ستة أقوال «1» : أحدها: أنه تجاوز المفروض في الزكاة إلى حد يُجحف به، قاله أبو العالية، وابن جريج. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة، ثم قسمها في يوم واحد، فأمسى ولم يترك لأهله شيئا، فكره الله تعالى له ذلك، فنزلت: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. والثاني: أنّ الإسراف: يمنع الصدقة الواجبة! قاله سعيد بن المسيب. والثالث: أنه الإِنفاق في المعصية، قاله مجاهد، والزهري. والرابع: أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام، قاله عطيّة، وابن السائب. والخامس: أنه خطاب للسلطان لئلا يأخذ فوق الواجب من الصدقة، قاله ابن زيد. والسادس: أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزّكاة، قاله ابن بحر. [سورة الأنعام (6) : آية 142] وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) قوله تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً هذا نسق على ما قبله والمعنى: أنشأ جنّاتٍ وأنشأ حمولة وفرشاً. وفي ذلك خمسة أقوال: أحدها: أن الحمولة: ما حمل من الإبل، والفرشَ: صغارها، قاله ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وابن قتيبة. والثاني: أن الحمولة: ما انتفعت بظهورها، والفرش: الراعية، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أن الحمولة: الإبل: والخيل، والبغال، والحمير، وكل شيء يُحمَل عليه. والفرش: الغنم: رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع:

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 371: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: وَلا تُسْرِفُوا عن جميع معاني «الإسراف» ولم يخصص منها معنى دون معنى وإذ كان ذلك كذلك، وكان «الإسراف» في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حده في الزيادة، وإما بتقصير عن حده الواجب، كان معلوما أن المفرق ماله مباراة، والباذل له للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرف بتجاوزه حد الله إلى ما ليس له. وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه. وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله وألزمه منها، وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه. كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: وَلا تُسْرِفُوا في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم إذا كان ما قبله من الكلام أمرا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده. فإن الآية قد كانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاص من الأمور والحكم بها على العام، بل عامة آي القرآن كذلك، فكذلك قوله وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ا. هـ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 إلى 145]

الحمولة: من الإبل، والفرش: من الغنم، قاله الضحاك. والخامس: الحمولة: الإبل والبقر. والفرش: الغنم، وما لا يحمل عليه من الإبل، قاله قتادة. وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: «حُمولة» بضم الحاء. قوله تعالى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال الزجاج: المعنى: لا تحرِّموا ما حرمتم مما جرى ذكره، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي: طرقه. قال: وقوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من قوله تعالى: حَمُولَةً وَفَرْشاً. والزوج، في اللغة: الواحد الذي يكون معه آخر. قلت: وهذا كلام يفتقر إلى تمام، وهو أن يقال: الزوج: ما كان معه آخر من جنسه، فحينئذ يقال لكل واحد منهما: زوج. [سورة الأنعام (6) : الآيات 143 الى 145] ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) قوله تعالى: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الضأن: ذوات الصوف من الغنم، والمعز: ذوات الشعر منها. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: من «المعَز» بفتح العين. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي: بتسكين العين. والمراد بالأنثيين: الذكر والأنثى. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ من الضأن والمعز حرم الله عليكم أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منها؟ المعنى: فان كان ما حرّم الله عليكم الذكرين. فكل الذكور حرام، وإن كان حرم الأنثيين، فكل الإناث حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فهي تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فيكون كل جنين حراماً. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ألَحِقَكم التحريم من جهة الذّكرين، أم من جهة الأنثيين؟ فان قالوا: من جهة الذكرين حَرُم عليهم كل ذكر، وإن قالوا: من جهة الأنثيين، حرمت عليهم كل أُنثى، وإن قالوا: من جهة الرحم، حَرُمَ عليهم الذكر والأنثى. وقال ابن جرير الطبري: إن قالوا: حَرَّم الذكرين، أوجبوا تحريم كل ذكر من الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض الذكران منها وظهوره، وفي ذلك فساد دعواهم. وإن قالوا: حرَّم الأنثيين أوجبوا تحريم لحوم كل أُنثى من ولد الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره. وإن قالوا: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها. قال المفسرون: فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها، لأنهم كانوا يحرِّمون أجناساً من النعم، بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال. وفي قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ إبطال لما حرَّموه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة والحام. وفي قوله تعالى: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ، إبطال قولهم: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا. قوله تعالى: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ قال الزجاج: المعنى: فسروا ما حرمتم بعلم، أي: أنتم لا علم

[سورة الأنعام (6) : آية 145]

لكم، لأنكم لا تؤمنون بكتاب. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أي: هل شاهدتم الله قد حرَّم هذا، إذا كنتم لا تؤمنون برسول؟ قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحي، ومن جاء بعده. والظّالمون ها هنا: المشركون. [سورة الأنعام (6) : آية 145] قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ نبْههم بهذا على أن التحريم والتحليل، إنما يثبت بالوحي، وقال طاوس، ومجاهد: معنى الآية: لا أجد محرماً مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا. والمراد بالطاعم: الآكل. إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أي: إلا أن يكون المأكول ميتة. قرأ ابن كثير، وحمزة: «إلا أن يكون» بالياء، «ميتة» نصبا! وقرأ ابن عامر: «إلا أن تكون» بالتاء، «ميتةٌ» بالرفع على معنى: إلا أن تقع ميتةٌ، أو تحدث ميتةٌ. أَوْ دَماً مَسْفُوحاً قال قتادة: إنما حُرِّمَ المسفوحُ. فأما اللحم إذا خالطه دم، فلا بأس به. وقال الزجاج: المسفوح: المصبوب. وكانوا إذا ذَكَّوا يأكلون الدم كما يأكلون اللحم. والرجس: اسم لما يُستقذَر، وللعذاب. أَوْ فِسْقاً المعنى: أو أن يكون المأكول فسقا. أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: رُفع الصوت على ذبحه باسم غير الله، فسمي ما ذُكر عليه غير اسم الله فسقاً والفسق: الخروج من الدين. (فصل:) اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين «1» :

_ (1) قال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في «التمهيد» 1/ 139 ما ملخصه، بعد أن أسند حديث أبي هريرة «أكل كل ذي ناب من السباع حرام» : وهذا حديث ثابت مجتمع على صحته، وفيه من الفقه أن النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع نهي تحريم، لا نهي أدب وإرشاد، وكل خبر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه نهي، فالواجب استعماله على التحريم إلا أن يأتي معه أو في غيره دليل يبين أن المراد أنه ندب وأدب. وقد زعم بعض أصحابنا أنه نهى تنزه وتقذر، فإن أراد به نهي أدب فهذا ما لا يوافق عليه، وإن أراد أن كل ذي ناب من السباع يجب التنزه عنه كما يتنزه عن النجاسة فهذا غاية في التحريم. ولم يرده القائلون من أصحابنا. لأنهم استدلوا بظاهر هذه الآية قُلْ لا أَجِدُ ... وذكر أن من الصحابة من استعمل هذه الآية، ولم يحرم ما عداها، ويلزمه على أصله هذا أن يحل لحم الحمر الأهلية، وهو لا يقول هذا في لحم الحمر الأهلية. لأنه لا تعمل الزكاة عنده في لحومها ولا في جلودها، ولو لم يكن محرما إلا ما في هذه الآية لكانت الحمر الأهلية حلالا. وهو لا يقول به، ولا أحد من أصحابه، وهذه مناقضة، وكذلك يلزمه أن لا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا، ويستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين. وأظن قائل هذا القول من أصحابنا في أكل كل ذي ناب. راعى اختلاف العلماء، ولا يجوز مراعاة الاختلاف عند طلب الحجة. لأن الاختلاف ليس منه شيء لازم دون دليل، وإنما الحجة اللازمة الإجماع لأن الإجماع يجب الانقياد إليه. فأما قوله تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ ... فقال قوم من فقهاء العراقيين، ممن يجيز نسخ القرآن بالسنة: إن هذه الآية منسوخة بالسنة. وقال آخرون: معنى الآية، أي لا أجد قد أوحي إلي في هذا الحال أي وقت نزول الآية. وقالت فرقة: الآية محكمة، ولا يحرم إلا ما فيها، وهو قول ابن عباس، وقد روي عنه خلافه في أشياء حرمها، يطول ذكرها وكذلك اختلف فكيه عن عائشة، وروي عن ابن عمر من وجه ضعيف، وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير. وأما سائر فقهاء المسلمين في جميع الأمصار فمخالفون لهذا القول متبعون للسنة في ذلك. وقال أكثر أهل العلم، والنظر من أهل الأثر: إن الآية محكمة غير منسوخة، وكل ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم مضموم إليها، ولا فرق بين ما حرم الله عز وجل في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم اه. [.....]

[سورة الأنعام (6) : آية 146]

أحدهما: أنها محكمة. ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها خبر، والخبر لا يدخله النسخ. والثاني: أنها جاءت جواباً عن سؤال سألوه فكان الجواب بقدر السؤال، ثم حُرِّم بعد ذلك ما حُرِّم. والثالث: أنه ليس في الحيوان محرم إلا ما ذُكر فيها. والقول الثاني: أنها منسوخة بما ذكر في (المائدة) من المنخنقة والموقوذة، وفي السُنَّةِ من تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير. وقيل: إن آية (المائدة) داخلة في هذه الآية، لأنّ تلك الأشياء كلّها ميتة. [سورة الأنعام (6) : آية 146] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وقرأ الحسن، والأعمش: «ظُفْرٍ» بسكون الفاء وهذا التحريم تحريم بلوى وعقوبة. وفي ذي الظفر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما ليس بمنفرج الأصابع، كالإبل، والنعام، والإوَزِّ، والبط، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسّدّيّ. والثاني: أنّه الإبل فقط، قاله ابن زيد. والثالث: كل ذي حافر من الدواب، ومخلب من الطير، قاله ابن قتيبة. قال: وسمي الحافر ظفراً على الإستعارة والعرب تجعل الحافر والأظلاف موضع القدم، استعارة وأنشدوا: سَأمْنْعُها أوْ سَوْفَ أجْعَلُ أمْرَهَا ... إلى مَلِكٍ أظلافُه لم تُشقَّق «1» أراد قدميه وإنما الأظلاف للشاء والبقر. قال ابن الأنباري: الظّفر ها هنا، يجري مجرى الظفر للانسان. وفيه ثلاث لغات أعلاهن: ظُفُر ويقال: ظُفْر، وأُظفور. وقال الشاعر: ألم تر أنَّ الموتَ أدْرَك مَنْ مَضَى ... فلم يُبْقِ منه ذا جناح وذا ظُفُر وقال الآخر: لقد كنتُ ذا نابٍ وظُفْرٍ على العِدَى ... فأصبحتُ ما يَخْشَوْنَ نابي ولا ظُفْري وقال الآخر: ما بين لُقمته الأولى إذا انحَدَرَتْ ... وبين أخرى تليها قِيْدُ أُظْفُور «2» وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إنما حرّم من ذلك شحوم الثروب خاصة، قاله قتادة. والثاني: شحوم الثروب والكلى، قاله السدي، وابن زيد. والثالث: كل شحم لم يكن مختلطا

_ (1) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» 116 وفي السمط 746 منسوب لعقفان بن قيس بن عاصم بن عبيد اليربوعي. وقوله: أظلافه لم تشقق: أي أنه منتعل مترفه، فلم تشقق قدماه. (2) البيت غير منسوب في «اللسان» ظفر «أساس البلاغة» .

[سورة الأنعام (6) : آية 147]

بعظم، ولا على عظم، قاله ابن جريج. وفي قوله تعالى: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما علق بالظهر من الشحوم، قاله ابن عباس. والثاني: الأَليْةَ، قاله أبو صالح، والسدي. والثالث: ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما، قاله قتادة. فأما الحوايا، فللمفسرين فيها أقوال تتقارب معانيها. قال ابن عباس، والحسن، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة: هي المباعر. وقال ابن زيد: هي بنات اللبن، وهي المرابض التي تكون فيها الأمعاء. وقال الفراء: الحوايا: هي المباعر، وبنات اللبن، وقال الاصمعي: هي بنات اللبن، واحدها: حاوياء، وحاوية، وحَويّة. قال الشاعر: أقْتُلُهم ولا أرى مُعاويه ... الجاحِظَ العَيْنِ العَظيمَ الحاويهْ «1» وقال الآخر: كأنَّ نقيق الحَبِّ في حاويائه ... فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ العقارِب «2» وقال أبو عبيدة: الحوايا اسم لجميع ما تحوّى من البطن، أي: ما استدار منها. وقال الزجاج: الحوايا: اسم لجميع ما تحوّى من الأمعاء، أي: استدار. وقال ابن جرير الطبري: الحوايا: ما تحوّى من البطن. فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن، وهي المباعر، وتسمى: المرابض، وفيها الأمعاء. قوله تعالى: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فيه قولان: أحدهما: أنه شحم البطن والألَيْة، لأنهما على عظم، قاله السدي. والثاني: كل شحم في القوائم، والجنب، والرأس. والعينين، والأذنين، فهو مما اختلط بعظم، قاله ابن جريج. واتفقوا على أن ما حملت ظهورهما حلال، بالاستثناء من التحريم. فأما ما حملت الحوايا، أو ما اختلط بعظم، ففيه قولان: أحدهما: أنه داخل في الاستثناء، فهو مباح والمعنى: وأُبيح لهم ما حملت الحوايا من الشّحم وما اختلط بعظم، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أنه نسق على ما حرِّم، لا على الاستثناء فالمعنى: حرَّمنا عليهم شحومهما، أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور، فانه غير محرم، قاله الزجاج. فأما «أو» المذكورة هاهنا، فهي بمعنى الواو، كقوله تعالى آثِماً أَوْ كَفُوراً. قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ أي: ذلك التحريم عقوبة لهم على بغيهم. وفي بغيهم قولان: أحدهما: أنه قتلهم الأنبياء، وأكلهم الربا. والثاني: أنه تحريم ما أحلّ لهم. [سورة الأنعام (6) : آية 147] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ. (561) قال ابن عباس: لمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين: «هذا ما أُوحي إليَّ أنَّه محرَّم على المسلمين وعلى اليهود» ، قالوا: فانك لم تصب، فنزلت هذه الآية.

_ لم أقف على إسناده، وتفرد المصنف بذكره دليل وهنه.

[سورة الأنعام (6) : آية 148]

وفي المكذبين قولان: أحدهما: المشركون، قاله ابن عباس. والثاني: اليهود، قاله مجاهد. والمراد بذكر الرحمة الواسعة، أنه لا يعجل بالعقوبة. والبأس: العذاب. وفي المراد بالمجرمين قولان: أحدهما: المشركون. والثاني: المكذّبون. [سورة الأنعام (6) : آية 148] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي: إذا لزمتْهم الحجة، وتيقَّنوا باطل ما هم عليه من الشّرك وتحريم ما لم يحرِّمه الله لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا، فجعلوا هذا حجة لهم في إقامتهم على الباطل فكأنهم قالوا: لو لم يرض ما نحن عليه، لحال بيننا وبينه، وإنما قالوا ذلك مستهزئين، ودافعين للاحتجاج عليهم، فيقال لهم: لم تقولون عن مخالفيكم: إنهم ضالُّون، وإنما هم على المشيئة أيضاً؟ فلا حجة لهم، لأنهم تعلَّقوا بالمشيئة، وتركوا الأمر، ومشيئة الله تعم جميع الكائنات، وأمره لا يعمّ مراداته، فعلى العبد اتباع الأمر، وليس له أن يتعلَّل بالمشيئة بعد ورود الأمر. قوله تعالى: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال ابن عباس: أي: قالوا لرسلهم مثلما قال هؤلاء لك، حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي: عذابنا. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي: كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرَّمتم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ لا اليقين و «إن» بمعنى «ما» . و «تخرصون» : تكذبون. [سورة الأنعام (6) : آية 149] قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ قال الزجاج: حجَّته البالغة: تبيينه أنه الواحد، وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة. قال السدي: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ يوم أخذ الميثاق. [سورة الأنعام (6) : آية 150] قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قوله تعالى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ قال الزجاج: زعم سيبويه أن هَلُمَّ هاء ضمت إليها «لُمَّ» ، وجعلتا كالكلمة الواحدة فأكثر اللغات أن يقال: «هلمَّ» : للواحد والاثنين والجماعة بذلك جاء القرآن. ومن العرب من يثنِّي ويجمع ويؤنث، فيقول للذكر: «هلمَّ» وللمرأة: «هلمِّي» ، وللاثنين «هلمَّا» ، وللثنتين: «هلمَّا» ، وللجماعة: «هلمُّوا» ، وللنسوة: «هلمُمْن» . وقال ابن قتيبة: هَلُمَّ، بمعنى: «تعال» . وأهل الحجاز لا يثنُّونها ولا يجمعونها، وأهل نجد يجعلونها من «هَلْمَمَتْ» فيثنُّون ويجمعون ويؤنِّثون، وتوصل باللام، فيقال: «هلم لك» ، «وهلم لكما» . قال: وقال الخليل: أصلها «لُم» ، وزيدت الهاء في أولها. وخالفه الفراء فقال: أصلها «هل» ضم إليها «أُمّ» ، والرفعة التي في اللام من همزة «أُمّ» لما تركت انتقلت إلى ما قبلها وكذلك «اللهم» يرى أصلها: «يا ألله أمِّنا بخير» فكثرت في الكلام، فاختلطت، وتركت الهمزة. وقال ابن الانباري: معنى «هلم» : أقبل وأصله: «أُمَّ يا رجل» ، أي: «اقصد» ، فضموا «هل» إلى «أم» وجعلوهما حرفاً واحداً، وأزالوا «أم» عن التّصرّف،

[سورة الأنعام (6) : آية 151]

وحوّلوا ضمّة همزة «أم» إلى اللام، وأسقطوا الهمزة، فاتصلت الميم باللام. وإذا قال الرجل للرجل «هلم» ، فأراد أن يقول: لا أفعل، قال: «لا أهَلُمّ ولا أُهَلِمُّ» . قال مجاهد: هذه الآية جواب قولهم: إن الله حرم البحيرة، والسائبة. قال مقاتل: الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا الحرث والأنعام، فَإِنْ شَهِدُوا أن الله حرَّمه فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي: لا تصدّق قولهم. [سورة الأنعام (6) : آية 151] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً «ما» بمعنى «الذي» . وفي «لا» قولان: أحدهما: أنها زائدة كقوله تعالى: أَلَّا تَسْجُدَ. والثاني: أنها ليست زائدة، وإنّما هي باقية فعلى هذا القول، في تقدير الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون قوله: «أن لا تشركوا» ، محمولا على المعنى فتقديره: أتل عليكم أن لا تشركوا، أي أتل تحريم الشرك. والثاني: أن يكون المعنى: أوصيكم أن لا تشركوا، لأنّ قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً محمول على معنى: أوصيكم بالوالدين إحساناً، ذكرهما الزجاج. والثالث: أن الكلام تم عند قوله: حَرَّمَ رَبُّكُمْ. ثم في قوله: «عليكم» قولان: أحدهما: أنها إغراء، كقوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ «1» ، فالتقدير: عليكم أن لا تشركوا، ذكره ابن الانباري. والثاني: أن يكون بمعنى: فُرض عليكم، ووجب عليكم أن لا تشركوا. وفي هذا الشرك قولان: أحدهما: أنه ادعاء شريك مع الله عزّ وجلّ. والثاني: أنه طاعة غيره في معصيته. قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ يريد دفن البنات أحياءً، مِنْ إِمْلاقٍ أي: من خوف فقر. قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ فيه خمسة اقوال: أحدها: أن الفواحش: الزنا، وما ظهر منه: الإعلان به، وما بطن: الاستسرار به، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي. والثاني: أن ما ظهر: الخمر، ونكاح المحرمات. وما بطن: الزنا، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. والثالث: أن ما ظهر: الخمر، وما بطن: الزنا، قاله الضحاك. والرابع: أنه عام في الفواحش. وظاهرها: علانيتها، وباطنها: سِرُّها، قاله قتادة. والخامس: أن ما ظهر: أفعال الجوارح، وما بطن: اعتقاد القلوب، ذكره الماوردي في تفسير هذا الموضع، وفي تفسير قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ «2» . والنفس التي حرَّم الله: نفس مسلم أو معاهد. والمراد بالحقّ: ادن الشّرع. [سورة الأنعام (6) : آية 152] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)

_ (1) سورة المائدة: 105. (2) سورة الأنعام: 120.

قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إنما خص مال اليتيم، لأن الطمع فيه، لقلِّة مراعيه وضعف مالكه أقوى. وفي قوله: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أربعة أقوال: أحدها: أنه أكل الوصي المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: التجارة فيه، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي. والثالث: أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه، قاله ابن السائب. والرابع: أنه حفظه عليه، وتثميره له، قاله الزجاج. قال: و «حتى» محمولة على المعنى فالمعنى: احفظوه عليه حتى يبلغ أشده، فاذا بلغ أشده، فادفعوه إليه. فأما الأشُدُّ، فهو استحكام قوة الشباب والسنِّ. قال ابن قتيبة: ومعنى الآية: حتى يتناهى في النبات إلى حدِّ الرجال. يقال: بلغ أشده: إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان. وقال أبو عبيدة: الأَشُدُّ لا واحد له منه فان أُكرهوا على ذلك، قالوا: شَدَّ، بمنزلة: ضَبَّ والجمع: أضبّ. قاله ابن الانباري: وقال جماعة من البصريين: واحد الأشُدِّ: شُدٌ، بضم الشين. وقال بعض البصريين: واحد الأشُدِّ: شِدّةٌ، كقولهم: نِعمة، وأنْعُم. وقال بعض أهل اللغة: الأشُدُّ: اسم لا واحد له. وللمفسرين في الأشُد ثمانية أقوال: أحدها: أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني: ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أربعون سنة، روي عن عائشة عليها السلام. والرابع: ثماني عشرة سنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والخامس: خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة. والسادس: أربعة وثلاثون سنة، قاله سفيان الثوري. والسابع: ثلاثون سنة، قاله السدي. وقال: ثم جاء بعد هذه الآية: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ «1» فكأنه يشير إلى النسخ. والثامن: بلوغ الحلم، قاله زيد بن أسلم، والشعبي، ويحيى بن يعمر، وربيعة، ومالك بن أنس، وهو الصحيح. ولا أظن بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسروا هذه الآية بما ذُكر عنهم، وإنما أظن أن الذين جمعوا التفاسير، نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إلى هذا المكان، وذلك نهاية الأشُدِّ، وهذا ابتداء تمامه وليس هذا مثل ذاك. قال ابن جرير: وفي الكلام محذوف، ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حُذف، لأن المعنى: حتى يبلغ أشده فإذا بلغ اشده، وآنستم منه رشدا، فادفعوا إليه ماله. وهذا الذي ذكره ابن جرير ليس بصحيح، لأنّ إيناس الرّشد استفيد من سورة (النساء) وكذلك أولياء اليتامى، فحُمل المطلق على المقيد. قوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي: أتمّوه ولا تنقصوا منه. وَالْمِيزانَ أي: وَزْنَ الميزان. والقسط: العدل. لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي: ما يسعها. ولا تضيق عنه. قال القاضي أبو يعلى: لما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل، كُلّفنا الاجتهاد في التحري، دون تحقيق الكيل والوزن. قوله تعالى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا أي: إذا تكلمتم أو شهدتم، فقولوا الحق، ولو كان المشهود له أو عليه ذا قرابة. وعَهْد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به، وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: لتذَّكَّروه وتأخذوا به. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «تذّكّرون» و «يذّكّرون» و «يذّكّر الإنسان» و «أن يذّكّر» ، و «ليذّكّروا» مشدّدا ذلك

_ (1) سورة النساء: 6.

[سورة الأنعام (6) : آية 153]

كلُّه. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، وابن عامر كل ذلك بالتشديد، إلا قوله تعالى: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ فانهم خففوه. روى أبان، وحفص عن عاصم: «يذكرون» خفيفة الذال في جميع القرآن. قرأ حمزة، والكسائي: «يذّكّرون» مشدداً إذا كان بالياء، ومخفّفا إذا كان بالتاء. [سورة الأنعام (6) : آية 153] وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو: «وأنّ» بفتح الألف مع تشديد النون. قال الفراء: إن شئت جعلت «أن» مفتوحة بوقوع «أتل» عليها وإن شئت جعلتها خفضاً، على معنى: ذلكم وصاكم به، وبأن هذا صراطي مستقيماً. وقرأ ابن عامر بفتح الألف أيضاً، إلا أنه خفف النون، فجعلها مخففة من الثقيلة وحكم إعرابها حكم تلك. وقرأ حمزة، والكسائي: بتشديد النون مع كسر الألف. قال الفراء: وكسر الألف على الاستئناف. وفي الصراط قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني: الإسلام. وقد بينا إعراب قوله: «مستقيما» . فأما «السُّبُل» ، فقال ابن عباس: هي الضلالات. وقال مجاهد: البدع والشبهات. وقال مقاتل: أراد ما حرَّموا على أنفسهم من الأنعام والحرث. فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أي: فتضلِّكم عن دينه. [سورة الأنعام (6) : آية 154] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) قوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قال الزّجّاج: «ثمّ» ها هنا للعطف على معنى التلاوة فالمعنى: أتل ما حرم ربكم، ثم اتل عليكم ما آتاه الله موسى. وقال ابن الانباري: الذي بعد «ثم» مقدَّم على الذي قبلها في النية والتقدير: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمّد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ في قوله تعالى: تَماماً قولان: أحدهما: أنها كلمة متصلة بما بعدها تقول: أعطيتك كذا تماماً على كذا، وتماما لكذا، وهذا قول الجمهور. والثاني: أن قوله: تَماماً كلمة قائمة بنفسها، غير متصلة بما بعدها والتقدير: آتينا موسى الكتاب تماماً، أي: في دفعة واحدة، لم نفرِّق إنزاله كما فُرِّق إنزال القرآن، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وفي المشار إليه بقوله: أَحْسَنُ أربعة أقوال: أحدها: أنه الله عزّ وجلّ: ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه، قاله ابن زيد. والثاني: تماما على إحسان الله تعالى إلى موسى وعلى هذين القولين، يكون «الذي» بمعنى «ما» . والقول الثاني: أنه إبراهيم الخليل عليه السلام فالمعنى: تماماً للنعمة على إبراهيم الذي أحسن في طاعة الله، وكانت نُبُوَّة موسى نعمة على إبراهيم، لأنه من ولده، ذكره الماوردي. والقول الثالث: أنه كل محسن من الانبياء، وغيرهم. وقال مجاهد: تماماً على المحسنين، أي: تماماً لكل محسن. وعلى هذا القول، يكون «الذي» بمعنى «مَن» ، و «على» بمعنى لام الجر ومن هذا قول العرب: أتم عليه، وأتم له. قال الراعي:

[سورة الأنعام (6) : آية 155]

رعته أشهرا وخلا عليها «1» أي: لها. قال ابن قتيبة: ومثل هذا أن تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحج تريد: للغازين والحاجِّين. والقول الرابع: أنه موسى. ثم في معنى: «أحسن» قولان: أحدهما: أَحْسَنَ في الدنيا بطاعة الله عزّ وجلّ. قال الحسن، وقتادة: تماما لكرامته في الجنة إلى إحسانه في الدنيا. وقال الربيع: هو إحسان موسى بطاعته. وقال ابن جرير: تماماً لنعمنا عنده على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا. والثاني: أحسن في العلم وكُتُبَ اللهِ القديمةِ وكأنه زيد على ما أحسنه من التوراة ويكون «التمام» بمعنى الزيادة، ذكره ابن الانباري. فعلى هذين القولين، يكون «الذي» بمعنى: «ما» . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، والحسن، وابن يعمر: «على الذي أحسنُ» ، بالرفع. قال الزجاج: معناه: على الذي هو أحسن الأشياء. وقرأ عبد الله بن عمرو، وأبو المتوكل، وأبو العالية: «على الذي أُحْسِنَ» برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون وهي تحتمل الإحسان، وتحتمل العلم. قوله تعالى: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي: تبياناً لكل شيء من أمر شريعتهم مما يحتاجون إلى علمه، لكي يؤمنوا بالبعث والجزاء. [سورة الأنعام (6) : آية 155] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) قوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ يعني القرآن، فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا أن تخالفوه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. قال الزّجّاج: لتكونوا راجين للرّحمة. [سورة الأنعام (6) : آية 156] أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا. سبب نزولها: (562) أن كفار مكة قالوا: قاتل الله اليهود والنصارى، كيف كذّبوا أنبياءهم فو الله لو جاءنا نذير وكتاب، لكنَّا أهدى منهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قال الفراء: «أن» في موضع نصب في مكانين: أحدهما: أنزلناه لئلا تقولوا. والآخر: من قوله: واتقوا أن تقولوا. وذكر الزجاج عن البصريين، أن معناه: أنزلناه، كراهة أن تقولوا ولا يجيزون إضمار «لا» . فأما الخطاب بهذه الآية، فهو لأهل مكة والمراد إثبات الحجة عليهم بانزال القرآن كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنصارى، وكنا غافلين عمّا فيهما. و «دراستهم» : قراءتهم الكتاب. قال الكسائي. وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ لا نعلم ما هي، لأن كتبهم لم تكن بلُغَتِنَا، فأنزل الله كتاباً بلغتهم لتنقطع حجّتهم.

_ باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث فالخبر لا شيء والمتن باطل.

[سورة الأنعام (6) : آية 157]

[سورة الأنعام (6) : آية 157] أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) قوله تعالى: لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ قال الزجاج: إنما كانوا يقولون هذا، لأنهم مُدِلُّون بالأذهان والأفهام، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم، وهم أُمِّيُّون لا يكتبون. فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ أي: ما فيه البيان وقطع الشبهات. قال ابن عباس: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ أي: حجة، وهو النبي، والقرآن، والهدى، والبيان، والرحمة، والنعمة. فَمَنْ أَظْلَمُ أي: أكفر مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ يعني محمداً والقرآن. وَصَدَفَ عَنْها: أعرض فلم يؤمن بها. وسوء العذاب: قبيحه. [سورة الأنعام (6) : آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ أي: ينتظرون إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تأتيهم» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي: «يأتيهم» بالياء. وهذا الإتيان لقبض أرواحهم. وقال مقاتل: المراد بالملائكة: ملك الموت وحده. قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ قال الحسن: أو يأتي أمْرُ ربك. وقال الزجاج: أو يأتيَ إهلاكه وانتقامه، إمِّا بعذاب عاجل، أو بالقيامة. قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وروى عبد الوارث إلا القزاز: بتسكين ياء «أو يأتي» ، وفتحها الباقون. وفي هذه الآية أربعة أقوال: (563) أحدها: أنه طلوع الشمس من مغربها، رواه أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن مسعود في رواية زرارة بن أوفى عنه، وعبد الله بن عمرو، ومجاهد وقتادة، والسدي. (564) وقد روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فاذا طلعت ورآها الناس، آمن مَن عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً» . (565) وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزال التّوبة مقبولة حتى

_ أخرجه الترمذي 3071 وأحمد 3/ 31 وأبو يعلى 1353 وإسناده ضعيف فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ وعطية العوفي ضعيف وحسنه الترمذي، وذكر أن بعضهم رواه موقوفا ا. هـ. من حديث أبي سعيد الخدري ومع ذلك فمثله لا يقال بالرأي. حديث صحيح أخرجه البخاري 4635 و 4636 و 6506 و 7121، ومسلم 157 وأبو داود 4312 والنسائي في «الكبرى» 11177 وابن ماجة 4068 وأحمد 2/ 231 و 313 و 350 و 398 و 530 وأبو يعلى 6085 وابن حبان 6838 والطبري 14208 و 14214 و 14215 من حديث أبي هريرة. حسن. أخرجه أحمد 1/ 192 والطبراني 19/ 381 وفي «مسند «الشاميين» 1674 والطبري 14217 و 14218 من حديث معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص وإسناده حسن، رجاله

[سورة الأنعام (6) : آية 159]

تطلع الشمس من مغربها، فاذا طلعت، طُبع على كلّ قلب بما فيه، وكفي الناس العمل» . والثاني: أنه طلوع الشمس والقمر من مغربهما، رواه مسروق عن ابن مسعود. والثالث: أنه إحدى الآيات الثلاث، طلوع الشمس من مغربها، والدابة، وفتح يأجوج ومأجوج، روى هذا المعنى القاسم عن ابن مسعود. والرابع: أنه طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال، ودابة الأرض، قاله أبو هريرة والأول أصح. والمراد بالخير ها هنا: العمل الصالح وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ، لظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان. وقال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه، قبِل منه، كما يقبل منه قبل الآية. وقيل: إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها، أن الملحدة والمنجمين، زعموا أن ذلك لا يكون، فيريهم الله تعالى قدرته، ويطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق، ولتحقق عجز نمرود حين قال له إبراهيم: فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ «1» . (فصل:) وفي قوله: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ قولان: أحدهما: أن المراد به التهديد، فهو محكم. والثاني: أنه أمر بالكف عن القتال، فهو منسوخ بآية السيف. [سورة الأنعام (6) : آية 159] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «فرّقوا» مشددة. وقرأ حمزة، والكسائي: «فارقوا» بألف. وكذلك قرءوا في (الروم) فمن قرأ: «فرّقوا» ، أراد: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. ومن قرأ: «فارقوا» ، أراد: باينوا. وفي المشار إليهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة، قاله أبو هريرة. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والسدي. والثالث: اليهود، قاله مجاهد. والرابع: جميع المشركين، قاله الحسن. فعلى هذا القول، دينهم: الكفر الذي يعتقدونه ديناً، وعلى ما قبله، دينهم: الذي أمرهم الله به. والشِّيَع: الفرق والأحزاب. قال الزجاج: ومعنى «شيّعتُ» في اللغة: اتبعت. والعرب تقول: شاعكم السلام، وأشاعكم، أي: تبعكم. قال الشاعر: ألا يا نَخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ... بَرُوْدِ الظِّلِّ شَاعَكُم السَّلاَمُ «2» وتقول: أتيتك غداً، أو شِيَعة، أي: أو اليوم الذي يتبعه. فمعنى الشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضاً، وليس كلهم متّفقين.

_ ثقات. وأخرجه أحمد 4/ 99 من حديث معاوية، وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» 5/ 251: رجال أحمد ثقات.

[سورة الأنعام (6) : آية 160]

وفي قوله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قولان: أحدهما: لست من قتالهم في شيء ثم نسخ بآية السيف، وهذا مذهب السدي. والثاني: لست منهم، أي: أنت بريء منهم، وهم منك برآء، إنما أمرهم إلى الله في جزائهم، فتكون الآية محكمة. [سورة الأنعام (6) : آية 160] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: «عَشْرٌ» بالتنوين، «أمثالُها» بالرفع. قال ابن عباس: يريد من عَمِلَها، كتبت له عشر حسنات. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا جزاء مِثْلَها. وفي الحسنة والسيئة ها هنا قولان: أحدهما: أن الحسنة: قول لا إله إلا الله. والسيئة: الشرك، قاله ابن مسعود، ومجاهد، والنخعي. والثاني: أنه عام في كل حسنة وسيئة. (566) روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عزّ وجلّ: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أَزِيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أَغْفِر» . فان قيل: إذا كانت الحسنة كلمة التوحيد، فأي مثل لها حتى يجعل جزاءُ قائلها عشر أمثالها؟ فالجواب: أن جزاء الحسنة معلوم القدر عند الله، فهو يجازي فاعلها بعشر أمثاله، وكذلك السيئة. وقد أشرنا إلى هذا في (المائدة) عند قوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «1» . فان قيل: المثل مذكَّر، فلم قال: عَشْرُ أَمْثالِها والهاء إنما تسقط في عدد المؤنث؟ فالجواب: أن الأمثال خلقت حسنات مؤنثة وتلخيص المعني: فله عشر حسنات أمثالها، فسقطت الهاء من عشر، لأنها عدد مؤنَّث، كما تسقط عند قولك: عشر نعال، وعشر جباب. [سورة الأنعام (6) : آية 161] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال الزجاج: أي: دلَّني على الدين الذي هو دين الحق. ثم فسَّر ذلك بقوله: دِيناً قِيَماً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «قيما» مفتوحة القاف،

_ صحيح. أخرجه مسلم 2687. وأخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» 959 وابن المبارك في «الزهد» 1035 ولصدره شاهد من حديث أبي هريرة عند البخاري 7501 ومسلم 128 وأحمد 2/ 242 وابن حبان 380، 381، 382، وابن مندة في «الإيمان» 375. ولعجزه «ومن تقرب مني ... » شاهد من حديث أنس عند البخاري 7536 وعبد الرزاق 30575 والطيالسي 2012 وأحمد 3/ 122 و 127 و 272، 283 وأبو يعلى 3180. ويشهد لعجزه أيضا حديث أبي هريرة عند البخاري 7405 ومسلم 2675 وابن حبان 376 وأحمد 2/ 435 و 509. ولفظ الحديث: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة بمثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة» .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 إلى 163]

مشددة الياء. والقيم: المستقيم. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «قِيَماً» بكسر القاف وتخفيف الياء. قال الزجاج: وهو مصدر، كالصِّغَر والكِبَر. وقال مكي: من خففه بناه على «فِعَل» وكان أصله أن يأتي بالواو، فيقول: «قِوَماً» كما قالوا: عِوَض، وحِوَل، ولكنه شذ عن القياس. قال الزجاج: ونصب قوله: دِيناً قِيَماً محمول على المعنى، لأنه لما قال: «هداني» دل على عرّفني ديناً ويجوز أن يكون على البدل من قوله: إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، فالمعنى: هداني صراطاً مستقيماً ديناً قيماً. و «حنيفاً» منصوب على الحال من إبراهيم، والمعنى: هداني ملّة إبراهيم في حال حنيفيّته. [سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 163] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي يريد: الصلاة المشروعة. والنّسك: جمع نسيكة. وفي النّسك ها هنا أربعة أقوال: أحدها: أنها الذبائح قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن قتيبة. والثاني: الدين، قاله الحسن. والثالث: العبادة. قال الزجاج: النسك كلُّ ما تُقُرِّب به إلى الله عزّ وجلّ، إلا أن الغالب عليه أمر الذبح. والرابع: أنه الدين، والحج، والذبائح، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى: وَمَحْيايَ وَمَماتِي الجمهور على تحريك ياء «محياي» ، وتسكين ياء «مماتي» . وقرأ نافع: بتسكين ياء «محياي» ، ونصب ياء «مماتي» ، ثم للمفسرين في معناه قولان: أحدهما: أن معناه: لا يملك حياتي ومماتي إلا الله. والثاني: حياتي لله في طاعته، ومماتي لله في رجوعي إلى جزائه. ومقصود الآية أنه أخبرهم أن أفعالي وأحوالي لله وحده، لا لغيره كما تشركون أنتم به. قوله تعالى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قال الحسن، وقتادة: أوّل المسلمين من هذه الأمّة. [سورة الأنعام (6) : آية 164] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا. (567) سبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر، ونحن لك الكُفلاء بما أصابك من تبعة، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها أي: لا يُؤْخذُ سواها بعملها. وقيل: المعنى: إلا عليها عقاب معصيتها، ولها ثواب طاعتها. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى قال الزجاج: لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى. والمعنى: لا يؤخذ أحد بذنب غيره. قال أبو سليمان: ولما ادَّعت كل فرقة من اليهود والنصارى والمشركين أنهم أولى بالله من غيرهم. عرفهم أنه الحاكم بينهم بقوله تعالى:

_ باطل، عزاه المصنف لمقاتل وهو من يضع الحديث وقد وضع مقاتل وهو ابن سليمان وكذا الكلبي لكل آية سببا لنزولها، وليس هذا بشيء.

[سورة الأنعام (6) : آية 165]

فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، ونظيره: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» . [سورة الأنعام (6) : آية 165] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ قال أبو عبيدة: الخلائف: جمع خليفة. قال الشماخ: تُصيْبُهُمُ وتُخْطُئُني المَنايا ... وأخْلُفُ في رُبُوعٍ عَنْ رُبوع «2» وللمفسرين فيمن خلفوه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم خلفوا الجن الذين كانوا سكان الأرض قاله ابن عباس. والثاني: أن بعضهم يخلف بعضاً قاله ابن قتيبة. والثالث: أن أمة محمد خلفت سائر الأمم، ذكره الزجاج. قوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أي: في الرزق، والعلم، والشرف، والقوة، وغير ذلك لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم، فيظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ فيه قولان: أحدهما: أنه سماه سريعاً، لأنه آتٍ، وكل آتٍ قريبٌ. والثاني: أنه إذا شاء العقوبة، أسرع عقابه.

_ (1) سورة الحج: 17. (2) البيت للشماخ ديوانه: 58 «واللسان» ربع. الربوع: جمع ربع وهو جماعة الناس الذين ينزلون ربعا يسكنونه، يقول: أبقى في قوم بعد قوم.

سورة الأعراف

سورة الأعراف (فصل في نزولها:) روى العوفي، وابن أبي طلحة، وأبو صالح عن ابن عباس، أن سورة (الأعراف) من المكّيّ، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وجابر بن زيد، وقتادة. وروي عن ابن عباس، وقتادة أنها مكّيّة، إلّا خمس آيات أوّلها قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ «1» . وقال مقاتل: كلّها مكّيّة، إلّا قوله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «2» فإنهنّ مدنيّات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعراف (7) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) فأما التفسير، فقوله تعالى: المص قد ذكرنا في أول سورة البقرة كلاماً مجملاً في الحروف المقطعة أوائلَ السور، فهو يعم هذه أيضاً. فأما ما يختص بهذه الآية ففيه سبعة أقوال: أحدها: أن معناه: أنا الله أعلم وأفضل، رواه أبو الضحى عن ابن عباس. والثاني: أنه قَسَمٌ أقسم الله به، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنها اسم من أسماء الله تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أن الألف مفتاح اسمه «الله» ، واللام مفتاح اسمه «لطيف» ، والميم مفتاح اسمه «مجيد» ، قاله أبو العالية «3» . والخامس: أن المص اسم للسورة، قاله الحسن. والسادس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. والسابع: أنها بعض كلمة. ثم في تلك الكلمة قولان: أحدهما: المصوّر، قاله السدي. والثاني: المصير إلى كتاب أنزل إليك، ذكره الماوردي. [سورة الأعراف (7) : آية 2] كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) قوله تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ قال الأخفش: رفع الكتاب بالابتداء. ومذهب الفراء أن الله تعالى اكتفى في مفتَتَح السور ببعض حروف المعجم عن جميعها، كما يقول القائل: «اب ت ث»

_ (1) سورة الأعراف: 163. [.....] (2) سورة الأعراف: 172. (3) هذه الأقوال الأربعة واهية لا برهان عليها، وهي بعيدة جدا، وكذا ما بعدها، والصواب في ذلك أن يقال: الله أعلم بمراده.

[سورة الأعراف (7) : آية 3]

ثمانية وعشرون حرفا فالمعنى: حروف المعجم: كتاب أنزلناه إليك. قال ابن الانباري: ويجوز أن يرتفع الكتاب باضمار: هذا الكتاب. وفي الحرج قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة. والثاني: أنه الضيق، قاله الحسن، والزجاج. وفي هاء «منه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الكتاب فعلى هذا، في معنى الكلام قولان: أحدهما: لا يضيقنَّ صدرك بالإبلاغ، ولا تخافنَّ، قاله الزجاج. والثاني: لا تشُكَنَّ أنه من عند الله. والقول الثاني: أنها ترجع إلى مضمر، وقد دل عليه الإِنذار، وهو التكذيب، ذكره ابن الانباري. قال الفراء: فمعنى الآية: لا يضيقنَّ صدرك إن كذبوك. قال الزجاج: وقوله تعالى: لِتُنْذِرَ بِهِ مقدَّم والمعنى: أُنزل إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه. وَذِكْرى يصلح أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض فأما النصب، فعلى قوله: أُنزل إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين أي ولتذكِّرَ به ذكرى، لان في الإنذار معنى التذكير. ويجوز الرفع على أن يكون: وهو ذكرى، كقولك: وهو ذكرى للمؤمنين. فأما الخفض، فعلى معنى: لتنذر، لأن معنى «لتنذر» : لأن تنذر المعنى للانذار والذكرى، وهو في موضع خفض. [سورة الأعراف (7) : آية 3] اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) قوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ إن قيل: كيف خاطبه بالإفراد في الآية الأولى، ثم جمع بقوله: «اتبعوا» ؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه لما علم أن الخطاب له ولأمته، حسن الجمع لذلك المعنى. والثاني: أن الخطاب الأول خاص له والثاني محمول على الإِنذار، والإِنذار في طريق القول، فكأنه قال: لتقول لهم منذرا: اتَّبِعُوا ... ، ذكرهما ابن الانباري. والثالث: أن الخطاب الثاني للمشركين، ذكره جماعة من المفسّرين قالوا: والذي أنزل إليهم القرآن. وقال الزجاج: الذي أنزل: القرآن وما أتى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، لأنه مما أنزل عليه، لقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1» . وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي: لا تتولوا مَنْ عدل عن دين الحق، وكلُّ من ارتضى مذهباً فهو ولي أهل المذهب. وقوله تعالى: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ما: زائدة مؤكِّدة والمعنى: قليلاً تتذكرون. قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «تذّكّرون» مشددة الذال والكاف. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «تذكّرون» خفيفة الذال مشددة الكاف. قال أبو علي: من قرأ «تذَّكرون» بالتشديد، أراد «تتذكرون» فأدغم التاء في الذال، وإدغامها فيها حسن، لأن التاء مهموسة، والذال مجهورة والمجهور أزيد صوتاً من المهموس وأقوى فإدغام الأنقص في الأزيد حسن. فأما حمزة ومن وافقه، فانهم حذفوا التاء التي أدغمها هؤلاء، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة. وقرأ ابن عامر: «يتذكرون» بياء وتاء، على الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم والمعنى: قليلاً ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب. [سورة الأعراف (7) : آية 4] وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، و «كم» تدل على الكثرة، و «رب» : موضوعة للقلّة. قال

_ (1) سورة الحشر: 7.

[سورة الأعراف (7) : آية 5]

الزجاج: المعنى: وكم من أهل قرية، فحذف الأهل، لأن في الكلام دليلاً عليه. وقوله تعالى: فَجاءَها بَأْسُنا محمول على لفظ القرية والمعنى: فجاءهم بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له إما ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون. قال ابن قتيبة: بأسنا: عذابنا، وبياتا: ليلاً. وقائلون: من القائلة نصف النهار. فان قيل: إنما أتاها البأس قبل الإهلاك، فكيف يقدَّم الهلاك؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن الهلاك والبأس يقعان معاً، كما تقول: أعطيتني فأحسنت وليس الإحسان بعد الإِعطاء ولا قبله، وإنما وقعا معاً، قاله الفراء. والثاني: أن الكون مضمر في الآية، تقديره: أهلكناها، وكان بأسنا قد جاءها، فأُضمر الكون، كما أُضمر في قوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ «1» ، أي: ما كانت الشياطين تتلوه، وقوله تعالى: إِنْ يَسْرِقْ «2» ، أي: إن يكن سرق. والثالث: أن في الآية تقديماً وتأخيراً، تقديره: وكم من قرية جاءها بأسنا بياتاً، أو هم قائلون فأهلكناها، كقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «3» أي: رافعك ومتوفيك، ذكرهما ابن الانباري. قوله تعالى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ قال الفراء: فيه واو مضمرة والمعنى: فجاءها بأسنا بياتاً، أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقا على نسق. [سورة الأعراف (7) : آية 5] فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) قوله تعالى: فَما كانَ دَعْواهُمْ قال اللغويون: الدّعوى ها هنا بمعنى الدعاء والقول. والمعنى: ما كان قولهم وتداعيهم إذ جاءهم العذاب إلا الاعتراف بالظلم. قال ابن الانباري: وللدعوى في الكلام موضعان: أحدهما: الإدعاء. والثاني: القول والدعاء. قال الشاعر: إذا مَذِلَتْ رِجْلي دعوتُكِ أشْتفي ... بدَعْواكِ مِنْ مذل بها فيهون «4» [سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 7] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) قوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يعني: الأمم يُسأَلون: هل بلَّغكم الرُّسُلُ وماذا أجبتم؟ ويسأل الرسل: هل بَلَّغتم، وماذا أُجبتم؟. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي: فلنُخبرنَّهم بما عملوا بعلم منا وَما كُنَّا غائِبِينَ عن الرسل والأمم. وقال ابن عباس: يوضع الكتاب، فيتكلّم بما كانوا يعملون. [سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 9] وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) قوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ أي: العدل. وإنما قال: «موازينه» لأن «من» في معنى جميع، يدل عليه قوله: فَأُولئِكَ. وفي معنى يَظْلِمُونَ قولان: أحدهما: يجحدون. والثاني: يكافرون. قال الفراء: والمراد بموازينه: وزنه. والعرب تقول: هل لك في درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك، ووزن دارك ويريدون: حذاء دارك. قال الشاعر:

_ (1) سورة البقرة: 102. (2) سورة يوسف: 77. (3) سورة آل عمران: 55. (4) البيت لكثير عزة، ديوانه 2/ 245. «اللسان» : مذل. ومذلت رجله مذلا بفتح وسكون وأمذلت: خدرت.

قَدْ كنتُ قَبْلَ لقائكم ذا مِرّةٍ ... عندي لكلِّ مُخَاصِمٍ ميزانُه «1» يعني: مثل كلامه ولفظه. (فصل:) والقول بالميزان مشهور في الحديث، وظاهر القرآن ينطق به. وأنكرت المعتزلة ذلك، وقالوا: الأعمال أعراض، فكيف توزن؟ فالجواب: أن الوزن يرجع إلى الصحائف، بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (568) «إنّ الله عزّ وجلّ يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الناس يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سِجِلاً، كُلُّ سِجِلٍّ مدُّ البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظُلم عليك اليوم، فيُخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فتوضع السجِلاَّت في كفة، والبطاقة في كفة قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» أخرجه أحمد في «مسنده» ، والترمذي. (569) وروى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب، فلا يزن جناح بعوضة» ، فعلى هذا يوزن الإنسان. قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان، له لسان وكِفّتان. فأما المؤمن، فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفة الميزان، فيخف وزنه. وقال الحسن: للميزان لسان وكفتان. وجاء في الحديث: (570) أن داود عليه السلام سأل ربه ان يريه الميزان، فأراه إياه فقال: يا إلهي، من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات؟ فقال: يا داود، إني إذا رضيت عن عبدي، ملأتها بتمرة. وقال حذيفة: جبريل صاحب الميزان يوم القيامة يقول له ربه: زن بينهم، ورُدَّ من بعضهم على بعض فيرد على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة. فان لم تكن له حسنة، أخذ من سيئات المظلوم، فرد على سيئات الظالم، فيرجع وعليه مثل الجبل. فإن قيل: أليس الله عزّ وجلّ يعلم مقادير الأعمال، فما الحكمة في وزنها؟ فالجواب أن فيه خمسة حكم: إِحداها: امتحان الخلق بالإِيمان بذلك في الدنيا. والثانية: إظهار علامة السعادة والشقاوة في الأخرى. والثالثة: تعريف العباد ما لهم من خير وشر. والرابعة: إقامة

_ حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي 2639 وابن ماجة 4300 وأحمد 2/ 213 وابن حبان 225 والحاكم 1/ 529. من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حسن لأجل عامر بن يحيى، وبقية رجاله رجال مسلم. وورد من طريق ابن لهيعة أخرجه أحمد 2/ 222 وابن لهيعة حسن الحديث في الشواهد والمتابعات. وانظر «تفسير الشوكاني» 967 بتخريجنا. صحيح. أخرجه البخاري 4729 ومسلم 2785 من حديث أبي هريرة. لم أقف عليه، ولعل مصدره كتب الأقدمين، والله أعلم.

[سورة الأعراف (7) : آية 10]

الحجة عليهم. والخامسة: الإعلام بأن الله عادل لا يظلم. ونظير هذا أنه أثبت الاعمال في كتاب، واستنسخها من غير جواز النسيان عليه. [سورة الأعراف (7) : آية 10] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) قوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ فيه قولان: أحدهما: مكنَّاكم إياها. والثاني: سهَّلنا عليكم التصرف فيها. وفي المعايش قولان: أحدهما: ما تعيشون به من المطاعم والمشارب. والثاني: ما تتوصَّلون به إلى المعايش، من زراعة، وعمل، وكسب. وأكثر القراء على ترك الهمز في «معايش» وقد رواها خارجة عن نافع مهموزة. قال الزجاج: وجميع النحويين البصريين يزعمون أن همزها خطأ، لأن الهمز إنما يكون في الياء الزائدة، نحو صحيفة وصحائف فصحيفة من الصحف والياء زائدة، فأما معايش، فمن العيش فالياء أصلية. قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي: شكركم قليل. وقال ابن عباس: يريد أنكم غير شاكرين. [سورة الأعراف (7) : آية 11] وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ فيه ثمانية أقوال «1» : أحدها: ولقد خلقناكم في ظهر

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 437- 438: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ولقد خلقنا آدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ بتصويرنا آدم. كما قد بينا فيما مضى من خطاب العرب الرجل بالأفعال تضيفها إليه. والمعنيّ في ذلك سلفه، وكما قال جل ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة: 63] وما أشبه ذلك من الخطاب الموجه إلى الحي الموجود، والمراد به السلف المعدوم، فكذلك ذلك في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ. معناه ولقد خلقنا أباكم آدم ثم صورناه. وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الذي يتلو ذلك قوله ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم، قبل أن يصور ذريته في بطون أمهاتهم بل قبل أن يخلق أمهاتهم. و «ثم» في كلام العرب لا تأتي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها، وذلك كقول القائل: «قمت ثم قعدت» لا يكون «القعود» إذا عطف به ب «ثم» على قوله «قمت» إلا بعد القيام. وكذلك ذلك في جميع الكلام. ولو كان العطف في ذلك بالواو، جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها وذلك كقول القائل: «قمت وقعدت» ، فجائز أن يكون القعود في هذا الكلام قد كان قبل «القيام» لأن «الواو» تدخل في الكلام إذا كانت عطفا توجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها، من غير دلالة منها بنفسها على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين. أو إن كانا في وقتين، أيهما المتقدم وأيهما المتأخر. فلما وصفنا قلنا إن قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ لا يصح تأويله إلا على ما ذكرنا. وقد وجه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب كذلك إلى أنه من المؤخر الذي معناه التقديم، وزعم أن معنى ذلك: ولقد خلقناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم، وذلك غير جائز في كلام العرب، لأنها لا تدخل «ثم» في الكلام وهي مراد بها التقديم على ما قبلها من الخبر، وإن كانوا قد يقدمونها في الكلام، إذا كان فيه دليل على أن معناها التأخير وذلك كقولهم: «قام عبد الله ثم عمرو» . فأما إذا قيل: «قام عبد الله ثم قعد عمرو» فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلا بعد قيام عبد الله إذا كان الخبر صادقا، فقوله تبارك. وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا نظير قول القائل: «قام عبد الله ثم قعد عمرو» . في أنه غير جائز أن يكون أمر الله الملائكة بالسجود لآدم كان إلا بعد الخلق والتصوير لما وصفنا قبل. ا. هـ.

[سورة الأعراف (7) : آية 12]

آدم، ثم صورناكم في الأرحام، رواه عبد الله بن الحارث عن ابن عباس. والثاني: ولقد خلقناكم في أصلاب الرجال، وصورناكم في أرحام النساء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والثالث: «ولقد خلقناكم» ، يعني آدم، «ثم صورَّناكم» ، يعني ذريته من بعده رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: «ولقد خلقناكم» ،: يعني آدم، «ثم صورناكم» في ظهره، قاله مجاهد. والخامس: «خلقناكم» نطفاً في أصلاب الرجال، وترائب النساء، «ثم صورَّناكم» عند اجتماع النطف في الأرحام، قاله ابن السائب. والسادس: «خلقناكم» في بطون أُمهاتكم، «ثم صورناكم» فيما بعد الخلق بشقّ السّمع والبصر، قاله معمر. والسابع: «خلقناكم» ، يعني آدم خلقناه من تراب، «ثم صورناكم» ، أي: صوَّرناه، قاله الزجاج، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: فجعل الخلق لهم إذ كانوا منه فمن قال: عنى بقوله: «خلقناكم» آدم، فمعناه: خلقنا أصلكم ومن قال: صورنا ذريته في ظهره، أراد إخراجهم يوم الميثاق كهيئة الذر. والثامن: «ولقد خلقناكم» يعني الأرواح، «ثم صورناكم» يعني الأجساد، حكاه القاضي أبو يعلى في «المعتمد» . وفي «ثم» المذكورة مرتين قولان: أحدهما: أنها بمعنى الواو، قاله الأخفش. والثاني: أنها للترتيب، قاله الزجاج. [سورة الأعراف (7) : آية 12] قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «ما» استفهام، ومعناها الإنكار. قال الكسائيّ: «لا» ها هنا زائدة. والمعنى: ما منعك أن تسجد؟. وقال الزجاج: موضع «ما» رفع. والمعنى أي شيء منعك من السجود؟ و «لا» زائدة مؤكدة ومثله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» قال ابن قتيبة: وقد تزاد «لا» في الكلام. والمعنى: طرحُها لإباءٍ في الكلام، أو جحد، كهذه الآية. وإنما زاد «لا» لأنه لم يسجد. ومثله: أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «2» على قراءة من فتح «أنها» ، فزاد «لا» لأنهم لم يؤمنوا ومثله: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «3» . وقال الفرّاء: «لا» ها هنا جحد محض، وليست بزائدة، والمنع راجع إلى تأويل القول، والتأويل: من قال لك: لا تسجد؟، فأحل المنع محل القول، ودخلت بعده «أن» ليدل على تأويل القول الذي لم يتصرح لفظه. وقال ابن جرير: في الكلام محذوف، تقديره: ما منعك من السجود، فأحوجك أن لا تسجد؟. قال الزجاج: وسؤال الله تعالى لإبليس «ما منعك» توبيخ له، وليُظهر أنه معاند، ولذلك لم يتب، وأتى بشيء في معنى الجواب، ولفظه غير جواب، لأن قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إنما هو جواب، أيكما خير؟ ولكن المعنى: منعني من السجود فضلي عليه. ومثله قولك للرجل: كيف كنت؟ فيقول: أنا صالح وإنما الجواب: كنت صالحا، فيجيب بما يُحتاج إليه وزيادة. قال العلماء: وقع الخطأ من إبليس حين قاس مع وجود النص، وخفي عليه فضل الطين على النار وفضله من وجوه: أحدها: أن من طبع النار الطيش والالتهاب والعجلة، ومن طبع الطين الهدوء والرزانة. والثاني: أن الطين سبب الإنبات والإيجاد، والنّار سبب الإعدام

_ (1) سورة الحديد: 29. (2) سورة الأنعام: 109. (3) سورة الأنبياء: 95.

[سورة الأعراف (7) : آية 13]

والإهلاك. والثالث: أن الطين سبب جمع الأشياء، والنّار سبب تفريقها. [سورة الأعراف (7) : آية 13] قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قوله تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى السماء، لأنه كان فيها، قاله الحسن. والثاني: إلى الجنة، قاله السدي. قوله تعالى: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها، إن قيل: فهل لأحد أن يتكبر في غيرها؟ فالجواب: أن المعنى: ما للمتكبر أن يكون فيها، وإنما المتكبر في غيرها. وأما الصاغر، فهو الذليل. والصغار: الذل. قال الزجاج: استكبر إبليس بابائه السجود، فأعلمه الله أنه صاغر بذلك. [سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 15] قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قوله تعالى: قالَ أَنْظِرْنِي أي أمهلني وأخرني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فأراد أن يعبر قنطرة الموت وسأل الخلود، فلم يجبه إلى ذلك، وأنظره إلى النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم. وقد بين مدة إمهاله في «الحجر» بقوله: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «1» . وفي ما سأل الإمهال له قولان: أحدهما: الموت. والثاني: العقوبة. فان قيل: كيف قيل له: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ وليس أحد أُنظِر سواه؟ فالجواب: أن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم، فهو منهم. [سورة الأعراف (7) : آية 16] قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) قوله تعالى: فَبِما أَغْوَيْتَنِي في معنى هذا الإِغواء قولان: أحدهما: أنه بمعنى الإِضلال، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنه بمعنى الإهلاك، ومنه قوله: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا «2» أي: هلاكاً، ذكره ابن الأنباري. وفي معنى «فبما» قولان: أحدهما: أنها بمعنى القسم، أي: فباغوائك لي. والثاني: أنها بمعنى الجزاء، أي: فبأنك أغويتني، ولأجل أنك أغويتني لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ. قال الفراء، والزجاج: أي على صراطك. ومثله قولهم: ضُرب زيد الظهر والبطن. وفي المراد بالصّراط ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه طريق مكة، قاله ابن مسعود، والحسن، وسعيد بن جبير كأن المراد صدُّهم عن الحج. والثاني: أنه الإِسلام، قاله جابر بن عبد الله، وابن الحنفية، ومقاتل. والثالث: أنه الحقّ، قاله مجاهد. [سورة الأعراف (7) : آية 17] ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قوله تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فيه سبعة أقوال «3» : أحدها: «من بين أيديهم» أشككهم في آخرتهم، «ومن خلفهم» أرغبهم في دنياهم، «وعن أيمانهم» أي: من قبل

_ (1) سورة الحجر: 38. (2) سورة مريم: 59. [.....] (3) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 447: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: معناه ثم لآتينهم من جميع وجوه الحق والباطل فأصدهم عن الحق، وأحسّن لهم الباطل. وذلك أن ذلك عقيب قوله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فأخبر أنه يقعد لبني آدم على الطريق الذي أمرهم الله أن يسلكوه، وهو ما وصفنا من دين الحق، فيأتيهم في ذلك من كلا الوجوه الذي أمرهم به، فيصدهم عنه وذلك (من بين أيديهم وعن أيمانهم) ومن الوجه الذي نهاهم الله عنه، فيزينه لهم ويدعوهم إليه وذلك (من خلفهم وعن شمائلهم) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 18 إلى 19]

حسناتهم، «وعن شمائلهم» من قِبل سيئاتهم، قاله ابن عباس وقتادة. والثاني: مثلُه، إلا أنهم جعلوا «من بين أيديهم» الدنيا، «ومن خلفهم» الآخرة، قاله النخعي، والحكم بن عتيبة. والثالث: مثل الثاني، إلا أنهم جعلوا «وعن أيمانهم» من قبل الحق أصدَّهم عنه، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل الباطل أردُّهم إليه، قاله مجاهد، والسدي. والرابع: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من سبيل الحق، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من سبيل الباطل، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل آخرتهم، «وعن شمائلهم» من أمر الدنيا، قاله أبو صالح. والخامس: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ «وعن أيمانهم» من حيث يبصرون، وَمِنْ خَلْفِهِمْ «وعن شمائلهم» من حيث لا يبصرون، نقل عن مجاهد أيضاً. والسادس: أن المعنى: لأتصرفن لهم في الإِضلال من جميع جهاتهم، قاله الزجاج، وأبو سليمان الدمشقي. فعلى هذا، يكون ذكر هذه الجهات، للمبالغة في التأكيد. والسابع: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فيما بقي من أعمارهم، فلا يقدمون فيه على طاعة، «ومن خلفهم» فيما مضى من أعمارهم، فلا يتوبون فيه من معصية، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل الغنى، فلا ينفقونه في مشكور، «وعن شمائلهم» من قبل الفقر، فلا يمتنعون فيه من محظور، قاله الماوردي. قوله تعالى: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فيه قولان: أحدهما: موحِّدين، قاله ابن عباس. والثاني: شاكرين لنعمتك، قاله مقاتل. فان قيل: من أين علم إبليس ذلك؟ فقد أسلفنا الجواب عن هذا في سورة (النساء) . [سورة الأعراف (7) : الآيات 18 الى 19] قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) قوله تعالى: قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً وقرأ الأعمش: «مذوماً» بضم الذال من غير همز. قال الفراء: الذَّأْمُ: الذَّمُّ يقال: ذأمْتُ الرجلَ، أذأَمُه ذأمْاً وذممتُه، أذُمُّه ذمّاً وذِمْتُه، أذيمُه ذيما ويقال: رجل مذءوم، ومذموم، ومَذيم، بمعنى. قال حسان بن ثابت: وأقاموا حتى أبيروا جميعاً ... في مَقامٍ وكُلُّهم مذءوم «1» قال ابن قتيبة: المذؤوم: المذموم بأبلغ الذم. والمدحور: المقصى المبعَد. وقال الزجاج: معنى المذؤوم كمعنى المذموم، والمدحور: المبعد من رحمة الله. واللام من «لأملأن» : لام القسم والكلام بمعنى الشرط والجزاء، كأنه قيل له: من تبعك، أُعذبْه، فدخلت اللام للمبالغة والتوكيد. فلام «لأملأن» هي لام القسم، ولام «لَمن تبعك» توطئة لها. فأما قوله: «منهم» فقال ابن الانباري: الهاء والميم عائدتان على ولد آدم لانه حين قال: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ «2» كان مخاطباً لولد آدم، فرجع إليهم، فقال: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فجعلهم غائبين، لأن مخاطبتهم في ذا الموضع توقع لَبْساً والعرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب. ومن قال: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ خطاب لآدم، قال: أعاد الهاء والميم على ولده، لأن ذكره يكفي من ذكرهم والعرب تكتفي بذكر الوالد من ذكر الأولاد إذا انكشف المعنى وزال اللبس. قال الشاعر: أرى الخَطَفى بَذَّ الفرزدقُ شِعْرَهُ ... ولكنَّ خيراً من كليب مجاشع

_ (1) البيت منسوب إلى حسان بن ثابت «سيرة ابن هشام» 2/ 150. (2) سورة الأعراف: 11.

[سورة الأعراف (7) : آية 20]

أراد: أرى ابن الخطفى، فاكتفى بالخطفى من ابنه. قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ يعني أولاد آدم المخالفين وقرناءهم من الشّياطين. [سورة الأعراف (7) : آية 20] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) قوله تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ قيل: إن الوسوسة: إخفاء الصوت. قال ابن فارس: الوسواس: صوت الحلي، ومنه وسواس الشيطان. و «لهما» بمعنى «إليهما» ، لِيُبْدِيَ لَهُما أي: ليظهر لهما ما وُورِيَ عَنْهُما أي: ستر. وقيل: إن لام «ليبدي» لام العاقبة وذلك أن عاقبة الوسوسة أدت إلى ظهور عورتهما، ولم تكن الوسوسة لظهورها. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ قال الأخفش، والزجاج: معناه: ما نهاكما إلا كراهة أن تكونا ملَكَين. وقال ابن الانباري: المعنى: إلا أن لا تكونا، فاكتفى ب «أن» من «لا» فأسقطها. فان قيل: كيف انقاد آدم لإبليس، مستشرفاً إلى أن يكون ملكاً، وقد شاهد الملائكة ساجدة له؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه عرف قربهم من الله، واجتماع أكثرهم حول عرشه، فاستشرف لذلك، قاله ابن الأنباري. والثاني: أن المعنى: إلا أن تكونا طويلَي العمر مع الملائكة أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ لا تموتان أبداً، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد روى يعلى بن حكيم عن ابن كثير: «أن تكونا ملِكين» بكسر اللام، وهي قراءة الزّهريّ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 21 الى 25] وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) قوله تعالى: وَقاسَمَهُما قال الزجاج: حلف لهما، فدلاَّهما في المعصية بأن غرَّهما. قال ابن عباس: غرَّهما باليمين، وكان آدم لا يظن أن أحداً يحلف بالله كاذباً. قوله تعالى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أي: فلما ذاقا ثمر الشجرة. قال الزجاج: وهذا يدل على أنهما إنما ذاقاها ذواقاً، ولم يبالغا في الأكل. والسوأة كناية عن الفرج، لا أصل له في تسميته. ومعنى وَطَفِقا أخذا في الفعل والأكثر: طفِق يَطْفَقُ وقد رويت: طفقَ يَطْفِقُ، بكسر الفاء، ومعنى يَخْصِفانِ يجعلان ورقة على ورقة، ومنه قيل للذي يرقع النعل: خصاف. وفي الآية دليل على أن إظهار السوأة قبيح من لدن آدم ألا ترى إلى قوله: لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما فانهما بادرا يستتران لقبح التكشف. وقيل: إنما سميت السوأةُ سوأةً، لأن كشفها يسوء صاحبها. قال وهب بن منبه: كان لباسهما نوراً على فروجهما، لا يرى أحدهما عورة الآخر فلما أصابا الخطيئة، بدت لهما سوءاتهما. وقرأ الحسن: «سوأتُهما» على التوحيد وكذلك قرأ «يِخِصّفان» بكسر الياء والخاء مع تشديد الصاد. وقرأ الزهري: بضم الياء وفتح الخاء مع تشديد الصاد. وفي الورق قولان: أحدهما: ورق

[سورة الأعراف (7) : آية 26]

التين، قاله ابن عباس. والثاني: ورق الموز، ذكره المفسرون. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إِلى قوله: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ يعني الأرض. واختلف العلماء في تاء «تخرجون» فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو: بضم التاء وفتح الراء، هاهنا وفي (الرّوم) : وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ «1» . وفي (الزّخرف) : كَذلِكَ تُخْرَجُونَ «2» وفي (الجاثية) : لا يُخْرَجُونَ مِنْها «3» . وقرأهن حمزة، والكسائي: بفتح التاء وضم الراء. وفتح ابن عامر التاء في (الاعراف) فقط. فأما التي في (الروم) إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ «4» ، وفي (سأل سائل) يَوْمَ يَخْرُجُونَ «5» فمفتوحتان من غير خلاف. [سورة الأعراف (7) : آية 26] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً. (571) سبب نزولها: أن ناساً من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراةً، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. وقيل: إنه لما ذكر عري آدم، منّ علينا باللباس. وفي معنى أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: خلقنا لكم. والثاني: ألهمناكم كيفية صنعه. والثالث: أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتخذ لباساً. وأكثر القرّاء قرءوا: «وريشاً» . وقرأ ابن عباس والحسن وزرّ بن حبيش وقتادة والمفضل، وأبان عن عاصم: «ورياشاً» بألف. قال الفراء: يجوز أن تكون الرياش جمع الريش، ويجوز أن تكون بمعنى الريش كما قالوا: لبس، ولباس. فلما كَشَفْنَ اللِّبْس عنه مَسَحْنَهُ ... بأطراف طَفْل زانَ غَيْلاً مُوَشَّماً «6» قال ابن عباس، ومجاهد: «الرياش» : المال وقال عطاء: المال والنعيم. وقال ابن زيد: الريش: الجَمال وقال معبد الجهني: الريش: الرزق وقال ابن قتيبة: الريش والرياش: ما ظهر من اللباس. وقال الزجاج: الريش: اللباس وكل ما ستر الإِنسان في جسمه ومعيشته. يقال: تريَّش فلان، أي: صار له ما يعيش به. أنشد سيبويه: رياشي منكُم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما «7»

_ ضعيف. أخرجه الطبري 14423 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف. وكرره 14427 عن مجاهد مرسلا بنحوه.

[سورة الأعراف (7) : آية 27]

وعلى قول الأكثرين: الريش والرياش بمعنى. قال قطرب: الريش والرياش واحد. وقال سفيان الثوري: الريش: المال، والرياش: الثياب. قوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة: «ولباسُ التقوى» بالرفع. وقرأ ابن عامر، ونافع، والكسائي: بنصب اللباس. قال الزجاج: من نصب اللباس، عطف به على الريش ومن رفعه، فيجوز أن يكون مبتدأً، ويجوز أن يكون مرفوعاً باضمار: هو المعنى: وهو لباس التقوى، أي: وستر العورة لباس المتقين. وللمفسرين في لباس التقوى عشرة أقوال «1» : أحدها: أنه السمت الحسن، قاله عثمان بن عفان ورواه الذيَّال بن عمرو عن ابن عباس. والثاني: العمل الصالح، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: الإيمان، قاله قتادة، وابن جريج، والسدي فعلى هذا، سمي لباس التقوى، لأنه يقي العذاب. والرابع: خشية الله تعالى، قاله عروة بن الزبير. والخامس: الحياء، قاله معبد الجهني، وابن الانباري. والسادس: ستر العورة للصلاة، قاله ابن زيد. والسابع: انه الدرع، وسائر آلات الحرب، قاله زيد بن علي. والثامن: العفاف، قاله ابن السائب. والتاسع: أنه ما يُتَّقى به الحر والبرد، قاله ابن بحر. والعاشر: أن المعنى: ما يَلْبَسه المتقون في الآخرة، خير مما يلبسه أهل الدنيا، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه. قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ قال ابن قتيبة: المعنى: ولباس التقوى خير من الثياب، لأن الفاجر، وإِن كان حسن الثوب، فهو بادي العورة و «ذلك» زائدة. قال الشاعر في هذا المعنى: إنِّي كأنِّي أرَى مَنْ لا حَياءَ لَه ... وَلاَ أمَانَةَ وَسْطَ القَوْمِ عُريانا «2» قال ابن الانباري: ويقال: لباس التقوى، هو اللباس الأول، وإنما أعاده لِما أخبر عنه بأنه خير من التعرِّي، إذ كانوا يتعبدون في الجاهلية بالتعرِّي في الطواف. قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ قال مقاتل: يعني: الثيابُ والمالُ من آيات الله وصنعه، لكي يذّكروا، فيعتبروا في صنعه. [سورة الأعراف (7) : آية 27] يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ قال المفسرون: هذا الخطاب للذين كانوا يطوفون

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 5/ 460: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل لِباسُ التَّقْوى استشعار النفوس تقوى الله في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته، وذلك يجمع الإيمان والعمل الصالح، والحياء، وخشية الله، والسمت الحسن. لأن من اتقى الله كان به مؤمنا، وبما أمره به عاملا، وفيه خائفا، وله مراقبا، ومن أن يرى عند ما يكرهه من عباده مستحييا. من كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه، فحسن سمته وهديه، ورئيت عليه بهجة الإيمان ونوره. وإنما قلنا عني ب (لباس التقوى) استشعار النفس والقلب ذلك لأن «اللباس» إنما هو ادراع ما يلبس، واجتناب ما يكتسي، أو تغطية بدنه أو بعضه به، فكل من ادرع شيئا واجتابه حتى يرى عينه أو أثره عليه، فهو له «لابس» ولذلك جعل جل ثناؤه الرجال للنساء لباسا، وهن لهن لباسا، وجعل الليل لعباده لباسا. ا. هـ. (2) البيت منسوب إلى سوّار بن المضرب «اللسان» وسط.

[سورة الأعراف (7) : آية 28]

عراةً والمعنى: لا يخدعنَّكم ولا يضلنَّكم بغروره، فيزِّين لكم كشف عوراتِكم، كما أخرج أبويكم من الجنة بغروره. وأضيف الإخراج ونزع اللباس إليه، لأنه السبب. وفي «لباسهما» أربعة أقوال: أحدها: أنه النور، رواه أبو صالح عن ابن عباس وقد ذكرناه عن ابن منبه. والثاني: أنه كان كالظُفُر فلما أكلا، لم يبق عليهما منه إلا الظُفر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وابن زيد. والثالث: أنه التقوى، قاله مجاهد. والرابع: أنه كان من ثياب الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى. قوله تعالى: لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما أي: ليري كل واحد منهما سوأة صاحبه. إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ قال مجاهد: قبيله: الجن والشياطين. قال ابن عباس: جعلهم الله تعالى يَجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم، فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم. قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال الزجاج: سلَّطناهم عليهم، يزيدون في غيّهم. وقال أبو سليمان: جعلناهم موالين لهم. [سورة الأعراف (7) : آية 28] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قوله تعالى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فيمن عني بهذه الآية ثلاثة أقوال: (572) أحدها: أنهم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة. والفاحشة: كشف العورة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وزيد بن أسلم، والسدي. (573) والثاني: أنهم الذين جعلوا السائبة والوصيلة والحام، وتلك الفاحشة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم المشركون والفاحشة: الشرك، قاله الحسن، وعطاء. قال الزجاج: فأعلمهم عزّ وجلّ أنه لا يأمر بالفحشاء، لأن حكمته تدل على أنه لا يفعل إلا المستحسن. والقسط: العدل. والعدل: ما استقر في النفوس أنه مستقيم لا ينكره مميِّز، فكيف يأمر بالفحشاء، وهي ما عظم قبحه؟! [سورة الأعراف (7) : آية 29] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)

_ روي من وجوه لا تصح والصحيح في هذه الآية العموم في كل فاحشة. أخرجه الطبري 14472 عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وفيه عطاء بن السائب، وقد اختلط. وكرره 11468 و 11469 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وكرره 1447 عن سعيد بن جبير والشعبي، وفيه عطاء بن السائب غير قوي، وعنه عمران بن عيينة لين الحديث. عزاه المصنف لابن عباس من طريق أبي صالح، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهذه رواية واهية ليست بشيء.

[سورة الأعراف (7) : آية 30]

قوله تعالى: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فيه أربعة أقوال: أحدها: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد، فصلُّوا فيه، ولا يقولنَّ أحدكم: أُصلي في مسجدي، قاله ابن عباس، والضحاك، واختاره ابن قتيبة. والثاني: توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة، قاله مجاهد، والسّدّيّ، وابن زيد. الثالث: اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون غيره، قاله الربيع بن أنس. والرابع: اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة، أمراً بالجماعة لها، ذكره الماوردي. وفي قوله: وَادْعُوهُ قولان: أحدهما: أنه العبادة. والثاني: الدّعاء. وفي قوله تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ قولان: أحدهما: مُفْردين له العبادة. والثاني: موحِّدين غير مشركين. وفي قوله: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: كما بدأكم سعداء وأشقياء، كذلك تبعثون، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والقرظي، والسدي، ومقاتل، والفراء. والثاني: كما خُلقتم بقدرته كذلك يعيدكم، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن وابن زيد والزجاج، وقال: هذا الكلام متصل بقوله: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ «1» . والثالث: كما بدأكم لا تملكون شيئا، كذلك تعودون، ذكره الماوردي. [سورة الأعراف (7) : آية 30] فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) قوله تعالى: فَرِيقاً هَدى قال الفراء: نصب الفريق ب «تعودون» . وقال ابن الانباري: نصب «فريقا» «وفريقا» على الحال من الضمير الذي في «تعودون» ، يريد: تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين، بعضكم سعداء، وبعضكم أشقياء. قوله تعالى: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أي: بالكلمة القديمة، والإرادة السّابقة. [سورة الأعراف (7) : آية 31] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ. (574) سبب نزولها: أن ناساً من الأعراب كانوا يطوفون بالبيت عراةً، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تعلِّق على فرجها سيوراً، وتقول:

_ موقوف. أخرجه مسلم 3028 والنسائي في «التفسير» 202 و «المجتبى» 2956 والطبري 14509 و 14510 و 14512 من طرق عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم بن عمران عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. قلت: ولهذا الخبر ثلاث علل: الأولى: الإرسال، فقد أخرجه الطبري 14527 من طريق سويد وأبي أسامة عن حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير مرسلا، ليس فيه ذكر ابن عباس، وهذا الإسناد أصح، أيوب هو السختياني أثبت وأحفظ من مسلم البطين، ثم ذكر المرأة لا يصح لأنه يعم كل امرأة تطوف عريانة، وتقول هذا الشعر، وهذا باطل، هناك من النساء من يأبى ذلك، وهناك نساء أخر، لا يعرفن هذا الشعر، فهذه علة ثانية. والصواب ما في مرسل سعيد بن جبير كانوا يطوفون بالبيت عراة فطافت امرأة بالبيت وهي عريانة

اليومَ يَبْدُو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ ... وَمَا بَدا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس. (575) وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: كانوا إذا حجوا، فأفاضوا من منى، لا يصلح لأحد منهم في دينه الذي اشترعوا أن يطوف في ثوبيه، فيلقيهما حتى يقضي طوافه، فنزلت هذه الآية. (576) وقال الزهري: كانت العرب تطوف بالبيت عراةً، إلا الحمس «1» قريشٌ وأحلافها، فمن جاء من غيرهم، وضع ثيابه وطاف في ثوبي أحمس، فان لم يجد من يُعيره من الحمس، ألقى ثيابه وطاف عرياناً، فان طاف في ثياب نفسه، جعلها حراماً عليه إذا قضى الطواف، فلذلك جاءت هذه الآية. وفي هذه الزينة قولان: أحدهما: الثياب. ثم فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه ورد في ستر العورة في الطواف، قاله ابن عباس، والحسن في جماعة. والثاني: أنه ورد في ستر العورة في الصلاة، قاله

_ فقالت..» فهذا هو الصواب، أن امرأة واحدة هي التي قالت هذا الشعر. العلة الثالثة: قوله «فتقول من يعيرني تطوافا، تجعله على فرجها» وهذا غريب، وباقي الروايات عن ابن عباس وعطاء وإبراهيم وغيرهم لا تذكر ذلك، وإنما فيها: وكانوا يطوفون بالبيت عراة، فنهوا عن ذلك، ولا يعني من لفظ «عراة» أنها ليس على فرجها شيء. ويؤيد ذلك ما في الطبري 14512 عن وهب بن جرير حيث قال في روايته «كانت المرأة تطوف بالبيت، وقد أخرجت صدرها وما هنالك، وإن ثبت أنهن عراة ليس عليهن شيء فهو محمول على إحدى روايات الطبري، وهي برقم 14510 عن ابن عباس: كانوا يطوفون عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، فتنبه، والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» 891 بتخريجنا. مرسل. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 453 عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلا. مرسل، أخرجه الطبري 14530 عن الزهري مرسلا. وأخرجه البخاري 1665 ومسلم 1219/ 152 من حديث عروة. ولفظه عند البخاري: كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحمس والحمس قريش وما ولدت وكان الحمس يحتسبون على الناس، يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عريانا. وكان يفيض جماعة الناس من عرفات وتفيض الحمس من جمع.

[سورة الأعراف (7) : آية 32]

مجاهد، والزجاج. والثالث: أنه ورد في التزين بأجمل الثياب في الجمع والأعياد، ذكره الماوردي. والثاني: أن المراد بالزينة: المشط، قاله أبو رزين. قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا قال ابن السائب: كان أهل الجاهلية لا يأكلون في أيام حَجِّهم دَسَماً، ولا ينالون من الطعام إلّا قوتا، تعظيما لحجّتهم، فنزل قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا. وفي قوله: وَلا تُسْرِفُوا أربعة اقوال «1» : أحدها: لا تسرفوا بتحريم ما أحل لكم، قاله ابن عباس. والثاني: لا تأكلوا حراماً، فذلك الإِسراف، قاله ابن زيد. والثالث: لا تشركوا، فمعنى الإسراف ها هنا: الإشراك، قاله مقاتل. والرابع: لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة، قاله الزجاج. (577) ونُقل أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، فقال علي: قد جمع الله تعالى الطب في نصف آية من كتابنا. قال: ما هي؟ قال: قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا. قال النصراني: ولا يؤثر عن نبيكم شيء من الطب، فقال: قد جمع رسولنا علم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعوِّدوا كل بدن ما اعتاد» . فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً. قال المصنف: هكذا نقلتُ هذه الحكاية، إلا أن هذا الحديث المذكور فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يثبت. وقد جاءت عنه في الطب أحاديث قد ذكرتها في كتاب: «لقط المنافع في الطّب» . [سورة الأعراف (7) : آية 32] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المشركين عيَّروا المسلمين، إذ لبسوا الثياب في الطواف، وأكلوا الطيبات، فنزلت، رواه أبو صالح عن ابن عباس «2» . والثاني: أنهم كانوا يُحرِّمون أشياء أحلَّها الله من الزروع وغيرها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة

_ لا أصل له. قال الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 100: لم أجد لها- أي حكاية الرشيد- إسنادا والمرفوع منه، قال عنه الحافظ 2/ 100 لم أجده. قلت: أخرجه أبو محمد الخلال كما في «الدر» 3/ 150 عن عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها: الأزم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا بدنا ما اعتاده» . ولا يصح إسناده فقد نقل السخاوي في «المقاصد» 1035 عن الدارقطني قوله: رواه أبو قرة الرهاوي عن الزهري عن عائشة، ولا يصح، ولا يعرف هذا من كلام النبي صلّى الله عليه وسلم، إنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أنجر. وقال العراقي في «تخريج الإحياء» 3/ 87: لم أجد له أصلا. وقال السخاوي 1035: لا يصح رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، أو غيره.

[سورة الأعراف (7) : آية 33]

عن ابن عباس «1» . والثالث: نزلت في طوافهم بالبيت عراة، قاله طاوس وعطاء. وفي زينة الله قولان: أحدهما: أنها ستر العورة فالمعنى: من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم؟ والثاني: أنها زينة اللباس. وفي الطيبات قولان: أحدهما: أنها الحلال. والثاني: المستلذ. ثم في ما عني بها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها البحائر، والسوائب، والوصائل، والحوامي التي حرَّموها، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها السَّمْنْ، والألبان، واللحم، وكانوا حرَّموه في الإحرام، قاله ابن زيد. والثالث: الحرث، والأنعام، والألبان، قاله مقاتل. قوله تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً قال ابن الانباري: «خالصة» نصب على الحال من لام مضمرة، تقديرها: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة، فحذفت اللام لوضوح معناها، كما تحذف العرب أشياء لا يُلبِس سقوطها. قال الشاعر: تَقُوْلُ ابْنَتِي لَمّا رَأتْنيَ شَاحِبَاً ... كأنَّكَ يحميك الطّعام طبيب تتابع أحداث تخرّمن أخوتي ... فشيَّبن رَأْسي، والخُطُوُبُ تُشِيْبُ أراد: فقلت لها: الذي اكسبني ما ترين، تتابع أحداث، فحذف لانكشاف المعنى: قال المفسرون: إن المشركين شاركوا المؤمنين في الطيبات، فأكلوا ولبسوا ونكحوا، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للمؤمنين، وليس للمشركين منها شيء. وقيل: خالصة لهم من ضرر أو إِثم. وقرأ نافع: «خالصةٌ» بالرفع. قال الزجاج: ورفعُها على أنه خبر بعد خبر، كما تقول: زيد عاقل لبيب والمعنى: قل هي ثابتة للذين آمنوا في الدنيا، خالصةٌ يوم القيامة. قوله تعالى: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: هكذا نبّينها. [سورة الأعراف (7) : آية 33] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ قرأ حمزة: «ربي» باسكان الياء. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ فيه ستة أقوال: أحدها: أن المراد بها الزنا، ما ظهر منه: علانيته، وما بطن: سرُّه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أن ما ظهر: نكاح الأمهات، وما بطن: الزنا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال علي بن الحسين. والثالث: أن ما ظهر: نكاح الأبناء نساء الآباء، والجمع بين الأختين، وأن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وما بطن: الزنا، روي عن ابن عباس أيضا. والرابع: أن ما ظهر: الزنا، وما بطن: العزل، قاله شريح. والخامس: أن ما ظهر: طواف الجاهلية عراة، وما بطن: الزنا، قاله مجاهد. والسادس: أنه عامٌّ في جميع المعاصي. ثم في «ما ظهر منها وما بطن» قولان: أحدهما: أن الظاهر: العلانية، والباطن: السر، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثاني: أن ما ظهر: أفعال الجوارح، والباطن: اعتقاد القلوب، قاله الماوردي. وفي الإثم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذنب الذي لا يوجب الحدَّ، قاله ابن عباس والضحاك، والفرَّاء. والثاني: المعاصي

_ (1) أخرجه الطبري 14545 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وفيه إرسال بينهما.

[سورة الأعراف (7) : آية 34]

كلها، قاله مجاهد. والثالث: أنه الخمر، قاله الحسن وعطاء. قال ابن الانباري: أنشدنا رجل في مجلس ثعلب بحضرته، وزعم أن أبا عبيدة أنشده: نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواع جِهَاراً ... وَنَرى المُتْكَ بيننا مُسْتَعَاراً «1» فقال أبو العباس: لا أعرفه، ولا أعرف الإثم: الخمر، في كلام العرب. وأنشدنا رجل آخر: شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإثْمُ تَذْهَبُ بالعُقُولِ «2» قال أبو بكر: وما هذا البيت معروفاً أيضا في شعر من يحتج بشعره، وما رأيت أحدا من أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر، ولا سمَّتها العرب بذلك في جاهلية وإسلام. فان قيل: إن الخمر تدخل تحت الإثم، فصواب، لا لأنه اسم لها. فان قيل: كيف فصل الإثم عن الفواحش، وفي كل الفواحش إثم؟ فالجواب: أن كل فاحشة إثم، وليس كل إثم فاحشة، فكان الإثم كل فعل مذموم والفاحشة: العظيمة فأما البغي، فقال الفراء: هو الاستطالة على الناس. قوله تعالى: وَأَنْ تُشْرِكُوا قال الزّجّاج: «أن» نصب فالمعنى: حرَّم الفواحش، وحرَّم الشرك. والسلطان: الحجة. قوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ عام في تحريم القول في الدّين من غير يقين. [سورة الأعراف (7) : آية 34] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ. (578) سبب نزولها: أنهم سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم العذاب، فأُنزلت، قاله مقاتل. وفي الأجل قولان: أحدهما: أنه أجل العذاب. والثاني: أجل الحياة. قال الزجاج: الأجل: الوقت المؤقت. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً المعنى: ولا أقل من ساعة. وإنما ذكر الساعة، لأنها أقل أسماء الأوقات. [سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 37] يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) (578) لا أصل له، عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، ومقاتل هذا يجعل لكل آية سببا للنزول، وليس كذلك.

_ (1) البيت غير منسوب في «اللسان» أثم. والمتك: الأترج. (2) البيت غير منسوب في «اللسان» : أثم.

[سورة الأعراف (7) : آية 38]

قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ قال الزجاج: أضمر: «فأطيعوهم» . وقد سبق معنى «إما» في سورة (البقرة) والباقي ظاهر إلى قوله: يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ ففي معناه سبعة أقوال «1» . أحدها: ما قُدّر لهم من خير وشر، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثاني: نصيبهم من الأعمال، فيُجزَون عليها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: ما كُتِبَ عليهم من الضلالة والهدى، قاله الحسن. وقال مجاهد، وابن جبير: من السعادة والشقاوة. والرابع: ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والأعمال، قاله الربيع، والقرظي، وابن زيد. والخامس: ما كتب لهم من العذاب، قاله عكرمة، وأبو صالح، والسدي. والسادس: ما أخبر الله تعالى في الكتاب كلِّها: أنه من افترى على الله كذباً، اسودَّ وجهه، قاله مقاتل. والسابع: ما أخبر في الكتاب من جزائهم، نحو قوله: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى «2» ، قاله الزجاج. فاذن في الكتاب خمسة أقوال: أحدها: أنه اللوح المحفوظ. والثاني: كُتُبُ الله كلُّها. والثالث: القرآن. والرابع: كتاب أعمالهم. والخامس: القضاء. قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أعوان مَلَكِ الموت، قاله النخعي. والثاني: ملك الموت وحده، قاله مقاتل. والثالث: ملائكة العذاب يوم القيامة. وفي قوله: يَتَوَفَّوْنَهُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: يتوفَّونهم بالموت، قاله الأكثرون. والثاني: يتوفَّونهم بالحشر إلى النار يوم القيامة، قاله الحسن. والثالث: يتوفَّونهم عذاباً، كما تقول: قتلت فلاناً بالعذاب، وإن لم يمت، قاله الزجاج. قوله تعالى: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ أي: تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ، وهذا سؤال تبكيت وتقريع. قال مقاتل: المعنى: فليمنعوكم من النار. قال الزجاج: ومعنى ضَلُّوا عَنَّا: بطلوا وذهبوا، فيعترفون عند موتهم أنهم كانوا كافرين. وقال غيره: ذلك الاعتراف يكون يوم القيامة. [سورة الأعراف (7) : آية 38] قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) قوله تعالى: قالَ ادْخُلُوا إن الله تعالى يقول لهم ذلك بواسطة الملائكة، لأن الله تعالى لا يكلّم

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 5/ 481: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، مما كتب لهم من خير وشر في الدنيا، ورزق، وعمل وأجل، وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فأبان باتباعه ذلك قوله أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أن الذي ينالهم من ذلك إنما هو ما كان مقضيا عليهم نصيبهم من الكتاب أو مما قد أعد لهم في الآخرة، وأن عذابهم في الآخرة لا آخر له ولا انقضاء، لأن رسل الله لا تجيئهم للوفاة في الآخرة، فإن الله قد قضى عليهم بالخلود فيه، فبين بذلك أن معناه ما اخترنا من القول فيه. ا. هـ. (2) سورة الليل: 14.

[سورة الأعراف (7) : آية 39]

الكفار يوم القيامة. قال ابن قتيبة: و «في» بمعنى «مع» . وفي قوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ قولان: أحدهما: مضت إلى العذاب. والثاني: مضت في الزمان، يعني كفار الأمم الماضية. قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها وهذه أُخُوَّةُ الدِّين والملَّة، لا أُخُوَّةُ النسب. قال ابن عباس: يلعنون من كان قبلهم. قال مقاتل: كلما دخل أهل ملّة، لعنوا أهل ملَّتهم، فيلعن اليهودُ اليهودَ، والنصارى النصارى، والمشركون المشركين، والأتباع القادة، ويقولون: أنتم ألقيتمونا هذا الملقى حين أطعناكم. وقال الزجاج: إنما تلاعنوا، لأن بعضهم ضل باتباع بعض. قوله تعالى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا قال ابن قتيبة: أي: تداركوا، فأدغمت التاء في الدال، وأُدخلت الألف ليَسْلَم السكون لِما بعدها، يريد تتابعوا فيها واجتمعوا. قوله تعالى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: آخر أُمِّة لأول أُمِّة، قاله ابن عباس. والثاني: آخر أهل الزمان لأوّلِّيهم الذين شرعوا له ذلك الدِّين، قاله السدي. والثالث: آخرهم دخولاً إلى النار، وهم الأتباع، لأوِّلهم دخولاً، وهم القادة، قاله مقاتل. قوله تعالى: هؤُلاءِ أَضَلُّونا قال ابن عباس: شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها. قوله تعالى: فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً قال الزجاج: أي: عذاباً مضاعفاً. قوله تعالى: قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي: عذاب مضاعف وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ. قرأ أبو بكر، والمفضل عن عاصم: «يعلمون» ، بالياء، قال الزجاج: والمعنى: لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر. وقرأ الباقون: «تعلمون» بالتاء، وفيها وجهان ذكرهما الزجاج: أحدهما: لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق من العذاب. والثاني: لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك. وقيل: إنما طلب الأتباع مضاعفة عذاب القادة، ليكون أحد العذابين على الكفر، والثاني على إغرائهم به، فأجيبوا لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي: كما كان للقادة ذلك، فلكم عذاب بالكفر، وعذاب بالاتّباع. [سورة الأعراف (7) : آية 39] وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) قوله تعالى: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فيه قولان: أحدهما: في الكفر، نحن وأنتم فيه سواء، قاله ابن عباس. والثاني: في تخفيف العذاب، قاله مجاهد. قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ قال مقاتل: من الشّرك والتّكذيب. [سورة الأعراف (7) : آية 40] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: بحججنا وأعلامنا التي تدل على توحيد الله ونبوَّة الأنبياء، وتكبَّروا عن الإيمان بها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ. قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم: وابن عامر: «تُفتَّح» بالتاء، وشددوا التاء الثانية. وقرأ أبو عمرو: «لا تُفْتَح» بالتاء خفيفة، ساكنة الفاء. وقرأ حمزة، والكسائي: «لا يُفْتَح» بالياء مضمومة خفيفة. وقرأ اليزيدي عن اختياره: «لا تَفتح» بتاء مفتوحة «أبوابَ السماء» بنصب الباء، فكأنه أشار إلى أفعالهم. وقرأ الحسن: بياء مفتوحة، مع نصب الأبواب، كأنه

يشير إلى الله عزّ وجلّ. وفي معنى الكلام أربعة أقوال: أحدها: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهو قول أبي موسى الأشعري، والسدي في آخرين، والأحاديث تشهد به. والثاني: لا تفتح لأعمالهم، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم، رواه عطاء عن ابن عباس. والرابع: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، قاله ابن جريج، ومقاتل. وفي السماء قولان: أحدهما: أنها السماء المعروفة، وهو المشهور. والثاني: أنّ المعنى: لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها، لأن الجنة في السماء، ذكره الزجاج. قوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الجمل: هو الحيوان المعروف. فان قال قائل: كيف خصّ الجمل من دون سائر الدواب، وفيها ما هو أعظم منه؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن ضرب المثل بالجمل يحصّل المقصود والمقصود أنهم لا يدخلون الجنة، كما لا يدخل الجمل في ثقَب الإبرة، ولو ذكر أكبر منه أو أصغر منه، جاز، والناس يقولون: فلان لا يساوي درهماً، وهذا لا يغني عنك فتيلاً، وإن كنا نجد أقل من الدرهم والفتيل. والثاني: أن الجمل أكبر شأناً عند العرب من سائر الدواب، فانهم يقدِّمونه في القوِّة على غيره، لأنه يوقَر بحمله فينهض به دون غيره من الدواب، ولهذا عجَّبهم من خلق الإبل، فقال: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ «1» ، فآثر الله تعالى ذكره على غيره لهذا المعنى. ذكر الجوابين ابن الانباري. قال: وقد روى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ: «حتى يلج الجُمَّلُ» بضم الجيم وتشديد الميم، وقال: هو القلس الغليظ. قلت: وهي قراءة أبي رزين، ومجاهد، وابن محيصن، وأبي مجلز، وابن يعمر، وأبان عن عاصم. قال: وروى مجاهد عن ابن عباس: «حتى يلج الجُمَلُ» بضم الجيم وفتح الميم وتخفيفها. قلت: وهي قراءة قتادة، وقد رويت عن سعيد بن جبير، وأنه قرأ: «حتى يلج الجُمْل» بضم الجيم وتسكين الميم. قلت: وهي قراءة عكرمة. قال ابن الأنباري: فالجُمَل يحتمل أمرين: يجوز أن يكون بمعنى الجُمَّلُ، ويجوز أن يكون بمعنى جملة من الجِمال، قيل في جمعها: جمل، كما يقال: حُجْرة، وحُجَر، وظُلْمة، وظُلَم. وكذلك من قرأ: «الجُمْلَ» يسوغ له أن يقول: الجُمْلُ، بمعنى الجُمَّل، وأن يقول: الجُمْل، جمع جُمْلة، مثل بُسْرة، وبُسْر. وأصحاب هذه القراءات يقولون: الحبل والحبال، أشبه بالإبرة والخيوط من الجمال. وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قرأ: «الجُمْل» بضم الجيم والميم، وبالتخفيف، وهي قراءة الضحاك، والجحدري. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «الجَمْل» بفتح الجيم، وبسكون الميم خفيفة. قوله تعالى: فِي سَمِّ الْخِياطِ السم في اللغة: الثَّقب. وفيها ثلاث لغات: فتح السين، وبها قرأ الأكثرون، وضمها، وبه قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، وطلحة بن مصرف، وكسرها، وبه قرأ أبو عمران الجوني، وأبو نهيك، والأصمعي عن نافع. قال ابن القاسم: والخياط: المِخْيَط، بمنزلة اللحاف والملحف، والقِرام والمقرم. وقد قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو مجلز: «في سمّ المخيط» . قال الزجاج: الخياط: الإبرة، وسَمُّها: ثقبها. والمعنى: أنهم لا يدخلون الجنّة

_ (1) سورة الغاشية: 17.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 41 إلى 42]

أبداً. قال ابن قتيبة: هذا كما يقال: لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب، ويبيضّ القار. قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك نجزي الكافرين أنهم لا يدخلون الجنّة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 41 الى 42] لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ المهاد: الفراش. وفي المراد بالغواشي ثلاثة أقوال: أحدها: اللحف، قاله ابن عباس، والقرظي، وابن زيد. والثاني: ما يغشاهم من فوقهم من الدخان، قاله عكرمة. والثالث: غاشية فوق غاشية من النار، قاله الزجاج. قال ابن عباس: والظالمون ها هنا: الكافرون. [سورة الأعراف (7) : آية 43] وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فيمن عني بهذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أهل بدر. روى الحسن عن علي عليه السلام أنه قال: (579) فينا والله أهل بدر نزلت: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ. وروى عمرو بن الشريد عن عليٍّ أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير، من الذين قال الله: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ. والثاني: أنهم أهل الأحقاد من أهل الجاهلية حين أسلموا. (580) روى كثير النَّوَّاء عن أبي جعفر قال: نزلت هذه الآية في علي، وأبي بكر، وعمر، قلت لأبي جعفر: فأي غل هو؟ قال: غل الجاهلية، كان بين بني هاشم وبني تيم وبني عدي في الجاهلية شيء، فلما أسلم هؤلاء، تحابوا، فأخذتْ أبا بكر الخاصرةُ، فجعل عليٌّ يسخِّن يده ويكمِّد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية. والثالث: عشرة من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود، قاله أبو صالح «1» . والرابع: أنها في صفة أهل الجنة إذا دخلوها.

_ أخرجه الطبري 14666 عن الحسن عن علي، وهو منقطع بينهما. وورد من وجوه أخر، ويأتي في سورة الحج: 47. واه بمرة. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» للسيوطي 654 عن علي بن الحسين، وهذا مرسل وفيه كثير النواء، وهو ضعيف.

(581) روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يخلُصُ المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا، أذن لهم في دخول الجنّة. فو الّذي نفسي بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا» . وقال ابن عباس: أول ما يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، تعرض لهم عينان، فيشربون من إحدى العينين، فيُذهب الله ما في قلوبهم من غلٍّ وغيره مما كان في الدنيا، ثم يدخلون إلى العين الأخرى، فيغتسلون منها، فتُشرق ألوانهم، وتصفو وجوههم، وتجري عليهم نضرة النعيم. فأما النزع، فهو قلع الشيء من مكانه. والغل: الحقد الكامن في الصدر. وقال ابن قتيبة: الغل: الحسد والعداوة. قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا قال الزجاج: معناه: هدانا لِما صيّرنا إلى هذا. قال ابن عباس: يعنون ما وصلوا إليه من رضوان الله وكرامته. وروى عاصم بن ضمرة عن علي عليه السلام قال: تستقبلهم الولدان كأنهم لؤلؤ منثور، فيطوفون بهم كاطافتهم بالحميم جاء من الغيبة، ويبشرونهم بما أعدَّ الله لهم، ويذهبون إلى أزواجهم فيبشِّرونهنَّ، فيستخفهنَّ الفرح، فيقمن على أُسْكُفَّةِ الباب، فيقلن: أنت رأيته، أنت رأيته؟ قال: فيجيء إلى منزله فينظر في أساسه، فاذا صخر من لؤلؤ، ثم يرفع بصره، فلولا أن الله ذلَّله لذهب بصره، ثم ينظر أسفل من ذلك، فاذا هو بالسُّرر الموضونة، والفرش المرفوعة، والزرابي المبثوثة، فعند ذلك قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ. كلهم قرأ «وما كنَّا» باثبات الواو، غير ابن عامر، فانه قرأ «ما كنا لنهتديَ» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. قال أبو علي: وجه الاستغناء عن الواو أن القصة ملتبسة بما قبلها فأغنى التباسها به عن حرف العطف، ومثله رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ «1» . قوله تعالى: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرّسل عيانا. وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ قال الزجاج: إنما قال «تلكم» لأنهم وعدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل لهم: هذه تلكم التي وُعدتم بها. وجائز أن يكون هذا قيل لهم حين عاينوها قبل دخولهم إليها. وقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر «أورثْتُموها» غير مدغمة. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي «أورثتموها» مدغمة، وكذلك قرءوا في (الزخرف) قال أبو علي: من ترك الادغام، فلتباين مخرج الحرفين، ومن أدغم، فلأن التاء والثاء مهموستان متقاربتان. وفي معنى «أورثتموها» أربعة أقوال: (582) أحدها: ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنّة

_ صحيح. أخرجه البخاري 2440 و 6535 وأحمد 3/ 13 و 63 و 74 وابن أبي عاصم في «السنة» 858 وابن مندة 837 و 838، 839 وأبي يعلى 1186، وابن حبان 7434 وأبو نعيم في «صفة الجنّة» 2888. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 159 (الزخرف: 72) عن الفضل ابن شاذان المقرئ حدثنا يوسف بن يعقوب حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا، وإسناده حسن، رجاله ثقات أبو بكر بن عياش فيه كلام لا يضر. وورد عن أبي بكر بن عياش بهذا الإسناد بلفظ «كل

[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 إلى 45]

ومنزل في النار، فأما الكافر فانه يرث المؤمنَ منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة» فذلك قوله: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وقال بعضهم: لما سمي الكفار أمواتاً بقوله: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ «1» . وسمّى المؤمنين أحياء بقوله: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا «2» أورث الأحياء الموتى. والثاني: أنهم أورثوها عن الأعمال، لأنها جُعلت جزاءً لأعمالهم، وثواباً عليها، إذ هي عواقبها، حكاه أبو سليمان الدمشقي. والثالث: أن دخول الجنة برحمة الله، واقتسامَ الدرجات بالأعمال. فلما كان يفسَّر نيلها لا عن عوض، سميت ميراثاً. والميراث: ما أخذته عن غير عوض. والرابع: أن معنى الميراث ها هنا: أن أمرهم يؤول إليها كما يؤول الميراث إلى الوارث. [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 45] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) قوله تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا أي: من العذاب؟ وهذا سؤال تقرير وتعيير. قالُوا نَعَمْ. قرأ الجمهور بفتح العين في سائر القرآن، وكان الكسائي يكسرها. قال الأخفش: هما لغتان. قوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أي: نادى منادٍ. أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ قرأ ابن كثير في رواية قنبل، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: «أنْ لعنةُ الله» خفيفة النون ساكنة. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «أنّ» بالتشديد، «لعنةَ الله» بالنصب. قال الأخفش: و «أنْ» في قوله: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ «3» وقوله: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ، وقوله: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ «4» ، وأَنْ قَدْ وَجَدْنا، هي «أنّ» الثقيلة خففت. قال الشاعر: في فِتْيَةٍ كَسُيْوفِ الهِنْدِ قَد عَلِمُوا ... أنْ هَالِكٌ كلُّ من يَحْفَى ويَنْتَعِلُ «5» وأنشد أيضاً: أُكاشِرُهُ وَأعْلَمُ أَنْ كِلاَنَا ... عَلَى ما سَاءَ صَاحِبَه حَرِيْصُ «6» ومعناه: أنه كلانا وتكون «أن قد وجدنا» في معنى: أي: قال ابن عباس: والظّالمون ها هنا: الكافرون. قوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: أذن المؤذن ان لعنة الله على الذين كفروا وصدّوا عن

_ أهل النار يرى مقعده في الجنة فيقول: لو أن الله هداني فيكون عليهم حسرة، قال: وكل أهل الجنة يرى مقعده في النار فيقول: لولا أن الله هداني قال: فيكون له شكرا» لفظ أحمد وغيره. أخرجه النسائي في «الكبرى» 1454 وأحمد 2/ 512 والحاكم 2/ 435 و 436، والبيهقي في «البعث والنشور» 269. وإسناده حسن.

[سورة الأعراف (7) : آية 46]

سبيل الله، وهو الإسلام. وَيَبْغُونَها عِوَجاً مفسَّر في سورة آل عمران «1» . وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي: وهم بِكَوْن الآخرة كافرون. [سورة الأعراف (7) : آية 46] وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) قوله تعالى: وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الجنة والنار حاجز، وهو السور الذي ذكره الله تعالى في قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ «2» ، فسمي هذا السور بالأعراف لارتفاعه. قال ابن عباس: الأعراف: هو السور الذي بين الجنة والنار، له عرف كعرف الديك. وقال أبو هريرة: الأعراف: جبال بين الجنة والنار، فهم على أعرافها، يعني: على ذراها، خلِقتها كخِلقة عرف الديك. قال اللغويون: الأعراف عند العرب: كل ما ارتفع من الأرض وعلا يقال لكل عال: عُرف، وجمعه: أعراف. قال الشاعر: كلُّ كِنازٍ لَحُمُه نِيَافِ ... كالعَلَم المُوفي على الأَعْرافِ «3» وقال الآخر: وَرِثت بِنَاءَ آبَاءٍ كِرَامٍ ... عَلَوْا بالمَجْدِ أعْرَافَ البِنَاءِ وفي «أصحاب الأعراف» قولان: أحدهما: أنهم من بني آدم، قاله الجمهور. وزعم مقاتل أنهم من أُمة محمد صلّى الله عليه وسلم خاصة. وفي أعمالهم تسعة أقوال «4» : (583) أحدها: أنهم قوم قُتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم، ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله، وهذا مرويّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والثاني: أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تبلغ بهم حسناتهم دخول الجنة، ولا سيئاتهم دخول النار، قاله ابن

_ حديث ضعيف، عزاه المصنف لمقاتل، ولم ينسبه، فإن كان ابن سليمان، فهو متروك كذاب، وإن كان ابن حيان، فإن عنده مناكير. وأخرجه الطبري 14713 والبيهقي في «البعث» 112 و 113 والطبراني كما في «المجمع» 110114 من حديث عبد الرحمن المزني وعند بعضهم «المدني» وأعله البيهقي بأبي معشر نجيح السندي وأنه ضعيف، وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع» به، وفيه يحيى بن شبل، وهو مجهول. وأخرجه الطبري 14712 عن يحيى بن شبل: أن رجلا من بني النضير أخبره، عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف ... فذكره بسياق المصنف وإسناده ضعيف فيه من لم يسم. وورد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبراني في «الصغير» 666 وأعله الهيثمي في «المجمع» 11013 بمحمد بن مخلد الرعيني، وأنه ضعيف. وورد من حديث أبي هريرة عند البيهقي 115 وفيه أبو معشر، وهو ضعيف، ومدار عامة هذه الطرق عليه، وورد مرفوعا عن حذيفة وغيره، وهو الراجح، والله أعلم.

[سورة الأعراف (7) : آية 47]

مسعود، وحذيفة، وابن عباس، وأبو هريرة، والشعبي، وقتادة. والثالث: أنهم أولاد الزنا، رواه صالح مولى التوأمة عن ابن عباس. والرابع: أنهم قوم صالحون فقهاء علماء، قاله الحسن، ومجاهد فعلى هذا يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة. والخامس: أنهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أُمهاتهم، أو أُمهاتهم دون أبائهم، رواه عبد الوهاب بن مجاهد عن إبراهيم. والسادس: أنهم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدِّلوا دينهم، قاله عبد العزيز بن يحيى. والسابع: أنهم أنبياء، حكاه ابن الانباري. والثامن: أنهم أولاد المشركين، ذكره المنجوفي في تفسيرة. والتاسع: أنّهم قوم عملوا لله تعالى، لكنهم راءوا في عملهم، ذكره بعض العلماء. والقول الثاني: أنهم ملائكة، قاله أبو مجلز، واعتُرض عليه، فقيل: إنهم رجال، فكيف تقول: ملائكة؟ فقال: إنهم ذكور وليسوا باناث. وقيل: معنى قوله تعالى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ أي: على معرفة أهل الجنة من أهل النار، ذكره الزجاج، وابن الانباري. وفيه بُعد وخلاف للمفسرين. قوله تعالى: يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أي: يعرف أصحابُ الأعراف أهل الجنة وأهل النار. وسيما أهل الجنة: بياض الوجوه، وسيما أهل النار: سواد الوجوه، وزرقة العيون. والسيما: العلامة. وإنما عرفوا الناس، لأنهم على مكانٍ عالٍ يشرفون فيه على أهل الجنة والنار. وَنادَوْا يعني: أصحاب الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. وفي قوله: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ قولان: أحدهما: أنه إخبار من الله تعالى لنا أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها، قاله الجمهور. والثاني: أنه إخبار من الله تعالى لأهل الأعراف إذا رأوا زمرة يُذهَب بها إلى الجنة أن هؤلاء لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، هذا قول السّدّيّ. [سورة الأعراف (7) : آية 47] وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) قوله تعالى: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ يعني أصحاب الأعراف. والتلقاء: جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة. وقال أبو عبيدة: تلقاء أصحاب النار، أي: حيالهم. [سورة الأعراف (7) : آية 48] وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ روى أبو صالح عن ابن عباس قال: ينادون: يا وليد بن المغيرة، يا أبا جهل بن هشام، يا عاص بن وائل، يا أمية بن خلف، يا أُبَيّ بن خلف، يا سائر رؤساء الكفاء، ما أغنى عنكم جمعكم في الدنيا المال والوالد. وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي: تتعظَّمون عن الإيمان. [سورة الأعراف (7) : آية 49] أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) قوله تعالى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ فيه قولان: أحدهما: أن أهل النار أقسموا أن أهل الأعراف داخلون النار معنا، وأن الله لن يدخلهم الجنة، فيقول الله تعالى لأهل النار: أَهؤُلاءِ يعني أهل الأعراف الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ رواه وهب بن منبه عن ابن عباس.

[سورة الأعراف (7) : آية 50]

(584) قال حذيفة: بينا أصحاب الأعراف هنالك، اطَّلع عليهم ربهم فقال لهم: ادخلوا الجنة فاني قد غفرت لكم. والثاني: أن أهل الأعراف يرون في الجنة الفقراء والمساكين الذين كان الكفّار يستهزئون بهم، كسلمان، وصهيب، وخبَّاب، فينادون الكفار: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ وأنتم في الدنيا لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ. قاله ابن السائب «1» . فعلى هذا ينقطع كلام أهل الأعراف عند قوله: بِرَحْمَةٍ ويكون الباقي من خطاب الله لأهل الجنة. وقد ذكر المفسرون في قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون خطاباً من الله لأهل الأعراف، وقد ذكرناه. والثاني: أن يكون خطاباً من الله لأهل الجنة. والثالث: أن يكون خطاباً من أهل الأعراف لأهل الجنة، ذكرهما الزجاج. فعلى هذا الوجه الأخير، يكون معنى قول أهل الأعراف لأهل الجنة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ: اعلوا إلى القصور المشرفة، وارتفعوا إلى المنازل المنيفة، لأنهم قد رأوهم في الجنة: وروى مجاهد عن عبد الله بن الحارث قال: يؤتى بأصحاب الأعراف إلى نهر يقال له: الحياة، عليه قضبان الذهب مكلَّلة باللؤلؤ، فيُغمسون فيه، فيخرجون، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، ويقال لهم: تمنَّوا ما شئتم، ولكم سبعون ضعفاً، فهم مساكين أهل الجنة. [سورة الأعراف (7) : آية 50] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ قال ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنّة، وطمع أهل النار في الفرج بعد اليأس، فقالوا: يا رب، إن لنا قرابات من أهل الجنة، فائذن لنا حتى نراهم ونكلِّمهم، فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم. ونظر أهل الجنّة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم، قد اسودَّت وجوههم وصاروا خلقاً آخر، فنادى أصحابُ النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم، فينادي الرجل أخاه: يا أخي قد احترقتُ فأغثني فيقول: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. قال السدي: عنى بقوله: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الطعام. قال الزّجّاج: أعلم الله عزّ وجلّ أن ابن آدمَ غيرُ مستغنٍ عن الطعام والشراب، وإن كان معذّبا. [سورة الأعراف (7) : آية 51] الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) قوله تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً قال ابن عباس: هم المستهزئون. والمعنى: أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم. وقال أبو رَوْق: دينهم: عيدهم. وقال قتادة: لَهْواً وَلَعِباً أي: أكلاً وشرباً. وقال غيره: هو ما زيَّنه الشيطان لهم من تحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام،

_ موقوف. أخرجه الطبري 14693 من طريق الشعبي عن حذيفة، وهو منقطع فالإسناد ضعيف.

[سورة الأعراف (7) : آية 52]

والمكاء، والتصدية، ونحو ذلك من خصال الجاهلية. قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ قال الزجاج: أي: نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا. و «ما» نسق على «كما» في موضع جر. والمعنى: وكجحدهم. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: فاليوم نتركهم في النار على علم منا ترك ناسٍ غافلٍ كما استعملوا في الإعراض عن آياتنا وهم ذاكرون ما يستعمله من نسي وغَفَل. [سورة الأعراف (7) : آية 52] وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ يعني القرآن. فَصَّلْناهُ أي: بينَّاه بايضاح الحق من الباطل. وقيل: فصَّلناه فصولاً مرة بتعريف الحلال، ومرة بتعريف الحرام، ومرة بالوعد، ومرة بالوعيد، ومرة بحديث الأمم. وفي قوله تعالى: عَلى عِلْمٍ قولان: أحدهما: على علم منا بما فصَّلناه. والثاني: على علم منا بما يصلحكم مما أنزلناه فيه. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، وعاصم، والجحدريّ، ومعاذ القارئ: «فضّلناه» بضاد معجمة. [سورة الأعراف (7) : آية 53] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ قال ابن عباس: تصديق ما وُعدوا في القرآن. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ وهو يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي: تركوه مِنْ قَبْلُ في الدنيا قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي بالبعث بعد الموت. قوله تعالى: أَوْ نُرَدُّ قال الزجاج: المعنى: أو هل نُردُّ. وقوله. فَنَعْمَلَ منصوب على جواب الفاء للاستفهام. [سورة الأعراف (7) : آية 54] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اختلفوا أي يوم بدأ بالخلق على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم السبت. (585) روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيدي، فقال:

_ الصحيح موقوف. أخرجه مسلم 2789 وأحمد والنسائي في «الكبرى» 11010 وابن حبان 6161 والطبري في «التاريخ» 1/ 23 و 25 والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص 8383 وعلقه الإمام البخاري في «تاريخه» 1/ 413- 414 من طريق أيوب وقال: وقال بعضهم عن أبي هريرة، عن كعب، وهو أصح. وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 1/ 99: هذا الحديث من غرائب «صحيح مسلم» وقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري. وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة، فجعله مرفوعا، وذكره أيضا في «تفسيره» 3/ 422، وقال: وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا

«خلق الله عزّ وجلّ التربة يومَ السبت، وخلق الجبال فيها يومَ الأحد، وخلق الشجر يومَ الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النُّور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يومَ الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» ، وهذا اختيار محمد بن إسحاق. وقال ابن الانباري: وهذا إجماع أهل العلم. والثاني: يوم الأحد، قاله عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد، واختاره ابن جرير الطبري، وبه يقول أهل التوراة. والثالث: يوم الاثنين، قاله ابن إسحاق، وبهذا يقول أهل الإنجيل. ومعنى قوله: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: في مقدار ذلك، لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم تكن الشمس حينئذ. قال ابن عباس: مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة، وبه قال كعب، ومجاهد، والضحاك، ولا نعلم خلافاً في ذلك. ولو قال قائل: إنها كأيام الدنيا، كان قوله بعيداً من وجهين: أحدهما: خلاف الآثار. والثاني: أن الذي يتوهمه المتوهِّم من الإِبطاء في ستة آلاف سنة، يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» . فان قيل: فهلاَّ خلقها في لحظة، فانه قادر؟ فعنه خمسة أجوبة: أحدها: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمراً تستعظمه الملائكة ومن يشاهده، ذكره ابن الانباري. والثاني: أن التثبُّت في تمهيد ما خُلق لآدم وذرّيّته قبل

_ الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار، ليس مرفوعا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الفتاوى» 17/ 236: وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله: «خلق الله التربة يوم السبت» فهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، وقال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضا وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه وقال أيضا فيما نقله عنه القاسمي في «الفضل المبين» ص 432- 434: هذا الحديث طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخاري وغيرهما وذكر البخاري أن هذا من كلام كعب الأحبار وطائفة اعتبرت صحته مثل أبي بكر بن الأنباري، وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما، والبيهقي وغيره وافقوا الذين ضعفوه، وهذا هو الصواب، لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد وهكذا عند أهل الكتاب، وعلى ذلك تدل أسماء الأيام وهذا المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر، ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة، لكان قد خلق في الأيام السبعة، وهي خلاف ما أخبر به القرآن، مع أن حذّاق علم الحديث يثبتون علة هذا الحديث في غير هذه الجهة، وأن راويه فلان غلط فيه لأمور يذكرونها، وهذا الذي يسمى معرفة علل الحديث، يكون الحديث إسناده في الظاهر جيدا، ولكن عرف من طريق آخر أن راويه غلط فرفعه وهو موقوف، أو أسنده وهو مرسل، أو دخل عليه الحديث في حديث، وهذا فن شريف وكان يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم صاحبه على ابن المديني، ثم البخاري أعلم الناس به، وكذلك الإمام أحمد، وأبو حاتم، وكذلك النسائي والدارقطني وغيرهم، وفيه مصنفات معروفة. وقال المناوي في «فيض القدير» 3/ 448: قال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة فمن ذلك: أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام وهذا خلاف القرآن، لأن الأرض خلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السماوات في يومين. اه.

وجوده، أبلغُ في تعظيمه عند الملائكة. والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبيت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما يظهر قدرته في قول: كُنْ فَيَكُونُ. والرابع: انه علّم عباده التثبُّت، فاذا تثبت من لا يزلُّ، كان ذو الزّلل أولى بالتثبُّت. والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، أبعد من أن يُظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق. قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير وكل سرير لملك يسمى عرشاً وقلما يُجمع العرش إلا في اضطرار واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام. قال أُمية بن أبي الصلت: مجِّدوا الله فَهْو لِلمَجْدِ أهْلُ ... ربُّنا في السَّمَاءِ أمْسَى كَبِيْرا بالبناء الأعلى الذي سبق النَّا ... س وسوَّى فوق السمَّاءِ سَرِيرَا شَرْجَعَاً لا يَنَالُهُ نَاظِرُ العَيْ ... نِ تَرَى دُوْنَه المَلائِكَ صُوْرا وقال كعب: إن السماوات في العرش كالقنديل معلَّق بين السماء والأرض. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن سعد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء. وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية. وقد شذَّ قوم فقالوا: العرش بمعنى الملك. وهذا عدول عن الحقيقة الى التجوُّز، مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله عزّ وجلّ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أتراه كان المُلك على الماء؟ وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء؟ وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى «1» ، ويحتج بقول الشاعر: حتَّى اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقٍ وبقول الشاعر أيضاً: هُمَا اسْتَويا بِفَضْلِهِما جَمِيْعاً ... عَلى عَرْشِ المُلوكِ بغَيْرِ زُوْرِ وهذا منكر عند اللغويين. قال ابن الاعرابي: العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم. قالوا: وإنما يقال: استولى فلان على كذا، إذا كان بعيداً عنه غير متمكن منه، ثمّ

_ (1) قال الإمام القرطبي في «تفسيره» 7/ 219 بعد أن ذكر مذهب المتكلمين: وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة، لا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة، بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه، وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخصّ العرش بذلك لأنه أعظم المخلوقات، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم- أي في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها اه. وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 280 عند هذه الآية: للناس في هذا المقام مقالات كثيرة، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهي إمرارها كما جاءت، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى اه.

[سورة الأعراف (7) : آية 55]

تمكّن منه والله عزّ وجلّ لم يزل مستولياً على الأشياء والبيتان لا يعرف قائلهما، كذا قال ابن فارس اللغوي. ولو صحّا، فلا حجة فيهما لما بيَّنَّا من استيلاء من لم يكن مستولياً. نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة. قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «يُغْشي» ساكنة الغين خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «يُغَشّي» مفتوحة الغين مشددة، وكذلك قرءوا في سورة الرعد «1» . قال الزجاج: المعنى: أن الليل يأتي على النهار فيغطيِّه وإنما لم يقل: ويغشي النهار الليل، لأن في الكلام دليلاً عليه وقد قال في موضع آخر: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ «2» . وقال أبو علي: إنما لم يقل: يغشي النهار الليل، لأنه معلوم من فحوى الكلام، كقوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «3» ، وانتصب الليل والنهار، لأن كل واحد منهما مفعول به. فأما الحثيث، فهو السريع. قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ قرأ الأكثرون: بالنّصب فيهنّ، وهو على معنى: خلق السماوات والشمس. وقرأ ابن عامر: «والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ» بالرّفع فيهنّ ها هنا وفي (النحل) «4» ، تابعه حفص في قوله تعالى: وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ في (النحل) فحسب. والرفع على الاستئناف. والمسخرات: المذلَّلات لما يراد منهنَّ من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبّر لهنَّ. قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ لأنه خلقهم وَالْأَمْرُ فله أن يأمر بما يشاء. وقيل: الأمر: القضاء. قوله تعالى: تَبارَكَ اللَّهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: تفاعل من البركة، رواه الضحاك عن ابن عباس وكذلك قال القتيبيُّ، والزجاج. وقال أبو مالك: افتعل من البركة. وقال الحسن: تجيء البركة من قِبَله. وقال الفراء: تبارك: من البركة وهو في العربية كقولك: تقدس ربنا. والثاني: أن تبارك بمعنى تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكذلك قال أبو العباس: تبارك: ارتفع والمتبارِك: المرتفِع. والثالث: أن المعنى: باسمه يُتبرَّك في كل شيء، قاله ابن الانباري. والرابع: أن معنى «تبارك» تقدس، أي: تطهر، ذكره ابن الأنباري أيضا. [سورة الأعراف (7) : آية 55] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً التضرع: التذلُّل والخضوع. والخُفية: خلاف العلانية. قال الحسن: كانوا يجتهدون في الدعاء، ولا تسمع إلا همساً. ومن هذا حديث أبي موسى: (586) «اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً» .

_ حديث صحيح. أخرجه البخاري 2992 و 6610 ومسلم 2704 وعبد الرزاق 9244 وأحمد 4/ 402 و 418 وابن أبي شيبة 6/ 29656، والبيهقي في «السنن» 184 والطبري 14786. والبغوي في «شرح السنة» 1276 من حديث أبي موسى.

[سورة الأعراف (7) : آية 56]

وفي الاعتداء المذكور ها هنا قولان: أحدهما: أنه الاعتداء في الدعاء. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن يدعو على المؤمنين بالشر، كالخزي واللعنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والثاني: أن يسأل ما لا يستحقه من منازل الأنبياء، قاله أبو مجلز. والثالث: أنه الجهر في الدعاء، قاله ابن السائب. والثاني: أنه مجاوزة المأمور به، قاله الزّجّاج. [سورة الأعراف (7) : آية 56] وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) قوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها فيه ستة أقوال: أحدها: لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان. والثاني: لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل. والثالث: لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة. والرابع: لا تعصوا، فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم بعد أن أصلحها بالمطر والخصب. والخامس: لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه. والسادس: لا تفسدوها بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي. وفي قوله: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً قولان: أحدهما: خوفاً من عقابه، وطمعاً في ثوابه. والثاني: خوفاً من الردِّ وطمعاً في الإِجابة. قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال الفراء: رأيت العرب تؤنِّث القريبة في النسب، لا يختلفون في ذلك، فاذا قالوا: دارك منا قريب، أو فلانة منّا قريب، ومن القرب والبعد، ذكّروا وأنَّثوا، وذلك أنهم جعلوا القريب خَلَفاً من المكان، كقوله: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ «1» ، وقوله تعالى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «2» ، ولو أُنِّث ذلك لكان صواباً. قال عروة: عَشِيَّةَ لاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ قريبةٌ ... فَتَدْنُو وَلاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعيدُ وقال الزجاج: إنما قيل: «قريب» لأن الرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي. وقال الأخفش: جائز أن تكون الرّحمة ها هنا في معنى المطر. [سورة الأعراف (7) : آية 57] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ قرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم: «الرياح» على الجمع. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: «الريح» على التوحيد. وقد يأتي لفظ التوحيد ويراد به الكثرة كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، ومثله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «3» . قوله تعالى: «نَشْراً» قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ونافع: «نُشراً» بضم النون والشين أرادوا جمع نشور، وهي الريح الطيبة الهبوب، تهب من كل ناحية وجانب. قال أبو عبيدة: النشر: المتفرّقة من كلّ جانب. قال أبو علي: يحتمل أن تكون النشور بمعنى المنشر، وبمعنى المنتشر، وبمعنى النّاشر يقال:

_ (1) سورة هود: 83. (2) سورة الأحزاب: 63. (3) سورة العصر: 2.

أنشر الله الريح، مثل أحياها، فنشرت، أي: حييت. والدليل على أنّ إنشار الرّيح إحياؤها قولُ الفقعسي: وهبَّتْ له رِيْحُ الجَنُوبِ وأُحْيِيَتْ ... له رَيْدَةٌ يُحيي المِيَاهَ نَسِيْمُهَا «1» ويدل على ذلك أن الريح قد وصفت بالموت. قال الشاعر: إنِّي لأرْجُو أَنْ تَمُوْتَ الرِّيْحُ ... وأقعد اليَوْمَ وَأسْتَرِيْحُ والرَّيدة والريدانة: الريح. وقرأ ابن عامر، وعبد الوارث، والحسن البصري: «نُشْراً» بالنون مضمومة وسكون الشين، وهي في معنى «نُشُراً» . يقال: كُتُبْ وكُتْب، ورُسُل ورُسْل. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، والمفضل عن عاصم: «نَشْرا» بفتح النون وسكون الشين. قال الفراء: النَّشْر: الريح الطّيّبة اللّينة التي تنشئ السحاب. وقال ابن الانباري: النَّشْر: المنتشرة الواسعة الهبوب. وقال أبو علي: يحتمل النَّشْر أن يكون خلاف الطيِّ، كأنها كانت بانقطاعها كالمطويَّة. ويحتمل أن يكون معناها ما قاله أبو عبيدة في النشر: أنها المتفرقة في الوجوه ويحتمل أن يكون من النّشر الذي هو الحياة، كقول الشاعر: يا عَجَباً لِلْمِّيتِ النَّاشِرِ «2» قال: وهذا هو الوجه. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وإبراهيم النخعي، ومسروق، ومورِّق العجلي: «نَشَراً» بفتح النون والشين. قال ابن القاسم: وفي النَّشَر وجهان: أحدهما: أن يكون جمعاً للنشور، كما قالوا: عَمود وَعَمد، وإهاب وأهَب. والثاني: أن يكون جمعاً، واحده ناشر، يجري مجرى قوله: غائب وغَيَبٌ، وحافد وحفد وكلّ هؤلاء القرّاء نوّن الكلمة. وكذلك اختلافهم في (سورة الفرقان) «3» و (سورة النمل) «4» . هذه قراءات من قرأ بالنون. وقد قرأ آخرون بالباء فقرأ عاصم إلا المفضل: «بُشْرى» بالباء المضمومة وسكون الشين مثل فُعْلى. قال ابن الانباري: وهي جمع بشيرة، وهي التي تبشِّر بالمطر. والأصل ضم الشين، إلا أنهم استثقلوا الضمتين. وقرأ ابن خثيم، وابن حذلم مثله، إلا أنهما نوَّنا الراء. وقرأ ابو الجوزاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: بضم الباء والشين، وهذا على أنها جمع بشيرة. والرحمة هاهنا: المطر سماه رحمة لأنه كان بالرحمة. و «أقلّتِ» بمعنى حملت. قال الزجاج: السحاب: جمع سحابة. قال ابن فارس: سمي السحابَ لانسحابه في الهواء. قوله تعالى: ثِقالًا أي: بالماء. وقوله تعالى: سُقْناهُ ردَّ الكناية إلى لفظ السحاب، ولفظه لفظُ واحدٍ. وفي قوله: «لبلد» قولان: أحدهما: إلى بلد. والثاني: لإحياء بلد. والميْتُ: الذي لا يُنْبَتُ فيه، فهو محتاج إلى المطر. وفي قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا بِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: أن الكناية ترجع إلى السحاب. والثاني: إلى المطر، ذكرهما الزجاج. والثالث: إلى البلد، ذكره ابن الانباري. فأما هاء فَأَخْرَجْنا بِهِ فتحتمل الأقوال الثلاثة.

_ (1) البيت غير منسوب في «اللسان» ريد، الريدة: الريح اللينة. (2) البيت منسوب لأعشى قيس، ديوانه 18. (3) سورة الفرقان: الآية 48: قوله تعالى: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ. (4) سورة النمل: الآية 63: قوله تعالى: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 58]

قوله تعالى: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أي: كما أحيينا هذا البلد. وقال مجاهد: نحيي الموتى بالمطر كما أحيينا البلد الميْت به. قال ابن عباس: يرسل الله تعالى بين النفختين مطراً كمني الرجال، فينبت الناس به في قبورهم كما نبتوا في بطون أُمهاتهم. قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال الزجاج: لعل: ترجٍ. وإنما خوطب العباد على ما يرجوه بعضهم من بعض والمعنى: لعلكم بما بيَّناه لكم تستدلُّون على توحيد الله وأنه يبعث الموتى. [سورة الأعراف (7) : آية 58] وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يعني الأرضَ الطيبةَ التربة، يَخْرُجُ نَباتُهُ وقرأ ابن أبي عبلة: «يُخرِج» بضم الياء وكسر الراء، «نباتَه» بنصب التاء، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ كذلك أيضاً. وروى ابان عن عاصم: «لا يُخرِج» بضم الياء وكسر الراء. والمراد بالذي خبث: الأرض السبخة. قوله تعالى: إِلَّا نَكِداً قرأ الجمهور: بفتح النون وكسر الكاف، وقرأ أبو جعفر: «نَكَداً» بفتح الكاف. وقرأ مجاهد، وقتادة، وابن محيصن: «نَكْداً» باسكان الكاف. قال أبو عبيدة: قليلاً عسيراً في شدة، وأنشد: لا تُنْجِزُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وإنْ ... أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تَافِهاَ نَكِداً «1» قال المفسرون: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله انتفع به وبان أثره عليه، فشُبِّه بالبلد الطيب الذي يُمرع ويُخصب ويحسن أثر المطر عليه وعكسه الكافر. [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 62] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) قوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ قال مقاتل: وحِّدوه وكذلك في سائر القصص بعدها. قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قرأ الكسائي: «غيرِه» بالخفض. قال أبو علي: جعل غيراً صفة ل «إله» على اللفظ. قوله تعالى: أُبَلِّغُكُمْ قرأ أبو عمرو: «أُبْلِغكم» ساكنة الباء خفيفة اللام. وقرأ الباقون: «أُبَلِّغكم» مفتوحة الباء مشددة اللام. قوله تعالى: وَأَنْصَحُ لَكُمْ يقال: نصحته ونصحت له، وشكرته وشكرت له. قوله تعالى: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي: من مغفرته لمن تاب عليه وعقوبته لمن أصرَّ. وقال مقاتل: أعلمُ من نزول العذاب ما لا تعلمونه وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم عذّبوا قبلهم.

_ (1) البيت منسوب إلى أبي عبيدة «اللسان» تفه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 63 إلى 64]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 63 الى 64] أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) قوله تعالى: أَوَعَجِبْتُمْ قال الزجاج: هذه واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة. وفي الذِّكر قولان: أحدهما: الموعظة. والثاني: البيان. وفي قوله: عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ قولان: أحدهما: أن «على» بمعنى: «مع» ، قاله الفراء. والثاني: أن المعنى: على لسان رجل منكم، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: قَوْماً عَمِينَ قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته وشدة بطشه. [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 70] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قوله تعالى: وَإِلى عادٍ المعنى: وأرسلنا إلى عاد أَخاهُمْ هُوداً. قال الزجاج: وإنما قيل: أخوهم، لأنه بشر مثلهم من ولد أبيهم آدم. ويجوز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم. وقال أبو سليمان الدمشقي: وعاد قبيلة من ولد سام بن نوح وإنما سماه أخاهم لأنه كان نسيباً لهم، وهو وهُم من ولد عاد بن عَوْص بن إرم بن سام. قوله تعالى: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ قال ابن قتيبة: السفاهة: الجهل. وقال الزجاج: السفاهة: خِفَّة الحُلم والرأي يقال: ثوب سفيه، إذا كان خفيفاً. وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فكفروا به، ظانَّين، لا مستيقنين. قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ هذا موضع أدب للخلق في حسن المخاطبة، فانه دفع ما سبُّوه به من السفاهة بنفيه فقط. قوله تعالى: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ قال الضحاك: أمين على الرسالة. وقال ابن السائب: كنت فيكم أميناً قبل اليوم. قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ ذكَّرهم النعمة حيث أهلكَ من كان قبلهم، وأسكنهم مساكنهم. وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي: طولاً وقوَّة. وقال ابن عباس: كان أطولُهم مائةَ ذراع، وأقصرُهم ستينَ ذراعاً. قال الزجاج: وآلاء الله: نعمه واحدها: إلى. قال الشاعر: أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ ... يَقْطَعُ رِحْماً وَلاَ يَخُوْنُ إلى «1» ويجوز أن يكون واحدها «إليا» ، «وألى» .

_ (1) البيت منسوب لأعشى قيس، ديوانه: 235 «اللسان» ألا.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 71 إلى 72]

قوله تعالى: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي: من نزول العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أن العذاب نازل بنا. وقال عطاء: في نبوَّتك وإرسالك إلينا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 71 الى 72] قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) قوله تعالى: قالَ قَدْ وَقَعَ أي وجب عليكم مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ قال ابن عباس: عذاب وسخط. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرّجز والرّجس بمعنى واحد، قلبت السين زاياً. قوله تعالى: أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ يعني: الأصنام. وفي تسميتهم لها قولان: أحدهما: أنهم سمَّوها آلهة. والثاني: أنهم سمَّوها بأسماء مختلفة. والسلطان: الحجة: فَانْتَظِرُوا نزول العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ الذي يأتيكم من العذاب في تكذيبكم إيّاي. [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 74] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قوله تعالى: وَإِلى ثَمُودَ قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلَّة مائها. قال ابن فارس: الثَّمد: الماء القليل الذي لا مادة له. قوله تعالى: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ في إضافتها إليه قولان: أحدهما: أن ذلك للتخصيص والتفضيل، كما يقال: بيت الله. والثاني: لأنها كانت بتكوينه من غير سبب. قوله تعالى: لَكُمْ آيَةً أي: علامة تدل على قدرة الله وإنما قال: «لكم» لأنهم هم الذين اقترحوها، وإن كانت آية لهم ولغيرهم. وفي وجه كونها آية قولان: احدهما: أنها خرجت من صخرة ملساء، فتمخَّضت بها تمخُّضَ الحامل، ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها. والثاني: أنها كانت تشرب ماء الوادي كله في يوم، وتسقيهم اللبن مكانه. قوله تعالى: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ قال ابن الأنباري: ليس عليكم مؤنتها وعلفها. و «تأكل» مجزوم على جواب الشرط المقدر، أي: إن تذروها تأكل. قوله تعالى: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، أي: لا تصيبوها بعقر. قوله تعالى: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: أنزلكم يقال: تبوأ فلان منزلاً: إذا نزله. وبوَّأتُهُ: أنزلته. قال الشاعر: وبُوِّئتْ في صَمْيمِ مَعْشَرِهَا ... فَتَمَّ في قَوْمِها مبوّؤها «1»

_ (1) البيت منسوب لإبراهيم بن هرمة في «مجاز القرآن» 1/ 218 و «اللسان» بوأ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 75 إلى 76]

أي أنزلت من الكريم في صميم النسب، قاله الزجاج. قوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً السهل: ضد الحزن. والقصر: ما شُيِّد وعلا من المنازل. قال ابن عباس: اتخذوا القصور في سهول الأرض للصيف، ونقبوا في الجبال للشتاء. قال وهب بن منبه: كان الرجل منهم يبني البنيان، فيمرّ عليه مائة سنة، فيخرب، ثم يجدّده، فيمرّ عليه مائة سنة، فيخرب ثم يجدّده، فيمرّ عليه مائة سنة، فيخرب فأضجرهم ذلك، فاتّخذوا من الجبال بيوتا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 75 الى 76] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وقرأ ابن عامر «وقال الملأ» بزيادة واو وكذلك هي في مصاحفهم. ومعنى الآية: تكبَّروا عن عبادة الله. لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يريد: المساكين. لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله «للذين استضعفوا» لأنهم المؤمنون أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ هذا استفهام إنكار. [سورة الأعراف (7) : الآيات 77 الى 78] فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) قوله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أي: قتلوها. قال ابن قتيبة: والعقر يكون بمعنى: القتل. (587) ومنه قوله عليه السلام عند ذكر الشهداء: «من عقر جواده» . وقال ابن إسحاق: كَمَن لها قاتلها في أصل شجرة فرماها بسهم، فانتظم به عَضَلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكسر عُرقوبها، ثم نحرها. قال الازهري: العقر عند العرب: قطع عرقوب البعير، ثم جعل العقر نحراً، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره. قوله تعالى: وَعَتَوْا قال الزّجّاج: جازوا المقدار في الكفر. قال أبو سليمان: عتوا عن اتِّباع أمر ربهم. قوله تعالى: بِما تَعِدُنا أي: من العذاب. قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الزّجّاج: الرّجفة: الزّلزلة الشديدة.

_ حديث صحيح. أخرجه أبو داود 1449 والنسائي 5/ 58 والدارمي 1/ 331 من حديث عبد الله بن حبشي الخثعمي، وهو حديث صحيح. وأخرجه ابن ماجة 2794 من حديث عمرو بن عبسة 1276 وأخرجه الطيالسي «منحة المعبود» 1/ 24 رقم 29 وعبد الرزاق في «مصنفه» 844 والحميدي 1276 وأحمد 3/ 330 و 302 و 346 والدارمي 2/ 200. وأبو يعلى 2081 من حديث جابر، وهو حديث صحيح. وذكره الهيثمي في «المجمع» 5/ 291 وقال: «رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى، والصغير رجال الصحيح. واللفظ عند أبي داود: عن عبد الله بن حبشي الخثعمي، أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل قال «طول القيام» قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال «جهد المقل» قيل فأي الهجرة أفضل؟ قال «من هجر ما حرم الله عليه» قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: «من جاهد المشركين بماله ونفسه» قيل: فأي القتل أشرف؟ قال «من أهريق دمه وعقر جواده» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 79 إلى 82]

قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي: في مدينتهم. فإن قيل: كيف وحّد الدّار ها هنا، وجمعها في موضع آخر، فقال: فِي دِيارِهِمْ «1» ؟ فعنه جوابان، ذكرهما ابن الأَنباري: أحدهما: أنه أراد بالدار: المعسكر، أي: فأصبحوا في معسكرهم. وأراد بقوله: في ديارهم: المنازل التي ينفرد كل واحد منها بمنزل. والثاني: أنه أراد بالدار: الديار، فاكتفى بالواحد من الجميع، كقول الشاعر: كُلُوا في نِصْفِ بِطْنِكُم تَعِيشُوا وشواهد هذا كثيرة في هذا الكتاب. قوله تعالى: جاثِمِينَ قال الفراء: أصبحوا رماداً جاثما. وقال أبو عبيدة: أي: بعضهم على بعض جثُوم. والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل. وقال ابن قتيبة: الجثوم: البروك على الرُّكَب. وقال غيره: كأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال. وقال الزجاج: أصبحوا أجساماً ملقاة في الأرض كالرماد الجاثم. قال المفسرون: معنى «جاثمين» : بعضهم على بعض، أي: إنهم سقط بعضهم على بعض عند نزول العذاب. [سورة الأعراف (7) : الآيات 79 الى 82] فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) قوله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ يقول: انصرف صالح عنهم بعد عقر الناقة، لأن الله تعالى أوحى إليه أن اخرُجْ من بين أظهرهم، فاني مهلكهم. وقال قتادة: ذكر لنا أن صالحاً أسمع قومَه كما أسمع نبيكم قومَه، يعني: بعد موتهم. قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ يعني إتيان الرجال. ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ قال عمرو ابن دينار: ما نزا ذكَر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط. وقال بعض اللغويين: لوط: مشتق من لطت الحوض: إذا ملسته بالطين. قال الزجاج وهذا غلط، لأنه اسم أعجمي كاسحاق، ولا يقال: إنه مشتق من السحق وهو البعد. قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ هذا استفهام إنكار. والمسرف: المجاوز ما أُمر به. وقوله تعالى: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ يعني: لوطاً وأتباعه المؤمنين إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ قال ابن عباس: يتنزَّهون عن أدبار الرجال وأدبار النّساء. [سورة الأعراف (7) : الآيات 83 الى 84] فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

_ (1) سورة هود: 67.

[سورة الأعراف (7) : آية 85]

قوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ في أهله قولان: أحدهما: ابنتاه. والثاني: المؤمنون به. إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي: الباقين في عذاب الله تعالى: قال أبو عبيدة: وإنما قال: «من الغابرين» لأن صفة النساء مع صفة الرجال تُذكَّر إذا أشرك بينهما. قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قال ابن عباس: يعني: الحجارة. قال مجاهد: نزل جبريل فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط ورفعها ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بالحجارة. [سورة الأعراف (7) : آية 85] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) قوله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ قال قتادة: مدين: ماء كان عليه قوم شعيب، وكذلك قال الزجاج، وقال: لا ينصرف، لأنه اسم البقعة. وقال مقاتل: مدْيَن: هو ابن ابراهيم الخليل لصلبه. وقال أبو سليمان الدمشقي: مدين: هو ابن مديان بن ابراهيم، والمعنى: أرسلنا إلى ولد مدين، فعلى هذا: هو اسم قبيلة. وقال بعضهم: هو اسم للمدينة. فالمعنى: وإلى أهل مدين. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: مدين أسم أعجمي. فان كان عربياً، فالياء زائدة، من قولهم: مدن بالمكان: إذا أقام به. قوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ قال الزجاج: البَخْسُ: النقص والقلَّة يقال: بَخَسْتُ أبْخَسُ بالسين، وبخصت عينه، بالصاد لا غير. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي: لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله بالأمر بالعدل، وإرسال الرسل. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: مصدِّقين بما أخبرتكم عن الله. [سورة الأعراف (7) : آية 86] وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) قوله تعالى: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أي: بكل طريق تُوعِدُونَ مَن آمن بشعيب بالشر، وتخوِّفونهم بالعذاب والقتل. فان قيل: كيف أفرد الفعل، وأخلاه من المفعول فهلاَّ قال: توعِدون بكذا؟ فالجواب: أن العرب إذا أخلت هذا الفعل من المفعول، لم يدل إلا على شر يقولون: أوعدت فلاناً. وكذلك إذا أفردوا: وعدت من مفعول، لم يدل إلا على الخير. قال الفرّاء: يقولون: وعدته خيرا، ووعدته شراً فاذا أسقطوا الخير والشر، قالوا: وعدته: في الخير، وأوعدته: في الشرّ فإذا جاءوا بالباء، قالوا: وعدته بالشرّ، وقال الراجز: أوْعَدَنِي بالسِّجْنِ والأدَاهِمِ «1» قال المصنف: وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: إذا أرادوا أن يذكروا ما تهدَّدوا به مع أوعدت، جاءوا بالباء، فقالوا: أوعدته بالضرب، ولا يقولون: أوعدته الضّرب. قال السّدّيّ: كانوا

_ (1) البيت في «اللسان» غير منسوب: وعد. وعجزه [رجلي، ورجلي شثنة المناسم] .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 87 إلى 88]

عشّارين. وقال ابن زيد: كانوا يقطعون الطريق. قوله تعالى: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: تصرفون عن دين الله من آمن به. وَتَبْغُونَها عِوَجاً مفسر في (آل عمران) «1» . قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ قال الزجاج: جائز أن يكون المعنى: جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء وجائز أن يكون: كثّر عددَكم بعد أن كنتم قليلاً، وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وأقدار، فكثّرهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 87 الى 88] وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قوله تعالى: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا أي: إن أختلفتم في رسالتي، فصرتم فريقين، مصدِّقين ومكذِّبين فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا بتعذيب المكذبين، وإنجاء المصدِّقين وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه العدل الذي لا يجوز. قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يعنون ديننا، وهو الشرك. قال الفراء: جعل في قوله: «لتعودن» لاماً كجواب اليمين، وهو في معنى شرط ومثله في الكلام: والله لأضربنَّك أو تُقِرّ لي، فيكون معناه معنى: «إلا» ، أو معنى: «حتى» . قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ أي: أو تجبروننا على ملتكم إن كرهناها؟! والألف للاستفهام. فان قيل: كيف قالوا: «لتعودن» ، وشعيب لم يكن في كفر قطّ، فيعود إليه؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنهم لما جمعوا في الخطاب معه من كان كافراً، ثم آمن، خاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه، وغلَّبوا لفظهم على لفظه، لكثرتهم، وانفراده. والثاني: أن المعنى: لتصيرُنّ إلى ملتنا فوقع العَود على معنى الابتداء، كما يقال: قد عاد عليَّ من فلان مكروه، أي: قد لحقني منه ذلك وإن لم يكن سبق منه مكروه. قال الشاعر: فانْ تكنِ الأيَّامُ أحَسنَّ مرَةً ... إليَّ فقد عَادَتْ لَهُنُّ ذُنوْبُ «2» وقد شرحنا هذا في قوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ في (سورة البقرة) «3» . وقد ذكر معنى الجوابين الزجاج، وابن الأنباري. [سورة الأعراف (7) : الآيات 89 الى 93] قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

_ (1) سورة آل عمران: 99. (2) البيت تقدم في سورة البقرة. [.....] (3) سورة البقرة: 210. قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.

قوله تعالى: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ وذلك أن القوم كانوا يدّعون أن الله أمرهم بما هم عليه، فلذلك سمَّوه مِلَّةً. وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أي: في الملة، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي: إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً قال ابن عباس: يعلم ما يكون قبل أن يكون. قوله تعالى: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي: فيما توعدتمونا به، وفي حراستنا عن الضلال. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ قال أبو عبيدة: احكم بيننا، وأنشد أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُوْلاً ... بأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ «1» قال الفراء: وأهل عُمان يسمون القاضي: الفاتح والفتَّاح. قال الزجاج: وجائز أن يكون المعنى: أظهِر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وينكشف فجائز أن يكونوا سألوا بهذا نزول العذاب بقومهم ليظهر أن الحق معهم. قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا فيه أربعة أقوال: أحدها: كأن لم يعيشوا في دارهم، قاله ابن عباس، والأخفش. قال حاتم طيء: غَنِيْنَا زَمَاناً بالتَّصَعْلُكِ وَالغِنَى ... فَكُلاًّ سَقَانَاه بكأْسَيْهِما الدَّهْرُ «2» فَمَا زَادَنَا بَغْيَاً عَلَى ذِي قَرَابَةٍ ... غِنَانَا، ولا أزْرَى بأحْسَابِنَا الفَقْرُ «3» قال الزجاج: معنى غنينا: عشنا. والتصعلك: الفقر، والعرب تقول للفقير: الصعلوك. والثاني: كأن لم يتنعَّموا فيها، قاله قتادة. والثالث: كأن لم يكونوا فيها، قاله ابن زيد، ومقاتل. والرابع: كأن لم ينزلوا فيها، قاله الزجاج. قال الأصمعي: المغاني: المنازل، يقال: غنينا بمكان كذا، أي: نزلنا به. وقال ابن قتيبة: كأن لم يقيموا فيها، ومعنى: غنينا بمكان كذا: أقمنا. قال ابن الأنباري: وإنما كرر قوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً للمبالغة في ذمهم كما تقول: أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي شتم أعراضنا. قوله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: أَعْرِض. والثاني: انْصَرِف. وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي قال قتادة: أسمع شعيب قومَه، وأسمع صالح قومَه كما أسمع نبيكم قومَه يوم بدر، يعني: أنه خاطبهم بعد الهلاك. فَكَيْفَ آسى أي: أحزن. وقال أبو اسحاق: أصاب شعيباً على قومه حزنٌ شديد، ثم عاتب نفسه، فقال: كيف آسى على قوم كافرين.

_ (1) البيت منسوب إلى أبي عبيدة في «اللسان» فتح. (2) البيتان منسوبان إلى حاتم طيء في «ديوان حاتم» . 119. (3) في «الديوان» و «الخزانة» «فما زادونا بأوا» . والبأو: الكبر والفخر.

[سورة الأعراف (7) : آية 94]

[سورة الأعراف (7) : آية 94] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ قال الزجاج: يقال لكل مدينة: قرية، لاجتماع الناس فيها. وقال غيره: في الآية اختصار، تقديره: فكذّبوه. إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وقد سبق تفسير البأساء والضّرّاء في سورة الأنعام، وتفسير التّضرّع في هذه السورة. ومقصود الآية: إعلام النبيّ صلّى الله عليه وسلم بسنّة الله في المكذّبين، وتهديد قريش. [سورة الأعراف (7) : الآيات 95 الى 97] ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) قوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ فيه قولان: أحدها: أن السيئة: الشدة والحسنة الرخاء، قاله ابن عباس. والثاني: السيئة: الشر والحسنة: الخير، قاله مجاهد. قوله تعالى: حَتَّى عَفَوْا قال ابن عباس: كثروا، وكثرت أموالهم. وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فنحن مثلهم يصيبنا ما أصابهم، يعني: أنهم أرادوا أن هذا دأب الدهر وليس بعقوبة فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي فجأة بنزول العذاب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزوله حتى أهلكهم. قوله تعالى: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قال الزجاج: المعنى: أتاهم الغيث من السماء، والنبات من الأرض، وجعل ذلك زاكياً كثيرا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 98 الى 99] أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) قوله تعالى: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى قرأ ابن كثير، وابن عامر، ونافع: «أو أمن أهلُ» باسكان الواو. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ: أَوَأَمِنَ بتحريك الواو. وروى ورش عن نافع: «أو أمن» يدغم الهمزة، ويلقي حركتها على الساكن. [سورة الأعراف (7) : الآيات 100 الى 101] أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) قوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ وقرأ يعقوب: «نَهِد» بالنون، وكذلك في (طه) «1» ، و (السجدة) «2» . قال الزجاج: من قرأ بالياء، فالمعنى: أو لم يبيِّن الله لهم. ومن قرأ بالنون، فالمعنى: أو لم نبيِّن. وقوله تعالى: وَنَطْبَعُ ليس بمحمول على «أصبناهم» ، لأنه لو حمل على «أصبناهم» لكان: ولطبعنا. وإنما المعنى: ونحن نطبع على قلوبهم. ويجوز أن يكون محمولا على الماضي،

_ (1) سورة طه: 128. (2) سورة السجدة: 26.

[سورة الأعراف (7) : آية 102]

ولفظه لفظ المستقبل، كما قال: أَنْ لَوْ نَشاءُ، والمعنى: لو شئنا. وقال ابن الانباري: يجوز أن يكون معطوفاً على: أصبنا، إذ كان بمعنى نُصيب فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال، كما قال: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ «1» أي: إن يشأ، يدل عليه قوله: وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً، قال الشاعر: إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً ... مِنَّي، وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا «2» أي: يدفنوا: قوله تعالى: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يقبلون، ومنه: «سمع الله لمن حمده» ، قال الشاعر: دَعَوْتُ الله حتَّى خِفْتُ أنْ لاَ ... يَكُوْنَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أقُوْل «3» قوله تعالى: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ فيه خمسة أقوال «4» : أحدها: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم الله أنهم يكذِّبون به يوم أقرّوا له بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم، هذا قول أُبيِّ بن كعب. والثاني: فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذِّبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من صلب آدم، فآمنوا كرهاً حيث أقروا بالألسن، وأضمروا التكذيب، قاله ابن عباس، والسدي. والثالث: فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذَّبوا به من قبل هلاكهم، هذا قول مجاهد. والرابع: فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّب به أوائلهم من الأمم الخالية، بل شاركوهم في التكذيب، قاله يمان بن رباب. والخامس: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذّبوا قبل رؤيتها. [سورة الأعراف (7) : آية 102] وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) قوله تعالى: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ قال مجاهد: يعني: القرون الماضية. مِنْ عَهْدٍ قال أبو عبيدة: أي: وفاء. قال ابن عباس: يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم حين أخرجهم من صلب آدم. وقال الحسن: العهد ها هنا: ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئا.

_ (1) سورة الفرقان: 10. (2) البيت منسوب لقعنب بن أم صاحب وهو في «الحماسة» 4/ 12. (3) البيت غير منسوب في «اللسان» : سمع. (4) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 13: وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها بالصواب، القول الذي ذكر عن أبي ابن كعب والربيع وذلك أن من سبق علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به، فلن يؤمن أبدا وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في هذه السورة، أنه لا يؤمن أبدا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه. قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم. ولو قيل: تأويله: فما كان هؤلاء الذين ورثوا الأرض، يا محمد، من مشركي قومك من بعد أهلها الذين كانوا بها من عاد وثمود، ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوا عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده، كان وجها ومذهبا غير أني لا أعلم قائلا قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن. وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه: لو ردوا ما كانوا ليؤمنوا، فتأويل لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا من خبر عن الرسول صحيح، وإذا كان ذلك كذلك فأولى منه بالصواب ما كان عليه التنزيل دليل. اه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 إلى 107]

قوله تعالى: وَإِنْ وَجَدْنا قال أبو عبيدة: وما وجدنا أكثرهم إلّا الفاسقين. [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 107] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: الأنبياء المذكورين. قوله تعالى: فَظَلَمُوا بِها قال ابن عباس: فكذَّبوا بها. وقال غيره: فجحدوا بها. قوله تعالى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ «على» بمعنى الباء. قال الفراء: العرب تجعل الباء في موضع «على» تقول: رميت بالقوس، وعلى القوس، وجئت بحال حسنة، وعلى حال حسنة. وقال أبو عبيدة: «حقيق» بمعنى: حريص. وقرأ نافع، وأبان عن عاصم: «حقيق عليَّ» بتشديد الياء وفتحها، على الاضافة. والمعنى: واجب عليَّ. قوله تعالى: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ قال ابن عباس: يعني: العصا. فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أطلق عنهم وكان قد استخدمهم في الأعمال الشاقة. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ قال أبو عبيدة: أي: حية ظاهرة. قال الفراء: الثعبان: أعظم الحيات، وهو الذكر. وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس: الثّعبان: الحيّة الذّكر. [سورة الأعراف (7) : الآيات 108 الى 122] وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قوله تعالى: وَنَزَعَ يَدَهُ قال ابن عباس: أدخل يده في جيبه، ثم أخرجها، فاذا هي تبرق مثل البرق، لها شعاع غلب نور الشمس، فخرَّوا على وجوههم ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت. قال مجاهد: بيضاء من غير برص. قوله تعالى: فَماذا تَأْمُرُونَ قال ابن عباس: ما الذي تشيرون به عليَّ؟ وهذا يدل على أنه من قول فرعون، وأن كلام الملأ انقطع عند قوله: مِنْ أَرْضِكُمْ. قال الزجاج: يجوز أن يكون من قول الملأِ، كأنهم خاطبوا فرعون ومن يخصه، أو خاطبوه وحده لأنه قد يقال للرّئيس المطاع: ماذا ترون؟

قوله تعالى: أَرْجِهْ قرأ ابن كثير «أرجئهو» مهموز بواو بعد الهاء في اللفظ. وقرأ ابن عمرو مثله، غير أنه يضم الهاء ضمة، من غير أن يبلغ بها الواو وكانا يهمزان: «مرجئون» و «ترجئ» وقرأ قالون والمسيّبي عن نافع «أرجهِ» بكسر الهاء، ولا يبلغ بها الياء، ولا يهمز. وروى عنه ورش: «أرجهي» يصلها بياء، ولا يهمز بين الجيم والهاء. وكذلك قال إسماعيل بن جعفر عن نافع، وهي قراءة الكسائي. وقرأ حمزة: «أرجهْ» ساكنة الهاء غير مهموز، وكذلك قرأ عاصم في غير رواية المفضل، وقد روى عنه المفضل كسر الهاء من غير إشباع ولا همز، وهي قراءة أبي جعفر، وكذلك اختلافهم في سورة (الشعراء) «1» . قال ابن قتيبة: أرِّجْهُ: أخّره وقد يهمز، يقال: أرجأت الشيء، وأرجيته. ومنه قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ «2» . قال الفراء: بنو أسد تقول: أرجيت الأمر، بغير همز، وكذلك عامة قيس وبعض بني تميم يقولون: أرجأت الأمر، بالهمز، والقراء مولَعون بهمزها، وترك الهمز أجود. قوله تعالى: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ يعني مدائن مصر، حاشِرِينَ أي: من يحشر السحرة إليك ويجمعهم. وقال ابن عباس: هم الشرط. قوله تعالى: يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «ساحرٍ» وفي (يونس) : بِكُلِّ سَحَّارٍ» وقرأ حمزة والكسائي: «سحّارٍ» في الموضعين ولا خلاف في (الشّعراء) أنّها: سَحَّارٍ «4» . قوله تعالى: إِنَّ لَنا لَأَجْراً قرأ ابن كثير، ونافع، وحفص عن عاصم إِنَّ لَنا لَأَجْراً مكسورة الألف على الخبر، وفي (الشعراء) : «آينَّ» ممدودة مفتوحة الألف، غير أن حفصا روى عن عاصم في (الشعراء) : «أإن» «5» بهمزتين. وقرأ أبو عمرو: «آين لنا» ممدودة في السورتين. وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بهمزتين في الموضعين. قال أبو علي: الاستفهام أشبه بهذا الموضع، لأنهم لم يقطعوا على أن لهم الأجر، وإنما استفهموا عنه. قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي: ولكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي. قوله تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ قال أبو عبيدة: عَشَّوْا أعين الناس وأخذوها. وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي: خوَّفوهم. وقال الزجاج: استَدعَوا رهبتهم حتى رهبهم الناس. قوله تعالى: فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ وقرأ كعاصم: تَلْقَفُ ساكنة اللام، خفيفة القاف هاهنا وفي (طه) ، و (الشعراء) . وروى البزّيّ. وابن فُلَيح عن ابن كثير: «تلقف» بتشديد التاء. قال الفراء: يقال: لقفْتُ الشيء، فأنا ألقَفُه لَقفْاً ولَقَفاناً والمعنى: تبتلع. قوله تعالى: ما يَأْفِكُونَ أي: يكذبون، لأنهم زعموا أنها حيّات. قوله تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ قال ابن عباس: استبان. وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر. (الإشارة إلى قصتهم) اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولاً. أحدها: اثنان وسبعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: اثنان وسبعون ألفاً، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل. والثالث: سبعون،

_ (1) سورة الشعراء: 36. (2) سورة الأحزاب: 51. (3) سورة يونس: 79. (4) سورة الشعراء: 37. [.....] (5) سورة الشعراء: 41.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 إلى 125]

روي عن ابن عباس أيضاً. والرابع: اثنا عشر ألفا، قاله كعب. والخامس: سبعون ألفاً، قاله عطاء، وكذلك قال وهب في رواية، ألا أنه قال: فاختار منهم سبعة آلاف. والسادس: سبعمائة. وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال: كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفاً متخيَّرين من سبعمائة ألف، ثم إن فرعون اختار من السبعين الألف سبعمائة. والسابع: خمسة وعشرون ألفاً، قاله الحسن. والثامن: تسعمائة، قاله عكرمة. والتاسع: ثمانون ألفاً، قاله محمد بن المنكدر. والعاشر: بضعة وثلاثون ألفاً، قاله السدي. والحادي عشر: خمسة عشر ألفاً، قاله ابن اسحاق. والثاني عشر: تسعة عشر ألفاً، رواه أبو سليمان الدمشقي. والثالث عشر: أربع مائة، حكاه الثعلبي. فأما أسماء رؤسائهم، فقال ابن اسحاق: رؤوس السحرة ساتور، وعاذور، وحُطحُط، ومُصَفَّى، وهم الذين آمنوا، كذا حكاه ابن ماكولا. ورأيت عن غير ابن اسحاق: سابوراً، وعازوراً. وقال مقاتل: اسم أكبرهم. شمعون. قال ابن عباس: ألقوا حبالاً غلاظاً، وخشباً طُوالا، فكانت ميلاً في ميل، فألقى موسى عصاه، فاذا هي أعظم من حبالهم وعصيهم، قد سدت الأفق، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً، فابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيِّهم، وجعلت تأكل جميع ما قدرت عليه من صخرة أو شجرة، والناس ينظرون، وفرعون يضحك تجلُّداً، فأقبلت الحيَّة نحو فرعون، فصاح: يا موسى، يا موسى فأخذها موسى، وعرفت السحرة أن هذا من السماء، وليس هذا بسحر، فخرُّوا سُجَّداً، وقالوا آمنا برب العالمين، فقال فرعون: إياي تعنون؟ فقالوا: ربَّ موسى وهارون، فأصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء. وقال وهب بن منبه. لما صارت ثعباناً حملت على الناس فانهزموا منها، فقتل بعضهم بعضاً، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً. وقال السدي: لقي موسى أمير السحرة، فقال: أرأيت إن غلبتك غدا، أتؤمن بي؟ فقال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه السّحر، فو الله لئن غلبتني لأومننَّ بك. فان قيل: كيف جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء، وفعل السحر كفر؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن مضمون أمره: إن كنتم محقين فألقوا. والثاني: ألقوا على ما يصح، لا على ما يفسد ويستحيل، ذكرهما الماوردي. والثالث: إنما أمرهم بالإلقاء لتكون معجزته أظهر، لأنهم إذا ألقوا، ألقى عصاه فابتلعت ذلك، ذكره الواحدي. فان قيل: كيف قال: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ، وإنما سجدوا باختيارهم؟ فالجواب: أنه لما زالت كل شبهة بما أظهر الله تعالى من أمره، اضطرهم عظيم ما عاينوا إلى مبادرة السجود، فصاروا مفعولين في الإلقاء تصحيحاً وتعظيماً لشأن ما رأوا من الآيات، ذكره ابن الأنباري. قال ابن عباس: لما آمنت السحرة، اتبع موسى ستّمائة ألف من بني إسرائيل. [سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 125] قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) قوله تعالى: آمَنْتُمْ بِهِ قرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو: «أآمنتم به» بهمزة ومدة على الاستفهام. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «أآمنتم به» فاستفهموا بهمزتين، الثانية ممدودة. وقرأ حفص عن عاصم: «آمنتم به» على الخبر. وروى ابن الإخريط عن ابن كثير: «قال

[سورة الأعراف (7) : الآيات 126 إلى 128]

فرعون وأمنتم به» فقلب همزة الاستفهام واواً، وجعل الثانية مليَّنة بين بين. وروى قنبل عن القواس مثل رواية ابن الإخريط، غير أنه كان يهمز بعد الواو. وقال أبو علي: همز بعد الواو، لأن هذه الواو منقلبة عن همزة الاستفهام، وبعد همزة الاستفهام همزة «أفَعَلْتُم» فحققها ولم يخففها. قوله تعالى: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ قال ابن السائب: لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما صنعتم، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وهو قطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى. قال ابن عباس: أول من فعل ذلك، وأوّل من صلب، فرعون. [سورة الأعراف (7) : الآيات 126 الى 128] وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قوله تعالى: وَما تَنْقِمُ مِنَّا أي: وما تكره منّا شيئا، ولا تطعن علينا إلا لأنا آمنا. رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً قال مجاهد: على القطع والصلب حتى لا نرجع كفاراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي: مخلصين على دين موسى. قوله تعالى: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ هذا إِغراء من الملأِ لفرعون. وفيما أرادوا بالفساد في الأرض قولان: أحدهما: قتل أبناء القبط، واستحياء نسائهم، كما فعلوا ببني اسرائيل، قاله مقاتل. والثاني: دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته. قوله تعالى: وَيَذَرَكَ جمهور القراء على نصب الراء وقرأ الحسن برفعها. قال الزجاج: من نصب «ويذرَك» نصبه على جواب الاستفهام بالواو والمعنى: أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك؟ ومن رفعه جعله مستأنفاً، فيكون المعنى: أتذر موسى وقومه، وهو يذرك وآلهتك، والأجود أن يكون معطوفاً على «أتذر» فيكون المعنى: أتذر موسى، وأ يذرك موسى؟ أي: أتطلق له هذا؟ قوله تعالى: وَآلِهَتَكَ قال ابن عباس: كان فرعون قد صنع لقومه أصناماً صغاراً، وأمرهم بعبادتها، وقال أنا ربكم ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. وقال غيره: كان قومه يتعبّدون تلك الأصنام تقرباً إليه. وقال الحسن: كان يعبد تيساً في السر. وقيل: كان يعبد البقر سراً. وقيل: كان يجعل في عنقه شيئا يعبده. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وابن محيصن: «والإِهتك» بكسر الهمزة وقصرها وفتح اللام وبألف بعدها. قال الزجاج: المعنى: ويذرك وربوبيتك وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الإِلاهة: العبادة فالمعنى: ويذرك وعبادة الناس إياك. قال ابن قتيبة: من قرأ: «وإِلاهتك» أراد: ويذرك والشمس التي تعبد، وقد كان في العرب قوم يعبدون الشمس ويسمونها آلهةً. قال الأعشى: فَمَا أَذْكُرُ الرَّهْبَ حتَّى انْقَلَبْتُ ... قُبيْلَ الإلهَةِ مِنْها قَرِيْبا يعني الشمس، والرهب: ناقته. يقول: اشتغلت بهذه المرأة عن ناقتي إلى هذا الوقت. قوله تعالى: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ قرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «سنقتّل»

[سورة الأعراف (7) : الآيات 129 إلى 130]

و «يقتلون أبناءكم» بالتشديد، وخففهما نافع. وقرأ ابن كثير: «سَنَقْتُلُ» خفيفة، و «يقتّلون» مشددة، وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لعلمه أنه لا يقدر عليه. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي: عالون بالملك والسلطان. فشكا بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم، فقال موسى: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا على ما يُفعل بكم إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وقرأ الحسن، وهبيرة عن حفص عن عاصم: «يورِّثها» بالتشديد. فأطمعهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم. قوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فيها قولان: أحدهما: الجنّة. والثاني: النّصر والظّفر. [سورة الأعراف (7) : الآيات 129 الى 130] قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) قوله تعالى: قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا في هذا الأذى ستة أقوال: أحدها: أن الأذى الأول والثاني أخذ الجزية، قاله الحسن. والثاني: أن الأول ذبح الأبناء، والثاني إدراك فرعون يوم طلبهم، قاله السدي. والثالث: أن الأول أنهم كانوا يسخَّرون في الأعمال إلى نصف النهار، ويرسَلون في بقيته يكتسبون. والثاني تسخيرهم جميع النهار بلا طعام ولا شراب، قاله جويبر. والرابع: أن الأول تسخيرهم في ضرب اللَّبِن، وكانوا يعطونهم التّبن الذي يخلط به الطين والثاني أنهم كلِّفوا ضرب اللَّبِن وجعلَ التبن عليهم، قاله ابن السائب. والخامس: أن الأول قتل الأبناء، واستحياء البنات، والثاني تكليف فرعون إيّاهم ما لا يطيقون، قاله مقاتل. والسادس: أن الأول استخدامهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، والثاني إعادة ذلك العذاب. وفي قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا قولان: أحدهما: تأتينا بالرّسالة ومن بعد جئتنا بها قاله ابن عباس. والثاني: تأتينا بعهد الله أنه سيخلِّصنا ومن بعد ما جئتنا به، ذكره الماوردي. قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ قال الزجاج: عسى: طمع وإشفاق، إلا أن ما يُطمِع الله فيه فهو واجب. قوله تعالى: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ في هذا الاستخلاف قولان: أحدهما: أنه استخلاف من فرعون وقومه. والثاني: استخلاف عن الله تعالى، لأن المؤمنين خلفاء الله في أرضه، وفي الأرض قولان: أحدهما: أرض مصر، قاله ابن عباس. والثاني: أرض الشام، ذكره الماوردي. قوله تعالى: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ قال الزجاج: أي: يراه بوقوعه منكم، لأنه إنما يجازيهم على ما وقع منهم، لا على ما علم أنه سيقع منهم. قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ قال أبو عبيدة: مجازُه: ابتليناهم بالجدوب. وآل فرعون: أهل دينه وقومه. وقال مقاتل: هم أهل مصر. قال الفراء: «بالسنين» أي: بالقحط والجدوب عاماً بعد عام. وقال الزجاج: السنون في كلام العرب: الجدوب، يقال: مستهم السَّنة، ومعناه: جدب السَّنة، وشدة السَّنة. وإنما أخذهم بالضراء، لأن أحوال الشدة تُرِقُ القلوب، وتُرغِّب فيما عند الله وفي الرجوع اليه. قال قتادة: أما السنون، فكانت في بواديهم ومواشيهم، وأما نقص الثمرات، فكان في

[سورة الأعراف (7) : آية 131]

أمصارهم وقراهم. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يبس لهم كل شيء، وذهبت مواشيهم، حتى يبس نيل مصر، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له: إن كنت رباً كما تزعم، فاملأ لنا نيل مصر، فقال غُدْوة يصبِّحكم الماء، فلما خرجوا من عنده، قال: أيَّ شيء صنعت؟ أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر؟ غدوة أصبح، فيكذِّبوني. فلما كان جوف الليل، اغتسل، ثم لبس مِدرعة من صوف، ثم خرج حافياً حتى اتى بطن نيل مصر فقام في بطنه، فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء، فاملأه، فما علم إلا بخرير الماء لما أراد الله به من الهلكة. قلت: وهذا الحديث بعيد الصحة لأن الرجل كان دهرياً لا يثبت إِلهاً. ولو صح، كان إقراره بذلك كاقرار إبليس، وتبقى مخالفته عنادا. [سورة الأعراف (7) : آية 131] فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) قوله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ وهي الغيث والخصب وسعة الرزق والسلامة قالُوا لَنا هذِهِ أي: نحن مستحقوها على ما جرى لنا من العادة في سعة الرزق، ولم يعلموا أنه من الله فيشكُروا عليه. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ وهي القحط والجدب والبلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي: يتشاءموا بهم. وكانت العرب تزجر الطير، فتتشاءم بالبارح، وهو الذي يأتي من جهة الشمال، وتتبرك بالسانح، وهو الذي يأتي من جهة اليمين. قوله تعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قال أبو عبيدة: «ألا» تنبيه وتوكيد ومجاز. «طائرهم» حظهم ونصيبهم، وقال ابن عباس «ألا إنما طائرهم عند الله» أي: إن الذي أصابهم من الله. وقال الزجاج: المعنى: ألا إن الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وُعدوا به في الآخرة، لا ما ينالهم في الدّنيا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 132 الى 133] وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) قوله تعالى: وَقالُوا مَهْما قال الزجاج: زعم النحويون أن أصل «مهما» ماما، ولكن أبدل من الألف الأولى الهاء ليختلف اللفظ ف «ما» الأولى هي «ما» الجزاء، و «ما» الثانية هي التي تزاد تأكيداً للجزاء، ودليل النحويين على ذلك أنه ليس شيء من حروف الجزاء إلا و «ما» تزاد فيه، قال الله عزّ وجلّ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ «1» كقولك: إن تثقفنهم، وقال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ «2» ، وتكون «ما» الثانية للشرط والجزاء، والتفسير الأول هو الكلام، وعليه استعمال الناس. قال ابن الأنباري: فعلى قول من قال: إن معنى «مه» الكف، يحسن الوقف على «مه» ، والاختيار عندي أن لا يوقف على «مه» دون «ما» لأنّهما في المصحف حرف واحد. وفي الطوفان ثلاثة أقوال «3» :

_ (1) سورة الأنفال: 57. (2) سورة الإسراء: 28. (3) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 33: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه أبو ظبيان. أنه أمر من الله طاف بهم، وأنه مصدر من قول القائل: «طاف بهم أمر الله يطوف طوفانا» . كما يقال: «نقص هذا الشيء ينقص نقصانا» . وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يكون الذي طاف بهم المطر الشديد، وجاز أن يكون الموت الذريع.

أحدها: أنه الماء. قال ابن عباس: أُرسل عليهم مطر دائم الليلَ والنهارَ ثمانية أيام، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير وقتادة والضحاك وأبو مالك ومقاتل واختاره الفراء وابن قتيبة. (588) والثاني: أنه الموت، روته عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وبه قال مجاهد، وعطاء، ووهب بن منبه، وابن كثير. والثالث: أنه الطاعون، نقل عن مجاهد، ووهب أيضاً. وفي القمَّل سبعة أقوال: أحدها: أنه السوس الذي يقع في الحنطة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال به. والثاني: أنه الدَّبى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء. وقال قتادة: القمَّل: أولاد الجراد. وقال ابن فارس: الدَّبى: الجراد إذا تحرك قبل أن تنبت أجنحته. والثالث: أنه دواب سود صغار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير. وقيل: هذه الدواب هي السوس. والرابع: أنه الجعلان، قاله حبيب بن ثابت. والخامس: أنه القمل، ذكره عطاء الخراساني، وزيد بن أسلم. والسادس: أنه البراغيث، حكاه ابن زيد. والسابع: أنه الحَمنان، واحدتها: حَمنانة، وهي ضرب من القِردان، قاله أبو عبيدة. وقرأ الحسن، وعكرمة، وابن يعمر: «القُمْل» برفع القاف وسكون الميم. وفي الدم قولان: أحدهما: أن ماءهم صار دماً، قاله الجمهور. والثاني: أنه رعاف أصابهم، قاله زيد بن اسلم. (الإِشارة إلى شرح القصة) قال ابن عباس: جاءهم الطوفان، فكان الرجل لا يقدر ان يخرج إلى ضيعته، حتى خافوا الغرق، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنا، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل فدعا لهم، فكشفه الله عنهم، وأنبت لهم شيئاً لم ينبته قبل ذلك، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض، فقالوا: ادع لنا ربك، فدعا، فكشف الله عنهم، فأحرزوا زروعهم في البيوت، فأرسل الله عليهم القُمَّل، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرحى، فلا يرى منها ثلاثة أقفزة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، ولم يكن شيء أشد منها، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي وتفور، فتلقي أنفسها فيها، فتفسد طعامهم وتطفئ نيرانهم، وكانت الضّفادع برّية، فأورثها الله عزّ وجلّ برد الماء والثرى إلى يوم القيامة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فجرت أنهارهم وقُلُبهم دماً، فلم يقدروا على الماء العذب، وبنو إسرائيل في الماء العذب، فاذا دخل الرجل منهم يستقي من أنهار بني اسرائيل صار ما دخل فيه دماً، والماء من بين يديه ومن خلفه صافٍ عذبٌ لا يقدر عليه، فقال فرعون: أقسم بالهي يا موسى لئن كشفتَ عنا الرّجز

_ ضعيف جدا، أخرجه الطبري 15005، وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» . 2/ 303 من طريق يحيى بن يمان عن منهال بن خليفة عن حجاج بن أرطأة عن الحكم بن ميناء عن عائشة مرفوعا به. وإسناده ضعيف جدا، فهو مسلسل بالضعفاء، يحيى، ومنهال، وحجاج ثلاثتهم ضعفاء. أخرجه الطبري 15009 من طريق ابن يمان عن المنهال عن حجاج عن رجل عن عائشة وهو كسابقه بل فيه أيضا راو لم يسمّ. والصحيح كونه من قول مجاهد، وكذا أخرجه الطبري عنه من طرق 15007 و 15008 واستغربه ابن كثير 2/ 303 وهو شبه موضوع.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 134 إلى 136]

لنؤمننّ بك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا موسى، فذهب الدم وَعَذُبَ ماؤهم، فقالوا: والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل. قوله تعالى: آياتٍ مُفَصَّلاتٍ قال ابن قتيبة: بين الآية والآية فصل. قال المفسرون: كانت الآية تمكث من السبت إلى السبت، ثم يبقون عقيب رفعها شهراً في عافية، ثم تأتي الآية الأخرى. وقال وهب بن منبه: بين كل آيتين أربعون يوماً. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات، الجراد والقمّل والضّفادع والدّم. وفي قوله تعالى: «فاستكبروا» قولان: أحدهما: عن الإيمان. والثاني: عن الانزجار. [سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 136] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) قوله تعالى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي: نزل بهم العذاب. وفي هذا العذاب قولان «1» : أحدهما: أنه طاعون أهلك منهم سبعين ألفاً، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: أنه العذاب الذي سلَّطه الله عليهم من الجراد والقُمَّل وغير ذلك، قاله ابن زيد. قال الزجاج: «الرجز» : العذاب، أو العمل الذي يؤدي إلى العذاب. ومعنى الرجز في العذاب: أنه المقلقل لشدته قلقلة شديدة متتابعة. وأصل الرجز في اللغة: تتابع الحركات، فمن ذلك قولهم: ناقة رجزاء، إذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها. ومنه رجز الشعر، لأنه أقصر أبيات الشعر، والانتقالُ من بيت إلى بيت، سريعٌ، نحو قوله: يَا لَيْتَنِي فِيْهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وَأضَعْ وزعم الخليل أن الرَّجَز ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث. قوله تعالى: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: بما أوصاك أن تدعوه به. والثاني: بما تقدم به إليك أن تدعوه فيجيبك. والثالث: بما عهد عندك في كشف العذاب عمن آمن. والرابع: أن ذلك منهم على معنى القسم، كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم. قوله تعالى: إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي: إلى وقت غرقهم. إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي: ينقضون العهد. قوله تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ قال أبو سليمان الدمشقي: انتصرنا منهم باحلال نقمتنا بهم، وتلك

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 42: وأولى القولين بالصواب في هذا الموضع أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن فرعون وقومه أنهم لما وقع عليهم الرجز، وهو العذاب والسخط من الله عليهم، فزعوا إلى موسى بمسألته ربه كشف ذلك عنهم وجائز أن يكون ذلك الرِّجْزُ كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، لأن كل ذلك كان عذابا عليهم وجائز أن يكون ذلك الرِّجْزُ كان طاعونا، ولم يخبرنا الله أي ذلك كان، ولا صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأي ذلك كان خبر، فنسلم له. فالصواب أن نقول فيه كما قال جل ثناؤه وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ، ولا نتعداه إلا بالبيان الذي لا تمانع فيه بين أهل التأويل، وهو: لما حل بهم عذاب الله وسخطه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 137 إلى 138]

النقمة تغريقنا إياهم في اليم. قال ابن قتيبة: اليم: البحر بالسريانية. قوله تعالى: وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ فيه قولان: أحدهما: عن الآيات، وغفلتهم: تركهم الاعتبار بها. والثاني: عن النقمة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 137 الى 138] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ يعني بني إسرائيل. الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ أي: يُستَذلون بذبح الأبناء، واستخدام النساء، وتسخير الرجال. مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مشارق الشام ومغاربها، قاله الحسن. والثاني: مشارق أرض الشام ومصر. والثالث: أنه على إطلاق في شرق الأرض وغربها. قوله تعالى: الَّتِي بارَكْنا فِيها قال ابن عباس: بالماء والشجر. قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى وهي وعد الله لبني إسرائيل باهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض، وذلك في قوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «1» ، وقد بَيَّنا علة تسمية ذلك كلِّه في (آل عمران) . وقوله تعالى: بِما صَبَرُوا فيه قولان: أحدهما: على طاعة الله تعالى. والثاني: على أذى فرعون. قوله تعالى: وَدَمَّرْنا أي: أهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من العمارات والمزارع، والدمار: الهلاك. وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أي: يبنون. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «يعرشون» بكسر الراء ها هنا وفي (النحل) . وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بضم الراء فيهما. وقرأ ابن أبي عبلة: «يُعرِّشون» بالتشديد، قال الزجاج: يقال: عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ: إذا بنى. قوله تعالى: يَعْكُفُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر،: «يَعْكُفُون» بضم الكاف. وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل: بكسر الكاف. وقرأ ابن أبي عبلة: بضم الياء وتشديد الكاف. قال الزجاج: ومعنى يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ: يواظبون عليها ويلازمونها، يقال لكل من لزم شيئاً وواظب عليه: عَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ. قال قتادة: كان أولئك القوم نزولاً بالرقة، وكانوا من لخم. وقال غيره: كانت أصنامهم تماثيل البقر. وهذا إخبار عن عظيم جهلهم حيث توهموا جواز عبادة غير الله بعد ما رأوا الآيات. [سورة الأعراف (7) : الآيات 139 الى 140] إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ قال ابن قتيبة: مُهلَك. والتبار: الهلاك.

_ (1) سورة القصص: 5.

[سورة الأعراف (7) : آية 141]

قوله تعالى: قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أي: أطلب لكم، وهذا استفهام إنكار. قال المفسّرون، منهم ابن عباس، ومجاهد: والعالمون ها هنا: عالمو زمانهم. [سورة الأعراف (7) : آية 141] وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) قوله تعالى: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ قرأ ابن عامر: «وإذ أنجاكم» على لفظ الغائب المفرد. [سورة الأعراف (7) : آية 142] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً المعنى: وعدناه انقضاء ثلاثين ليلة. قال ابن عباس: قال موسى لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة، فلما فصل إلى ربه زاده عشراً، فكانت فتنتهم في ذلك العشر. فان قيل: لم زيد هذا العشر؟ فالجواب: أن ابن عباس قال: صام تلك الثلاثين ليلهن ونهارهن، فلما انسلخ الشهر، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول شيئاً من نبات الأرض فمضغه، فأوحى الله تعالى إليه: لا كلمتك حتى يعود فوك على ما كان عليه، أما علمت أن رائحة فم الصائم أحب إليَّ من ريح المسك؟ وأمره بصيام عشرة أيام. وقال أبو العالية: مكث موسى على الطور أربعين ليلة، فبلغَنا أنه لم يُحدث حتى هبط منه. فان قيل: ما معنى فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وقد عُلم ذلك عند انضمام العشر إلى الثلاثين. فالجواب من وجوه: أحدها: أنه للتأكيد. والثاني: ليدل أن العشر، ليالٍ لا ساعات. والثالث: لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة الثلاثين، لأنه يجوز أن يسبق إلى الوهم أنها كانت عشرين ليلة فأُتمت بعشر. وقد بينا في سورة (البقرة) لماذا كان هذا الوعد. قوله تعالى: وَأَصْلِحْ قال ابن عباس: مرهم بالإصلاح. وقال مقاتل: ارفق. [سورة الأعراف (7) : الآيات 143 الى 144] وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا قال الزجاج، أي: للوقت الذي وقَّتنا له. وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أسمعه كلامه، ولم يكن بينه وبين الله عزّ وجلّ فيما سمع أحد. قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي: أرني نفسك. قوله تعالى: قالَ لَنْ تَرانِي تعلق بهذا نُفاة الرؤية وقالوا: «لن» لنفي الأبد «1» ، وذلك غلط،

_ (1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 308: وقد أشكل حرف «لن» هاهنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة. وهذا أضعف الأقوال، لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة. اه.

لأنها قد وردت وليس المراد بها الأبد في قوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ «1» ثم أخبر عنهم بتمنِّيه في النار بقوله تعالى: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ «2» ، ولأن ابن عباس قال في تفسيرها: لن تراني في الدنيا. وقال غيره: هذا جواب لقول موسى: «أرني» ، ولم يُرد: أرني في الآخرة، وإنما أراد في الدنيا، فأُجيب عما سأل. وقال بعضهم: لن تراني بسؤالك. وفي هذه الآية دلالة على جواز الرؤية، لأن موسى مع علمه بالله تعالى، سألها، ولو كانت مما يستحيل لما جاز لموسى أن يسألها، ولا يجوز أن يجهل موسى مثل ذلك، لأنّ معرفة الأنبياء لله ليس فيها نقص، ولأن الله تعالى لم ينكر عليه المسألة وإنما منعه من الرؤية، ولو استحالت عليه لقال: «لا أُرى» ألا ترى أن نوحا لما قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أنكر عليه بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ «3» ، ومما يدل على جواز الرؤية أنه علَّقها باستقرار الجبل، وذلك جائز غير مستحيل، فدل على أنها جائزة، ألا ترى أن دخول الكفار الجنة لما استحال علَّقه بمستحيل فقال: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ «4» . قوله تعالى: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ أي: ثبت ولم يتضعضع. قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ قال الزجاج: ظهر، وبان. جَعَلَهُ دَكًّا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «دكّا» منوّنة مقصورة ها هنا وفي (الكهف) . وقرأ عاصم: «دكّاً» ها هنا منوَّنة مقصورة، وفي (الكهف) : «دكاء» ممدودة غير منونة. وقرأ حمزة والكسائي: «دكاء» ممدودة غير منونة في الموضعين. قال أبو عبيدة: «جعله دكّا» أي: مندكّا والمندكّ: المستوي والمعنى: مستوياً مع وجه الأرض، يقال: ناقة دكَّاء، أي: ذاهبة السنام مستوٍ ظهرها. قال ابن قتيبة: كأن سنامها دُكَّ، أي: التصق، قال: ويقال: إن أصل دككتُ: دققت، فأبدلت القاف كافاً لتقارب المخرجين. وقال أنس بن مالك في قوله: «جعله دكاً» : ساخ الجبل. قال ابن عباس: واسم الجبل: زبير، وهو أعظم جبل بمدين، وإن الجبال تطاولت ليتجلَّى لها، وتواضع زبير فتجلى له. قوله تعالى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فيه قولان: أحدهما: مغشياً عليه، قاله ابن عباس والحسن وابن زيد. والثاني: ميتاً، قاله قتادة ومقاتل. والأول أصح، لقوله تعالى: فَلَمَّا أَفاقَ وذلك لا يقال للميت. وقيل: بقي في غشيته يوماً وليلة. قوله تعالى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ فيما تاب منه ثلاثة أقوال: أحدها: سؤال الرّؤية، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها. والثالث: اعتقاد جواز رؤيته في الدنيا. وفي قوله تعالى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قولان «5» : أحدهما: أنك لن تُرى في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أول المؤمنين من بني إسرائيل، رواه عكرمة عن ابن عباس.

_ (1) سورة البقرة: 95. (2) سورة الزخرف: 77. (3) سورة هود: 45 و 46. (4) سورة الأعراف: 40. (5) قال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 310: قال ابن عباس ومجاهد: من بني إسرائيل، واختاره ابن جرير. وفي رواية أخرى عن ابن عباس وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أنه لا يراك أحد. وكذا قال أبو العالية: قد كان قبله، ولكن يقول: أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة وهذا قول حسن له اتجاه.

[سورة الأعراف (7) : آية 145]

قوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ فتح ياء «إني» ابن كثير، وأبو عمرو. وقرأ ابن كثير، ونافع «برسالتي» قال الزجاج: المعنى: اتخذتك صفوة على الناس برسالاتي وبكلامي، ولو كان إنما سمع كلام غير الله لما قال: «برسالاتي وبكلامي» لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام الله. [سورة الأعراف (7) : آية 145] وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) قوله تعالى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ في ماهية الألواح سبعة أقوال: أحدها: أنها زبرجد، قاله ابن عباس. والثاني: ياقوت، قاله سعيد بن جبير. والثالث: زمرُّد أخضر، قاله مجاهد. والرابع: بَرَد، قاله أبو العالية. والخامس: خشب، قاله الحسن. والسادس: صخر، قاله وهب بن منبه. والسابع: زمرد وياقوت، قاله مقاتل. وفي عددها أربعة أقوال: أحدها: سبعة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: لوحان، رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء. قال: وإنما سماها الله تعالى ألواحاً، على مذهب العرب في إيقاع الجمع على التثنية، كقوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «1» يريد داود؟؟؟؟، وسليمان، وقوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «2» . والثالث: عشرة، قاله وهب. والرابع: تسعة، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قولان: أحدهما: من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والواجب وغيره. والثاني: من الحِكَم والعِبَر. قوله تعالى: مَوْعِظَةً أي: نهياً عن الجهل. وَتَفْصِيلًا أي: تبييناً لكل شيء من الأمر والنهي والحدود والأحكام. قوله تعالى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بجدٍّ وحزم، قاله ابن عباس. والثاني: بطاعة، قاله أبو العالية. والثالث: بشكر، قاله جويبر. قوله تعالى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها إن قيل: كأن فيها ما ليس بحسن؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن المعنى: يأخذوا بحسنها، وكلها حَسَن، قاله قطرب، وقال ابن الأنباري: ناب «أحسن» عن «حسن» كما قال الفرزدق: إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنى لَنَا ... بَيْتاً دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ «3» أي: عزيزة طويلة. وقال غيره: «الأحسن» ها هنا صلة، والمعنى أن يأخذوا بها. والثاني: أن بعض ما فيها أحسن من بعض. ثم في ذلك خمسة أقوال: أحدها: أنهم أُمروا فيها بالخير ونُهوا عن الشر، فَفِعْلُ الخير هو الأحسن. والثاني: أنها اشتملت على أشياء حسنة بعضها أحسن من بعض، كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، فأُمِروا أن يأخذوا بالأحسن، ذكر القولين الزجاج. فعلى هذا القول، يكون المعنى: انهم يتبعون العزائم والفضائل، وعلى الذي قبله، يكون المعنى: أنهم يتبعون الموصوف بالحسن وهو الطاعة، ويجتنبون الموصوف بالقبح وهو المعصية. والثالث: أحسنها:

_ (1) سورة الأنبياء: 78. (2) سورة التحريم: 4. [.....] (3) البيت منسوب إلى الفرزدق، ديوانه 2/ 155.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 إلى 147]

الفرائض والنوافل، وأدونها في الحسن: المباح. والرابع: أن يكون للكلمة معنيان أو ثلاثة، فتصرف إلى الاشبه بالحق. والخامس: أن أحسنها: الجمع بين الفرائض والنوافل. قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ فيها أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها جهنم، قاله الحسن، ومجاهد. والثاني: انها دار فرعون وقومه، وهي مصر، قاله عطية العوفي. والثالث: أنها منازل من هلك من الجبابرة والعمالقة، يريهم إياها عند دخولهم الشام، قاله قتادة. والرابع: أنها مصارع الفاسقين، قاله السدي. ومعنى الكلام: سأُرِيكم عاقبة من خالف أمري، وهذا تهديد للمخالف، وتحذير للموافق. [سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها خاصة لأهل مصر فيما رأوا من الآيات. والثاني: أنها عامة، وهو أصح. وفي الآيات قولان: أحدهما: أنها آيات الكتاب المتلوَّة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أمنعُهم فهمها. والثاني: أمنعهم من الإيمان بها. والثالث: أصرفهم عن الاعتراض عليها بالإبطال. والثاني: أنها آيات المخلوقات كالسماء والأرض والشمس والقمر وغيرها، فيكون المعنى: أصرفهم عن التفكر والاعتبار بما خلقتُ. وفي معنى يتكبَّرون قولان: أحدهما: يتكبَّرون عن الإيمان واتباع الرسول. والثاني: يحقِّرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم. قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: «سبيل الرشد» بضم الراء خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: «سبيل الرَّشد» بفتح الراء والشين مثقلة. قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قال الزجاج: فعل الله بهم ذلك بأنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ،

_ (1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 311: قوله سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والشتات. قال ابن جرير: وإنما قال سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ كما يقول القائل لمن يخاطبه. سأريك غدا إلام، يصير إليه حال من خالف أمري؟ على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد، والحسن البصري. وقيل سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي من أهل الشام وأعطيكم إياها، وقيل منازل قوم «فرعون» والأول أولى، لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر. وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم. (2) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 312 قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ وقال بعض السلف: لا ينال العلم حيي ولا مستكبر، وقال آخر: من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا. وقال سفيان بن عيينة: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي. قال ابن جرير وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة. قلت: ليس هذا بلازم لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا والله أعلم. ا. هـ.

[سورة الأعراف (7) : آية 148]

أي: كانوا في تركهم الإيمان بها والتدبر لها بمنزلة الغافلين. ويجوز أن يكون المعنى: وكانوا عن جزائها غافلين. [سورة الأعراف (7) : آية 148] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) قوله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات. مِنْ حُلِيِّهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «من حُليّهم» بضم الحاء. وقرأ حمزة، والكسائي: «حِليّهم» بكسر الحاء. وقرأ يعقوب: بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء. والحُليّ: جمع حَلْيٍ، مثل ثَدْي وثُدِيٍّ، وهو اسم لما يُتحسَّن به من الذهب والفضة. قال الزجاج: ومن كسر الحاء من «حليهم» أتبع الحاء كسر اللام. والجسد: هو الذي لا يعقل ولا يميز، إنما هو بمعنى الجثة فقط. قال ابن الانباري: ذِكر الجسد دلالة على عدم الروح منه، وأن شخصه شخص مثال وصورة، غير منضم إليهما روح ولا نفس. فأما الخُوار، فهو صوت البقرة، يقال: خَارَتْ البقرة تَخُورُ، وَجَأرَتَ تَجْأَرُ وقد نُقِلَ عن العرب انهم يقولون في مثل صوت الإنسان من البهائم: رَغَا البعير، وجَرْجَرَ وهَدَرَ وقَبْقَبَ، وصَهَل الفرس وحَمْحَمَ، وشَهَقَ الحمار ونَهَقَ، وشَحَجَ البغل، وثَغَتْ الشاة ويَعَرَتْ، وثَأجَتَ النّعجة، وبغم الظّبي ونزب، وزأر الأسد ونَأَتَ، ووَعْوَعَ الذئب، ونَهَم الفِيْلُ، وزَقَحَ القِرْدُ، وَضَبَحَ الثَّعْلَبُ، وعَوَى الكَلْبُ وَنَبَحَ، ومَاءتِ السِّنّور، وَصَأت الفأرة، ونَغَقَ الغُرَابُ معجمةَ الغين، وزقأ الدِّيك وسَقَعَ، وصَفَرَ النسْرُ، وَهَدَرَ الحمام وَهَدَلَ، ونَقَضَتِ الضَّفَادِع ونقَّت، وعَزَفَتِ الجِنَّ. قال ابن عباس كان العجل إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وفي رواية أبي صالح عنه: أنه خار خورة واحدة ولم يُتبعها مثلها، وبهذا قال وهب، ومقاتل. وكان مجاهد يقول: خواره حفيف الريح فيه وهذا يدل على أنه لم يكن فيه روح. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابو مجلز: «له جُوار» بجيم مرفوعة. قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ أي: لا يستطيع كلامهم. وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا أي: لا يبيِّن لهم طريقاً إلى حجة. اتَّخَذُوهُ يعني اتخذوه إلهاً. وَكانُوا ظالِمِينَ قال ابن عباس: مشركين. [سورة الأعراف (7) : الآيات 149 الى 152] وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) قوله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي: ندموا. قال الزجاج: يقال للرجل النادم على ما فعل، المتحسر على ما فرّط: قد سُقط في يده وأُسقط في يده. وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران الجوني:

«سَقَطَ» بفتح السين. قال الزجاج: والمعنى: ولما سقط النّدم في أيديهم، يشبّه ما في القلب وفي النفس بما يُرى بالعين. قال المفسرون: هذا الندم منهم إنما كان بعد رجوع موسى. قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: «يرحْمنا ربُّنا» «ويغفرْ لنا» بالياء والرفع. وقرأ حمزة، والكسائي: «ترحمنا» «وتغفر لنا» بالتاء، «ربنا» بالنصب. قوله تعالى: غَضْبانَ أَسِفاً في الأسِفِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحزين، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي. والثاني: الجزِع، قاله مجاهد. والثالث: أنه الشديد الغضب، قاله ابن قتيبة، والزجاج. وقال أبو الدرداء: الأسف: منزلة وراء الغضب أشدّ منه. قوله تعالى: قالَ أي: لقومه بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي فتح ياء «بعديَ» أهل الحجاز، وأبو عمرو والمعنى: بئس ما عملتم بعد فراقي من عبادة العجل. أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ قال الفراء: يقال: عَجِلْتُ الأمر والشيء: سبقتُه، ومنه هذه الآية. وأعجلته: استحثثته. قال ابن عباس: أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له؟! قال الحسن: يعنيَ وَعْدَ الأربعين ليلة. قوله تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ التي فيها التوراة. وفي سبب إلقائه إياها قولان: أحدهما: أنه الغضب حين رآهم قد عبدوا العجل، قاله ابن عباس. (589) والثاني: أنه لما رأى فضائل غير أمّته من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم اشتد عليه، فألقاها، قاله قتادة «1» ، وفيه بُعد. قال ابن عباس: لما رمى بالألواح فتحطمت، رُفع منها ستة أسباع، وبقي سُبع. قوله تعالى: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ في ما أخذ به من رأسه ثلاثة أقوال: أحدها: لحيته وذؤابته. والثاني: شعر رأسه. والثالث: أُذنه. وقيل: إنما فعل به ذلك، لأنه توهم أنه عصى الله بمُقامه بينهم وتركِ اللحوق به، وتعريفِه ما أحدثوا بعده ليرجع إليهم فيتلافاهم ويردّهم إلى الحقّ، وذلك قوله تعالى: ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ «2» . قوله تعالى: ابْنَ أُمَّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «قال ابن أُمَّ» نصباً. وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر الميم، وكذلك في (طه) «3» قال

_ باطل لا أصل له. أخرجه الطبري 15142 و 15143 عن قتادة قوله: وهذا رأي لقتادة. وهو ليس بشيء، بل هو من بدع التأويل، ورده ابن كثير وغيره كما في الهامش.

[سورة الأعراف (7) : آية 153]

الزجاج: من فتح الميم فلكثرة استعمال هذا الاسم، ومن كسر أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسماً واحداً، ومن العرب من يقول: «يا ابن أمي» باثبات الياء. قال الشاعر: يَا ابْنَ أُمِّي ويَا شُقَيِّقَ نَفْسِي ... أنتَ خَلَّفْتَنِي لدهرٍ شديدِ «1» وقال أبو علي: يحتمل أن يريد من فتح: «يا ابن أم» أُمَّا، ويحذف الألف، ومن كسر: «ابن أمي» فيحذف الياء. فان قيل: لم قال: «يا ابن أمَّ» ولم يقل: «يا ابن أب» ؟ فالجواب أن ابن عباس قال: كان أخاه لأبيه وأُمه، وإنما قال له ذلك ليرقّقه عليه. قال أبو سليمان الدمشقي: والإِنسان عند ذكر الوالدة أرقُّ منه عند ذكر الوالد. وقيل: كان لأمه دون أبيه، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: إِنَّ الْقَوْمَ يعني عبدة العجل. اسْتَضْعَفُونِي أي: استذلُّوني فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ قرأ ابن عباس، وابن محيصن وحميد: «فلا تَشْمَت» بتاء مفتوحة مع فتح الميم، «الاعداءُ» بالرفع، وقرأ مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وأبو رجاء: «فلا تَشْمِتْ» بفتح التاء وكسر الميم، «الأعداءَ» بالنصب. وقرأ أبو الجوزاء، وابن أبي عبلة مثل ذلك، إلا أنهما رفعا «الأعداء» . ويعني بالأعداء: عبدة العجل. وَلا تَجْعَلْنِي في موجدتك وعقوبتك لي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهم عبدة العجل. فلما تبين له عُذْرُ أخيه قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي. قوله تعالى: وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فيها قولان: أحدهما: أنها الجزية، قاله ابن عباس. والثاني: ما أمروا به من قتل أنفسهم، قاله الزجاج. فعلى الأول يكون ما أُضيف إليهم من الجزية في حق أولادهم، لأن أولئك قُتلوا ولم يؤدّوا جزية. قال عطية: وهذه الآية فيما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء لتولِّيهم متخذي العجل ورضاهم به. قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ قال ابن عباس: كذلك أُعاقب من اتخذ إلهاً دوني، وقال مالك بن انس: ما من مبتدع الا وهو يجد فوق رأسه ذلَّة، وقرأ هذه الاية. وقال سفيان بن عيينة: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلَّة تغشاه، قال: وهي في كتاب الله تعالى: قالوا: وأين هي؟ قال: أو ما سمعتم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قالوا: يا أبا محمد، هذه لأصحاب العجل خاصة، قال: كلا، أتلو ما بعدها. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة. [سورة الأعراف (7) : آية 153] وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ فيها قولان: أحدهما: أنها الشرك. والثاني: الشرك وغيره من الذنوب. ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها يعني السيئات. وفي قوله تعالى: وَآمَنُوا قولان: أحدهما: آمنوا بالله وهو يُخرَّج على قول من قال: هي الشرك. والثاني: آمنوا بأن الله تعالى يقبل التوبة. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها يعني السّيئات.

_ (1) البيت منسوب إلى أبي زبيد حرملة بن المنذر الطائي «اللسان» شقق.

[سورة الأعراف (7) : آية 154]

[سورة الأعراف (7) : آية 154] وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ وقرأ ابن عباس، وأبو عمران «سَكّت» بفتح السين وتشديد الكاف وبتاء بعدها، «الغضبَ» بالنصب. وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر، والجحدري «سُكِّت» بضم السين وتشديد الكاف مع كسرها. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وطلحة «سَكَنَ» بنون. قال الزجاج «سكت» بمعنى سكن، يقال: سكت يسكت سَكْتاً: إذا سكن، وسكت يسكت سكْتاً وسكوتاً: إذا قطع الكلام. قال: وقال بعضهم: المعنى: ولما سكت موسى عن الغضب، على القلب، كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأسي. والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة، والأول هو قول أهل العربية. قوله تعالى: أَخَذَ الْأَلْواحَ يعني التي كان ألقاها. وفي قوله تعالى: وَفِي نُسْخَتِها قولان: أحدهما: وفيما بقي منها قاله ابن عباس. والثاني: وفيما نُسخ فيها قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ فيهم قولان: أحدهما: أنه عام في الذين يخافون الله، وهو معنى قول قتادة. والثاني: أنّهم أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم خاصّة، وهو معنى قول قتادة. [سورة الأعراف (7) : آية 155] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ المعنى: اختار من قومه، فحُذف «من» ، تقول العرب: اخترتك القوم، أي: اخترتك من القوم، وأنشدوا: مِنَّا الذي اخِتيرَ الرِّجَالَ سََمَاحةً ... وجُوداً إذا هبَّ الرِّياح الزَّعازعُ «1» هذا قول ابن قتيبة، والفراء، والزجاج. وفي هذا الميقات أربعة أقوال: أحدها: أنه الميقات الذي وَقَّتَهُ الله لموسى ليأخذ التوراة، أُمر أن يأتيَ معه بسبعين، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال نوف البِكَاليُّ. والثاني: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله تعالى لموسى، وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلا ليدعوا ربّهم، فدعوا فقالوا: اللهمّ أعطنا ما لم تعط أحداً قبلنا، ولا تعطيه أحداً بعدنا، فكره الله ذلك، وأخذتهم الرجفة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله لموسى، لأن بني إسرائيل قالوا له: إن طائفة تزعم أن الله لا يكلمك، فخذ معك طائفة منا ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فتذهب التهمة، فأوحى الله اليه ان أختر من خيارهم سبعين، ثم ارتقِ بهم على الجبل انت وهارون، واستخلف يوشع بن نون، ففعل ذلك قاله وهب بن منبه. والرابع: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله لموسى ليلقاه في ناس من بني إسرائيل، فيعتذر إليه من فِعْل عبدة العجل، قاله السدي. وقال ابن السائب: كان موسى لا يأتي ربّه إلا بإذن منه. فأما الرجفة فهي الحركة الشديدة. وفي سبب أخذها إياهم أربعة أقوال: أحدها: أنه ادعاؤهم على موسى قتل هارون، قاله علي بن أبي طالب. والثاني: اعتداؤهم في الدعاء، وقد ذكرناه في رواية ابن

_ (1) البيت منسوب إلى الفرزدق: ديوانه: 516 «اللسان» خير.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 156 إلى 158]

أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنهم لم ينهَوْا عبدة العجل ولم يرضَوْا نُقل عن ابن عباس أيضا، وقال قتادة، وابن جريج: لم يأمروهم بالمعروف، ولم ينهَوْهم عن المنكر، ولم يزايلوهم. والرابع: أنّهم طلبوا سماع الكلام من الله تعالى، فلما سمعوه قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1» قاله السدي وابن إسحاق. قوله تعالى: قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ قال السدي: قام موسى يبكي ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ. وقال الزجاج: لو شئت أمتَّهم قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة. وقيل: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا وإياي، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني. قوله تعالى: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا قال المبرِّد: هذا استفهام استعطاف، أي: لا تُهلكْنا. وقال ابن الانباري: هذا استفهام على تأويل الجحد، إذ أراد لست تفعل ذلك. و «السّفهاء» ها هنا: عبدة العجل. وقال الفراء: ظن موسى أنهم أُهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل. وإنما أُهلكوا بقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ فيها قولان: أحدهما: أنها الابتلاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية. والثاني: العذاب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. قوله تعالى: أَنْتَ وَلِيُّنا أي: ناصرنا وحافظنا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 156 الى 158] وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) قوله تعالى: وَاكْتُبْ لَنا أي: حقق لنا وأوجب فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وهي الأعمال الصالحة وَفِي الْآخِرَةِ المغفرة والجنة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي: تبنا، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وقتادة، والضحاك، والسدي. وقال ابن قتيبة: ومنه الَّذِينَ هادُوا «2» كأنهم رجعوا من شيء إلى شيء. وقرأ أبو وجزة السعدي: «إنا هِدنا» بكسر الهاء. قال ابن الأنباري: المعنى: لا نتغيَّر يقال: هاد يهود ويهيد.

_ (1) سورة البقرة: 55. (2) سورة البقرة: 62.

قوله تعالى: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ. وقرأ الحسن البصري، والأعمش، وأبو العالية: «من أساء» بسين غير معجمة مع النصب. قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في هذا الكلام أربعة اقوال: أحدها: أن مخرجه عام ومعناه خاص، وتأويله: ورحمتي وسعت المؤمنين من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، قاله ابن عباس. والثاني: أن هذه الرحمة على العموم في الدنيا، والخصوص في الآخرة وتأويلها: ورحمتي وسعت كل شيء في الدنيا، البرَّ والفاجر، وفي الآخرة هي للمتقين خاصة، قاله الحسن، وقتادة. فعلى هذا، معنى الرحمة في الدنيا للكافر أنه يُرزق ويُدفع عنه، كقوله في حقّ قارون: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «1» . والثالث: أن الرحمة: التوبة، فهي على العموم، قاله ابن زيد. والرابع: أن الرحمة تَسَع كل الخلق إلا أن أهل الكفر خارجون منها، فلو قدِّر دخولهم فيها لوسعتهم، قاله ابن الانباري. قال الزجاج: وسعت كل شيء في الدنيا. فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ في الآخرة. قال المفسرون: معنى «فسأكتبها» : فسأوجبها. وفي الذين يتقون قولان: أحدهما: أنهم المتقون للشرك، قاله ابن عباس. والثاني: للمعاصي، قاله قتادة. وفي قوله تعالى. وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ قولان: أحدهما: أنها زكاة الأموال، قاله الجمهور. والثاني: أن المراد بها طاعة الله ورسوله، قاله ابن عباس والحسن، ذهبا إلى أنها العمل بما يزكِّي النفس ويطهِّرها. وقال ابن عباس، وقتادة: لما نزلت وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فنزعها الله من إبليس، فقال: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ، فقالت اليهود والنّصارى: نحن نتَّقي، ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات ربنا، فنزعها الله منهم، وجعلها لهذه الأمة، فقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وقال نَوفٌ: قال الله تعالى لموسى: أجعل لكم الأرض طهوراً ومسجداً، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرؤها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فأخبر موسى قومه بذلك، فقالوا: لا نريد أن نصلّي إلّا في الكنائس ولا أن تكون السكينة إلا في التابوت، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظراً، فقال الله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ. وفي هؤلاء المذكورين في قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ قولان: أحدهما: أنهم كلّ من آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلم، وتبعه، قاله ابن عباس. والثاني: أنه محمد صلّى الله عليه وسلم، قاله السدي، وقتادة. وفي تسميته بالأمي قولان: أحدهما: لأنه لا يكتب. والثاني: لأنه من أُمَّ القرى. قوله تعالى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ أي: يجدون نعته ونبوَّته. قوله تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ قال الزجاج: يجوز أن يكون مستأنَفاً، ويجوز أن يكون «يجدونه مكتوباً عندهم» أنه يأمرهم بالمعروف. قال ابن عباس: المعروف: مكارم الأخلاق، وصلة الارحام. والمنكر: عبادة الأوثان، وقطع الأرحام. وقال مقاتل: المعروف: الإيمان، والمنكر: الشّرك. وقال غيره: المعروف: الحق، لأن العقول تعرف صحته، والمنكر: الباطل، لأن العقول تنكر صحته. وفي الطيبات أربعة أقوال: أحدها: أنها الحلال، والمعنى: يُحل لهم الحلال. والثاني: أنها ما

_ (1) سورة القصص: 77.

[سورة الأعراف (7) : آية 159]

كانت العرب تستطيبه. والثالث: أنها الشحوم المحرَّمة على بني إسرائيل. والرابع: ما كانت العرب تحرِّمه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وفي الخبائث ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحرام، فالمعنى: ويحرِّم عليهم الحرام. والثاني: أنها ما كانت العرب تستخبثه ولا تأكله، كالحيات، والحشرات. والثالث: ما كانوا يستحلُّونه من الميتة، والدم، ولحم الخنزير. قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي «إِصرهم» . وقرأ ابن عامر «آصارهم» ممدودة الألف على الجمع. وفي هذا الإِصر قولان «1» : أحدهما: أنه العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة، قاله ابن عباس. والثاني: التشديد الذي كان عليهم من تحريم السّبت، والشّحوم والعروق، وغير ذلك من الأمور الشاقة، قاله قتادة. وقال مسروق: لقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب، فيصبح وقد كُتب على باب بيته: إن كفارته أن تنْزِع عينيك، فيْنزِعهُما. قوله تعالى: وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ قال الزجاج: ذِكر الأغلال تمثيل، ألا ترى أنك تقول: جعلت هذا طوقاً في عنقك، وليس هناك طوق، إنما جعلت لزومه كالطوق. والأغلال: أنه كان عليهم أن لا يُقبَل منهم في القتل دية، وأن لا يعملوا في السبت، وأن يَقْرِضُوا ما أصاب جلودهم من البول. قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ يعني بمحمّد صلّى الله عليه وسلم وَعَزَّرُوهُ وروى أبان «وعَزَروه» بتخفيف الزاي. وفي المعنى قولان: أحدهما: نصروه وأعانوه، قاله مقاتل. والثاني: عظَّموه، قاله ابن قتيبة. والنور الذي أنزل معه: القرآن، سماه نورا، لأن بيانه في القلوب كبيان النور في العيون. وفي قوله «معه» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «عليه» . والثاني: بمعنى أُنزل في زمانه. قال قتادة: أما نصره، فقد سُبقتم إليه، ولكن خيركم من آمن به واتبع النور الذي أُنزل معه. قوله تعالى: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ في الكلمات قولان «2» : أحدهما: أنها القرآن، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كلماته: آياته. والثاني: أنها عيسى ابن مريم، قاله مجاهد، والسّدّيّ. [سورة الأعراف (7) : آية 159] وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) قوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ فيه قولان: أحدهما: يدعون إلى الحق. والثاني: يعملون به.

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 86: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن «الإصر» هو العهد- وقد بينا ذلك بشواهده في موضع غير هذا بما فيه الكفاية- وأن معنى الكلام: ويضع النبي الأمي العهد الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل، من إقامة التوراة والعمل بما فيها من الأعمال الشديدة، كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم. ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضة فنسخها حكم القرآن. اه. (2) وقال الطبري في تفسيره 6/ 88: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمر عباده أن يصدقوا بنبوة النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ولم يخصص الخبر جل ثناؤه عن إيمانه من «كلمات الله» ببعض، بل أخبرهم عن جميع الكلمات فالحق في ذلك أن يعم القول فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يؤمن بكلمات الله كلها. على ما جاء به ظاهر كتاب الله اه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 160 إلى 162]

قوله تعالى: وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال الزجاج: وبالحق يحكمون. وفي المشار إليهم بهذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإِسلام، قاله ابن عباس، والسُّدي. والثاني: أنهم من آمن بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم مثل ابن سلام وأصحابه، قاله ابن السائب. والثالث: أنهم الذين تمسكوا بالحق في زمن أنبيائهم، ذكره الماوردي. [سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 162] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمُ يعني قوم موسى، يقول: فرَّقناهم اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً يعني أولاد يعقوب، وكانوا اثنى عشر ولداً، فولد كل واحد منهم سبطاً. قال الفراء: وإنما قال «اثنتي عشرة» والسبط ذكَر، لأن بعده «أُمما» فذهب بالتأنيث إلى الأمم، ولو كان «اثني عشر» لتذكير السبط، كان جائزاً. وقال الزجاج: المعنى: وقطَّعناهم اثنتي عشرة فرقة، «أسباطاً» نعت «فرقة» كأنه يقول: جعلناهم أسباطاً، وفرَّقناهم أسباطاً، فيكون «أسباطاً» بدلاً من «اثنتي عشرة» و «أُمماً» من نعت أسباط. والأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل ليُفصل بين ولد إسماعيل وبين ولد إسحاق. وقال أبو عبيدة: الأسباط: قبائل بني إسرائيل، أحدهم: سبط. ويقال: من أي سبط أنت؟ أي: من أي قبيلة وجنس؟ قوله تعالى: فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ قال ابن قتيبة: انفجرت يقال: تبجَّس الماء، كما يقال: تفجَّر والقصة مذكورة في سورة (البقرة) . قوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «نغفر لكم خطيئاتكم» بالتاء مهموزة على الجمع. وقرأ أبو عمرو «نغفر لكم خطاياكم» مثل: قضاياكم، ولا تاء فيها. وقرأ نافع «تُغفَر» بالتاء مضمومة «خطيئاتُكم» بالهمز وضم التاء، على الجمع، وافقه ابن عامر في «تُغفَر» بالتاء المضمومة، لكنه قرأ «خطيئتكم» على التّوحيد. [سورة الأعراف (7) : آية 163] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ يعني أسباط اليهود، وهذا سؤال تقرير وتوبيخ يقرِّرهم على قديم كفرهم، ومخالفة أسلافهم الأنبياء، ويخبرهم بما لا يُعلم إلا بوحي. وفي القرية خمسة أقوال «1» :

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 92: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هي قرية حاضرة البحر، وجائز أن تكون أيلة، وجائز أن تكون مدين، وجائز أن تكون مقنا. لأن كل ذلك حاضرة البحر. ولا خبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقطع العذر بأي ذلك من أي، والاختلاف فيه على ما وصفت. ولا يوصل إلى علم ما قد كان فمضى مما لم نعاينه، إلا بخبر يوجب العلم ولا خبر كذلك في ذلك. اه. [.....]

[سورة الأعراف (7) : آية 164]

أحدها: أنها أيلة «1» ، رواه مُرّة عن ابن مسعود، وأبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي. والثاني: أنها مَدْيَن، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنها ساحل مدين، روي عن قتادة. والرابع: أنها طبرية، قاله الزهري. والخامس: أنها قرية يقال لها: مقنا «2» ، بين مدين وعينونا، قاله ابن زيد. ومعنى حاضِرَةَ الْبَحْرِ مجاورة البحر وبقربه وعلى شاطئه. إِذْ يَعْدُونَ قال الزجاج: أي يظلمون، يقال: عدا فلان يعدو عُدْواناً وعَداءً وعَدْواً وعُُدّواً: إذا ظلم، وموضع «إذ» نصب والمعنى: سلهم عن وقت عَدْوِهم في السبت. إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ في موضع نصب أيضاً ب «يَعْدُونَ» والمعنى: سلهم إذ عَدَوْا في وقت الإتيان. شُرَّعاً أي: ظاهرة. كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي: مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم بفسقهم. ويحتمل على بعد أن يكون المعنى وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كذلك، أي: لا تأتيهم شُرَّعاً ويكون نَبْلُوهُمْ مستأنفا. وقرأ الأعمش، وأبان، والمفضل عن عاصم: «يُسبِتون» بضم الياء. [سورة الأعراف (7) : آية 164] وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ قال المفسرون: افترق أهل القرية ثلاث فرق فرقة صادت وأكلت، وفرقة نهت وزجرت، وفرقة أمسكت عن الصيد، وقالت للفرقة الناهية: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين، فقالت الفرقة الناهية: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «معذرةُ» رفعاً، أي: موعظتُنا إياهم معذرةٌ، والمعنى أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى الله. وقرأ حفص عن عاصم: «معذرةً» نصباً، وذلك على معنى نعتذر معذرةً. وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: وجائز أن ينتفعوا بالموعظة فيتركوا المعصية. [سورة الأعراف (7) : الآيات 165 الى 167] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يعني: تركوا ما وُعظوا به أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهم الناهون عن المنكر. والذين ظلموا هم المعتدون في السبت. قوله تعالى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «بئيس» على وزن فعيل، فالهمزة بين الباء والياء. وقرأ نافع: «بِيسٍ» بكسر الباء من غير همز. وقرأ ابن عامر كذلك، إلا

_ (1) أيلة: مدينة على ساحل القلزم مما يلي الشام، وقيل في آخر الحجاز وأول الشام «معجم البلدان» 1/ 292. (2) مقنا قرب أيلة «معجم البلدان» 5/ 178.

[سورة الأعراف (7) : آية 168]

أنه همز. وروى خارجة عن نافع: «بَيْسٍ» بفتح الباء من غير همز، على وزن «فَعْلٍ» . وروى أبو بكر عن عاصم: «بَيْأسٍ» على وزن «فَيْعَلٍ» . وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأيوب: «بَيْآسٍ» على وزن «فَيْعالٍ» . وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي، ومعاذ القارئ: «بَئِسٍ» بفتح الباء وكسر الهمزة من غير ياء على وزن «تعس» . وقرأ الضحاك، وعكرمة: «بَيِّسٍ» بتشديد الياء مثل «قيِّم» . وقرأ أبو العالية، وأبو مجلز: «بَئِسَ» بفتح الباء والسين وبهمزة مكسورة من غير ياء ولا ألف على وزن «فَعِلَ» . وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجاء: «بائسٍ» بألف ومَدّة بعد الباء وبهمزة مكسورة بوزن «فاعِلٍ» . قال أبو عبيدة: البئيس: الشّديد، وأنشد: حيفا عَليَّ وما تَرَى ... لي فيِهمُ أثراً بَئيسَا «1» وقال الزجاج: يقال: بَئس يبأس بأساً، والعاتي: الشديد الدخول في الفساد، المتمرد الذي لا يقبل موعظة. وقال ابن جرير: «فلما عتوا» أي: تمردوا فيما نُهوا عنه وقد ذكرنا في سورة (البقرة) : قصة مسخهم. وكان الحسن البصري يقول: والله ما لحوم هذه الحيتان بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين. قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أعلم، قاله الحسن، وابن قتيبة، وقال: هو من آذنتك بالأمر. وقال ابن الانباري: «تأذن» بمعنى آذن كما يقال: تعلَّم أن فلاناً قائم، أي: اعلم. وقال أبو سليمان الدمشقي: أي: أعلم أنبياء بني إسرائيل. والثاني: حتم، قاله عطاء. والثالث: وعد، قاله قطرب. والرابع: تألّى، قاله الزجاج. قوله تعالى: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ أي: على اليهود. وقال مجاهد: على اليهود والنصارى بمعاصيهم. مَنْ يَسُومُهُمْ أي: يولِّيهم سُوءَ الْعَذابِ. وفي المبعوث عليهم قولان: أحدهما: أنه محمّد صلّى الله عليه وسلم، وأمته، قاله ابن عباس. والثاني: العرب، كانوا يجبونهم الخراج، قاله سعيد بن جبير، قال: ولم يجْبِ الخراجَ نَبيٌ قط إلا موسى، جباه ثلاث عشرة سنة، ثم أُمسك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقال السدي بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم. وفي سوء العذاب أربعة أقوال: أحدها: الجزية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: المسكنة والجزية، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: الخراج، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والرابع: أنه القتال حتى يُسلموا، أو يُعطوا الجزية. [سورة الأعراف (7) : آية 168] وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً قال أبو عبيدة: فرَّقناهم فِرقاً. قال ابن عباس: هم اليهود، ليس من بلد إلا وفيه منهم طائفة. وقال مقاتل: هم بنو إسرائيل. وقيل: معناه: شتات أمرهم وافتراق كلمتهم. مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وهم المؤمنون بعيسى ومحمد عليهما السلام. وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وهم الكفار. وقال ابن جرير: إنما كانوا على هذه الصفة قبل أن يبعث عيسى، وقبل ارتدادهم.

_ (1) البيت منسوب إلى ذي الإصبع العدواني «الأغاني» 3/ 102. وفي «مجاز القرآن» لأبي عبيدة 1/ 231.

[سورة الأعراف (7) : آية 169]

قوله تعالى: وَبَلَوْناهُمْ أي: اختبرناهم بِالْحَسَناتِ وهي الخير، والخصب، والعافية، وَالسَّيِّئاتِ وهي الجدب، والشر، والشدائد فالحسنات والسيئات تحث على الطاعة، أما النّعم فلطلب الازدياد منها، وخوف زوالها، والنقمُ فلكشفها، والسلامة منها. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: لكي يتوبوا. [سورة الأعراف (7) : آية 169] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد الذين وصفناهم. خَلْفٌ وقرأ الجوني، والجحدري: «خَلَفٌ» بفتح اللام. قال أبو عبيدة: الخَلَفُ والخَلَفُ واحد وقوم يجعلون المحرَّك اللام، للصالح، والمسكَّن، لغير الصالح. وقال ابن قتيبة: الخَلْفُ: الرديء من الناس ومن الكلام، يقال: هذا خَلْفٌ من القول. وقال ابن الأنباري: أكثر ما تستعمل العرب الخَلْفَ، باسكان اللام، في الرديء المذموم، وتفتح اللام في الفاضل الممدوح. وقد يوقع الخَلْفُ على الممدوح، والخلَفُ على المذموم غير أن المختار ما ذكرناه. وفي المراد بهذا الخَلْف ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: النصارى. والثالث: أن الخَلْفَ من أُمة محمد صلّى الله عليه وسلم، والقولان عن مجاهد. فان قيل: الخَلْفُ واحد، فكيف قال: يَأْخُذُونَ وكذلك قال في (مريم) أَضاعُوا «2» ؟ فقد ذكر ابن الأنباري عنه جوابين: أحدهما: أن الخَلْف جمع خالف، كما أن الركب جمع راكب، والشَّرْب جمع شارب. والثاني: أي الخَلْف مصدر يكون للاثنين والجميع، والمذكر والمؤنث. قوله تعالى: وَرِثُوا الْكِتابَ أي: انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف، فيخرج في الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التوراة. والثاني: الإنجيل. والثالث: القرآن. قوله تعالى: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي: هذه الدنيا، وهو ما يعرض لهم منها. وقيل: سماه عرضاً، لقلة بقائه. قال ابن عباس: يأخذون ما أحبوا من حلال أو حرام. وقيل: هو الرِّشوة في الحكم. وفي وصفه بالأدنى قولان: أحدهما: أنه من الدُّنُوِّ. والثاني: أنه من الدناءة. قوله تعالى: سَيُغْفَرُ لَنا فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: إنا لا نؤاخَذ، تمنِّياً على الله الباطلَ. والثاني: أنه ذنْب يغفره الله لنا، تأميلاً لرحمة الله تعالى. وفي قوله تعالى: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 105: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره إنما وصف أنه خلف القوم الذين قص قصصهم في الآيات التي مضت، خلف سوء رديء ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى. وبعد فإن ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل وما بعده كذلك، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه. إذ لم يكن في الآية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به. اه. (2) سورة مريم: 59.

[سورة الأعراف (7) : آية 170]

قولان: أحدهما: أن المعنى: لا يشبعهم شيء، فهم يأخذون لغير حاجة، قاله الحسن. والثاني: أنهم أهل إصرار على الذنوب، قاله مجاهد. قوله تعالى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قال ابن عباس: وكّد الله عليهم في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا الحق، فقالوا الباطل، وهو ما أوجبوا على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يتوبون منها، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار. قوله تعالى: وَدَرَسُوا ما فِيهِ معطوف على «ورثوا» . ومعنى «درسوا ما فيه» : قرءوه، فكأنه قال: خالفوا على علم. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ أي: ما فيها من الثواب خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الباقي خير من الفاني. قرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم بالتاء، والباقون بالياء. [سورة الأعراف (7) : آية 170] وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «يمسّكون» مشدّدة، وقرءوا وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «1» مخفّفة، وقرأهما أبو عمرو بالتشديد. وروى أبو بكر عن عاصم أنه خففهما. ويقال: مسَّكتُ بالشيء، وتمسّكت به، واستمسكت به، وامتسكت به. وهذه الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب الذين حفظوا حدوده ولم يُحرِّفوه، منهم عبد الله بن سلام واصحابه. قال ابن الأنباري: وخبر «الذين» : «إنا» وما بعده، وله ضمير مقدر بعد «المصلحين» تأويله: والذين يمسّكون بالكتاب إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم، ولهذه العلة وَعَدَهُم حفظَ الأجر بشرطٍ، إذ كان منهم من لم يصلح. قال: وقال بعض النحويين: المصلحون يرجعون على الذين، وتلخيص المعنى عنده: والذين يمسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجرهم، فأظهرت كنايتهم بالمصلحين، كما يقال: عليٌّ لقيتُ الكسائي، وأبو سعيد رويت عن الخدري، يراد: لقيتُهُ ورويت عنه. قال الشاعر: فيا ربّ لَيلى أنْتَ في كُلِّ مَوطِنٍ ... وَأنْتَ الذي في رَحْمِةِ الله أطْمَعُ «2» أراد في رحمته، فأظهر ضمير الهاء. [سورة الأعراف (7) : آية 171] وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي: واذكر لهم إذ نتقنا الجبل، أي: رفعناه. قال مجاهد: أُخرج الجبل من الأرض، ورفع فوقهم كالظُلَّة، فقيل لهم: لتؤمنُنَّ أو ليقعنَّ عليكم. قال قتادة: نزلوا في أصل جبل، فرُفع فوقهم، فقال: لتأخُذُنَّ أمري، أو لأرمينكم به. قوله تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ فيه قولان: أحدهما: أنه الظن المعروف. والثاني: أنه بمعنى اليقين. وباقي الآية مفسر في (البقرة) .

_ (1) سورة الممتحنة: 10. (2) البيت غير منسوب في «مغني اللبيب» 210.

[سورة الأعراف (7) : آية 172]

[سورة الأعراف (7) : آية 172] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ. روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (590) «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان» - ونعمان قريب من عرفة، ذكره ابن قتيبة- «فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذَّر، ثم كلَّمهم قِبَلاً، وقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ» . ومعنى الآية: وإذ أخذ ربكم من ظهور بني آدم. فقوله تعالى: مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بَنِي آدَمَ. وقيل: إنما قال: مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل: من ظهر آدم، لأنه أخرج بعضهم من ظهور بعض، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لأنه قد علم أنهم بنوه، وقد أُخرجوا من ظهره. وقوله تعالى: ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي «ذُرِّيَّتَهُم» على التوحيد. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر «ذُرِّيَّاتهِم» على الجمع. قال أبو علي: الذُّرِّية تكون جمعاً، وتكون واحداً. وفي قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أشهدهم على أنفسهم باقرارهم، قاله مقاتل. والثاني: دلَّهم بخلقه على توحيده، قاله الزجاج. والثالث: أنه أشهد بعضهم على بعض باقرارهم بذلك، قاله ابن جرير. قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ والمعنى: وقال لهم: ألست بربكم؟ وهذا سؤال تقرير. قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. قال السدي: قوله «شهدنا» خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. ويحسن الوقف على قوله «بلى» لأن كلام الذرية قد انقطع. وزعم الكلبي ان الذّرّية لمّا قالت: «بلى» ، قال الله تعالى للملائكة: «اشهدوا» فقالوا: «شهدنا» . وروى أبو العالية عن أُبَيِّ بن كعب قال: جمعهم جميعاً، فجعلهم أزواجاً، ثم صوَّرهم، ثم استنطقهم، ثم قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أنك إلهنا. قال: فإنّي أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ لم نعلم بهذا. وقال السدي: أجابته طائفة طائعين، وطائفة كارهين تقيةً. قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا قرأ أبو عمرو «أن يقولوا» ، «أو يقولوا» بالياء فيهما. وقرأ الباقون بالتاء فيهما. قال أبو علي: حجة أبي عمرو قوله: «وإذ أخذ ربك» وقوله تعالى: «قالوا بلى» ، وحجة من قرأ بالتاء، أنه قد جرى في الكلام خطاب: «ألست بربكم قالوا بلى شهدنا» . ومعنى قوله: «تقولوا» : لئلّا

_ الصحيح موقوف. أخرجه النسائي في «الكبرى» 11191 وأحمد 1/ 272 ح 2451. والطبري 15349 والحاكم 1/ 27 و 2/ 544 من حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا. صححه الحاكم، وقال: احتج مسلم بكلثوم بن جبر، ووافقه الذهبي، وأما النسائي فقال: كلثوم هذا غير قوي، وحديثه غير محفوظ ا. هـ. والظاهر أن الوهم في رفعه إنما هو من جهة جرير بن حازم، فإنه ثقة لكن له أوهام إذا حدث من حفظه. أو الوهم ممن دونه فقد أخرجه الطبري 15350 عن عبد الوارث عن كلثوم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا. وتابعه ابن علية برقم 15351 عن كلثوم به موقوفا، و 15352، وبرقم 15353 و 15354، تابعه عطاء بن السائب فرواه عن سعيد عن ابن عباس موقوفا، فالصواب في هذا الحديث الوقف كما رواه غير واحد، والله أعلم انظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية بتخريجنا.

[سورة الأعراف (7) : آية 173]

تقولوا، ومثله: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «1» . وفي قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا قولان: أحدهما: أنه إشارة إلى الميثاق والإقرار. والثاني: أنه إشارة إلى معرفة أنه الخالق. قال المفسرون: وهذه الآية تذكير من الله تعالى بما أخذ على جميع المكلَّفين من الميثاق، واحتجاج عليهم لئلا يقول الكفار: إنا كنّا عن هذا الميثاق غافلين لم نذكره، ونسيانهم لا يُسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله تعالى بذلك على لسان النبيّ صلّى الله عليه وسلم الصادق. وإذا ثبت هذا بقول الصادق، قام في النفوس مقام الذِّكر، فالاحتجاج به قائم. [سورة الأعراف (7) : آية 173] أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) قوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاتبَّعنا منهاجهم على جهلٍ منَّا بآلهيتك أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ في دعواهم أن معك إلهاً، فقطع الله احتجاجهم بمثل هذا، إذ أذكرهم أخذ الميثاق على كل واحد منهم. وجماعة أهل العلم على ما شرحنا من أنه استنطق الذر، وركَّب فيهم عقولاً وأفهاماً عرفوا بها ما عرض عليهم. وقد ذكر بعضهم أن معنى أخذ الذرية: إخراجهم إلى الدنيا بعد كونهم نطفاً، ومعنى إشهادهم على أنفسهم: اضطرارهم إلى العلم بأنه خالقهم بما أظهر لهم من الآيات والبراهين. ولما عرفوا ذلك ودعاهم كلُّ ما يرون ويشاهدون إلى التصديق، كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهِدين على أنفسهم بصحته، كما قال: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ «2» يريدهم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا: نحن كفرة، كما يقول الرجل: قد شهدتْ جوارحي بصدقك، أي: قد عرفْته. ومن هذا الباب قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ «3» أي: بيَّن وأعلم وقد حكى نحو هذا القول ابن الأنباري، والأول أصح، لموافقة الآثار. [سورة الأعراف (7) : آية 174] وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: وكما بينَّا في أخذ الميثاق الآيات، ليتدبَّرها العباد فيعملوا بموجبها وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: ولكي يرجعوا عمَّا هم عليه من الكفر إلى التوحيد. [سورة الأعراف (7) : آية 175] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ قال الزجاج: هذا نسق على ما قبله، والمعنى: أتل عليهم إذ أخذ ربك، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا وفيه ستة أقوال «4» : (591) أحدها: أنَّه رجل من بني إِسرائيل يقال له: بلعم بن أبر، قاله ابن مسعود. وقال ابن

_ ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين. فقد أخرجه الطبري 15392- 15396 و 15399 من طرق عن ابن مسعود وأخرجه برقم 15398 و 15401 عن ابن عباس. وأخرجه برقم 15403 و 15404 عن مجاهد. وأخرجه 15408 عن عكرمة، وله شواهد. وهذا القول هو أرجح الأقوال.

عباس: بلعم بن باعوراء. وروي عنه: أنه بلعام بن باعور، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والسدي. وروى العوفي عن ابن عباس أن بلعماً من أهل اليمن. وروى عنه ابن أبي طلحة أنه من مدينة الجبَّارين. (592) والثاني: أنه أُميَّة بن أبي الصلت، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص، وسعيد بن المسيب، وأبو روق، وزيد بن أسلم، وكان أميّة قد قرأ الكتاب، وعلم أن الله مرسِل رسولاً، ورجا أن يكون هو، فلما بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم، حسده وكفر. والثالث: أنه أبو عامر الراهب، روى الشعبي عن ابن عباس قال: الأنصار تقول: هو الراهب الذي بُني له مسجد الشِّقاق، وروي عن ابن المسيب نحوه. والرابع: أنه رجل كان في بني اسرائيل، أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، وكانت سمجة دميمة، فقالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله لها، فلما علمت أن ليس في بني إسرائيل مثلها، رغبت عن زوجها وأرادت غيره، فلما رغبت عنه، دعا الله أن يجعلها كلبة نَبَّاحَةً، فذهبت منه فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس بنا على هذا صبر أن صارت أمُّنا كلبةً نبَّاحة يعيِّرنا الناس بها، فادع الله أن يردَّها إلى الحال التي كانت عليها أولاً، فدعا الله، فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات الثلاث، رواه عكرمة عن ابن عباس، والذي روي لنا في هذا الحديث «وكانت سَمِجة» بكسر الميم، وقد روى سيبويه عن العرب أنهم يقولون: رجل سَمْج: بتسكين الميم، ولم يقولوا: سَمِج بكسرها. والخامس: أنه المنافق، قاله الحسن. والسادس: أنه كل من انسلخ من الحق بعد أن أُعطيَه من اليهود والنصارى والحنفاء، قاله عكرمة. وفي الآيات خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه اسم الله الأعظم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير. والثاني: أنها كتاب من كتب الله عزّ وجلّ. روى عكرمة عن ابن عباس قال: هو بلعام، أوتي كتاباً فانسلخ منه. والثالث: أنه أوتي نبوّة، فَرَشاهُ قومه على أن يسكت، ففعل، وتركهم على ما هم عليه، قاله مجاهد، وفيه بُعد، لأن الله تعالى لا يصطفي لرسالته إلا معصوماً عن مثل هذه الحال. والرابع: أنها حُجج التوحيد، وفهم أدلّته. والخامس: أنها العلم بكتب الله عزّ وجلّ. والمشهور في التفسير أنه بلعام وكان من أمره على ما ذكره المفسرون أن موسى عليه السلام غزا البلد الذي هو فيه، وكانوا كفاراً، وكان هو مجاب الدعوة، فقال ملكهم: ادع على موسى، فقال: إنه من أهل ديني،

_ موقوف. أخرجه الطبري 15413 و 15414 و 15415 و 15417 عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

[سورة الأعراف (7) : آية 176]

ولا ينبغي لي أن أدعوَ عليه، فأمر الملك أن تنحت خشبة لصَلبه، فلما رأى ذلك، خرج على أتان ليدعوَ على موسى، فلما عاين عسكرهم، وقفت الأتان فضربها، فقالت: لم تضربني، وهذه نار تتوقَّد قد منعتني أن أمشي؟ فارجع، فرجع إلى الملك فأخبره، فقال: إما أن تدعو عليهم، وإما أن أصلبك، فدعا على موسى باسم الله الأعظم أن لا يدخل المدينة، فاستجاب الله له، فوقع موسى وقومه في التيه بدعائه، فقال موسى: يا ربِّ، بأي ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم. فقال: يا رب، فكما سمعت دعاءه عليَّ، فاسمع دعائي عليه، فدعا اللهَ أن ينزع منه الاسم الأعظم، فنزع منه. وقيل: إنه أمر قومه أن يزيِّنوا النساء ويرسلوهنَّ في العسكر ليَفشو الزنا فيهم، فيُنصروا عليهم. وقيل: إن موسى قتله بعد ذلك. وروى السدي عن أشياخه أن بلعم أتى إلى قومه متبرِّعاً، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل، فانكم إذا خرجتم لقتالهم، دعوتُ عليهم فهلكوا، فكان فيما شاء عندهم من الدنيا، وذلك بعد مضي الأربعين سنة التي تاهوا فيها، وكان نبيهم يوشع، لا موسى. قوله تعالى: فَانْسَلَخَ مِنْها أي: خرج من العلم بها. قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ قال ابن قتيبة: أدركه. يقال: اتبَّعتُ القوم: إذا لحقتَهم، وتبعتُهم: سرتُ في أثرهم. وقرأ طلحة بن مصرِّف: «فاتّبعه» بالتشديد. وقال اليزيدي: أتبْعه واتَّبعه: لغتان. وكأن «أتبعه» خفيفة بمعنى: قفاه، و «اتّبعه» مشددة: حذا حذوه. ولا يجوز أن تقول: أتبْعناك، وأنت تريد: اتَّبعناك، لأن معناها: اقتدينا بك. وقال الزجاج: يقال: تبع الرجل الشيء واتَّبعه بمعنى واحد. قال الله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ «1» وقال: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ «2» . قوله تعالى: فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فيه قولان: أحدهما: من الضالين، قاله مقاتل. والثاني: من الهالكين الفاسدين، قاله الزجاج. [سورة الأعراف (7) : آية 176] وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها في هاء الكناية في «رفعناه» قولان «3» : أحدهما: أنها تعود إلى الإِنسان المذكور، وهو قول الجمهور فيكون المعنى: ولو شئنا لرفعنا منزلة هذا الإنسان بما علّمنا. والثاني: أنها تعود إلى الكفر بالآيات، فيكون المعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بآياتنا، وهذا المعنى مروي عن مجاهد. وقال الزجاج: لو شئنا لحُلْنا بينه وبين المعصية. قوله تعالى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي: ركن إلى الدنيا وسكن. قال الزجاج: يقال: أخلد

_ (1) سورة البقرة: 38. (2) سورة يونس: 90. [.....] (3) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 126: وأولى الأقوال في التأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عم الخبر بقوله: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها. أنه لو شاء رفعه بآياته التي آتاه إياها و «الرفع» يعم معاني كثيرة: منها الرفع في المنزلة عنده، ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها، ومنها الرفع في الذكر الجميل والثناء الرفيع. وجائز أن يكون الله عنى كل ذلك: أنه لو شاء لرفعه، فأعطاه كل ذلك، بتوفيقه للعمل بآياته التي كان آتاها إياه. وإذ كان ذلك الخبر جائزا فالصواب من القول فيه أن لا يخص منه شيء. إذ لا دلالة على خصوصه من خبر ولا عقل. اه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 177 إلى 178]

وخلد، والأول أكثر في اللغة. والأرض ها هنا عبارة عن الدنيا، لأن الدنيا هي الأرض بما عليها. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه رَكَن إلى أهل الدنيا، ويقال: إنه أرضى امرأته بذلك لأنها حملته عليه. وقيل: أرضى بني عمِّه وقومَه. والثاني: أنه ركن إلى شهوات الدنيا وقد بُيِّن ذلك بقوله تعالى: وَاتَّبَعَ هَواهُ والمعنى أنه انقاد لما دعاه إليه الهوى. قال ابن زيد: كان هواه مع قومه. وهذه الآية من أشد الآيات على أهل العلم إذا مالوا عن العلم إلى الهوى. قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ معناه: أن هذا الكافر، إن زجرتَه لم ينزجر، وإن تركتَه لم يهتد، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب، فانه إن طُرد وحُمل عليه بالطرد كان لاهثاً، وإن تُرك وربض كان أيضاً لاهثاً، والتشبيه بالكلب اللاهث خاصة فالمعنى: فمثله كمثل الكلب لاهثاً وإنما شبهه بالكلب اللاهث، لأنه أخسُّ الأمثال على أخس الحالات وأبشعها. وقال ابن قتيبة: كل لاهث إنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب، فانه يلهث في حال راحته وحال كلاله، فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث، أو تركته على حاله رابضاً لهث. قال المفسرون: زُجِرَ في منامه عن الدعاء على بني اسرائيل فلم ينزجر، وخاطبتْه أتانه فلم ينته، فضُرب له هذا المثل ولسائر الكفّار فذلك قوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا لأن الكافر إن وعظته فهو ضال، وإن تركتَه فهو ضال وهو مع إرسال الرسل إليه كمن لم يأته رسول ولا بيِّنة. قوله تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ قال عطاء: قَصَصَ الذين كفروا وكذّبوا أنبياءهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 177 الى 178] ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) قوله تعالى: ساءَ مَثَلًا يقال: ساء الشيء يسوء: إذا قَبُح، والمعنى: ساء مثلاً مثل القوم، فحُذِف المضاف، فنُصب «مثلاً» على التمييز. قوله تعالى: وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ أي: يضُرُّون بالمعصية. [سورة الأعراف (7) : آية 179] وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي: خلقنا. قال ابن قتيبة: ومنه ذرية الرجل، إنما هي الخلق منه، ولكن همزها يتركه أكثر العرب. قوله تعالى: لِجَهَنَّمَ هذه اللام يسميها بعض أهل المعاني لام العاقبة، كقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً، ومثله قول الشاعر: أمْوالُنَا لِذَوِي المِيْرَاثِ نَجْمَعُهَا ... وَدُوْرُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيْها ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز يعزِّيه بموت ابنه، فقال: تعزَّ أمِيْرَ المؤمنينَ فإنَّه ... لِما قَدْ تَرَى يُغْذَى الصَّغِيْرُ ويُوْلَدُ وقد أخبر الله عزّ وجلّ في هذه الآية بنفاذ عِلمه فيهم أنهم يصيرون إليها بسبب كفرهم.

[سورة الأعراف (7) : آية 180]

قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها لمّا أعرض القوم عن الحق والتفكر فيه، كانوا بمنزلة من لم يفقه ولم يُبصر ولم يسمع. وقال محمد بن القاسم النحوي: أراد بهذا كله أمر الآخرة، فانهم يعقلون أمر الدنيا. قوله تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ شبَّههم بالأنعام لأنها تسمع وتبصر ولا تعتبر، ثم قال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء يعلم أكثرهم أنه معاند فيُقدِم على النار، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ عن أمر الآخرة. [سورة الأعراف (7) : آية 180] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. سبب نزولها: (593) أن رجلاً دعا الله في صلاته، ودعا الرحمنَ، فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله هذه الآية، قاله مقاتل. فأما الحسنى، فهي تأنيث الأحسن. ومعنى الآية أن أسماء الله حسنى، وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن. وذكر الماوردي أن المراد بذلك ما مالت إليه النفوس من ذكره بالعفو والرحمة دون السخط والنّقمة. وقوله تعالى: فَادْعُوهُ بِها أي: نادوه بها، كقوله: يا الله، يا رحمن. قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «يُلحِدُون» بضمّ الياء، وكذلك في سورة (النّحل) و (السّجدة) «1» . وقرأ حمزة: «يَلحَدون» بفتح الحاء والياء فيهن، ووافقه الكسائيّ، وخلف في سورة (النحل) «2» . قال الاخفش: أَلْحَد ولَحَدَ: لغتان فمن قرأ بهما أراد الأخذ باللغتين، فكأن الإلحاد: العدول عن الاستقامة. وقال ابن قتيبة: يجورون عن الحق ويعدلون ومنه لَحْدُ القبر، لأنه في جانب. قال الزجاج: ولا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يسمِّ به نفسه، فيقول: يا جواد، ولا يقول: يا سخي ويقول: يا قوي، ولا يقول: يا جلْد، ويقول: يا رحيم، ولا يقول: يا رفيق، لأنه لم يصف نفسه بذلك. قال أبو سليمان الخطابي: ودليل هذه الآية أن الغلط في أسمائه والزيغ عنها إلحادٌ، ومما يُسمع على ألسنة العامة قولهم: يا سبحانُ، يا برهانُ، وهذا مهجور مستهجن لا قدوة فيه، وربما قال بعضهم: يا رب طه ويس. وقد أنكر ابن عباس على رجل قال: يا رب القرآن. وروي عن ابن عباس أن إلحادهم في أسمائه أنهم سمَّوا بها أوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فاشتقوا اللات من الله، والعزَّى من العزيز، ومناة من المنَّان. (فصل:) والجمهور على أن هذه الآية محكمة، لأنها خارجة مخرج التّهديد، كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «3» ، وقد ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بآية القتال، لأنّ قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ يقتضي الإِعراض عن الكفار، وهذا قول ابن زيد.

_ باطل، عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، وليس له أصل بذكر سبب نزول الآية، وورد شيء من هذا في آخر سورة الإسراء، وسيأتي.

[سورة الأعراف (7) : آية 181]

[سورة الأعراف (7) : آية 181] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي: يعملون به، وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي: وبالعمل به يعدلون. وفيمن أُريد بهذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون باحسان من هذه الأمة، قاله ابن عباس. وكان ابن جريج يقول: (594) ذُكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «هذه أُمتي، بالحق يأخذون ويعطون ويقضون. (595) وقال قتادة: بلغنا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا تلا هذه الآية قال: «هذه لكم وقد أعطي القومُ مثلها» ثم يقرأ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) «1» . والثاني: أنهم من جميع الخلق، قاله ابن السائب. والثالث: أنهم الأنبياء. والرابع: أنهم العلماء، ذكر القولين الماوردي. [سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 183] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا قال أبو صالح عن ابن عباس: هم أهل مكة. وقال مقاتل: نزلت في المستهزئين من قريش. قوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ قال الخليل بن أحمد: سنطوي أعمارهم في اغترار منهم. وقال أبو عبيدة: الاستدراج: أن يُتدرج إلى الشيء في خُفية قليلاً قليلاً ولا يُهجم عليه، وأصله من الدَّرَجة، وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مَرقاة مرقاة ومنه: دَرَجَ الكتابَ: إذا طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم: إذا ماتوا بعضُهم في إثر بعض. وقال اليزيدي: الاستدراج: أن يأتيه من حيث لا يعلم. وقال ابن قتيبة: هو ان يذيقهم من بأسه قليلاً قليلاً من حيث لا يعلمون، ولا يباغتهم به ولا يجاهرهم. وقال الأزهري: سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم من النّعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرَّتهم أغفل ما يكونون. قال الضحاك: كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة. وفي قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: من حيث لا يعلمون بالاستدراج. والثاني: بالهلكة. قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ الإملاء: الإمهال والتأخير. قوله تعالى: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ قال ابن عباس: إن مَكري شديد. وقال ابن فارس: الكيد: المكر فكل شيء عالجته فأنت تَكيدُه. قال المفسرون: مكر الله وكيده: مجازاة أهل المكر والكيد على نحو ما بيّنا في (البقرة) «2» و (آل عمران) «3» من ذِكر الاستهزاء والخداع والمكر.

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبري 15469 عن ابن جريج مرسلا، ومع إرساله، مراسيل ابن جريج واهية، شبه موضوعة كما قال الإمام أحمد، راجع «الميزان» . وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 338. ضعيف. أخرجه الطبري 15471 عن قتادة مرسلا. والمرسل من قسم الضعيف.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 184 إلى 186]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 184 الى 186] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ سبب نزولها: (596) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، علا على الصفا ليلة، ودعا قريشاً فخذاً فخذاً: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، فحذَّرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوِّت حتى الصباح، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، وقتادة. ومعنى الآية: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جِنة، أي: جنون، فحثَّهم على التفكر في أمره ليعلموا أنه بريء من الجنون، إِنْ هُوَ أي: ما هو إِلَّا نَذِيرٌ أي: مخوِّف مُبِينٌ يبيِّن طريق الهدى. ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ليستدلوا على أن لها صانعاً مدبراً وقد سبق بيان الملكوت في (الأنعام) «1» . قوله تعالى: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ قرأ ابن مسعود، وأبيٌّ، والجحدري: «آجالهم» . ومعنى الآية: أو لم ينظروا في الملكوت وفيما خلق الله من الأشياء كلِّها، وفي أنْ عسى أن تكون آجالهم قد قربت فيهلِكوا على الكفر، ويصيروا إلى النار، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ يعني القرآن وما فيه من البيان. ثم ذكر سبب إعراضهم عن الإيمان، فقال: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: «ونذرهم» بالنون والرفع. وقرأ أبو عمرو بالياء وبالرّفع. وقرأ حمزة والسكائيّ: «ويذرْهُم» بالياء مع الجزم خفيفة، فمن قرأ بالرفع استأنف، ومن جزم «ويذرْهم» عطفَ على موضع الفاء. قال سيبويه: وموضعها جزْم فالمعنى: من يضلل الله يَذَرْه وقد سبق في سورة (البقرة) «2» معنى الطّغيان والعمه. [سورة الأعراف (7) : آية 187] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ في سبب نزولها قولان: (597) أحدهما: أن قوماً من اليهود قالوا: يا محمد، أخبرنا متى الساعة؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

_ ضعيف جدا بهذا اللفظ. أخرجه الطبري 15472 عن قتادة مرسلا، ومع إرساله ذكره قتادة بصيغة التمريض، وحديث وقوفه صلّى الله عليه وسلم على الصفا في الصحيح، والوهن في هذا الخبر ذكر نزول الآية، وأنكر من ذلك قوله «حتى الصباح» فهذا باطل لأنه صلّى الله عليه وسلم إنما نادى الناس صباحا، فاجتمعوا فلما سمعوا ما يدعوهم إليه قال أبو لهب ما قال، فتفرق الناس. باطل. أخرجه الطبري 15474 عن ابن عباس وفي إسناده محمد بن أبي محمد وهو مجهول، والمتن باطل لأن السورة مكية، وسؤالات يهود مدنية. وذكره الواحدي في أسباب «النزول» 458 من حديث ابن عباس.

(598) والثاني: أن قريشاً قالت: يا محمد، بيننا وبينك قرابة، فبيِّن لنا متى الساعة؟ فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. وقال عروة: الذي سأله عن الساعة عتبة بن ربيعة. والمراد بالسّاعة ها هنا التي يموت فيها الخلق. قوله تعالى: أَيَّانَ مُرْساها قال أبو عبيدة: أي: متى مُرساها؟ أي: منتهاها. ومرسى السفينة: حيث تنتهي. وقال ابن قتيبة: «أيّان» بمعنى: متى و «متى» بمعنى: أيّ حين، ونرى أن أصلها: أيّ أوانٍ فحذفت الهمزة والواو، وجعل الحرفان واحداً، ومعنى الآية: متى ثبوتها؟ يقال: رسا في الأرض، أي: ثبت، ومنه قيل للجبال: رواسي. قال الزجاج: ومعنى الكلام: متى وقوعها؟ قوله تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي: قد استأثر بعلمها لا يُجَلِّيها أي: لا يظهرها في وقتها إِلَّا هُوَ. قوله تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: ثَقُل وقوعها على أهل السماوات والأرض، قاله ابن عباس، ووجهه أن الكلَّ يخافونها، محسنهم ومسيئهم. والثاني: عظُم شأنها في السماوات والأرض، قاله عكرمة، ومجاهد، وابن جريج. والثالث: خفي أمرها، فلم يُعلم متى كونها، قاله السدي. والرابع: أن «في» بمعنى «على» فالمعنى: ثقلت على السماوات والأرض، قاله قتادة. قوله تعالى: لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أي: فجأة. قوله تعالى: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه من المقدَّم والمؤخَّر، فتقديره: يسألونك عنها كأنك حفيّ، أي: برّ بهم، كقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا. قال العوفي عن ابن عباس، وأسباط عن السدي: كأنك صديق لهم. والثاني: كأنك حفي بسؤالهم، مجيب لهم. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: كأنك يعجبك سؤالهم. وقال خصيف عن مجاهد: كأنّك تحبّ أن يسألونك عنها. وقال الزجاج: كأنك فَرِح بسؤالهم. والثالث: كأنك عالم بها، قاله الضحاك عن ابن عباس، وهو قول ابن زيد، والفراء. والرابع: كأنك استحفيت السؤال عنها حتى علمتها، قاله ابن ابي نجيح عن مجاهد. وقال عكرمة: كأنّك مسؤول عنها. وقال ابن قتيبة: كأنك معنيٌّ بطلب علمها. وقال ابن الانباري: فيه تقديم وتأخير، تقديره: يسألونك عنها كأنك حفيٌّ بها، والحفيُّ في كلام العرب: المعنيُّ. قوله تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ أي: لا يعلمها إلا هو وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قال مقاتل في آخرين: المراد بالنّاس ها هنا أهل مكّة.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 15473 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 459 عن قتادة مرسلا.

[سورة الأعراف (7) : آية 188]

وفي قوله تعالى: لا يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: لا يعلمون أنها كائنة، قاله مقاتل. والثاني: لا يعلمون أن هذا مما استأثر الله بعلمه، قاله أبو سليمان الدّمشقي. [سورة الأعراف (7) : آية 188] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا سبب نزولها. (599) أن أهل مكة قالوا: يا محمد، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فتشتري فتربح، وبالأرض التي تريد أن تُجدب، فترتحل عنها إلى ما قد أخصب؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس. وفي المراد بالنفع والضر قولان: أحدهما: أنه عامّ في جميع ما ينفع ويضر، قاله الجمهور. والثاني: أن النفع: الهدى، والضَّر: الضلالة، قاله ابن جريج. قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي: إلا ما أراد أن أملكه بتمليكه إياي ومن هو على هذه الصفة فكيف يعلم علم الساعة؟ قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لو كنت أعلم بجدب الأرض وقحط المطر قبل كون ذلك لهيَّأت لسنة الجدب ما يكفيها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لو كنت أعلم ما أربح فيه إذا اشتريته لاستكثرت من الخير، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: لو كنت أعلم متى أموت لا لاستكثرت من العمل الصالح، قاله مجاهد. والرابع: لو كنت أعلم ما أسأل عنه من الغيب لأَجبت عنه. وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي: لم يلحقني تكذيب، قاله الزجاج. فأما الغيب، فهو كل ما غاب عنك. ويخرج في المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه العمل الصالح. والثاني: المال. والثالث: الرزق. قوله تعالى: وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ فيه أربعة اقوال: أحدها: أنه الفقر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كل ما يسوء، قاله ابن زيد. والثالث: الجنون، قاله الحسن. والرابع: التكذيب، قاله الزجاج. فعلى قول الحسن، يكون هذا الكلام مبتدأ، والمعنى: وما بي من جنون إنما أنا نذير، وعلى باقي الأقوال يكون متعلّقا بما قبله. [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 191] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني بالنفس: آدم، وبزوجها: حواء. ومعنى لِيَسْكُنَ إِلَيْها: ليأنس بها ويأتي إليها. فَلَمَّا تَغَشَّاها أي: جامعها. قال الزجاج: وهذا أحسن

_ لا أصل له، عزاه المصنف لابن عباس، وهو من رواية الكلبي عن أبي صالح، وهي رواية ساقطة كما تقدم مرارا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 461 عن الكلبي مرسلا.

كناية عن الجماع. والحمل، بفتح الحاء: ما كان في بطن، أو أخرجتْه شجرة. والحمل، بكسر الحاء: ما يُحمل. والمراد بالحمل الخفيف: الماء. قوله تعالى: فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرَّت به، قعدت وقامت ولم يُثقلها. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس، والضحاك: «فاستمرت به» وقرأ أُبَيُّ بن كعب، والجونيّ: «فاستمارّت به» بزيادة ألف. وقرأ عبد الله بن عمرو، والجحدري: «فمارَّت به» بألف وتشديد الراء. وقرأ أبو العالية، وأيوب، ويحيى بن يعمر: «فَمَرَتْ به» خفيفة الراء، أي: شكّت وتمارت أحملت، أم لا؟ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ، أي: صار حملها ثقيلاً. وقال الأخفش: صارت ذا ثقل. يقال: أثمرنا، أي: صرنا ذوي ثمر. قوله تعالى: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما يعني آدم وحواء لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً وفي المراد بالصالح قولان: أحدهما: أنه الإنسان المشابه لهما، وخافا أن يكون بهيمة، هذا قول الأكثرين. والثاني: أنه الغلام، قاله الحسن، وقتادة. (شرح السبب في دعائهما) (600) ذكر أهل التفسير أن إبليس جاء حواء، فقال: ما يدريك ما في بطنكِ، لعله كلب أو خنزير أو حمار وما يدريك من أين يخرج، أيشق بطنك، أم يخرج من فيك، أو من منخريك؟ فأحزنها ذلك، فدعوا الله حينئذ، فجاء إبليس فقال: كيف تجدينك؟ قالت: ما أستطيع القيام إذا قعدت، قال: أفرأيت إن دعوت الله، فجعله إنساناً مثلك ومثل آدم، أتسمينه باسمي؟ قالت: نعم. فلما ولدته سويَّاً، جاءها إبليس فقال: لم لا تُسمِّينه بي كما وعدتني، فقالت: وما اسمك؟ قال: الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فسمته: عبد الحارث، وقيل: عبد شمس برضى آدم، فذلك قوله تعالى:

_ ورد هذا السياق مرفوعا، وهو منكر جدا، بل هو باطل. أخرجه الترمذي 3077 والحاكم 2/ 545 والطبري 15524 من حديث سمرة، وإسناده ضعيف، الحسن سمع من سمرة فقط حديث العقيقة، وباقي أحاديثه عنه أخذها عن بعض من سمع سمرة، وفيه عمر بن إبراهيم العبدي وهو منكر الحديث وبخاصة في روايته عن قتادة. وقد خالفه غير واحد فرواه الطبري 15525 و 15526 موقوفا، وهو الصحيح. وقال الترمذي عقب الحديث: حسن غريب ورواه بعضهم فلم يرفعه، وصححه الحاكم! وسكت الذهبي! مع أنه عاد فذكره في «الميزان» 6042 في ترجمة عمر العبدي، وقال: صححه الحاكم وهو منكر كما ترى اه. وورد موقوفا على ابن عباس أخرجه الطبري 15527 و 15528 وموقوفا على قتادة 15531 و 15532، وموقوفا على عكرمة 15530 وعلى مجاهد 15533 وعلى سعيد بن جبير 15534 و 15535، وموقوفا على السدي 15536 وهذا هو الصواب. وهو متلقى عن أهل الكتاب، ولا يصح مرفوعا البتة، والمتن في غاية النكارة، لا يصح نسبة الشرك إلى نبي الله آدم عليه السلام أبدا. ومما يدل على بطلانه هو أن الحسن- وهو أحد رواته- فسر هذه الآية بخلاف هذا الحديث فقد أخرج الطبري 15537 عن الحسن قال: كان ذلك في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم. و 15538 عن معمر عن الحسن قال: عني بذلك ذرية آدم. و 15539 عن قتادة عن الحسن قال: هم اليهود والنصارى اه. وهذه روايات صحيحة عن ثلاثة أثبات رووها عن الحسن فيدل هذا على أن الحديث المرفوع من أوهام عمر العبدي ومنكراته والراجح أن هذا الخبر من الإسرائيليات. وانظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية بتخريجي.

[سورة الأعراف (7) : آية 191]

فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ. قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «شركاء» بضم الشين والمدّ، جمع شريك. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: «شِركاً» مكسورة الشين على المصدر، لا على الجمع. قال أبو علي: من قرأ «شِرْكاً» حذف المضاف، كأنه أراد: جعلا له ذا شِرك، وذوي شريك فيكون المعنى: جعلا لغيره شِركاً، لأنه إذا كان التقدير: جَعلا له ذوي شرك، فالمعنى: جعلا لغيره شركاً وهذه القراءة في المعنى كقراءة من قرأ «شركاء» . وقال غيره: معنى «شركاء» : شريكاً، فأوقع الجمع موقع الواحد كقوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ «1» . والمراد بالشريك: إبليس، لأنهما أطاعاه في الاسم، فكان الشرك في الطاعة، لا في العبادة ولم يقصدا أن الحارثَ ربُّهما، لكن قصدا أنه سبب نجاة ولدهما وقد يُطلَق العبد على من ليس بمملوك. قال الشاعر: وإني لَعبدُ الضَّيف ما دَامَ ثَاوياً ... وما فيَّ إلا تِلْكَ مَنْ شِيْمَةِ العَبْدِ «2» وقال مجاهد: كان لا يعيش لآدم ولد، فقال الشيطان: إذا وُلد لكما ولد فسمياه عبد الحارث، فأطاعاه في الاسم، فذلك قوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما، هذا قول الجمهور، وفيه قول ثان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أشرك آدم، إن أول الآية لَشكر، وآخرها مَثَل ضربه الله لمن يعبده في قوله عزّ وجلّ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. وروى قتادة عن الحسن، قال: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولاداً فهوَّدوهم ونصَّروهم. وروي عن الحسن، وقتادة قالا: الضمير في قوله: «جعلا له شركاء» عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم، لا إلى آدم وحواء. وقيل: الضمير راجع إلى الولد الصالح، وهو السليم الخلْق، فالمعنى: جعل له ذلك الولدُ شركاء. وإنما قال: «جعلا» لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأُنثى. قال ابن الأنباري: الذين جعلوا له شركاء اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين هم أولاد آدم وحواء. فتأويل الآية: فلما آتاهما صالحاً، جعل أولادُهُما له شركاء، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «3» . وذهب السدي إلى أن قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ في مشركي العرب خاصة، وأنها مفصولة عن قصة آدم وحوّاء. [سورة الأعراف (7) : آية 191] أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) قوله تعالى: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً قال ابن زيد: هذه لآدم وحواء حيث سمّيا ولدهما عبد شمس، والشمس لا تخلق شيئاً. وقال غيره: هذا راجع إلى الكفار حيث أشركوا بالله الاصنام، وهي لا تخلق شيئا. وقوله تعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي: وهي مخلوقة. قال ابن الأنباري: وإنما قال: «ما» ثم قال: «وهم يُخلَقون» لأن «ما» تقع على الواحد والاثنين والجميع وإنما قال: «وهم» وهو يعني الأصنام، لأن عابديها أدّعَوا أنها تعقل وتميِّز، فأجريت مجرى الناس، فهو كقوله تعالى:

_ (1) سورة آل عمران: 173. (2) البيت منسوب إلى المقنع الكندي في «الحماسة» 3/ 1180. (3) سورة يوسف: 82.

[سورة الأعراف (7) : آية 192]

رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1» ، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «2» ، وقوله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «3» ، قال الشاعر: تمزَّزْتُها والدِّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ ... إذَا مَا بَنُو نَعْشٍ دنَوْا فتصوَّبُوا «4» وأنشد ثعلب لعبدة بن الطبيب: إذْ أشْرَفَ الدِّيكُ يَدْعُو بَعْضَ أُسْرَتِه ... لَدَى الصَّبَاحِ وَهُمْ قَوْمٌ مَعَازِيْلُ «5» لمّا جعله يدعو، جعل الدِّيَكَة قوماً، وجعلهم معازيل، وهم الذين لا سلاح معهم، وجعلهم أسرة وأسرة الرجل: رهطه وقومه. [سورة الأعراف (7) : آية 192] وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) قوله تعالى: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً يقول: إن الأصنام لا تستطيع نصر مَنْ عبدها، ولا تمنع من نفسها. [سورة الأعراف (7) : آية 193] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الأصنام، فالمعنى: وإن دعوتم أيها المشركون أصنامكم إلى سبيل رشاد لا يتبعوكم، لأنهم لا يعقلون. والثاني: أنها ترجع إلى الكفار، فالمعنى: وإن تدع يا محمد هؤلاء المشركين إلى الهدى، لا يتَّبعوكم، فدعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سواء، لأنهم لا ينقادون إلى الحق. وقرأ نافع «لا يَتْبعوكم» بسكون التاء. [سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 196] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام عِبادٌ أَمْثالُكُمْ في أنهم مسخَّرون مذلَّلون لأمر الله. وإنما قال «عباد» وقال: فَادْعُوهُمْ، وإن كانت الأصنام جماداً، لما بيّنا عند قوله تعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ. قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي: فليجيبوكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنَّ لكم عندهم نفعاً وثواباً. أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها في المصالح أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها في دفع ما يؤذي. وقرأ أبو

_ (1) سورة يوسف: 4. [.....] (2) سورة النمل: 18. (3) سورة يس: 4. (4) البيت منسوب إلى النابغة الجعدي في «اللسان» نعش. تمززتها: شربتها قليلا قليلا. (5) البيت في «المفضليات» : 143. والمعازيل: العزل في السلاح.

[سورة الأعراف (7) : آية 197]

جعفر «يبطشون» بضمّ الطّاء ها هنا وفي (القصص) «1» و (الدخان) » . أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها المنافع من المضار أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها تضرعكم ودعاءكم؟ وفي هذا تنبيه على تفضيل العابدين على المعبودين، وتوبيخ لهم حيث عبدوا مَنْ هم أفضل منه. قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ قال الحسن: كانوا يخوِّفونه بآلهتهم، فقال الله تعالى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ كِيدُونِ أنتم وهم فَلا تُنْظِرُونِ أي: لا تؤخِّروا ذلك. وكان ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي يقرءون «ثم كيدون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو، ونافع في رواية ابن حماد بالياء في الوصل. وروى ورش، وقالون، والمسيِّبي بغير ياء في الوصل، ولا وقف. فأما «تنظرون» فأثبت فيها الياء يعقوب في الوصل والوقف. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ أي: ناصري الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وهو القرآن، أي: كما أيّدني بإنزال الكتاب ينصرني. [سورة الأعراف (7) : آية 197] وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ أي: لا يقدرون على منعكم ممن أرادكم بسوء، ولا يمنعون أنفسهم من سوء أريد بهم. [سورة الأعراف (7) : آية 198] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا في المراد بهؤلاء قولان: أحدهما: أنهم الأصنام. ثم في قوله تعالى: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ قولان: أحدهما: يواجهونك، تقول العرب: داري تنظر إلى دارك، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ لأنه ليس فيهم أرواح. والثاني: وتراهم كأنهم ينظرون إليك، لأن لهم أعيناً مصنوعة، فأسقط كاف التشبيه، كقوله تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى «3» أي: كأنهم سكارى، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ في الحقيقة. وإنما أخبر عنهم بالهاء والميم، لأنهم على هيئة بني آدم. والقول الثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وتراهم ينظرون إليك بأعينهم ولا يبصرون بقلوبهم. [سورة الأعراف (7) : آية 199] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ العفو: الميسور، وقد سبق شرحه في سورة البقرة «4» . وفي الذي أُمر بأخذ العفو منه ثلاثة أقوال: أحدها: أخلاق الناس، قاله ابن الزبير، والحسن، ومجاهد فيكون المعنى: إقبل الميسور من أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء. والثاني: أنه المال، وفيه قولان: أحدهما: أن المراد بعفو المال: الزكاة، قاله مجاهد في رواية، والضّحّاك. والثاني: أنها صدقة كانت تؤخذ قبل فرض الزكاة، ثم نُسخت بالزكاة، روي عن ابن عباس. والثالث: أن المراد به: مساهلة المشركين والعفو عنهم، ثم نسخ بآية السيف، قاله ابن زيد.

_ (1) سورة القصص: 19 قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ. (2) سورة الدخان: 16 قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ. (3) سورة الحج: 2. (4) سورة البقرة: 219.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 200 إلى 201]

قوله تعالى: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالمعروف. وفي قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قولان: أحدهما: أنهم المشركون، أُمر بالإِعراض عنهم، ثم نُسخ ذلك بآية السيف. والثاني: أنه عام فيمن جهل، أُمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم، وإن وجب عليه الإنكار عليهم. وهذه الآية عند الأكثرين كلها محكمة، وعند بعضهم أن وسطها محكم وطرفيها منسوخان على ما بيَّنا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 200 الى 201] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ. قال ابن زيد: (601) لما نزلت «خذ العفو» قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «يا رب كيف بالغضب» ؟ فنزلت هذه الآية. فأمّا قوله تعالى: وَإِمَّا فقد سبق بيانه في (البقرة) في قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً «1» ، وقال أبو عبيدة: ومجاز الكلام: وإما تستخفَّنَّك منه خفة وغضب وَعَجَلة. وقال السدي: النزغ: الوسوسة وحديث النفس. قال الزجاج: النزغ: أدنى حركة تكون، تقول: قد نزغته: إذا حركته. وقد سبق معنى الاستعاذة. قوله تعالى: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «طيف» بغير ألف. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة: «طائف» بألف ممدوداً مهموزاً. وقرأ ابن عباس وابن جبير والجحدري والضحاك: «طَيِّفٌ» بتشديد الياء من غير ألف. وهل الطائف والطيف بمعنى واحد، أم يختلفان؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وهما ما كان كالخيال والشيء يُلم بك، حكي عن الفراء. وقال الأخفش: الطيف أكثر في كلام العرب من الطّائف، قال الشاعر: ألا يا لقوم لِطَيْفِ الخَيال ... أرَّقَ مِنْ نَازِحٍ ذي دَلاَلِ «2» والثاني: أن الطائف: ما يطوف حول الشيء، والطيف: اللَّمة والوسوسة والخَطْرة، حكي عن أبي عمرو، وروي عن ابن عباس أنه قال: الطائف: اللَّمة من الشيطان، والطيف: الغضب. وقال ابن الأنباري: الطائف: الفاعل من الطيف والطيف عند أهل اللغة: اللَّمم من الشيطان وزعم مجاهد أنه الغضب. قوله تعالى: تَذَكَّرُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: تذكَّروا الله إذا همُّوا بالمعاصي فتركوها، قاله مجاهد. والثاني: تفكَّروا فيما أوضح الله لهم من الحجة، قاله الزجاج. والثالث: تذكَّروا غضب الله

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبري 15564 عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا معضل، ومع ذلك ابن زيد ضعيف ليس بشيء، إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله؟!.

[سورة الأعراف (7) : آية 202]

والمعنى: إذا جرّأهم الشيطان على ما لا يحل، تذكَّروا غضب الله فأمسكوا، فاذا هم مبصرون لمواضع الخطأ بالتّفكر. [سورة الأعراف (7) : آية 202] وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) قوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ في هذه الهاء والميم قولان: أحدهما: أنها عائدة على المشركين فتكون هذه الآية مقدَّمة على التي قبلها، والتقدير: وأعرض عن الجاهلين، وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ قرأ نافع: «يمدونهم» بضم الياء وكسر الميم. والباقون: بفتح الياء وضم الميم. قال أبو علي: عامة ما جاء في التنزيل فيما يُحمَد ويُستَحب: أمددت، على أفعلت، كقوله تعالى: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ «1» أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ «2» وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ «3» ، وما كان على خلافه يجيء على: مددت كقوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ «4» فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء، إلّا أنّ وجه قراءة نافع منزلة فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «5» . قال المفسرون: «يمدونهم في الغي» أي: يزيِّنونه لهم، ويريدون منهم لزومه فيكون معنى الكلام: أن الذين اتَّقَوا إذا جرَّهم الشيطان إلى خطيئة، تابوا منها، وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين، وقد جرى ذكرهم لقوله تعالى: مِنَ الشَّيْطانِ فالمعنى: وإخوان الشياطين يَمدُّونهم. والثاني: أن الهاء والميم ترجع إلى المتقين فالمعنى: وإخوان المتقين من المشركين، وقيل: من الشياطين يمدونهم في الغي، أي: يريدون من المسلمين أن يدخلوا معهم في الكفر، ذكر هذا القول جماعة منهم ابن الأنباري. فان قيل: كيف قال: «وإخوانهم» وليسوا على دينهم؟ فالجواب: أنا إن قلنا: إنهم المشركون، فجائز أن يكونوا إخوانهم في النسب، أو في كونهم من بني آدم، أو لكونهم يظهرون النصح كالإخوان فإن قلنا: إنهم الشياطين، فجائز أن يكونوا لكونهم مصاحبين لهم، والقول الأول أصح. قوله تعالى: ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ وقرأ الزهري وابن أبي عبلة: «لا يقصِّرون» بالتشديد. قال الزجاج: يقال: أقصر يُقْصِر، وقصّر يقصِّر. قال ابن عباس: لا الإنس يقصِّرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين تُقصِر عنهم فعلى هذا يكون قوله تعالى: يُقْصِرُونَ من فعل الفريقين، وهذا على القول المشهور ويخرّج على القول الثاني أن يكون هذا وصفا للإخوان فقط. [سورة الأعراف (7) : آية 203] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) قوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ يعني به المشركين. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: إذا لم تأتهم

_ (1) سورة النمل: 36. (2) سورة المؤمنون: 55. (3) سورة الطور: 22. (4) سورة البقرة: 15. [.....] (5) سورة التوبة: 34.

[سورة الأعراف (7) : آية 204]

بآية، سألوها تعنتاً، قاله ابن السائب. والثاني: إذا لم تأتهم بآية لإبطاء الوحي، قاله مقاتل: وفي قوله: لَوْلا اجْتَبَيْتَها قولان: أحدهما: هلاَّ افتعلتها من تلقاء نفسك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين، وحكي عن الفراء أنه قال: العرب تقول: اجتبيت الكلام، واختلقته، وارتجلته: إذا افتعلته من قبل نفسك. والثاني: هلاَّ طلبتها لنا قبل مسألتك؟ ذكره الماوردي والأول أصح. قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أي: ليس الأمر لي. قوله تعالى: هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن. قال أبو عبيدة: البصائر بمعنى الحجج والبرهان والبيان، واحدتها: بصيرة. وقال الزجاج: معنى البصائر: ظهور الشيء وبيانه. [سورة الأعراف (7) : آية 204] وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ اختلفوا في نزولها على خمسة أقوال. (602) أحدها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة، فقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. (603) والثاني: أن المشركين كانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض: لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن المسيب. (604) والثالث: أن فتى من الأنصار كان كلّما قرأ النبيّ صلّى الله عليه وسلم شيئاً، قرأ هو، فنزلت هذه الآية، قاله الزهري. (605) والرابع: أنهم كانوا يتكلمون في صلاتهم أول ما فُرضت، فيجيء الرجل فيقول لصاحبه: كم صليتم؟ فيقول: كذا وكذا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. (606) والخامس: أنها نزلت تأمر بالإنصات للامام في الخطبة يوم الجمعة، روي عن عائشة، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار في آخرين.

_ لم أره مسندا، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد. باطل. عزاه المصنف لابن المسيب، ولم أقف عليه، وهو باطل لا يصح عنه، فإن الخطاب في الآية للمؤمنين، وسياق الخبر يدل على أن الخطاب للمشركين!!! ضعيف. أخرجه الطبري 15594 عن الزهري مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 465 عن الزهري مرسلا. ضعيف. أخرجه الطبري 15610 عن قتادة به، وهذا مرسل، فهو ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 464 عن قتادة. لم أره عن عائشة، وورد عن بعض التابعين، ولا يصح شيء من ذلك أخرجه الطبري 15620 و 15621 عن مجاهد قوله. و 15622 عن منصور قال: سمعت إبراهيم بن أبي حمزة يحدث أنه سمع مجاهدا. وأخرجه الطبري 15623 عن عطاء قال: وجب الصموت في اثنتين عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلي، وعند الإمام وهو يخطب. وكرره 15624 و 15626 عن مجاهد نحوه. وكرره 15627 عن بقية بن الوليد قال سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول ... وكرره 15629 عن عطاء نحوه.

[سورة الأعراف (7) : آية 205]

[سورة الأعراف (7) : آية 205] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ في هذا الذكر أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه القراءة في الصلاة، قاله ابن عباس فعلى هذا، أُمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإسرار. والثاني: أنه القراءة خلف الإمام سراً في نفسه، قاله قتادة. والثالث: أنه ذِكْرُ الله باللسان. والرابع: أنه ذِكر الله باستدامة الفكر، لا يغفل عن الله تعالى، ذكر القولين الماوردي. وفي المخاطب بهذا الذِكر قولان: أحدهما: أنه المستمع للقرآن، إما في الصلاة، وإما من الخطيب، قاله ابن زيد. والثاني: أنه خطاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ومعناه عام في جميع المكلفين. قوله تعالى: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً التضرع: الخشوع في تواضع والخيفة: الحذر من عقابه. قوله تعالى: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ الجهر: الإِعلان بالشيء ورجل جهير الصوت: إذا كان صوته عالياً. وفي هذا نص على أنه الذِّكر باللسان ويحتمل وجهين: أحدهما: قراءة القرآن. والثاني: الدعاء، وكلاهما مندوب إلى إخفائه، إلا أن صلاة الجهر قد بيّن أدبها في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها «2» . فأما الغدوُّ: فهو جمع غُدوة والآصال: جمع أُصُل، والأُصُل جمع أصيل فالآصال جمع الجمع، والآصال: العشيات. وقال أبو عبيدة: هي ما بين العصر إلى المغرب وأنشد: لَعَمْري لأَنْتَ البيتُ أُكْرِمُ أهلَه ... وأقْعُدُ في أفيائه بالأصَائِل «3» وروي عن ابن عباس أنه قال: يعني بالغدوّ: صلاة الفجر وبالآصال: صلاة العصر. [سورة الأعراف (7) : آية 206] إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة. لا يَسْتَكْبِرُونَ أي: لا يتكبَّرون ويتعظَّمون

_ (1) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 353- 354. الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ... : أي اذكر ربك في نفسك رهبة ورغبة وبالقول لا جهرا ولهذا قال وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهرا بليغا. ولهذا لما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه، فأنزل الله وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. وكذا قال في هذه الآية الكريمة وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ.. وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ. وقد زعم ابن جرير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قبله: أن المراد بهذه الآية السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به. ثم المراد بذلك في الصلاة، كما تقدم، أو الصلاة والخطبة. ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان، سواء كان سرا أو جهرا فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه. بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال، لئلا يكون من الغافلين وبهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون فقال إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ الآية. وإنما ذكرهم بهذا التشبيه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، ولهذا شرع لنا السجود ها هنا لما ذكر سجودهم لله عز وجل. وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع. (2) سورة الإسراء: 110. (3) البيت لأبي ذؤيب الهذلي كما في «ديوانه» 1/ 141.

عَنْ عِبادَتِهِ، وفي هذه العبادة قولان: أحدهما: الطّاعة. الثاني: الصّلاة والخضوع فيها. وفي قوله تعالى: وَيُسَبِّحُونَهُ قولان: أحدهما: ينزِّهونه عن السوء. والثاني: يقولون: سبحان الله. قوله تعالى: وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي: يصلّون. وقيل: سبب نزول هذه الآية أن كفار مكة قالوا: أنسجد لما تأمُرنا؟ فنزلت هذه الآية تخبر أن الملائكة وهم أكبر شأنا، لا يتكبَّرون عن عبادة الله. وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (607) «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرتُ بالسّجود فعصيت فلي النّار» .

_ حديث صحيح. أخرجه مسلم 81 وابن ماجة 1052 وأحمد 2/ 443 وابن خزيمة 549 وابن حبان 2759 والبغوي في «شرح السنة» 654 من حديث أبي هريرة.

سورة الأنفال

سورة الأنفال وهي مدنيّة بإجماعهم. وحكى الماورديّ عن ابن عباس أنّ فيها سبع آيات مكّيّات، أوّلها: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنفال (8) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (608) أحدها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن اسر أسيراً فله كذا وكذا» ، فأما المشيخة، فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان، فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقال المشيخة للشبان: أشركونا معكم، فانا كنا لكم ردءاً فأبوا، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت سورة (الأنفال) ، رواه عكرمة عن ابن عباس. (609) والثاني: أن سعد بن أبي وقاص أصاب سيفاً يوم بدر، فقال: يا رسول الله، هبه لي، فنزلت هذه الآية، رواه مصعب بن سعد عن أبيه. وفي رواية أخرى عن سعد قال: قتلت سعيد بن العاص، وأخذت سيفه فأتيت به رسول الله، فقال: «اذهب فاطرحه في القَبَض» فرجعت، وبي ما لا

_ حسن. ورد عن ابن عباس أخرجه أبو داود 2737 و 2738 و 2739 والنسائي في «التفسير» 217 وابن أبي شيبة 14/ 356 والحاكم 2/ 131 و 132 و 326 و 327، وابن حبان 5093 والطبري 15662 و 15663 و 15664، والبيهقي 6/ 291 و 292 و 315 و 316، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» 9483 من وجه آخر عن ابن عباس بنحوه لكن إسناده ساقط فيه محمد بن السائب الكلبي متروك متهم. انظر «تفسير القرطبي» 3181 بتخريجنا. صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 370 وسعيد بن منصور 2689 وأحمد 1/ 180 والطبري 15671 والواحدي 468. وورد من وجه آخر أخرجه مسلم 1748 مختصرا ومطولا وأبو داود 2740 والترمذي 3079 و 3189 والنسائي في «التفسير» 216 والبخاري في الأدب المفرد 24. وأبو يعلى 735 و 782 واستدركه الحاكم 2/ 132 والبيهقي 6/ 291 والواحدي ص 173 من حديث سعد بن أبي وقاص، بألفاظ متقاربة.

يعلمه إلا الله فما جاوزت إلا قريبا حتى نزلت سورة (الأنفال) ، فقال: «اذهب فخذ سيفك» . (610) وقال السدي: اختصم سعد وناس آخرون في ذلك السّيف، فسألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فأخذه النبيّ صلّى الله عليه وسلم منهم، فنزلت هذه الآية. (611) والثالث: أن الأنفال كانت خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ليس لأحد منها شيء، فسالوه أن يعطَيهم منها شيئاً، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي المراد بالأنفال ستة أقوال: أحدهما: أنها الغنائم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، وأبو عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين. وواحد الانفال: نفل، قال لبيد: إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ ... وباذنِ اللهِ ريْثي وعَجَلْ والثاني: أنها ما نفّله رسول الله صلّى الله عليه وسلم القاتلَ من سلَبِ قتيله. والثالث: أنها ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عَبْد أو دابة بغير قتال، قاله عطاء. وهذا والذي قبله مرويان عن ابن عباس أيضاً. (612) والرابع: أنه الخُمس الذي أخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الغنائم، قاله مجاهد. والخامس: أنه أنفال السرايا، قاله علي بن صالح بن حيّ. وحكي عن الحسن قال: هي السرايا التي تتقدم أمام الجيوش. والسادس: أنها زيادات يُؤْثِرُ بها الإِمام بعضَ الجيش لما يراه من المصلحة، ذكره الماوردي. وفي «عن» قولان: أحدهما: أنها زائدة، والمعنى: يسألونك الأنفال وكذلك قرأ سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وأُبيُّ بن كعب وأبو العالية: «يسألونك الأنفال» بحذف «عن» . والثاني: أنها أصل، والمعنى: يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ أو عن حكم الأنفال وقد ذكرنا في سبب نزولها ما يتعلق بالقولين. وذُكر أنهم إنما سألوا عن حكمها لأنها كانت حراماً على الأُمم قبلهم. (فصل:) واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فقال بعضهم: إنها ناسخة من وجه، منسوخة من وجه، وذلك أن الغنائم كانت حراماً في شرائع الأنبياء المتقدمين، فنسخ الله ذلك بهذه الآية، وجعل الأمر في الغنائم إلى ما يراه الرّسول صلّى الله عليه وسلم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «1» . وقال آخرون: المراد بالأنفال شيئان: أحدهما: ما يجعله الرّسول صلّى الله عليه وسلم لطائفة من شجعان العسكر ومتقدميه، يستخرج به نصحهم، ويحرِّضهم على القتال. والثاني: ما يفضُل

_ ضعيف. أخرجه الطبري 15685 عن السدي مرسلا. وورد من مرسل سعيد بن جبير. أخرجه أبو جعفر بن النحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص 144 عن سعيد بن جبير مرسلا فهو ضعيف، وعلته الإرسال، لكن يشهد لما قبله. ضعيف. أخرجه البيهقي 6/ 293 والطبري 15679 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. مرسل أخرجه الطبري 15660 و 15661 عن مجاهد.

[سورة الأنفال (8) : آية 2]

من الغنائم بعد قسمتها كما روي عن ابن عمر قال: (613) بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سريَّة، فغنمنا إبلاً، فأصاب كل واحد منّا عشر بعيراً، ونفلنا بعيراً بعيراً. فعلى هذا هي محكمة، لأن هذا الحكم باقٍ إلى وقتنا هذا. (فصل:) ويجوز النَّفَل قبل إحراز الغنيمة، وهو أن يقول الإمام: من أصاب شيئاً فهو له، وبه قال الجمهور. فأما بعد إحرازها، ففيه عن أحمد روايتان. وهل يستحق القاتل سَلَبَ المقتول إذا لم يشرطه له الإمام، فيه قولان: أحدهما: يستحقه، وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي. والثاني: لا يستحقه ويكون غنيمة للجيش، وبه قال أبو حنيفة ومالك وعن أحمد روايتان كالقولين. قوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي: يحكمان فيها ما أرادا، فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك مخالفته وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ قال الزجاج: معنى «ذات بينكم» حقيقة وصلكم. والبين: الوصل كقوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» . ثم في المراد بالكلام قولان: أحدهما: أن يَرُدَّ القويُّ على الضعيف، قاله عطاء. والثاني: ترك المنازعة تسليماً لله ورسوله. قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: اقبلوا ما أُمرتم به في الغنائم وغيرها. [سورة الأنفال (8) : آية 2] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ قال الزجاج: إذا ذُكرتْ عظمتُه وقدرتُه وما خوَّف به من عصاه، فزعت قلوبهم، قال الشاعر: لَعَمْرُكَ مَا أدْري وإِنِّي لأوجَلُ ... على أيِّنا تعدوا المنيَّة أوَّلُ «2» يقال: وجِل يَوْجَل وياجَل ويَيْجَل ويِيجَل، هذه أربع لغات حكاها سيبويه. وأجودها: يَوْجَل. وقال السدي: هو الرجل يهمُّ بالمعصية، فيذكر الله فينزِع عنها. قوله تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي: آيات القرآن. وفي قوله: زادَتْهُمْ إِيماناً ثلاثة أقوال: أحدها: تصديقاً، قاله ابن عباس. والمعنى: أنهم كلما جاءهم شيء عن الله آمنوا به، فيزدادوا إيماناً بزيادة الآيات. والثاني: يقيناً، قاله الضحاك. والثالث: خشية الله، قاله الربيع بن أنس. وقد ذكرنا معنى التّوكّل في سورة آل عمران «3» . [سورة الأنفال (8) : آية 3] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

_ صحيح. أخرجه البخاري 4338 ومسلم 1749 وأحمد 2/ 10 وأبو داود 1744 وابن حبان 4832 من حديث عمر. انظر القرطبي 3180 بتخريجنا.

[سورة الأنفال (8) : آية 4]

قوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ قال ابن عباس: يعني الصلوات الخمس. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يعني الزّكاة. [سورة الأنفال (8) : آية 4] أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، قال الزجاج: «حقاً» منصوب بمعنى دلت عليه الجملة، والجملة أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، فالمعنى: أحَقَّ ذلك حقاً. وقال مقاتل: المعنى: أولئك هم المؤمنون لا شك في إيمانهم كشكِّ المنافقين. قوله تعالى: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال عطاء: الجنة يرتقونها بأعمالهم، والرزق الكريم: ما أُعدَّ لهم فيها. [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 6] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ في متعلَّق هذه الكاف خمسة أقوال: أحدها: أنها متعلقة بالأنفال. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أن تأويله: امض لأمر الله في الغنائم وإن كرهوا، كما مضيت في خروجك من بيتك وهم كارهون، قاله الفراء. والثاني: أنّ الأنفال لله والرسول صلّى الله عليه وسلم بالحق الواجب، كما أخرجك ربك بالحق، وإن كرهوا ذلك، قاله الزجاج. والثالث: أن المعنى: يسألونك عن الأنفال مجادلة، كما جادلوك في خروجك، حكاه جماعة من المفسرين. والثاني: أنها متعلقة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا، والمعنى: إن التقوى والاصلاح خير لكم، كما كان إخراج الله نبيه محمداً خيراً لكم وإن كرهه بعضكم، هذا قول عكرمة. والثالث: أنها متعلّقة بقوله تعالى: يُجادِلُونَكَ، فالمعنى: مجادلتهم إياك في الغنائم كاخراج الله إياك إلى بدر وهم كارهون، قاله الكسائيّ. والرابع: أنها متعلّقة بقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، والمعنى: وهم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، ذكره بعض ناقلي التفسير. والخامس: أن «كما» في موضع قَسَم، معناها: والذي أخرجك من بيتك، قاله أبو عبيدة، واحتج بأن «ما» في موضع «الذي» ومنه قوله: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «1» ، قاله ابن الأنباري. وفي هذا القول بُعْد، لأن الكاف ليست من حروف الاقسام. وفي هذا الخروج قولان: أحدهما: أنه خروجه إلى بدر، وكره ذلك طائفة من أصحابه، لأنهم علموا أنهم لا يظفرون بالغنيمة إلا بالقتال. والثاني: أنه خروجه من مكة إلى المدينة للهجرة. وفي معنى قوله: «بالحق» قولان: أحدهما: أنك خرجت ومعك الحق. والثاني: أنك خرجت بالحق الذي وجب عليك. وفي قوله تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ قولان: أحدهما: كارهون خروجك. والثاني: كارهون صرف الغنيمة عنهم، وهذه كراهة الطبع لمشقة السفر والقتال، وليست كراهةً لأمر الله تعالى. قوله تعالى: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ يعني في القتال يوم بدر، لأنّهم خرجوا بغير عدّة، فقالوا: هلّا

_ (1) سورة الليل: 3.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 7 إلى 8]

أخبرتنا بالقتال لنأخذ العُدَّة، فجادلوه طلبا للرخصة في ترك القتال. وفي قوله تعالى: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ ثلاثة أقوال: أحدهما: تبيَّن لهم فرضُه. والثاني: تبيَّن لهم صوابه. والثالث: تبيَّن لهم أنك لا تفعل إلا ما أُمِرتَ به. وفي «المجادلين» قولان: أحدهما: أنهم طائفة من المسلمين، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنهم المشركون، قاله ابن زيد، فعلى هذا، يكون جدالهم في الحق الذي هو التوحيد، لا في القتال. فعلى الأول، يكون معنى قوله تعالى: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ أي: في لقاء العدو وَهُمْ يَنْظُرُونَ، لأن أشد حال من يساق إلى الموت أن يكون ناظراً إليه، وعالماً به. وعلى قول ابن زيد: كأنما يساقون إلى الموت حين يُدعَوْن إلى الإسلام لكراهتهم إيّاه. [سورة الأنفال (8) : الآيات 7 الى 8] وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. (614) قال أهل التفسير: أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش، حتى إذا دنا من بدر، نزل جبريل فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم بذلك، فخرج في جماعة من أصحابه يريدهم، فبلغهم ذلك فبعثوا عمرو بن ضمضم الغفاري إلى مكة مستغيثاً، فخرجت قريش للمنع عنها، ولحق أبو سفيان بساحل البحر، ففات رسولَ الله، ونزل جبريل بهذه الآية: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ. والمعنى: اذكروا إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين. والطائفتان: أبو سفيان وما معه من المال، وأبو جهل ومن معه من قريش فلما سبق أبو سفيان بما معه كتب إلى قريش: إن كنتم خرجتم لتُحرِزوا ركائبكم فقد أحرزتُها لكم. فقال أبو جهل: والله لا نرجع. وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد القوم. فكره أصحابه ذلك وودُّوا أن لو نالوا الطائفة التي فيها الغنيمة دون القتال فذلك قوله: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ أي: ذاتِ السلاح. يقال: فلان شاكي السلاحِ بالتخفيف، وشاكٌّ في السلاح بالتشديد، وشائك. قال أبو عبيدة: ومجاز الشوكة الحد يقال: ما أشد شوكةَ بني فلان، أي: حَدَّهم. وقال الأخفش: إنما أنَّث «ذات الشوكة» لأنه يعني الطائفة. قوله تعالى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ في المراد بالحق قولان «1» : أحدهما: أنه الإسلام، قاله

_ أخرجه الطبري 15732 من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس كل قد حدثني بعض هذا الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا: لما سمع ... فذكره بنحوه وأتم. وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 360 بتخريجنا.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 إلى 10]

ابن عباس في آخرين. والثاني: أنه القرآن، والمعنى: يُحِق ما أنزل إليك من القرآن. قوله تعالى: بِكَلِماتِهِ أي: بِعداتِه التي سبقت من إعزاز الدّين، كقوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «1» . قوله تعالى: وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي: يجتث أصلهم وقد بَيَّنَّا ذلك في (الأنعام) «2» . قوله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ المعنى: ويريد أن يقطع دابر الكافرين كيما يحق الحق. وفي هذا الحق القولان المتقدمان. فأما الباطل، فهو الشرك والمجرمون ها هنا: المشركون. [سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 10] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ. (615) سبب نزولها ما روى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر، نظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيِّف، ونظر إلى المشركين وهم ألف وزيادة، فاستقبل القبلة، ثم مدَّ يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: «اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إنك إن تُهْلِكْ هذه العصابة لا تُعبَدْ في الأرض أبداً» فما زال يستغيث ربه ويدعوه، حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر الصديق فأخذ رداءه فردّاه به، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فانه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله تعالى هذه الآية. قوله تعالى: إِذْ قال ابن جرير: هي من صلة «يبطل» . وفي قوله تعالى: تَسْتَغِيثُونَ قولان: أحدهما: تستنصرون. والثاني: تستجيرون. والفرق بينهما أن المستنصر يطلب الظفر، والمستجير يطلب الخلاص. وفي المستغيثين قولان: أحدهما: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون، قاله الزّهري. والثاني: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله السدي. فأما الإمداد فقد سبق في (آل عمران) «3» . وقوله تعالى: بِأَلْفٍ قرأ الضحاك، وأبو رجاء: «بآلاف» بهمزة ممدودة وبألف على الجمع. وقرأ أبو العالية، وأبو المتوكل: «بألوف» برفع الهمزة واللام وبواو بعدها على الجمع. وقرأ ابن حَذْلَم، والجحدري: «بأُلُفٍ» بضم الألف واللام من غير واو ولا ألف، وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران: «بِيَلْفٍ» بياء مفتوحة وسكون اللام من غير واو ولا ألف. فأما قوله: مُرْدِفِينَ فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «مردِفين» بكسر الدال. قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، والفراء: هم المتتابعون. وقال أبو علي: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكونوا مردفين مثلهم، تقول: أردفت زيداً دابتي فيكون المفعول الثاني محذوفاً في الآية. والثاني: أن يكونوا جاءوا

_ صحيح. أخرجه مسلم 1763 والترمذي 3081، وابن حبان 4793 والبيهقي 6/ 321، وفي «الدلائل» 3/ 51- 52، والطبري 15747 من حديث عمر.

[سورة الأنفال (8) : آية 11]

بعدهم تقول العرب: بنو فلان مردوفونا، أي: هم يجيئون بعدنا. قال أبو عبيدة: مردفين: جاءوا بعدُ. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: «مردَفين» بفتح الدال. قال الفراء: أراد: فُعِلَ ذلك بهم، أي: إن الله أردف المسلمين بهم. وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل الناجي، وأبو مجلز: «مُرَدَّفين» بفتح الراء والدال مع التشديد. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران: «مُردِفين» برفع الراء وكسر الدال. وقال الزجاج: يقال: ردفت الرجلَ: إذا ركبتُ خلفه، وأردفتُه: إذا أركبتُه خلفي. ويقال: هذه دابة لا تُرادِف، ولا يقال: لا تُردِف. ويقال: أردفتُ الرجلَ: إذا جئتَ بعده. فمعنى «مردفين» يأتون فرقة بعد فرقة. ويجوز في اللغة: مُرَدِّفين ومُرُدِّفين ومُرِدِّفين، فالدال مكسورة مشددة على كل حال، والراء يجوز فيها الفتح والضم والكسر. قال سيبويه: الأصل مرتدفين، فأدغمت التاء في الدال فصارت مُرَدِّفين لأنك طرحت حركة التاء على الراء وإن شئت لم تطرح حركة التاء، وكسرت الراء لالتقاء الساكنين. والذين ضموا الراء، جعلوها تابعة لضمة الميم. وقد سبق في (آل عمران) «1» تفسير قوله تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى، وكان مجاهد يقول: ما أمد الله النبي صلّى الله عليه وسلم بأكثر من هذه الألف التي ذُكرت في سورة (الأنفال) «2» وما ذَكَر الثلاثة والخمسةَ إلا بشرى، ولم يُمَدُّوا بها والجمهور على خلافه، وقد ذكرنا اختلافهم في عدد الملائكة في سورة (آل عمران) «3» . [سورة الأنفال (8) : آية 11] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) قوله تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ قال الزجاج: «إذ» موضعها نصب على معنى: وما جعله الله إلا بشرى، في ذلك الوقت، ويجوز أن يكون المعنى: اذكروا إذ يغشاكم النعاس. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «إذ يغشاكم» بفتح الياء وجزم الغين وفتح الشين وألف، «النعاسُ» بالرفع. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «يُغَشِّيكم» بضم الياء وفتح الغين مشددة الشين مكسورة، «النعاسَ» بالنصب. وقرأ نافع: «يُغْشِيكم» بضم الياء وجزم الغين وكسر الشين «النعاسَ» بالنصب. وقال أبو سليمان الدمشقي: الكلام راجع على قوله تعالى: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ إذ يغشاكم النعاس. قال الزجاج: و «أمنةَ» منصوب: مفعول له، كقولك: فعلت ذلك حذر الشر. يقال: أمنتُ آمَنُ أمْناً وأماناً وأمَنَةً. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو العالية، وابن يعْمر، وابن محيصن: «أمْنَةً منه» بسكون الميم. قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء. (616) قال ابن عباس: نزل النبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم بدر، وبينه وبين الماء رملة، وغلبهم المشركون على

_ ورد من وجوه تتأيد بمجموعها. أخرجه الطبري 15783 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف. فيه علي بن أبي طلحة لم يسمع ابن عباس. وأخرجه أيضا 15782 عن قتادة مرسلا بنحوه. وكرره 15785 عن السدي مرسلا بنحوه. وكرره 15792 عن الضحاك مرسلا بنحوه. وفي رواية الطبري وردت كلمة رملة (دعصة) والدعص: قطعة من الرمل مستديرة، أو الكثيب منه. والدعصاء: الأرض السهلة تحمى عليها الشمس.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 12 إلى 14]

الماء، فأصاب المسلمينَ الظمأُ، وجعلوا يصلّون محدِثين، وألقى الشيطان في قلوبهم الوسوسة، يقول: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلُّون محدِثين، فأنزل الله عليهم مطراً، فشربوا وتطَّهروا، واشتد الرمل حين أصابه المطر، وأزال الله رجز الشيطان، وهو وسواسه، حيث قال: قد غلبكم المشركون على الماء. وقال ابن زيد: رجز الشيطان: كيده، حيث أوقع في قلوبهم أنه ليس لكم بهؤلاء القوم طاقة. وقال ابن الأنباري: ساءهم عدم الماء عند فقرهم إليه، فأرسل الله السماء، فزالت وسوسة الشيطان التي تُكسب عذابَ الله وغضبه، إذ الرجز: العذاب. قوله تعالى: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ الربط: الشد. و «على» في قول بعضهم صلة، فالمعنى: وليربط قلوبكم. وفي الذي ربط به قلوبهم وقوَّاها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الصبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه الإيمان، قاله مقاتل. والثالث: أنه المطر الذي أرسله يثبِّت به قلوبهم بعد اضطرابها بالوسوسة التي تقدم ذكرها. قوله تعالى: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ في هاء «به» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الماء فان الأرض كانت رَمِلة، فاشتدت بالمطر، وثبتت عليها الأقدام، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي في آخرين. والثاني: انها ترجع إلى الربط، فالمعنى: ويثبت بالربط الأقدام، ذكره الزّجّاج. [سورة الأنفال (8) : الآيات 12 الى 14] إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ قال الزجاج: «إذ» في موضع نصب، والمعنى: وليربط إذ يوحي. ويجوز أن يكون المعنى: واذكروا إذ يوحي. قال ابن عباس: وهذا الوحي إلهام. قوله تعالى: إِلَى الْمَلائِكَةِ وهم الذين أمدَّ بهم المسلمين. أَنِّي مَعَكُمْ بالعون والنصرة. فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فيه أربعة أقوال: أحدها: قاتلوا معهم، قاله الحسن. والثاني: بشِّروهم بالنصر فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل، ويقول: أبشروا فان الله ناصركم، قاله مقاتل. والثالث: ثبِّتوهم بأشياء تُلْقُونها في قلوبهم تَقوى بها، ذكره الزجاج. والرابع: صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد، ذكره الثعلبي. فأما الرعب، فهو الخوف. قال السائب بن يسار: كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السُّوائيَّ عن الرعب الذي ألقاه الله في قلوب المشركين كيف؟ كان يأخذ الحصى فيرمي به الطَّست فيطِنُّ، فيقول: كنا نجد في أجوافنا مثل هذا. قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ في المخاطب بهذا قولان «1» : أحدهما: أنهم الملائكة. قال

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 197: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين، فعلمهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف: أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل وقوله فَوْقَ الْأَعْناقِ محتمل أن يكون مرادا به الرؤوس، ومحتمل أن يكون مرادا له: من فوق جلدة الأعناق: فيكون معناه: على. الأعناق. وإذا احتمل ذلك صح قول من قال: معناه: الأعناق. وإذا كان الأمر محتملا ما ذكرنا في التأويل، لم يكن لنا أن نوجهه إلى بعض معانيه دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها. ولا حجة تدل على خصوصه، فالواجب أن يقال: إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم، أصحاب نبيه صلّى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدرا اه.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 إلى 16]

ابن الأنباري: لم تعلم الملائكة أين تقصد بالضرب من الناس، فعلَّمهم الله تعالى ذلك. والثاني: أنهم المؤمنون، ذكره جماعة من المفسرين. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: فاضربوا الأعناق، و «فوق» صلة، وهذا قول عطية، والضحاك، والأخفش، وابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: «فوق» بمعنى «على» ، تقول: ضربته فوق الرأس، وضربته على الرأس. والثاني: اضربوا الرؤوس لانها فوق الأعناق، وبه قال عكرمة. وفي المراد بالبنان ثلاثة أقوال: أحدها: إنه الأطراف، قاله ابن عباس، والضحاك. وقال الفراء: علَّمَهم مواضع الضرب، فقال: اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل. وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة: البنان: أطراف الأصابع. قال ابن الأنباري: واكتفى بهذا من جملة اليد والرِّجل. والثاني: أنه كل مَفْصِل، قاله عطية، والسدي. والثالث: أنه الأصابع وغيرها من جميع الأعضاء، والمعنى: أنه أباحهم قتلهم بكل نوع، هذا قول الزجاج. قال: واشتقاق البنان من قولهم: أبَنَّ بالمكان: إذا أقام به فالبنان به يُعتمل كلُّ ما يكون للاقامة والحياة. قوله تعالى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ «ذلك» إشارة إلى الضرب، و «شاقوا» بمعنى: جانبوا، فصاروا في شقِّ المؤمنين. قوله تعالى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ خطاب للمشركين والمعنى: ذوقوا هذا في عاجل الدنيا. وفي فتح «أنَّ» قولان: أحدهما: باضمار فعل، تقديره: ذلكم فذوقوه واعلموا أن للكافرين. والثاني: أن يكون المعنى: ذلك بأن للكافرين عذاب النار. فاذا ألقيت الباء، نصبت. وإن شئت، جعلت «أن» في موضع رفع يريد: ذلكم فذوقوه، وذلكم أن للكافرين عذاب النار، هذا معنى قول الفرّاء. [سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 16] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) قوله تعالى: إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً، الزحف: جماعة يزحفون إلى عدوهم قاله الليث. والتزاحف: التداني والتقارب، قال الأعشى: لِمَنِ الظَّعَائِنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّف «1» قال الزجاج: ومعنى الكلام: إذا واقفتموهم للقتال فلا تُدبروا وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يوم حربهم دُبُرَهُ إلا أن يتحرف ليقاتل، أو يتحيز إلى فئة ف «متحرِّفاً» و «متحيِّزاً» منصوبان على الحال. ويجوز أن يكون نصبهما على الاستثناء فيكون المعنى: إلا رجلاً متحرفاً أو متحيزاً. وأصل متحيز: مُتْحَيْوِز فأدغمت الياء في الواو. قوله تعالى: وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أي: مرجعه إليها ولا يدل ذلك على التخليد.

_ (1) البيت منسوب إلى الأعشى.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 17 إلى 18]

(فصل:) اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هذه خاصة في أهل بدر، وهو مروي عن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، والحسن، وابن جبير، وقتادة، والضحاك. وقال آخرون: هي على عمومها في كل منهزم وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. وقال آخرون هي على عمومها، غير أنها نسخت بقوله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ «1» فليس للمسلمين أن يفروا من مِثلَيهم، وبه قال عطاء بن أبي رباح. وروى أبو طالب عن أحمد أنه سئل عن الفرار من الزحف، فقال: لا يفر رجل من رجلين فان كانوا ثلاثة، فلا بأس. وقد نُقل نحو هذا عن ابن عباس، وقال محمد بن الحسن: إذا بلغ الجيش اثني عشر ألفاً، فليس لهم أن يفروا من عدوهم، وإن كثُر عددهم. ونقل نحو هذا عن مالك. ووجهه ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (617) «ما هُزم قوم إذا بلغوا اثني عشر ألفاً من قلة إذا صبروا وصدقوا» . [سورة الأنفال (8) : الآيات 17 الى 18] فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وقرأ ابن عامر، وأهل الكوفة إلا عاصماً «ولكِنِ اللهُ قتلهم» «ولكنِ اللهُ رمى» بتخفيف النون ورفع اسم الله فيهما. وسبب نزول هذا الكلام أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما رجعوا عن بدر جعلوا يقولون: قَتَلْنا وقَتَلْنا، هذا معنى قول مجاهد. فأما قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ففي سبب نزوله ثلاثة أقوال: (618) أحدها: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال لعلي: ناولني كفاً من حصباء، فناوله، فرمى به في وجوه القوم، فما بقي منهم أحد إلا وقعت في عينه حصاة» . وقيل: أخذ قبضة من تراب، فرمى بها، وقال: «شاهت الوجوه» فما بقي مشرك إلا شُغل بعينه يعالج التراب الذي فيها، فنزلت وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وذلك يوم بدر هذا قول الأكثرين. وقال ابن الأنباري: وتأويل شاهت: قبحت يقال: شاه وجهه يشوه شَوهاً وشُوهة، ويقال: رجل أشوه، وامرأة شوهاء: إذا كانا قبيحين. (619) والثاني: أن أُبي بن خلف أقبل يوم أحد إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم يريده، فاعترض له رجال من

_ حسن، أخرجه أبو داود 2611. والترمذي 1555 وعبد الرزاق 9699 وأحمد 1/ 299 والدارمي 2/ 215 وأبو يعلى 2714 وابن خزيمة 2538، وابن حبان 4717 والحاكم 1/ 443 و 2/ 101 وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لخلاف بين الناقلين فيه عن الزهري، ووافقه الذهبي في «مختصره» وأخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» 1/ 238. و 1/ 339. والبيهقي 9/ 156. ورد من وجوه متعددة تتأيد بمجموعها. أخرجه الطبري 15836 عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي مرسلا. وكرره 15837 عن قتادة. وكرره 15838 عن السدي. وكرره 15839 عن ابن زيد. وكرره 15840 عن ابن عباس. وكرره 15841 عن ابن إسحاق. عزاه المصنف لابن المسيب عن أبيه فهو موصول. وعزاه «ابن العربي» لابن المسيب 998، وكذا ابن كثير 2/ 370 والسيوطي في «الدر» 3/ 317. وهو في «المستدرك» 2/ 327 و 328 و «أسباب النزول» 471 عن

المؤمنين، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخلّوا سبيله، وطعنه النبيّ صلّى الله عليه وسلم بحربته، فسقط أُبيٌّ عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور، فقالوا: إنما هو خدش، فقال: والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا أجمعون، فمات قبل أن يَقْدَم مكة فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن أبيه. (620) والثالث: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رمى يوم خيبر بسهم، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحَقيق وهو على فراشه، فنزلت هذه الآية، ذكره أبو سليمان الدمشقي في آخرين. قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ اختلفوا في معنى إضافة قتلهم إليه على أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه قتلهم بالملائكة الذين أرسلهم. والثاني: أنه أضاف القتل إليه لأنه تولَّى نصرهم. والثالث: لأنه ساقهم إلى المؤمنين، وأمكنهم منهم. والرابع: لأنه ألقى الرعب في قلوبهم. وفي قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: وما ظفرت أنت ولا أصبت، ولكن الله اظفرك وأيدك، قاله أبو عبيدة. والثاني: وما بلغ رميُك كفاً من تراب أو حصى أن تملأ عيون ذلك الجيش الكثير، إنما الله تولى ذلك قاله الزجاج. والثالث: وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي: لُينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والأجر. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لدعائهم عَلِيمٌ بنيَّاتهم. قوله تعالى: ذلِكُمْ قال الزّجّاج: موضعه رفع

_ موسى بن عقبة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه. وعلى هذا هو موصول، وإسناده صحيح على شرط البخاري، وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! ولعل ذكر «أبيه» وهم من بعض النساخ لأنه قول مرجوح. وقد أخرجه الطبري 15842 عن الزهري وقد صوب الإمام ابن العربي كون ذلك في غزوة بدر. وكذا قال الحافظ ابن كثير 2/ 370: وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جدا ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها، ونقله الشوكاني عنه في «فتح القدير» 2/ 339 ووافقه. لم أقف عليه. وعزاه ابن كثير في «التفسير» 2/ 370 لعبد الرحمن بن جبير بن نفير، وقال: وهذا غريب، لأن سياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة، وهذا مما لا يخفى على أهل العلم اه.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 19 إلى 20]

والمعنى: الأمر ذلكم. وقال غيره: «ذلكم» إشارة إلى القتل والرمي والبلاء الحسن. وَأَنَّ اللَّهَ أي: واعلموا أن الله. والذي ذكرناه في فتح «أنّ» في قوله تعالى: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ هو مذكور في فتح «أنّ» هذه. قوله تعالى: مُوهِنُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «مُوَهِّنٌ» بفتح الواو وتشديد الهاء منونة «كيدَ» بالنصب. وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «موهنٌ» ساكنة الواو «كيدَ» بالنصب. وروى حفص عن عاصم «موهنُ كيدِ» مضاف. والموهن: المضعف، والكيد: المكر. [سورة الأنفال (8) : الآيات 19 الى 20] إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) قوله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا، في سبب نزولها خمسة أقوال: (621) أحدها: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم استنصروا الله وسألوه الفتح، فنزلت هذه الآية وهذا المعنى مرويّ عن أبي بن كعب، وعطاء الخراساني. (622) والثاني: أن أبا جهل قال: اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. (623) والثالث: أن المشركين أخذوا بأستار الكعبة قبل خروجهم إلى بدر، وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم القبيلتين فنزلت هذه الآية قاله السدي. (624) والرابع: أن المشركين قالوا: اللهم إنا لا نعرف ما جاء به محمد، فافتح بيننا وبينه بالحق فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. والخامس: أنهم قالوا بمكة: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» ، فعذِّبوا يوم بدر، قاله ابن زيد. فخرج من هذه الأقوال أن في المخاطَبين بقوله تعالى: «إن تستفتحوا» قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون. والثاني: المشركون وهو الأشهر.

_ لم أره مسندا عنهما. وأثر أبي ذكره البغوي 2/ 280 بدون إسناد. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة. وورد من مرسل الزهري أخرجه الطبري 15750 و 15851. وورد عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، أخرجه الطبري 15852 و 15859 و 15860. وورد عن يزيد بن رومان، أخرجه الطبري 15862. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها. ضعيف بهذا اللفظ. أخرجه الطبري 15854 عن السدي مرسلا قال كان المشركون...... وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 475 مرسلا وعزاه إلى السدي والكلبي. وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 371. هو مرسل، والمرسل من قسم الضعيف. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 476 عن عكرمة مرسلا.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 21 إلى 22]

وفي الاستفتاح قولان: أحدهما: انه الاستنصار قاله ابن عباس، والزجاج في آخرين. فان قلنا: إنهم المسلمون، كان المعنى: إن تستنصروا فقد جاءكم النّصر بالملائكة وإن قلنا: هم المشركون احتمل وجهين. أحدهما: إن تستنصروا فقد جاء النصر عليكم. والثاني: إن تستنصروا لأحب الفريقين إلى الله، فقد جاءكم النصر لأحب الفريقين. والثاني: أن الاستفتاح: طلب الحكم، والمعنى: إن تسألوا الحكم بينكم وبين المسلمين، فقد جاءكم الحكم وإلى هذا المعنى ذهب عكرمة، ومجاهد، وقتادة. فأمّا قوله تعالى: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فهو خطاب للمشركين على قول الجماعة. وفي معناه قولان: أحدهما: إن تنتهوا عن قتال محمّد صلى الله عليه وسلم، والكفر، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: إن تنتهوا عن استفتاحكم فهو خير لكم لأنه كان عليهم لا لهم، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ قولان: أحدهما: وإن تعودا إلى القتال، نَعُدْ إلى هزيمتكم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وإن تعودوا إلى الاستفتاح، نعد إلى الفتح لمحمّد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. قوله تعالى: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً أي: جماعتكم وإن كثرت، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالعون والنصر. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: «وإِن الله» بكسر الألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «وأَن» بفتح الألف. فمن قرأ بكسر «أن» استأنف. قال الفراء: وهو أحب إليَّ من فتحها. ومن فتحها، أراد: ولأن الله مع المؤمنين. قوله: تعالى وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ فيه قولان: أحدهما: لا تولّوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: لا تولَّوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ما نزل من القرآن، روي القولان عن ابن عباس. [سورة الأنفال (8) : الآيات 21 الى 22] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها نزلت في بني عبد الدار بن قصيّ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في اليهود، قريظة والنضير. روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: في المنافقين، قاله ابن إسحاق، والواقدي، ومقاتل. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أنهم قالوا: سمعنا، ولم يتفكَّرُوا فيما سمعوا، فكانوا كمن لم يسمع، قاله الزجاج. والثاني: أنهم قالوا: سمعنا سماع من يقبل، وليسوا كذلك، حكي عن مقاتل. قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ اختلفوا فيمن نزلت على قولين «2» :

_ (1) قال الطبري في تفسيره 6/ 209: وللذي قال ابن إسحاق وجه، ولكن قوله وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ في سياق قصص المشركين، ويتلوه الخبر عنهم بذمهم. وهو قوله إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ ... فلأن يكون ما بينهما خبرا عنهم أولى من أن يكون خبرا عن غيرهم اهـ. (2) ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره 2/ 373: ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا، لأن كلا منهم مسلوب الفهم الصحيح والقصد إلى العمل الصالح، ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح، ولا قصد لهم صحيح لمن فرض أن لهم فهما فقال وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أي لأفهمهم ...

[سورة الأنفال (8) : آية 23]

أحدهما: أنها نزلت في بني عبد الدار بن قصيّ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في المنافقين، قاله ابن إسحاق، والواقدي. والدواب: اسم كل حيوان يَدِبُّ وقد بينا في سورة (البقرة) «1» معنى الصم والبكم، ولم سماهم بذلك. [سورة الأنفال (8) : آية 23] وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً فيه أربعة أقوال: أحدها: ولو علم فيهم صدقاً وإسلاماً. والثاني: لو علم فيهم خيراً في سابق القضاء. والثالث: لو علم أنهم يَصْلُحون. والرابع: لو علم أنهم يَصْغَوْنَ. وفي قوله: لَأَسْمَعَهُمْ ثلاثة أقوال «2» : أحدها: لأسمعهم جواب كلِّ ما يسألون عنه، قاله الزجاج. والثاني: لرزقهم الفهم، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث: لأسمعهم كلام الموتى يَشهدون بنبوَّتك، حكاه الماوردي. وفي قوله تعالى: وَهُمْ مُعْرِضُونَ قولان: أحدهما: مكذِّبون، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وهم معرضون عمّا أسمعهم لمعاندتهم، قاله الزّجّاج. [سورة الأنفال (8) : آية 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) قوله تعالى: اسْتَجِيبُوا أي: أجيبوا. قوله تعالى: إِذا دَعاكُمْ يعني الرسول لِما يُحْيِيكُمْ وفيه ستة أقوال «3» : أحدها: أن الذي يحييكم: كلُّ ما يدعو الرسولُ إليه، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس. (625) وفي أفراد البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلىّ قال: كنت أصلّي في المسجد فدعاني

_ صحيح. أخرجه البخاري 4474 و 4647 و 4703 و 5006، وأبو داود 1458 والنسائي 2/ 139، وابن ماجة 3785، والطيالسي 1266. وأحمد 3/ 450 و 4/ 211. وابن حبان 777، والطبراني 22/ 303، والبيهقي 2/ 368. كلهم من حديث أبي سعيد بن المعلى.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه، ثم أتيتُه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، فقال: «ألم يقل الله: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟» قلت: بلى، ولا أعود إن شاء الله. والثاني: أنه الحق، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث: أنه الإيمان، رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال السدي. والرابع: أنه اتِّباع القرآن، قاله قتادة، وابن زيد. والخامس: أنه الجهاد، قاله ابن إسحاق. وقال ابن قتيبة: هو الجهاد الذي يحيي دينَهم ويعليهم. والسادس: أنه إحياء أمورهم، قاله الفراء. فيخرَّج في إحيائهم خمسة أقوال: أحدها: أنه إصلاح أمورهم في الدنيا والآخرة. والثاني: بقاء الذكر الجميل لهم في الدنيا، وحياة الأبد في الآخرة. والثالث: أنه دوام نعيمهم في الآخرة. والرابع: أنه كونهم مؤمنين، لأن الكافر كالميِّت. والخامس: أنه يحييهم بعد موتهم، وهو على قول من قال: هو الجهاد، لأن الشهداءَ أحياءٌ، ولأن الجهاد يُعِزُّهم بعد ذُلِّهم، فكأنَّهم صاروا به أحياءً. قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وفيه عشرة أقوال «1» : أحدها: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: يحول بين المؤمن وبين معصيته، وبين الكافر وبين طاعته، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك والفراء. والثالث: يحول بين المرء وقلبه حتى لا يتركه يعقل، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري: المعنى يحول بين المرء وعقله، فبادروا الأعمال، فانكم لا تأمنون زوال العقول، فتحصُلون على ما قدمتم. والرابع: أن المعنى: هو قريب من المرء، لا يخفى عليه شيء من سرِّه، كقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «2» ، وهذا معنى قول قتادة. والخامس: يحول بين المرء وقلبه، فلا يستطيع إيماناً ولا كفراً إلا بإذنه، قاله السدي. والسادس: يحول بين المرء وبين هواه، ذكره ابن قتيبة. والسابع: يحول بين المرء وبين ما يتمنَّى بقلبه من طول العمر والنَّصر وغيره. والثامن: يحول بين المرء وقلبه بالموت، فبادروا الأعمال قبل وقوعه. والتاسع: يحول بين المرء وقلبه بعلمه، فلا يضمر العبد شيئاً في نفسه إلا والله عالم به، لا يقدر على تغييبه عنه. والعاشر: يحول بين ما يوقعه في قلبه من خوف أو أمن، فيأمن بعد خوفه، ويخاف بعد أمنه، ذكر معنى هذه الأقوال ابن الأنباري. وحكى الزجاج أنهم لما فكَّروا في كثرة عدوِّهم وقلة عددهم، فدخل الخوف قلوبهم، أعلمهم الله تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدله بالخوفِ الأمنَ، ويبدل عدوّه بالقوّة الضّعف، وقد أعلمت

_ (1) ذكر الطبري في «تفسيره» 6/ 215: وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال: إن ذلك خبر من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم. وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئا من إيمان أو كفر، أو أن يعي به شيئا أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته، وذلك أن الحول «بين الشيء والشيء» إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل ... غير أنه ينبغي أن يقال: إن الله عم بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ عن أنه يحول بين العبد وقلبه، ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئا دون شيء، والكلام محتمل كل هذه المعاني، فالخبر على العموم حتى يخصه ما يجب التسليم له ا. هـ. [.....] (2) سورة ق: 16.

[سورة الأنفال (8) : آية 25]

هذه الآية أن الله تعالى هو المقلِّب للقلوب، المتصرِّف فيها. قوله تعالى: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: للجزاء على أعمالكم. [سورة الأنفال (8) : آية 25] وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: (626) أحدها: أنها نزلت في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله ابن عباس، والضحاك. (627) وقال الزبير بن العوام: لقد قرأناها زماناً، وما نُرى أنَّا مِن أهلها، فاذا نحن المَعْنِيُّون بها. (628) والثاني: أنها نزلت في رجلين من قريش، قاله أبو صالح عن ابن عباس، ولم يسمِّهما. (629) والثالث: أنها عامة. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: في هذه الآية، أمر الله المؤمنين أن لا يُقِرُّوا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب. وقال مجاهد: هذه الآية لكم أيضاً. (630) والرابع: أنها نزلت في علي، وعمار، وطلحة، والزبير، قاله الحسن. وقال السدي: نزلت في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجمل. وفي الفتنة ها هنا سبعة أقوال: أحدها: القتال. والثاني: الضلالة. والثالث: السكوت عن إنكار المنكر. والرابع: الاختبار. والخامس: الفتنة بالأموال والأولاد. والسادس: البلاء. والسابع: ظهور البدع. فأمّا قوله تعالى: لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً فقال الفراء: أمرهم، ثم نهاهم، وفيه طرف من الجزاء، وإن كان نهيا، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ «1» أمرهم، ثم نهاهم وفيه تأويل الجزاء. وقال الأخفش: «لا تصيبن» ليس بجواب، وإنما هو نهي بعد نهي ولو كان جواباً ما دخلت النون. وذكر ابن الأنباري فيها قولين: أحدهما: أن الكلام تأويله تأويل الخبر، إذ كان المعنى: إن لا يتَّقوها، تُصِبْ الذين ظلموا، أي: لا تقع بالظالمين دون غيرهم، لكنها تقع بالصالحين والطالحين فلما ظهر الفعل ظهور النهي، والنهي راجع إلى معنى الأمر، إذ القائل يقول: لا تقم، يريد: دع القيام، ووقع مع هذا جواباً للأمر، أو كالجواب له، فأُكِّد له شبه النهي، فدخلت النون المعروف دخولها في النهي وما يضارعه. والثاني: أنّها

_ لم أره عن ابن عباس. وأخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» 3/ 321 عن الضحاك قوله. أخرجه الطبري 15918 عن قتادة عن الزبير، وهذا منقطع. وأخرجه 15919 عن الحسن عن الزبير، وهو منقطع أيضا. وأخرجه 15920 عن ابن صهبان عن الزبير. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم. عزاه المصنف لابن عباس من طريق أبي صالح، وهي رواية ساقطة. عزاه المصنف لابن عباس من طريق أبي صالح، وهي رواية ساقطة كما مر سابقا. مرسل. أخرجه الطبري 15917 عن الحسن مرسلا، وهو شاهد لما تقدم قبل حديث.

[سورة الأنفال (8) : آية 26]

نهي محض، معناه: لا يقصدنَّ الظالمون هذه الفتنة، فيهلكوا فدخلت النون لتوكيد الاستقبال، كقوله تعالى: لا يَحْطِمَنَّكُمْ. وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: لا تصيبن الفتنةُ الذين ظلموا. والثاني: لا يصيبن عقاب الفتنة. فان قيل: فما ذنب مَن لم يظلم؟ فالجواب: أنه بموافقته للأشرار، أو بسكوته عن الإنكار، أو بتركه للفرار، استحق العقوبة. وقد قرأ عليٌّ، وابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب «لَتصيبنَّ الذين ظلموا» بغير ألف. [سورة الأنفال (8) : آية 26] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ قال ابن عباس: نزلت في المهاجرين خاصة، كانت عِدَّتُهم قليلةً، وهم مقهورون في أرض مكة، يخافون أن يستلبهم المشركون. وفي المراد بالناس ثلاثة أقوال «1» : أحدهما: أنهم أهل مكة، قاله ابن عباس. والثاني: فارس والروم، قاله وهب بن منبِّه. والثالث: أنهم المشركون الذين حضروا بدراً، والمسلمون قليلون يومئذ، قاله قتادة. قوله تعالى: فَآواكُمْ فيه قولان: أحدهما: فآواكم إلى المدينة بالهجرة، قاله ابن عباس، والأكثرون. والثاني: جعل لكم مأوى تسكنون فيه آمنين، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى: وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ قولان: أحدهما: قوَّاكم بالملائكة يوم بدر، قاله الجمهور. والثاني: عضدكم بنصره في بدر وغيرها، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي قوله تعالى: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ قولان: أحدهما: أنها الغنائم التي أحلَّها لهم، قاله السدي. والثاني: أنها الخيرات التي مكّنهم منها، ذكره الماوردي. [سورة الأنفال (8) : آية 27] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) قوله تعالى: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال «2» : (631) أحدها: أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر وذاك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم، لما حاصر قريظة سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير، على أن يسيروا إلى أرض الشام، فأبى أن يعطيَهم

_ أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» 3/ 323 عن الكلبي، والكلبي ممن يضع الحديث، فخبره لا شيء.

ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبَوا، وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحاً لهم، لأن ولده وأهله كانوا عندهم، فبعثه إليهم، فقالوا: ما ترى، أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: إنه الذبح فلا تفعلوا، فأطاعوه، فكانت تلك خيانته قال أبو لبابة: فما زالت قدمايَ حتى عَرفتُ أني قد خنت الله ورسوله، ونزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، والأكثرين. (632) وروي أن أبا لبابة ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموتَ أو يتوب الله عليَّ، فمكث سبعة أيام كذلك، ثم تاب الله عليه، فقال: والله لا أَحُلُّ نفسي حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الذي يَحُلنُّي، فجاء فحلَّه بيده، فقال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجزئك الثلث» . (633) والثاني: أن جبريل أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اخرجوا إليه واكتموا» ، فكتب إليه رجل من المنافقين: إن محمداً يريدكم، فخذوا حذركم، فنزلت هذه الآية، قاله جابر بن عبد الله. والثالث: أنها نزلت في قتل عثمان بن عفان، قاله المغيرة بن شعبة «1» . (634) والرابع: أن قوماً كانوا يسمعون الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيفشونه حتى يبلغ المشركين، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. وفي خيانة اللهِ قولان: أحدهما: ترك فرائضه. والثاني: معصية رسوله. وفي خيانة الرسول قولان: أحدهما: مخالفته في السرِّ بعد طاعته في الظاهر. والثاني: ترك سنّته. وفي المراد بالأمانات ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها الفرائض، قاله ابن عباس. وفي خيانتها قولان. أحدهما: تنقيصها. والثاني: تركها. والثاني: أنها الدِّين، قاله ابن زيد فيكون المعنى: لا تُظهروا الإيمان وتُبطنوا الكفر. والثالث: أنها عامة في خيانة كلِّ مُؤتَمَنٍ، ويؤكِّده نزولها في ما جرى لأبي لبابة.

_ أخرجه الطبري 15937 عن الزهري مرسلا، فهو ضعيف. وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 376. باطل. أخرجه الطبري 15936 من حديث جابر بن عبد الله. وإسناده ضعيف فيه محمد المحرم مجهول. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» 522 وقال: غريب جدا في سنده وسياقه. قلت: المتن باطل، فالآية الكريمة تخاطب المؤمنين لا المنافقين، وإخبار جبريل أيضا لا يصح. والصحيح عموم الآية، وكذا اختاره الطبري وابن كثير وغيرهما. مرسل. أخرجه الطبري 15941 عن السدي مرسلا.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 28 إلى 29]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 28 الى 29] وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ قال ابن عباس: هذا خطاب لأبي لبابة، لأنه كانت له أموال وأولاد عند بني قريظة. فأما الفتنة، فالمراد بها: الابتلاء والامتحان الذي يُظهر ما في النفس من اتِّباع الهوى أو تجنُّبِه وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ خير من الأموال والأولاد. قوله تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ أي: بترك معصيته، واجتناب الخيانة لله ورسوله. قوله تعالى: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه المخرج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك، وابن قتيبة، والمعنى: يجعل لكم مخرجاً في الدين من الضلال. والثاني: أنه النجاة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسدي. والثالث: أنه النصر، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الفراء. والرابع: أنه هدى في قلوبهم يفرقون به بين الحق والباطل، قاله ابن زيد، وابن إسحاق. [سورة الأنفال (8) : آية 30] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا هذه الآية متعلّقة بقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ «2» فالمعنى: أَذْكِرِ المؤمنين ما مَنَّ الله به عليهم، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا. (الإشارة إلى كيفية مكرهم) (635) قال أهل التفسير: لمّا بويع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة، أشفقت قريش أن يعلوَ أمره، وقالوا: والله لكأنكم به قد كرَّ عليكم بالرجال، فاجتمع جماعة من أشرافهم ليدخلوا دار الندوة فيتشاوروا في أمره، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من أهل نجد، سمعت ما اجتمعتم له، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا من رأيي نصحاً، فقالوا: ادخل، فدخل معهم، فقالوا: انظروا في أمر هذا الرجل، فقال بعضهم: احبسوه في

_ أخرجه الطبري 15979 دون عجزه عن ابن عباس بسند ضعيف لانقطاعه بين ابن إسحاق وعبد الله بن أبي نجيح، وعجزه أخرجه الطبري 15982 وإسناده ضعيف، وورد هذا الخبر من مرسل السدي أخرجه الطبري 15983، ولبعضه شواهد، وبعضه الآخر منكر. وانظر «السيرة» لابن هشام 2/ 95 و 96 و «مجمع الزوائد» 7/ 27 و «دلائل النبوة» 2/ 466، 470 للبيهقي.

[سورة الأنفال (8) : آية 31]

وَثاق، وتربَّصوا به ريب المنون. فقال إبليس: ما هذا برأي، يوشك أن يثب أصحابه فيأخذوه من أيديكم. فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم. فقال: ما هذا برأي، يوشك أن يجمع عليكم ثم يسير إليكم. فقال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة غلاماً، ثم نعطي كل غلام سيفاً فيضربوه به ضربة رجل واحد، فيفرَّق دمه في القبائل، فلا أظن هذا الحي من قريش يقوى على حرب قريش كلِّها، فيقبلون العَقل ونستريح. فقال إبليس: هذا والله الرأي. فتفرَّقوا عن ذلك. وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت في مضجعه تلك الليلة، وأمر علياً فبات في مكانه، وبات المشركون يحرسونه، فلمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذن له الله في الخروج إلى المدينة، وجاء المشركون لَّما أصبحوا، فرأوا علياً، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتصُّوا أثره حتى بلغوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم يكن عليه نسج العنكبوت. فأما قوله تعالى: لِيُثْبِتُوكَ فقال ابن قتيبة: معنا: ليحبسوك. يقال: فلان مثبت وجعاً: إذا لم يقدر على الحركة. وللمفسرين فيه قولان: أحدهما: ليثبتوك في الوَثاق، قاله ابن عباس والحسن في آخرين. والثاني: ليثبتوك في الحبس، قاله عطاء والسدي في آخرين. وكان القومُ أرادوا أن يحبسوه في بيت ويسدوا عليه بابه ويلقوا إليه الطعام والشراب، وقد سبق بيان المكر في (آل عمران) «1» . [سورة الأنفال (8) : آية 31] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا. (636) ذكر أهل التفسير أن هذه الآيه نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة، وأنه لمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر قصص القرون الماضية، قال: لو شئت لقلت مثل هذا. وفي قوله تعالى: قَدْ سَمِعْنا قولان: أحدهما: قد سمعنا منك ولا نطيعك. والثاني: قد سمعنا قبل هذا مثله، وكان النضر يختلف إلى فارس تاجراً فيسمع العبّاد يقرءون الإنجيل. وقد بين التحدِّي كذب من قال لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا. وقد سبق معنى الأساطير في (الأنعام) «2» . [سورة الأنفال (8) : آية 32] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) قوله تعالى: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: (637) أحدها: أنها نزلت في النضر أيضاً، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير،

_ ورد من وجوه متعددة. أخرجه الطبري 15991 عن ابن جريج مرسلا بنحوه. وكرره 15992 عن السدي مرسلا بنحوه. وله شواهد مرسلة. أخرجه الطبري 15998 عن مجاهد. وأخرجه برقم 15999 عن عطاء. وأخرجه برقم 16000 عن السدي.

[سورة الأنفال (8) : آية 33]

ومجاهد، وعطاء، والسدي. (638) والثاني: أنها نزلت في أبي جهل، فهو القائل لهذا قاله أنس بن مالك، وهو مخرج في «الصحيحين» . والثالث: أنها نزلت في قريش، قالوا هذا ثم ندموا فقالوا: غفرانك اللهم، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ رواه أبو معشر عن يزيد بن رومان، ومحمد بن قيس. وفي المشار إليه بقوله تعالى: إِنْ كانَ هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن. والثاني: كل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بالتوحيد وغيره. والثالث: أنه إكرام محمد صلّى الله عليه وسلم بالنّبوة من بين قريش. [سورة الأنفال (8) : آية 33] وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ في المشار إليه قولان: أحدهما: أهل مكة. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: وما كان الله ليعذبهم وأنت مقيم بين أظهرهم. قال ابن عباس: لم تُعذَّب قرية حتى يخرج نبيُّها والمؤمنون معه. والثاني: وما كان الله ليعذِّبهم وأنت حي قاله أبو سليمان. والثاني: أن المشار إليهم المؤمنون، والمعنى: وما كان الله ليعذب المؤمنين بضرب من العذاب الذي أهلك به مَن قبلهم وأنت حي ذكره أبو سليمان الدمشقي. فصل: قال الحسن، وعكرمة: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ، وفيه بُعد، لأن النسخ لا يدخل على الأخبار. (639) وقال ابن أبزى: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكّة، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فخرج إلى المدينة، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وكان أولئك البقية من المسلمين بمكة يستغفرون! فلما خرجوا أنزل الله: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ. وجميع أقوال المفسّرين تدلّ على أنّ قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، كلام مبتدأ من إخبار الله عزّ وجلّ. وقد روي عن محمد بن إسحاق أنه قال: هذه الآية من قول المشركين، قالوا: والله إنَّ الله لا يعذبنا ونحن نستغفر، فردّ الله تعالى عليهم ذلك بقوله: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ. قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي معنى هذا الكلام خمسة أقوال «1» :

_ صحيح أخرجه البخاري 4649 ومسلم 2796 والواحدي 479 والبغوي 997 كلهم من حديث أنس. ضعيف. أخرجه الطبري 16004 مرسلا عن ابن أبزى وهذا مرسل، فهو ضعيف، والمتن غريب.

[سورة الأنفال (8) : آية 34]

أحدها: وما كان الله معذِّب المشركين، وفيهم من قد سبق له أن يؤمن رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، واختاره الزجاج. والثاني: وما كان الله معذِّبَهم وهم يستغفرون الله، فانهم كانوا يلّبون ويقولون: غفرانك وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وفيه ضعف، لأن استغفار المشرك لا أثر له في القبول. والثالث: وما كان الله معذِّبَهم، يعني المشركين، وهم- يعني المؤمنين الذين بينهم- يستغفرون روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضّحّاك، وابن مالك. قال ابن الأنباري: وُصفوا بصفة بعضهم، لأن المؤمنين بين أظهرهم، فأوقع العموم على الخصوص، كما يقال: قتل أهل المسجد رجلاً، وأخذ أهل البصرة فلاناً، ولعله لم يفعل ذلك إلا رجل واحد. والرابع: وما كان الله معذِّبهم وفي أصلابهم مَن يستغفر الله، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري: فيكون معنى تعذيبهم: إهلاكهم فالمعنى: وما كان الله مهلكهم، وقد سبق في علمه أنه يكون لهم أولاد يؤمنون به ويستغفرونه فوصفهم بصفة ذراريهم، وغُلِّبوا عليهم كما غُلِّب بعضهم على كلهم في الجواب الذي قبله. والخامس: أن المعنى لو استغفروا لما عذَّبهم الله، ولكنهم لم يستغفروا فاستحقُّوا العذاب وهذا كما تقول العرب: ما كنت لأهينَك وأنت تكرمني يريدون: ما كنت لأهينك لو أكرمتني، فأما إذ لست تكرمني، فانك مستحقٌّ لإهانتي، وإلى هذا القول ذهب قتادة والسدي. قال ابن الأنباري: وهو اختيار اللغويين. وذكر المفسرون في معنى هذا الاستغفار ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الاستغفار المعروف وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: أنه بمعنى الصلاة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، ومنصور عن مجاهد، وبه قال الضحاك. والثالث: أنه بمعنى الإِسلام رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال عكرمة. [سورة الأنفال (8) : آية 34] وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) قوله تعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ هذه الآية أجازت تعذيبهم، والأُولى نفت ذلك. وهل المراد بهذا: العذابُ الاولُ، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه هو الأول، إلا أن الأول امتنع بشيئين: أحدهما: كون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم. والثاني: كون المؤمنين المستغفرين بينهم فلما وقع التمييز بالهجرة، وقع العذاب بالباقين يوم بدر، وقيل: بل وقع بفتح مكة. والثاني: أنهما مختلفان، وفي ذلك قولان:

[سورة الأنفال (8) : آية 35]

أحدهما: أن العذاب الثاني قَتْلُ بعضِهم يوم بدر، والأول استئصال الكُلِّ، فلم يقع الأول لِما قد عُلم من إيمان بعضهم، وإسلام بعضِ ذراريهم، ووقع الثاني. والثاني: أن العذاب الأول عذاب الدنيا. والثاني: عذاب الآخرة، قاله ابن عباس، فيكون المعنى: وما كان اللهُ معذِّبَ المشركين لاستغفارهم في الدنيا، وما لهم ألا يعذبهم الله في الآخرة. قوله تعالى: وَهُمْ يَصُدُّونَ قال الزجاج: المعنى وهم يصدون عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أولياءَه. وفي هاء الكناية في قوله تعالى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى «المسجد الحرام» ، وهو قول الجمهور. قال الحسن: إن المشركين قالوا: نحن أولياء المسجد الحرام، فرد الله عليهم بهذا. والثاني: أنها تعود إلى الله عزّ وجلّ، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: إِنْ أَوْلِياؤُهُ أي: ما أولياؤه إِلَّا الْمُتَّقُونَ للشرك والمعاصي، ولكنَّ أكثر أهل مكة لا يعلمون من الأولى ببيت الله. [سورة الأنفال (8) : آية 35] وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) قوله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ. (640) سبب نزولها أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويصفِّقون ويَصْفِرُون ويضعون خدودهم بالأرض، فنزلت هذه الآية قاله ابن عمر. فأما المكاء، ففيه قولان: أحدهما: أنه الصَّفير، قاله ابن عمر وابن عباس وابن جبير وقتادة وأبو عبيدة والزجاج وابن قتيبة. قال ابن فارس: يقال: مكا الطائر يمكو مُكاءً: إذا صَفَر، ويقال: مَكِيَتْ يده تَمكى مَكىً، مقصور، أي: غلُظت وخشُنت، ويقال: تمكّى: إذا توضّأ. وأنشدوا: كالمُتَمَكِّي بدمِ القتيلِ «1» وسئل أبو سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء، فجمع كفَّيِه، وجعل يَصْفِر فيهما. والثاني: أنه إدخال أصابعهم في أفواههم يخلطون به وبالتّصدية على محمّد صلى الله عليه وسلم صلاتَه، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري: أهل اللغة ينكرون أن يكون المكاء إدخالَ الأصابع في الأفواه، وقالوا: لا يكون إلا الصفير. وفي التصدية قولان: أحدهما: أنها التَّصفيق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. قال ابن قتيبة: يقال صدَّى: إذا صفَّق بيديه. قال الراجز: ضنَّت بخَدٍّ وجَلَت ْعَن خَدِّ ... وأنا مِنْ غَرْوِ الهوى أُصَدِّي «2» الغرو: العجب، يقال: لا غرو من كذا، أي: لا عجب. والثاني: أن التصدية: صدُّهم الناس عن البيت الحرام، قاله سعيد بن جبير: وقال ابن زيد: وهو صدّهم عن سبيل الله ودينه.

_ أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 480 من طريق عطية العوفي عن ابن عمر، وعطية ضعيف، لكن للخبر شواهد.

[سورة الأنفال (8) : آية 36]

(641) وزعم مقاتل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في المسجد الحرام، قام رجلان من المشركين من بني عبد الدار عن يمينه فيصفِران، ورجلان عن يساره فيصفِّقان، فتختلط على النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته وقراءته، فقتلهم الله ببدر، فذلك قوله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بتوحيد الله. فان قيل: كيف سمى المكاءَ والتصديةَ صلاةً؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أنهم جعلوا ذلك مكان الصلاة، ومشهور في كلام العرب أن يقول الرجل: زرت عبد الله، فجعل جفائي صِلَتي، أي: أقام الجفاء مقام الصّلة، قال الشاعر: قلت اطْعِمِني عَمِيْمُ تَمْرَا ... فَكَانَ تَمْريْ كَهْرَةً وَزَبْرا أي: أقام الصياح عليَّ مقام التمر. والثاني: أن من كان المكاءُ والتصديةُ صلاتَه فلا صلاة له، كما تقول العرب: ما لفلان عيب إلا السخاء، يريدون: مِنَ السخاء عيبه فلا عيب له، قال الشاعر: فتىً كَمُلَتْ خيراتُهُ غير أنَّه ... جوادٌ فلا يُبقي من المال باقيا «1» [سورة الأنفال (8) : آية 36] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «2» : (642) أحدها: أنها نزلت في المطعِمين ببدر، وكانوا اثني عشر رجلاً يطعمون الناس الطعام، كل رجل يطعم يوماً، وهم: عتبة وشيبة، ومُنبّه ونُبَيه ابنا الحجاج، وأبو البَخْتَري، والنضر بن الحارث، وأبو جهل وأخوه الحارث، وحكيم بن حزام وأُبَيُّ بن خلف، وزمعة بن الأسود، والحارث بن عامر بن نوفل، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس. (643) والثاني: أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب، استأجر يوم أُحُد ألفين من الأحابيش لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب، قاله سعيد بن جبير.

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وقد كذبه غير واحد. وذكره الواحدي في أسباب النزول 481، عن مقاتل والكلبي، وكلاهما يضع الحديث. ورد من وجوه متعددة مرسلة. أخرجه الطبري 16070 عن سعيد بن جبير مرسلا. وكرره 16071 عن ابن أبزى مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 482 عن سعيد بن جبير وابن أبزى مرسلا.

[سورة الأنفال (8) : آية 37]

(644) وقال مجاهد: نزلت في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أُحُد. (645) والثالث: أنها نزلت في أهل بدر، وبه قال الضحاك. فأما سبيل الله، فهو دين الله. قوله تعالى: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أي تكون عاقبة نفقتهم ندامة لأنهم لم يظفروا. [سورة الأنفال (8) : آية 37] لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قوله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر «ليميز» خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي «ليميّز» بالتشديد وهما لغتان: مِزْتُه وميَّزتُه. وفي لام «ليميز» قولان: أحدهما: أنها متعلقة بقوله تعالى: فَسَيُنْفِقُونَها، قاله ابن الأنباري. والثاني: أنّها متعلّقة بقوله: إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ، قاله ابن جرير الطبري. وفي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: ليميز أهل السعادة من أهل الشقاء، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال السدي، ومقاتل: يميز المؤمن من الكافر. والثاني: ليميِّز العمل الطيب من العمل الخبيث، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: ليميز الإنفاق الطيب في سبيله، من الانفاق الخبيث في سبيل الشيطان، قاله ابن زيد، والزجاج. قوله تعالى: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ أي: يجمع بعضه فوق بعض، وهو قوله تعالى: فَيَرْكُمَهُ. قال الزجاج: الركم: أن يُجعَل بعضُ الشيء على بعض، يقال: ركمت الشيء أركُمه رَكماً والركام: الاسم فمن قال: المراد بالخبيث: الكفار، فانهم في النار بعضهم على بعض ومن قال: أموالهم، فله في ذلك قولان: أحدهما: أنها أُلقيت في النار ليعذَّب بها أربُابها، كما قال تعالى: فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ. والثاني: أنهم لمَّا عظَّموها في الدنيا، أراهم هوانها بالقائها في النار كما تُلقى الشمس والقمر في النار، لَيرى مَن عبدهما ذُلَّهما. [سورة الأنفال (8) : آية 38] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا نزلت في أبي سفيان وأصحابه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: إن ينتهوا عن المحاربة يُغْفَرْ لهم ما قد سلف من حربهم، فلا يُؤاخَذون به، وإن يعودوا إلى المحاربة، فقد مضت سنة الأولين في نصر الله أولياءه، وقيل: في قتل من قُتِل يوم بدر وأُسر. والثاني: إن ينتهوا عن الكفر يُغْفَر لهم ما قد سلف من الإثم وإن يعودوا إليه، فقد مضت سُنَّةُ الأولين من الأمم السالفة حين أُخذوا بالعذاب المستأصِل. قال يحيى بن معاذ في هذه الآية: إنَّ توحيداً لم يعجِزْ عن هدم ما قبله من كفر، لا يعجِزُ عن هدم ما بعده من ذنب.

_ مرسل. أخرجه الطبري 16075 و 16076 عن مجاهد مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 482- 483 بنحوه. مرسل. أخرجه الطبري 16080 عن الضحاك مرسلا.

[سورة الأنفال (8) : آية 39]

[سورة الأنفال (8) : آية 39] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: شرك. وقال الزجاج: حتى لا يفتن الناس فتنة كفر ويدلّ عليه قوله تعالى: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا أي: عن الكفر والقتال فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وقرأ يعقوب إلا روحاً «بما تعملون» بالتاء. [سورة الأنفال (8) : آية 40] وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) قوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا أي: أعرضوا عن الإيمان وعادوا إلى القتال فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أي وليكم وناصركم. قال ابن قتيبة: نِعْمَ الْمَوْلى أي نعم الولي وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي: الناصر، مثل قدير وقادر، وسميع وسامع. [سورة الأنفال (8) : آية 41] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ اختلفوا، هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد، أم يختلفان؟ على قولين: أحدهما: أنهما يختلفان، ثم في ذلك قولان: أحدهما: أن الغنيمة: ما ظُهر عليه من أموال المشركين، والفيء: ما ظُهر عليه من الأرضين، قاله عطاء بن السائب. والثاني: أن الغنيمة: ما أُخذ عنوةً، والفيء: ما أُخذ عن صلح، قاله سفيان الثوري. وقيل: بل الفيء: ما لم يوجَفْ عليه بخيل ولا ركاب، كالعشور والجزية، وأموال المهادنة والصلح، وما هربوا عنه. والثاني: أنهما واحد، وهما كل ما نيل من المشركين، ذكره الماوردي: وقال الزجاج: الأموال ثلاثة أصناف فما صار إلى المسلمين من المشركين في حال الحرب، فقد سماه الله تعالى: أنفالاً وغنائم وما صار من المشركين من خراج أو جزية مما لم يؤخذ في الحرب، فقد سماه: فيئاً، وما خرج من أموال المسلمين، كالزكاة، والنذر، والقرب، سماه: صدقة. وأما قوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ فالمراد به: كل ما وقع عليه اسم شيء. قال مجاهد: المِخْيَط من الشيء. قوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وروى عبد الوارث: «خُمْسَهُ» بسكون الميم. وفي المراد بالكلام قولان: أحدهما: أن نصيب الله مستَحَقٌ يُصرف إلى بيته. (646) قال أبو العالية: كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم، فيقسم أربعة

_ ضعيف جدا بذكر الكعبة. أخرجه الطبري 16117 من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، وهذا مرسل فهذه علة، وأبو جعفر الرازي ضعفه غير واحد، وقد روى مناكير كثيرة. وتفرد بذكر الكعبة. ولم يتابع عليه، ولأصل الحديث شواهد، والمنكر فيه ذكر الكعبة، فتنبه، والله أعلم.

بين الناس ثم يجعل من السهم الخامس للكعبة وهذا مما انفرد به أبو العالية فيما يقال. والثاني: أنّ ذكر الله ها هنا لأحد وجهين: أحدهما: لأنه المتحكِّم فيه، والمالك له، والمعنى: فان للرسول خمسة ولذي القربى كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. والثاني: أن يكون المعنى: إن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى، وهذا قول الجمهور. فعلى هذا تكون الواو زائدة، كقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ، المعنى: ناديناه ومثله كثير. فصل: أجمع العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة لأهل الحرب خاصة فأما الخمس الخامس، فكيف يقسم؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يقسم منه لله وللرسول ولمن ذكر في الآية. وقد ذكرنا أن هذا مما انفرد به أبو العالية، وهو يقتضي أن يقسم على ستة أسهم. والثاني: أنه مقسوم على خمسة أسهم: سهم للرسول، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، على ظاهر الآية، وبه قال الجمهور. والثالث: أنه يقسم على أربعة أسهم. فسهم الله عزّ وجلّ وسهم رسوله عائد على ذوي القربى. (647) لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يأخذ منه شيئاً، وهذا المعنى رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فصل: فأمّا سهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فانه كان يصنع فيه ما بيَّنَّا. وهل سقط بموته، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لم يسقط بموته، وبه قال أحمد والشافعي في آخرين. وفيما يُصنَع به قولان: أحدهما: أنه للخليفة بعده، قاله قتادة. والثاني: أنه يُصْرَفُ في المصالح، وبه قال أحمد والشافعي. والثاني: أنه يسقط بموته كما يسقط الصفيُّ، فيرجع إلى جملة الغنيمة، وبه قال أبو حنيفة. وأما ذوو القربى، ففيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم جميع قريش. قال ابن عباس: كنا نقول: نحن هم فأبى علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى. والثاني: بنو هاشم وبنو المطلب، وبه قال أحمد والشافعي. والثالث: أنهم بنو هاشم فقط، قاله أبو حنيفة. وبماذا يستحقون؟ فيه قولان: أحدهما: بالقرابة وإن كانوا أغنياء، وبه قال أحمد والشافعي. والثاني: بالفقر لا بالاسم، وبه قال أبو حنيفة. وقد سبق في البقرة «1» معنى اليتامى والمساكين وابن السبيل. وينبغي أن تُعتبر في اليتيم أربعة أوصاف: موت الأب وإن كانت الأم باقية. والصِّغَر. لقوله عليه السلام: (648) «لا يُتْمَ بعد حُلُم» ، والإِسلام لأنه مال للمسلمين. والحاجة لأنه معدّ للمصالح.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 16118 من حديث ابن عباس قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس، فأربعة منها لمن قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة: فربع لله والرسول ولذي القربى يعني قرابة النبي صلّى الله عليه وسلم مما كان لله والرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئا. والربع الثاني لليتامى والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل. وفيه علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس. حسن بشواهده. أخرجه أبو داود 2873 والطيالسي 1767 والطحاوي في المشكل 1/ 280 والبيهقي 7/ 320 والخطيب 5/ 299 من ثلاثة طرق عن علي مرفوعا وفي هذه الوجوه مقال، لكن أخرجه الطبراني في الصغير

[سورة الأنفال (8) : آية 42]

قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ هو يوم بدر، فُرق فيه بين الحق والباطل بنصر المؤمنين. والذي أُنزل عليه يومئذ قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ نزلت حين اختلفوا فيها. فالمعنى: إن كنتم آمنتم بذلك، فاصدروا عن أمر الرسول في هذا أيضا. [سورة الأنفال (8) : آية 42] إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) قوله تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «بالعِدوة» و «العِدوة» العين فيهما مكسورة. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بضم العين فيهما. قال الأخفش: لم يُسمع من العرب إلا الكسر. وقال ثعلب: بل الضم أكثر اللغتين. قال ابن السِّكّيت: عُدوة الوادي وعِدوته: جانبه والجمع: عُدىً وعِدىً. والدنيا: تأنيث الأدنى وضدها: القصوى وهي تأنيث الأقصى وما كان من النعوت على «فُعلى» من ذوات الواو، فان العرب تحوِّلُه إلى الياء، نحو: الدنيا، من: دنوت والعليا، من: علوت لأنهم يستثقلون الواو مع ضم الأول، وليس في هذا اختلاف، إلا أن أهل الحجاز قالوا: القُصوى، فأظهروا الواو، وهو نادر وغيرهم يقول: القصيا. قال المفسرون: إذ أنتم بشفير الوادي الأدنى من المدينة، وعدوّكم بشفيره الأقصى إلى مكة، وكان الجمعان قد نزلا وادي بدر على هذه الصفة، والركب: أبو سفيان وأصحابه. قال الزجاج: من نصب «أسفلَ» اراد: والركب مكانا أسفل منكم، ويجوز الرّفع على معنى: والرّكب أشدّ تسفّلا منكم. قال قتادة كان المسلمون أعلى الوادي، والمشركون أسفله. وفي قوله: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ قولان: أحدهما: لو تواعدتم، ثم بلغكم كثرتهم، لتأخَّرتم عن الميعاد، قاله ابن اسحاق. والثاني: لو تواعدتم على الاجتماع في المكان الذي اجتمعتم فيه من عِدوتي وادي بدر لاختلفتم في الميعاد، قاله أبو سليمان. وقال الماوردي: كانت تقع الزيادة والنقصان، أو التقدم والتأخر من غير قصد لذلك. قوله تعالى: وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وهو إعزاز الإسلام وإذلال الشرك. قوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ. وروى خلف عن يحيى: «ليُهلَك» بضم الياء وفتح اللام. قوله تعالى: وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «من حيَّ» بياء واحدة مشددة، وهذه رواية حفص عن عاصم، وقنبل عن ابن كثير. وروى شِبْلٌ عن ابن كثير، وابو بكر عن عاصم: «حيِي» بياءين الأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، وهي قراءة نافع. فمن قرأ

_ من طريق آخر بأتم منه، قال الهيثمي في المجمع 4/ 334: ورجاله ثقات. وورد من حديث جابر عند عبد الرزاق 13899 وإسناده ضعيف لضعف حرام بن عثمان، لكنه شاهد لما قبله. وله شاهد آخر من حديث أنس أخرجه البزار 1302 و 1376 وفيه يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي، وهو ضعيف جدا قاله الهيثمي في المجمع 4/ 226. وأخرجه الطبراني في الكبير 3502 من حديث حنظلة، ورجاله ثقات كما في المجمع 22674.

[سورة الأنفال (8) : آية 43]

بياءين، بيَّن ولم يُدغم. ومن أدغم ياء «حيي» فلاجتماع حرفين من جنس واحد. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: ليُقتَل من قُتل من المشركين عن حُجة، ويبقى من بقي منهم عن حُجة. والثاني: ليكفر من كفر بعد حُجة، ويؤمن من آمن عن حُجة. [سورة الأنفال (8) : آية 43] إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) قوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا فيه قولان: (649) أحدهما: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى عسكر المشركين في المنام قبل لقائهم في قلَّة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال مجاهد: لما أخبر أصحابه بأنه رآهم في المنام قليلاً، كان ذلك تثبيتاً لهم. قال أبو سليمان الدمشقي: والكلام متعلق بما قبله، فالمعنى: وإن الله لسميع لما يقوله أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ حدثتَهم بما رأيت في منامك. والثاني: إذ يريكهم الله بعينك التي تنام بها، قاله الحسن «1» . قال الزجاج: وكثير من النحويين يذهبون إلى هذا المذهب. ومعناه عندهم: إذ يريكهم الله في موضع منامك، أي: بعينك ثم حذف الموضع، واقام المنام مقامه. قوله تعالى: لَفَشِلْتُمْ أي: لجبنتم وتأخَّرتم عن حربهم. وقال مجاهد: لفشل أصحابك، ولرأوا ذلك في وجهك. قوله تعالى: وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي: لاختلفتم في حربهم، فكان ذلك من دواعي هزيمتكم، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ من المخالفة والفشل. [سورة الأنفال (8) : آية 44] وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) قوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا قال مقاتل: صدَّق الله رؤيا رسوله التي أخبر بها المؤمنين عن قلة عدوهم قبل لقائهم، بأن قلَّلهم وقت اللقاء في أعينهم. وقال ابن مسعود: لقد قلُّوا في أعيننا، حتى قلت لرجل إلى جانبي: أتُراهم سبعين؟ قال: أُراهم مائة حتى أخذنا رجلاً منهم، فسألناه، فقال: كنَّا ألفاً. قال أبو صالح عن ابن عباس: استقلَّ المسلمون المشركين، والمشركون المسلمين، فاجترأ بعضهم على بعض. فإن قيل: ما فائدة تكرير الرّؤية ها هنا. وقد ذكرت في قوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الأولى كانت في المنام، والثانية في اليقظة. والثاني: أنّ الأولى للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، والثانية له ولأصحابه. فان قيل: تكثير المؤمنين في أعين الكافرين

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وهي رواية واهية كما تقدم مرارا. - وأخرجه الطبري 16165 عن مجاهد بنحوه.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 إلى 46]

أولى، لمكان إعزازهم. فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنهم لو كثروا في أعينهم، لم يقدموا عليهم، فلم يكن قتال، والقتال سبب النصر، فقلَّلهم لذلك. والثاني: أنه قلَّلهم لئلا يتأهَّب المشركون كل التأهُّب فاذا تحقق القتال، وجدهم المسلمون غير مستعدين، فظفروا بهم. والثالث: أنه قلَّلهم ليحمل الأعداء عليهم في كثرتهم، فيغلبهم المسلمون، فيكون ذلك آية للمشركين ومنبِّهاً على نصرة الحقّ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 46] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) قوله تعالى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا الفئة: الجماعة. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً فيه قولان: أحدهما: أنه الدعاء والنصر. والثاني: ذكر الله على الإِطلاق. قوله تعالى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا قد سبق ذكر التنازع والفشل آنفا. قوله تعالى: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وروى أبان: «ويذهبْ» بالياء والجزم. وفيه أربعة أقوال: أحدها: تذهب شدَّتكم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال السدي: حِدَّتكم وجدُّكم. وقال الزجاج: صولتكم وقوتكم. والثاني: يذهب نصركم، قاله مجاهد، وقتادة. والثالث: تتقطَّع دولتكم، قاله أبو عبيدة. وقال ابن قتيبة: يقال: هبَّت له ريح النصر: إذا كانت له الدولة. ويقال: له الريح اليوم: أي الدولة. والرابع: أنها ريح حقيقة، ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله فتضرب وجوه العدو ومنه قوله عليه السلام: (650) «نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهْلِكتْ عادٌ بالدَّبور» وهذا قول ابن زيد، ومقاتل. [سورة الأنفال (8) : آية 47] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً. (651) قال المفسرون: هم أبو جهل ومن خرج معه من مكة، خرجوا ليدفعوا عن عيرهم التي كانت مع أبي سفيان، ومعهم القيان والمعازف، وهم يشربون الخمور. فلما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز ما معه، كتب إليهم: إني قد أحرزت أموالكم فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نفعل حتى نَرِدَ بدراً فنقيم ثلاثاً، وننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابونا.

_ صحيح. أخرجه البخاري 1035 و 3205 و 3343 و 4105 ومسلم 900 والطيالسي 2641 وأحمد 1/ 324 و 341 و 355 و 228 وابن حبان 421 والبيهقي 3/ 364 والبغوي 1144 من طرق عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 433 و 434 ومسلم 900 وأحمد 1/ 223 و 373 وأبو يعلى 2563 و 2680 والبيهقي 3/ 364 والقضاعي 572 من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا. صحيح. أخرجه الطبري 16194 عن قتادة مرسلا بنحوه. وأخرجه أيضا الطبري 16187 عن ابن عباس دون ذكر الآية واللفظ المرفوع، وورد عن عروة أخرجه الطبري 16186. وورد بنحوه عن ابن إسحاق أخرجه الطبري 16188.

[سورة الأنفال (8) : آية 48]

فساروا إلى بدر، فكانت الوقعة فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان. فأما البطر فهو الطغيان في النعم، وترك شكرها. والرياء: العمل من أجل رؤية الناس. وسبيل الله هاهنا: دينه. [سورة الأنفال (8) : آية 48] وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ. (652) قال عروة بن الزبير: لما أجمعت قريش المسير إلى بدر، ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب، فتبدَّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجيّ، وكان من اشراف بني كنانة، فقال لهم: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا. وفي المراد بأعمالهم ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: شركهم. والثاني: مسيرهم إلى بدر. والثالث: قتالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي: صارتا بحيث رأت إحداهما الأخرى. وفي المراد بالفئتين قولان: أحدهما: فئة المسلمين، وفئة المشركين، وهو قول الجمهور. والثاني: فئة المسلمين، وفئة الملائكة، ذكره الماوردي. قوله تعالى: نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ قال أبو عبيدة: رجع من حيث جاء. وقال ابن قتيبة: رجع القهقري. قال ابن السائب: كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة، آخذاً بيد الحارث بن هشام فرأى الملائكة فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: أفراراً من غير قتال؟ فقال: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ، فلما هُزم المشركون، قالوا: هَزَمَ الناسَ سراقةُ، فبلغه ذلك، فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. قال قتادة: صدق عدوّ الله في قوله: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ، ذُكر لنا أنه رأى جبريل ومعه الملائكة، فعلم أنه لا يد له بالملائكة، وكذب عدو الله في قوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوَّة له بهم. وقال عطاء: معناه: إني أخاف الله أن يهلكني. وقال ابن الانباري: لما رأى نزول الملائكة، خاف أن تكون القيامة فيكون انتهاء إنظاره فيقع به العذاب. ومعنى «نكص» رجع هارباً بخزي وذلّ. واختلفوا في قوله تعالى: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ هل هو ابتداء كلام أو تمام الحكاية عن إبليس، على قولين. [سورة الأنفال (8) : آية 49] إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ قال ابن عباس: هم قوم من أهل المدينة من الأوس

_ ورد من وجوه ضعيفه، لا تقوم بها حجة. أخرجه الطبري 16200 عن عروة بن الزبير مرسلا. وأخرجه الطبري 16198 عن ابن عباس، وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وانظر تفسير «ابن كثير» 2/ 397. وانظر ما يأتي.

[سورة الأنفال (8) : آية 50]

والخزرج. فأما الذين في قلوبهم مرض، ففيهم ثلاثة أقوال: (653) أحدها: أنهم قوم كانوا قد تكلَّموا بالإِسلام بمكة فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر كُرهاً فلما رأوا قلَّة المسلمين وكثرة المشركين ارتابوا ونافقوا وقالوا: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وإليه ذهب الشعبي في آخرين. وعدَّهم مقاتل فقال: كانوا سبعة: قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج والوليد بن الوليد بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة. والثاني: أنهم المشركون، لما رأوا قلة المسلمين، قالوا: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثالث: أنهم قوم مرتابون، لم يظهروا عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكره الماوردي. والمرض ها هنا: الشّكّ، والإشارة بقوله تعالى: «هؤلاء» إلى المسلمين وإنما قالوا هذا، لأنهم رأوا قلَّة المسلمين، فلم يشكّوا في أن قريشا تغلبهم. [سورة الأنفال (8) : آية 50] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ قرأ الجمهور «يتوفى» بالياء. وقرأ ابن عامر «تتوفى» بتاءين. قال المفسرون: نزلت في الرهط الذين قالوا: «غرَّ هؤلاءِ دينهُم» . وفي المراد بالملائكة ثلاثة أقوال: أحدها: ملك الموت وحده، قاله مقاتل. والثاني: ملائكة العذاب، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث: الملائكة الذين قاتلوا يوم بدر، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ أربعة أقوال: أحدها: يضربون وجوههم ببدر لما قاتلوا، وأدبارهم لما انهزموا. والثاني: أنّهم جاءوهم من بين أيديهم ومن خلفهم، فالذين أمامهم ضربوا وجوههم، والذين وراءهم ضربوا أدبارهم. والثالث: يضربون وجوههم يوم القيامة إذ لقوهم، وأدبارهم إذا ساقوهم إلى النار. والرابع: أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت بسياط من نار. وهل المراد نفس الوجوه والأدبار، أم المراد ما أقبل من أبدانهم وأدبر؟ فيه قولان. وفي قوله تعالى وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ قولان: أحدهما: أنه في الدنيا وفيه إضمار «يقولون» ، فالمعنى: يضربون ويقولون، كقوله تعالى. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا «1» أي: ويقولان. قال النابغة: كأنكَ مِنْ جِمالِ بَني أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رجليه بشنّ «2»

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية واهية. وأخرجه الطبري 16208 و 16209 عن عامر مرسلا بنحوه. وكرره 16210 عن مجاهد مرسلا بنحوه. وكرره 16211 عن الحسن مرسلا بنحوه. وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 397.

[سورة الأنفال (8) : آية 51]

والمعنى: كأنّك جمل من جمال بني أقيش، هذا قول الفراء وأبي عبيدة. والثاني: أن الضرب لهم في الدنيا، فاذا وردوا يوم القيامة إلى النار، قال خزنتها: ذوقوا عذاب الحريق، هذا قول مقاتل. [سورة الأنفال (8) : آية 51] ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) قوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي: بما كسبتم من قبائح أعمالكم. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لا يظلم عباده بعقوبتهم على الكفر، وإن كان كفرهم بقضائه، لأنه مالك، فله التّصرّف في ملكه كما شاء فيستحيل نسبة الظّلم إليه. [سورة الأنفال (8) : آية 52] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أي: كعادتهم: والمعنى: كذَّب هؤلاء كما كذَّب أولئك، فنزل بهم العذاب كما نزل بأولئك. قال ابن عباس: أيقن آل فرعون أن موسى نبيُّ الله وكذّبوه، فكذلك هؤلاء في حقّ محمد صلى الله عليه وسلم. [سورة الأنفال (8) : آية 53] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ أي: ذلك الأخذ والعقاب بأن الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا بالكفران وترك الشّكر. قال مقاتل: والمراد بالقوم ها هنا أهل مكة، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ثمّ بعث فيهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فلم يعرفوا المنعم عليهم، فغيَّر الله ما بهم. وقال السدي: كذَّبوا بمحمد فنقله الله إلى الأنصار. قال أبو سليمان الخطابي: والقوي يكون بمعنى القادر، فمن قوي على شيء فقد قدر عليه، وقد يكون معناه: التّامُّ القُوَّة الذي لا يستولي عليه العجز في حال، والمخلوق وإن وُصف بالقُوَّة فقوَّته متناهية وعن بعض الأمور قاصرة. [سورة الأنفال (8) : آية 54] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: كذَّب أهل مكة بمحمد والقرآن، كما كذب آل فرعون بموسى والتوراة، وكذَّب مَنْ قبلهم بأنبيائهم. قال مكي بن أبي طالب: الكاف من «كدأب» في موضع نصب، نعت لمحذوف تقديره: غيَّرنا بهم لما غيروا تغييراً مثل عادتنا في آل فرعون، ومثلها الآية الأولى، إلا أن الأولى للعادة في العذاب تقديره: فعلنا بهم ذلك فعلاً مثل عادتنا في آل فرعون. قوله تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ يعني الأمم المتقدمة، بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالريح، فكذلك أهلكنا كفار مكة ببدر. وقال بعضهم: يعني بقوله: «فأهلكناهم» الذين أهلكوا ببدر.

[سورة الأنفال (8) : آية 55]

[سورة الأنفال (8) : آية 55] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في بني قريظة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه. [سورة الأنفال (8) : آية 56] الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) قوله تعالى: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ في «مِنْ» أربعة أقوال: أحدها: أنها صلة والمعنى: الذين عاهدتهم. والثاني: أنها للتبعيض، فالمعنى: إن شر الدواب الكفار. وشرُّهم الذين عاهدت ونقضوا. والثالث: أنها بمعنى «مع» والمعنى: عاهدت معهم. والرابع: أنها دخلت، لأن العهد أُخذ منهم. قوله تعالى: ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي: كلما عاهدتهم نقضوا. وفي قوله تعالى: وَهُمْ لا يَتَّقُونَ قولان: أحدهما: لا يتَّقون نقض العهد. والثاني: لا يتَّقون الله في نقض العهد. قال المفسرون: (654) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد يهود قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه، فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا ثم عاهدوه الثانية، فنقضوا ومالؤوا الكفار يوم الخندق، وكتب كعب بن الأشرف إلى مكة يوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. [سورة الأنفال (8) : آية 57] فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) قوله تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ قال أبو عبيدة: مجازه: فان تثقفنَّهم. فعلى قوله، تكون «ما» زائدة. وقد سبق بيان «فاما» في (البقرة) «1» . قال ابن قتيبة: فمعنى «تثقفنهم» تظفر بهم. فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي: افعل بهم فعلاً من العقوبة والتنكيل يتفرَّق به من وراءهم من أعدائك. قال: ويقال: شرد بهم، أي: سمِّع بهم، بلغة قريش. قال الشاعر: أُطوِّف في الأباطح كُلَّ يوم ... مَخَافَةَ أن يُشرِّد بي حَكيمُ «2» وقال ابن عباس: نَكِّل بهم تنكيلاً يشرد غيرهم من ناقضي العهد، لعلّهم يذكرون النّكال فلا ينقضون العهد. [سورة الأنفال (8) : آية 58] وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً قال المفسّرون: الخوف ها هنا بمعنى العلم، والمعنى: إن علمت من قوم قد عاهدتهم خيانة، وهي نقض عهد. وقال مجاهد: نزلت في بني قريظة.

_ لم أره بهذا اللفظ. وأخرجه الطبري 16225 عن مجاهد مرسلا بنحوه.

[سورة الأنفال (8) : آية 59]

وفي قوله تعالى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أربعة أقوال «1» : أحدها: فألقِ إليهم نقضك العهد لتكون وإياهم في العلم بالنّقض سواء، وهذا قول الأكثرين، واختاره الفراء، وابن قتيبة، وأبو عبيدة. والثاني: فانبذ إليهم جهراً غير سرٍّ، ذكره الفراء أيضاً في آخرين. والثالث: فانبذ إليهم على مهل، قاله الوليد بن مُسلم. والرابع: فانبذ إليهم على عدل من غير حيف، وأنشدوا: فاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدُرِ الأعدَاءِ ... حتَّى يُجيبُوك إلى السَّواءِ «2» ذكره أبو سليمان الدمشقي. [سورة الأنفال (8) : آية 59] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «ولا تحسِبن» بالتاء وكسر السين إلا أن عاصماً فتح السين. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: بالياء وفتح السين. وفي الكافرين ها هنا قولان: أحدهما: جميع الكفار، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم الذين انهزموا يوم بدر، ذكره محمد بن القاسم النحوي وغيره. و «سبقوا» بمعنى فاتوا. قال ابن الأنباري: وذلك أنهم أشفقوا من هلكة تنزل بهم في بعض الأوقات فلما سلموا منها، قيل: لا تحسبنّ أنهم فاتونا بسلامتهم الآن، فانهم لا يعجزونا، أي: لا يفوتونا فيما يستقبلون من الأوقات. قوله تعالى: إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ قرأ الجمهور: بكسر الألف. وقرأ ابن عامر: بفتحها وعلى قراءته اعتراض. لقائل أن يقول: إذا كان قد قرأ «يحسبن» بالياء، وقرأ «أنهم» بالفتح، فقد أقرَّهم على أنهم لا يُعجزون ومتى علموا أنهم لا يعجزون، لم يلاموا. فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: المعنى: «لا يحسبن الذين كفروا سبقوا» لا يَحسِبُنَّ أنهم يعجزون و «لا» زائدة مؤكدة. وقال أبو علي: المعنى: لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسَهم سبقوا وآباءَهم سبقوا، لأنهم لا يفوتون، فهم يُجزَون على كفرهم. [سورة الأنفال (8) : آية 60] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)

_ (1) قال الطبري في «تفسير» 6/ 272: فإن قال قائل: وكيف يجوز نقض العهد بخوف الخيانة و «الخوف» ظنّ لا يقين؟ قيل: إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معناه: إذا ظهرت أمار الخيانة من عدوك وخفت وقوعهم بك، فألق إليهم مقاليد السلم وآذنهم بالحرب. وذلك الذي كان من بني قريظة إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك، موجبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم، فكذلك حكم كل قوم أهل موادعة للمؤمنين، ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها، فحقّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء. ويؤذنهم بالحرب. (2) البيت غير منسوب في «الطبري» 6/ 272. والغدر، جمع غدور. وهو القادر المستمرئ للغدر.

قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ في المراد بالقوة أربعة اقوال «1» : (655) أحدها: أنها الرمي، رواه عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحكم بن أبان: هي النبل. والثاني: ذكور الخيل، قاله عكرمة. والثالث: السلاح، قاله السدي، وابن قتيبة. والرابع: أنه كل ما يُتقوَّى به على حرب العدو من آلة الجهاد. قوله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ يعني ربطها واقتناءها للغزو وهو عام في الذكور والإناث في قول الجمهور. وكان عكرمة يقول: المراد بقوله تعالى: «ومن رباط الخيل» إناثها. قوله تعالى: تُرْهِبُونَ بِهِ روى رويس، وعبد الوارث «تُرَهِّبُون» بفتح الراء وتشديد الهاء، أي: تخيفون وترعبون به عدو الله وعدوكم، وهم مشركو مكة وكفار العرب. قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي: من دون كفار العرب. واختلفوا فيهم على خمسة أقوال «2» : أحدها: أنهم الجن. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (656) «هم الجنّ، فإنّ الشيطان لا يخبِّل أحداً في داره فرس عتيق» .

_ صحيح. أخرجه مسلم 1917. والترمذي 3083 والدارمي 2/ 204 والحاكم 2/ 328. والطبري 16241 و 16242 و 16243 و 16244. كلهم من حديث عقبة بن عامر. ضعيف جدا. أخرجه الطبراني 17/ 189 وابن عدي في الكامل 3/ 360 كلاهما عن عبد الله بن عريب المليكي عن أبيه مرفوعا بلفظ «هم الجن» ، ولن يختل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق» . وإسناده ضعيف جدا، لأجل سعيد بن سنان، وبه أعله ابن عدي، وقال الهيثمي في «المجمع» 2/ 27 ح 11030: رواه الطبراني، وفيه مجاهيل اه. وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 401: حديث منكر، لا يصح إسناده ولا متنه. اه.

[سورة الأنفال (8) : آية 61]

والثاني: أنهم بنو قريظة، قاله مجاهد. والثالث: أهل فارس، قاله السدي. والرابع: المنافقون، قاله ابن زيد. والخامس: اليهود، قاله مقاتل. [سورة الأنفال (8) : آية 61] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ قرأ أبو بكر عن عاصم «للسِّلم» بكسر السين. قال الزجاج: السَّلْم: الصلح والمسالمة. يقال: سَلم وسِلم وسَلَم في معنى واحد، أي: إن مالوا إلى الصلح فمِل إليه. قال الفراء: إن شئت جعلت «لها» كناية عن السَّلم لأنها تؤنّث، وإن شئت جعلتها للفعلة، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «1» . فان قيل: لم قال «لها» ولم يقل: «إليها» ؟ فالجواب: أن «اللام» و «إلى» تنوب كل واحدة منهما عن الأخرى. وفيمن أريد بهذه الآية قولان: أحدهما: المشركون، وأنها نسخت بآية السيف «2» . والثاني: أهل الكتاب. فان قيل: إنّها نزلت في ترك حربهم إذا بذلوا الجزية وقاموا بشرط الذمة، فهي محكمة. وإن قيل: نزلت في موادعتهم على غير جزية، توجّه النّسخ لها بآية الجزية. [سورة الأنفال (8) : الآيات 62 الى 63] وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) قوله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا قال مقاتل: يعني يهود قريظة أَنْ يَخْدَعُوكَ بالصلح لتكف عنهم، حتى إذا جاء مشركو العرب، أعانوهم عليك فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ. قال الزجاج: فان الذي يتولىَّ كفايتك الله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ أي: قوَّاك. وقال مقاتل: قوَّاك بنصره وبالمؤمنين من الأنصار يوم بدر. قوله تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ يعني الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانت بينهم عداوة في الجاهلية، فألَّف الله بينهم بالإسلام. وهذا من أعجب الآيات، لأنهم كانوا ذوي أنفة شديدة فلو أن رجلاً لطم رجلاً، لقاتلت عنه قبيلته حتى تدرك ثأره، فآل بهم الإِسلام إلى أن يقتل الرجل ابنه وأباه. [سورة الأنفال (8) : آية 64] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) قوله تعالى: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ فيه قولان: أحدهما: حسبُك اللهُ، وحسبُ من اتَّبَعَكَ، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، ومقاتل، والأكثرون. والثاني: حسبُك اللهُ ومتَّبِعُوكَ، قاله مجاهد. وعن الشعبي كالقولين. وأجاز الفرّاء والزّجّاج الوجهين.

_ (1) سورة الأعراف: 153. (2) وقال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 8/ 41: وقد اختلف في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا. فقال قتادة وعكرمة نسخها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] . وقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 36] ، وقالا: نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا لا إله إلا الله. وقال ابن عباس: الناسخ لها فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [محمد: 35] . وقيل ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 65 إلى 66]

(657) وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثون، ثم أسلم عمر فصاروا أربعين، فنزلت هذه الآية. قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا لا يحفظ، والسورة مدنية باجماع، والقول الأول أصحّ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 65 الى 66] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) قوله تعالى: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ قال الزجاج: تأويله: حُثَّهم. وتأويل التحريض في اللغة: أن يحث الإنسان على الشيء حثاً يعلم معه أنه حارض إن تخلف عنه. والحارض: الذي قد قارب الهلاك. قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ لفظُ هذا الكلام لفظ الخبر، ومعناه الأمر، والمراد: يقاتلوا مائتين، وكان هذا فرضاً في أول الأمر، ثم نسخ بقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ففُرض على الرجل أن يثبت لرجلين، فان زادوا جاز له الفرار. قال مجاهد: وهذا التشديد كان في يوم بدر. واتفق القراء على قوله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ فقرؤوا «يكن» بالياء واختلفوا في قوله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً، وفي قوله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ فقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: بالتاء فيهما. وقرأهما عاصم، وحمزة، والكسائي: بالياء. وقرأ أبو عمرو «يكن منكم مائة يغلبوا» بالياء، «فان تكن منكم مائة صابرة» بالتاء. قال الزجاج: من أنَّث، فللفظ المائة ومن ذكَّر، فلأن المائة وقعت على عدد مذكر. وقال أبو علي: من قرأ بالياء، فلأنه أريد منه المذكر، بدليل قوله تعالى: «يغلبوا» ، وكذلك المائة الصابرة هم رجال، فقرؤوها بالياء، لموضع التذكير. فأما أبو عمرو، فانه لمّا رأى صفة المائة مؤنّثة بقوله تعالى: «صابرة» أنث الفعل، ولما رأى «يغلبوا» مذكراً، ذكّر. ومعنى الكلام: إن يكن منكم عشرون صابرون يثبتون عند اللقاء، يغلبوا مائتين، لأن المؤمنين يحتسبون أفعالهم، وأهل الشرك يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، فاذا صَدَقهم المؤمنون القتال لم يثبتوا وذلك معنى قوله تعالى: لا يَفْقَهُونَ. قوله تعالى: وَعَلِمَ وروى المفضل «وعلم» بضمّ العين «أن فيكم ضعفا» وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائيّ بضم الضاد. وقرأ عاصم، وحمزة: بفتح الضاد. وكذلك خلافهم في (الروم) «1» . قال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم. قال الزجاج: والمعنى في القراءتين واحد،

_ باطل لا أصل له. أخرجه الطبراني في «الكبير» 12470، والواحدي في «أسباب النزول» 484. وفيه إسحاق بن بشر الكاهلي، وهو كذاب. وكذا قال الهيثمي في «المجمع» 11032 ثم إن السورة مدنية والخبر مكي؟!! وذكره ابن كثير 2/ 403 وقال: وفي هذا نظر لأن هذه الآية مدنية، وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة والله أعلم ا. هـ.

[سورة الأنفال (8) : آية 67]

يقال: هو الضَّعف والضُّعف، والمَكث والمُكث، والفَقر والفُقر، وفي اللغة كثير من باب فَعْل وفُعْل، والمعنى واحد. وقرأ أبو جعفر «وعلمَ أن فيكم ضُعَفَاءَ» على فُعَلاءَ. فأما قوله تعالى: بِإِذْنِ اللَّهِ فهو إعلام بأن الغلبة لا تقع إلّا بإرادته. [سورة الأنفال (8) : آية 67] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. (658) روى مسلم في أفراده من حديث عمر بن الخطاب قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقُتل منهم سبعون وأسر سبعون، استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً، فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والاخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوَّةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً. فقال رسول الله: «ما ترى يا ابن الخطاب» ؟ قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريبٌ لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فلان فيضرِبَ عنقه، حتى يعلم الله عزّ وجلّ أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فَهِويَ رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلت، فأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد، غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان. فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فان وجدت بكاءً بكَيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبكي للذي عرض عليَّ أصحابُك من الفداء. لقد عُرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة، فأنزل الله «ما كان لنبي أن يكون له أسرى» إلى قوله «عظيم» .

_ غريب. أخرجه مسلم 1763 وأبو داود 2690 والترمذي 3081 وأحمد 1/ 30 وابن أبي شيبة 14/ 365- 368 وابن حبان 4793 والطبري 16308 والبيهقي في «السنن» 6/ 321 و «الدلائل» 3/ 51 وأبو نعيم في «الدلائل» 450 من طرق عن عكرمة عن عمار عن سماك بن الوليد الحنفي عن ابن عباس عن عمر به وإسناده لا بأس به. عكرمة بن عمار قال عنه الحافظ في «التقريب» : صدوق يغلط. وقال في سماك بن الوليد: ليس به بأس. وقال الذهبي رحمه الله في «الميزان» 3/ 90- 93 ما ملخصه: روى أبو حاتم عن ابن معين في عكرمة بن عمار: كان أميا حافظا. وقال أبو حاتم: صدوق، ربما يهم. وقال ابن معين: ثقة ثبت. وقال يحيى القطان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفه، وقال أحمد بن حنبل: ضعيف. وقال الحاكم: أكثر مسلم الاستشهاد به، وقال البخاري: لم يكن له كتاب فاضطرب حديثه عن يحيى، وقال أحمد: أحاديثه عن يحيى ضعاف، ووثقه علي المديني. وختم الذهبي كلامه بقوله: وفي صحيح مسلم قد ساق له أصلا منكرا عن سماك الحنفي عن ابن عباس في الثلاثة التي طلبها أبو سفيان، وثلاثة أحاديث أخر بالإسناد اه. قلت: وهذا رواه عن سماك بن الوليد عن ابن عباس، وقد تفرد بذكر بكاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ودنو العذاب بسبب أخذ الفداء، وهذا غريب، ولم يتابع عليه، وهو وإن وثقه الأكثر، لكن روى مناكير، ولا يبعد أن يكون عجز هذا الحديث منها، والله تعالى أعلم. - الخلاصة: هو حديث لا يمكن الحكم بوهنه، وليس هو من درجة الصحيح. وهو أحد الأحاديث التي رواها مسلم، وليست في غاية الصحة. وللحديث شواهد دون عجزه، وهو ذكر البكاء ... فهو غريب. إذ لم يتصرف الصحابة من تلقاء أنفسهم، وإنما فعلوا ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتنبه والله الموفق.

[سورة الأنفال (8) : آية 68]

(659) وروي عن ابن عمر قال: لما أشار عمر بقتلهم وفاداهم رسول الله أنزل الله تعالى «ما كان لنبي» إلى قوله «حلالاً طيبا» ، فلقي النبيّ صلى الله عليه وسلم عمر فقال «كاد يصيبنا في خلافك بلاء» . فأما الأسرى، فهو جمع أسير، وقد ذكرناه في سورة البقرة «1» . والجمهور قرءوا «أن يكون له» بالياء، لأنّ الأسرى مذكّر. وقرأ أبو عمرو «أن تكون» ، قال أبو علي: أنَّثَ على لفظ الأسرى، لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير والرجال فهو مؤنّث اللفظ. والأكثرون قرءوا «أسرى» وكذلك «لمن في أيديكم من الأسرى» . وقرأ أبو جعفر، والمفضل «أُسارى» في الموضعين، ووافقهما أبو عمرو، وأبان في الثاني. قال الزجاج: والإثخان في كل شيء: قُوَّة الشيء وشِدَّته. يقال: قد أثخنه المرض: إذا اشتدت قُوَّته عليه. والمعنى: حتى يبالغ في قتل أعدائه. ويجوز أن يكون المعنى: حتى يتمكن في الأرض. قال المفسرون: معنى الآية: ما كان لنبي أن يحبس كافراً قدر عليه للفداء أو المن قبل الإثخان في الارض. وكانت غزاة بدر أول قتال قاتله رسول الله، ولم يكن قد أثخن في الأرض بعد. تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وهو المال. وكان أصحاب رسول الله قد فادوا يومئذ بأربعة آلاف أربعة آلاف. وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ قولان: أحدهما: يريد لكم الجنة، قاله ابن عباس. والثاني: يريد العمل بما يوجب ثواب الآخرة، ذكره الماوردي. فصل: وقد روي عن ابن عباس، ومجاهد في آخرين: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً «2» ، وليس للنسخ وجه، لأن غزاة بدر كانت وفي المسلمين قِلَّةٌ فلما كثروا واشتدَّ سلطانُهم، نزلت الآية الأخرى، ويبيّن هذا قوله تعالى: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. [سورة الأنفال (8) : آية 68] لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) قوله تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ في معناه خمسة أقوال «3» : أحدها: لولا أن الله كتب في أمّ

_ حسن. أخرجه الحاكم في «المستدرك» 2/ 329 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: صحيح على شرط مسلم، وهو كما قال: لكن إبراهيم بن مهاجر أحد رجال الإسناد، وإن روى له مسلم، فقد لينه غير واحد بسبب سوء حفظه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 486 عن ابن عمر: استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسارى أبا بكر فقال: قومك وعشيرتك خل سبيلهم. واستشار عمر فقال: اقتلهم: ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ما كانَ ... إلى قوله تعالى فَكُلُوا ... قال فلقي النبي لي الله عليه وسلم عمر فقال «كاد أن يصيبنا في خلافك بلاء» . وله شاهد من حديث ابن مسعود. أخرجه أحمد 1/ 383 والحاكم 3/ 21 وأبو يعلى 5188. والواحدي 487، ورجاله ثقات لكن فيه إرسال بين أبي عبيدة وأبيه ابن مسعود. وانظر «تفسير القرطبي» 3271 بتخريجنا.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 69 إلى 70]

الكتاب أنه سيُحِلُّ لكم الغنائم لمسَّكم فيما تعجَّلتم من المغانم والفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك عذابٌ عظيم، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. وقال أبو هريرة: تعجَّل ناس من المسلمين فأصابوا الغنائم، فنزلت الآية. والثاني: لولا كتاب من الله سبق أنَّه لا يعذِّب من أتى ذنباً على جهالةٍ لعوقبتم، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد. وقال ابن اسحاق: سبق أن لا أعذِّب إلا بعدَ النهي، ولم يكن نهاهم. والثالث: لولا ما سبق لأهل بدر أن الله لا يعذِّبهم، لعُذِّبتم، قاله الحسن، وابن جبير، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والرابع: لولا كتاب من الله سبق من أنه يغفر لمن عمل الخطايا ثم علم ما عليه فتاب، ذكره الزجاج. والخامس: لولا القرآن الذي اقتضى غفران الصغائر، لعُذِّبتم، ذكره الماوردي. فيخرج في الكتاب قولان: أحدهما: أنه كتاب مكتوب حقيقة. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. والثاني: أنه القرآن. والثاني: أنه بمعنى القضاء. [سورة الأنفال (8) : الآيات 69 الى 70] فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ قال الزجاج: الفاء للجزاء. والمعنى: قد أحللت لكم الفداء فكلوا. والحلال منصوب على الحال. (660) قال مقاتل: إن الله غفور لما أخذتم من الغنيمة قبل حِلِّها، رحيم بكم إذْ أحَلَّها لكم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، وخبَّاب بنَ الأرتِّ يوم بدر على القبض، وقسمها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وانطلق بالأسارى، فيهم العباس، وعقيل، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب. وكان مع العباس يومئذ عشرون أوقية من ذهب، فلم تحسب له من فدائه، وكلِّف أن يفدي ابني أخيه، فأدَّى عنهما ثمانين أوقية من ذهب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أضعفوا على العباس الفداء» فأخذوا منه ثمانين أوقية، وكان فداء كل أسير أربعين أوقية. فقال العباس لرسول الله: لقد تركتني ما حييت أسأل قريشاً بكفَّيَّ. فقال له: «أين الذهب الذي تركته عند أم الفضل» ؟ فقال: أي الذهب؟ فقال: «إنك قلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فان حدث بي حدث، فهو لك ولولدك» فقال: ابن أخي، مَن أخبرك؟ فقال: «الله أخبرني» ، فقال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم وأمر ابني أخيه فأسلما. وفيهم نزلت: قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الآية. وروى العوفي عن ابن عباس أنها نزلت في جميع من أُسر يوم بدر. (661) وقال ابن زيد: لما بُعِثَ رسول الله أتاه رجالٌ، فقالوا: لولا أنَّا نخاف هؤلاء القوم

_ عزاه المصنف لمقاتل وهو ساقط ليس بشيء. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 489 عن الكلبي تعليقا والكلبي متروك متهم، وأكثر هذا المتن أخرجه البيهقي في «الدلائل» 3/ 142 عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان والزهري وعروة، وهذه مراسيل وبعضه أخرجه 3/ 143 عن ابن عباس بسند فيه إرسال وله شواهد. الخلاصة: عامة هذا الخبر له شواهد. انظر الطبري 16335- 16341. عزاه المصنف لابن زيد، واسمه عبد الرحمن، وهذا مرسل، وابن زيد ضعيف، فالخبر واه.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 71 إلى 72]

لأسلمنا، ولكنَّا نشهد أن لا إِله إِلا الله وأنَّك رسولُ الله. فلما كان يوم بدر، قال المشركون: لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستحللنا ماله، فخرج أولئك القوم، فقُتلت طائفة منهم وأُسرت طائفة. فأما الذين قُتلوا، فهم الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ «1» . وأما الذين أُسروا فقالوا: يا رسول الله أنت تعلم أنا كنا نشهد أن لا إِله إِلا الله وأنك رسول الله، وإنما خرجنا مع هؤلاء خوفاً منهم. فذلك قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إلى قوله تعالى: عَلِيمٌ حَكِيمٌ. فأمّا قوله تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً فمعناه إسلاماً وصدقاً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء. وفيه قولان: أحدهما: أكثر مما أُخذ منكم. والثاني: أحلُّ وأطيب. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن أبي عبلة: «مما أخَذ منكم» بفتح الخاء يشيرون إلى الله تعالى. وفي قوله تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ قولان: أحدهما: يغفر لكم كفركم وقتالكم رسول الله، قاله الزجاج. والثاني: يغفر لكم خروجكم مع المشركين، قاله ابن زيد في تمام كلامه الأوّل. [سورة الأنفال (8) : الآيات 71 الى 72] وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) قوله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ يعني: إن أراد الأُسراء خيانتك بالكفر بعد الإسلام فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ إذ كفروا به قبل أسرهم. وقال ابن زيد: فقد خانوا بخروجهم مع المشركين وقد ذكرنا عنه أنها نزلت في قوم تكلَّموا بالإسلام. وقال مقاتل: المعنى: إن خانوك أمكنتك منهم فقتلتهم وأسرتهم كما أمكنتُك ببدر. قال الزجاج: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخيانة إن خانوها، حَكِيمٌ في تدبيره عليهم ومجازاته إياهم. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني: المهاجرين الذين هجروا ديارهم وأموالهم وقومهم في نصرة الدين. وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا يعني: الأنصار، آووا رسولَ الله، وأسكنوا المهاجرين ديارهم، ونصروهم على أعدائهم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فيه قولان: أحدهما: في النصرة. والثاني: في الميراث. قال المفسرون: كانوا يتوارثون بالهجرة، وكان المؤمن الذي لم يهاجر لا يرث قريبه المهاجر، وهو معنى قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، وعاصم، والكسائي: «وَلايتهم» بفتح الواو. وقرأ حمزة: بكسر الواو. قال الزجاج: المعنى: ليس بينكم وبينهم ميراث حتى يهاجروا. ومن كسر واو الولاية، فهي بمنزلة الإمارة وإذا فتحت، فهي من النصرة. وقال يونس النّحوي: الولاية، بالفتح، لله عزّ وجلّ، والوِلاية، بالكسر، من وُليِّت الأمر. وقال أبو عبيدة: الوَلاية، بالفتح، للخالق والوِلاية، للمخلوق. قال ابن الأنباري: الولاية، بالفتح،

_ (1) سورة النحل: 28.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 73 إلى 74]

مصدر الوليِّ، والوِلاية: مصدر الوالي، يقال: وليّ بين الوَلاية، ووالٍ بيِّن الولاية، فهذا هو الاختيار ثم يصلح في ذا ما يصلح في ذا. وقال ابن فارس: الوَلاية، بالفتح: النصرة، وقد تكسر. والوِلاية، بالكسر: السلطان. فصل: وذهب قوم إلى أن المراد بهذه الولاية موالاة النصر والمودَّة. قالوا: ونسخ هذا الحكم بقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «1» فأما القائلون بأنها ولاية الميراث، فقالوا: نسخت بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «2» . قوله تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ أي: إن استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فانصروهم، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد، فلا تغدروا بأرباب العهد. وقال بعضهم: لم يكن على المهاجر أن ينصرَ من يهاجر إلّا أن يستنصره. [سورة الأنفال (8) : الآيات 73 الى 74] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فيه قولان «3» : أحدهما: في الميراث، قاله ابن عباس. والثاني: في النصرة، قاله قتادة. وفي قوله تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى الميراث، فالمعنى: إلاَّ تأخذوا في الميراث بما أمرتكم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه يرجع إلى التّناصر. فالمعنى: إلّا تتعاونوا وتتناصروا في الدين، قاله ابن جريج. وبيانه: أنه إذا لم يتولَّ المؤمنُ المؤمنَ تولِّياً حقاً، ويتبرأ من الكافر جداً، أدَّى ذلك إلى الضلال والفساد في الدين. فاذا هجر المسلم أقاربه الكفار، ونصر المسلمين، كان ذلك أدعى لأقاربه الكفار إلى الإسلام وترك الشرك. قوله تعالى: وَفَسادٌ كَبِيرٌ قرأ أبو هريرة، وابن سيرين، وابن السميفع: «كثير» بالثاء. قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي: هم الذين حقَّقوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنصرة، بخلاف من أقام بدار الشرك. والرزق الكريم: هو الحسن، وذلك في الجنّة.

_ (1) سورة التوبة: 71. (2) سورة الأنفال: 75. (3) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 298: وأولى التأويلين قول من قال: معناه: أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين، وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقام في دار الحرب وترك الهجرة، لأن المعروف في كلام العرب من معنى «الولي» أنه النصير والمعين، أو: ابن العم والنسيب فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده وذلك معنى بعيد، وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، فبين أن أولى التأويلين بقوله: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ تأويل من قال: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين، تكن فتنة في الأرض، إذ كان مبتدأ الآية من قوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالحث على الموالاة على الدين والتناحر جاء، فكذلك الواجب أن تكون خاتمتها به. ا. هـ.

[سورة الأنفال (8) : آية 75]

[سورة الأنفال (8) : آية 75] وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ أي: من بعد المهاجرين الأولين. قال ابن عباس: هم الذين هاجروا بعد الحديبية. قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ أي: في المواريث بالهجرة. قال ابن عباس: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء حتى نزلت هذه الآية، فتوارثوا بالنسب. قوله تعالى: فِي كِتابِ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اللوح المحفوظ. والثاني: أنه القرآن- وقد بيَّن لهم قسمة الميراث في سورة (النساء) «1» . والثالث: أنه حكم الله، ذكره الزّجّاج.

_ (1) سورة النساء 11- 12.

سورة التوبة

سورة التّوبة [سورة التوبة (9) : آية 1] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فصل في نزولها: هي مدنية باجماعهم، سوى الآيتين اللتين في آخرها لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» فانها نزلت بمكة. (662) روى البخاري في «صحيحه» من حديث البراء قال: آخر سورة نزلت براءة. وقد نُقل عن بعض العرب أنه سمع قارئاً يقرأ هذه السورة، فقال الأعرابي: إني لأحسب هذه من آخر ما نزل من القرآن. قيل له: ومن أين علمت؟ فقال: إني لأسمع عهوداً تُنْبَذُ، ووصايا تُنَفَّذ. فصل: واختلفوا في أول ما نزل من (براءة) على ثلاثة أقوال: أحدها: أن أول ما نزل منها قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ «2» ، قاله مجاهد. والثاني: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «3» ، قاله أبو الضحى وأبو مالك. والثالث: إِلَّا تَنْصُرُوهُ «4» ، قاله مقاتل. وهذا الخلاف إنما هو في أول ما نزل منها بالمدينة، فانهم قد قالوا: نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكة. فصل: ولها تسعة أسماء: أحدها: سورة التوبة. والثاني: براءة وهذان مشهوران بين الناس. والثالث: سورة العذاب، قاله حذيفة. والرابع: المُقَشْقِشَة، قاله ابن عمر. والخامس: سورة البَحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين، قاله المقداد بن الأسود. والسادس: الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، قاله ابن عباس. والسابع: المبعثِرة، لأنها بعثرت أخبار الناس وكشفت عن سرائرهم، قاله الحارث بن يزيد وابن إسحاق. والثامن: المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم، قاله قتادة. والتاسع: الحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، قاله الزّجّاج.

_ صحيح. أخرجه البخاري 4364 و 4605 و 4654 و 6744 ومسلم 1618 ح 11 و 1618 ح 13. وأبو داود 2888 والترمذي 3044 و 3045 من حديث البراء.

فصل: وفي سبب امتناعهم من كتابة التسمية في أولها ثلاثة أقوال: (663) أحدها: رواه ابن عباس، قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى (الأنفال) وهي من المثاني، وإلى (براءة) وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الشيء يدعو بعضَ مَن يكتب، فيقول: «ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» ، وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل بالمدينة، و (براءة) من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُبيِّن لنا أنها منها، فظننا أنها منها فمن ثَمَّ قرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما: «بسم الله الرحمن الرحيم» . وذُكر نحو هذا المعنى عن أُبَيِّ بن كعب. قال الزجاج: والشبه الذي بينهما، أن في (الأنفال) ذكر العهود، وفي (براءة) نقضها. وكان قتادة يقول: هما سورة واحدة. والثاني: رواه محمد ابن الحنفية، قال: قلت لأبي: لِمَ لم تكتبوا في (براءة) «بسم الله الرحمن الرحيم» ؟ فقال: يا بنيَّ، إن (براءة) نزلت بالسيف، وإن «بسم الله الرحمن الرحيم» أمانٌ. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين. والثالث: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كتب في صلح الحديبية «بسم الله الرحمن الرحيم» ، لم يقبلوها وردُّوها، فما ردها الله عليهم «1» ، قاله عبد العزيز بن يحيى المكي. فصل: فأما سبب نزولها. (664) فقال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً بَنَتْها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله تعالى بالقاء عهودهم إليهم، فأنزل براءة في سنة تسع، فبعث رسول الله أبا بكر أميراً على الموسم ليقيم للناس

_ ضعيف، أخرجه أبو داود 786 و 787 والترمذي 3086 والنسائي في «الكبرى» 8007 وابن حبان 43 والحاكم 2/ 221 وابن أبي داود في «المصاحف» ص 39 والبغوي 1028- بترقيمي- والبيهقي في «السنن» 2/ 42 و «الدلائل» 7/ 152- 153 من طرق عن عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن عباس به. وإسناده ضعيف. مداره على يزيد الفارسي. قال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول. أي حيث يتابع، ولم يتابع على هذا الحديث. وقال العلامة أحمد شاكر في «تخريج المسند» 399 ما ملخصه: إنه لا أصل له لأمور: أولها جهالة يزيد الفارسي حيث تفرد به. ثانيها: فيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي. ثالثها: فيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان- كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك. فلا علينا إذا قلنا: إنه حديث لا أصل له. ونقل كلامه الشيخ شعيب في «الإحسان» 1/ 232 ووافقه. وذكره الألباني في «ضعيف أبي داود» 786 و 787. وأما الحاكم فقال: صحيح على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: حديث حسن وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1075 و 1028 و «تفسير الشوكاني» 1075 بتخريجنا. ذكره ابن هشام في «السيرة» 4/ 145- 146 بأتم منه عن ابن إسحاق وهذا معضل. وورد من مرسل السدي، أخرجه الطبري 16392. وورد من مرسل أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، أخرجه الطبري 16391 بنحوه. فهذه الروايات مرسلة لا تقوم بها حجة، فإن الصحيح أن أبا بكر أتبع بعلي من دون أن يرجع أبو بكر. وانظر «أحكام القرآن» 1084 بتخريجنا.

الحج في تلك السنة، وبعث معه صدراً من (براءة) ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذِّن في الناس بذلك» ، فخرج عليٌّ على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله، أُنزِل في شأني شيء؟ قال: «لا، ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني، أما ترضى أنك كنتَ صاحبي في الغار، وأنك صاحبى على الحوض» ؟ قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر أميراً على الحج، وسار علي ليؤذِّن ب «براءة» . فصل: وفي عدد الآيات التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول براءة خمسة أقوال: أحدها: أربعون آية، قاله عليٌّ عليه السلام. والثاني: ثلاثون آية، قاله أبو هريرة. والثالث: عشر آيات، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: سبع آيات، رواه ابن جريج عن عطاء. والخامس: تسع آيات، قاله مقاتل. فصل: فان توهَّم مُتَوهِّمٌ أن في أخذ (براءة) من أبي بكر، وتسليمها إلى عليٍّ، تفضيلاً لعليٍّ على أبي بكر، فقد جهل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم. قال الزجاج: وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها، أن يتولىَّ ذلك على القبيلة رجل منها فكان. وجائز أن تقول العرب إذا تلا عليها نقضَ العهد مَن ليس من رهط النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود، فأزاح النبيّ صلى الله عليه وسلم العلّة بما فعل. وقال عمرو بن بحر: ليس هذا بتفضيل لعليٍّ على أبي بكر، وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حَلِّ العقد، وكان لا يتولىَّ ذلك إلا السَّيِّدُ منهم، أو رجل من رهطه دَنِيّاً، كأخ، أو عم وقد كان أبو بكر في تلك الحَجة الإمام، وعليٌّ يأتمُّ به، وأبو بكر الخطيب، وعليّ يستمع. (665) وقال أبو هريرة: بعثني أبو بكر في تلك الحجة مع المؤذِّنين الذين بعثهم يؤذِّنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان فأذَّن معنا علي ب (براءة) وبذلك الكلام. (666) وقال الشعبي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يؤذن بأربع كلمات: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ألا ولا يطوف بالبيت عريان، ألا ولا يدخل الجنة إلا مسلم، ألا ومن كانت بينه وبين محمّد

_ صحيح. أخرجه البخاري 3177 و 4655 و 4656 ومسلم 1347 وأبو داود 1946 والنسائي 76 والبيهقي 5/ 87 والبغوي في «التفسير» 1031- بترقيمي- من طرق عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة به، واللفظ للبخاري في روايته: الثانية والثالثة. جيد. أخرجه الطبري 1639، وفي الباب روايات. وللحديث شواهد: أخرجه الترمذي 3092 والحاكم 3/ 52 والطبري 16387 و 16393 من طرق عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي به، وإسناده حسن، زيد بن يثيع، قال عنه الحافظ في «التقريب» : ثقة. وأما الذهبي فقال في «الميزان» 3032: ما روى عنه سوى أبي إسحاق. وهذا منه إشارة إلى جهالته. قلت: ذكره الحافظ في «تهذيب التهذيب 3/ 1369، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث اه ملخصا. فينبغي أن يكون حسن الحديث، لا سيما، وقد توبع على هذا المتن، فقد ورد من طريق الحارث الأعور عن علي. أخرجه الطبري 16385، وإسناده ضعيف لضعف الحارث، وكرره 16388 من هذا الوجه. وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد 2/ 299 والحاكم 2/ 331 وإسناده لا بأس به، وصححه الحاكم والذهبي. الخلاصة: هو حديث حسن أو صحيح بمجموع طرقه وشواهده، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» 1081 بتخريجي، وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي!. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وانظر أحكام القرآن 1083 بتخريجنا.

[سورة التوبة (9) : آية 2]

مدَّة فأجله إلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله» . فصل: فأما التفسير، فقوله تعالى: بَراءَةٌ قال الفراء: هي مرفوعة باضمار «هذه» ، ومثله سُورَةٌ أَنْزَلْناها «1» . وقال الزجاج: يقال: بَرِئْتُ من الرجل والدَّيْن براءةً، وبرئتُ من المرض وبرأتُ أيضاً أبرأُ برءا، وقد رووا: برأت أبرأ بروءا. ولم نجد في ما لامه همزة: فَعَلْتُ أفعل، إلا هذا الحرف. ويقال: بريت القلم، وكل شيء نحتَّه: أبريه بَرْياً، غير مهموز. وقرأ أبو رجاء، ومورق، وابن يعمر: «براءةً» بالنصب. قال المفسرون: والبراءة هاهنا: قطع الموالاة، وارتفاع العصمة، وزوال الأمان. والخطاب في قوله تعالى: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي يتولَّى المعاهدة، وأصحابُه راضون فكأنهم بالرضا عاهدوا أيضاً وهذا عام في كل من عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل: هم ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو جذيمة. [سورة التوبة (9) : آية 2] فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) قوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي: انطلقوا فيها آمنين لا يقع بكم مِنَّا مكروه. إن قال قائل: هذه مخاطبة شاهد، والآية الأولى إخبار عن غائب، فعنه جوابان: أحدهما: أنه جائز عند العرب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب. قال عنترة: شَطَّتْ مَزارُ العاشِقينَ فأصبَحتْ ... عَسِراً عليَّ طِلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ «2» هذا قول أبي عبيدة. والثاني: أن في الكلام إضماراً، تقديره: فقل لهم: سيحوا في الارض، أي: اذهبوا فيها، وأقبلوا، وأدبروا، وهذا قول الزجاج. واختلفوا فيمن جُعلت له هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال «3» : أحدها: أنها أمان لأصحاب

_ (1) سورة النور: 2. [.....] (2) البيت منسوب إلى عنترة، في شرح القصائد السبع الطوال 299 وقوله: شطت: أي بعدت. (3) قال الطبري رحمه الله في تفسيره 6/ 305: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً ... [التوبة: 4] . فإن ظن ظان أن قول الله تعالى ذكره فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. [التوبة: 5] . يدل على خلاف ما قلنا في ذلك إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم، قتل كل مشرك فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما ظنه من ظن أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن كان له منه عهد وذلك قوله كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 7] . فهؤلاء مشركون، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم، ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم. وبعد نفي الأخبار المتظاهرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم. «ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته» . أوضح دليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقص عهد قوم كان عهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه. وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجل عهده محدودا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب. ا. هـ.

[سورة التوبة (9) : آية 3]

العهد، فمن كان عهده أكثر منها، حُطَّ إليها، ومن كان عهده أقل منها، رفع إليها، ومن لم يكن له عهد، فأجله انسلاخ المحرَّم خمسون ليلة، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. والثاني: أنها للمشركين كافَّةً، مَنْ له عهد، ومَنْ ليس له عهد، قاله مجاهد، والزهري، والقرظي. والثالث: أنها أجل لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنه أقلَّ من أربعة أشهر، أو كان أمانه غير محدود فأما من لا أمان له، فهو حرب، قاله ابن إِسحاق. والرابع: أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد فأما أرباب العهود، فهم على عهودهم إلى حين انقضاء مُددهم، قاله ابن السائب. ويؤكده ما روي أن علياً نادى يومئذ ومَن كان بينه وبين رسول الله عهد، فعهده إلى مدَّته. وفي بعض الألفاظ: فأجله أربعة أشهر. واختلفوا في مدة هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها الأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله ابن عباس. والثاني: أن أولها يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، قاله مجاهد، والسدي، والقرظي. والثالث: أنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لأن هذه الآية نزلت في شوال، قاله الزهري. قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا أضعف الأقوال، لأنه لو كان كذلك، لم يجز تأخير إعلامهم به إلى ذي الحجة، إذ كان لا يلزمهم الأمر إلا بعد الإعلام. والرابع: أن أولها العاشر من ذي القعدة، وآخرها العاشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك اليوم، ثم صار في السنة الثانية في العشر من ذي الحجة. (667) وفيها حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إن الزمان قد استدار» ، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي: وإن أُجِّلْتُمْ هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا الله. قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ قال الزجاج: الأجود فتح «أن» على معنى: اعلموا أن، ويجوز كسرها على الاستئناف. وهذا ضمان من الله نصرة المؤمنين على الكافرين. [سورة التوبة (9) : آية 3] وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)

_ حديث صحيح. أخرجه البخاري 3197 و 4662 و 5550. ومسلم 291679. وأبو داود 1947. وأحمد 5/ 37 والبيهقي 5/ 166 من حديث أبي بكرة. وتقدم مطولا.

قوله تعالى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: إعلام ومنه أَذان الصلاة. وقرأ الضحاك، وأبو المتوكل، وعكرمة، والجحدري، وابن يعمر: «وَإِذْنٌ» بكسر الهمزة وقصرها ساكنة الذال من غير ألف. قوله تعالى: إِلَى النَّاسِ أي: للناس. يقال: هذا إعلام لك، وإليك. والناس ها هنا عامّ في المؤمنين والمشركين. وفي يوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه يوم عرفة، قاله عمر بن الخطاب، وابن الزبير، وأبو جحيفة، وطاوس، وعطاء. والثاني: يوم النحر، قاله أبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن أبي أوفى، وابن المسيب، وابن جبير، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وابن زيد، والسدي في آخرين. وعن علي، وابن عباس، كالقولين. والثالث: أنه أيام الحج كلُّها، فعبَّر عن الأيام باليوم، قاله سفيان الثوري. قال سفيان. كما يقال: يوم بعاث، ويوم الجمل، ويوم صفِّين يراد به: أيام ذلك، لان كل حرب من هذه الحروب دامت أياماً. وعن مجاهد، كالأقوال الثلاثة. وفي تسميته بيوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه سمَّاه بذلك لأنه اتفق في سنة حج فيها المسلمون والمشركون، ووافق ذلك عيدَ اليهود والنصارى، قاله الحسن. والثاني: أن الحج الأكبر: هو الحج، والأصغر: هو العمرة، قاله عطاء، والشعبي. والثالث: أن الحج الأكبر: القِران، والأصغر: الإفراد، قاله مجاهد. قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ وقرأ الحسن، ومجاهد، وابن يعمر: «إِن الله» بكسر الهمزة. مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي: من عهد المشركين، فحذف المضاف. وَرَسُولِهِ رفعٌ على الابتداء، وخبره مضمر على معنى: ورسولُه أيضا بريء. وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن يعمر، وزيد عن يعقوب: «ورسولَه» بالنصب. ثم رجع إلى خطاب المشركين بقوله تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ أي: رجعتم عن الشرك، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الإيمان.

_ (1) قال الطبري رحمه الله تعالى في «تفسيره» 6/ 316: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة قول من قال: «يوم الحج الأكبر، يوم النحر» تظاهرت الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليا نادى بما أرسله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة إلى المشركين، وتلا عليهم (براءة) يوم النحر، هذا، مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر: أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر. وبعد فإن «اليوم» إنما يضاف إلى المعنى بالذي يكون فيه، كقول الناس «يوم عرفة» وذلك يوم وقوف الناس بعرفة، «يوم الأضحى» وذلك يوم يضحون فيه، و «يوم الفطر» وذلك يوم يفطرون فيه. وكذلك «يوم الحج» يوم يحجون فيه، وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر، لأن في ليلة نهار يوم النحر، الوقوف بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر، وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج. فأما يوم عرفة، فإنه وإن كان فيه الوقوف بعرفة، فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، والحج كله يوم النحر. وأما ما قال مجاهد: من أن «يوم الحج» إنما هو أيامه كلها، فإن ذلك وإن كان جائزا في كلام العرب، فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معانيه، بل الأغلب على معنى «اليوم» عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتاب بلسانه. (2) وقال الطبري رحمه الله تعالى في «تفسيره» 6/ 318: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قول من قال «الحج الأكبر» «الحج» لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها، فقيل له: «الأكبر» لذلك، وأما «الأصغر» فالعمرة لأن عملها أقل من عمل الحج، فلذلك قيل لها «الأصغر» لنقصان عملها من عمله.

[سورة التوبة (9) : آية 4]

[سورة التوبة (9) : آية 4] إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال أبو صالح عن ابن عباس: فلما قرأ علي (براءة) ، قالت بنو ضمرة: ونحن مثلهم أيضاً؟ قال: لا، لأن الله تعالى قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية. وقال مجاهد: هم قوم كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ومدة، فأُمر أن يفي لهم. قال الزجاج: معنى الكلام: وقعت البراءة من المعاهدين الناقضين للعهود، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم، فليسوا داخلين في البراءة ما لم ينقضوا العهد. قال القاضي أبو يعلى: وفضل الخطاب في هذا الباب: أنه قد كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين جميع المشركين عهد عامٌّ، وهو أن لا يُصدَّ أحدٌ عن البيت، ولا يُخافَ أحد في الشهر الحرام، فجعل الله عهدهم أربعة أشهر وكان بينه وبين أقوام منهم عهود إلى آجال مسمَّاة، فأُمر بالوفاء لهم وإتمام مدّتهم إذا لم يخش غدرهم. [سورة التوبة (9) : آية 5] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فيها قولان: أحدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون. والثاني: أنها الأربعة الأشهر التي جُعلت لهم فيها السياحة، قاله الحسن في آخرين، فعلى هذا، سميت حُرُماً لأن دماء المشركين حرِّمت فيها. قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ أي: مَن لم يكن له عهد حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قال ابن عباس: في الحلّ والأشهر الحرم. قوله تعالى: وَخُذُوهُمْ أي: ائسروهم والأخيذ: الأسير. وَاحْصُرُوهُمْ أي: احبسوهم والحصر: الحبس. قال ابن عباس: إن تحصَّنوا فاحصروهم. قوله تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ قال الأخفش: أي: على كل مرصد فألقى «على» وأعمل الفعل، قال الشاعر: نُغالي اللحمَ للأضيافِ نِيئاً ... ونرخصه إذ نَضِجَ القُدُور «1» المعنى: نغالي باللحم، فحذف الباء كما حذف «على» . وقال الزجاج: «كل مرصد» ظرف، كقولك: ذهبتُ مذهباً، فلستَ تحتاج أن تقول في هذه إلا ما تقوله في الظروف، مثل: خلف، وقُدّام. قوله تعالى: فَإِنْ تابُوا أي: من شركهم. وفي قوله تعالى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ قولان: أحدهما: اعترفوا بذلك. والثاني: فعلوه. فصل: واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن حكم الأسارى كان وجوبَ قتلهم، ثم نسخ بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً «2» ، قاله الحسن، وعطاء في آخرين. والثاني: بالعكس، وأنه كان الحكم في الأسارى: أنه لا يجوز قتلهم صبرا، وإنما يجوز المنّ

_ (1) البيت غير منسوب في «اللسان» غلى. نغالي للحم: نشتريه غاليا ثم نبذله ونطعمه إذا نضج في قدورنا. (2) سورة محمد: 4.

[سورة التوبة (9) : آية 6]

أو الفداء بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ثم نُسخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، قاله مجاهد، وقتادة. والثالث: أن الآيتين محكمتان، والأسير إذا حصل في يد الإمام، فهو مخيَّر، إن شاءَ مَنَّ عليه، وإن شاء فاداه، وإن شاء قتله صبراً، أيَّ ذلك رأى فيه المصلحة للمسلمين فعلَ، هذا قول جابر بن زيد، وعليه عامة الفقهاء، وهو قول الإمام أحمد. [سورة التوبة (9) : آية 6] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ قال المفسرون: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتلهم استأمنك يبتغي أن يسمع القرآن وينظر فيما أُمر به ونُهي عنه، فأَجِرْه، ثم أبلغه الموضع الذي يأمن فيه. وفي قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: أن المعنى: ذلك الذي أمرناك به من أن يُعرَّفوا ويُجاروا لجهلهم بالعلم. والثاني: ذلك الذي أمرناك به من ردِّه إلى مأمنه إذا امتنع من الإيمان، لأنهم قوم جهلة بخطاب الله. [سورة التوبة (9) : آية 7] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) قوله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ أي: لا يكون لهم ذلك، إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وفيهم ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم بنو ضمرة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم قريش، قاله ابن عباس أيضاً. وقال قتادة: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فنكثوا وظاهروا المشركين. والثالث: أنهم خزاعة، قاله مجاهد. (668) وذكر أهل العلم بالسِّيَر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح سهيل بن عمرو في غزوة الحديبية، كتب بينه وبينه: «هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكفُّ بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال، وأن بيننا عيبةً مكفوفةً، وأنَّه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش

_ انظر السيرة النبوية 4/ 26- 31.

[سورة التوبة (9) : آية 8]

وعقدها فعل، وأنَّه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه ردَّه إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يردُّوه، وأن محمداً يرجع عنَّا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا في قابل في أصحابه، فيقيم بها ثلاثاً لا يدخل علينا بسلاح، إلا سلاح المسافر، السيوفَ في القُرب» ، فوثبتْ خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل في عهد قريش وعقدها. ثم إن قريشاً أعانت بني بكر على خزاعة بالرجال والسلاح فبيَّتوا خزاعة ليلاً، فقتلوا منهم عشرين رجلاً. ثم إن قريشاً ندمت على ما صَنَعَتْ، وعلموا أنَّ هذا نقضٌ للعهد والمدة التي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج قوم من خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصابهم، فخرج إليهم وكانت غزاة الفتح. قال أبو عبيدة: الإسلال: السرقة، والإغلال: الخيانة. قال ابن الأعرابي: وقوله: «وأن بيننا عيبة مكفوفة» مَثَل، أراد: أنَّ صُلْحَنَا مُحْكَم مُسْتَوْثَقٌ منه، كأنه عيبة مشرجة. وزعم بعض المفسّرين أنّ قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نُسخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. [سورة التوبة (9) : آية 8] كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) قوله تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ قال الزجاج: المعنى: كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم، فحذف ذلك، لأنه قد سبق، قال الشاعر: وخَبَّرُتماني أنَّما الموتُ بالقُرى ... فكيفَ وهذي هضبةٌ وقليبُ «1» أي فكيف مات وليس بقرية؟ ومثله قول الحطيئة: فكيف ولم أَعْلَمْهُمُ خذلوكُمُ ... على مُعظَمٍ ولا أديمَكُمُ قَدُّوا «2» أي: فكيف تلومونني على مدح قوم؟ واستغنى عن ذكر ذلك، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدلّ على ما أضمر. وقوله تعالى: يَظْهَرُوا يعني: يقدروا ويظفروا. وفي قوله تعالى: لا يَرْقُبُوا ثلاثة أقوال: أحدها: لا يحفظوا، قاله ابن عباس. والثاني: لا يخافوا، قاله السدي. والثالث: لا يراعوا، قاله قطرب. وفي الإلِّ خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه القرابة، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والسدي، ومقاتل، والفراء، وأنشدوا: إنَّ الوشاة كثيرٌ إن أطعتهمُ ... لا يرقبون بنا إلاً ولا ذِمَمَا وقال الآخر:

_ (1) البيت لكعب بن سعد الغنوي من مرثيته الشهيرة في «الأصمعيات» 99. (2) البيت للحطيئة، ديوانه: 140 وقوله خذلوكم على معظم أي: لم يخذلوكم في أمر حدث، وقوله: ولا أديمكم قدّوا، أي: لم يقعوا في حبكم. (3) قال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 420: الصواب قول من قال إلّا: الله عز وجل. هذا القول هو الأشهر والأظهر وعليه الأكثر اه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 9 إلى 11]

لعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيش ... كالِّ السَّقْبِ من رَأْلِ النَّعامِ «1» والثاني: أنه الجوار، قاله الحسن. والثالث: أنه الله عزّ وجلّ، رواه ابن أبي نجيج عن مجاهد، وبه قال عكرمة. والرابع: أنه العهد، رواه خصيف عن مجاهد، وبه قال ابن زيد، وأبو عبيدة. والخامس: أنه الحِلْف، قاله قتادة. وقرأ عبد الله بن عمرو وعكرمة وأبو رجاء وطلحة بن مصرّف: «إيلاً» بياء بعد الهمزة. وقرأ ابن السميفع والجحدري: «ألاً» بفتح الهمزة وتشديد اللام. وفي المراد بالذمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها العهد، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك في آخرين. والثاني: التذمم ممن لا عهد له، قاله أبو عبيدة، وأنشد: لاَ يَرْقُبُوْنَ بِنَا إلاً ولا ذِمَمَا والثالث: الأمان، قاله اليزيديّ، واستشهد بقوله صلى الله عليه وسلم: (669) «ويسعى بذمتهم أدناهم» . قوله تعالى: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يرضونكم بأفواههم في الوفاء، وتأبى قلوبهم إلا الغدر. والثاني: يرضونكم بأفواههم في العِدَة بالإيمان، وتأبى قلوبهم إلا الشرك. والثالث: يرضونكم بأفواههم في الطاعة، وتأبى قلوبهم إلا المعصية، ذكرهنَّ الماوردي. قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ قال ابن عباس: خارجون عن الصّدق، ناكثون للعهد. [سورة التوبة (9) : الآيات 9 الى 11] اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) قوله تعالى: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه، قاله مجاهد. والثاني: أنهم قوم من اليهود، قاله أبو صالح. فعلى الأول، آيات الله: حججه. وعلى الثاني: هي آيات التوراة. والثمن القليل: ما حصَّلوه بدلاً من الآيات. وفي وصفه بالقليل وجهان: أحدهما: لأنه حرام، والحرام قليل. والثاني: لأنه من عَرَض الدنيا الذي بقاؤه قليل. وفي قوله تعالى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: عن بيته، وذلك حين منعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية دخول مكّة. والثاني: عن دينه بمنع الناس منه. والثالث: عن طاعته في الوفاء بالعهد.

_ صحيح. أخرجه أبو داود 4530 والنسائي 8/ 23 وأحمد 1/ 119 و 122 وأبو يعلى 338 من حديث علي وهو حديث صحيح، وتقدم.

[سورة التوبة (9) : آية 12]

[سورة التوبة (9) : آية 12] وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) قوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ. قال ابن عباس: (670) نزلت في أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إليهم فينصر خزاعة، وهم الذين همّوا بإخراج الرّسول صلى الله عليه وسلم. فأما النّكث، فمعناه: النّقض. والأيمان ها هنا: العهود. والطعن في الدِّين: أن يعاب، وهذا يوجب قتل الذميّ إذا طعن في الإسلام، لأن المأخوذ عليه أن لا يطعن فيه «1» . قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أئمة» بتحقيق الهمزتين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: بتحقيق الأولى وتليين الثانية. والمراد بأئمة الكفر: رؤوس المشركين وقادتهم. إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي: لا عهود لهم صادقة هذا على قراءة من فتح الألف، وهم الأكثرون. وقرأ ابن عامر «لا إِيمان لهم» بالكسر وفيها وجهان ذكرهما الزجاج: أحدهما: أنه وصف لهم بالكفر ونفي الإيمان. والثاني: لا أمان لهم، تقول: آمنته إيماناً، والمعنى: فقد بطل أمانكم لهم بنقضهم. وفي قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ قولان: أحدهما: عن الشّكر. والثاني: عن نقض العهود.

_ عزاه المصنف لابن عباس، ولم أقف على إسناده وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 490 بدون إسناد عن ابن عباس. وأخرجه الطبري 16540 من حديث قتادة مرسلا بنحوه. وقال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 420: والصحيح أن الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم اه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 13 إلى 15]

وفي «لعل» قولان: احدهما: أنها بمعنى الترجِّي، المعنى: ليرجى منهم الانتهاء، قاله الزجاج. والثاني: أنها بمعنى: «كي» ، قاله أبو سليمان الدمشقي. [سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15] أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) قوله تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً قال الزجاج: هذا على وجه التوبيخ، ومعناه الحضّ على قتالهم. قال المفسرون: وهذا نزل في نقض قريش عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عاهدهم بالحديبية حيث أعانوا على خزاعة. وفي قوله تعالى: وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ قولان: أحدهما: أنهم أبو سفيان في جماعة من قريش، كانوا فيمن همّ بإخراج الرّسول صلى الله عليه وسلم من مكة. والثاني: انهم قوم من اليهود، غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهده وهمَّوا بمعاونة المنافقين على إخراجه من المدينة. قوله تعالى: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه قولان: أحدهما: بدءوكم باعانتهم على حلفائكم، قاله ابن عباس. والثاني: بالقتال يوم بدر، قاله مقاتل. قوله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ قال الزجاج: أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه؟! فمكروه عذاب الله أحق أن يُخشى إن كنتم مصدِّقين بعذابه وثوابه. قوله تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال ابن عباس، ومجاهد: يعني خزاعة. قوله تعالى: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ أي: كَربها وَوجْدها بمعونة قريشٍ بني بكر عليها. قوله تعالى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ قال الزجاج: هو مستأنف وليس بجواب «قاتِلوهم» . وفيمن عُنِي به قولان: أحدهما: بنو خزاعة، والمعنى: ويتوب الله على من يشاء من بني خزاعة، قاله عكرمة. والثاني: أنه عام في المشركين كما تاب على أبي سفيان، وعكرمة، وسهيل. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بنيّات المؤمنين، حَكِيمٌ فيما قضى. [سورة التوبة (9) : آية 16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا في المخاطب بهذا قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون، خوطبوا بهذا حين شق على بعضهم القتال، قاله الأكثرون. والثاني: أنهم قوم من المنافقين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج معه إلى الجهاد تعذيراً، قاله ابن عباس. وإنما دخلت الميم في الاستفهام، لأنه استفهام معترض في وسط الكلام، فدخلت لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. قال الفراء: ولو أُريد به الابتداء، لكان إما بالألف، أو ب «هل» ، ومعنى الكلام: أن يتركوا بغير امتحان يبَين به الصادق من

[سورة التوبة (9) : الآيات 17 إلى 18]

الكاذب. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ أي: ولمّا تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم وقد كان يعلم ذلك غيباً، فأراد إظهار ما علم ليجازي على العمل. فأما الوليجة، فقال ابن قتيبة: هي البطانة من غير المسلمين، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطاً ووادّاً وأصله من الولوج. قال أبو عبيدة: وكل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة فيهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18] ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) قوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «مسجد الله» على التوحيد، «إنما يعمر مساجدَ الله» على الجمع. وقرأ عاصم، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي على الجمع فيهما. (671) وسبب نزولها أن جماعة من رؤساء قريش أُسروا يوم بدر فيهم العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّروهم بالشِّرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبّخ العبّاس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرّحم، فقال العبّاس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقالوا: وهل لكم من محاسن؟ قالوا: نعم، لنحن أفضل منكم أجراً إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل في جماعة. وفي المراد بالعِمارة قولان: أحدهما: دخوله والجلوس فيه. والثاني البناء له وإصلاحه فكلاهما محظور على الكافر. والمراد من قوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أي: يجب على المسلمين منعهم من ذلك. قال الزّجّاج: وقوله تعالى: شاهِدِينَ حال. المعنى: ما كانت لهم عمارته في حال إقرارهم بالكفر، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لأن كفرهم أذهب ثوابها. فان قيل: كيف يشهدون على أنفسهم بالكفر، وهم يعتقدون أنهم على الصواب؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه قول اليهودي: أنا يهودي، وقول النصراني: أنا نصراني، قاله السدي. والثاني: أنهم ثبَّتوا على أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو حق لا يخفى على مميِّز، فكانوا بمنزلة من شهد على نفسه. والثالث: أنهم آمنوا بأنبياء شهدوا لمحمّد صلى الله عليه وسلم بالتصديق، وحرَّضوا على اتِّباعه، فلما آمنوا بهم وكذِّبوه، دلُّوا على كفرهم، وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم بالكفر، لأن الشهادة هي تبيين وإظهار، ذكرهما ابن الأنباري. فان قيل: ما وجه قوله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ولم يذكر الرسول، والإيمانُ لا يتم إلا به؟ فالجواب: أن فيه دليلاً على الرّسول، لقوله تعالى: وَأَقامَ الصَّلاةَ

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 491 من غير غزو لأحد. وانظر ما يأتي.

[سورة التوبة (9) : الآيات 19 إلى 22]

أي: الصلاة التي جاء بها الرسول، قاله الزجاج. فان قيل: فَعَسى ترجّ، وفاعل هذه الخصال مهتد بلا شك. فالجواب أن «عسى» من الله واجبة، قاله ابن عباس. فان قيل: قد يعمر مساجد الله من ليس فيه هذه الصفات. فالجواب: أن المراد أنه من كان على هذه الصفات المذكورة، كان من أهل عمارتها وليس المراد أن من عمرها كان بهذه الصّفة. [سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ في سبب نزولها ستة أقوال: (672) أحدها: رواه مسلم في «صحيحه» من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الاسلام إلا أن أسقيَ الحاجَّ، وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الاسلام إلا أن أعْمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه، فنزلت هذه الآية. (673) والثاني: أن العباس بن عبد المطلب قال يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نَعمُر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني» ، فنزلت هذه الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. (674) والثالث: أنّ المشركين قالوا: عمارة البيت الحرام، والقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله، فنزلت هذه الآية، رواه عطية العوفي عن ابن عباس. (675) والرابع: أن علياً والعباس وطلحة- يعني سادن الكعبة- افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب

_ صحيح أخرجه مسلم 1879 وابن حبان 4591 والطبري 16557 عن النعمان بن بشير به. ضعيف. أخرجه الطبري 16572 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وفيه إرسال بينهما. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 493 من رواية الوالبي عن ابن عباس. ضعيف جدا، لكن يشهد لأصله، ما بعده. أخرجه الطبري 16573 بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي- وهو ضعيف- عن ابن عباس. ورد من وجوه مرسلة متعددة. أخرجه الطبري 16577 عن محمد بن كعب القرظي مرسلا. وأخرجه 16578 عن الحسن. وبرقم 16576 عن الشعبي، وبرقم 16579 عن السدي. وذكره الواحدي في «أسباب النزول»

[سورة التوبة (9) : آية 23]

البيت، بيدي مفتاحه، ولو أشاء بتُّ فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية، والقائم عليها، ولو أشاء بتُّ في المسجد. وقال علي: ما أدري ما تقولون، لقد صليت ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، والشعبي، والقرظي. (676) والخامس: أنهم لما أُمروا بالهجرة قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة: أنا صاحب الكعبة فلا نهاجر، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله مجاهد. (677) والسادس: أن علياً قال للعباس: ألا تلحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألستُ في أفضلَ من الهجرة، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله مُرَّة الهَمْداني، وابن سيرين. قال الزجاج: ومعنى الآية: أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله؟ فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. قال الحسن: كان يُنبذ زبيبٌ، فيسقُون الحاج في الموسم. وقال ابن عباس: عمارة المسجد: تجميره، وتخليقه، فأخبر الله أن أفعالهم تلك لا تنفعهم مع الشرك، وسماهم ظالمين لشركهم. قوله تعالى: أَعْظَمُ دَرَجَةً قال الزجاج: هو منصوب على التمييز. والمعنى: أعظم من غيرهم درجة. والفائز: الذي يظفر بأمنيته من الخير. فأما النعيم، فهو لين العيش. والمقيم: الدّائم. [سورة التوبة (9) : آية 23] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ في سبب نزولها خمسة أقوال: (678) أحدها: أنه لما أُمر المسلمون بالهجرة، جعل الرجل يقول لأهله: إنا قد أُمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك، ومنهم من يتعلق به عياله وزوجته فيقولون: نَنْشُدك الله أن تدعنا إلى غير شيء، فيرقُّ قلبه فيجلس معهم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. (679) والثاني: أنه لما أمر الله المؤمنين بالهجرة، قال المسلمون: يا نبي الله، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك عن ابن عباس.

_ 494 عن الحسن والشعبي والقرظي، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها وانظر ما يأتي. وانظر تفسير «ابن كثير» 2/ 424. مرسل. أخرجه الطبري 16582 عن مجاهد فهو ضعيف ويشهد لأصله ما قبله. أخرجه الفريابي كما في «الدر» 3/ 395 عن ابن سيرين. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 495 عن ابن سيرين ومرّة بدون إسناد وانظر ما قبله. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة لأن روايه عن أبي صالح هو الكلبي، وقد كذبه غير واحد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 496 عن الكلبي مرسلا بدون إسناد. عزاه المصنف لابن عباس من رواية الضحاك، وهو لم يسمع من ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، فالخبر لا شيء.

[سورة التوبة (9) : آية 24]

(680) والثالث: أنه لما قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة: أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر، نزلت هذه الآية والتي قبلها، هذا قول قتادة، وقد ذكرناه عن مجاهد. (681) والرابع: أن نفراً ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، فنهى الله عن ولايتهم، وأنزل هذه الآية، قاله مقاتل. (682) والخامس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالجهاز لنصرة خزاعة على قريش، قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، نعاونهم على قومنا؟ فنزلت هذه الآية، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. [سورة التوبة (9) : آية 24] قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الآية، في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (683) أحدها: أنها نزلت في الذين تخلَّفوا مع عيالهم بمكة ولم يهاجروا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. (684) والثاني: أن علي بن أبي طالب قدم مكة، فقال لقوم: ألا تهاجرون؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن سيرين. (685) والثالث: أنه لما نزلت الآية التي قبلها، قالوا: يا رسول الله، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وعشيرتنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسرين في هذه الآية، وذكره بعضهم في الآية الأولى كما حكيناه عن ابن عباس. فأما العشيرة، فهم الأقارب الأدنون. وروى أبو بكر عن عاصم «وعشيراتُكم» على الجمع. قال أبو علي: وجهه أن كل واحد من المخاطَبين له عشيرة، فاذا جمعت قلت: عشيراتكم وحجة من افرد: أن العشيرة واقعة على الجمع، فاستغنى بذلك عن جمعها. وقال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة: عشيرات، إنما يجمعونها على عشائر. والاقتراف بمعنى الاكتساب. والتربص: الانتظار. وفي قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ قولان: أحدهما: أنه فتح مكة، قاله مجاهد والأكثرون، ومعنى الآية: إن كان المُقام في أهاليكم، وكانت الأموال التي اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها لفراقكم بلدكم وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ من الهجرة، فأقيموا غير مثابين، حتى

_ أثر قتادة لم أره، وأثر مجاهد أخرجه الطبري 16582. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب. لم أقف عليه. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 496 عن الكلبي بدون إسناد. وهو يضع الحديث. مرسل تقدم قبل أحاديث. عزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 257 للثعلبي عن مقاتل، وهذا معضل، ومقاتل متهم بالكذب.

[سورة التوبة (9) : آية 25]

تُفتح مكة، فيسقط فرض الهجرة. والثاني: أنه العقاب، قاله الحسن. [سورة التوبة (9) : آية 25] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي: في أماكن. قال الفراء: وكل جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان لم يُجْرَ، مثل، صوامع، ومساجد: وجُريَ «حنين» لأنه اسم لمذكَّر، وهو وادٍ بين مكة والطائف، وإذا سمَّيتَ ماءً أو وادياً أو جبلاً باسم مذكَّر لا علَّة فيه، أجريته، من ذلك: حنين، وبدر، وحِراء، وثَبِير، ودابق. ومعنى الآية: أنّ الله عزّ وجلّ أعلمهم أنهم إنما يغلبون بنصر الله لا بكثرتهم. وفي عددهم يوم حنين أربعة أقوال: أحدها: أنهم كانوا ستة عشر ألفاً، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: عشرة آلاف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: كانوا اثني عشر ألفاً، قاله قتادة، وابن زيد، وابن إسحاق، والواقدي. والرابع: أحد عشر ألفا وخمسمائة، قاله مقاتل. قال ابن عباس: (686) فقال ذلك اليوم سلمة بن سلامة بن وقش، وقد عجب لكثرة الناس: لن نُغلَب اليوم من قلّة، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامُه، ووُكلِوا إلى كلمة الرجل، فذلك قوله تعالى إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً. وقال سعيد بن المسيب: القائل لذلك أبو بكر الصديق. وحكى ابن جرير أنّ القائل لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . وقيل: بل العباس. وقيل: رجل من بني بكر. قوله تعالى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي: برحبها. قال الفراء: والباء هاهنا بمنزلة «في» كما تقول: ضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها. (الإشارة إلى القصة) قال أهل العلم بالسيرة: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، تآمر عليه أشراف هوازن وثقيف، فجاؤوا حتى نزلوا أوطاس «2» ، وأجمعوا المسير إليه، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما التقَوا أعجبتهم كثرتُهم فهُزموا. (687) وقال البراء بن عازب: لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فأقبلوا بالسهام، فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ عزاه البغوي في «التفسير» 2/ 328 للكلبي، وهو متهم بالكذب. وورد من مرسل قتادة دون ذكر القائل، أخرجه الطبري 16588. وورد من مرسل السدي 16590 وفيهما «أن رجلا ... » . صحيح. أخرجه البخاري 2042 ومسلم 1776 والترمذي 1688 والطيالسي 2/ 108 وأحمد 4/ 281 وأبي يعلى 1727 والبيهقي في «السنن» 9/ 155 والطبري 16594 من حديث البراء.

[سورة التوبة (9) : الآيات 26 إلى 27]

وبعضهم يقول: ثبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ جماعة من أصحابه منهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث. وبعضهم يقول: لم يبق معه سوى العباس وأبي سفيان. (688) فجعل النبي يقول للعباس: «نادِ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة» فنادى، وكان صيِّتاً، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنَّت إلى أولادها، يقولون: يا لبّيك، فنظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قتالهم، فقال: «الآن حمي الوطيس، أنا النبي لا كذب، انا ابن عبد المطلب» ثم قال للعباس: «ناولني حَصَيات» فناوله، فقال: «شاهت الوجوه» ورمى بها، وقال: «انهزموا وربِّ الكعبة» ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا. (689) وقيل: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من تراب، فرماهم به فانهزموا. وكانوا يقولون: ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه بالتّراب. [سورة التوبة (9) : الآيات 26 الى 27] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي: بعد الهزيمة. قال أبو عبيدة: هي فعيلة من السكون، وأنشد: لِلّهِ قَبْرٌ غَالَها ماذا يُجِنُّ ... لقد أَجَنَّ سكينةً وَوَقارا «1» وكذلك قال المفسرون: الأمن والطمأنينة. قوله تعالى: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها قال ابن عباس: يعني الملائكة. وفي عددهم يومئذ ثلاثة أقوال: أحدها: ستة عشر ألفاً، قاله الحسن. والثاني: خمسة آلاف، قاله سعيد بن جبير. والثالث: ثمانية، قاله مجاهد، يعني: ثمانية آلاف. وهل قاتلت الملائكة يومئذ، أم لا؟ فيه قولان. وفي قوله تعالى: وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أربعة أقوال: أحدها: بالقتل، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: بالقتل والهزيمة، قاله ابن أبزى ومقاتل. والثالث: بالخوف والحذر، ذكره الماوردي. والرابع: بالقتل والأسر وسبي الأولاد وأخذ الأموال، ذكره بعض ناقلي التفسير. قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ أي: يوفِّقه للتوبة من الشّرك. [سورة التوبة (9) : آية 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

_ صحيح. أخرجه مسلم 1775 والنسائي في «الكبرى» 8653 وعبد الرزاق في «المصنف» 9741 وأحمد 1/ 207 وابن حبان 7049 والطبري 16591 وابن سعد في الطبقات 4/ 18 و 19 والبغوي في «شرح السنة» 3710 من حديث العباس. صحيح. أخرجه الطبري 16593 عن أبي عبد الرحمن الفهري به وأتم ... وأخرجه مسلم 1777 وابن حبان 6520 من حديث سلمة بن الأكوع. وله شواهد.

قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال أبو عبيدة: معناه: قذر. قال الزجاج: يقال لكل شيء مستقذَر: نجَسٌ. وقال الفراء: لا تكاد العرب تقول: نِجْسٌ، إلا وقبلها رِجْسٌ، فاذا أفردوها قالوا: نَجَس. وفي المراد بكونهم نجساً ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم أنجاس الأبدان، كالكلب والخنزير، حكاه الماوردي عن الحسن، وعمر بن عبد العزيز. وروى ابن جرير عن الحسن قال: من صافحهم فليتوضأ. والثاني: أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة، وإن لم تكن أبدانهم أنجاساً، قاله قتادة. والثالث: أنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاسُ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح. قوله تعالى فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ قال أهل التفسير: يريد جميع الحرم. بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهو سنة تسع من الهجرة، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر الصّديق وقرئت (براءة) . وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بظاهر الآية، وأنه يحرم عليهم دخول الحرم، وهو قول مالك، والشافعي. واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد الحرام من المساجد، فروي عنه المنع أيضاً إلا لحاجة، كالحرم، وهو قول مالك. وروي عنه جواز ذلك، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز لهم دخول المسجد الحرام، وسائر المساجد «2» . قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، والشعبي، وابن السميفع: «عايلة» . (690) قال سعيد بن جبير: لما نزلت إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا

_ أخرجه الطبري 16615 عن سعيد بن جبير مرسلا. وأخرجه من مرسل عكرمة، برقم 16613 و 16614.

[سورة التوبة (9) : آية 29]

شقَّ على المسلمين، وقالوا: مَنْ يأتينا بطعامنا؟ وكانوا يَقْدَمون عليهم بالتجارة، فنزلت وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً قال الأخفش: العيلة: الفقر. يقال: عال يعيل عَيْلة: إذا افتقر. وأعال إعالة فهو يُعيل: إذا صار صاحب عيال. وقال أبو عبيدة: العيلة ها هنا مصدر عالَ فلانٌ: إذا افتقر، وأنشد: وَمَا يَدري الفقيرُ مَتى غِناه ... وما يَدري الغنيُّ متى يَعيل «1» وللمفسرين في قوله: «وإنْ» قولان: أحدهما: أنها للشرط، وهو الأظهر. والثاني: أنها بمعنى «وإذ» ، قاله عمرو بن فائد. قالوا: وإنما خاف المسلمون الفقر، لأن المشركين كانوا يحملون التجارات إليهم، ويجيئون بالطعام وغيره. وفي قوله تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم، فكثر خيرهم، قاله عكرمة. والثاني: أنه أغناهم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب، قاله قتادة، والضحاك. والثالث: أن أهل نجد، وجُرَشَ، وأهل صنعاء أسلموا، فحملوا الطعام إلى مكة على الظَّهْرِ، فأغناهم الله به، قاله مقاتل. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قال ابن عباس: عليم بما يصلحكم حَكِيمٌ فيما حكم في المشركين. [سورة التوبة (9) : آية 29] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قال المفسرون: نزلت في اليهود والنصارى. قال الزجاج: ومعناها: لا يؤمنون بالله إيمان الموحِّدين، لأنهم أقرُّوا بأنه خالقُهم وأنَّه له ولد، وكذلك إيمانهم بالبعث لأنهم لا يقرُّون بأنَّ أهل الجنة يأكلون ويشربون. وقال الماوردي: إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بحقوقه، وهم لا يقرُّون بها، فكانوا كمن لا يُقِرُّ به. قوله تعالى: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قال سعيد بن جبير: يعني الخمر والخنزير. قوله تعالى: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ في الحق قولان: أحدهما: أنه اسم الله، فالمعنى: دين الله، قاله قتادة. والثاني: أنه صفة للدين، والمعنى: ولا يدينون الدِّينَ الحقَّ فاضاف الاسم إلى الصفة. وفي معنى «يدينون» قولان: أحدهما: أنه بمعنى الطاعة، والمعنى: لا يطيعون الله طاعةَ حقٍّ، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنه من: دان الرجل يدين كذا: إذا التزمه. ثم في جملة الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى: لا يدخلون في دين محمّد صلى الله عليه وسلم، لأنه ناسخ لما قبله. والثاني: لا يعملون بما في التّوراة من اتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ قال ابن الأنباري: الجزية: الخراج المجعول عليهم سميت جزية، لانها قضاء لما عليهم أُخذ من قولهم: جَزى يَجْزي: إذا قضى ومنه قوله تعالى: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً «2» .

_ وأخرجه برقم 1662 و 16621 عن الضحاك. أخرجه 16622 عن مجاهد. وأخرجه 16617 عن عطية العوفي. والخلاصة: هذه الروايات وإن كانت مراسيل فإنها تتأيد بمجموعها، والله أعلم.

(691) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تَجْزِي عن أحدٍ بعدَك» . وفي قوله تعالى: عَنْ يَدٍ ستة أقوال: أحدها: عن قهر، قاله قتادة، والسدي. وقال الزجاج: عن قهر وذُلٍّ. والثاني: أنه النقد العاجل، قاله شريك، وعثمان بن مقسم. والثالث: أنه إعطاء المبتدئ بالعطاء، لا إعطاء المكافئ، قاله ابن قتيبة. والرابع: أن المعنى: عن اعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم. والخامس: عن إنعام عليهم بذلك لأن قبول الجزية منهم إنعام عليهم، حكاهما الزجاج. والسادس: يؤدُّونَها بأيديهم، ولا ينفذونها مع رسلهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَهُمْ صاغِرُونَ الصاغر: الذليل الحقير. وفي ما يُكَلَّفونه من الفعل الذي يوجب صغارهم خمسة أقوال: أحدها: أن يمشوا بها ملبّيين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن لا يُحمدوا على إعطائهم، قاله سلمان الفارسي. والثالث: أن يكونوا قياماً والآخذ جالساً، قاله عكرمة. والرابع: أن دفع الجزية هو الصغار. والخامس: أن إجراء أحكام الإسلام عليهم هو الصغار. (فصل:) واختُلف في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار، فالمشهور عن أحمد: أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس، وبه قال الشافعي. ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد: أنه من سُبي من أهل الأديان من العرب والعجم، فالعرب إن أسلموا، وإلا السيف، وأولئك إن أسلموا، وإلا الجزية فظاهر هذا أن الجزية تؤخذ من الكل، إلا من عابدي الأوثان من العرب فقط، وهو قول أبي حنيفة، ومالك «1» . (فصل:) فأما صفة الذين تؤخذ منهم الجزية، فهم أهل القتال. فأما الزَّمِنُ، والأعمى، والمفلوج، والشيخ الفاني، والنساء، والصبيان، والراهب الذي لا يخالط الناس، فلا تؤخذ منهم. (فصل:) فأما مقدارها، فقال أصحابنا: على الموسر: ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط: أربعة وعشرون، وعلى الفقير المعتمل: اثنا عشر، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعون درهماً، وسواء في ذلك الغني والفقير. وقال الشافعي: على الغني والفقير دينار. وهل تجوز الزيادة والنقصان مما يؤخذ منهم؟ نقل الأثرم عن أحمد: أنها تزاد وتنقَص على قدر طاقتهم، فظاهر هذا: أنها على اجتهاد الإمام ورأيه. ونقل يعقوب بن بختان: أنه

_ صحيح. أخرجه البخاري 976 ومسلم 1961 والطبراني في «الأوسط» 3036. كلهم من حديث البراء رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء» . فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال: إن عندي جذعة فقال: «اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك» . لفظ البخاري.

[سورة التوبة (9) : الآيات 30 إلى 31]

لا يجوز للامام أن ينقص من ذلك، وله أن يزيد. (فصل:) ووقت وجوب الجزية: آخر الحول، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجب في أول الحول. فأما إذا دخلت سنة في سنة، فهل تسقط جزية السنة الماضية؟ عندنا لا تسقط، وقال أبو حنيفة: تسقط. فأما إذا أسلم، فانها تسقط بالإسلام. فأما إن مات فكان ابن حامد يقول: لا تسقط. وقال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن تسقط. [سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 31] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «عزيرُ ابن الله» بغير تنوين. وقرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب، وعبد الوارث عن أبي عمرو: منوّناً. قال مكي بن أبي طالب: من نوَّن عزيراً رفعه على الابتداء، و «ابن» خبره. ولا يحسن حذف التنوين على هذا من «عزير» لالتقاء الساكنين. ولا تحذف ألف «ابن» من الخط، ويكسر التنوين لالتقاء الساكنين. ومن لم ينون «عزيراً» جعله أيضاً مبتدأ، و «ابن» صفة له فيُحذف التنوينُ على هذا استخفافاً لالتقاء الساكنين، ولأن الصّفة مع الموصوف الشيء الواحد، وتحذف ألف «ابن» من الخط، والخبر مضمر تقديره: عزير بن الله نبيُّنا وصاحبنا. (692) وسبب نزولها أن سلاَم بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصّيف، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف نتَّبِعُكَ وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال ابن عمر، وابن جريج: إن القائل لذلك فنحاص. فأما عزير، فقال شيخنا أبو منصور اللغوي: هو اسم أعجمي معرب، وإن وافق لفظ العربية، فهو عِبراني كذا قرأته عليه. وقال مكي بن أبي طالب: العزير عند كل النحويين: عربي مشتق من قوله: يعزِّروه. وقال ابن عباس: إنما قالوا ذلك، لأنهم لما عملوا بغير الحق، أنساهم الله التوراة، ونسخها من صدورهم، فدعا عزير اللهَ تعالى فعاد إليه الذي نسخ من صدورهم، ونزل نور من السماء فدخل جوفه، فأذَّن في قومه فقال: قد آتاني الله التوراة فقالوا: ما أُوتيها إلا لأنه ابن الله. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل، وهدم بيت المقدس، وقتل من قرأ التوراة، كان عزير غلاماً، فتركه. فلما توفي عزير ببابل، ومكث مائة عام، ثم بعثه الله تعالى إلى بني اسرائيل، فقال: أنا عزير فكذَّبوه وقالوا: قد حدَّثنا آباؤنا أن عزيراً مات ببابل، فان كنتَ عزيراً فأملل علينا التوراة فكتبها لهم فقالوا: هذا ابن الله. وفي الذين قالوا هذا عن عزير ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم

_ ضعيف. أخرجه الطبري 16635 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف فيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول. وانظر «تفسير البغوي» 1057 بتخريجنا.

جميع بني اسرائيل، روي عن ابن عباس. والثاني: طائفة من سلفهم، قاله الماوردي. والثالث: جماعة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم قولان: أحدهما: فنحاص وحده، وقد ذكرناه عن ابن عمر، وابن جريج. والثاني: الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس. فان قيل: إن كان قولَ بعضهم، فلِمَ أُضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة، تقول العرب: جئت من البصرة على البغال، وإن كان لم يركب إلا بغلاً واحداً. والثاني: أن من لم يقله، لم ينكره. قوله تعالى: وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ في سبب قولهم هذا قولان: أحدهما: لكونه ولد من غير ذكَر. والثاني: لأنه أحيى الموتى، وأبرأ الكُمْةَ والبُرص وقد شرحنا هذا المعنى في (المائدة) . قوله تعالى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ إن قال قائل: هذا معلوم، فما فائدته؟ فالجواب: أنّ معنى أنه قول بالفم، لا بيانَ فيه ولا برهانَ ولا تحته معنى صحيح، قاله الزجاج. قوله تعالى: يُضاهِؤُنَ قرأ الجمهور: من غير همز. وقرأ عاصم: «يضاهئون» . قال ثعلب: لم يتابع عاصماً أحد على الهمز. قال الفراء: وهي لغة. قال الزجاج: يضاهون: يشابهون قولَ من تقدَّمَهم من كَفَرتِهم، فانما قالوه اتباعاً لمتقدِّميهم. وأصل المضاهاة في اللغة: المشابهة والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم: امرأة ضهياء، وهي التي لا ينبت لها ثدي. وقيل: هي التي لا تحيض، والمعنى: أنها قد أشبهت الرجال. قال ابن الأنباري: يقال: ضاهَيت، وضاهأت: إذا شبَّهتَ. وفي الَّذِينَ كَفَرُوا ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم عبدة الأوثان، والمعنى: أن أولئك قالوا: الملائكة بنات الله، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم اليهود، فالمعنى: أن النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، شابهوا اليهود في قولهم: عزير ابن الله، قاله قتادة، والسدي. والثالث: أنهم أسلافهم، تابعوهم في أقوالهم تقليداً، قاله الزجاج، وابن قتيبة. وفي قوله تعالى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: لعنهم الله، قاله ابن عباس: والثاني: قتلهم الله، قاله أبو عبيدة. والثالث: عاداهم الله، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: من أين يصرفون عن الحق. قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ قد سبق في (المائدة) معنى الأحبار والرهبان. (693) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية، فقال: «أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم،

_ يشبه الحسن، أخرجه الترمذي 3095 والطبري 16646 و 16647 و 16648 والطبراني 17/ 92/ 218 والبيهقي 10/ 116 والسهمي في «تاريخ جرجان» 1162 من طرق متعددة عن عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين الجزري عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم به، وإسناده ضعيف، مداره على غطيف بن أعين الجزري، وهو ضعيف كما في «التقريب» . وقال الذهبي في «الميزان» : ضعفه الدارقطني. - وضعفه الترمذي بقوله: غريب، وغطيف ليس بمعروف في الحديث. وذكر الحافظ في «التهذيب» 22518 كلام الترمذي، وقال: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني: ضعيف. - قلت: حسنه الألباني في «صحيح الترمذي» 2471، ولم يعز الكلام عليه إلى موضع آخر، ولم يذكر مستنده

[سورة التوبة (9) : آية 32]

ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئاً استحلُّوهْ، واذا حرموا عليهم شيئاً حرّموه» «1» . فعلى هذا المعنى: إنهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا: إنهم أرباب. قوله تعالى: وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ قال ابن عباس: اتخذوه ربّا. [سورة التوبة (9) : آية 32] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ قال ابن عباس: يخمدوا دين الله بتكذيبهم، يعني: أنهم يكذبون به ويُعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك. وقال الحسن وقتادة: نور الله: القرآن والإسلام. فأما تخصيص ذلك بالأفواه، فلما ذكرنا في الآية قبلها. وقيل: إن الله تعالى لم يذكر قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا وهو زور. قوله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ قال الفرّاء: إنّما دخلت «إلا» ها هنا، لأن في الإباء طرفاً من الجحد، ألا ترى أنّ «أبيت» كقولك: «لم أفعل» ، فكأنه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد، قال الشاعر: فَهَلْ لِيَ أُمٌّ غيرُها إن تركتُها ... أبى الله إلا أن أكُون لَها ابنما «2» وقال الزجاج: المعنى: ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره. قال مقاتل: «يتم نوره» أي: يظهر دينه. [سورة التوبة (9) : آية 33] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم بِالْهُدى وفيه ثلاثة أقوال: أحدها:

_ في تحسينه إياه! إلا أن يكون أخذ بقول ابن كثير في «التفسير» 2/ 362 وفي نسخة 2/ 432 حيث قال: روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم. فذكر ابن كثير حديثا طويلا، وذكر فيه لفظ المصنف. وبحثت في مسند أحمد ومعجم الطبراني حديثا حديثا، فلم أجد في خبر إسلام عدي المطول، ما رواه غطيف هذا. فالصواب أن هذا اللفظ لم يرد من طرق، وليس له إلا هذا الطريق. والذي ورد من طرق إنما هو قصة إسلامه بغير هذا اللفظ. فهذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف. والله أعلم. - وورد تفسير الآية الكريمة بمثل الحديث المرفوع عن حذيفة بن اليمان من قوله. أخرجه الطبري 16649 و 16650 و 16651 و 16653 من طرق عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري عن حذيفة، وإسناده ضعيف، حبيب كثير الإرسال والتدليس، ولم يصرح في هذه الروايات بالتحديث. ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي 10/ 116. لكن تابعه عطاء بن السائب برقم 16658 وهو ضعيف لكن يصلح للاعتبار بحديثه. وله شاهد عن ابن عباس قوله، أخرجه الطبري 16656 وهو منقطع، السدي لم يلق ابن عباس. فلعل من حسنه لأجل هذه الروايات الموقوفة. والله أعلم، والأشبه أنه بين الضعيف والحسن، والله أعلم.

[سورة التوبة (9) : آية 34]

أنه التوحيد. والثاني: القرآن. والثالث: تبيان الفرائض. فأما دين الحق، فهو الإسلام. وفي قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ قولان: أحدهما: أن الهاء عائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: ليعلّمه شرائع الدِّين كلَّها، فلا يخفى عليه منها شيء، قاله ابن عباس. والثاني: أنها راجعة إلى الدين. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: ليظهر هذا الدين على سائر الملل. ومتى يكون ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: عند نزول عيسى عليه السلام، فانه يتبعه أهل كل دين، وتصير المللُ واحدة، فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام أو أدَّوا الجزية، قاله أبو هريرة، والضحاك. والثاني: أنه عند خروج المهدي. قاله السدي. والقول الثاني: أن إظهار الدِّين إنما هو بالحجج الواضحة، وإن لم يدخل الناس فيه. [سورة التوبة (9) : آية 34] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) قوله تعالى: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى. وفي الباطل أربعة أقوال: أحدها: أنه الظلم، قاله ابن عباس. والثاني: الرشا في الحكم، قاله الحسن. والثالث: الكذب، قاله أبو سليمان. والرابع: أخذه من الجهة المحظورة، قاله القاضي أبو يعلى: والمراد: أخذ الأموال، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود من المال. وفي المراد بسبيل الله ها هنا قولان: أحدهما: الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنه الحق في الحكم. قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها نزلت عامّة في أهل الكتاب والمسلمين، قاله أبو ذر، والضحاك. والثاني: أنها خاصَّة في أهل الكتاب، قاله معاوية بن أبي سفيان. والثالث: أنها في المسلمين، قاله ابن عباس، والسدي. وفي الكنز المستحقّ عليه هذا الوعيد ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما لم تؤدَّ زكاته. (694) قال ابن عمر: كل مال أُدِّيتْ زكاتُه وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز، وكلّ مال لا

_ موقوف صحيح. وورد مرفوعا وهو ضعيف جدا. أخرجه البيهقي 4/ 82 بإسناد صحيح عن ابن عمر موقوفا، وقال هذا هو الصحيح موقوف، وقد روى سويد بن عبد العزيز وليس بالقوي مرفوعا، ثم ساق إسناده اه. وسويد هذا ضعيف متروك الحديث. وتوبع فقد أخرجه البيهقي 4/ 83 من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا وقال: ليس هذا بمحفوظ، والمشهور عن ابن عمر موقوفا. اه. وفي إسناده محمد بن كثير المصيصي الثقفي وهو ضعيف، فالراجح الوقف عليه، كما قال البيهقي رحمه الله. وأخرجه الطبري 16668 عن ابن عمر وكرره 16666 بنحوه. انظر «تفسير ابن كثير» بتخريجنا عند هذه الآية.

[سورة التوبة (9) : آية 35]

تؤدَّى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهراً على وجه الأرض، وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور. فعلى هذا، معنى الإنفاق: إخراج الزكاة. والثاني: أنه ما زاد على أربعة آلاف، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: أربعة آلاف نفقة، وما فوقها كنز. والثالث: ما فضل عن الحاجة، وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نُسخ بالزكاة. فان قيل: كيف قال: «ينفقونها» وقد ذكر شيئين؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن المعنى: يرجع إلى الكنوز والأموال. والثاني: أنه يرجع إلى الفضة، وحذُف الذهب، لأنه داخل في الفضة، قال الشاعر: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا ... عندك راضٍ والرأي مختلفُ «1» يريد: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ، ذكر القولين الزجاج. وقال الفراء: إن شئت اكتفيت بأحد المذكورين، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً «2» ، وقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «3» ، وأنشد: إني ضمنت لمن أتاني ما جَنَى ... وأبى وكان وكنت غير غَدورِ «4» ولم يقل: غدورين، وإنما اكتفى بالواحد لاتفاق المعنى. قال أبو عبيدة: والعرب إذا أشركوا بين اثنين قصروا، فخبَّروا عن أحدهما استغناء بذلك، وتحقيقاً لمعرفة السامع بأن الآخر قد شاركه، ودخل معه في ذلك الخبر، وأنشد: فمن يك أمسى بالمدينة رحْلُهُ ... فاني وقيَّارٌ بها لغريب «5» والنصب في «قيار» أجود، وقد يكون الرفع. وقال حسان بن ثابت: إنَّ شرخَ الشبابِ والشّعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا «6» ولم يقل: يعاصيا. [سورة التوبة (9) : آية 35] يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) قوله تعالى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها أي: على الأموال. (695) قال ابن مسعود: والله ما من رجل يُكوى بكنز، فيوضعُ دينار على دينار ولا درهم على

_ موقوف صحيح. أخرجه الطبري 16697 و 16698 والطبراني 8754 عن ابن مسعود موقوفا وهو صحيح.

[سورة التوبة (9) : آية 36]

درهم، ولكن يوسَّع جلده، فيوضع كل دينار. ودرهم على حدته. وقال ابن عباس: هي حيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته، فتقول: أنا مالك الذي بخلت به «1» . قوله تعالى: هذا ما كَنَزْتُمْ فيه محذوف تقديره: ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي: عذاب ذلك. فان قيل: لم خصَّ الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن؟ فالجواب: أن هذه المواضع مجوَّفة، فيصل الحر إلى أجوافها، بخلاف اليد والرجل. (696) وكان أبو ذرٍّ يقول: بشر الكنَّازين بكيّ في الجباه وكيّ في الجنوب وكيٍّ في الظهور، حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم. وجواب آخر: وهو أن الغنيَّ إذا رأى الفقير، انقبض وإذا ضمه وإياه مجلس، ازورّ عنه ووِّلاه ظهره، قاله أبو بكر الورّاق. [سورة التوبة (9) : آية 36] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ قال المفسرون: نزلت هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله، فربما وقع حجهم في رمضان، وربما وقع في شوال، إلى غير ذلك وكانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً، ويحرِّمون مكانه صفر، وتارة يحرِّمون المحرَّم ويستحلُّون صفر. قال الزّجّاج: أعلم الله عزّ وجلّ أن عدد شهور المسلمين التي تُعُبِّدوا بأن يجعلوه لسنتهم: اثنا عشر شهراً على منازل القمر فجعل حجهم وأعيادهم على هذا العدد، فتارة يكون الحج والصوم في الشتاء، وتارة في الصيف، بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب، فانهم يعملون على أن السنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوماً وبعض يوم. وجمهور القراء على فتح عين «اثنا عشر» . وقرأ أبو جعفر: اثنا عشر، وأحد عْشر، وتسعة عْشر، بسكون العين فيهن. قوله تعالى: فِي كِتابِ اللَّهِ أي: في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس: في الإمام الذي عند الله، كتبه يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وفيها قولان: أحدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون. وقال القاضي أبو يعلى: إنما سماها حُرُماً لمعنيين. أحدهما: تحريم القتال فيها، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون ذلك أيضاً. والثاني: لتعظيم انتهاك المحارم فيها أشدَّ من تعظيمه في غيرها، وكذلك تعظيم الطاعات فيها. والثاني: انها الأشهُر التي أُجِّل المشركون فيها للسياحة، ذكره ابن قتيبة.

_ هو بعض حديث أخرجه البخاري 1407 ومسلم 992 وأحمد 5/ 160 وابن حبان 3260 من حديث أبي ذر وسياقه الوقف لكن أشار أبو ذر عقبة لرفعه، والله أعلم.

[سورة التوبة (9) : آية 37]

قوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فيه قولان: أحدهما: ذلك القضاء المستقيم، قاله ابن عباس. والثاني: ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ اختلفوا في كناية «فيهنَّ» على قولين: أحدهما: أنها تعود على الاثني عشر شهراً، قاله ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى: لا تجعلوا حرامها حلالاً، ولا حلالها حراماً، كفعل أهل النسيء. والثاني: أنها ترجع إلى الأربعة الحرم، وهو قول قتادة، والفراء واحتج بأن العرب تقول لما بين الثلاثة إلى العشرة: لثلاث ليال خَلَوْنَ، وأيام خلون فاذا جُزتَ العشَرة قالوا: خلتْ ومضتْ ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة: هُنَّ، وهؤلاء فاذا جزتَ العشرة، قالوا: هي، وهذه: إرادةَ أن تُعرف سمة القليل من الكثير. وقال ابن الأنباري: العرب تعيد الهاء والنون على القليل من العدد، والهاء والألف على الكثير منه والقلَّة: ما بين الثلاثة إلى العشرة، والكثرة: ما جاوز العشرة. يقولون: وجهتُ إليك أكبُشاً فاذبحْهُنَّ، وكباشاً فاذبحها فلهذا قال: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وقال: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ لأنه يعني بقوله تعالى: «فيهن» الأربعة. ومن قال من المفسرين: إنه يعني بقوله تعالى «فيهن» الاثني عشر، فانه ممكن لأن العرب ربما جعلت علامة القليل للكثير، وعلامة الكثير للقليل. وعلى قول من قال: ترجع «فيهن» إلى الأربعة يُخرَّج في معنى الظلم فيهن أربعة أقوال: أحدها: أنه المعاصي فتكون فائدة تخصيص النهي عنه بهذه الأشهر، أن شأن المعاصي يعظُم فيها أشدَّ من تعظيمه في غيرها، وذلك لفضلها على ما سواها، كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» وإن كانا قد دخلا في جملة الملائكة، وقوله: فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «2» وإن كانا قد دخلا في جملة الفاكهة، وقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «3» وإن كان منهياً عنه في غير الحج، وكما أُمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وإن كان مأموراً بالمحافظة على غيرها، هذا قول الأكثرين. والثاني: أن المراد بالظلم فيهنَّ فعل النسيء، وهو تحليل شهر محرَّم، وتحريم شهر حلال، قاله ابن اسحاق. والثالث: أنه البداية بالقتال فيهن فيكون المعنى: فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهن إلا أن تُبدَؤوا بالقتال، قاله مقاتل. والرابع: أنه ترك القتال فيهن فيكون المعنى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المحاربة لعدوِّكم، قاله ابن بحر، وهو عكس قول مقاتل. والسرُّ في أن الله تعالى عظَّم بعض الشهور على بعض، ليكون الكفُّ عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها تدريجاً للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعا. [سورة التوبة (9) : آية 37] إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ الجمهور على همز النسيء ومَدِّه وكسر سينه. وروى شبل عن ابن كثير: «النِّسْءُ» على وزن النِسْع. وفي رواية أخرى عن شبل: «النَّسِيُّ» مشددة الياء من غير همز، وهي قراءة أبي جعفر والمراد بالكلمة التأخير. قال اللغويون: النّسيء: تأخير الشّيء.

_ (1) سورة البقرة: 98. (2) سورة الرحمن: 68. (3) سورة البقرة: 197.

[سورة التوبة (9) : آية 38]

وكانت العرب تحرِّم الأشهر الأربعة، وكان هذا مما تمسَّكت به من ملة إبراهيم فربما احتاجوا إلى تحليل المحرَّم للحرب تكون بينهم، فيؤخِّرون تحريم المحرَّم إلى صفر، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضاً إلى الشهر الذي بعده ثم تتدافع الشهور شهراً بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنَّة كلِّها، فكأنهم يستنسئون الشهر الحرام ويستقرضونه، فأعلم الله تعالى أن ذلك زيادة في كفرهم لأنهم أحلُّوا الحرام وحرّموا الحلال لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فلا يخرجون من تحريم أربعة، ويقولون: هذه بمنزلة الأربعة الحرم، ولا يبالون بتحليل الحرام وتحريم الحلال. وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم، قال الفراء: كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصَّدَرَ عن مِنًى قام رجل من بني كنانة يقال له: نُعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذي لا أُعابُ ولا أُجابُ ولا يُرَدُّ لي قضاء فيقولون: أنسئنا شهراً يريدون: أخِّر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حُرُم لا يُغِيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة، فتستدير الشهور كما بيَّنَّا. وقيل: إنما كانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً، فاذا كان من قابل ردُّوه إلى تحريمه. قال أبو عبيد: والتفسير الأول أحب إليَّ، لأن هذا القول ليس فيه استدارة. (697) وقال مجاهد: كان أولَ من أظهر النسيء جنادةُ بن عوف الكناني، فوافقت حجَةُ أبي بكر ذا القعدة. ثم حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في العام المقابل في ذي الحجة، فذلك حين قال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» . وقال الكلبي: أول من فعل ذلك نُعيم بن ثعلبة. قوله تعالى: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «يَضِل» بفتح الياء وكسر الضاد، والمعنى: أنهم يكتسبون الضلال به. وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم: «يُضَلُّ» بضم الياء وفتح الضاد على ما لم يُسم فاعله. وقرأ الحسن البصري، ويعقوب إلا الوليد: «يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: يُضِلُّ الله به. والثاني: يُضِلّ الشيطان به، ذكرهما ابن القاسم. والثالث: يُضِلّ به الذين كفروا الناس، لأنهم الذين سنُّوه لهم. قال أبو علي: التقدير: يُضل به الذين كفروا تابعيهم. وقال ابن القاسم: الهاء في «به» راجعة إلى النسيء، وأصل النسيء: المنسوء، أي: المؤخَّر، فينصرف عن «مفعول» إلى «فعيل» كما قيل: مطبوخ وطبيخ، ومقدور وقدير، قال: وقيل: الهاء راجعة إلى الظلم، لأن النسيء كَشَفَ تأويل الظلم، فجرى مجرى المظهر والأوّل اختيارنا. [سورة التوبة (9) : آية 38] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) قوله تعالى: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا.

_ مرسل. أخرجه الطبري 16728 عن مجاهد مرسلا. والمرفوع منه أخرجه البخاري 67 و 105 و 1741 و 3197 و 4406 و 4662 و 5550 و 7447 ومسلم 1679 وأبو داود 1948 وابن ماجة 233 وابن حبان 4848 وأحمد 5/ 39 من حديث أبي بكرة، وله شواهد كثيرة.

[سورة التوبة (9) : آية 39]

(698) قال المفسّرون: لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك، وكان في زمن عسرة وجدب وحرٍّ شديد، وقد طابت الثمار، عَظُمَ ذلك على الناس وأحبوا المُقام، فنزلت هذه الآية. وقوله تعالى: ما لَكُمْ استفهام معناه التّوبيخ. وقوله تعالى: انْفِرُوا معناه: اخرجوا، وأصل النفر: مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج إلى ذلك. وقوله تعالى: اثَّاقَلْتُمْ قال ابن قتيبة: أراد: تثاقلتم، فأدغم التاء في الثاء، وأحدثت الألف ليسكن ما بعدها، وأراد: قعدتم. وفي قراءة ابن مسعود، والأعمش: «تثاقلتم» . وفي معنى إِلَى الْأَرْضِ ثلاثة أقوال: أحدها: تثاقلتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمرها، قاله مجاهد. والثاني: اطمأننتم إلى الدنيا، قاله الضحاك. والثالث: تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم، قاله الزجاج. قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي: بنعيمها من نعيم الآخرة، فما يُتمتَّع به في الدنيا قليل بالإضافة إلى ما يَتمتَّع به الأولياء في الجنة. [سورة التوبة (9) : آية 39] إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ. (699) سبب نزولها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حثَّهم على غزو الروم تثاقلوا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال قوم: هذه خاصّة فيمن استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر. (700) قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأُمسك عنهم المطر فكان عذابهم. وفي قوله تعالى: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وعيد شديد في التخلُّف عن الجهاد، وإعلام بأنه يستبدل لنصر نبيه قوماً غير متثاقلين. ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم يضروه، كما لم يضرُرْه ذلك إذْ كان بمكة. وفي هاء «تضرُّوه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله، والمعنى: لا تضروا الله بترك النفير، قاله الحسن. والثاني: أنها ترجع إلى رسول الله. فالمعنى: لا تضروه بترك نصره، قاله الزجاج. (فصل:) وقد روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، قالوا: نسخ قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 502 بدون إسناد. وأخرجه الطبري 16734 و 16735 عن مجاهد مرسلا بنحوه. هو معنى المتقدم، لأن غزوة تبوك كان المراد بها الروم. باطل. أخرجه أبو داود 2506 والحاكم 2: 118 والطبري 16736 والبيهقي 9: 48 من رواية عبد المؤمن عن نجدة بن نفيع عن ابن عباس، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! ومداره على نجدة، وهو مجهول، والمتن باطل، إذ لم يحصل ذلك، ثم إن العذاب الأليم ليس بحبس المطر، لأنهم يمكنهم الانتقال إلى موضع آخر، والمراد عذاب مهلك، أو عذاب النار.

[سورة التوبة (9) : آية 40]

بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «1» . وقال أبو سليمان الدمشقي: ليس هذا من المنسوخ، إذ لا تنافي بين الآيتين، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها. وذكر القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا: ليس ها هنا نسخ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدوَّ، ففرضٌ على الناس النفير إليهم، ومتى استغنَوا عن إعانة مَن وراءهم، عُذر القاعدون عنهم. وقال قوم: هذا في غزوة تبوك، ففُرِض على الناس النّفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. [سورة التوبة (9) : آية 40] إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ أي: بالنفير معه فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إعانةً على أعدائه، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «2» فأعلمهم أن نصره ليس بهم. قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ العرب تقول: هو ثاني اثنين، أي: أحد الاثنين، وثالث ثلاثة، أي: أحد الثلاثة، قال الزّجّاج: وقوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ منصوب على الحال المعنى: فقد نصره الله أحد اثنين، أي: نصره منفرداً إلا من أبي بكر، وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر. وقال ابن جرير: المعنى: أخرجوه وهو أحد الاثنين، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. فأما الغار، فهو ثَقب في الجبل، وقال ابن فارس: الغار: الكهف، والغار: نبت طيِّب الرِّيح، والغار: الجماعة من الناس، والغاران: البطن والفرج، وهما الأجوفان، يقال: إنما هو عبد غارَيْه قال الشاعر: ألَم تر أنَّ الدَّهْرَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... وأنَّ الفَتَى يَسْعَى لِغَارَيْهِ دَائِبَا «3» قال قتادة: وهذا الغار في جبل بمكة يقال له: ثور. قال مجاهد: مكثا فيه ثلاثاً. وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب «الحدائق» .

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 374: ولا خبر بالذي قاله عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية التي ذكرا، يجب التسليم له. ولا حجة ناف لصحة ذلك. وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عدد من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعد، وجائز أن يكون قوله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً. الخاص من الناس، ويكون المراد به من استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس. وإذ كان ذلك كذلك، كان قوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] نهيا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمن مقيم فيها. وإعلاما من الله لهم أن الواجب النفر على بعضهم دون بعض، وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيا فيما عنيت به ا. هـ. (2) سورة الأنفال: 3. (3) البيت في «اللسان» غور، غير منسوب.

(701) قال أنس بن مالك: أمر الله عزّ وجلّ شجرة فنبتت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه، وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في فم الغار، فلما دنوا من الغار، عَجِل بعضهم لينظر، فرأى حمامتين، فرجع فقال: رأيت حمامتين على فم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد. (702) وقال مقاتل: جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال: هذه قدم ابن أبي قحافة، والأخرى لا أعرفها، إلا أنها تشبه القدم التي في المقام. وصاحبه في هذه الآية أبو بكر. (703) وكان أبو بكر قد بكى لما مرَّ المشركون على باب الغار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ؟ وفي السكينة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الرحمة، قاله ابن عباس. والثاني: الوقار، قاله قتادة. والثالث: السكون والطمأنينة، قاله ابن قتيبة، وهو أصح. وفي هاء «عليه» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى أبي بكر، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن عباس، وحبيب بن أبي ثابت. واحتجَ من نصر هذا القول بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مطمئناً. والثاني: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل. والثالث: أنّ الهاء ها هنا في معنى تثنية، والتقدير: فأنزل الله سكينته عليهما، فاكتفى باعادة الذِّكر على أحدهما من إعادته عليهما، كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» ، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: وَأَيَّدَهُ أي: قوّاه، يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة. ومتى كان ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، قاله ابن عباس. والثاني: لما كان في الغار، صَرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته، قاله الزجاج. فان قيل: إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في «أيده» ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف تفارقها هاء «عليه» وهما متفقان في نظم الكلام؟ فالجواب: أن كل حرف يُردُّ إلى الأليق به، والسكينة إنما يَحتاج إليها المنزعج، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم منزعجاً. فأما التأييد بالملائكة، فلم يكن إلا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ونظير هذا قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ «2» يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَتُسَبِّحُوهُ يعني الله عزّ وجلّ.

_ أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 1/ 229 عن أبي مصعب المكي عن أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة. وفي سنده ضعيف ومجهول. وذكره الهيثمي في «المجمع» 6/ 52- 53 وقال: رواه البزار والطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والخبر باطل. كون أبي بكر بكى في الغار لم أقف عليه، والذي في «الصحيحين» أن أبا بكر بكى لما تبعهما سراقة. والمرفوع من هذا الحديث صحيح، أخرجه البخاري 3653 و 3922 ومسلم 2381 وابن أبي شيبة 12/ 7 وأحمد 1/ 4 وابن سعد 3/ 173 و 174 والترمذي 3096 وأبو يعلى 67 وابن حبان 6278 عن أنس: أن أبا بكر حدثهم قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» .

[سورة التوبة (9) : آية 41]

قوله تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى فيها قولان: أحدهما: أن كلمة الكافرين الشرك، جعلها الله السفلى لأنها مقهورة، وكلمة الله وهي التوحيد، هي العليا، لأنها ظهرت، هذا قول الأكثرين. والثاني: أن كلمة الكافرين ما قدَّروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله أنه ناصره، رواه عطاء عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، ويعقوب: «وكلمةَ الله» بالنصب. قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي: في انتقامه من الكافرين حَكِيمٌ في تدبيره. [سورة التوبة (9) : آية 41] انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا. (704) سبب نزولها أنّ المقداد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عظيماً سميناً، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. وفي معنى «خفافاً وثقالاً» أحد عشر قولاً: أحدها: شيوخاً وشباباً، رواه أنس عن أبي طلحة، وبه قال الحسن، والشعبي، وعكرمة، ومجاهد، وأبو صالح، وشَمْرُ بن عطية، وابن زيد في آخرين. والثاني: رجّالةً وركباناً، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأوزاعي. والثالث: نِشاطاً وغير نِشاط، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، ومقاتل. والرابع: أغنياء وفقراء، روي عن ابن عباس. ثم في معنى هذا الوجه قولان: أحدهما: أن الخفاف: ذوو العسرة وقلَّة العيال، والثقال: ذوو العيال والميسرة، قاله الفراء. والثاني: أن الخفاف: أهل الميسرة، والثقال: أهل العسرة، حكي عن الزجاج. والخامس: ذوي عيال، وغير ذوي عيال. قاله زيد بن أسلم. والسادس: ذوي ضياع، وغير ذوي ضياع، قاله ابن زيد. والسابع: ذوي أشغال، وغير ذوي أشغال، قاله الحكم. والثامن: أصحَّاء، ومرضى، قاله مرة الهمداني، وجويبر. والتاسع: عزَّاباً ومتأهِّلين، قاله يمان بن رئاب. والعاشر: خفافاً إلى الطاعة، وثقالاً عن المخالفة، ذكره الماوردي. والحادي عشر: خفافاً من السلاح، وثقالاً بالاستكثار منه، ذكره الثعلبي. (فصل:) روى عطاء الخراساني عن ابن عباس ان هذه الآية منسوخة بقوله «1» تعالى:

_ باطل. عزاه المصنف للسدي، وهو ذو مناكير، وخبره معضل، والمتن باطل، فإن المقداد بن الأسود أحد الشجعان الأبطال لم يتخلف عن غزوة دعي إليها. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 504 عن السدي. وذكره السيوطي في «الدر» 3/ 440 وعزاه لأبي الشيخ وابن أبي حاتم عن السدي.

[سورة التوبة (9) : آية 42]

وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «1» . وقال السّدّيّ: نسخت بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى «2» . قوله تعالى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ قال القاضي أبو يعلى: أوجب الجهاد بالمال والنفس جميعاً، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال، فعليه الجهاد بماله، بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قوياً. وإن كان له مال وقوَّة، فعليه الجهاد بالنفس والمال. ومن كان معدماً عاجزاً، فعليه الجهاد بالنّصح لله ورسوله، لقوله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ «3» . قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ فيه قولان: أحدهما: ذلكم الجهاد خير لكم من تركه والتثاقل عنه. والثاني: ذلكم الجهاد خير حاصل لكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما لكم من الثّواب. [سورة التوبة (9) : آية 42] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) قوله تعالى: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً قال المفسرون: نزلت في المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك. ومعنى الآية: لو كان ما دُعوا إليه عَرَضاً قريباً. والعرض: كلُّ ما عرض لك من منافع الدنيا، فالمعنى: لو كانت غنيمةً قريبة، أو كان سفراً قاصداً، أي: سهلاً قريباً، لاتَّبعوك طمعاً في المال وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ قال ابن قتيبة: الشقة: السفر وقال الزجاج: الشقة: الغاية التي تقصد وقال ابن فارس: الشقة: مصير إلى أرض بعيدة، تقول: شقّة شاقّة. قوله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يعني المنافقين إذا رجعتم إليهم لَوِ اسْتَطَعْنا وقرأ زائدة عن الأعمش، والأصمعي عن نافع: «لوُ استطعنا» بضم الواو، وكذا أين وقع، مثل: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ «4» ، كأنه لما احتيج إلى حركة الواو، حركت بالضم لأنها أخت الواو، والمعنى: لو قدرنا وكان لنا سَعَةٌ في المال. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالكذب والنفاق وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لأنهم كانوا أغنياء ولم يخرجوا. [سورة التوبة (9) : آية 43] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ كان عليه السّلام قد أذن لقوم من المنافقين في التخلُّف لمَّا خرج إلى تبوك، قال ابن عباس: ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين. (705) قال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: أذّنه للمنافقين، وأخذه

_ مرسل. أخرجه الطبري 16780 عن عمرو بن ميمون الأودي ... وذكره السيوطي في «أسباب النزول» 573 عن عمرو. انظر «تفسير القرطبي» 8/ 139 و «تفسير الشوكاني» 2/ 419.

[سورة التوبة (9) : الآيات 44 إلى 45]

الفداء من الأسارى فعاتبه الله كما تسمعون. قال مورِّق: عاتبه ربُّه بهذا. وقال سفيان بن عيينة: انظر إلى هذا اللطف، بدأه بالعفو قبل أن يعيِّره بالذَّنْب. وقال ابن الأنباري: لم يخاطَب بهذا لجرم أجرمه، لكنَّ الله وقَّره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريماً عليه: عفا الله عنك، ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك، هلاَّ زرتني. قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فيه قولان: أحدهما: أن معناه: حتى تعرف ذوي العذر في التخلُّف ممن لا عذر له. والثاني: لو لم تأذن لهم لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم. قال قتادة: ثم إن الله تعالى نسخ هذه الآية بقوله تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «1» . [سورة التوبة (9) : الآيات 44 الى 45] لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قال ابن عباس: هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود. قال الزجاج: أعلم الله عزّ وجلّ نبيّه صلى الله عليه وسلم أنَّ علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان. (فصل:) وروي عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية بقوله تعالى: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ «2» إلى آخر الآية. قال أبو سليمان الدّمشقي: وليس للنّسخ ها هنا مدخل، لإمكان العمل بالآيتين، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة، وكان المنافقون إذا كانوا معه فعرضت لهم حاجة، ذهبوا من غير استئذانه. [سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 47] وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) قوله تعالى: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ يعني المستأذنين له في القعود. وفي المراد بالعُدَّة قولان: أحدهما: النية، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: السلاح والمركوب وما يصلح للخروج، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والانبعاث: الانطلاق. والتثبُّط: ردُّك الإنسان عن الشيء يفعله. قوله تعالى: وَقِيلَ اقْعُدُوا في القائل لهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أُلهموا ذلك خذلاناً لهم. قاله مقاتل. والثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله غضباً عليهم. والثالث: أنه قول بعضهم لبعض، ذكرهما الماوردي «3» . وفي المراد بالقاعدين قولان: أحدهما: أنهم القاعدون بغير عذر، قاله ابن السائب. والثاني: أنهم القاعدون بعذر، كالنساء والصبيان، ذكره عليّ بن عيسى. قال الزّجّاج: ثم أعلم الله عزّ وجلّ لم كره خروجهم،

_ (1) سورة النور: 62. (2) سورة النور: 62. (3) انظر «تفسير القرطبي» 8/ 142. و «تفسير الشوكاني» 2/ 418.

[سورة التوبة (9) : آية 48]

فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا والخبال: الفساد وذهاب الشيء. وقال ابن قتيبة: الخبال: الشر. فان قيل: كأن الصحابة كان فيهم خبال حتى قيل: ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا؟ فالجواب: أنه من الاستثناء المنقطع، والمعنى: ما زادوكم قوَّة، لكن أوقعوا بينكم خبالاً. (706) وقيل: سبب نزول هذه الآية أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج، ضرب عسكره على ثنيَّة الوداع، وخرج عبد الله بن أُبيّ، فضرب عسكره على أسفل من ذلك فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلَّف ابن أُبي فيمن تخلَّف من المنافقين، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قال الفراء: الإيضاع: السير بين القوم. وقال أبو عبيدة: لأسرعوا بينكم، وأصله من التخلل. قال الزجاج: يقال: أوضعت في السير: أسرعت. قوله تعالى: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ قال الفراء: يبغونها لكم. وفي الفتنة قولان: أحدهما: الكفر، قاله الضحاك، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: تفريق الجماعة، وشتات الكلمة. قال الحسن: لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات بينكم. قوله تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فيه قولان: أحدهما: عيون ينقلون إليهم أخباركم، قاله مجاهد، وابن زيد. والثاني: مَن يسمع كلامهم ويطيعهم، قاله قتادة، وابن إسحاق. [سورة التوبة (9) : آية 48] لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) قوله تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ في الفتنة قولان: أحدهما: الشر، قاله ابن عباس. والثاني: الشرك، قاله مقاتل. قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قَبْلِ غزوة تبوك. وفي قوله تعالى: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ خمسة أقوال: أحدها: بَغَوْا لك الغوائل، قاله ابن عباس. وقيل: إن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على طريقه ليلاً ليفتكوا به، فسلَّمه الله منهم. والثاني: احتالوا في تشتُّت أمرك وإبطال دينك، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: وذلك كانصراف ابن أُبيّ يوم أُحد بأصحابه. والثالث: أنه قولهم ما ليس في قلوبهم. والرابع: أنه ميلهم إليك في الظاهر، وممالأة المشركين في الباطن. والخامس: أنه حلفهم بالله لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي. قوله تعالى: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ يعني النصر وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ يعني الإسلام. [سورة التوبة (9) : آية 49] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي

_ هو بعض حديث، أخرجه الطبري 16799 من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر.

[سورة التوبة (9) : الآيات 50 إلى 51]

(707) سبب نزولها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجَدِّ بن قيس: «يا جَدُّ، هل لك في جِلاد بني الأصفر، لعلك أن تغنم بعض بنات الأصفر» ، فقال: يا رسول الله، ائذن لي فأقيم، ولا تفتني ببنات الأصفر. فأعرض عنه، وقال: «قد أذنت لك» ، ونزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وهذه الآية وما بعدها إلى قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ في المنافقين. قوله تعالى: وَمِنْهُمْ يعني المنافقين مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي أي: في القعود عن الجهاد، وهو الجد بن قيس. وفي قوله تعالى: وَلا تَفْتِنِّي أربعة أقوال: أحدها: لا تفتنّي بالنساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد. والثاني: لا تُكسبني الإثم بأمرك إيَّايَ بالخروج وهو غير متيسِّر لي، فآثم بالمخالفة، قاله الحسن، وقتادة، والزجاج. والثالث: لا تكفِّرني بإلزامك إيَّايَ الخروج، قاله الضحاك. والرابع: لا تصرفني عن شغلى، قاله ابن بحر. قوله تعالى: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا في هذه الفتنة أربعة أقوال: أحدها: أنها الكفر، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الحرج، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: الإثم، قله قتادة، والزجاج. والرابع: العذاب في جهنم، ذكره الماوردي. [سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 51] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ أي: نصر وغنيمة. والمصيبة: القتل والهزيمة. يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أي: عَمِلنا بالحزم فلم نخرج. وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ بمصابك وسلامتهم. قوله تعالى: إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما قضى علينا، قاله ابن عباس. والثاني: ما بيَّن لنا في كتابه من أنَّا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا، أو نقتل فتكون الشهادةُ حسنى لنا أيضاً، قاله الزجاج. والثالث: لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا من النصر الذي وُعدنا، ذكره الماوردي. قوله تعالى: هُوَ مَوْلانا أي: ناصرنا. [سورة التوبة (9) : آية 52] قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أي: تنتظرون. والحسنيان: النصر والشهادة. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ في هذا العذاب قولان: أحدهما: الصواعق، قاله ابن عباس. والثاني: الموت، قاله ابن جُرَيج. قوله تعالى: أَوْ بِأَيْدِينا يعني: القتل.

_ أخرجه الطبراني في «الكبير» 2154 و 12654 من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في المجمع 7/ 30: وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف اه. قلت: وبشر بن عمارة ضعيف، والضحاك لم يسمع من ابن عباس، وللحديث شواهد. انظر «الدر المنثور» 3/ 49 و «دلائل النبوة» للبيهقي 5/ 213 و 214.

[سورة التوبة (9) : آية 53]

[سورة التوبة (9) : آية 53] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) قوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً. (708) سبب نزولها أن الجدّ بن قيس قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما عرض عليه غزو الروم: إذا رأيت النساء افتتنت ولكن هذا مالي أعينك به، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. قال الزجاج: وهذا لفظ أمر، ومعناه معنى الشرط والجزاء، المعنى: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يُتقبَّل منكم. ومثله في الشعر قول كثيِّر: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ... لَدينا ولا مَقْلِيَّةً إن تَقَلَّتِ «1» لم يأمرها بالإساءة، ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها. قال الفراء. ومثله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «2» . [سورة التوبة (9) : آية 54] وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) قوله تعالى: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تقبل» بالتاء: وقرأ حمزة، والكسائيّ: «يقبل» بالياء. وقال أبو علي: من أنَّث، فلأن الفعل مسند إلى مؤنَّث في اللفظ ومن قرأ بالياء، فلأنه ليس بتأنيث حقيقي، فجاز تذكيره كقوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «3» . وقرأ الجحدري: «أن يَقبل» بياء مفتوحة، «نفقاتِهم» بكسر التاء. وقرأ الأعمش: «نفقتهم» بغير ألف، مرفوعة التاء. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء: «أن يَقبل» بالياء «نفقتهم» بنصب التاء على التوحيد. قوله تعالى: إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ قال ابن الانباري: «أن» هاهنا مفتوحة، لأنها بتأويل المصدر مرتفعة ب «منعهم» ، والتقدير: وما منعهم قبول النفقة منهم إلا كفرهم بالله. قوله تعالى: إِلَّا وَهُمْ كُسالى قد شرحناه في سورة (النساء) «4» . قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ لأنهم يعدُّون الإنفاق مغرماً. [سورة التوبة (9) : آية 55] فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) قوله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ أي: لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 16818 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، ابن جريج لم يسمع ابن عباس.

[سورة التوبة (9) : الآيات 56 إلى 57]

وفي معنى الآية أربعة أقوال «1» : أحدها: فلا تعجبك أحوالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة. فعلى هذا في الآية تقديم وتأخير، ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها. والثاني: أنها على نظمها، والمعنى: ليُعذبهم بها في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، فهي لهم عذاب، وللمؤمنين أجر، قاله ابن زيد. والثالث: أن المعنى: ليعذبهم بأخذ الزكاة من أموالهم والنفقة في سبيل الله، قاله الحسن. فعلى هذا ترجع الكناية إلى الأموال وحدها. والرابع: ليعذبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم، ذكره الماوردي. فعلى هذا تكون في المشركين. قوله تعالى: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي: تخرج، يقال: زهق السّهم: إذا جاوز الهدف. [سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57] وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) قوله تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي: مؤمنون، ويَفْرَقُونَ بمعنى يخافون. فأما الملجأ، فقال الزجاج: الملجأ واللَّجأ مقصور مهموز، وهو المكان الذي يُتحصن فيه. والمغارات: جمع مغارة، وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان، أي: يستتر فيه. وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: «أو مُغارات» بضم الميم لأنه يقال: أغرت وغُرت: إذا دخلتَ الغور. وأصل مدَّخَل: مدتخل، ولكن التاء تبدل بعد الدال دالاً، لأن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والتاء والدال من مكان واحد، فكان الكلام من وجه واحد أخف. وقرأ أُبيٌّ، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «أو مُتَدَخَّلاً» برفع الميم، وبتاء ودال مفتوحتين، مشددة الخاء. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: «مُندخَلاً» بنون بعد الميم المضمومة. وقرأ الحسن، وابن يعمر، ويعقوب: «مدخلاً» بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها. قال الزجاج: من قال: «مَدْخلاً» فهو من دخل يدخل مدخلاً ومن قال: «مُدْخلاً» فهو من أدخلته مُدخلاً، قال الشاعر: الحمد لله مُمْسَانا ومُصْبَحَنَا ... بالخير صبَّحنا رَبِّي ومسَّانا «2» ومعنى مدّخل: أنهم لو وجدوا قوماً يدخلون في جملتهم لَوَلَّوْا إليه، أي: إلى أحد هذه الأشياء وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: يسرعون إسراعاً لا يرد فيه وجوهَهم شيء. يقال: جمح وطمح: إذا أسرع ولم يردَّ وجهه شيء ومنه قيل: فرس جموح للذي إذا حمل لم يرده اللجام.

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 391: وأولى التأويلين. في ذلك عندنا. التأويل الذي ذكرنا عن الحسن، لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل، فصرف تأويله إلى ما دل عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته. وإنما وجّه من وجّه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا، وجها يوجهه إليه، وقال: كيف يعذبهم بذلك في الدنيا وهي لهم فيها سرور؟ ذهب عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه، إلزامه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيب النفس، ولا راج من الله جزاء، ولا من الأخذ منه حمدا ولا شكرا. على ضجر منه وكره. ا. هـ. (2) البيت لأمية بن أبي الصلت في «اللسان» ما.

[سورة التوبة (9) : آية 58]

[سورة التوبة (9) : آية 58] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فيمن نزلت فيه قولان: (709) أحدهما: أنه ذو الخويصرة التّميمي، قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً: اعدل يا رسول الله، فنزلت هذه الآية. ويقال: أبو الخواصر. ويقال: ابن ذي الخويصرة. (710) والثاني: أنه ثعلبة بن حاطب كان يقول: إنما يعطي محمد من يشاء، فنزلت هذه الآية. قال ابن قتيبة: «يلمزك» يعيبك ويطعن عليك. يقال: همزت فلاناً ولمزته: إذا اغتبته وعبته، والأكثرون على كسر ميم «يلمزك» . وقرأ يعقوب، ونظيف عن قنبل، وأبان عن عاصم، والقزّاز عن عبد الوارث: «يلمزون» و «يلمزك» و «لا تلمزوا» بضم الميم فيهنَّ. وقرأ ابن السميفع: «يلامزك» مثل: يفاعل. وقد رواها حماد بن سلمة عن ابن كثير. قال أبو علي الفارسي: وينبغي أن تكون فاعلت في هذا من واحد، نحو: طارقت النعل، وعافاه الله، لأن هذا لا يكون من النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقرأ الأعمش: «يلمِّزك» بتشديد الميم من غير ألف، مثل: يفعّلك. قال الزجاج: يقال: لمزت الرجل ألمِزُه وألمُزَه، بكسر الميم وضمها: إذا عبته، وكذلك: همزته أهمزه، قال الشاعر: إذا لقيتُك تُبْدِي لي مُكَاشَرَةً ... وإن تَغَيَّبْتُ كنتَ الهامز اللّمزه «1» [سورة التوبة (9) : الآيات 59 الى 60] وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي: قنعوا بما أُعطوا. إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في الزيادة، أي: لكان خيراً لهم. وهذا جواب «لو» ، وهو محذوف في اللفظ. ثم بيَّن المستحق للصدقات بقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ اختلفوا في صفة الفقير والمساكين على ستة أقوال «2» : أحدها: أن الفقير: المتعفف عن السّؤال، والمساكين: الذي يسأل

_ صحيح. أخرجه البخاري 3610 و 5058 و 6163 و 6931 ومسلم 1064 والنسائي في «التفسير» 240 وابن ماجة 169 والطبري 16832 والواحدي في «الوسيط» 2/ 505 كلهم من حديث أبي سعيد بأتم منه. باطل لا أصل له، لم أقف له على إسناد والآية في المنافقين، وثعلبة بدري، وسيأتي حديثه مطولا.

وبه رَمَق، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وجابر بن زيد والزهري والحكم وابن زيد ومقاتل. والثاني: أن الفقير: المحتاج الذي به زمانة، والمساكين: المحتاج الذي لا زمانة به، قاله قتادة. والثالث: الفقير: المهاجر، والمساكين: الذي لم يهاجر، قاله الضحاك بن مزاحم والنّخعيّ. والرابع: الفقير: فقير المسلمين، والمساكين: من أهل الكتاب، قاله عكرمة. والخامس: أن الفقير: من له البلغة من الشيء، والمساكين: الذي ليس له شيء، قاله أبو حنيفة ويونس بن حبيب ويعقوب بن السكّيت وابن قتيبة. واحتجوا بقول الراعي: أمَّا الفقيرُ الذي كانتْ حَلُوبَتُه ... وفقَ العيال فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ «1» فسماه فقيراً، وله حَلوبة تكفيه وعياله. وقال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا والله، بل مساكين يريد: أنا أسوأ حالاً من الفقير. والسادس: أنّ الفقير أمسّ حاجة من المساكين، وهذا مذهب أحمد، لأن الفقير مأخوذ من انكسار الفَقار، والمسكنة مأخوذة من السكون والخشوع، وذلك أبلغ. قال ابن الأنباري: ويروى عن الأصمعيّ أنه قال: المساكين أحسن حالاً من الفقير. وقال أحمد بن عبيد: المساكين أحسن حالاً من الفقير، لأن الفقير أصله في اللغة: المفقور الذي نزعت فَقره من فِقَرِ ظهره، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر، فصُرف عن مفقور إلى فقير، كما قيل: مجروح وجريح، ومطبوخ وطبيخ، قال الشاعر: لَمّا رأى لُبَدَ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ ... رَفَعَ القَوادِمَ كالفقيرِ الأعْزَلِ «2» قال: ومن الحجة لهذا القول قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ «3» فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالاً قال: وهو الصحيح عندنا. قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة لجباية الصدقة، يُعْطَوْنَ منها بقدر أُجُور أمثالهم، وليس ما يأخذونه بزكاة. قوله تعالى: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم قوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألَّفهم على الإسلام بما يعطيهم، وكانوا ذوي شرف، وهم صنفان: مسلمون، وكافرون. فأما المسلمون، فصنفان صنف كانت نِيَّاتُهم في الإسلام ضعيفة، فتألَّفهم تقويةً لِنيَّاتهم، كعُيَيْنة بن حصن، والأقرع وصنف كانت نياتهم حسنة، فأُعطوا تألُّفاً لعشائرهم من المشركين، مثل عدي بن حاتم. وأما المشركون، فصنفان، صنف يقصدون المسلمين بالأذى، فتألَّفهم دفعاً لأذاهم، مثل عامر بن الطفيل وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام،

_ (1) البيت منسوب إلى الراعي ديوان: 55. الحلوبة: الناقة التي تحلب. وفق العيال: لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه عنهم. السبد: الشعر. وقيل الوبر. (2) البيت منسوب إلى لبيد، ديوانه 274 و «اللسان» . فقر. الأعزل: المائل الذنب توصف به الخيل. القوادم: أربع ريشات في مقدم الجناح. الفقير: المكسور الفقار وهي ما انتصف من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب. (3) سورة الكهف: 79.

تألَّفهم بالعطية ليؤمنوا، كصفوان بن أُمية. وقد ذكرت عدد المؤلفة في كتاب «التلقيح» . وحكمهم باقٍ عند أحمد في رواية، وقال أبو حنيفة، والشافعي: حكمهم منسوخ. قال الزهري: لا أعلم شيئا نسخَ حكم المؤلَّفة قلوبهم. قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ قد ذكرناه في سورة (البقرة) «1» . قوله تعالى: وَالْغارِمِينَ وهم الذين لزمهم الدَّين ولا يجدون القضاء. قال قتادة: هم ناس عليهم دَيْنٌ من غير فساد ولا إِسراف ولا تبذير، وإنما قال هذا، لأنه لا يؤمَن في حق المفسد إذا قُضِيَ دَيْنُه أن يعود إلى الاستدانة لذلك ولا خلاف في جواز قضاء دينه ودفع الزكاة إليه، ولكن قتادة قاله على وجه الكراهية. قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني: الغزاة والمرابطين. ويجوز عندنا أن يعطى الأغنياء منهم والفقراء، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يعطى إلا الفقير منهم. وهل يجوز أن يصرف من الزكاة إلى الحج، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان. قوله تعالى: وَابْنِ السَّبِيلِ هو المسافر المنقطع به، وإن كان له مال في بلده قاله مجاهد، وقتادة، وأبو حنيفة، وأحمد. فأما إذا أراد أن ينشئ سفراً، فهل يجوز أن يعطى؟ قال الشافعي: يجوز، وعن أحمد نحوه وقد ذكرنا في سورة (البقرة) فيه أقوالاً فيه أقوالاً عن المفسرين. قوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ يعني أن الله افترض هذا. (فصل:) وحدُّ الغنى الذي يمنع أخذ الزكاة عند أصحابنا بأحد شيئين: أن يكون مالكاً لخمسين درهماً، أو عِدلها من الذهب، سواء كان ذلك يقوم بكفايته أو لا يقوم، والثاني: أن يكون له كفاية، إمّا بصنعة، أو أجرة عقار، أو عروض للتجارة يقوم ربحها بكفايته. وقال أبو حنيفة: الاعتبار في ذلك أن يكون مالكاً لنصاب تجب عليه فيه الزكاة. فأما ذوو القربى الذين تحرم عليهم الصدقة، فهم بنو هاشم، وبنو المطلب. وقال أبو حنيفة: تحرم على ولد هاشم، ولا تحرم على ولد المطلب. ويجوز أن يعمل على الصدقة من بني هاشم وبني المطلب ويأخذ عمالته منها، خلافاً لأبي حنيفة. فأما موالي بني هاشم وبني المطلب، فتحرم عليهم الصدقة، خلافاً لمالك. ولا يجوز أن يعطيَ صدقته مَنْ تلزمه نفقتُه وبه قال مالك، والثوري. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعطي والداً وإن علا، ولا ولداً وإن سفل، ولا زوجه، ويعطي مَنْ عَداهم. فأما الذميُّ فالأكثرون على أنه لا يجوز إعطاؤه. وقال عبيد الله بن الحسن: إذا لم يجد مسلماً، أعطي الذمي. ولا يجب استيعاب الأصناف ولا اعتبار عدد من كل صنف وهو قول أبي حنيفة، ومالك وقال الشافعي: يجب الاستيعاب من كل صنف ثلاثة. فأما إذا أراد نقل الصدقة من بلد المال إلى موضع تُقصر فيه الصلاة، فلا يجوز له ذلك، فان نقلها لم يُجزئه وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يكره نقلها، وتجزئه. قال أحمد: ولا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهماً. وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطي رجل واحد من الزكاة مائتي درهم، وإن أعطيته أجزأك. فأما الشافعي، فاعتبر ما يدفع الحاجةَ من غير حدّ. فان أعطى من يظنّه فقيرا، فبان أنه

_ (1) سورة البقرة: 177 قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ ... وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ.

[سورة التوبة (9) : آية 61]

غنيّ، فهل يجزئ، فيه عن أحمد روايتان. [سورة التوبة (9) : آية 61] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (711) أحدها: أن خِذام بن خالد، والجُلاس بن سويد، وعبيد بن هلال في آخرين، كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فانا نخاف أن يبلغه فيقع بنا، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا، فانما محمد أُذنٌ سامعة، ثم نأتيه فيصدِّقنا فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن عباس. (712) والثاني: إن رجلاً من المنافقين يقال له: نَبْتَل بن الحارث، كان ينمّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل فقال: إنما محمد أُذن، مَنْ حدَّثه شيئاً صدقه نقول ما شئنا، ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا، فنزلت هذه الآية قاله محمد بن إسحاق. (713) والثالث: أن ناساً من المنافقين منهم جلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، اجتمعوا، فأرادوا أن يقعوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه، فتكلموا وقالوا: لئن كان ما يقوله محمد حقاً، لنحن شر من الحمير، فغضب الغلام، وقال: والله إِن ما يقوله محمد حق، وإنكم لشرٌ من الحمير ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعاهم فسألهم، فحلفوا أن عامراً كاذب، وحلف عامر أنهم كذبُوا، وقال: اللهم لا تفرِّق بيننا حتى تبيِّنَ صدق الصادق، وكذب الكاذب فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، قاله السدي. فأما الأذى فهو عيبه ونقل حديثه. ومعنى أُذُنٌ يقبل كل ما قيل له، قال ابن قتيبة: الأصل في هذا أن الأُذُنَ هي السامعة، فقيل لكل من صدَّق بكل خبر يسمعه: أذن. وجمهور القرّاء يقرءون: هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ بالتثقيل. وقرأ نافع: «هو أذنٌّ قل أُذْنُ خير» باسكان الذال فيهما. ومعنى أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي: أذن خير، لا أُذُنُ شرّ يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشرَّ إذا سمعه. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن يعمر، وابن أبي عبلة «أُذُنٌ» بالتنوين، «خيرٌ» بالرفع. والمعنى: إن كان كما قلتم، يسمع منكم ويصدِّقكم، خيرٌ لكم من أن يكذِّبكم. قال أبو علي: يجوز أن تطلق الأذن على الجملة كما قال الخليل: إنما سميت النابُ من الإبل لمكان الناب البازل، فسميت الجملة كلُّها به، فأجرَوا على الجملة اسم الجارحة لإرادتهم كثرة استعماله لها في الإصغاء بها. ثم بيّن

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ص 254 فقال: نزلت في جماعة من المنافقين. مرسل. أخرجه الطبري 16915 عن ابن إسحاق مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 508 بدون إسناد. وانظر «تفسير الشوكاني» 2/ 430. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 3/ 253 عن السدي مرسلا. وأخرجه الطبري 16922 عن قتادة مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 510 عن السدي بدون إسناد. وانظر «تفسير القرطبي» 8/ 178.

[سورة التوبة (9) : آية 62]

ممن يَقبل، فقال: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ قال ابن قتيبة: الباء واللام زائدتان والمعنى: يصدِّق اللهَ ويصدِّقُ المؤمنين. وقال الزجاج: يسمع ما ينزِّله الله عليه، فيصدِّق به، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به. وَرَحْمَةٌ أي: وهو رحمة، لأنه كان سبب إيمان المؤمنين. وقرأ حمزة «ورحمةٍ» بالخفض. قال أبو علي: المعنى: أُذُنُ خيرٍ ورحمة. والمعنى: مستمعُ خيرٍ ورحمةٍ. [سورة التوبة (9) : آية 62] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ. (714) قال ابن السائب: نزلت في جماعة من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم، ويحلفون ويعتلّون. وقال مقاتل: منهم عبد الله بن أُبيّ، حلف لا يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَيكونَنَّ معه على عدوِّه. وقد ذكرنا في الآية التي قبلها أنهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب. وحكى الزجاج عن بعض النحويين أنه قال: اللام في: «ليرضوكم» بمعنى القسم، والمعنى: يحلفون بالله لكم لنرضينَّكم. قال: وهذا خطأ، لأنّهم حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليُرضُوا باليمين، ولم يحلفوا أنهم يُرضُون في المستقبل. قلت: وقول مقاتل يؤكد ما أنكره الزجاج، وقد مال إليه الأخفش. قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ فيه قولان: أحدهما: بالتوبة والإِنابة. والثاني: بترك الطعن والعيب. فان قيل: لم قال: «يُرضُوه» ولم يقل: يرضوهما؟ فقد شرحنا هذا عند قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» . [سورة التوبة (9) : آية 63] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا روى أبو زيد عن المفضل «ألم تعلموا» بالتاء. أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ فيه قولان: أحدهما: من يخالف الله، قاله ابن عباس. والثاني: من يعاد الله، كقولك: من يُجانِبِ الله ورسوله، أي: يكون في حدٍّ، واللهُ ورسولُه في حدٍّ. قوله تعالى: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ قرأ الجمهور: «فأن» بفتح الهمزة، وقرأ أبو رزين، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: بكسرها، فمن كسر، فعلى الاستئناف بعد الفاء، كما تقول: فله نار جهنم. ودخلت «إِنّ» مؤكدة. ومن قال: «فأَنَّ له» فانما أعاد «أنَّ» الأولى توكيداً لأنه لما طال الكلام، كان إعادتها أوكد. [سورة التوبة (9) : آية 64] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)

_ عزاه المصنف للكلبي، وهو ممن يضع الحديث فالخبر لا شيء.

[سورة التوبة (9) : الآيات 65 إلى 66]

قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (715) أحدها: أن المنافقين كانوا يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، ويقولون: عسى الله أن لا يفشي سرَّنا فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. (716) والثاني: أن بعض المنافقين قال: لوددت أني جُلدت مائة جلدة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. (717) والثالث: أنّ جماعة من المنافقين وقفوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به، فأخبره جبريل عليه السلام، ونزلت هذه الآية، قاله ابن كيسان. وفي قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ قولان: أحدهما: أنه إخبار من الله عزّ وجلّ عن حالهم، قاله الحسن، وقتادة واختاره ابن القاسم. والثاني: أنه أمر من الله عزّ وجلّ لهم بالحذر، فتقديره: ليحذر المنافقون، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر، فيقولون: يرحم الله المؤمن، ويعذب الكافر يريدون: ليرحم وليعذب، فيسقطون اللام ويُجْرُونَه مجرى الخبر في الرفع، وهم لا ينوون إلا الدعاء والدعاء مضارع للأمر. قوله تعالى: قُلِ اسْتَهْزِؤُا هذا وعيد خرج مخرج الأمر تهديداً. وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وجهان: أحدهما: مظهر ما تُسِرُّون. والثاني: ناصر مَنْ تخذلون، ذكرهما الماوردي. [سورة التوبة (9) : الآيات 65 الى 66] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ في سبب نزولها ستة أقوال: (718) أحدهما: أن جَدَّ بنَ قيس، ووديعة بن خذام، والجُهَير بن خُمَير، كانوا يسيرون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك، فجعل رجلان منهم يستهزئان برسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث يضحك مما يقولان ولا يتكلم بشيء، فنزل جبريل فأخبره بما يستهزئون به ويضحكون فقال لعمار بن ياسر: «اذهب فسلهم عما كانوا يضحكون منه، وقل لهم: أحرقكم الله» ، فلما سألهم، وقال: أحرقكم الله

_ أخرجه الطبري 16923 عن مجاهد مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 510 م عن مجاهد مرسلا. عزاه المصنف للسدي، وهذا معضل، والمتن غريب، فهو واه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 510 عن السدي مرسلا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 516 عن الضحاك. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 5/ 260 و 261 من حديث حذيفة بنحوه وأتم. وأخرجه أيضا البيهقي في «الدلائل» 5/ 256- 257 عن عروة مرسلا بأتم منه. وأخرجه أحمد 5/ 453 و 454 من حديث أبي الطفيل مع اختلاف فيه. الخلاصة هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة لأنها من طريق الكلبي.

علموا أنه قد نزل فيهم قرآن، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الجُهَير: والله ما تكلَّمت بشيء، وإنما ضحكت تعجّبا من قولهم فنزل قوله تعالى: لا تَعْتَذِرُوا يعني جَدَّ بن قيس، ووديعة إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ يعني الجهير نُعَذِّبْ طائِفَةً يعني الجدّ ووديعة، وهذا قول أبي صالح عن ابن عباس. (719) والثاني: أن رجلاً من المنافقين قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، ولا أرغبَ بطوناً، ولا أكذبَ، ولا أجبنَ عند اللقاء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال له عوف بن مالك. كذبت، لكنّك منافق، لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، هذا قول ابن عمر وزيد بن أسلم والقرظي. (720) والثالث: أن قوماً من المنافقين كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن كان ما يقول هذا حقاً، لنحن شرٌّ من الحمير فأعلم الله نبيه ما قالوا، ونزلت: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ، قاله سعيد بن جبير. (721) والرابع: أن رجلاً من المنافقين قال: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، وما يُدريه ما الغيب؟ فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. (722) والخامس: أن ناساً من المنافقين قالوا: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات فأطلع الله نبيّه على ذلك، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «احبسوا علي الرَّكب» ، فأتاهم، فقال: «قلتم كذا وكذا» ، فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. (723) والسادس: أن عبد الله بن أُبيٍّ، ورهطاً معه، كانوا يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لا ينبغي، فإذا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فقال الله تعالى: قُلْ لهم أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟ قاله الضّحّاك. فقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: عما كانوا فيه من الاستهزاء لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أي: نلهو بالحديث. وقوله تعالى: قَدْ كَفَرْتُمْ أي: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان وهذا يدل على أن الجِدَّ واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء. قوله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ قرأ الأكثرون «إن يُعْفَ» بالياء، «تعذّب» بالتاء. وقرأ

_ أخرجه الطبري 16928 من حديث عبد الله بن عمر، وفيه هشام بن سعد ضعفه غير واحد. وأخرجه برقم 16927 عن زيد بن أسلم مرسلا، وهو أصح. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 512 عن زيد بن أسلم ومحمد بن كعب. ضعيف. أخرجه الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر المنثور» 3/ 456 عن سعيد بن جبير مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. أخرجه الطبري 16933 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. - وأخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر كما في «الدر المنثور» 3/ 456 عن مجاهد مرسلا. أخرجه الطبري 16930 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. - وذكره الواحدي في أسباب النزول 511 عن قتادة بدون ذكر السند مرسلا. عزاه المصنف للضحاك، وهذا مرسل فهو واه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 67 إلى 70]

عاصم غير أبان «إن نَعْفُ» ، «نُعَذِّبْ» ، بالنون فيهما ونصب «طائفةً» ، والمعنى: إن نعف عن طائفة منكم بالتوفيق للتوبة، نعذِّب طائفةً بترك التّوبة. وقيل: الطّائفتان ها هنا ثلاثة، فاستهزأ اثنان وضحك واحد. ثم أنكر عليهم بعض ما سمع. وقد ذكرنا عن ابن عباس أسماء الثلاثة، وأن الضاحك اسمه الجُهَيْر، وقال غيره: هو مَخْشِيُّ بن خُمَيْر. وقال ابن عباس ومجاهد: الطائفة الواحد فما فوقه. وقال الزجاج: أصل الطائفة في اللغة الجماعة ويجوز أن يقال للواحد طائفة، يراد به نفس طائفة. وقال ابن الأنباري: إذا أريد بالطائفة الواحد كان أصلها طائفاً، على مثال: قائم وقاعد، فتدخل الهاء للمبالغة في الوصف، كما يقال: راوية، علّامة، نسّابة. قال عمر بن الخطّاب: ما فُرغ من تنزيل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء. [سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 70] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) قوله تعالى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ قال ابن عباس: بعضهم على دين بعض وقال مقاتل: بعضهم أولياء بعض يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وهو الكفر وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وهو الإيمان. وفي قوله تعالى: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ أربعة أقوال: أحدها: يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد. والثاني: عن كل خير، قاله قتادة. والثالث: عن الجهاد في سبيل الله. والرابع: عن رفعها في الدعاء إلى الله، ذكرهما الماوردي. قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ قال الزجاج: تركوا أمره، فتركهم من رحمته وتوفيقه. قال: وقوله تعالى: هِيَ حَسْبُهُمْ أي: هي كفاية ذنوبهم، كما تقول: عذَّبتُك حسبَ فِعلك، وحسبُ فلان ما نزل به، أي: ذلك على قدر فعله. وموضع الكاف في قوله تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ نصب، أي: وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم. وقال غيره: رجع عن الخبر عنهم إلى مخاطبتهم، وشبَّههم في العدول عن أمره بمن كان قبلهم من الأمم الماضية. قوله تعالى: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ قال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا. وقال الزجاج: بحظهم من الدنيا. قوله تعالى: وَخُضْتُمْ أي: في الطعن على الدِّين وتكذيب نبيكم كما خاضوا. أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا لأنها لم تُقبل منهم، وفي الآخرة، لأنهم لا يثابون عليها، وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ بفوت الثواب وحصول العقاب.

[سورة التوبة (9) : الآيات 71 إلى 72]

قوله تعالى: وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ قال ابن عباس: يريد نمرود بن كنعان وَأَصْحابِ مَدْيَنَ يعني قوم شعيب وَالْمُؤْتَفِكاتِ قرى لوط. قال الزجاج: وهم جمع مؤتفكة، ائتفكت بهم الأرض، أي: انقلبت. قال: ويقال إنَّهم جميع من أُهلك، كما يقال للهالك: انقلبت عليه الدنيا. قوله تعالى: أَتَتْهُمْ يعني هذه الأمم رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فكذَّبوا بها فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ قال ابن عباس: ليهلكم حتى يبعث فيهم نبياً ينذرهم، والمعنى أنهم أهلكوا باستحقاقهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي: بعضهم يوالي بعضاً، فهم يد واحدة، يأمرون بالإيمان، وينهون عن الكفر. قوله تعالى: فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قال أبو عبيدة: في جنات خُلْد، يقال: عَدَن فلان بأرض كذا، أي: أقام ومنه: المْعِدنُ، وهو في مَعْدِن صدق، أي: في أصل ثابت. قال الأعشى: وإن تَستضيفوا إلى حِلْمه ... تُضافوا إلى راجح قد عَدَن «1» أي: رزين لا يُستخف. قال ابن عباس: جنات عدن، هي بُطنان الجنة، وبُطنانها: وسطها، وهي أعلى درجة في الجنة، وهي دار الرّحمن عزّ وجلّ، وسقفها عرشه، خلقها بيده، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها. قوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عباس: أكبر مما يوصف. وقال الزجاج: أكبر مما هم فيه من النعيم. فان قيل: لم كان الرضوان أكبر من النعيم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن سرور القلب برضى الرب نعيم يختص بالقلب، وذاك أكبر من نعيم الأكل والشرب. (724) وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عزّ وجلّ لأهل الجنة: يا أهل الجنة، هل رضيتم؟ فيقولون: ربّنا وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك! فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدا» .

_ صحيح. أخرجه البخاري 7518 ومسلم 2829 وابن حبان 7440 وابن مندة 820 وأبو نعيم في «الحلية» 6/ 342 وفي «صفة الجنة» 282 والبيهقي في «البعث» 445 من طرق عن ابن وهب عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به. - وأخرجه البخاري 6549 ومسلم 2829 والترمذي 2555 وأحمد 3/ 88 وابن مندة 820 والبيهقي في «البعث» 445 من طريق ابن المبارك عن مالك من حديث أبي سعيد الخدري.

[سورة التوبة (9) : آية 73]

والثاني: أن الموجِب للنعيم الرضوان، والموجَب ثمرة الموجب، فهو الأصل. [سورة التوبة (9) : آية 73] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) قوله تعالى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ أما جهاد الكفار فبالسيف. وفي جهاد المنافقين قولان «1» : أحدهما: أنه باللسان، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس. والثاني: جهادهم باقامة الحدود عليهم، روي عن الحسن وقتادة. فان قيل: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم، فكيف تركهم بين أظهر أصحابه فلم يقتلهم «2» ؟. فالجواب: أنه إنما أُمر بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام عليها، فأما من إذا أُطلع على كفره، أنكر وحلف وقال: إني مسلم، فإنّه أمر أن يأخذ بظاهر أمره، ولا يبحث عن سِرِّه. قوله تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: يريد شدة الانتهار لهم، والنظر بالبغضة والمقت. وفي الهاء والميم من «عليهم» قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى الفريقين، قاله ابن عباس. والثاني: إلى المنافقين، قاله مقاتل. [سورة التوبة (9) : آية 74] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا في سبب نزولها ثلاثة أقوال «3» :

_ (1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 459: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال والله أعلم. (2) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 2/ 544: قال علماء الإسلام ما تقدم، فأشكل ذلك واستبهم ولا أدري صحة هذه الأقوال في السند. أما المعنى فإن من المعلوم في الشريعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجاهد الكفار بالسيف على اختلاف أنواعهم، حسب ما تقدم بيانه. وأما المنافقون فكان مع علمه بهم يعرض عنهم ويكتفي بظاهر إسلامهم ويسمع أخبارهم فيلغيها بالبقاء عليهم، وانتظار الفيئة إلى الحق بهم، وإبقاء على قومهم، لئلا تثور نفوسهم عند قتلهم، وحذرا من سوء الشنعة في أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، فكان لمجموع هذه الأمور يقبل ظاهر إيمانهم، وبادي صلاتهم، وغزوهم، ويكل سرائرهم إلى ربهم، وتارة كان يبسط لهم وجهه الكريم، وأخرى كان يظهر التغير عليهم. وأما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة، وأما قول من قال: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود فيهم لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فإنه دعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه النفاق كامنا، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا، وأخبار المحدودين يشهد مساقها أنهم لم يكونوا منافقين. (3) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 422: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنهم يحلفون بالله كذبا على كلمة كفر تكلموا بها، أنهم لم يقولوها. وجائز أن يكون ذلك القول أن الجلاس قاله، وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبي بن سلول، والقول ما ذكر قتادة عنه أنه قال ولا علم لنا بأي ذلك من أي إذا كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة، ويتوصل به إلى يقين العلم به، وليس مما يدرك علمه بفطرة العقل، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جل ثناؤه: «يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم» . ا. هـ.

(725) أحدها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر المنافقين فعابهم فقال الجُلاس بن سويد: إن كان ما يقول على إخواننا حقاً لنحن شرٌّ من الحمير. فقال عامر بن قيس: والله إنه لصادق ولأنتم شرٌّ من الحمير وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأتى الجلاسُ فقال: ما قلت شيئاً، فحلفا عند المنبر، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وذهب إِلى نحوه الحسن ومجاهد وابن سيرين. (726) والثاني: أن عبد الله بن أُبيٍّ قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل، فسمعه رجل من المسلمين، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. (727) والثالث: أن المنافقين كانوا إذا خَلَوْا، سبُّوا رسول الله وأصحابه، وطعنوا في الدين فنقل حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ذلك، فحلفوا ما قالوا شيئاً، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك. فأما كلمة الكفر، فهي سبّهم الرّسول صلى الله عليه وسلم وطعنهم في الدّين. وفي سبب قوله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا أربعة أقوال: (728) أحدها: أنها نزلت في ابن أُبيّ حين قال: لئن رجعنا إلى المدينة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة. (729) والثاني: أنها نزلت فيهم حين همّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مجاهد عن ابن عباس، قال: والذي همَّ رجل يقال له: الأسود. وقال مقاتل: هم خمسة عشر رجلاً، هَمُّوا بقتله ليلة العقبة. (730) والثالث: أنه لما قال بعض المنافقين: إن كان ما يقول محمد حَقّاً، فنحن شرٌّ من الحمير وقال له رجل من المؤمنين: لأنتم شرٌّ من الحمير، همَّ المنافق بقتله فذلك قوله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا، هذا قول مجاهد. (731) والرابع: أنهم قالوا في غزوة تبوك: إذا قدمنا المدينة، عقدنا على رأس عبد الله بن أُبيّ تاجاً نباهي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينالوا ما همّوا به.

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة، مصدرها الكلبي وهو متهم. وأخرجه الطبري 26982 و 16983 من طريقين عن هشام بن عروة عن أبيه، ومراسيل عروة جياد، والإسناد إليه صحيح، فهو مرسل جيد. وكرره الطبري 16984 عن ابن إسحاق مختصرا، وهو معضل وله شواهد أخرى مرسلة. مرسل. أخرجه الطبري 16989 عن قتادة مرسلا، ولأصله شواهد. - وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 515 عن قتادة مرسلا. عزاه المصنف للضحاك، وهو مرسل، والمرسل من قسم الضعيف. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 514 عن الضحاك مرسلا. وانظر «الدر» 3/ 464 و 465. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من طريق الكلبي. وأخرجه الطبري 16989 عن قتادة مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 515 عن قتادة مرسلا. لم أره عن ابن عباس. وأخرجه الطبري 16993 عن مجاهد مرسلا بنحوه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 516 عن الضحاك مرسلا. وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في «الدر المنثور» 3/ 464 عن الضحاك مرسلا. مرسل. أخرجه الطبري 16985 عن مجاهد مرسلا. وكرره 6986؟؟؟ و 16987 عن مجاهد بنحوه. عزاه البغوي 2/ 370 و 371 للسدي.

[سورة التوبة (9) : آية 75]

قوله تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ قال ابن قتيبة: أي: ليس ينقمون شيئاً، ولا يتعرفون من الله إلا الصنع، ومثله قول الشاعر: مَا نَقَمَ النَّاسُ مِنْ أُمَيَّة إلاَّ ... أَنَّهُمْ يَحْلُمونَ إِنْ غَضِبُوا «1» وأنَّهم سَادَةُ المُلُوْكِ وَلاَ ... تَصْلُحُ إلاّ عَلَيْهِمُ العَرَبُ وهذا ليس مما يُنقم وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئاً، وكقول النابغة: ولا عَيْبَ فِيْهِم غَيْرَ أَنَّ سُيوفَهم ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ «2» أي: ليس فيهم عيب. قال ابن عباس: كانوا قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة في ضَنْك من معاشهم، فلما قدم عليهم، غنموا، وصارت لهم الأموال. فعلى هذا، يكون الكلام عامّاً. وقال قتادة: هذا في عبد الله بن أُبيّ. (732) وقال عروة: هو الجلاس بن سويد، قُتل له مولى، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته، فاستغنى فلما نزلت فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ قال الجلاس: أنا أتوب إلى الله. قوله تعالى: وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أي: يعرضوا عن الإيمان. قال ابن عباس: كما تولَّى عبد الله بن أُبّي، يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار. [سورة التوبة (9) : آية 75] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ في سبب نزولها أربعة أقوال: (733) أحدها: أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ادع الله

_ مرسل. أخرجه الطبري 16994 عن عروة مرسلا، وتقدم. انظر «تفسير القرطبي» 8/ 190. باطل. أخرجه الطبري 17002 والطبراني 7873 وفي «الطوال» 20 والواحدي في «الأسباب» 517 و «الوسيط» 2/ 513 والبيهقي في «الدلائل» 5/ 289- 292 والحسن بن سفيان وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، وابن مندة والباوردي وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» وابن عساكر كما في «الدر المنثور» 3/ 467 من طرق عن معان بن رفاعة عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة به مطولا، وهذا إسناد ساقط، وهو مصنوع. وللإسناد علل، وللمتن علل كثيرة. أما علل الإسناد فهي: 1- معان بن رفاعة ضعفه الجوزجاني، ولينه يحيى، ووثقه المديني. 2- علي بن يزيد. قال عنه البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: ليس بقوي. وقال الدارقطني: متروك. «الميزان» 3/ 161. - ومعلوم أن البخاري رحمه الله قال: كل من قلت عنه منكر الحديث، فلا يحل الرواية عنه. 3- القاسم بن عبد الرحمن، أبو عبد الرحمن. قال عنه الإمام أحمد: روى عنه علي بن يزيد أعاجيب، وما أراها إلا من قبل القاسم. وقال ابن حبان: كان يزعم أنه لقي أربعين بدريا!!، كان ممن يروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعضلات، ويأتي عن الثقات بالمقلوبات، حتى يسبقك إلى القلب أنه المتعمد لها، ووثقه ابن معين. وقال يعقوب ابن شيبة: منهم من يضعفه، راجع «الميزان» 3/ 373.

أن يرزقني مالاً، فقال: «ويحك يا ثعلبة، قليلٌ تؤدي شكرَهُ، خير من كثير لا تطيقه» ، قال: ثم قال مرة أخرى، فقال: «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فو الّذي نفسي بيده، لو شئتُ أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة، لسارت» فقال: والذي بعثك بالحق، لئن دعوتَ الله أن يرزقني مالاً، لأوتينّ كلّ ذي حقّ

_ قلت: عند القاسم أحاديث لا بأس بها غير منكرة. خرج بعضها أصحاب السنن، وعنده أحاديث مناكير وأحاديث موضوعة، ومنها هذا الحديث، وكأنه أخذها عن مجاهيل، والذي نوزع به في هذا الحديث قول الإمام أحمد: روى عن علي بن يزيد أعاجيب، ولا أراها إلا من قبل القاسم. وإليك كلام العلماء في هذا الحديث: قال الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 292: إسناد ضعيف جدا. وقال الهيثمي رحمه الله في «المجمع» 7/ 31- 32: فيه علي بن يزيد، وهو متروك. وقال ابن حزم رحمه الله في «جوامع السيرة» ص 98: هذا باطل. هذا بالنسبة للإسناد. وأما المتن فهو معلول من وجوه أيضا منها. 1- سباق الآيات وسياقها، يدل على أن المراد بالآية المنافقون، لأن الآيات المتقدمة جميعا تدل على أن الخطاب للمنافقين أصلا، وهذا الحديث فيه أن ثعلبة كان مؤمنا ثم نافق بل ارتد. 2- الآية الآتية فيها الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ... فكيف يلمز ثعلبة المطّوعين ويهزأ بهم مع أنه منقطع وحيدا في أعالي الجبال وبطون الوديان؟!! 3- هذه الآية تذكر فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ والحديث يذكر أنه تاب وآمن وأناب، لكن لم يقبل منه. 4- الحديث يذكر عدم قبول صدقات المنافقين. وهذا كان أوّلا، يدل عليه قوله تعالى وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة: 54] ، لكن هذا نسخ في حق من تاب منهم بقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: 103] . فهذه الآية، تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقبل الصدقات ممن تاب من المنافقين. ومعلوم أن الآية لا تخصص في حق رجل أو أكثر إلا بخبر مشهور أو صحيح يرويه الشيخان أو أحدهما بإسناد كالشمس: فأين هذا الحديث من ذلك. 5- التوبة لا تحجب عن أحد سوى إبليس- والأحاديث في ذلك كثيرة «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وتقدم تخريجه. وهو حديث قوي. وحديث «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» وهذا متفق عليه، وفي الباب أحاديث تبلغ حد التواتر. والآيات متظاهرة على قبول توبة التائب، فهل لهذا الخبر الواهي من مقام هاهنا. 6- قد تواتر محاربة أبي بكر لمانعي الزكاة، وقال «لأقاتلن من يفرق بين الصلاة والزكاة» فكيف بمن جاء يؤدي الزكاة تائبا من ذنبه، ومن تلقاء نفسه، فهل يرد!!، مع أخذهم الزكاة من غيره بالقوة. 7- لو كان وقع مثل هذا الخبر، لجاء متواترا لغرابته، ولما فيه من ترهيب، ولكونه بقي في الجبال والوديان وحيدا منبوذا في عهود متطاولة، فلكان ذلك على ألسنة الصحابة والتابعين تحذيرا لمن يفعل فعله، وكل ذلك لم يكن. 8- هو مردود بآيات كثيرة تقبل التوبة ومن ذلك قوله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وإِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ. الخلاصة: هو حديث باطل لا أصل له. فالإسناد ساقط كما تقدم، والمتن منكر عجيب، وهو مردود بآيات كثيرة من القرآن الكريم، وبأحاديث كثيرة، سواء بقبول التوبة، أو بوجوب أخذ الزكاة، ونحو ذلك والله تعالى أعلم، فلا يفرح بروايات كهذه إلا اثنان، إما رجل لا يبالي برواية الحديث الموضوع وقد تواتر «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» وإما جاهل لا يعرف من هذا الدين إلا اسمه، ولا من العلم إلا رسمه. وانظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية، و «تفسير القرطبي» 3432 و «تفسير الشوكاني» 1624 «وأحكام القرآن» 1169 وهي جميعا بتخريجي ولله الحمد والمنة.

حقّه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزق ثعلبة مالاً» ، فاتخذ غنماً، فنمت، فضاقت عليه المدينة، فتنحَّى عنها، ونزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نَمت، حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، ثم نمت، فترك الجمعة. فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُخبر خبره، فقال: «يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة» ، وأنزل الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «1» وأنزل فرائض الصدقة فبعث رسول الله رجلين على الصدقة، وكتب لهما كتاباً يأخذان الصدقة، وقال: «مُرّا بثعلبة، وبفلان» رجل من بني سُليم، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا إلا جزية، ما هذه إلا أُخت الجزية، ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إليَّ. فانطلقا فأُخبر السُلَميّ، فاستقبلهما بخيار ماله، فقالا: لا يجب هذا عليك فقال: خذاه، فان نفسي بذلك طيبة فأخذا منه. فلما فرغا من صدقتهما، مرّا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فقال: ما هذه إلا أُخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى: وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ، وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فخرج إلى ثعلبة، فأخبره فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: «إن الله قد منعني أن أقبل صدقتك» فجعل يحثو التراب على رأسه. فقال: «هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني» . فرجع إلى منزله، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل منه شيئاً، فلما ولي أبو بكر، سأله أن يقبل منه، فأبى، فلما ولي عمر، سأله أن يقبل منه، فأبى، فلما ولي عثمان، سأله أن يقبلها فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر، فلم يقبلها وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه. روى هذا الحديث القاسم عن أبي أمامة الباهلي. (734) وقال ابن عباس: مرّ ثعلبة على مجلس، فأشهدهم على نفسه: لئن آتاني الله من فضله، آتيت كل ذي حق حقه، وفعلت كذا وكذا. فآتاه الله من فضله، فأخلف ما وعد فقص الله علينا شأنه. (735) والثاني: أن رجلاً من بني عمرو بن عوف، كان له مال بالشام، فأبطأ عنه، فجُهد له جُهداً شديداً، فحلف بالله لئن آتانا من فضله، أي: من ذلك المال، لأصَّدقَّن منه، ولأصِلَنَّ، فأتاه ذلك المال، فلم يفعل، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس: قال ابن السائب: والرجل حاطب بن أبي بلتعة. (736) والثالث: أن ثعلبة ومُعتِّب بن قُشير، خرجا على ملأٍ، فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصَّدَّقنَّ. فلما رزقهما، بخلا به، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، ومجاهد.

_ باطل. أخرجه الطبري 17001 بسند فيه مجاهيل عن عطية بن سعد العوفي وهو واه- عن ابن عباس، فهذا الإسناد ساقط، والمتن باطل، ثعلبة صحابي بدري. عزاه المصنف لابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح، وهي رواية ساقطة، فالخبر لا شيء. أخرجه الطبري 7005 عن الحسن مرسلا. وكرره 17006 و 17007 عن مجاهد لكن ليس فيه ذكر القائل وهو أصح.

[سورة التوبة (9) : آية 76]

(737) والرابع: أن نبتل بن الحارث، وجَدّ بن قيس، وثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، قالوا: لئن آتانا الله من فضله لنصدقن. فلما آتاهم من فضله بخلوا به، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك. فأما التفسير، فقوله تعالى: وَمِنْهُمْ يعني المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ أي: قال: عليَّ عهدُ الله لَنَصَّدَّقَنَّ الأصل: لنتصدقن، فأدغمت التاء في الصاد لقربها منها. وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: لنعملنَّ ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإِنفاق في الخير. وقد روى كَهْمَس عن معبد بن ثابت أنه قال: إنما هو شيء نوَوْه في أنفسهم، ولم يتكلموا به ألم تسمع إلى قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ. [سورة التوبة (9) : آية 76] فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) قوله تعالى: فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي: ما طلبوا من المال بَخِلُوا بِهِ ولم يفوا بما عاهدوا وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ عن عهدهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 77 الى 78] فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) قوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ أي: صيَّر عاقبة أمرهم النفاق. وفي الضمير في «أعقبهم» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله، فالمعنى: جازاهم الله بالنفاق، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنها ترجع إلى البخل، فالمعنى: أعقبهم بخلُهم بما نذروا نفاقاً، قاله الحسن. قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا يعني المنافقين أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وهو ما في نفوسهم وَنَجْواهُمْ حديثهم بينهم. [سورة التوبة (9) : آية 79] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) قوله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ في سبب نزولها قولان: (738) أحدهما: أنه لما نزلت آية الصدقة، جاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لَغَنِيٌّ عن صاع هذا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو مسعود. (739) والثاني: أن عبد الرحمن بن عوف جاء بأربعين أوقية من ذهب، وجاء رجل من الأنصار

_ عزاه المصنف للضحاك، وهذا مرسل، فهو واه، وذكر ثعلبة في هذا الحديث لا يصح، وأما الباقون فقد اشتهر نفاقهم. صحيح. أخرجه البخاري 4668 ومسلم 1018 والنسائي في «الكبرى» 11223 وفي «تفسيره» 243 وابن ماجة 4155 والواحدي في «الأسباب» 518 كلهم عن أبي مسعود الأنصاري قال: لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه فقال المنافقون. إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ..... لفظ البخاري. ذكره الواحدي في «أسباب النزول 519 بقوله قال قتادة وغيره ... فذكره وقد أخرجه الطبري 7024 عن قتادة

[سورة التوبة (9) : آية 80]

بصاع من طعام فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً، وإنْ كان اللهُ ورسولهُ لَغنيَّين عن هذا الصاع، قاله ابن عباس. وفي هذا الأنصاري قولان: أحدهما: أنه أبو خيثمة، قاله كعب بن مالك. والثاني: أنه أبو عقيل. وفي اسم أبي عقيل ثلاثة أقوال: أحدها: عبد الرحمن بن بِيْجَان، رواه أبو صالح عن ابن عباس، ويقال: ابن بِيْحان ويقال: سِيْحَان. وقال مقاتل: هو أبو عقيل بنُ قيس. والثاني: أن اسمه الحَبْحَاب، قاله قتادة. والثالث: الحُبَاب. قال قتادة: جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف، وجاء عاصم بن عدي بن العَجلان بمائة وَسق من تمر. ويَلْمِزُونَ بمعنى يعيبون. والْمُطَّوِّعِينَ أي: المتطوعين، قال الفراء: أدغمت التاء في الطاء، فصارت طاءً مشددة. والجُهد لغة أهل الحجاز، ولغة غيرهم الجَهد. قال أبو عبيدة: الجهد، بالفتح والضم سواء، ومجازه: طاقتهم. وقال ابن قتيبة: الجُهد: الطاقة والجَهد: المشقة. قال المفسرون: عُني بالمطوِّعين عبدُ الرحمن، وعاصم، وبالذين لا يجدون إلا جهدهم: أبو عقيل. وقوله تعالى: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أي: جازاهم على فعلهم، وقد سبق هذا المعنى. [سورة التوبة (9) : آية 80] اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. (740) سبب نزولها: أنه لما نزل وعيد اللامزين قالوا: يا رسول الله استغفر لنا، فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين، لعل الله يغفر لهم» فنزل قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «1» ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وظاهر قوله: «استغفر لهم» الأمر، وليس كذلك إنما المعنى: إن استغفرت، وإن لم تستغفر، لا يغفر لهم، فهو كقوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «2» ، وقد سبق شرح هذا المعنى هناك، هذا قول المحققين. وذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين، رجي لهم الغفران. ثم نسخت بقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.

_ نحوه مختصرا. وورد هذا الخبر بألفاظ مختلفة من وجوه متعددة فقد جاء عن ابن عباس مختصرا، أخرجه الطبري 17018 وفيه انقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وكرره 17019 مطولا عن عطية العوفي عن ابن عباس وعطية ضعيف، ومن دونه مجاهيل، وورد عن مجاهد مرسلا برقم 17020 وكرره 17021 و 17022 وورد عن عمر بن أبي سلمة 17025 مرسلا وورد عن الربيع بن أنس مرسلا عند الطبري أيضا برقم 17026 وأخرجه أيضا 12027 عن ابن إسحاق، وهذا معضل وأخرجه 17032 عن يحيى بن كثير اليمامي مرسلا ورد عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند البزار 2216 كشف الأستار، ورجاله ثقات، لكن رواه مرسلا أيضا بدون ذكر أبي هريرة فهذه روايات كثيرة مختلفة الألفاظ والمعنى واحد. وهو التصدق من قبل ابن عوف وغيره، واللمز من قبل المنافقين. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح وهو من رواية الكلبي، فالخبر واه بمرة.

[سورة التوبة (9) : آية 81]

فان قيل: كيف جاز أن يستغفر لهم، وقد أُخبر بأنهم كفروا؟ فالجواب: أنه إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إِسلامهم من غير أن يتحقق خروجهم عن الإسلام، ولا يجوز أن يقال: علم كفرهم ثم استغفر. فان قيل: ما معنى حصر العدد بسبعين؟ فالجواب: أن العرب تستكثر في الآحاد من سبعة، وفي العشرات من سبعين. [سورة التوبة (9) : آية 81] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) قوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ يعني المنافقين الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. والمخلَّف: المتروك خلفَ من مضى. بِمَقْعَدِهِمْ أي: بقعودهم. وفي قوله تعالى: خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ قولان: أحدهما: أن معناه: بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو عبيدة. والثاني: أن معناه: مخالَفَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منصوب، لأنه مفعول له، فالمعنى: بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج. وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر، والأعمش، وابن أبي عبلة: «خَلْفَ رسول اللهِ» ، ومعناها: أنهم تأخَّروا عن الجهاد. وفي قوله تعالى: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قولان: أحدهما: أنه قول بعضهم لبعض، قاله ابن اسحاق، ومقاتل. والثاني: أنهم قالوه للمؤمنين، ذكره الماوردي. وإنما قالوا هذا، لأن الزمان كان حينئذ شديد الحر. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لمن خالف أمر الله. وقوله تعالى: يَفْقَهُونَ معناه: يعلمون. قال ابن فارس: الفقه: العلم بالشيء. تقول: فَقِهْتُ الحديث أَفْقَهُهُ وكل علم بشيء: فقه. ثم اختص به علم الشريعة، فقيل لكل عالم بها: فقيه. قال المصنف: وقال شيخنا علي بن عبيد الله: الفقه في إطلاق اللغة: الفهم، وفي عرف الشريعة: عبارة عن معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلَّفين، بنحو التحليل، والتحريم، والإيجاب، والإجزاء، والصحة، والفساد، والغرم، والضمان، وغير ذلك. وبعضهم يختار أن يقال: الفِقْه: فَهْمُ الشيء، وبعضهم يختار أن يقال: علم الشيء. [سورة التوبة (9) : آية 82] فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد. وفي قلَّة ضحكهم وجهان: أحدهما: أن الضحك في الدنيا، لكثرة حزنها وهمومها، قليل، وضحكهم فيها أقل، لِما يتوجه إليهم من الوعيد. والثاني: أنهم إنما يضحكون في الدنيا، وبقاؤها قليل. وَلْيَبْكُوا كَثِيراً في الآخرة. قال أبو موسى الأشعري: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أُجريت السفن في دموعهم لجرت، ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع، فلمثل ما هم فيه فليُبكي. قوله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: من النّفاق والمعاصي. [سورة التوبة (9) : آية 83] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) قوله تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ أي: ردك من غزوة تبوك إلى المدينة إِلى طائِفَةٍ من المنافقين الذين تخلَّفوا بغير عذر. وإنما قال: إِلى طائِفَةٍ لأنه ليس كل من تخلَّف عن تبوك كان منافقاً.

[سورة التوبة (9) : آية 84]

فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى الغزو، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً إلى غَزاة، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ عني أَوَّلَ مَرَّةٍ حين لم تخرجوا إلى تبوك. وذكر الماوردي في قوله تعالى: أَوَّلَ مَرَّةٍ قولين: أحدهما: أول مرة دُعيتم. والثاني: قبل استئذانكم. وأمّا الخالفون، فقال أبو عبيدة: الخالف: الذي خلف بعد شاخص، فقعد في رحله، وهو الذي يتخلَّف عن القوم. وفي المراد بالخالفين قولان: أحدهما: أنهم الرجال الذين تخلَّفوا لأعذار، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم النّساء قاله الحسن، وقتادة. [سورة التوبة (9) : آية 84] وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ. (741) سبب نزولها: أنه لما توفي عبد الله بن أبيّ، جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني قميصك حتى أكفنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له. فأعطاه قميصه فقال: آذِنِّي أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر بن الخطاب، وقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: «أنا بين خيرتين» : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «1» فصلى عليه، فنزلت هذه الآية، رواه نافع عن ابن عمر. (742) قال قتادة: ذُكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ما يُغْني عنه قميصي من عذاب الله تعالى، والله إني لأرجو أن يُسْلِمَ به ألف من قومه» . قال الزجاج: فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لمَّا رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد الصلاة عليه. فأمّا قوله تعالى: «منهم» فإنه يعني المنافقين. وقوله تعالى: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ. (743) قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دُفن الميت، وقف على قبره ودعا له فنهي عن ذلك في حق المنافقين. وقال ابن جرير: معناه: لا تتولَّ دفنه وهو من قولك: قام فلان بأمر فلان. وقد تقدم تفسيره. [سورة التوبة (9) : الآيات 85 الى 89] وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

_ صحيح. أخرجه البخاري 1269 ومسلم 2774 ص 1865 والترمذي 3098 والنسائي 4/ 37 وفي «التفسير» 244 وابن ماجة 1523 والواحدي 520 والبيهقي 3/ 402 وفي «الدلائل» 5/ 287 من حديث ابن عمر. غريب هكذا. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 299: لم أره هكذا وأصله أخرجه الطبري.... اه. قلت: هو عند الطبري 17073 عن قتادة في أثناء حديث وفيه: «وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كلّم في ذلك فقال: وما يغني عنه قميصي من الله- أو من ربي- وإني لأرجو أن يُسْلِمَ به ألف من قومه» وهذا مرسل ورواه بصيغة التمريض فهو ضعيف. عزاه المصنف للمفسرين، ولم أقف عليه. وانظر تفسير «القرطبي» 8/ 204.

[سورة التوبة (9) : آية 90]

قوله تعالى: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ. سبق تفسيره. قوله تعالى: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ هذا عامّ في كل سورة. وقال مقاتل: المراد بها سورة (براءة) . قوله تعالى: أَنْ آمِنُوا أي: بأن آمنوا. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: استديموا الإيمان. والثاني: افعلوا فعل من آمن. والثالث: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم، فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين. قوله تعالى: اسْتَأْذَنَكَ أي: في التّخلّف. أُولُوا الطَّوْلِ يعني الغنى، وهم الذين لا عذر لهم في التخلُّف. وفي «الخوالف» قولان: أحدهما: أنهم النساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وشمر بن عطية، وابن زيد، والفراء. وقال أبو عبيدة: يجوز أن تكون الخوالف ها هنا النساء، ولا يكادون يجمعون الرجال على تقدير فواعل، غير أنهم قد قالوا: فارس، والجميع: فوارس، وهالك هوالك. قال ابن الأنباري: الخوالف لا يقع إلا على النساء، إذ العرب تجمع فاعلة: فواعل فيقولون: ضاربة، وضوارب، وشاتمة، وشواتم ولا يجمعون فاعلاً: فواعل، إلا في حرفين: فوارس، وهوالك فيجوز أن يكون مع الخوالف: المتخلفات في المنازل. ويجوز أن يكون: مع المخالفات العاصيات. ويجوز أن يكون: مع النساء العجزة اللاتي لا مدافعة عندهن. والقول الثاني: أن الخوالف: خساس الناس وأدنياؤهم يقال: فلان خالفة أهله: إذا كان دونهم، ذكره ابن قتيبة. فأما «طَبَع» ، فقال أبو عبيدة: معناه: ختم. و «الخيرات» جمع خَيْرة. وللمفسرين في المراد بالخيرات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الفاضلات من كل شيء، قاله أبو عبيدة. والثاني: الجواري الفاضلات، قاله المبرِّد. والثالث: غنائم الدنيا ومنافع الجهاد، ذكره الماوردي. [سورة التوبة (9) : آية 90] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) قوله تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وقرأ ابن مسعود: «المعتذرون» . وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب «المُعْذِرون» بسكون العين وتخفيف الذال. وقرأ ابن السميفع «المعاذرون» بألف. قال أبو عبيدة: المعذِّرون من يعذِّر وليس بجادّ وإنما يعرِّض بما لا يفعله أو يُظهر غير ما في نفسه. وقال ابن قتيبة: يقال: عذَّرتُ في الأمر: إذا قصَّرتَ، وأعذرتُ: جَدَدْتَ. وقال الزجاج: من قرأ «المعذِّرون» بتشديد الذال، فتأويله: المعتذرون الذين يعتذرون، كان لهم عذر، أو لم يكن، وهو ها هنا أشبه بأن يكون لهم عذر، وأنشدوا: إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَليْكُما ... وَمَنْ يَبْكِ حولا كاملا فقد اعتذر «1» أي: فقد جاء بعذر، ويجوز أن يكون «المعذِّرون» الذين يعذِّرون، يوهمون أنّ لهم عذرا، ولا

_ (1) البيت للبيد، ديوانه 214. وقوله اعتذر هنا، بمعنى: أعذر أي: بلغ أقصى الغاية في العذر.

[سورة التوبة (9) : الآيات 91 إلى 93]

عذر لهم، ويجوز في النحو: المعِذِّرون بكسر العين، والمعُذِّرون بضم العين، غير أنه لم يُقرأ بهما، لأن اللفظ بهما يثقل. ومن قرأ «المعْذرون» بتسكين العين، فتأويله: الذين أُعذروا وجاءوا بعذر. وقال ابن الأنباري: المعذّرون ها هنا: المعتذرون بالعذر الصحيح. وأصل الكلمة عند أهل النحو: المعتذرون، فحوِّلت فتحة التاء إلى العين، وأبدلت الذال من التاء وأدغمت في الذال التي بعدها فصارتا ذالاً مشددة، ويقال في كلام العرب: اعتذر، إذا جاء بعذر صحيح، وإذا لم يأت بعذر. قال الله تعالى: قُلْ لا تَعْتَذِرُوا فدل على فساد العذر، وقال لبيد: وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَاملاً فَقَد اعْتَذَر أي: فقد جاء بعذر صحيح. وكان ابن عباس يقرأ «المعذِّرون» ويقول: لعن الله المعذِّرين. يريد: لعن الله المقصِّرين من المنافقين وغيرهم. والمعْذرون: الذين يأتون بالعذر الصحيح فبان من هذا الكلام أن لهم عذراً على قراءة من خفف. وهل يثبت لهم عذر على قراءة من شدد؟ فيه قولان. قال المفسرون: جاء هؤلاء ليؤذَن لهم في التخلُّف عن تبوك، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علّة، جرأة على الله تعالى. [سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 93] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في عائذ بن عمرو وغيره من أهل العذر، قاله قتادة. والثاني: في ابن مكتوم، قاله الضحاك. وفي المراد بالضعفاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الزمنى والمشايخ الكبار قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم الصغار. والثالث: المجانين سموا ضعافاً لضعف عقولهم، ذكر القولين الماوردي. والصحيح انهم الذين يضعفون لزَمانةٍ، أو عَمىً، أو سِنٍّ أو ضَعف في الجسم. والمرضى: الذين بهم أعلال مانعة من الخروج للقتال، والَّذِينَ لا يَجِدُونَ هم المُقِلُّون، والحرج: الضيق في القعود عن الغزو بشرط النصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه وجهان: أحدهما: أن المعنى: إذا برئوا من النفاق. والثاني: إذا قاموا بحفظ الذراري والمنازل. فان قيل بالوجه الأول، فهو يعم جميع المذكورين. وإن قيل بالثاني. فهو يخص المقلِّين. وإنما شُرط النصح، لأن من تخلف بقصد السعي بالفساد، فهو مذموم ومن النصح لله: حث المسلمين على الجهاد، والسعي في إصلاح ذات بينهم، وسائر ما يعود باستقامة الدين. قوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي من طريق بالعقوبة، لأن المحسن قد سد باحسانه باب العقاب. قوله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ نزلت في البكَّائين، واختُلف في عددهم وأسمائهم.

[سورة التوبة (9) : آية 94]

(744) فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هم ستة: عبد الله بن مغفَّل، وصخر بن سلمان، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعُلَيَّة بن زيد الانصاري، وسالم بن عُمير، وثعلبة بن عنمة، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم، فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» فانصرفوا باكين. وقد ذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي مكان صخر بن سلمان: سلمة بن صخر، ومكان ثعلبة بن عنمة: عمرو بن عنمة. قال: وقيل: منهم معقل بن يسار. (745) وروى ابن إسحاق عن أشياخ له أن البكَّائين سبعة من الأنصار: سالم بن عُمير، وعُلَية بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، وعمرو بن الحُمام بن الجموح، وعبد الله بن مغفَّل. وبعض الناس يقول: بل عبد الله بن عمرو المزني، وعِرباض بن سارية، وهرميّ بن عبد الله أخو بني واقف. (746) وقال مجاهد: نزلت في بني مقرّن، وهم سبعة وقد ذكرهم محمد بن سعد، فقال: النعمان بن عمرو بن مقرن. وقال أبو خيثمة: هو النعمان بن مقرن، وسويد بن مقرن، ومعقل بن مقرّن، وسنان بن مقرّن، وعقيل بن مقرّن، وعبد الرحمن بن مقرن، وعبد الرحمن بن عقيل بن مقرن. وقال الحسن البصري: نزلت في أبي موسى وأصحابه. وفي الذي طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم عليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الدواب، قاله ابن عباس. والثاني: الزاد، قاله أنس بن مالك. والثالث: النعال، قاله الحسن. [سورة التوبة (9) : آية 94] يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) قوله تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ. (747) قال ابن عباس: نزلت في المنافقين، يعتذرون إليكم إذا رجعتم من غزوة تبوك، فلا تعذروهم فليس لهم عذر. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون، فقال الله تعالى: قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لن نصدقكم، قد أخبرنا الله أنه ليس لكم عذر وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ إن عملتم خيراً وتبتم من تخلُّفكم ثُمَّ تُرَدُّونَ بعد الموت إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فيخبركم بما كنتم تعملون في السر والعلانية. [سورة التوبة (9) : آية 95] سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95)

_ مرسل. أخرجه الطبري 17103 عن محمد بن كعب مرسلا، وله شواهد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 522 بدون إسناد. أخرجه الطبري 17104 عن ابن إسحاق مختصرا. وعزاه في «الدر» 3/ 480 لابن إسحاق وابن المنذر وأبي الشيخ عن الزهري ويزيد بن رومان وغيرهما. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 223 عن مجاهد مرسلا. وأخرجه ابن سعد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» 3/ 480 عن مجاهد مرسلا. عزاه المصنف لابن عباس، ولم أقف عليه.

[سورة التوبة (9) : آية 96]

قوله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ قال مقاتل: حلف منهم بضعة وثمانون رجلاً، منهم جَدّ بن قيس، ومُعتِّب بن قشير. قوله تعالى: لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: لتصفحوا عن ذنبهم. والثاني: لأجل إعراضكم. وقد شرحنا في (المائدة) معنى الرّجس. [سورة التوبة (9) : آية 96] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) قوله تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ (748) قال مقاتل: حلف عبد الله بن أُبيّ للنبي صلى الله عليه وسلم لا أتخلف عنك، ولأكونَنَّ معك على عدوِّك وطلب منه أن يرضى عنه، وحلف عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعمر بن الخطّاب، وجعلوا يترضّون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما قدم المدينة: لا تجالسوهم ولا تكلّموهم» . [سورة التوبة (9) : آية 97] الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) قوله تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً قال ابن عباس: نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حول المدينة، أخبر الله أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر أهل المدينة، لأنهم أقسى وأجفى من أهل الحضر. قوله تعالى: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا قال الزجاج: «أن» في موضع نصب، لأن الباء محذوفة من «أن» ، المعنى: أجدر بترك العلم. تقول: جدير أن تفعل، وجدير بأن تفعل، كما تقول: أنت خليق بأن تفعل، أي: هذا الفعل ميسَّر فيك فاذا حذفت الباء لم يصلح إلا ب «أن» ، وإن أتيت بالباء، صلح ب «أن» وغيرها، فتقول: أنت جدير بأن تقوم وجدير بالقيام. فاذا قلت: أنت جديرٌ القيامَ، كان خطأً، وإنما صلح مع «أن» لأن «أن» تدل على الاستقبال، فكأنها عوض من المحذوف. فأما قوله تعالى: حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ فيعني به الحلال والحرام والفرائض. وقيل: المراد بالآية أن الأعم في العرب هذا. [سورة التوبة (9) : آية 98] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) قوله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ إذا خرج في الغزو، وقيل: ما يدفعه من الصدقة مَغْرَماً لأنه لا يرجو له ثواباً. قال ابن قتيبة: المغرم: هو الغُرم والخُسر. وقال ابن فارس: الغُرم: ما يلزم أداؤه، والغرام: اللازم، وسمي الغريم لإلحاحه. وقال غيره: وفي الالتزام ما لا يلزم. قوله تعالى: وَيَتَرَبَّصُ أي: وينتظر بِكُمُ الدَّوائِرَ أي: دوائر الزمان بالمكروه، بالموت، أو القتل، أو الهزيمة. وقيل: ينتظر موت الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المشركين. قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بضم السين. وقرأ نافع، وعاصم وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «السّوء» بفتح السين وكذلك قرءوا في سورة (الفتح) «1» ، والمعنى:

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، فالخبر لا شيء.

[سورة التوبة (9) : آية 99]

عليهم يعود ما ينتظرونه لك من البلاء. قال الفراء: وفتح السين من السَّوء هو وجه الكلام. فمن فتح أراد المصدر من: سُؤْتُه سَوْءاً ومَساءَةً، ومن رفع السين، جعله اسما، كقولك: عليهم دائرة البلاء والعذاب. لا يجوز ضمّ السّين في قوله تعالى: ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ «1» ولا في قوله تعالى: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ «2» لأنه ضدٌّ لقولك: رجُلُ صِدْق. وليس للسوء ها هنا معنى في عذاب ولا بلاء، فيضمّ. [سورة التوبة (9) : آية 99] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) قوله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قال ابن عباس: وهم من أسلم من الأعراب، مثل جُهينة، وأسلم، وغِفار. وفي قوله تعالى: وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قولان: أحدهما: في الجهاد. والثاني: في الصدقة. فأما القربات، فجمع قُربة، وهي: ما يقرِّب العبدَ من رضى الله ومحبته. قال الزجاج: وفي القربات ثلاثة أوجه: ضم الراء، وفتحها، وإسكانها. وفي المراد بصلوات الرسول قولان: أحدهما: استغفاره، قاله ابن عباس. والثاني: دعاؤه، قاله قتادة، وابن قتيبة، والزجاج، وأنشد الزجاج: عليكِ مثلُ الذي صَلَّيتِ فاغْتَمِضِي ... نَوْماً، فانَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مضطَجَعا «3» قال: إن شئتَ قلتَ: مثلَ الذي، ومثلُ الذي فالأول أَمْرٌ لها بالدعاء، كأنه قال: ادعي لي مثل الذي دعوتِ. والثاني بمعنى: عليكِ مثلُ هذا الدعاء. قوله تعالى: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «قربةٌ لهم» خفيفة. وروى ورش، وإسماعيل بن جعفر عن نافع، وأبان، والمفضل عن عاصم: «قُرُبةٌ لهم» بضم الراء. وفي المشار إليها وجهان: أحدهما: أن الهاء ترجع إلى نفقتهم وإيمانهم. والثاني: إلى صلوات الرسول. قوله تعالى: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ قال ابن عباس: في جنّته. [سورة التوبة (9) : آية 100] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ فيهم ستة أقوال: أحدها: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وقتادة. والثاني: أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وهي الحديبية، قاله الشعبي. والثالث: أنهم أهل بدر، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع: أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حصل لهم السبق بصحبته. قال محمد بن كعب القرظي: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنّة محسنهم ومسيئهم

_ (1) سورة مريم: 28. (2) سورة الفتح: 12. (3) البيت منسوب للأعشى، ديوانه: 101، و «اللسان» صلى.

[سورة التوبة (9) : آية 101]

في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ. والخامس: أنهم السابقون بالموت والشهادة، سبقوا إلى ثواب الله تعالى. ذكره الماوردي. والسادس: أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة، ذكره القاضي أبو يعلى. قوله تعالى: مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ قرأ يعقوب: «والأنصارُ» برفع الراء. قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ من قال: إن السابقين جميع الصحابة، جعل هؤلاء تابعي الصحابة، وهم الذين لم يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: والذين اتَّبعوهم باحسان إلى أن تقوم الساعة. ومن قال: هم المتقدمون من الصحابة، قال: هؤلاء تبعوهم في طريقهم، واقتدَوْا بهم في أفعالهم، ففضِّل أولئك بالسبق، وإن كانت الصحبة حاصلة للكل. وقال عطاء: اتباعهم إياهم باحسان: أنهم يذكرون محاسنهم ويترحَّمون عليهم. قوله تعالى: تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ قرأ ابن كثير: «من تحتها» فزاد «من» وكسر التاء الثانية. وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به. [سورة التوبة (9) : آية 101] وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) قوله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ قال ابن عباس: مُزَينة، وجُهيَنة، وأسلَم، وغِفار، وأشجع، كان فيهم بعد إسلامهم منافقون. قال مقاتل: وكانت منازلهم حول المدينة. وقوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا، منهم عبد الله بن أُبَيّ، وجَدّ بن قيس، والجلاس، ومعتِّب، ووَحْوَح، وأبو عامر الراهب. وقال أبو عبيدة: عَتَوْا ومَرَنُوا عليه، وهو من قولهم: تمرَّد فلان، ومنه: شيطان مريد. فان قيل: كيف قال: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا، وليس يجوز في الكلام: مِن القوم قعدوا؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن تكون «من» الثانية مردودة على الأولى والتقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون، ثم استأنف «مردوا» . والثاني: أن يكون في الكلام «مَنْ» مضمر، تقديره: ومن أهل المدينة مَنْ مردوا فأُضمرت «مَنْ» لدلالة «من» عليها، كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1» يريد: إلا مَنْ له مقام معلوم وعلى هذا ينقطع الكلام عند قوله تعالى: «منافقون» . والثالث: أن «مَرَدُوا» متعلق بمنافقين، تقديره: ومِنْ أهل المدينة منافقون مَرَدُوا، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري. قوله تعالى: لا تَعْلَمُهُمْ فيه وجهان: أحدهما: لا تعلمهم أنت حتى نُعْلِمَكَ بهم. والثاني: لا تعلم عواقبهم. قوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ فيه عشرة أقوال «2» : أحدها: أن العذاب الأول في الدنيا، وهو فضيحتهم بالنفاق. والعذاب الثاني: عذاب القبر، قاله ابن عباس.

_ (1) سورة الصافات: 164. (2) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 458 و 459: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذب هؤلاء الذين مردوا على النفاق مرتين، ولم يضع لنا دليلا يوصل به إلى علم صفة ذينك العذابين، وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم، وليس عندنا علم بأي ذلك من أي، غير أن في قوله جل. ثناؤه ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ. دلالة على أن العذاب في المرتين كلتيهما قبل دخولهم النار. والأغلب في إحدى المرتين أنها في القبر. اه.

[سورة التوبة (9) : آية 102]

(749) قال: وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيباً، فقال: «يا فلان اخرج فانك منافق، ويا فلان اخرج» ففضحهم. والثاني: أن العذاب الأول: إقامة الحدود عليهم، والثاني: عذاب القبر وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. والثالث: أن أحد العذابين: الزكاة التي تؤخذ منهم، والآخر: الجهاد الذي يُّؤْمَرون به، قاله الحسن. والرابع: الجوع، وعذاب القبر، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال أبو مالك. والخامس: الجوع والقتل، رواه سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسادس: القتل والسبي، رواه معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال ابن قتيبة: القتل والأسر. والسابع: أنهم عُذِّبِوا بالجوع مرتين، رواه خُصَيف عن مجاهد. والثامن: أن عذابهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، وفي الآخرة بالنار، قاله ابن زيد. والتاسع: أن الأول: عند الموت، تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، والثاني: في القبر بمنكر ونكير، قاله مقاتل بن سليمان. والعاشر: أن الأول بالسيف، والثاني عند الموت قاله مقاتل بن حيان. قوله تعالى: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ يعني عذاب جهنّم. [سورة التوبة (9) : آية 102] وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: (750) أحدهما: أنهم عشرة رهط تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلمّا دنا رجوع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعةٌ منهم أنفسَهم بسواري المسجد. فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من هؤلاء» ؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلَّفوا عنك، فأقسموا بالله لا يطلقون أنفسهم حتى تطلقهم أنت وتعذرهم، فقال: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلَّفوا عن الغزو مع المسلمين» ، فنزلت هذه الآية، فأرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. (751) وروى العوفي عن ابن عباس أن الذين تخلفوا كانوا ستة، فأوثق أبو لبابة نفسه ورجلان

_ ضعيف. أخرجه الطبري 17137 والطبراني في «الأوسط» 796 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف حسين بن عمرو العنقزي، وقد ضعفه الهيثمي في «المجمع» 7/ 34 به، وفيه السدي فيه ضعف. أخرجه الطبري 17151 والبيهقي في «الدلائل» 5/ 271 و 272 من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وفيه إرسال بينهما. وكرره الطبري 17152 عن عطية العوفي عن ابن عباس، وعطية هو ابن سعد. ضعيف الحديث، وعنه مجاهيل. وورد من مرسل الضحاك. أخرجه الطبري 17158 ومن مرسل سعيد بن أبي عروبة برقم 17154 لكن باختصار فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم. أخرجه الطبري 17152 بسند فيه مجاهيل عن ابن عباس، وانظر ما تقدم.

[سورة التوبة (9) : آية 103]

معه، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم، فلما نزلت هذه الآية، أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن خِذام الأنصاري. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد، وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقال قتادة: ذُكر لنا أنهم كانوا سبعة «1» . والثاني: أنها نزلت في أبي لبابة وحده. واختلفوا في ذنبه على قولين: أحدهما: أنه خان الله ورسوله باشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في النزول على حكم سعد أنه الذبح، وهذا قول مجاهد، وقد شرحناه في سورة الأنفال «2» . والثاني: أنه تخلُّفه عن تبوك. قاله الزهري. فأما الاعتراف، فهو الاقرار بالشيء عن معرفة. والاعتراف بالذنب أدعى إلى صدق التوبة والقبول. قوله تعالى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً قال ابن جرير: وُضع الواوُ مكان الباء، والمعنى: بآخر سيء، كما يقال: خلطت الماءَ واللبن. وفي ذلك العمل قولان: أحدهما: أن العمل الصالح: ما سبق من جهادهم، والسّيئ: التأخر عن الجهاد، قاله السدي. والثاني: أن العمل الصالح: توبتهم، والسّيئ: تخلّفهم، ذكره الفرّاء. وفي قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه واجب من الله تعالى، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ترديد لهم بين الطمع والإشفاق، وذلك يصد عن اللهو والإهمال. [سورة التوبة (9) : آية 103] خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً. (752) قال المفسّرون: لمّا تاب الله عزّ وجلّ على أبي لبابة وأصحابه، قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا فتصدق بها عنا، فقال «ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» فنزلت هذه الآية.

_ أخرجه الطبري 17167 عن ابن عباس، وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وأخرجه برقم 17168 بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي، وهو ضعيف عن ابن عباس. وأخرجه 17172 عن الضحاك مرسلا.

[سورة التوبة (9) : الآيات 104 إلى 105]

وفي هذه الصدقة قولان «1» : أحدهما: أنها الصدقة التي بذلوها تطوعاً، قاله ابن زيد، والجمهور. والثاني: الزكاة، قاله عكرمة. قوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وقرأ الحسن «تطهرْهم بها» بجزم الراء. قال الزجاج: يصلح أن يكون قوله: «تطهرهم» نعتاً للصدقة كأنه قال: خذ من أموالهم صدقة مطهّرة. والأجود أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم، المعنى: فانك تطهرهم بها ف «تطهرْهم» بالجزم، على جواب الأمر، المعنى: إن تأخذ من أموالهم، تطهرْهم. ولا يجوز في: «تُزكِّيهم» إلا إثبات الياء. اتّباعاً للمصحف. قال ابن عباس: «تطهرهم» من الذنوب، «وتزكيهم» : تصلحهم. وفي قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ قولان: أحدهما: استغفر لهم، قاله ابن عباس. والثاني: ادع لهم، قاله السدي. قوله تعالى: إِنَّ صَلاتَكَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «إن صلواتك» على الجمع. وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم «إن صلاتك» على التوحيد. وفي قوله تعالى: سَكَنٌ لَهُمْ خمسة أقوال: أحدها: طمأنينة لهم أن الله قد قَبِلَ منهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وقال أبو عبيدة: تثبيت وسكون. والثاني: رحمة لهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: قُرْبَةٌ لهم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: وَقَارٌ لهم، قاله قتادة. والخامس: تزكية لهم، حكاه الثعلبي. قال الحسن وقتادة: وهؤلاء سوى الثلاثة الذين خلّفوا. [سورة التوبة (9) : الآيات 104 الى 105] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ قرأ الجمهور «يعلموا» بالياء. وروى عبد الوارث «تعلموا» بالتاء. وقوله تعالى: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ قال أبو عبيدة: أي: من عَبيده، تقول: أخذته منك، وأخذته عنك. وقوله تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ قال ابن قتيبة: أي: يقبلها. ومثله: خُذِ الْعَفْوَ «2» أي: اقبله.

_ (1) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 8/ 223- 224: اختلف في هذه الصدقة المأمور بها فقيل: هي صدقة الفرض، قاله جويبر عن ابن عباس وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري. وقيل هو مخصوص بمن نزلت فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء. ولهذا قال مالك: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث متمسكا بحديث أبي لبابة. وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته. وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقالوا: إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره. وأما قولهم إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين، فإن الخطاب من القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه. وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه، وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع حسب ما تذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الأموال ا. هـ. (2) سورة الأعراف: 199.

[سورة التوبة (9) : آية 106]

قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا قال ابن زيد: هذا خطاب للذين تابوا. [سورة التوبة (9) : آية 106] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) قوله تعالى: «وآخرون مرجؤون» وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي مُرْجَوْنَ بغير همز. (753) والآية نزلت في كعب بن مالك، ومُرارةَ بن الربيع، وهلال بن أمية، وكانوا فيمن تخلف عن تبوك من غير عذر، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم حتى نزل قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «1» . قال الزجاج: «وآخرون» عطف على قوله: «ومن أهل المدينة» ، فالمعنى: منهم منافقون، ومنهم «آخرون مرجَوْن» أي: مؤخَّرون و «إما» لوقوع أحد الشيئين، والله تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم، لكنه خاطب العباد بما يعلمون، فالمعنى: ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء. قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: عليم بما يؤول إليه حالهم، حكيم بما يفعله بهم. [سورة التوبة (9) : آية 107] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «والذين» بواو، وكذلك هي في مصاحفهم. وقرأ نافع، وابن عامر: «الذين» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام. قال أبو علي: من قرأ بالواو، فهو معطوف على ما قبله، نحو قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ «2» ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ «3» وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ «4» ، والمعنى: ومنهم الذين اتخذوا مسجداً. ومن حذف الواو، فعلى وجهين: أحدهما: أن يضمر- ومنهم الذين اتّخذوا- كقوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ، المعنى: فيقال لهم: أكفرتم. والثاني: أن يضمر الخبر بعدُ، كما أُضمر في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ «5» المعنى: يُنتقم منهم ويعذَّبون. (754) قال أهل التفسير: لما اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،

_ أخرجه الطبري 17189 عن ابن عباس بسند فيه مجاهيل. ورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه الطبري 17188. وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 526 بدون ذكر السند. عزاه الحافظ في «تخريجه» 2/ 309 للثعلبي فقال: لم أجده بهذا السياق إنما في الثعلبي بلا إسناد. وليس صدره بصحيح، فإن مسجد قباء كان قد أسس والنبي صلى الله عليه وسلم بقباء أول ما هاجر، وبني مسجد الضرار وكان في غزوة تبوك وبينهما تسع سنين ا. هـ وذكره البغوي في «تفسيره» 2/ 274- 275 مطولا بدون إسناد ولم يذكر صدره، وبنحوه ورد صدره عن ابن عباس أخرجه الطبري 17202 وفيه عطية العوفي واه، وعنه مجاهيل

فأتاهم، فصلى فيه حسدهم إخوتهم بنو غَنْم بن عَوف، وكانوا من منافقي الأنصار، فقالوا: نبني مسجداً، ونرسل إلى رسول الله فيصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام وكان أبو عامر قد ترهَّب في الجاهلية وتنصَّر، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، عاداه، فخرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن أعدّوا ما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجداً، فاني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: خِذام بن خالد ومِن داره أُخرج المسجد، ونَبْتَل بن الحارث، وبِجِاد بن عثمان، وثعلبة بن حاطب، ومُعتِّب بن قُشير، وعبَّاد بن حُنَيف، ووديعة بن ثابت، وأبو حبيبة بن الأزعر، وجارية بن عامر، وابناه يزيد ومُجمِّع وكان مُجمِّع إمامهم فيه، ثم صلحت حاله، وبحزج جد عبد الله بن حنيف، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أردتَ بما أرى» ؟ فقال: والله ما أردت إلا الحسنى، وهو كاذب. وقال مقاتل: الذي حلف مُجمِّع. (755) وقيل: كانوا سبعة عشر فلمّا فرغوا منه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنما قد ابتنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصليَ فيه فدعا بقميصه ليلبسه، فنزل عليه القرآن وأخبره الله خبرهم، فدعا معن بن عدي، ومالك بن الدُّخشُم في آخرين، وقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرِقوه» ، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتُخذ كُناسة تُلقى فيها الجيف. ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً. فأما التفسير، فقال الزجاج: «الذين» في موضع رفع، المعنى: ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً. و «ضراراً» انتصب مفعولاً له، المعنى: اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد. فلما حذفت اللام، أفضى الفعل فنَصب. قال المفسرون: والضرار بمعنى المُضارّة لمسجد قباء، وَكُفْراً بالله ورسوله وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لأنهم كانوا يصلُّون في مسجد قباء جميعاً، فأرادوا تفريق جماعتهم، والإرصاد: الانتظار، فانتظروا به مجيء أبي عامر، وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار. وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا أي: ما أردنا إِلَّا الْحُسْنى أي: ما أردنا بابتنائه إلا الحسنى وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: طاعة الله. والثاني: الجنة. والثالث: فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة. وقد ذكرنا اسم الحالف.

_ فالإسناد واه بمرة، ليس بشيء، وبنحو سياق المصنف أخرجه الطبري 17200 من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة. وأخرج الطبري 17201 والبيهقي في الدلائل 5/ 262- 263 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بعضه وهو منقطع بين ابن عباس وعلي بن أبي طلحة. أخرجه الطبري 17200 من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا ... فذكره، بأتم منه. وهذا ضعيف، مداره على ابن إسحاق، وهو مدلس لكن أصل الحديث محفوظ فقد ورد من وجوه متعددة فمن ذلك: حديث ابن عباس، أخرجه الطبري 17201 وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وورد عن عطية العوفي عن ابن عباس، أخرجه برقم 18202 وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي. وورد من مرسل قتادة أخرجه برقم 17211. وورد من مرسل ابن زيد، أخرجه برقم 17213. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها. انظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1212 بتخريجنا.

[سورة التوبة (9) : آية 108]

[سورة التوبة (9) : آية 108] لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) قوله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أي: لا تصلِّ فيه أبداً. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أي: بني على الطاعة، وبناه المتقون مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي: منذ أول يوم. قال الزجاج: «مِنْ» في الزمان، والأصل: منذ ومذ، وهو الأكثر في الاستعمال. وجائز دخول «من» لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير: لِمَنِ الديارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ ... أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ شَهْرِ «1» وقيل معناه: مِن مَرِّ حِجج ومِن مَرِّ شهر. وفي هذا المسجد ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الذي فيه منبره وقبره. (756) روى سهل بن سعد أن رجلين اختلفا في عهد رسول الله في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد الرسول، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «هو مسجدي هذا» وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب. (757) والثاني: أنه مسجد قباء، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير،

_ صحيح. أخرجه الترمذي 3099 والنسائي 2/ 36 وفي «التفسير» 248 وأحمد 3/ 8 وابن حبان 1606 من طرق عن الليث بن سعد عن عمران بن أبي أنس عن ابن أبي سعيد الخدري عن أبيه به. وأخرجه مسلم 1398 وابن أبي شيبة 2/ 372 والحاكم 2/ 334 من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه. وكرره مسلم 1398 وابن أبي شيبة 2/ 372 عن أبي سلمة عن أبي سعيد بدون واسطة. وأبو سلمة سمع من أبي سعيد. وأخرجه الترمذي 323 وابن أبي شيبة 2/ 372 وأحمد 3/ 23- 91 والطبري 17236 و 17237 و 17238 وابن حبان 1626 من طرق عن أنيس بن أبي يحيى حدثني أبي قال سمعت أبا سعيد ... فذكره وآخره «هو مسجدي هذا، وفي كل خير» . فهذه الطرق متعاضدة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بذلك مسجده. وله شاهد من حديث سهل بن سعد، أخرجه أحمد 5/ 331 وابن حبان 1604 و 1605 والطبري 17232 و 17233 والحاكم 2/ 334 والطبراني 6025، ورجاله ثقات. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث زيد بن ثابت، أخرجه الطبراني 4854 وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن عامر، والصحيح موقوف. والموقوف أخرجه الطبراني 4828 و 4853 وإسناده الأول على شرط الصحيح كما قال الهيثمي في «المجمع» 7/ 34. قال الطبري رحمه الله بإثر الحديث 17231: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر «تفسير أحكام القرآن» 1213 بتخريجنا. ورد عن ابن عباس، أخرجه الطبري 17226 وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وأخرجه من وجه آخر 17227 بسند فيه مجاهيل. وورد عن عطية العوفي أخرجه برقم 17228. وورد عن ابن بريدة، أخرجه برقم 17229. وورد من مرسل عروة، أخرجه برقم 17231. الخلاصة: هذه الروايات وإن تعددت، لا تقوى على معارضة الصحيح المتقدم. على أن للمتقدم شواهد، والله أعلم.

وقتادة، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، ومقاتل. والثالث: أنه كل مسجد بني في المدينة، قاله محمد بن كعب. قوله تعالى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا. سبب نزولها: (758) أن رجالاً من أهل قباء كانوا يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي.

_ أخرجه الطبري 17247 عن الشعبي مرسلا. وورد بلفظ مرفوع، وليس بشيء. أخرجه أبو داود 44 والترمذي 3100 وابن ماجة 357 والبغوي في «التفسير» 1119 وأبو الشيخ وابن مردويه كما في «الدر المنثور» 3/ 497 من طرق عن معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي صالح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية فيهم» . خرجه هؤلاء الأئمة بهذا اللفظ! ولا أصل له بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يرد حديث واحد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «نزلت هذه الآية في فلان ... أو في كذا ... أو نحو ذلك، وإنما الذي يقول نزلت الآية في كذا وكذا إنما هو الصحابي أو التابعي. ومع ذلك إسناده ساقط. - وقد رأيت العجب في هذا الخبر. حيث سكت عليه أبو داود! مع أنه معلوم أنه ما سكت عليه، فهو صالح لديه. وضعفه الترمذي بقوله: غريب. وضعفه النووي في «المجموع» 2/ 99 وكذا الحافظ في «التلخيص» 1/ 112. وقال الحافظ في «فتح الباري» 7/ 245/ 2908: وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت..» وهذا من العجب، وجل الله ربنا إذ يقول وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. وقال الحافظ ابن كثير 2/ 480: يونس بن الحارث ضعيف. - قلت: إسناده ضعيف جدا، وله علل ثلاث: - الأولى: معاوية بن هشام القصار، فهو وإن روى له مسلم، ووثقه أبو داود وابن حبان، وقال أبو حاتم: صدوق. فقد قال ابن معين: صالح، وليس بذاك. وقال عثمان بن أبي شيبة: رجل صدوق، وليس بحجة. وقال أحمد بن حنبل: هو كثير الخطأ. وقال ابن الجوزي في الضعفاء: روى ما ليس من سماعه، فتركوه، واعترضه الذهبي بأنه ما تركه أحد. ثم ذكر الذهبي كلام ابن معين المتقدم، وذكر له حديثا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث إليهما شعيب. فقال الذهبي: هذا خطأ، صوابه ما رواه عمرو بن الحارث عن سعيد عن قتادة: الأيكة: الشجر الملتف. انظر «الميزان» 4/ 138 و «التهذيب» 10/ 196- 197. قلت: وقول الذهبي: ما تركه أحد. فيه نظر. إذ تركه البخاري وغير واحد من الأئمة الثقات. والذي لم يتركه أحد كمالك والثوري وشعبة وأضرابهم، رضي الله عنهم. هذا شيء. والشيء الثاني: قد أقر الذهبي بأن هشاما هذا وهم في أثر قتادة حيث جعله مرفوعا وبلفظ آخر. وهذا يوافق ما قاله الإمام أحمد: هو كثير الخطأ. فيكون هذا الحديث مما أخطأ فيه فرفعه، وإنما هو من كلام أبي هريرة لا يتعداه البتة. ولم يتنبه الألباني لهذه العلة في «الإرواء» 1/ 85 حيث ذكر العلة الثانية والثالثة اللّتين سأذكرهما، والله الموفق. - العلة الثانية: يونس بن الحارث، جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه ولم يتابع على هذا اللفظ، وتقدم أن الحافظ صححه في «الفتح» . بل ذكر الذهبي في «الميزان» 4/ 476 حديثا آخر غير هذا، وقال: ومن مناكيره. ثم نقل عن ابن المديني وقد سئل عن يونس هذا- قوله: كنا نضعف ذاك ضعفا شديدا. - وهذا الذي يليق به في هذا الخبر. والله أعلم. - العلة الثالثة: جهالة إبراهيم بن أبي ميمونة. جزم بذلك الحافظ في «التقريب» . - فهذه علل ثلاث تقدح في هذا الحديث، وإذا انضم إلى ذلك نكارة المتن، وذلك بجعل «نزلت هذه الآية....» من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في جميع كتب التخريج المتقدمة، علم أنه لا أصل له في المرفوع، وإنما هو موقوف فحسب لا يتعداه، والله أعلم. - تنبيه: وقد وهم الألباني في هذا الحديث، حيث ذكره في «صحيح أبي داود» 34 وقال: صحيح. وكذا

(759) قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، أتاهم رسول الله فقال: «ما الذي أثنى الله به عليكم»

_ صححه في «الإرواء» 1/ 85 برقم 45، وقد حكم بضعف إسناده، وأعله بضعف يونس وجهالة إبراهيم- وتقدم أن هناك علة أخرى- ثم نقل عن النووي وابن حجر قولهما: إسناده ضعيف. ثم قال: ومن ذلك تعلم أن قول الحافظ في «الفتح» 7/ 192 بعد أن عزاه لأبي داود: «إسناده صحيح» غير صحيح. ولو قال: حديث صحيح. كما صدرنا نحن تخريج الحديث لأصاب، لأنه وإن كان ضعيفا بهذا السند، فهو صحيح باعتبار شواهده. ثم ذكر حديث عويم بن ساعدة، وعده شاهدا له، وليس كما قال. فحديث عويم وغيره كما سيأتي، ليس فيه أن لفظ «نزلت ... » أصلا. وانظر ذلك مفصلا في الآتي، والله تعالى أعلم. صحيح بشواهده. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 1131 والطبري 14240 و 14241 عن قتادة مرسلا. وأخرجه الطبري 17239 عن قتادة عن شهر بن حوشب به، وهو مرسل أيضا وله شواهد موصولة وهي: 1- حديث عويم بن ساعدة: أخرجه ابن خزيمة 83 والحاكم 1/ 155 وأحمد 3/ 422 والطبري 17245 والطبراني في «الصغير» 2/ 23 من طرق عن أبي أويس عن شرحبيل بن سعد عن عويم بن ساعدة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء، إني أسمع الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما هذا الطهور؟ قالوا: يا رسول الله، ما نعلم شيئا، إلا أن جيرانا لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا» رووه بألفاظ متقاربة، إسناده ضعيف، أبو أويس هو عبد الله بن عبد الله ضعفه الجمهور، وشيخه شرحبيل ضعيف أيضا. ومع ذلك صححه الحاكم! ووافقه الذهبي! ولعل ذلك بسبب شواهده. 2- وورد عن عروة مرسلا، أخرجه الطبري 17252 وفيه ذكر عويم، لكنه مختصر. وفيه ذكر الآية. 3- وورد من مرسل إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري، أخرجه الطبري 17251 بنحو اللفظ الذي ذكرته آنفا. 4- وله شاهد من حديث ابن عباس، وفيه ذكر عويم، أخرجه الحاكم 1/ 187 والطبراني 11065 وإسناده ضعيف، فيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس، وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي! ولم يرو مسلم لابن إسحاق في الأصول، إنما روى له متابعة. 5- وله شاهد من حديث عبد الله بن سلام، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 1/ 212. وفيه سلام الطويل، قال الهيثمي: أجمعوا على تركه. 6- وورد عن محمد بن عبد الله بن سلام، أخرجه أحمد 6/ 6 والطبري 14242 و 14243 وفيه شهر بن حوشب، مدلس وفيه ضعف. وقد اضطرب فيه فقد كرره الطبري 14244 عنه عن محمد بن عبد الله بن سلام- قال يحيى أحد الرواة- لا أعلمه إلا عن أبيه- فهذا اضطراب، لكن يصلح شاهدا. 7- وله شاهد من حديث أبي أمامة، أخرجه الطبراني 7555، وفيه شهر بن حوشب أيضا، وفيه ليث بن أبي سليم ضعفه غير واحد. 8- وله شاهد من حديث أبي أيوب وجابر وأنس، أخرجه ابن ماجة 355 وابن الجارود 40 والدارقطني 1/ 62 والحاكم 1/ 155 والبيهقي 1/ 105 ومداره على عتبة بن أبي حكيم، ضعفه ابن معين والنسائي. وقال أبو حاتم: صالح. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. ذكر ذلك الزيلعي رحمه في «نصب الراية» 1/ 219 وقال: سنده حسن. ولعله حسنه لشواهده. وقال الدارقطني: عنبة غير قوي. وأما الحاكم فقال: حديث كبير صحيح في الطهارة! ووافقه الذهبي! ولعله وافقه بسبب شواهده. 9- وورد من حديث أبي أيوب من وجه آخر، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 1/ 213 وقال الهيثمي: فيه واصل بن عطاء، وهو ضعيف. 10- وله شاهد عن خزيمة بن ثابت، وليس فيه اللفظ المرفوع، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 1/ 213 وقال الهيثمي: فيه أبو بكر بن أبي سبرة متروك. فهذا شاهد لا يفرح به. 11- وصح عن خزيمة من وجه آخر أخرجه الطبري 17246 قال: نزلت هذه الآية فِيهِ رِجالٌ ... قال: كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط. لم يذكر أهل قباء.

[سورة التوبة (9) : آية 109]

فقالوا: إنا نستنجي بالماء. فعلى هذا، المراد به الطهارة بالماء. وقال أبو العالية: أن يتطهروا من الذّنوب. [سورة التوبة (9) : آية 109] أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) قوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «أَسس» بفتح الألف في الحرفين جميعاً وفتح النون فيهما. وقرأ نافع وابن عامر «أُسس» بضم الألف «بنيانُه» برفع النون. والبنيان مصدر يراد به المبني. والتأسيس: إحكام أس البناء، وهو أصله، والمعنى: المؤسِّس بنيانه متقياً يخاف الله ويرجو رضوانه خير، أم المؤسس بنيانه غير متق؟ قال الزجاج: وشفا الشيء: حرفُه وحدُّه. والشفا مقصور، يكتب بالألف ويثنى شفوان. قوله تعالى: جُرُفٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي «جُرُف» مثقَّلاً. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: «جُرْف» ساكنة الراء. قال أبو علي: فالضم الأصل، والإسكان تخفيف، ومثله: الشُّغُل والشُّغْل. قال ابن قتيبة: المعنى: على حرف جرف هائر. والجرف: ما يتجرف بالسيول من الأودية. والهائر: الساقط. ومنه: تهوَّر البناء وانهار: إذا سقط. وقرأ ابن كثير: وحمزة «هار» بفتح الهاء. وأمال الهاء نافع وأبو عمرو. وعن عاصم كالقراءتين. قوله تعالى: فَانْهارَ بِهِ أي: بالباني فِي نارِ جَهَنَّمَ. قال الزجاج: وهذا مثل، والمعنى: أن بناء هذا المسجد كبناء على جرف جهنم يتهوَّر بأهله فيها. وقال قتادة: ذُكر لنا أنهم حفروا فيه حفرة فرؤي فيها الدخان. قال جابر: رأيت المسجد الذي بني ضراراً يخرج منه الدّخان. [سورة التوبة (9) : آية 110] لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) قوله تعالى: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ يعني: مسجد الضرار الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: شكّاً ونفاقاً، لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه، قاله ابن السائب ومقاتل. والثالث: أن المعنى: لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظاً في قلوبهم، قاله السدي، والمبرِّد. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قرأ الأكثرون: «إلا» وهو حرف استثناء. وقرأ يعقوب «إلى أن» فجعله حرف جر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تُقَطَّع» بضم التاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: «تَقَطَّع» بفتح التاء. ثم في المعنى قولان:

_ وللحديث شواهد مراسيل تقدم بعضها، ومنها: مرسل الشعبي، أخرجه الطبري 17247 و 17249 من طريقين أحدهما قوي. مرسل موسى بن أبي كثير، أخرجه الطبري 17251. مرسل عبد الرحمن بن زيد، أخرجه الطبري 17256. مرسل الحسن، أخرجه البلاذري في «فتوح البلدان» 1- 2- 3 والإسناد إلى الحسن حسن. وفي الباب روايات موصولة ومرسلة، ذكرها في «الدر المنثور» 3/ 497- 499. الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده الموصولة والمرسلة وقد صححه الحاكم والذهبي، وحسن الزيلعي إحدى رواياته وتقدم بما فيه كفاية، والله أعلم.

[سورة التوبة (9) : آية 111]

أحدهما: إلا أن يموتوا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في آخرين. والثاني: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم، ذكره الزّجّاج. [سورة التوبة (9) : آية 111] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. (760) سبب نزولها أن الأنصار لما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلاً، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم» ، قالوا: فاذا فعلنا ذلك، فما لنا؟ قال: «الجنة» قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية، قاله محمد بن كعب القرظي. فأما اشتراء النفس فبالجهاد. وفي اشتراء الأموال وجهان: أحدهما: بالإِنفاق في الجهاد. والثاني: بالصدقات. وذِكْرُ الشّراء ها هنا مجاز لأن المشتري حقيقة هو الذي لا يملك المشترى، فهو كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ «1» والمراد من الكلام أن الله أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنة فعبَّر عنه بالشراء لِما تضمن من عوض ومعوض. وكان الحسن يقول: لا والله، إنْ في الدنيا مؤمن إلا وقد أُخذت بيعته. وقال قتادة: ثامَنَهم والله فأغلى لهم. قوله تعالى: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم «فيَقتلون ويُقتَلون» فاعل ومفعول. وقرأ حمزة، والكسائي «فيُقتلون ويَقتُلون» مفعول وفاعل. قال أبو علي: القراءة الأولى بمعنى أنهم يَقتُلون أولاً ويُقتلون، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى كالأولى، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم فان لم يقدَّر فيه التقديم، فالمعنى: يقتُل من بقي منهم بعد قتل من قُتل، كما أن قوله تعالى: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ «2» ما وهن من بقي بِقَتْلِ من قُتل. ومعنى الكلام: إن الجنة عوض عن جهادهم، قَتَلوا أو قُتلوا. وَعْداً عَلَيْهِ قال الزجاج: نصب «وعداً» بالمعنى، لأن معنى قوله: بِأَنَ

_ ضعيف. أخرجه الطبري 17284 عن محمد بن كعب وغيره مرسلا ومع إرساله فإن في إسناده نجيح بن عبد الرحمن أبو معشر واه وهو مرسل، والوهن في نزول الآية، لأن البيعة كانت في أول الإسلام. وفي الباب من حديث عبادة بن الصامت «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار: «أن يشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والسمع والطاعة، ولا ينازعوا في الأمر أهله ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، قالوا: نعم: قال قائل من الأنصار: نعم، هذا لك يا رسول! فما لنا؟ قال: الجنة» . أخرجه ابن سعد في «الطبقات 3/ 457، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف الحديث. وليس فيه ذكر نزول الآية.

[سورة التوبة (9) : آية 112]

لَهُمُ الْجَنَّةَ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا، قال: وقوله تعالى: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يدل على أن أهل كل ملة أُمروا بالقتال ووُعدوا عليه الجنة. قوله تعالى: وَمَنْ أَوْفى أي: لا أحد أوفى بما وعد مِنَ اللَّهِ. فَاسْتَبْشِرُوا أي: فافرحوا بهذا البيع. [سورة التوبة (9) : آية 112] التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) قوله تعالى: التَّائِبُونَ. (761) سبب نزولها: أنه لما نزلت التي قبلها، قال رجل: يا رسول الله، وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. قال الزجاج: يصلح الرفع هاهنا على وجوه أحدها: المدح، كأنه قال: هؤلاء التائبون، أو هم التائبون. ويجوز أن يكون على البدل، والمعنى: يقاتل التائبون فهذا مذهب أهل اللغة، والذي عندي أنه رفعٌ بالابتداء، وخبره مضمر، المعنى: التائبون ومن ذُكر معهم لهم الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد، لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد. وللمفسرين في قوله تعالى: التَّائِبُونَ قولان: أحدهما: الراجعون عن الشرك والنفاق والمعاصي. والثاني: الراجعون إلى الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظر. وفي قوله تعالى: الْعابِدُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: المطيعون لله بالعبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: المقيمون الصلاة، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الموحِّدون، قاله سعيد بن جبير. قوله تعالى: الْحامِدُونَ قال قتادة: يحمدون الله تعالى على كل حال. وفي السائحين أربعة أقوال: أحدها: الصائمون، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة في آخرين. قال الفراء: ويرى أهل النظر أن الصائم إنما سمي سائحاً تشبيهاً بالسائح، لأن السائح لا زاد معه والعرب تقول للفرس إذا كان قائماً لا علف بين يديه: صائم، وذلك أن له قُوتين، غدوة وعشية، فشُبه به صيام الآدمي لتسحُّره وإفطاره. والثاني: أنهم الغزاة، قاله عطاء. والثالث: طلاب العلم، قاله عكرمة. والرابع: المهاجرون، قاله ابن زيد. قوله تعالى: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني في الصلاة الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وهو طاعة الله وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو معصية الله. فان قيل: ما وجه دخول الواو في قوله تعالى: وَالنَّاهُونَ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصفة الثامنة، والعرب تعطف بالواو على السّبعة، كقوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «1» وقوله في صفة الجنّة: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «2» ، ذكره جماعة من المفسرين. والثاني: أن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الآمر بالمعروف ناه عن

_ لم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه، حيث لا ذكر له في كتب الحديث والأثر بهذا اللفظ والسياق.

[سورة التوبة (9) : الآيات 113 إلى 114]

المنكر في حال أمره، فكان دخول الواو دلالة على أن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين في بعض الأحوال والأوقات. قوله تعالى: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ قال الحسن: القائمون بأمر الله. [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 114] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ في سبب نزولها أربعة أقوال: (762) أحدها: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أميّة، فقال: «أي عم، قل معي: لا إله إلا الله، أحاجُّ لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزالا يكلِّمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به: أنا على ملَّة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرنّ لك ما لم أُنه عنك» ، فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، ونزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «1» أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه. (763) وقيل: إنه لمّا مات أبو طالب، جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستغفر له، فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا، وقد استغفر ابراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه؟ فاستغفروا للمشركين، فنزلت هذه الآية. قال أبو الحسين بن المنادي: هذا لا يصح، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمّه «لأستغفرنّ لك ما لم أُنهَ عنك» قبل أن يموت، وهو في السياق، فأما أن يكون استغفر له بعد الموت، فلا، فانقلب ذلك على الرواة، وبقي على انقلابه. (764) والثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبر أمه آمنة، فتوضأ وصلى ركعتين، ثمّ بكى فبكى الناس

_ صحيح. أخرجه البخاري 1360 و 4772 و 4776 و 3884 و 6681 ومسلم 24 والنسائي 4/ 60 وفي «التفسير» 250 وأحمد 5/ 433 وعبد الرزاق في «التفسير» 1132 وابن حبان 982 والواحدي في «الوسيط» 2/ 527 و «الأسباب» 530 والبيهقي في «الصفات 171 و 195 و «الدلائل» 2/ 342 و 343، والبغوي في «التفسير» 1123 بترقيمي. من طرق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه به. أخرجه الطبري 17341 عن عمرو بن دينار مرسلا. وله شاهد من مرسل محمد بن كعب، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» 3/ 505. فهذان مرسلان لا تقوم بهما حجة. انظر «أحكام القرآن» 1222 بتخريجنا. عزاه السيوطي في «الدر» 3/ 507 لابن مردويه عن بريدة به. ولم أقف على إسناده. وورد بنحوه أخرجه الطبري 17344 من حديث بريدة ورجاله ثقات. وورد من وجه آخر أخرجه الحاكم 1/ 376 وصححه على

لبكائه، ثم انصرف إليهم، فقالوا: ما الذي أبكاك؟ فقال: «مررت بقبر أمي فصليت ركعتين، ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها، فنُهيت، فبكيت، ثم عدت فصلّيت ركعتين، واستأذنت ربي أن أستغفر لها، فزُجرت زجراً، فأبكاني» ، ثمّ دعا براحلته فركبها فما سار هنيّة، حتى قامت الناقة لثقل الوحي فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا والأية التي بعدها، رواه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (765) والثالث: أن رجلاً استغفر لأبويه، وكانا مشركين، فقال له علي بن أبي طالب: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكر ذلك عليّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه أبو الخليل عن علي عليه السلام. (766) والرابع: أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الرحم، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ فقال: «بلى، والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» ، فنزلت هذه الآية، وبيَّن عذر إبراهيم، قاله قتادة. ومعنى قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي: من بعد ما بان أنهم ماتوا كفاراً. قوله تعالى: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فيه قولان: أحدهما: أن إبراهيم وعد أباه الاستغفار، وذلك قوله تعالى: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي «1» ، وما كان يعلم أن الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره الله تعالى بذلك. والثاني: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن فلما تبيَّن لإبراهيم عداوة أبيه لله تعالى بموته على الكفر، ترك الدعاء له. فعلى الأول، تكون هاء الكناية في «إيَّاه» عائدة على آزر، وعلى الثاني، تعود على إبراهيم. وقرأ ابن السميفع، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك: «وعدها أباه» بالباء.

_ شرطهما! ووافقه الذهبي! وهو كما قال. وله شاهد صحيح من حديث أبي هريرة، أخرجه الترمذي 976 وأبو داود 3234 والنسائي 4/ 90 وابن ماجة 1572 وابن أبي شيبة 3/ 343 وأحمد 2/ 441 وابن حبان 3169 واستدركه الحاكم 1/ 375 والبيهقي 4/ 76 والبغوي 1554 من طرق عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة، قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، «فإنها تذكر الموت» . قال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» 7/ 45: فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة، لأنه إذا جازت زيارتهم بعد، ففي الحياة أولى، وقد قال الله تعالى وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وفيه النهي عن الاستغفار للكفار. ففي هذا الحديث وحديث بريدة المتقدم وكلام النووي هذا دليل على رد قول بعض المتأخرين ومنهم السيوطي بأن الله عز وجل قد أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم. فآمنا به. وليس على ما ذكر هؤلاء دليل سوى أحاديث موضوعة، وأقوال واهية، وقصص عجيبة. نسأل الله السلامة. أخرجه الترمذي 3101 والنسائي 4/ 91 وأحمد 1/ 99 و 130 و 131 وأبو يعلى 335 و 619 والطبري 17348 و 17349 من طرق عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الخليل عبد الله بن الخليل عن علي به، وإسناده لين أبو الخليل، مقبول، وقد توبع على معنى هذا الحديث كما تقدم دون لفظه. والله أعلم. ضعيف. أخرجه الطبري 17347 عن قتادة مرسلا بأتم منه، وهذا ضعيف لإرساله.

[سورة التوبة (9) : الآيات 115 إلى 116]

وفي الأوَّاه ثمانية أقوال «1» : (767) أحدها: أنه الخاشع الدَّعَّاء المتضرع، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه الدَّعَّاء، رواه زِرٌّ عن عبد الله، وبه قال عبيد بن عمير. والثالث: الرحيم، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود، وبه قال الحسن، وقتادة، وأبو ميسرة. والرابع: أنه الموقن، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك. والخامس: أنه المؤمن، رواه العوفي، ومجاهد، وابن أبي طلحة عن ابن عباس. والسادس: أنه المسبِّح، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة، وبه قال سعيد بن المسيب، وابن جبير. والسابع: أنه المتأوِّه لذِكر عذاب الله، قاله الشعبي. قال أبو عبيدة: مجاز أواه مجاز فَعّال من التأوّه، ومعناه: متضرِّع شَفَقَاً وفَرَقاً ولزوماً لطاعة ربه، قال المُثَقَّب: إذا ما قمتُ أرْحَلُها بليل ... تأَوَّهُ آهةَ الرجل الحزينِ «2» والثامن: أنه الفقيه، رواه ابن جريج عن مجاهد. فأما الحليم، فهو الصّفوح عن الذّنوب. [سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 116] وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً الآية. (768) سبب نزولها: أنه لما نزلت آية الفرائض، وجاء النسخ، وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر الأول مثل أمر القبلة والخمر، ومات أقوام على ذلك، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال قوم: المعنى: أنه بيَّن أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين قبل تحريمه، فاذا حرَّمه ولم يمتنعوا عنه، فقد ضلوا. وقال ابن الأنباري: في الآية حذف واختصار، والتأويل: حتى يتبين لهم ما يتقون، فلا يتقونه، فعند ذلك يستحقون الضّلال فحذف ما حذف لبيان معناه، كما تقول العرب: أمرتك بالتجارة فكسبتَ الأموال يريدون: فتجرت فكسبت.

_ أخرجه الطبري 17430 و 17431 عن عبد الله بن شداد، وفيه شهر بن حوشب فيه كلام، وهو مدلس، وقد عنعنه. وإسناده ضعيف. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.

[سورة التوبة (9) : آية 117]

[سورة التوبة (9) : آية 117] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ قال المفسرون: تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلُّف. وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سببَ توبة التّائبين، ذكر معهم، كقوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ «1» . قوله تعالى: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ قال الزجاج: هم الذين اتبعوه في غزوة تبوك، والمراد بساعة العسرة: وقت العسرة، لأن الساعة تقع على كل الزمان، وكان في ذلك الوقت حرٌّ شديدٌ، والقوم في ضيقة شديدة، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه، وكانوا في فقر، فربما اقتسم التمرة اثنان، وربما مص التمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء، وربما نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحر. (769) وقيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن ساعة العسرة فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع، حتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إنّ الله تعالى قد عوَّدك في الدعاء خيراً، فادع لنا. قال: «تحب ذلك» ؟ قال: نعم. فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر. قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ قرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «كاد يزيغ» بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: تميل إلى التخلف عنه، وهم ناس من المسلمين هَمُّوا بذلك، ثم لحقوه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن القلوب مالت إلى الرجوع للشدة التي لقوها، ولم تَزِغ عن الإيمان، قاله الزجاج. والثالث: أن القلوب كادت تزيغ تلفاً بالجهد والشدة، ذكره الماوردي. قوله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ كرر ذكر التوبة، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم ذِكر التوبة فضلاً منه، ثم ذكر ذنبهم، ثم أعاد ذكر التّوبة. [سورة التوبة (9) : آية 118] وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر:

_ أخرجه ابن خزيمة 1/ 52 والحاكم 1/ 59 وابن حبان 1383 والبزار 1841 «كشف» من حديث ابن عمر، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، والصواب أنه على شرط مسلم وحده، حرملة بن يحيى تفرد عنه مسلم.

[سورة التوبة (9) : آية 119]

«خالفوا» بألف. وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وحميد: «خَلَفُوا» بفتح الخاء واللام المخففة. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو العالية: «خَلَّفوا» بفتح الخاء واللام مع تشديدها. وهؤلاء هم المرادون بقوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ وقد تقدّمت أسماؤهم. وفي معنى «خُلّفوا» قولان: أحدهما: خُلِّفوا عن التوبة، قاله ابن عباس، ومجاهد. فيكون المعنى: خُلِّفوا عن توبة الله على أبي لبابة وأصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك. والثاني: خُلِّفوا عن غزوة تبوك، قاله قتادة. وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك «1» ، وقد رويتها في كتاب «الحدائق» . قوله تعالى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي: ضاقت مع سَعَتها. (770) وذلك أن المسلمين مُنعوا من معاملتهم وكلامهم، وأُمروا باعتزال أزواجهم، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم مُعرِضاً عنهم. وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ بالهمِّ والغمِ. وَظَنُّوا أي: أيقنوا أَنْ لا مَلْجَأَ أي: لا معتصَم من الله ومن عذابه إلا هو. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أعاد التوبة تأكيداً، لِيَتُوبُوا قال ابن عباس: ليستقيموا. وقال غيره: وفَّقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها. وسئل بعضهم عن التوبة النصوح، فقال: أن تضيق على التائب الارضُ، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب وصاحبيه. [سورة التوبة (9) : آية 119] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنها نزلت في قصة الثلاثة المتخلِّفين. والثاني: أنها في أهل الكتاب. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في إيمانكم بمحمّد صلى الله عليه وسلم وكونوا مع الصادقين. وفي المراد بالصادقين خمسة أقوال: أحدها: أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قاله ابن عمر. والثاني: أبو بكر وعمر، قاله سعيد بن جبير، والضحاك. وقد قرأ ابن السّميفع، وأبو المتوكّل، ومعاذ القارئ: «مع الصَّادِقَيْنِ» بفتح القاف وكسر النون على التثنية. والثالث: أنهم الثلاثة الذين خُلِّفوا، صدقوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تأخُّرهم، قاله السدي. والرابع: أنهم المهاجرون، لأنهم لم يتخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد، قاله ابن جريج. قال أبو سليمان الدمشقي. وقيل: إن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية يوم السقيفة، فقال: يا معشر الأنصار، إن الله يقول في كتابه: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا إلى قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ من هم؟ قالت الأنصار: أنتم هم. قال: فان الله تعالى يقول: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. والخامس: أنه عامّ، قاله قتادة. و «مع» بمعنى: «مِنْ» ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود: «وكونوا من الصادقين» .

_ صحيح. أخرجه البخاري 4418 ومسلم 2769 والترمذي 3102 والنسائي في «التفسير» 252 وعبد الرزاق 9744 وأحمد 5/ 387 وابن أبي شيبة 14/ 540 وابن حبان 3370 والواحدي في «الوسيط» 2/ 530 و 532 11 والطبري 17461 والبيهقي في «الدلائل» 5/ 273 والبغوي 1134 من حديث كعب بن مالك.

[سورة التوبة (9) : الآيات 120 إلى 121]

[سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) قوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ قال ابن عباس: يعني: مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ في غزوة غزاها، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ لا يرضَوا لأنفسهم بالخفض والدّعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرِّ والمشقة. يقال: رغبت بنفسي عن الشيء: إذا ترفعت عنه. قوله تعالى: ذلِكَ أي: ذلك النهي عن التخلُّف بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وهو العطش، وَلا نَصَبٌ وهو التّعب، وَلا مَخْمَصَةٌ وهي المجاعة، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أسراً أو قتلا أو هزيمة، فأعلمهم الله أنه يجازيهم على جميع ذلك. قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً قال ابن عباس: تمرة فما فوقها، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً مقبلين أو مدبرين إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أي: أُثبت لهم أجر ذلك، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ أي: بأحسن ما كانُوا يَعْمَلُونَ. فصل: قال شيخنا علي بن عبيد الله: اختلف المفسرون في هذه الآية، فقالت طائفة: كان في أول الأمر لا يجوز التّخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان الجهاد يلزم الكل ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً وقالت طائفة: فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم ممن لا عذر له الخروج معه لشيئين: أحدهما: أنه من الواجب عليهم أن يَقُوه بأنفسهم. والثاني: أنه إذا خرج الرسول فقد خرج الدِّين كلُّه، فأُمروا بالتظاهر لئلا يقلَّ العدد، وهذا الحكم باقٍ إلى وقتنا فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد، وجب على عامة المسلمين متابعته لما ذكرنا. فعلى هذا، الآية محكمة. قال أبو سليمان: لكل آية وجهها، وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق. [سورة التوبة (9) : آية 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً في سبب نزولها أربعة أقوال «1» :

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 516: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: تأويله: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله وحده، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم، ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيدا. ولكن عليهم إذا سرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينفر معه من كل قبيلة من قبائل العرب طائِفَةٌ وهي الفرقة- وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد، كما قال الله جل. ثناؤه: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يقول: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة وهذا إلى ها هنا. على أحد الأقوال التي رويت عن ابن عباس وهو قول قتادة والضحاك وإنما قلنا: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب. لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الأعراب، لغير عذر يعذرون به، إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو وجهاد عدو قبل هذه الآية بقوله: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: 120] . ثم عقب ذلك جل ثناؤه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر، والمباح لهم من تركه حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم. أن يكون عقيب تعريفهم ذلك، تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته، وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم. وأما قوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه، ولينذر قومهم فيحذرهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم. لَعَلَّهُمْ يحذرون يقول: لعل قومهم، إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله، حذارا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، وهو قول الحسن البصري لأن «النفر» قد بينا فيما مضى، أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء، أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو، فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه، وكان جل ثناؤه قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ. علم أن قوله لِيَتَفَقَّهُوا إنما هو شرط للنفر لا لغيره. إذ كان يليه دون غيره من الكلام. فإن قال قائل وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلفون في الدنيا. قيل: ننكر ذلك لاستحالته. وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة، وجب أن يكون مقامهم معهم سببا لجهلهم وترك التفقه، وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه. وبعد، فإنه قال جل ثناؤه: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ عطفا به على قوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، ولا شك أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من الله إليها، وللإنذار وخوف الوعيد نفرت، فما وجه إنذار الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة، وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى، لكان أحقهما بأن يوصف به، الطائفة النافرة، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به. ما لم تعاين المقيمة. ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا. في أنها تنذر من حيّها وقبيلتها من لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه: أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك. اه.

(771) أحدها: أنه لمّا أنزل الله عزّ وجلّ عيوب المنافقين في غزوة تبوك، قال المؤمنون: والله لا نتخلَّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سريَّة أبداً. فلما أرسل السرايا بعد تبوك، نفر المسلمون جميعاً، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. (772) والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على مضر، أجدبت بلادهم فكانت القبيلة منهم تقبل

_ باطل لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 533 من رواية الكلبي عن ابن عباس، والكلبي ممن يضع الحديث، والمتن باطل، فإن المسلمين كانوا ينفرون بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ضعيف. أخرجه الطبري 17488 عن ابن عباس، ورجاله ثقات، لكنه منقطع بين ابن عباس وعلي بن أبي طلحة، والآية تخاطب المؤمنين لا الكافرين كما هو سياق الحديث.

[سورة التوبة (9) : الآيات 123 إلى 126]

بأسرها إلى المدينة من الجُهد ويظهرون الإسلام وهم كاذبون فضيَّقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. (773) والثالث: أن ناساً أسلموا، وخرجوا إلى البوادي يعلِّمون قومهم، فنزلت: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ «1» ، فقال ناس من المنافقين: هلك من لم ينفر من أهل البوادي، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. (774) والرابع: أن ناساً خرجوا إلى البوادي يعلِّمون الناس ويَهدونهم، ويصيبون من الحطب ما ينتفعون به فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فأقبلوا من البادية كلهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. قال الزجاج: ولفظ الآية لفظ الخبر، ومعناها الأمر، كقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ «2» ، والمعنى: ينبغي أن ينفر بعضهم، ويبقى البعض. قال الفراء: ينفِر وينفُر، بكسر الفاء وضمها، لغتان. واختلف المفسرون في المراد بهذا النفير على قولين: أحدهما: أنه النفير إلى العدو، فالمعنى: ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم، بل تنفر طائفة، وتبقى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم طائفة. لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يعني الفرقةَ القاعدين. فاذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن أو تجدَّد أمر، أعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني: أنه النفير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تنفر منهم طائفة ليتفقه هؤلاء الذين ينفرون، ولينذروا قومهم المتخلِّفين، هذا قول الحسن، وهو أشبه بظاهر الآية. فعلى القول الأول، يكون نفير هذه الطائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه. وعلى القول الثاني، يكون نفير الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقتباس العلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 123 الى 126] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قد أُمر بقتال الكفار على العموم، وإنما يُبتدَأ بالأقرب فالأقرب. وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم الروم، قاله ابن عمر. والثاني: قريظة والنضير وخيبر وفدك، قاله ابن عباس. والثالث: الديلم، قاله الحسن. والرابع: العرب، قاله ابن زيد. والخامس: أنه عام في قتال الأقرب فالأقرب، قاله قتادة. وقال الزّجّاج: وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل أهل كل ثغر الذين يلونهم. قال: وقيل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ربّما تخطّى في حربه الذين

_ مرسل. أخرجه الطبري 17491 عن عكرمة مرسلا. مرسل. أخرجه الطبري 17480 عن مجاهد مرسلا.

[سورة التوبة (9) : آية 127]

يلونه من الأعداء ليكون ذلك أهْيَبَ له، فأُمر بقتال من يليه ليُستَنَّ بذلك. وفي الغلظة ثلاث لغات: غِلظة، بكسر الغين وبها قرأ الأكثرون. وغَلظة، بفتح الغين، رواها جبلة عن عاصم، وغُلظة، بضم الغين، رواها المفضل عن عاصم، ومثلها: جِذوة وجَذوة وجُذوة، ووِجنة ووَجنة ووُجنة، ورِغوة ورَغوة ورُغوة، ورِبوة ورَبوة ورُبوة، وقِسوة وقَسوة وقُسوة، وإِلوة وأَلوة وأُلوة، في اليمين. وشاة لِجْبة ولَجْبة ولُجْبة: قد ولىَّ لبنها. قال ابن عباس في قوله «غلظة» : شجاعة. وقال مجاهد: شدة. قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً هذا قول المنافقين بعضهم لبعض استهزاءً بقول الله تعالى. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً لأنهم إذا صدَّقوا بها وعملوا بما فيها، زادتهم إيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي: يفرحون بنزولها وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: شك ونفاق. وفي المراد بالرجس ثلاثة أقوال: أحدها: الشك، قاله ابن عباس. والثاني: الإثم، قاله مقاتل. والثالث: الكفر، لأنهم كلما كفروا بسورة زاد كفرهم، قاله الزجاج. قوله تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ يعني المنافقين. وقرأ حمزة: «أولا ترون» بالتاء على الخطاب للمؤمنين. وفي معنى يُفْتَنُونَ ثمانية أقوال «1» . أحدها: يكذبون كذبة أو كذبتين يُضلِّون بها، قاله حذيفة بن اليمان. والثاني: ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: يُبْتَلَوْنَ بالغزو في سبيل الله، قاله الحسن، وقتادة. والرابع: يُفْتَنون بالسَّنَة والجوع، قاله مجاهد. والخامس: بالأوجاع والأمراض، قاله عطية. والسادس: يَنقضُون عهدهم مرة أو مرّتين، قاله يمان. والسابع: يكافرون، وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بما تكلَّموا به إذ خَلَوْا، علموا أنه نبي، ثم يأتيهم الشيطان فيقول: إنما بلغه هذا عنكم، فيشركون، قاله مقاتل بن سليمان. والثامن: يُفضَحون باظهار نفاقهم، قاله مقاتل بن حيان. قوله تعالى: ثُمَّ لا يَتُوبُونَ أي من نفاقهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ أي يعتبرون ويتّعظون. [سورة التوبة (9) : آية 127] وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) قوله تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ. (775) قال ابن عباس: كانت إذا أُنزلت سورة فيها عيب المنافقين، وخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرَّض بهم في خطبته، شق ذلك عليهم ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب يقولون: هَلْ

_ عزاه المصنف لابن عباس، ولم أقف عليه.

[سورة التوبة (9) : آية 128]

يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المؤمنين إن قمتم؟ فان لم يرهم أحد خرجوا من المسجد. قال الزجاج: كأنهم يقولون ذلك إيماءً لئلا يعلم بهم أحد، ثُمَّ انْصَرَفُوا عن المكان، وجائز عن العمل بما يسمعون. وقال الحسن: ثم انصرفوا على عزم التّكذيب بمحمّد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. قوله تعالى: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ قال ابن عباس: عن الإيمان. وقال الزّجّاج: أضلّهم مجازاة على فعلهم. [سورة التوبة (9) : آية 128] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قرأ الجمهور بضم الفاء. وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن. ومحبوب عن أبي عمرو: بفتحها. وفي المضمومة أربعة أقوال: أحدها: من جميع العرب، قاله ابن عباس وقال: ليس في العرب قبيلة إلّا وقد ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: ممن تعرفون، قاله قتادة. والثالث: من نكاحٍ لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، قاله جعفر الصّادق. والرابع: بشر مثلكم، فهو آكد للحجة، لأنكم تفقهون عمَّن هو مثلكم، قاله الزجاج. وفي المفتوحة ثلاثة أقوال: أحدها: أفضلكم خُلُقاً. والثاني: أشرفكم نسبا. والثالث: أكثركم طاعة لله عزّ وجلّ. قوله تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ فيه قولان: أحدهما: شديد عليه ما شقَّ عليكم، رواه الضحاك عن ابن عباس. قال الزجاج: شديد عليه عنتكم. والعنت: لقاء الشدة. والثاني: شديد عليه ما آثمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه. وقال أبو عبيدة: «رؤوف» فعول، من الرأفة، وهي أرق من الرحمة ويقال: «رؤف» ، وأنشد: ترى للمؤمنين عليك حقاً ... كفعل الوالد الرؤف الرحيم «1» وقيل: رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين. [سورة التوبة (9) : آية 129] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: أعرضوا عن الإيمان فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي: يكفيني رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. وقرأ ابن محيصن: «العظيمُ» برفع الميم. وإنما خص العرش بالذِّكر، لأنه الأعظم، فيدخل فيه الأصغر. (776) قال أُبيّ بن كعب: آخر آية أُنزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ إلى آخر السّورة.

_ أخرجه أحمد 5/ 117 والطبري 17529 و 17530 ورواه الطبراني في الكبير 533 عن أبي بن كعب، وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 36. وقال: رواه عبد الله بن أحمد والطبراني، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ثقة سيء الحفظ وبقية رجاله ثقات.

سورة يونس

سورة يونس فصل في نزولها: روى عطيّة، وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكيّة، وبه قال الحسن، وعكرمة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن فيها من المدني قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ «1» الآية. وفي رواية عن ابن عباس: فيها ثلاث آيات من المدنيّ، أوّلها قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ «2» إلى رأس ثلاث آيات، وبه قال قتادة. وقال مقاتل: هي مكيّة، غير آيتين، قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ والتي تليها. وقال بعضهم: هي مكيّة إلا آيتين، وهي قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ «3» والتي تليها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يونس (10) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) فأمّا قوله تعالى: الر: قرأ ابن كثير: «الر» بفتح الراء، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «الر» على الهجاء مكسورة. وقد ذكرنا في أول سورة «البقرة» ما يشتمل على بيان هذا الجنس. وقد خُصَّت هذه الكلمة بستة أقوال «4» : أحدها: أن معناها: أنا الله أرى، رواه الضحاك عن ابن عباس «5» . والثاني: أنا الله الرحمن، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أنه بعض اسم من أسماء الله. روى عكرمة عن ابن عباس قال: «آلر» و «حم» و «نون» حروف الرحمن. والرابع: أنه قَسَمٌ أقسم الله به، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد، وقتادة. والسادس: أنه اسم للسورة، قاله ابن زيد. وفي قوله تعالى: تِلْكَ قولان: أحدهما: أنه بمعنى «هذه» ، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره أبو عبيدة. والثاني: أنه على أصله. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ الإشارة إلى الكتاب المتقدمة من التوراة والإِنجيل. قاله مجاهد، وقتادة فيكون المعنى: هذه الأقاصيص التي تسمعونها، تلك

_ (1) سورة يونس: 40. (2) سورة يونس: 94. (3) سورة يونس: 58. (4) تقدم الكلام على الأحرف المقطعة في سورة البقرة، والصحيح في ذلك أن يقال: الله أعلم بمراده. (5) أخرجه الطبري 17533 عن الضحاك، وأخرجه 17534 عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس. وعطاء اختلط، فالخبر واه عن ابن عباس، وحسبه أن يكون عن الضحاك.

[سورة يونس (10) : الآيات 2 إلى 3]

الآيات التي وصفت في التوراة والإِنجيل. والثاني: أن الإِشارة إِلى الآيات التي جرى ذكرها، من القرآن، قاله الزجاج. والثالث: أن «تلك» إِشارة إِلى «الر» وأخواتها من حروف المعجم، أي: تلك الحروف المفتتحة بها السُّوَر هي آياتُ الْكِتابِ لأن الكتاب بها يتلى، وألفاظه إِليها ترجع، ذكره ابن الأنباري. قال أبو عبيدة: الْحَكِيمِ بمعنى المحكَم المبيَّن الموضَّح. والعرب قد تضع فعيلاً في معنى مُفْعَل قال الله تعالى: ما لَدَيَّ عَتِيدٌ «1» أي: معدّ. [سورة يونس (10) : الآيات 2 الى 3] أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) قوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً: سبب نزولها: أنّ الله تعالى لمّا بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم أنكرت الكفار ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد. فنزلت هذه الآية «2» . والمراد بالناس هاهنا: أهل مكة، والمراد بالرّجل: محمّد صلى الله عليه وسلم. ومعنى (منهم) : يعرفون نسبه، قاله ابن عباس. فأما الألِف فهي للتوبيخ والإِنكار. قال ابن الأنباري: والاحتجاج عليهم في كونهم عجبوا من إِرسال محمد، محذوف هاهنا، وهو مبيَّن في قوله: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ «3» أي: فكما وضح لكم هذا التفاضل بالمشاهدة فلا تنكروا تفضيل الله مَنْ شاء بالنبوة. وإنما حذفه هاهنا اعتماداً على ما بيَّنه في موضع آخر. قال: وقيل: إِنما عجبوا من ذكر البعث والنشور لأن الإِنذار والتبشير يتصلان بهما، فكان جوابهم في مواضع كثيرة يدل على كون ذلك مثل قوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «4» ، وقوله: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ «5» . وفي المراد بقوله: قَدَمَ صِدْقٍ سبعة أقوال: أحدها: أنه الثواب الحسن بما قدَّموا من أعمالهم. رواه العوفي عن ابن عباس، وروى عنه أبو صالح قال: عمل صالح يَقْدمون عليه. والثاني: أنه ما سبق لهم من السعادة في الذِّكر الأول، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قال أبو عبيدة: سابقة صدق. والثالث: شفيع صدق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم يوم القيامة. قاله الحسن. والرابع: سَلَفُ صدق تقدّموهم بالإِيمان، قاله مجاهد، وقتادة. والخامس: مقام صدق لا زوال عنه، قاله عطاء. والسادس: أن قدم الصِّدق: المنزلة الرفيعة. قاله الزجاج. والسابع: أن القدم هاهنا: مصيبة المسلمين بنبيّهم صلى الله عليه وسلم وما يلحقهم من ثواب الله عند أسفهم على فقده ومحبتهم لمشاهدته «6» ، ذكره ابن الأنباري.

_ (1) سورة ق: 23. (2) ضعيف جدا. أخرجه الطبري 17542 عن طريق بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس. وإسناده ضعيف جدا، بشر ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» رقم 534 عن ابن عباس بدون إسناد. (3) سورة الزخرف: 32. (4) سورة الروم: 27. [.....] (5) سورة يس: 79. (6) قال الطبري رحمه الله 6/ 529، وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معناه أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منة الثواب.

[سورة يونس (10) : آية 4]

فإن قيل: لِم آثر القَدَم هاهنا على اليد، والعرب تستعمل اليد في موضع الإِحسان؟ فالجواب: أن القدم ذكرت هاهنا للتقدم، لأن العادة جارية بتقدُّم الساعي على قدميه، والعرب تجعلها كناية عن العمل الذي يُتقدَّم فيه ولا يقع فيه تأخُّر، قال ذو الرمة: لكم قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّها ... مع الحَسَب العادِيّ طَمَّتْ على البحر «1» فإن قيل: ما وجه إِضافة القدم إِلى الصدق؟ فالجواب: أن ذلك مدح للقدم، وكل شيء أضفته إِلى الصدق، فقد مدحته ومثله: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ «2» وقوله: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «3» . وفي الكلام محذوف تقديره: أن أوحينا إِلى رجل منهم، فلما أتاهم الوحي قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «لَساحر» بألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «لَسحر» بغير ألف «4» . قال أبو علي: قد تقدّم قوله تعالى: أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ فمن قال: «ساحر» ، أراد الرجل، ومن قال: «سحر» أراد الذي أوحي سحر، أي: الذين تقولون أنتم فيه: إِنه وحي: سحر. قال الزجاج: لما أنذرهم بالبعث والنشور، فقالوا: هذا سحر، أخبرهم أنّ الذي خلق السماوات والأرض قادر على بعثهم بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ وقد سبق تفسيره في سورة الأعراف «5» . قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قال مجاهد: يقضيه. وقال غيره: يأمر به ويمضيه. قوله تعالى: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ فيه قولان: أحدهما: لا يشفع أحد إِلا أن يأذن له، قاله ابن عباس. قال الزجاج: لم يَجْرِ للشفيع ذِكر قبل هذا، ولكنَّ الذين خوطبوا كانوا يقولون: الأصنام شفعاؤنا. والثاني: أن المعنى: لا ثانيَ معه، مأخوذ من الشَّفْع «6» ، لأنه لم يكن معه أحد، ثم خلق الأشياء. فقوله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أي: من بعد أمره أن يكون الخلق فكان. ذكره الماوردي. قوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ: قال مقاتل: وحِّدوه. وقال الزّجّاج: المعنى: فاعبدوه وحده. وقوله تعالى: تَذَكَّرُونَ معناه: تتّعظون. [سورة يونس (10) : آية 4] إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)

_ (1) في «القاموس» طمّ الماء طمّا وطموما: غمر الإناء وملأه، والشيء كثر حتى علا وغلب. (2) سورة الإسراء: 80. (3) سورة القمر: 55. (4) قال الطبري رحمه الله 6/ 529: اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ بمعنى: إن هذا الذي جئتنا به- يعنون القرآن- لسحر مبين، وقرأ مسروق وسعيد بن جبير وجماعة من قراء الكوفيين إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ. (5) الآية: 54. (6) في «القاموس» الشفع: خلاف الوتر، وهو الزوج، وقد شفعه كمنعه.

[سورة يونس (10) : الآيات 5 إلى 10]

قوله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي: مصيركم يوم القيامة. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا قال الزجاج: «وَعْدَ الله» منصوب على معنى: وعدكم الله وعداً، لأن قوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ معناه: الوعد بالرجوع، و «حقاً» منصوب على: أحقّ ذلك حقّا. قوله تعالى: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ قرأه الأكثرون بكسر الألف. وقرأت عائشة، وأبو رزين، وعكرمة، وأبو العالية، والأعمش «أنه» بفتحها. قال الزجاج: من كسر، فعلى الاستئناف، ومن فتح، فالمعنى: إِليه مرجعكم، لأنه يبدأ الخلق. قال مقاتل: يبدأ الخلق ولم يكن شيئا، ثم يعيده بعد الموت. فأمّا «القسط» فهو العدل. فإن قيل: كيف خصَّ جزاء المؤمنين بالعدل، وهو في جزاء الكافرين عادل أيضاً؟ فالجواب: أنه لو جمع الفريقين في القسط، لم يتبيَّن في حال اجتماعهما ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم والشرب من الحميم، ففصلهم من المؤمنين ليبيِّن ما يجزيهم به مما هو عدل أيضاً. ذكره ابن الأنباري. فأما الحميم: فهو الماء الحارُّ، وقال أبو عبيدة: كل حار فهو حميم. [سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 10] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً قرأ الأكثرون: «ضياءً» بهمزة واحدة، وقرأ ابن كثير: «ضئاءً» بهمزتين في كل القرآن، أي: ذات ضياء. وَالْقَمَرَ نُوراً أي: ذا نور. وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي: قدَّر له، فحذف الجار، والمعنى: هيَّأ ويسَّر له منازل. قال الزجاج: الهاء ترجع إِلى «القمر» : لأنه المقدّر لعلم السنين والحساب. وقد يجوز أن يعود إِلى الشمس والقمر، فحذف أحدهما اختصاراً. وقال الفراء: إن شئتَ جعلت تقدير المنازل للقمر خاصة، لأن به تُعلمَ الشهور، وإن شئت جعلت التقدير لهما، فاكتفي بذكر أحدهما من صاحبه، كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» . قال ابن قتيبة: منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً من أول الشهر إلى ثماني وعشرين ليلة، ثم يستسرُّ. وهذه المنازل، هي النجوم التي كانت العرب تنسب إِليها الأنواء، وأسماؤها عندهم: الشِّرََطان، والبُطَيْن، والثُّرَيَّا، والدَّبَرَان، والهَقْعة، والهَنْعة، والذِّراع، والنَّثْرة، والطَّرْفُ، والجبهة، والزُّبْرة، والصَّرْفة، والعَوَّاء، والسِّماك، والغَفْر، والزُّبَانَى، والإِكليل، والقلب، والشَّوْلَة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذَّابح، وسعد بُلَعْ، وسعد السُّعود، وسعد الأخبية، وفَرْغ الدَّلو المقدَّم، وفرغ الدلو المؤخّر، والرّشاء وهو الحوت.

_ (1) سورة التوبة: 62.

قوله تعالى: ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي: للحق، من إِظهار صنعه وقدرته والدليل على وحدانيته. يُفَصِّلُ الْآياتِ: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «يفصِّل» بالياء. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «نفصِّل الآيات» بالنون، والمعنى: نُبَيِّنُها. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: يستدلُّون بالأمارات على قدرته. قوله تعالى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: يتقون الشرك. والثاني: عقوبةَ الله تعالى. فيكون المعنى: إِن الآيات لمن لم يحمله هواه على خلاف ما وضح له من الحق. قوله تعالى: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا قال ابن عباس: لا يخافون البعث. وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا: اختاروا ما فيها على الآخرة وَاطْمَأَنُّوا بِها: آثروها. وقال غيره: ركنوا إِليها، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ فيها قولان: أحدهما: أنها آيات القرآن ومحمّد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. والثاني: ما ذكره في أول السورة من صنعه، قاله مقاتل. فأما قوله تعالى: غافِلُونَ فقال ابن عباس: مكذِّبون. وقال غيره: مُعْرِضون. قال ابن زيد: وهؤلاء هم الكفار. قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قال مقاتل: من الكفر والتكذيب. قوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: يهديهم إِلى الجنة ثواباً بإيمانهم. والثاني: يجعل لهم نوراً يمشون به بإيمانهم. والثالث: يزيدهم هدى بإيمانهم. والرابع: يثيبهم بإيمانهم، فأما الهداية فقد سبقت لهم. قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي: تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو. قوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها أي: دعاؤهم. وقد شرحنا ذلك في أول الأعراف «1» . وفي المراد بهذا الدعاء قولان: أحدهما: أنه استدعاؤهم ما يشتهون. قال ابن عباس: كلما اشتهى أهل الجنة شيئاً، قالوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فيأتيهم ما يشتهون، فاذا طعموا، قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فذلك آخر دعواهم. وقال ابن جريج: إِذا مرَّ بهم الطير يشتهونه قالوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فيأتيهم المَلَكُ بما اشتَهَوْا، فيسلِّم عليهم فيردُّون عليه: فذلك قوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. فإذا أكلوا حمِدوا ربهم فذلك قوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. والثاني: أنهم إِذا أرادوا الرغبة إِلى الله تعالى في دعاءٍ يدعونه به قالوا: (سبحانك اللهم) ، قاله قتادة. قوله تعالى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تحية بعضهم لبعض وتحيَّة الملائكة لهم، قاله ابن عباس. والثاني: أن الله تعالى يُحَيِّيهم بالسلام. والثالث: أن التحية: المُلْك، فالمعنى: مُلكهم فيها سالم، ذكرهما الماوردي. قوله تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أي: دعاؤهم. وقولهم: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قرأ أبو مجلز، وعكرمة، ومجاهد، وابن يعمر، وقتادة، ويعقوب: «أنَّ الحمدَ لله» بتشديد النون ونصب الدال. قال الزجاج: أعلم الله أنهم يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه. وقال ابن كيسان: يفتتحون كلامهم بالتوحيد، ويختمونه بالتّوحيد «2» .

_ (1) في الأعراف: 5. (2) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 8/ 285: يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنة: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. وحسن أن يقرأ آخر «الصافات» فإنها جمعت تنزيه الباري تعالى عما نسب إليه والتسليم على المرسلين، والختم بالحمد لله رب العالمين.

[سورة يونس (10) : آية 11]

[سورة يونس (10) : آية 11] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) قوله تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ: ذكر بعضهم أنها نزلت في النضر بن الحارث حيث قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «1» والتعجيل: تقديم الشيء قبل وقته. وفي المراد بالآية قولان: أحدهما: ولو يعجِّل الله للنَّاسِ الشرَّ إذا دَعَواْ على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم، واستعجلوا به، كما يعجِّل لهم الخير، لهلكوا. هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: ولو يعجل الله للكافرين العذاب على كفرهم كما عجَّل لهم خير الدنيا من المال والولد، لعُجِّل لهم قضاء آجالهم ليتعجَّلوا عذاب الآخرة. حكاه الماوردي. ويقوِّي هذا تمامُ الآية وسببُ نزولها. وقد قرأ الجمهور: «لقُضيَ إِليهم» بضم القاف «أجلُهم» بضم اللام. وقرأ ابن عامر: «لقَضَى» بفتح القاف «أجلَهم» بنصب اللام. وقد ذكرنا في أول سورة البقرة «2» معنى الطّغيان والعمه. [سورة يونس (10) : آية 12] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ: اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في أبي حذيفة، واسمه هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي. قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها نزلت في عتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة. قاله عطاء. والضُّرُّ: الجهد والشّدة. واللام في قوله: لِجَنْبِهِ بمعنى «على» . وفي معنى الآية قولان: أحدهما: إِذا مسه الضر دعا على جنبه، أو دعا قاعداً، أو دعا قائماً، قاله ابن عباس. والثاني: إِذا مسه الضر في هذه الأحوال، دعا، ذكره الماوردي «3» . قوله تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أعرض عن ادّعاء، قاله مقاتل. والثاني: مَرَّ في العافية على ما كان عليه قبل أن يُبتلى، ولم يتَّعظ بما يناله، قاله الزجاج. والثالث: مَرَّ طاغياً على ترك الشكر. قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا قال الزجاج: «كأن» هذه مخففة من الثقيلة، المعنى: كأنه لم يدعنا، قالت الخنساء: كَأَنْ لم يكونوا حِمىً يُتَّقَى ... إِذْ النَّاسُ إِذ ذَاكَ مَن عَزّ بَزَّا «4» قوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ المعنى: كما زُيّن لهذا الكافر الدعاء عند البلاء والإِعراض عند الرَّخاء، كذلك زُيّن للمسرفين، وهم المجاوزون الحدَّ في الكفر والمعصية، عملهم.

_ (1) سورة الأنفال: 32. (2) سورة البقرة: 15. (3) انظر «تفسير الماوردي» 2/ 426. [.....] (4) في «اللسان» البز: السلب، ومنه قولهم في المثل: من عزّ بزّ، معناه: من غلب سلب.

[سورة يونس (10) : آية 13]

[سورة يونس (10) : آية 13] وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) قوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ: قال مقاتل: هذا تخويف لكفار مكة. والظلم هاهنا بمعنى الشرك. وفي قوله: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا: قولان: أحدهما: أنه عائد على أهل مكة، قاله مقاتل. والثاني: على القرون المتقدمة، قاله أبو سليمان. قال ابن الأنباري: ألزمهم الله ترك الإِيمان لمعاندتهم الحق وإِيثارهم الباطل. وقال الزجاج: جائز أن يكون جعل جزاءهم الطبع على قلوبهم، وجائز أن يكون أعلم ما قد علم منهم. قوله تعالى: كَذلِكَ نَجْزِي أي: نعاقب ونهلك، الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ: يعني المشركين من قومك. [سورة يونس (10) : آية 14] ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ: قال ابن عباس: جعلناكم يا أُمة محمد خلائف، أي: استخلفناكم في الأرض. وقال قتادة: ما جَعَلَنا اللهُ خلائفَ إِلا لينظر إِلى أعمالنا، فأرُوا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنّهار. [سورة يونس (10) : آية 15] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا: اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في مشركي مكة، قاله مجاهد، وقتادة. والمراد «بالآيات» : القرآن. و «يرجون» بمعنى: يخافون. وفي علَّة طلبهم سوى هذا القرآن أو تبديله قولان: أحدهما: أنهم أرادوا تغيير آية العذاب بالرحمة، وآية الرحمة بالعذاب، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم كرهوا منه ذكر البعث والنشور، لأنهم لا يؤمنون به، وكرهوا عيب آلهتهم، فطلبوا ما يخلو من ذلك، قاله الزجاج. والفرق بين تبديله والإِتيان بغيره، أن تبديله لا يجوز أن يكون معه، والإِتيانُ بغيره قد يجوز أن يكون معه. قوله تعالى: ما يَكُونُ لِي حرَّك هذه الياء ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وأسكنها الباقون. مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي حرَّكها نافع، وأبو عمرو، وأسكنها الباقون. والمعنى: من عند نفسي، فالمعنى: أن الذي أتيتُ به من عند الله لا من عندي فأبدِّله. إِنِّي أَخافُ فتح هذه الياء ابن كثير ونافع وأبو عمرو. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي: في تبديله أو تغييره، عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني في القيامة. فصل: وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ما بيّنّا في نظيرتها في الأنعام «1» ،

_ (1) سورة الأنعام: 15.

[سورة يونس (10) : الآيات 16 إلى 17]

ومقصود الآيتين تهديد المخالفين، وأُضيف ذلك إِلى الرّسول ليصعب الأمر فيه. [سورة يونس (10) : الآيات 16 الى 17] قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) قوله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ يعني القرآن. وذلك أنه كان لا يُنزله عليّ فيأمرني بتلاوته عليكم وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي: ولا أعلمكم الله به. قرأ ابن كثير: «وَلأَدْرَاكم» بلام التوكيد من غير ألف بعدها، يجعلها لاماً دخلت على «أدراكم» . وقرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «أدريكم» بالإِمالة. وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة، وشيبة بن نِصاح: «ولا أدرأتُكم» بتاء بين الألف والكاف «1» . فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً: وقرأ الحسن، والأعمش: «عُمْراً» بسكون الميم. قال أبو عبيدة: وفي «العمر» ثلاث لغات: عُمْر، وعُمُر، وعَمْر. قال ابن عباس: أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثِّكم بشيء من القرآن. أَفَلا تَعْقِلُونَ أنه ليس من قِبَلي. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يريد: إِني لم أفْتَرِ على الله ولم أكذب عليه، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أنّ معه شريكا. والمجرمون ها هنا: المشركون. [سورة يونس (10) : آية 18] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ أي: لا يضرهم إِن لم يعبدوه، ولا ينفعهم إِن عبدوه. قاله مقاتل، والزجاج. قوله تعالى: وَيَقُولُونَ- يعني المشركين- هؤُلاءِ يعنون: الأصنام. قال أبو عبيدة: خرجت كنايتها على لفظ كناية الآدميين. وقد ذكرنا هذا المعنى في سورة الأعراف عند قوله: وَهُمْ يُخْلَقُونَ «2» . وفي قوله: شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قولان:

_ (1) قال أبو جعفر رحمه الله: 6/ 541. وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن، عند أهل العربية غلط وكان الفراء يقول في ذلك: قد ذكر عن الحسن أنه قال: «ولا أدرأتكم به» . قال: فإن يكن فيها لغة سوى «دريت» و «أدريت» ، فلعل الحسن ذهب إليها، وأما أن تصلح من «دربت» أو «أدريت» فلا، لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا، صحتا ولم تنقلبا إلى ألف، مثل «قضيت ودعوت» . ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها، لأنها تضارع: «درأت الحد» ، وشبهه. وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز، فيهمزون غير المهموز. وسمعت امرأة من طيئ تقول: «رثأت زوجي بأبيات» . ويقولون: «لبأت بالحج» و «حلأت السويق» ، فيغلطون، لأن «حلأت» ، قد يقال في دفع العطاش من الإبل، و «لبأت» ذهب به إلى «اللبأ» لبأ الشاء، و «رثأت زوجي» ، ذهبت به إلى «رثأت اللبن» ، إذا أنت حلبت الحليب على الرائب فتلك «الرثيثة» . وكان بعض البصريين يقول: لا وجه لقراءة الحسن هذه، لأنها من «أدريت» مثل «أعطيت» ، إلا أن لغة لبني عقيل: «أعطات» يريدون أعطيت. (2) سورة الأعراف: 191.

[سورة يونس (10) : آية 19]

أحدهما: شفعاؤنا في الآخرة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، ومقاتل. والثاني: شفعاؤنا في إٍِصلاح معايشنا في الدنيا، لأنهم لا يُقِرُّون بالبعث، قاله الحسن. قوله تعالى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ قال الضحاك: أتخبرون الله أنَّ له شريكاً، ولا يعلم الله لنفسه شريكاً في السّماوات ولا في الأرض. [سورة يونس (10) : آية 19] وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) قوله تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا قد شرحنا هذا في سورة البقرة، وأحسن الأقوال أنهم كانوا على دين واحد موحِّدين، فاختلفوا وعبدوا الأصنام، فكان أول من بعث إِليهم نوح عليه السلام. قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ولولا كلمة سبقت بتأخير هذه الأمة أنه لا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من قبلهم لقُضي بينهم بنزول العذاب، فكان ذلك فصلاً بينهم فيما فيه يختلفون من الدِّين. والثاني: أن الكلمة: أن لكل أُمة أجلاً، وللدنيا مدة لا يتقدم ذلك على وقته. والثالث: أن الكلمة: أنه لا يأخذ أحداً إلا بعد إِقامة الحجة عليه. وفي قوله تعالى: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ قولان: أحدهما: لقضي بينهم بإقامة السّاعة. والثاني: بنزول العذاب على المكذّبين. [سورة يونس (10) : آية 20] وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) قوله تعالى: وَيَقُولُونَ- يعني المشركين- لَوْلا- أي: هلاَّ- أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ مثل العصا واليد وآيات الأنبياء. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فيه قولان: أحدهما: أن سؤالكم: «لِمَ لم تنزل الآية» غيب، ولا يعلم علَّة امتناعها إِلا الله. والثاني: أن «نزول الآية متى يكون؟» غيب، ولا يعلمه إِلا الله. قوله تعالى: فَانْتَظِرُوا فيه قولان: أحدهما: انتظروا نزول الآية. والثاني: قضاء الله بيننا بإظهار المحقّ على المبطل. [سورة يونس (10) : آية 21] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) قوله تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً. سبب نزولها: (777) أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دعا على أهل مكة بالجدب فقحطوا سبع سنين أتاه أبو سفيان فقال: «ادع

_ ذكره المصنف تبعا للماوردي حيث أورده في «تفسيره» 2/ 430 بقوله: وقيل. ولم ينسبه لقائل، وهو باطل لا أصل له كونه سبب نزول هذه الآية، فإن السورة مكية، والخبر الذي ساقه هو في الصحيح لكن كان ذلك في

[سورة يونس (10) : الآيات 22 إلى 23]

لنا بالخصب، فإن أخصبنا صدَّقناك» . فدعا لهم، فسُقوا ولم يؤمنوا، ذكره الماوردي. قال المفسرون: المراد بالناس ها هنا: الكفار. وفي المراد بالرحمة والضراء ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرحمة: العافية والسرور، والضراء: الفقر والبلاء، قاله ابن عباس. والثاني: الرحمة: الإِسلام، والضراء: الكفر، وهذا في حق المنافقين، قاله الحسن. والثالث: أنّ الرحمة: الخصب، والضراء: الجدب، قاله الضحاك. وفي المراد بالمكر ها هنا أربعة أقوال: أحدها: أنه الاستهزاء والتكذيب، قاله مجاهد، ومقاتل. والثاني: أنه الجحود والرد، قاله أبو عبيدة. والثالث: أنه إِضافة النعم إِلى غير الله، فيقولون: سُقينا بنوء كذا، قاله مقاتل بن حيان. والرابع: أن المكر: النفاق، لأنه إِظهار الإِيمان وإِبطان الكفر، ذكره الماوردي. قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي: جزاءً على المكر إِنَّ رُسُلَنا يعني الحفظة يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي: يحفظون ذلك لمجازاتكم عليه «1» . وقرأ يعقوب إِلا رويساً وأبا حاتم، وأبان عن عاصم: «يمكرون» بالياء. [سورة يونس (10) : الآيات 22 الى 23] هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ أي: الله هو أسرع مكراً، هو الذي يسيِّركم فِي الْبَرِّ على الدواب، وفي البحر على السفن، فلو شاء انتقم منكم في البر أو في البحر. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر: «ينشركم» بالنون والشين من النشر، وهو في المعنى مثل قوله: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً. والفلك: السفن. قال الفراء: الفلك تذكّر وتؤنث، وتكون واحدة وتكون جمعا، قال تعالى ها هنا: جاءَتْها فأنَّثَ، وقال في يس: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «2» فذكّر. قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ: عاد بعد المخاطبة لهم إِلى الإِخبار عنهم. قال الزجاج: كل من أقام الغائب مقام مَن يخاطبه جاز أن يردَّه إِلى الغائب، قال الشاعر:

_ المدينة. وقد تفرد الماوردي والمصنف بذكره عند هذه الآية دون سائر أهل التفسير والأثر. وسيأتي ما في الصحيح في آخر سورة الشعراء إن شاء الله تعالى.

[سورة يونس (10) : آية 24]

شطت مزار العاشقين فأصبحت ... عسرا علي طلابك ابنةَ مَخْرَمِ «1» قوله تعالى: بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ أي: ليِّنةٍ: وَفَرِحُوا بِها للينها. جاءَتْها يعني الفلك. قال الفراء: وإِن شئتَ جعلتَها للريح، كأنك قلت: جاءت الريحَ الطيبةَ ريحٌ عاصف، والعرب تقول: عاصف وعاصفة، وقد عصفت الريح وأعصفت، والألف لغة لبني أسد. قال ابن عباس: الريح العاصف: الشديدة. قال الزجاج: يقال: عصفت الريح، فهي عاصف وعاصفة، وأعصفت، فهي معصف ومعصفة. وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي: من كل أمكنة الموج. قوله تعالى: وَظَنُّوا فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى اليقين. والثاني: أنه التّوهّم. وفي قوله تعالى: أُحِيطَ بِهِمْ قولان: أحدهما: دَنوا من الهلكة. قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن العدوَّ إِذا أحاط ببلد، فقد دنا أهله من الهلكة. وقال الزجاج: يقال لكل من وقع في بلاء: قد أحيط بفلان، أي: أحاط به البلاء. والثاني: أحاطت بهم الملائكة، ذكره الزجاج. قوله تعالى: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ دون أوثانهم. قال ابن عباس: تركوا الشرك، وأخلصوا لله الربوبية، وقالوا: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الريح العاصف لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي: الموحِّدين. قوله تعالى: يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ البغي: الترامي في الفساد. قال الأصمعي: يقال: بغى الجرح: إِذا ترامى إِلى فساد. قال ابن عباس: يبغون في الأرض بالدعاء إِلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد. يا أَيُّهَا النَّاسُ يعني أهل مكة. إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي: جناية مظالمكم بينكم على أنفسكم. وقال الزجاج: عملكم بالظلم عليكم يرجع. قوله تعالى: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا قرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وحفص، وأبان عن عاصم: «متاعَ الحياة الدنيا» بنصب المتاع. قال الزجاج: مَن رفع المتاع، فالمعنى أن ما تنالونه بهذا البغي إِنما تنتفعون به في الدنيا، ومن نصب المتاع، فعلى المصدر. فالمعنى: تمتَّعون متاع الحياة الدنيا. وقرأ أبو المتوكل، واليزيدي في اختياره، وهارون العتكي عن عاصم: «متاع الحياة الدنيا» ، بكسر العين. قال ابن عباس: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: منفعة في الدنيا. [سورة يونس (10) : آية 24] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ هذا مثل ضربه الله للدنيا الفانية، فشبّهها بمطر نزل من السماء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ يعني التفّ النبات بالمطر وكثر. مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الحبوب وغيرها، وَالْأَنْعامُ من المرعى. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها قال ابن قتيبة: زينتها بالنبات. وأصل الزخرف: الذهب، ثم يقال للنقش والنَّوْر والزَّهر وكل شيء زيّن: زخرف. وقال

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «شطط» ونسبه لعنترة. وشطت من الشطط وهو مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام أو غير ذلك من كل شيء.

[سورة يونس (10) : الآيات 25 إلى 26]

الزجاج: الزخرف: كمال حسن الشيء. قوله تعالى: وَازَّيَّنَتْ قرأه الجمهور «وازينت» بالتشديد. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وابن يعمر: بفتح الهمزة وقطعها ساكنة الزاي، على وزن: وَأَفْعَلَتْ. قال الزجاج: من قرأ «وازَّيَّنَتْ» بالتشديد، فالمعنى: وتزينت، فأدغمت التاء في الزاي، وسكّنت الزاي فاجتلبت لها ألف الوصل ومن قرأ «وأزْينت» بالتخفيف على أفعلت، فالمعنى: جاءت بالزينة. وقرأ أُبَيٌّ، وابن مسعود: «وتزيَّنَتْ» «1» . قوله تعالى: وَظَنَّ أَهْلُها أي: أيقن أهل الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أي: على ما أنبتته، فأخبر عن الأرض، والمراد النبات، لأن المعنى مفهوم. أَتاها أَمْرُنا أي: قضاؤنا بإهلاكها فَجَعَلْناها حَصِيداً أي: محصوداً لا شيء فيها. والحصيد: المقطوع المستأصَل. كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ قال الزجاج: لم تعمر. والمغاني: المنازل التي يعمُرها الناس بالنزول فيها. يقال: غَنينا بالمكان: إِذا نزلوا به. وقرأ الحسن: «كأن لم يَغْنَ» بالياء، يعني الحصيد. قال بعض المفسرين: تأويل الآية: أن الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وما يروق من زهرة الدنيا ويعجب، حتى إِذا استتم ذلك عند صاحبه، وظن أنه ممتَّع بذلك، سلب عنه بموته، أو بحادثة تهلكه، كما أن الماء سبب لالتفاف النبات وكثرته، فإذا تزيَّنت به الأرض، وظن الناس أنهم مستمتعون بذلك، أهلكه الله، فعاد ما كان فيها كأن لم يكن. [سورة يونس (10) : الآيات 25 الى 26] وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ: يعني الجنة. وقد ذكرنا معنى تسميتها بذلك عند قوله: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ «2» . واعلم أن الله عمَّ بالدعوة، وخصَّ بالهداية من شاء، لأن الحكم له في خلقه. وفي المراد بالصراط المستقيم أربعة أقوال: (778) أحدها: كتاب الله، رواه عليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. (779) والثاني: الإِسلام، رواه النَّوَّاس بن سمعان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

_ تقدم تخريجه في سورة الفاتحة باستيفاء، وهو خبر ضعيف. صحيح. هو بعض حديث أخرجه الترمذي 2859 والنسائي في «الكبرى» 11233 وأحمد 4/ 183 والطحاوي في «المشكل» 2143 من طرق عن بقية بن الوليد عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان مرفوعا، وإسناده قوي رجاله رجال الصحيح سوى بقية، روى له مسلم متابعة، وهو ثقة لكنه مدلس لكن صرح بالتحديث عند أحمد، وقد توبع. فأخرجه الطحاوي 2141 و 2142 والآجري في «الشريعة» 12- بترقيمي- وأحمد 4/ 182 من وجه آخر عن جبير بن نفير عن النواس به، وإسناده صحيح. وقال الحافظ ابن كثير 1/ 43: إسناده حسن صحيح. ولفظ الحديث عند الترمذي والنسائي: «إن الله ضرب

والثالث: الحق، قاله مجاهد، وقتادة. والرابع: المُخرِج من الضلالات والشُّبَه، قاله أبو العالية. قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا: قال ابن عباس: قالوا: لا إِله إِلا الله. قال ابن الأنباري: الحسنى: كلمة مستغنى عن وصفها ونعتها، لأن العرب توقعها على الخَلَّة المحبوبة المرغوب فيها المفروح بها، فكان الذي تعلمه العرب من أمرها يغني عن نعتها، فكذلك المزيد عليها محمول على معناها ومتعرَّف من جهتها، يدل على هذا قول امرئ القيس: فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هَصَرْتُ بغصنٍ ذي شماريخَ مَيَّالِ فَصِرْنَا إِلى الحُسْنَى ورقَّ كَلامُنَا ... ورضتُ فذلَّت صَعْبَةً أيَّ إِذلالِ أي: إِلى الأمر المحبوب. وهصرتُ بمعنى: مددت. والغصن كناية عن المرأة. والباء مؤكدة للكلام كما تقول العرب: ألقى بيده إِلى الهلاك، يريدون: ألقى يده. والشماريخ «1» : كناية عن الذوائب. ورضت معناه: أذللت. ومن أجل هذا قال: أي إِذلال، ولم يقل: أي رياضة. وللمفسرين في المراد بالحسنى خمسة أقوال: (780) أحدها: أنها الجنة، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال الأكثرون. والثاني: أنها الواحدة من الحسنات بواحدة، قاله ابن عباس. والثالث: النصرة، قاله عبد الرحمن بن سابط. والرابع: الجزاء في الآخرة، قاله ابن زيد. والخامس: الأمنية، ذكره ابن الأنباري. وفي الزيادة ستة أقوال: أحدها: أنّها النّظر إلى الله عزّ وجلّ. (781) روى مسلم في «صحيحه» من حديث صهيب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزّيادة: النّظر إلى

_ مثلا صراطا مستقيما، على كنفي الصراط داران لهما أبواب مفتحة، على الأبواب ستور، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو فوقه، والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والأبواب التي على كنفي الصراط حدود الله، فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر، والذي يدعو من فوقه واعظ ربه» . وله شاهد من مرسل أبي قلابة: أخرجه الطبري 17621، فهو شاهد لما قبله. الراجح وقفه، أخرجه الطبري 17633، من حديث أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولفظ الحديث بتمامه: «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أولهم وآخرهم: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الرحمن» ، وإسناده ضعيف جدا، فيه أبان بن أبي عياش، وهو متروك. وله شاهد من حديث أبي بن كعب، أخرجه الطبري 17648، وإسناده ضعيف، فيه راو لم يسم. وله شاهد من حديث أنس، أخرجه الدارقطني في «الرؤية» 67 وفيه نوح بن أبي مريم، وهو متهم بالوضع. فهذا شاهد لا يفرح به. - والحديث الأول ضعيف جدا، وأما الثاني فضعيف فحسب، وقد روى الطبري هذا الخبر موقوفا ومقطوعا، وهو الراجح فالمرفوع ضعيف، والصحيح وقفه على الصحابة والتابعين، والله تعالى أعلم. أخرجه مسلم (181) والترمذي 3105 والنسائي في «التفسير» (254) وابن ماجة (187) وأحمد 4/ 332، 333- 6/ 15، 16 وابن خزيمة في «التوحيد» 1/ 443- 446، وعبد الله بن أحمد في «السنة» 1/ 243،

[سورة يونس (10) : آية 27]

وجه الله عزّ وجلّ» . وبهذا القول قال أبو بكر الصديق، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة، وابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والسدي، ومقاتل. والثاني: أن الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب، رواه الحكم عن عليّ، ولا يصح. والثالث: أن الزيادة: مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها، قاله ابن عباس والحسن. والرابع: أن الزيادة: مغفرة ورضوان، قاله مجاهد. والخامس: أن الزيادة: أن ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به في القيامة، قاله ابن زيد. والسادس: أن الزيادة: ما يشتهونه، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَلا يَرْهَقُ أي: لا يغشى وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وقرأ الحسن، وقتادة، والأعمش: «قَتْر» باسكان التاء، وفيه أربعة أقوال: أحدها: أنه السواد. قال ابن عباس: سواد الوجوه من الكآبة. وقال الزجاج: القتر: الغبرة التي معها سواد. والثاني: أنه دخان جهنم، قاله عطاء. والثالث: الخزي، قاله مجاهد. والرابع: الغبار، قاله أبو عبيدة. وفي الذلة قولان: أحدهما: الكآبة، قاله ابن عباس. والثاني: الهوان، قاله أبو سليمان. [سورة يونس (10) : آية 27] وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ قال ابن عباس: عملوا الشرك. جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها: في الآية محذوف، وفي تقديره قولان: أحدهما: أن فيها إضمار «لهم» ، المعنى: لهم جزاءُ سيئة بمثلها، وأنشد ثعلب: فإنْ سَأَل الوَاشُونَ عَنْه فَقُلْ لَهُم ... وَذَاكَ عَطَاءُ لِلوشَاةِ جَزِيْلُ مُلِمٌّ بِلَيْلَى لمَّةً ثُمَّ إِنَّه ... لَهَاجِرُ لَيْلَى بَعْدَهَا فَمُطِيْلُ أراد: هو مُلَمٌّ، وهذا قول الفراء. والثاني: أن فيها إِضمار «منهم» ، المعنى: جزاء سيئة منهم بمثلها، تقول العرب: رأيت القوم صائم وقائم، أي: منهم صائم وقائم، أنشد الفراء: حتَّى إِذَا مَا أَضَاءَ الصُّبْحُ في غَلَسٍ ... وَغُودِرَ البَقْل مَلْوِيٌ وَمَحْصُودُ أي: منه ملوي، وهذا قول ابن الأنباري. وقال بعضهم: الباء زائدة ها هنا. و «من» في قوله تعالى: مِنْ عاصِمٍ صلة، والعاصم: المانع كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ أي:

_ وابن أبي عاصم في السنة 1/ 205 وأبو عوانة في صحيحه 1/ 156 والطيالسي في مسنده رقم (1315) والآجري في الشريعة 615 والدارمي في الرد على الجهمية (175) وابن مندة في الرد على الجهمية رقم (83) وهناد بن السري في «الزهد» 171 والطبراني في «الكبير» 8/ 46، 47، واللالكائي في شرح السنة 778- 833 وأبو نعيم في «الحلية» 1/ 155 والبيهقي في «الأسماء والصفات» (665) من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب ولفظ مسلم «إذا أدخل أهل الجنة الجنة، قال يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل وزاد في رواية ثانية «ثم تلا هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» .

[سورة يونس (10) : الآيات 28 إلى 29]

أُلبست قِطَعاً قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة: «قِطَعَاً» مفتوحة الطاء، وهي جمع قطعة. وقرأ ابن كثير، والكسائي، ويعقوب: «قِطْعاً» بتسكين الطاء. قال ابن قتيبة: وهو اسم ما قُطع. قال ابن جرير: وإِنما قال: «مُظلماً» ولم يقل: «مُظلمة» لأن المعنى: قطعاً من الليل المظلم، ثم حذفت الألف واللام من «المظلم» ، فلما صار نكرة، وهو من نعت الليل، نُصب على القَطْعِ وقوم يسمُّون ما كان كذلك: حالاً، وقوم: قطعاً. [سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 29] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً: قال ابن عباس: يُجمع الكفار وآلهتهم، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ: أي: آلهتكم. قال الزجاج: «مكانكم» منصوب على الأمر، كأنهم قيل لهم: انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم، والعرب تتوعَّد فتقول: مكانك، أي: انتظر مكانك، فهي كلمة جرت على الوعيد. قوله تعالى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وقرأ ابن أبي عبلة: «فزايلنا» بألف، قال ابن عباس: فرَّقنا بينهم وبين آلهتهم. وقال ابن قتيبة: هو من زال يزول وأزلته. وقال ابن جرير: إِنما قال: «فزيلنا» ولم يقل: «فزلنا» لإرادة تكرير الفعل وتكثيره. فإن قيل: كيف تقع الفرقة بينهم وهم معهم في النار، لقوله: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ؟ «1» . فالجواب: أن الفرقة وقعت بتبّري كل معبود ممن عبده، وهو قوله: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ قال ابن عباس: آلهتهم، يُنْطِق الله الأوثان، فتقول: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ أي: لا نعلم بعبادتكم لنا، لأنه ما كان فينا روح، فيقول العابدون: بلى قد عبدناكم! فتقول الآلهة: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ لا نعلم بها. قال الزجاج: إِنْ كُنَّا معناه: ما كنا إِلا غافلين. فإن قيل: ما وجه دخول الباء في قوله: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنها دخلت للمبالغة في المدح كما قالوا: أَظْرِفْ بعبد الله، وأنبل بعبد الرحمن، وناهيك بأخينا، وحسبك بصديقنا، هذا قول الفراء وأصحابه. والثاني: أنها دخلت توكيداً للكلام، إِذ سقوطها ممكن، كما يقال: خذ بالخطام، وخذ الخطام، قاله ابن الأنباري. [سورة يونس (10) : آية 30] هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) قوله تعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «تبلو» بالباء. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وزيد عن يعقوب: «تتلو» بالتاء. قال الزجاج: «هنالك» ظرف. والمعنى: في ذلك الوقت تبلو، وهو منصوب بتبلو، إِلا أنه غير متمكِّن، واللام زائدة، والأصل: هناك، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف، والكاف للمخاطبة. و «تبلو» تختبر، أي:

_ (1) سورة الأنبياء: 98،

[سورة يونس (10) : آية 31]

تعلم. ومن قرأ: «تتلو» بتاءين، فقد فسرها الأخفش وغيره: تتلو من التلاوة، أي: تقرأ. وفسروه أيضاً: تتبع كل نفس ما أسلفت. ومثله قول الشاعر «1» : قد جعلتْ دلويَ تَسْتَتْلِيني أي: تستتبعني، أي: من ثقلها تستدعي اتباعي إِياها. قوله تعالى: وَرُدُّوا أي في الآخرة إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الذي يملك أمرهم حقاً لا مَن جعلوا معه من الشركاء وَضَلَّ عَنْهُمْ أي زال وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الآلهة. [سورة يونس (10) : آية 31] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر، ومن الأرض النّبات، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ أي خَلْق السمع والأبصار. وقد سبق معنى إِخراج الحي من الميت، والميت من الحيّ. قوله تعالى: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: أمر الدنيا والآخرة فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ لأنهم خوطبوا بما لا يقدر عليه إِلا الله، فكان في ذلك دليل توحيده. وفي قوله تعالى: أَفَلا تَتَّقُونَ قولان: أحدهما: أفلا تتَّعظون، قاله ابن عباس. والثاني: تتقون الشرك، قاله مقاتل. [سورة يونس (10) : آية 32] فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) قوله تعالى: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ قال الخطابي: الحق هو المتحقق وجوده، وكل شيء صحّ وجوده وكونه، فهو حقّ. وقوله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ قال ابن عباس: كيف تصرفون عقولكم إِلى عبادة من لا يرزق ولا يحيي ولا يميت؟ [سورة يونس (10) : الآيات 33 الى 35] كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) قوله تعالى: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «كلمةُ ربك» ، وفي آخر السورة كذلك. وقرأ نافع، وابن عامر الحرفين «كلماتُ» على الجمع. قال الزجاج: الكاف في موضع نصب، أي: مِثْل أفعالهم جازاهم ربك، والمعنى: حق عليهم أنهم لا يؤمنون. وقوله: أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من: كَلِمَةُ رَبِّكَ. وجائز أن تكون الكلمة حقت عليهم لأنهم لا يؤمنون، وتكون الكلمة ما وُعدوا به من العقاب. وذكر ابن الأنباري في كَذلِكَ قولين: أحدهما: أنها إشارة إلى مصدر «تصرفون» ، والمعنى:

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» وهو من الرجز مادة «تلا» ، ولم يعزه لأحد.

[سورة يونس (10) : آية 36]

مثل ذلك الصرف حقت كلمة ربك. والثاني: أنه بمعنى هكذا. وفي معنى «حقت» قولان: أحدهما: وجبت. والثاني: سبقت. وفي كلمته قولان: أحدهما: أنها بمعنى وعده. والثاني: بمعنى قضائه. ومن قرأ «كلماتُ» جعل كل واحدة من الكلم التي توعِّدْوا بها كلمة. وقد شرحنا معنى الكلمة في «الأعراف» «1» . قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أي: إلى الحقّ. قوله تعالى: أَمَّنْ لا يَهِدِّي قرأ ابن كثير، وابن عامر، وورش عن نافع: «يَهَدِّي» بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال الزجاج: الأصل يهتدي، فأدغمت التاء في الدال، فطرحت فتحتها على الهاء. وقرأ نافع إِلا ورشاً، وأبو عمرو: «يَهْدِّي» بفتح الياء وإِسكان الهاء وتشديد الدال، غير أن أبا عمرو كان يُشِم الهاء شيئاً من الفتح. وقرأ حمزة، والكسائي: «يَهْدي» بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال. قال أبو علي: والمعنى: لا يهدي غيرَه إِلا أن يُهدَى هو، ولو هُدي الصُّمُّ لم يهتد، ولكن لمّا جعلوه كمن يعقل، أجريت مجراه. وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم: «يِهِدِّي» بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، وكذلك روى أبان وجبلة عن المفضل وعبد الوارث، قال الزجاج: أتبعوا الكسرة الكسرة، وهي رديئة لثقل الكسرة في الياء. وروى حفص عن عاصم، والكسائي عن أبي بكر عنه: «يَهِدِّي» بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، قال الزجاج: وهذه في الجودة كالمفتوحة الهاء، إِلا أن الهاء كُسرت لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن السميفع: «يهتدي» بزيادة تاء. والمراد بقوله: أَمَّنْ لا يَهِدِّي الصم إِلَّا أَنْ يُهْدى. وظاهر الكلام يدل على أن الأصنام إِن هديت اهتديت، وليست كذلك، لأنها حجارة لا تهتدي، إِلا أنهم لما اتخذوها آلهة، عبِّر عنها كما يعبَّر عمن يعقل، ووصفت صفةَ مَن يعقل وإِن لم تكن في الحقيقة كذلك ولهذا المعنى قال في صفتها: أَمَّنْ لأنهم جعلوها كمن يعقل. ولما أعطاها حقها في أصل وضعها، قال: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ «2» . وقال الفراء: أَمَّنْ لا يَهِدِّي أي: أتعبدون ما لا يقدر أن ينتقل من مكانه إِلا أن يحوَّل؟ وقد صرف بعضهم الكلام إِلى الرؤساء والمضلِّين، والأول أصح. قوله تعالى: فَما لَكُمْ قال الزجاج: هو كلام تام، كأنه قيل لهم: أيُّ شيء لكم في عبادة الأوثان؟ ثم قيل لهم: كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي: على أي حال تحكمون؟ وقال ابن عباس: كيف تقضون لأنفسكم؟ وقال مقاتل: كيف تقضون بالجَوْر؟ [سورة يونس (10) : آية 36] وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) قوله تعالى: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ أي: كلهم إِلَّا ظَنًّا أي: ما يستيقنون أَنها آلهة، بل يظنون شيئاً فيتَّبعونه. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي: ليس هو كاليقين، ولا يقوم مقام الحق، وقال مقاتل: ظنهم بأنها آلهة لا يدفع عنهم من العذاب شيئاً، وقال غيره: ظنهم أنها تشفع لهم لا يغني عنهم. [سورة يونس (10) : آية 37] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37)

_ (1) سورة الأعراف: 137. (2) سورة مريم: 42. [.....]

[سورة يونس (10) : آية 38]

قوله تعالى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الزجاج: هذا جواب قولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ «1» وجواب قولهم: افْتَراهُ «2» . قال الفراء: ومعنى الآية: ما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله، فجاءت «أن» على معنى ينبغي. وقال ابن الأنباري: يجوز أن تكون «أن» مع «يفترى» مصدراً، وتقديره: وما كان هذا القرآن افتراءً. ويجوز أن تكون «كان» تامة، فيكون المعنى: ما نزل هذا القرآن، وما ظهر هذا القرآن لأن يفترى، وبأن يفترى، فتُنْصَب «أن» بفقد الخافض في قول الفراء، وتخفض بإضمار الخافض في قول الكسائي. وقال ابن قتيبة: معنى أَنْ يُفْتَرى أي: يضاف إِلى غير الله، أو يُختَلق. قوله تعالى: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تصديق الكتاب المتقدمة، قاله ابن عباس. فعلى هذا، إِنما قال: الَّذِي لأنه يريد الوحي. والثاني: ما بين يديه من البعث والنشور، ذكره الزجاج. والثالث: تصديق النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذي بين يدي القرآن، لأنهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوه قبل سماعهم القرآن، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي: وبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمّة محمّد والفرائض التي فرضها عليهم. [سورة يونس (10) : آية 38] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ في «أم» قولان. أحدهما: أنها بمعنى الواو، قاله أبو عبيدة. والثاني: بمعنى بل، قاله الزجاج. قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ قال الزجاج: المعنى: فأتوا بسورة مثلِ سورة منه، فذكر المِثْلَ لأنه إِنما التمس شبه الجنس، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ممن هو في التكذيب مثلكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه اختلقه. [سورة يونس (10) : آية 39] بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: بما لم يحيطوا بعلم ما فيه من ذِكْر الجنة والنار والبعث والجزاء. والثاني: بما لم يحيطوا بعلم التكذيب به، لأنهم شاكّون فيه. وفي قوله: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ قولان: أحدهما: تصديق ما وُعدوا به من الوعيد. والتأويل: ما يؤول إِليه الأمر. والثاني: ولم يكن معهم عِلم تأويله، قاله الزجاج. قيل لسفيان بن عيينة: يقول الناس: كل إِنسان عدوُّ ما جهل، فقال: هذا في كتاب الله. قيل له: أين؟ فقال: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ. وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن: من جهل شيئاً عاداه؟ فقال: نعم، في موضعين. قوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وقوله: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «3» .

_ (1) سورة يونس: 15. (2) سورة يونس: 38. (3) سوف الأحقاف: 11.

[سورة يونس (10) : آية 40]

[سورة يونس (10) : آية 40] وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: قريش، قاله مقاتل بن سليمان. وفي هاء «به» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى محمّد صلى الله عليه وسلم ودينه، قاله مقاتل. والثاني: إِلى القرآن، قاله أبو سليمان الدمشقي. وهذه الآية تضمنت الإِخبار عما سبق في علم الله، فالمعنى: ومنهم مَنْ سيؤمن به. وقال الزجاج: منهم من يعلم أنه حق فيصدِّق به ويعاند فيظهر الكفر. وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أي: يشكُّ ولا يصدِّق. قوله تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ قال عطاء: يريد المكذبين، وهذا تهديد لهم. [سورة يونس (10) : آية 41] وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي الآية. قال أبو صالح عن ابن عباس: نسختها آية السيف وليس هذا بصحيح، لأنه لا تنافي بين الآيتين. [سورة يونس (10) : آية 42] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: في يهود المدينة، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون القرآن فيعجبون ويشتهونه ويغلب عليهم الشقاء، فنزلت هذه الآية «1» . والثاني: أنها نزلت في المستهزئين، كانوا يستمعون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم للاستهزاء والتكذيب، فلم ينتفعوا، فنزلت فيهم هذه الآية «2» ، والقولان مرويَّان عن ابن عباس. والثالث: أنها نزلت في مشركي قريش «3» ، قاله مقاتل. قال الزجاج: ظاهرهم ظاهر من يستمع، وهم لشدة عداوتهم بمنزلة الصم. وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي: ولو كانوا مع ذلك جهالاً. وقال ابن عباس: يريد أنهم شرٌّ من الصم، لأن الصم لهم عقول وقلوب، وهؤلاء قد أصمّ الله قلوبهم. [سورة يونس (10) : آية 43] وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ قال ابن عباس يريد: متعجبين منك. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ يريد أن الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون. وقال الزجاج: ومنهم من يُقبل عليك بالنظر، وهو من بغضه لك وكراهته لما يرى من آياتك كالأعمى. وقال ابن جرير: ومنهم من يستمع قولك وينظر إلى

_ (1) عزاه المصنف لابن عباس، ولم أره مسندا عنه، والظاهر أنه من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه، وهي رواية ساقطة، وتقدم بيان ذلك مرارا. (2) لم أقف عليه كسابقه. (3) عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، ومع ذلك ظاهر الآيات يدل على أن المراد بذلك كفار قريش، لأن السورة مكية، والله أعلم.

[سورة يونس (10) : آية 44]

حججك على نُبُوَّتك، ولكن الله قد سلبه التّوفيق. وقال مقاتل: وَلَوْ في الآيتين بمعنى «إذا» . [سورة يونس (10) : آية 44] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً لما ذكر الذين سبق القضاء عليهم بالشقاوة، أخبر أن تقدير ذلك عليهم ليس بظلم، لأنه يتصرف في ملكه كيف شاء، وهم إِذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم، لأن الفعل منسوب إِليهم، وإِن كان بقضاء الله. قوله تعالى: وَلكِنَّ النَّاسَ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ولكنِ الناسُ» بتخفيف النون وكسرها، ورفع الاسم بعدها. [سورة يونس (10) : آية 45] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وقرأ حفص: يَحْشُرُهُمْ بالياء. قال أبو سليمان الدمشقي: هم المشركون. قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ فيه قولان: أحدهما: كأن لم يلبثوا في قبورهم، قاله ابن عباس. والثاني: في الدنيا، قاله مقاتل. قال الضحاك: قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم، فصار كالساعة من النهار، لهول ما استقبلوا من القيامة. قوله تعالى: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قال ابن عباس: إِذا بعثوا من القبور تعارفوا، ثم تنقطع المعرفة. قال الزجاج: وفي معرفة بعضهم بعضاً، وعِلم بعضهم بإضلال بعض، التوبيخُ لهم، وإِثباتُ الحجة عليهم. وقيل: إِذا تعارفوا وبَّخ بعضهم بعضاً، فيقول هذا لهذا: أنت أضللتني، وكسَّبتني دخول النار. قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا هو من قول الله عزّ وجلّ، لا مِن قولهم: والمعنى خسروا ثواب الجنة إِذْ كذَّبوا بالبعث وَما كانُوا مُهْتَدِينَ من الضّلالة. [سورة يونس (10) : الآيات 46 الى 47] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) قوله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ قال المفسرون: كانت وقعة بدر مما أراه الله في حياته من عذابهم. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريَك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بعد الموت، والمعنى: إِن لم ننتقم منهم عاجلاً، انتقمنا آجلاً. قوله تعالى: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ من الكفر والتكذيب. قال الفراء: «ثم» ها هنا عطف، ولو قيل: معناها: هناك الله شهيد، كان جائزا. وقال غيره: «ثم» ها هنا بمعنى الواو. وقرأ ابن أبي عبلة: «ثَمَّ الله شهيد» بفتح الثاء، يراد به: هنالك الله شهيد. قوله تعالى: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إِذا جاء في الدنيا بعد الإِذن له في دعائهم، قضي بينهم بتعجيل الانتقام منهم، قاله الحسن. وقال غيره: إِذا جاءهم في الدنيا، حُكم عليهم عند اتباعه وخلافه بالطاعة والمعصية.

[سورة يونس (10) : آية 48]

والثاني: إِذا جاء يوم القيامة، قاله مجاهد. وقال غيره: إِذا جاء شاهداً عليهم. والثالث: إِذا جاء في القيامة وقد كذَّبوه في الدنيا، قاله ابن السائب. قوله تعالى: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ فيه قولان: أحدهما: بين الأمَّة، فأثيب المحسن وعوقب المسيء. والثاني: بينهم وبين نبيّهم. [سورة يونس (10) : آية 48] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ، في القائلين هذا قولان: أحدهما: الأمم المتقدمة، أخبر عنهم باستعجال العذاب لأنبيائهم، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم المشركون الذين أنذرهم نبيّنا صلى الله عليه وسلم، قاله أبو سليمان. وفي المراد بالوعد قولان: أحدهما: العذاب، قاله ابن عباس. والثاني: قيام السّاعة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنت وأتباعك. [سورة يونس (10) : الآيات 49 الى 52] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً الآية، قد ذكرت تفسيرها في آيتين من «الأعراف» «1» . قوله تعالى: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً قال الزجاج: البيات: كل ما كان بليل. وقوله: ماذا في موضع رفع من جهتين: إِحداهما: أن يكون «ذا» بمعنى الذي، المعنى: ما الذي يستعجل منه المجرمون؟ ويجوز أن يكون «ماذا» اسماً واحداً، فيكون المعنى: أي شيء يستعجل منه المجرمون؟ والهاء في «منه» تعود على العذاب. وجائز أن تعود على ذكر الله تعالى، فيكون المعنى: أي شيء يستعجل المجرمون من الله تعالى؟ وعودها على العذاب أجود، لقوله: أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ. وذكر بعض المفسرين أن المراد بالمجرمين: المشركون، وكانوا يقولون: نكذب بالعذاب ونستعجله، ثم إِذا وقع العذاب آمنا به فقال الله تعالى موبِّخاً لهم: أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أي: هنالك تؤمنون فلا يُقبل منكم الإِيمان، ويقال لكم: الآن تؤمنون، فأضمر: تؤمنون به مع آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ مستهزئين، وهو قوله: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: كفروا، عند نزول العذاب ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ، لأنه إِذا نزل بهم العذاب، أفضوا منه إلى عذاب الآخرة الدّائم. [سورة يونس (10) : آية 53] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي: ويستخبرونك أَحَقٌّ هُوَ يعنون البعث والعذاب. قُلْ إِي

_ (1) سورة الأعراف: 34 و 188.

[سورة يونس (10) : الآيات 54 إلى 56]

المعنى: نعم وَرَبِّي، وفتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو. وإِنما أقسم مع إِخباره تأكيداً. وقال ابن قتيبة: «إِي» بمعنى «بل» ولا تأتي إِلا قبل اليمين صلة لها. قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ قال ابن عباس: بسابقين. وقال الزجاج: لستم ممن يُعجز أن يجازى على كفره. [سورة يونس (10) : الآيات 54 الى 56] وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ قال ابن عباس: أشركَتْ. ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ عند نزول العذاب. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ يعني: الرؤساء أخفوها من الأتباع. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: بين الفريقين. وقال آخرون منهم أبو عبيدة والمفضّل: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ بمعنى أظهروها. لأنه ليس بيوم تَصَنُّعٍ ولا تصبُّرٍ، والإِسرار من الأضداد يقال: أسررت الشيء، بمعنى: أخفيته. وأسررته: أظهرته، قال الفرزدق: ولما رأى الحجَّاجَ جرَّد سيفَه ... أسرَّ الحروريُّ الذي كان أضمرا يعني: أظهر. فعلى هذا القول: أظهروا الندامة عند إِحراق النار لهم، لأن النار ألهتهم عن التصنع والكتمان. وعلى الأول: كتموها قبل إِحراق النار إِياهم. قوله تعالى: أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ قال ابن عباس: ما وعد أولياءه من الثواب، وأعداءه من العقاب. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يعني المشركين لا يَعْلَمُونَ. [سورة يونس (10) : آية 57] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يعني قريشاً. قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ يعني القرآن. وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ أي: دواء لداء الجهل. وَهُدىً أي: بيان من الضلالة. [سورة يونس (10) : آية 58] قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فيه ثمانية أقوال «1» : أحدها: أن فضل الله: الإِسلام، ورحمته: القرآن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة وهلال بن يساف. وروي عن الحسن، ومجاهد في بعض الرواية عنهما، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني: أنّ فضل الله: القرآن،

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 6/ 568: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بك وبما أنزل إليك من ربك بِفَضْلِ اللَّهِ أيها الناس، الذي تفضل به عليكم وهو الإسلام فبينه لكم ودعاكم إليه وَبِرَحْمَتِهِ التي رحمكم بها فأنزلها إليكم فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه وبصّركم بها معالم دينكم، وذلك القرآن فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يقول: فإن الإسلام الذي دعاكم إليه والقرآن الذي أنزل عليهم خير مما يجمعون من حطام الدنيا وأموالها وكنوزها.

[سورة يونس (10) : آية 59]

ورحمته: أن جعلهم من أهل القرآن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال أبو سعيد الخدري، والحسن في رواية. والثالث: أن فضل الله: العلم، ورحمته: محمّد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: أن فضل الله: الإِسلام، ورحمته: تزيينه في القلوب، قاله ابن عمر. والخامس: أن فضل الله: القرآن، ورحمته: الإِسلام، قاله الضحاك، وزيد بن أسلم، وابنه، ومقاتل. والسادس: أن فضل الله ورحمته: القرآن، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، واختاره الزجاج. والسابع: أن فضل الله: القرآن، ورحمته: السُّنَّة، قاله خالد بن معدان. والثامن: فضل الله: التوفيق، ورحمته: العصمة، قاله ابن عيينة. قوله تعالى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو مجلز، وقتادة، وأبو العالية، ورويس عن يعقوب: «فلتفرحوا» بالتاء. وقرأ الحسن ومعاذ القارئ وأبو المتوكل مثل ذلك، إِلا أنهم كسروا اللام. وقرأ ابن مسعود وأبو عمران: «فبذلك فافرحوا» . قال ابن عباس: بذلك الفضل والرحمة. هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي مما يجمع الكفار من الأموال. وقرأ أبو جعفر وابن عامر ورويس: «تجمعون» بالتاء. وحكى ابن الأنباري أن الباء في قوله: بِفَضْلِ اللَّهِ خبر لاسم مضمر، تأويله: هذا الشفاء وهذه الموعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك التّطوّل من الله فليفرحوا. [سورة يونس (10) : آية 59] قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ قال المفسرون: هذا خطاب لكفار قريش، كانوا يحرِّمون ما شاؤوا، ويُحلُّون ما شاؤوا. وأَنْزَلَ بمعنى خلق. وقد شرحنا بعض مذاهبهم فيما كانوا يفعلون من البحيرة والسائبة وغير ذلك في سورة المائدة وسورة الأنعام «1» . قوله تعالى: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أي: في هذا التّحليل والتّحريم. [سورة يونس (10) : آية 60] وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) قوله تعالى: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في الكلام محذوف، تقديره: ما ظنهم أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حين لم يعجِّل عليهم بالعقوبة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ تأخير العذاب عنهم. [سورة يونس (10) : آية 61] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) قوله تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي: في عمل من الأعمال، وجمعه: شؤون. وَما تَتْلُوا مِنْهُ

_ (1) سورة المائدة: 103. وسورة الأنعام: 139.

[سورة يونس (10) : الآيات 62 إلى 64]

في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها تعود إِلى الشأن. قال الزجاج: معنى الآية: أي وقت تكون في شأن من عبادة الله، وما تلوت من الشأن من قرآن. والثاني: أنها تعود إِلى الله تعالى، فالمعنى: وما تلوت مِنَ الله، أي: من نازل منه من قرآن، ذكره جماعة من العلماء. والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمته داخلون فيه، بدليل قوله: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ قال ابن الأنباري: جمع في هذا، ليدل على أنهم داخلون في الفعلين الأوَّلين. قوله تعالى: إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ الهاء عائدة على العمل. قال ابن قتيبة: تفيضون بمعنى تأخذون فيه. وقال الزجاج: تنتشرون فيه، يقال: أفاض القوم في الحديث: إِذا انتشروا فيه وخاضوا. وَما يَعْزُبُ معناه: وما يبعد. وقال ابن قتيبة: ما يبعد ولا يغيب. وقرأ الكسائيّ «يعزب» بكسر الزّاي ها هنا وفي (سبأ) . وقد بيّنا «مثقال ذرة» في سورة النساء. قوله تعالى: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ قرأ الجمهور بفتح الراء فيهما. وقرأ حمزة، وخلف، ويعقوب، برفع الراء فيهما. قال الزجاج: مَنْ قرأ بالفتح، فالمعنى: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرَّةٍ، ولا مثقالَ أصغرَ من ذلك ولا أكبر، والموضع موضع خفض، إِلا أنه فُتح لأنه لا ينصرف. ومن رفع، فالمعنى: وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر. ويجوز رفعه على الابتداء، فيكون المعنى: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ. [سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ. روى ابن عباس أن رجلاً قال: (782) يا رسول الله، مَن أولياء الله؟ قال: «الذين إِذا رأوا ذُكر الله» . (783) وروى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء

_ الراجح وقفه. أخرجه ابن المبارك 218، والطبراني 12325، والبزار كما في «المجمع» 16779 عن ابن عباس مرفوعا، ومداره على جعفر بن أبي المغيرة، وهو غير قوي وبخاصة في روايته عن سعيد بن جبير. وقد خالفه غيره فرواه مرسلا. أخرجه ابن المبارك 217، والطبري 17726. وورد عن ابن عباس موقوفا، وهو أصح وأشبه من المرفوع. والله أعلم. وله شاهد أخرجه أحمد 4/ 227 من حديث عبد الرحمن بن غنم، وقال الهيثمي 13139 «مجمع» فيه شهر بن حوشب، وبقية رجاله رجال الصحيح. أي شهر بن حوشب ضعفه غير واحد. ثم إن عبد الرحمن بن غنم مختلف في صحبته. فالحديث غير قوي، والراجح وقفه. ولفظ الحديث: «خيار عباد الله الذين إذا رأوا ذكر الله، وشرار عباده المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة، الباغون البرآء العنت» . صحيح. أخرجه أبو داود 3527، والطبري في «التفسير» 17729 وأبو نعيم في «الحلية» 1/ 5 من طريق أبي زرعة بن عمر بن جرير عن عمر بن الخطاب وإسناده منقطع. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أبو يعلى 6110 وابن حبان 573. وإسناده صحيح. وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الحاكم في «المستدرك» 4/ 170، 171 وصححه ووافقه الذهبي. وشاهد آخر عن أبي مالك الأشعري أخرجه أحمد 5/ 343 وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 276 وقال: رواه أحمد والطبراني بنحوه، ورجاله وثقوا.

ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله عزّ وجلّ» قالوا: يا رسول الله. مَنْ هم، وما أعمالهم لعلنا نحبُّهم؟ قال: «هم قوم تحابّوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إِن وجوههم لنور، وإِنهم لعلى منابر من نور، ولا يخافون إذا خاف النّاس ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. قوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فيها ثلاثة أقوال: (784) أحدها: أنها الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له، رواه عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

_ حديث حسن غريب، ورد عن عبادة وأبي الدرداء وأبي هريرة وغيرهم. - حديث عبادة بن الصامت: أخرجه الترمذي 2275 وابن ماجة 3898 وأحمد 5/ 315 والطبري 17733 و 17734 و 17735 و 17746 و 17755 والحاكم 2/ 340 والواحدي في «الوسيط» 2/ 553 من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبادة، ورجاله ثقات رجال البخاري ومسلم، إن كان أبو سلمة سمعه من عبادة، والظاهر أنه لم يسمعه، فإن يحيى بن أبي كثير يدلس ويرسل، فقد أخرجه الطبري 17736 من وجه آخر عن أبي سلمة قال: نبئت أن عبادة ... فذكره. ومع ذلك صححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وحسنه الترمذي! مع أن في روايته قول أبي سلمة «نبئت» أي لم يسمعه من عبادة. وورد من وجه آخر أخرجه الطبري 17740 و 17771 عن حميد بن عبد الله المدني عن عبادة به، وإسناده ضعيف لجهالة حميد هذا. ووثقه ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل. - حديث أبي الدرداء: أخرجه الترمذي 2273 والطبري 17737 و 17738 و 17739 و 17749 و 17752 والبيهقي في «الشعب» 4753 من طرق: عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء. «وإسناده ضعيف» فيه راو لم يسم. وحسنه الترمذي، ولعله حسنه لطرقه وشواهده. وأخرجه الطبري 17732 و 17748 من وجه آخر عن أبي صالح عن رجل عن أبي الدرداء به مختصرا. وكرره الطبري 17750 عن أبي صالح عن أبي الدرداء، دون ذكر الرجل وهو منقطع. وكرره 17751 عن عطاء عن أبي الدرداء، دون ذكر الرجل أيضا. وهو منقطع. وكرره 17753 عن عمر بن دينار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء وهذا ضعيف لجهالة المصري هذا. - حديث أبي هريرة: أخرجه الطبري 17741 و 17743، ورجاله ثقات، لكن كرره الطبري 17742 عن أبي هريرة قوله. - وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أخرجه أحمد 2/ 219. والطبري 17744 و 17769. والبيهقي 4757 وإسناده ضعيف، لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم. وله شاهد، أخرجه الطبري 17757. من طريق نافع بن جبير عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به، وجهالة الصحابي لا تضر، لكن فيه عنعنة ابن جريج، وهو مدلس. الخلاصة: هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده ولم أقل إنه صحيح بسبب غرابة المتن، إذ البشرى في الآية تدل على أنها أعم من الرؤيا الصالحة. بل الصواب أن الرؤيا هي من البشرى. أي بعض البشرى. - وقد ذكر الألباني هذا الحديث في «الصحيحة» 1786 ولم يستوف الكلام عليه كعادته، بل اختصره ووقع له شيء، وهو أنه عزاه للطبري 11/ 95 من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي صالح قال: سمعت أبا الدرداء ... فذكره. وقال الألباني عقبه: وهذا إسناد حسن. - قلت: وليس كما قال! والصواب أن أبا صالح لم يسمعه من أبي الدرداء والوهم في لفظ «سمعت» إما من عاصم، فإنه صدوق لكنه يخطئ أو ممن دونه. فقد كرره الطبري من عدة طرق عن أبي صالح عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر. وتقدم ذكر هذه الروايات. حتى عطاء لم يسمعه من أبي الدرداء. بدليل ذكر

[سورة يونس (10) : آية 65]

والثاني: أنها بشارة الملائكة لهم عند الموت، قاله الضحاك، وقتادة، والزهري. والثالث: أنها ما بشّر الله عزّ وجلّ به في كتابه من جنته وثوابه، كقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا «1» ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ «2» ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ «3» ، وهذا قول الحسن، واختاره الفرّاء، والزّجّاج، واستدلال بقوله: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ . قال ابن عباس: لا خُلف لمواعيده، وذلك أن مواعيده بكلماته، فإذا لم تبدَّل الكلمات، لم تبدَّل المواعيد. فأما بشراهم في الآخرة، ففيها ثلاثة أقوال: (785) أحدها: أنها الجنة، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واختارة ابن قتيبة. والثاني: أنه عند خروج الروح تبشَّر برضوان الله، قاله ابن عباس. والثالث: أنها عند الخروج من قبورهم، قاله مقاتل. [سورة يونس (10) : آية 65] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ قال ابن عباس: تكذيبهم. وقال غيره: تظاهرهم عليك بالعداوة وإِنكارهم وأذاهم. وتم الكلام هاهنا. ثم ابتدأ فقال: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي: الغلبة له، فهو ناصرك وناصر دينك، هُوَ السَّمِيعُ لقولهم: الْعَلِيمُ بإضمارهم، فيجازيهم على ذلك. [سورة يونس (10) : آية 66] أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) قوله تعالى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ قال الزجاج: أَلا افتتاح كلام وتنبيه، أي: فالذي هم له، يفعل فيهم وبهم ما يشاء. قوله تعالى: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي: ما يتبعون شركاء على الحقيقة، لأنهم يعدُّونها شركاء لله شفعاء لهم، وليست على ما يظنون. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في ذلك وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ قال ابن عباس: يكذبون. وقال ابن قتيبة: يحدسون ويحزرون.

_ الرجل المصري ثم ذكر حديث أبي هريرة، وعزاه للطبري وجوده ونسبه لمسلم أيضا! والصواب أن مسلما ما رواه بمثل حديث أبي الدرداء. وإنما أخرجه 2263 من حديث أبي هريرة بلفظ «إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المؤمن جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة، والرؤيا ثلاثة، والرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين» . فهذا لفظ مسلم، ليس فيه ذكر الآية، ولا استغراق الرؤيا الصالحة لجنس البشرى كما في الأحاديث المتقدمة، فتنبه، والله الموفق. فالحديث غريب من جهة المتن، حسن من جهة الإسناد باعتبار طرقه وشواهده، والله أعلم بالصواب، وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1245 بتخريجنا. أخرجه الطبري 17743 وفي إسناده عمار بن محمد، وهو لين الحديث، وانظر ما قبله.

[سورة يونس (10) : آية 67]

[سورة يونس (10) : آية 67] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ المعنى: إِن ربكم الذي يجب أن تعتقدوا ربوبيته، هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، فيزول تعب النهار وكلاله بالسكون في الليل، وجعل النهار مبصراً، أي: مضيئاً تبصرون فيه. وإِنما أضاف الإِبصار إِليه، لأنه قد فهم السامع المقصود، إِذ النهار لا يبصر، وإِنما هو ظرف يفعل فيه غيره، كقوله: عِيشَةٍ راضِيَةٍ «1» ، إِنما هي مرضية، وهذا كما يقال: ليل نائم، قال جرير: لقد لُمْتِنا يا أمَّ غَيلانَ في السُّرى ... ونمتِ وَما ليلُ المطيِّ بِنائمِ «2» قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع اعتبار، فيعلمون أنه لا يقدر على ذلك إلّا الإله القادر. [سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 70] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قوله تعالى: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً قال ابن عباس: يعني أهل مكة، جعلوا الملائكة بنات الله. قوله تعالى: سُبْحانَهُ تنزيه له عما قالوا. هُوَ الْغَنِيُّ عن الزوجة والولد. إِنْ عِنْدَكُمْ أي: ما عندكم مِنْ سُلْطانٍ أي: حجة بما تقولون. قوله تعالى: لا يُفْلِحُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يبقون في الدنيا. والثاني: لا يسعدون في العاقبة. والثالث: لا يفوزون. قال الزجاج: وهذا وقف التمام، وقوله: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا مرفوع على معنى: ذلك متاع في الدّنيا. [سورة يونس (10) : آية 71] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ فيه دليل على نبوَّته، حيث أخبر عن قصص الأنبياء ولم يكن يقرأ الكتاب، وتحريضٌ على الصبر، وموعظة لِقومه بذكر قوم نوح وما حلَّ بهم من العقوبة بالتكذيب. قوله تعالى: إِنْ كانَ كَبُرَ أي: عَظُم وشَقَّ عَلَيْكُمْ مَقامِي أي: طول مكثي. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء «مُقامي» برفع الميم. وَتَذْكِيرِي وعظي. فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي ودفع شركم عني. فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ قرأ الجمهور: «فأجمعوا» بالهمز وكسر الميم، من «أجمعتُ» . وروى الأصمعي عن نافع: «فاجمعوا» بفتح الميم، مِن «جمعت» . ومعنى «أجمعوا أمركم» : أحكِموا

_ (1) سورة الحاقة: 21. (2) في «اللسان» : السّرى: السير ليلا. والمطيّ: جمع مطيّة، وهي الناقة التي يركب مطاها. أي ظهرها. [.....]

[سورة يونس (10) : الآيات 72 إلى 73]

أمركم واعزموا عليه. قال المؤرِّج: «أجمعت الأمر» أفصح من «أجمعت عليه» ، وأنشد «1» : يا ليتَ شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوما وأَمري مُجْمَعُ فأما رواية الأصمعي، فقال أبو علي: يجوز أن يكون معناها: اجمعوا ذوي الأمر منكم، أي: رؤساءكم. ويجوز أن يكون جعل الأمر ما كانوا يجمعونه من كيدهم الذي يكيدونه، فيكون كقوله: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا «2» . قوله تعالى: وَشُرَكاءَكُمْ قال الفراء وابن قتيبة: المعنى: وادعوا شركاءكم. وقال الزّجّاج: الواو ها هنا بمعنى «مع» ، فالمعنى: مع شركائكم. تقول: لو تُركت الناقة وفصيلها لرضعها، أي: مع فصيلها. وقرأ يعقوب «وشركاؤكم» بالرفع. قوله تعالى: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً فيه قولان: أحدهما: لا يكن أمركم مكتوماً، قاله ابن عباس. والثاني: غماً عليكم، كما تقول: كرب وكربة، قاله ابن قتيبة. وذكر الزجاج القولين. وفي قوله: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ قولان: أحدهما: ثم أقضوا إِليَّ ما في أنفسكم، قاله مجاهد. والثاني: افعلوا ما تريدون، قاله الزجاج، وابن قتيبة. وقال ابن الأنباري: معناه: اقضوا إِليَّ بمكروهكم وما توعدونني به، كما تقول العرب: قد قضى فلان، يريدون: مات ومضى. [سورة يونس (10) : الآيات 72 الى 73] فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي: أعرضتم عن الإِيمان. فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي: لم يكن دعائي إيّاكم طمعا في أموالكم. وقوله تعالى: إِنْ أَجْرِيَ حرَّك هذه الياء ابن عامر، وأبو عمرو، ونافع، وحفص عن عاصم، وأسكنها الباقون. قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ أي: جعلنا الذين نَجَواْ مع نوح خَلَفاً ممن هلك. [سورة يونس (10) : آية 74] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ قال ابن عباس: يريد: إِبراهيم وهوداً وصالحاً ولوطاً وشعيبا. فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: بان لهم أنهم رسل الله. فَما كانُوا أي: أولئك الأقوام لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا يعني الذين قبلهم. والمراد: أن المتأخرين مَضَواْ على سَنَن المتقدِّمين في التكذيب. وقال مقاتل: فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّبوا به من العذاب من قبل نزوله. قوله تعالى: كَذلِكَ نَطْبَعُ أي: كما طبعنا على قلوب أولئك، كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ يعني المتجاوزين ما أمروا به.

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» ولم ينسبه لقائل، ولعله للمؤرج نفسه، حيث قال المصنف: وأنشد المؤرج. (2) سورة طه: 64.

[سورة يونس (10) : آية 75]

[سورة يونس (10) : آية 75] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني الرّسل الذين أرسلوا بعد نوح. [سورة يونس (10) : الآيات 76 الى 82] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا وهو ما جاء به موسى من الآيات. قوله تعالى: أَسِحْرٌ هذا قال الزجاج: المعنى: أتقولون للحق لما جاءَكم هذا اللفظ، وهو قولهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ. ثم قررهم فقال: أَسِحْرٌ هذا؟. قال ابن الأنباري: إِنما أدخلوا الألف على جهة تفظيع الأمر، كما يقول الرجل إِذا نظر إِلى الكسوة الفاخرة: أكسوة هذه؟ يريد بالاستفهام تعظيمها، وتأتي الرجلَ جائزةٌ، فيقول: أحقٌّ ما أرى؟ معظِّماً لما ورد عليه. وقال غيره: تقدير الكلام: أتقولون للحق لما جاءكم: هو سحر؟ أسحر هذا؟ فحذف السحر الأولُ اكتفاءً بدلالة الكلام عليه، كقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ «1» المعنى: بعثناهم ليسوؤوا وجوهَكم. قوله تعالى: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا قال ابن قتيبة: لتصرفنا. يقال: لفتُّ فلاناً عن كذا: إِذا صرفته. ومنه الالتفات، وهو الانصراف عما كنت مقبلاً عليه. قوله تعالى: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وروى أبان، وزيد عن يعقوب: «ويكون لكما» بالياء. وفي المراد بالكبرياء ثلاثة أقوال: أحدها: الملك والشّرف، قاله بن عباس. والثاني: الطاعة، قاله الضحاك. والثالث: العلوّ، قاله ابن زيد. قال ابن عباس: والأرض ها هنا: أرض مصر. قوله تعالى: بِكُلِّ ساحِرٍ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «بكل سحَّار» بتشديد الحاء وتأخير الألف. وقوله تعالى: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ قرأ الأكثرون «السحرُ» بغير مدّ، على لفظ الخبر، والمعنى: الذي جئتم به من الحبال والعصيّ، هو السحر، وهذا ردٌّّ لقولهم للحق: هذا سحر، فتقديره: الذي جئتم به السحر، فدخلت الألف واللام، لأن النكرة إِذا عادت، عادت معرفة، كما تقول: رأيت رجلاً، فقال ليَ الرجل. وقرأ مجاهد، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأبان عن عاصم، وأبو حاتم عن يعقوب: «آلسحر» بمدِّ الألف، استفهاماً. قال الزجاج: والمعنى: أي شيء جئتم به؟ أسحر هو؟ على جهة التوبيخ لهم. وقال ابن الأنباري: هذا الاستفهام معناه التعظيم للسحر، لا على سبيل الاستفهام عن الشيء الذي يُجهل، وذلك مثل قول الإِنسان في الخطأ الذي يستعظمه من إِنسان: أخطأ هذا؟ هو عظيم الشأن في الخطأ. والعرب تستفهم عما هو معلوم عندها، قال امرؤ القيس:

_ (1) سورة الإسراء: 7.

[سورة يونس (10) : الآيات 83 إلى 92]

أغرَّكِ مِنّي أنّ حُبَّكِ قاتلي ... وأنَّك مهما تأمري القلبَ يَفْعَلِ وقال قيس بن ذريح: أراجعة يا لبن أيامُنا الأُلى ... بذي الطَّلح أم لا ما لَهُنَّ رجوعُ «1» فاستفهم وهو يعلم أنهن لا يرجعن. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي: يهلكه، ويُظهر فضيحتكم، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يجعل عملهم نافعاً لهم. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي: يظهره ويمكنِّه، بِكَلِماتِهِ بما سبق من وعده بذلك. [سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 92] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) قوله تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ في المراد بالذّرّية ها هنا ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أن المراد بالذرّية: القليل. قاله ابن عباس. والثاني: أنهم أولاد الذين أُرسل إِليهم موسى مات آباؤهم لطول الزمان، وآمنوا هم، قاله مجاهد. وقال ابن زيد: هم الذين نشئوا مع موسى حين كفَّ فرعون عن ذبح

_ (1) في «اللسان» : طلح: اسم موضع. وفي «القاموس» : الطّلح: شجر عظام. (2) قال الطبري 6/ 591: وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية قول مجاهد ... لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى فلأن تكون «الهاء» في قوله: «من قومه» من ذكر موسى لقربها من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون، لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليل من خبر ولا نظر. - وقال ابن كثير رحمه الله 2/ 527: وفي هذا نظر لأنه أراد بالذرية: الأحداث والشباب، وأنهم من بني إسرائيل، فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام واستبشروا به وقد كانوا يعرفون نعته وصفته، والبشارة به من كتبهم المتقدمة، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه، ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر، فلم يجد عنه شيئا ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى، وقالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون» وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد: إلا ذرية من قوم موسى، وهم بنو إسرائيل؟.

الغلمان. قال ابن الأنباري: وإِنما قيل لهؤلاء: «ذرية» لأنهم أولاد الذين بُعث إِليهم موسى، وإِن كانوا بالغين. والثالث: أنهم قوم، أُمهاتهم من بني إِسرائيل، وآباؤهم من القبط، قاله مقاتل، واختاره الفراء. قال: وإِنما سُمُّوا «1» ذريةً كما قيل لأولاد فارس: الأبناء، لأن أُمهاتهم من غير جنس آبائهم. وفي هاء «قومه» قولان: أحدهما: أنها تعود إِلى موسى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: إِلى فرعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس «2» . فعلى القول الأول يكون قوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي: وملأ فرعون. قال الفرّاء: إنّما قال: «وملئهم» بالجمع، وفرعون واحد، لأن الملك إذا ذُكر ذهب الوهم إِليه وإِلى من معه، تقول: قدم الخليفة فكثر الناس، تريد: بمن معه. وقد يجوز أن يريد بفرعون: آل فرعون، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «3» . وعلى القول الثاني: يرجع ذِكر الملأ إِلى الذرية. قال ابن جرير: وهذا أصح، لأنه كان في الذرِّيةَ من أبوه قبطي وأُمُّه إِسرائيلية، فهو مع فرعون على موسى. قوله تعالى: أَنْ يَفْتِنَهُمْ يعني فرعون، ولم يقل: يفتنوهم، لأن قومه كانوا على مَن كان عليه. وفي هذه الفتنة قولان: أحدهما: أنها القتل، قاله ابن عباس. والثاني: التعذيب، قاله ابن جرير. قوله تعالى: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: متطاول في أرض مصر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ حين كان عبداً فادّعى الربوبيَّة. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا لمّا شكا بنو إِسرائيل إِلى موسى ما يهددّهم به فرعون من ذبح أولادهم، واستحياء نسائهم، قال لهم هذا. وفي قوله: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً ثلاثة أقوال: أحدها: لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من قِبَلك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عُذّبِوا ولا سُلِّطْنا عليهم. والثاني: لا تسلِّطهم علينا فيفتنونا، والقولان مرويان عن مجاهد. والثالث: لا تسلِّطهم علينا فيفتتنون بنا، لظنهم أنهم على حق، قاله أبو الضحى، وأبو مجلز. قوله تعالى: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً قال المفسرون: لما أُرسل موسى، أَمر فرعونُ بمساجد بني إِسرائيل فخُرِّبت كلُّها، ومُنعوا من الصلاة، وكانوا لا يصلُّون إِلا في الكنائس فأُمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلُّون فيها خوفاً من فرعون. و «تبوّءا» معناه: اتّخذا، وقد شرحناه في سورة

_ (1) قال الطبري رحمه الله 6/ 593: وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل: «فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه» لأن الذين آمنوا به إنما كانت أُمهاتهم من بني إِسرائيل، وآباؤهم من القبط، فقيل لهم «الذرية» من أجل ذلك، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم «أبناء» . والمعروف من معنى (الذرية) في كلام العرب، أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء، كما قال تعالى ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ (الإسراء: 3) وكما قال تعالى وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ثم قال بعد وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ الأنعام 84، 85 فجعل من كان قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم. (2) والذي ذهب إليه الطبري رحمه الله 6/ 592: هو أنه في قوله عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الدليل الواضح على أن «الهاء» في «قومه» من ذكر موسى، لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون، لكان الكلام عَلى خَوْفٍ منه ولم يكن عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ. (3) سورة يوسف 82.

الأعراف «1» . وفي المراد بمصر قولان: أحدهما: أنه البلد المعروف بمصر، قاله الضحاك. والثاني: أنه الاسكندرية، قاله مجاهد. وفي البيوت قولان: أحدهما: أنها المساجد، قاله الضحاك، والثاني: القصور، قاله مجاهد. وفي قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أربعة أقوال «2» : أحدها: اجعلوها مساجد، رواه مجاهد، وعكرمة، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال النخعي، وابن زيد. وقد ذكرنا أن فرعون أمر بهدم مساجدهم، فقيل لهم: اجعلوا بيوتكم قبلة بدلا من المساجد. والثاني: اجعلوها قِبَل القبلة، رواه العوفي عن ابن عباس. وروى الضحاك عن ابن عباس، قال: قِبَل مكة. وقال مجاهد: أُمروا أن يجعلوها مستقبلة الكعبة، وبه قال مقاتل، وقتادة، والفراء. والثالث: اجعلوها يقابل بعضها بعضاً، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال سعيد بن جبير. والرابع: واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلةً لكم في الصلاة، فهي قبلة اليهود إِلى اليوم، قاله ابن بحر. فإن قيل: البيوت جمع، فكيف قال: «قبلة» على التوحيد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: من قال: المراد بالقبلة الكعبة، قال: وحِّدت القبلة لتوحيد الكعبة. قال: ويجوز أن يكون أراد: اجعلوا بيوتكم قِبَلاً، فاكتفى بالواحد من الجميع، كما قال العباس بن مرداس: فقلنا أسْلِمُوا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإحن الصدور «3» يريد: إِنا إِخوتكم. ويجوز أن يكون وحّد «قبلة» لانه أجراها مجرى المصدر، فيكون المعنى: واجعلوا بيوتكم إِقبالاً على الله، وقصداً لما كنتم تستعملونه في المساجد. ويجوز أن يكون وحَّدها، والمعنى: واجعلوا بيوتكم شيئاً قبلة، ومكاناً قبلة، ومحلة قبلة. قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ قال ابن عباس: أتموا الصلاة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أنت يا محمد. قال سعيد بن جبير: بشِّرهم بالنصر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة. قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا قال ابن عباس: كان لهم من لدن فسطاط مصر إِلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. قوله تعالى: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ وفي لام «ليَضِلُّوا» أربعة أقوال: أحدها: أنها لام «كي» والمعنى: آتيتهم ذلك كي يضلوا، وهذا قول الفراء. والثاني: أنها لام العاقبة، والمعنى: إِنك آتيتهم ذلك فأصارهم إِلى الضلال، ومثله قوله: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي: آل أمرهم إِلى أن صار لهم عدواً، لا أنهم قصدوا ذلك، وهذا كما تقول للذي كسب مالاً فأدَّاه إِلى الهلاك: إنّما كسب فلان

_ (1) سورة الأعراف: 74. (2) قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» 2/ 346: تبوّأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك، توطنه إذا اتخذه وطنا. والمعنى: اجعلا بمصر بيوتا من بيوته مباءة لقومكما ومرجعا يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه. وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ تلك قِبْلَةً أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة، وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة. (3) في «اللسان» : الإحن: الحقد في الصدر.

لحتفه، وهو لم يكسب المال طلباً للحتف، وأنشدوا: وللمنايا تُربِّي كلُّ مُرْضِعَةٍ ... وللخراب يُجِدُّ الناسُ عمرانا «1» وقال آخر: وللموتِ تغذُو الوالداتُ سِخالَها ... كما لخراب الدُّور تُبنى المساكِنُ «2» وقال آخر: فإن يكُنِ الموتُ أفناهم ... فللموت ما تَلِدُ الوالده أراد: عاقبة الأمر ومصيره إِلى ذلك، هذا قول الزجاج. والثالث: أنها لام الدعاء، والمعنى: ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك، ذكره ابن الأنباري. والرابع: أنها لام أجْل، فالمعنى: آتيتهم لأجل ضلالتهم عقوبةً منك لهم، ومثله قوله: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ «3» أي: لأجل إِعراضكم، حكاه بعض المفسرين. وقرأ أهل الكوفة إِلا المفضل، وزيد، وأبو حاتم عن يعقوب: «ليُضِلُّوا» بضم الياء، أي: ليُضلُّوا غيرهم. قوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ روى الحلبي عن عبد الوارث: «اطمُس» بضم الميم، عَلى أَمْوالِهِمْ وفيه قولان: أحدهما: أنها جُعلت حجارة، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، وأبو صالح، والفراء. وقال القرظي: جُعِل سُكَّرهُم حجارة. وقال ابن زيد: صار ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكل شيء لهم حجارة. وقال مجاهد: مسخ الله النخل والثمار والأطعمة حجارة، فكانت إِحدى الآيات التسع. وقال الزجاج: تطميس الشيء: إِذهابه عن صورته والانتفاعِ به على الحال الأولى التي كان عليها. والثاني: أنها هلكت، فالمعنى: أهلكْ أموالهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، ومنه يقال: طُمست عينه، أي: ذهبتْ، وطُمس الطريق: إِذا عفا ودرس. وفي قوله: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أربعة أقوال: أحدها: اطبع عليها، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، والفراء، والزجاج. والثاني: أهلكهم كفاراً، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: اشدد عليها بالضلالة، قاله مجاهد. والرابع: أن معناه: قسِّ قلوبهم، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُوا فيه قولان: أحدهما: أنه دُعَاءٌ عليهم أيضاً، كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا، قاله الفراء، وأبو عبيدة، والزجاج. وقال ابن الأنباري: معناه: فلا آمنوا، قال الأعشى: فلا ينْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ما انْزَوى ... ولا تَلْقني إِلاّ وأنفُكَ راغِمُ» معناه: لا أنبسط، ولا لقيتني. والثاني: أنه عطف على قوله: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، فالمعنى: أنك آتيتهم ليَضلُّوا فلا يؤمنوا، حكاه الزّجّاج عن المبرّد.

_ (1) البيت من البسيط لم أهتد لقائله. (2) في «اللسان» : سخالها: السخل هو المولود المحبب إلى أبويه وهو في الأصل ولد الغنم. (3) سورة التوبة: 95. [.....] (4) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «زوي» ، وزوى ما بين عينيه فانزوى: جمعه فاجتمع وقبضه.

قوله تعالى: حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قال ابن عباس: هو الغرق، وكان موسى يدعو، وهارون يؤمِّن، فقال الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وكان بين الدعاء والإِجابة أربعون سنة. فان قيل: كيف قال: دَعْوَتُكُما وهما دعوتان؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن الدعوة تقع على دعوتين وعلى دَعَواتٍ وكلامٍ يطول كما بيّنّا في سورة الأعراف «1» أن الكلمة تقع على كلمات، قال الشاعر «2» : وكان دعا دعوةً قومَه ... هلمَّ إِلى أمركم قد صُرِم فأوقع «دعوة» على ألفاظ بيَّنها آخر بيته. والثاني: أن يكون المعنى: قد أُجيبت دعواتكما، فاكتفى بالواحد من ذِكر الجميع، ذكر الجوابين ابن الأنباري. وقد روى حماد بن سلمة عن عاصم أنه قرأ: «دَعَواتُكما» بالألف وفتح العين. والثالث: أن موسى هو الذي دعا، فالدعوة له، غير أنه لما أمَّن هارون، أُشرك بينهما في الدعوة، لأنّ التّأمين على الدّعوة منهما. وفي قوله تعالى: فَاسْتَقِيما أَربعة أقوال: أحدها: فاستقيما على الرسالة وما أمرتكما به، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: فاستقيما على دعاء فرعون وقومه إِلى طاعة الله، قاله ابن جرير. والثالث: فاستقيما في دعائكما على فرعون وقومه. والرابع: فاستقيما على ديني، ذكرهما أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعانِّ قرأ الأكثرون بتشديد تاء «تتَّبعانِّ» . وقرأ ابن عامر بتخفيفها مع الاتفاق على تشديد نون «تَتَّبعانّ» إِلا أنّ في بعض الرّوايات عن ابن عامر تخفيف. قال الزّجّاج: موضع «تتبعان» جزم، إِلا أن النون الشديدة دخلت للنهي مؤكِّدة، وكسرت لسكونها ولسكون النون التي قبلها، واختير لها الكسر لأنها بعد الألف، فشُبهت بنون الاثنين. قال أبو علي: ومن خفض النون أمكن أن يكون خفف النون الثقيلة، فإن شئت كان على لفظ الخبر، والمعنى الأمر، كقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ «3» ولا تُضَارَّ والِدَةٌ «4» أي: لا ينبغي ذلك، وإِن شئت جعلته حالاً من قوله: فَاسْتَقِيما تقديره: استقيما غير متَّبِعَين. وفي المراد بسبيل الذين لا يعلمون قولان: أحدهما: أنهم فرعون وقومه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه ذكره أبو سليمان الدمشقي. فإن قيل: كيف جاز أن يدعوَ موسى على قومه؟ فالجواب: أن بعضهم يقول: كان ذلك بوحي، وهو قول صحيح، لأنه لا يُظن بنبيّ أن يُقدِم على مثل ذلك إلّا عن إذن من الله عزّ وجلّ، لأن دعاءه سبب للانتقام. قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ قال أبو عبيدة: أتبعهم وتبعهم سواء. وقال ابن قتيبة: أتبعهم لحقهم. بَغْياً وَعَدْواً أي: ظلماً. وقرأ الحسن «فاتَّبعهم» بالتشديد، وكذلك شددوا «وعُدُوّاً» مع ضم العين. قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ قرأ ابن كثير ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر «أنه» بفتح الألف، والمعنى: آمنت بأنه، فلما حُذف حرف الجر، وصل الفعل

_ (1) الآية 158. (2) البيت للأعشى كما في ديوانه/ 43. وفي «اللسان» صرم: من الصريمة وهي العزيمة على الشيء وقطع الأمر. (3) سورة البقرة: 228. (4) سورة البقرة: 233.

إِلى «أنَّ» فنُصب. وقرأ حمزة والكسائي «إِنه» بكسر الألف، فحملوه على القول المضمر، كأنه قال: آمنت، فقلت: إِنه. قال ابن عباس: لم يقبل الله إِيمانه عند رؤية العذاب. قال ابن الأنباري: جنح فرعون إِلى التوبة حين أُغلق بابها لحضور الموت ومعاينة الملائكة، فقيل له: (آلآن) أي: الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها، وكنت من المفسدين بالدّعاء إلى عبادة غير الله تعالى؟ والمخاطب له بهذا كان جبريل عليه السلام. (786) وجاء في الحديث «أن جبريل جعل يدسُّ الطين في فم فرعون خشية أن يُغفرَ له» . قال الضّحّاك بن قيس: اذكروا الله في الرَّخاء يذكرْكم في الشدة، إِن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً، وكان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت سأل الله، فقال الله: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «1» وإِن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً لذِكر الله تعالى، فلما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ. قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ وقرأ يعقوب «نُنْجيك» مخففة. قال اللغويون، منهم يونس وأبو عبيدة: نُلقيك على نجوة من الأرض، أي: ارتفاع، ليصير عَلَماً أنه قد غرق. وقرأ ابن السميفع «ننحِّيك» بحاء. وفي سبب إِخراجه من البحر بعد غرقه ثلاثة أقوال: أحدها: أن موسى وأصحابه لما خرجوا، قال من بقي من المدائن من قوم فرعون: ما غرق فرعون، ولكنه هو وأصحابه يتصيدون في جزائر البحر، فأوحى الله إِلى البحر أن الفظ فرعون عرياناً، فكانت نجاةَ عِبرةٍ، وأوحى الله تعالى إِلى البحر: أن الفظ ما فيك، فلفظهم البحر بالساحل، ولم يكن يلفظ غريقاً، إِلى يوم القيامة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أن أصحاب موسى قالوا: إِنا نخاف أن يكون فرعون ما غرق، ولا نؤمن بهلاكه، فدعا موسى ربه، فأخرجه حتى أيقنوا بهلاكه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإِلى نحوه ذهب قيس بن عُبَاد، وعبد الله بن شداد، والسدي، ومقاتل. وقال السدي: لما قال بنو إِسرائيل: لم يغرق فرعون،

_ حديث قوي من جهة الإسناد بطرقه وشواهده، لكن في المتن غرابة، وقد ورد موقوفا، ولعله أشبه. والله أعلم. أخرجه الترمذي 3108، والنسائي في «التفسير» 258، وأحمد 1/ 240 و 340، والطيالسي 2618 والطبري 17858 و 17862، والحاكم 1/ 57 و 2/ 340 و 4/ 249، وابن حبان 6215 من طريق شعبة عن عطاء بن السائب، وعن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، صححه الحاكم وقال: على شرطهما إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس. ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وصححه الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 368. وأطال الكلام في هذا الشأن ورد فيه على الزمخشري حيث استنكر الحديث ووهنه. وورد من وجه آخر أخرجه الترمذي 3107، وأحمد 1/ 245- 309 والطبراني 12932 والطبري 17875، والطيالسي 2693 ومداره على علي بن زيد وهو ضعيف. وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه الطبري 17874 وابن عدي 2/ 788، وفيه كثير بن زاذان، وهو مجهول. وورد من وجه آخر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» 11070 وفيه قيس بن الربيع قال الهيثمي: وثقه شعبة والثوري وضعفه جماعة.

[سورة يونس (10) : الآيات 93 إلى 97]

دعا موسى، فخرج فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفاً عليهم الحديد «1» ، فأخذته بنو إِسرائيل يمثِّلون به. وذكر غيره أنه إِنما أخرج من البحر وحده دون أصحابه. وقال ابن جريج: كذَّب بعض بني إِسرائيل بغرقه، فرمى به البحر على ساحل البحر حتى رآه بنو إِسرائيل قُصَيِّراً أحمر كأنه ثور. وقال أبو سليمان: عرفه بنو إِسرائيل بدرع كان له من لؤلؤ لم يكن لأحد مثلها. فأما وجهه فقد غيَّره سخط الله تعالى. والثالث: أنه كان يدَّعي أنه ربٌّ، وكان يعبده قوم، فبيَّن الله تعالى أمره، فأغرقه وأصحابه، ثم أخرجه من بينهم، قاله الزجاج. وفي قوله تعالى: بِبَدَنِكَ أربعة أقوال: أحدها: بجسدك من غير روح، قاله مجاهد. وذِكر البدن دليل على عدم الروح. والثاني: بدرعك، قاله أبو صخر. وقد ذكرنا أنه كانت له درع من لؤلؤ، وقيل: من ذهب، فعُرِف بدرعه. والثالث: نلقيك عرياناً، قاله الزجاج. والرابع: ننجِّيك وحدك، قاله ابن قتيبة. وفي قوله: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ثلاثة أقوال: أحدها: لتكون لمن بعدك في النكال آية لئلا يقولوا مثل مقالتك، فإنك لو كنت إِلهاً ما غرقت، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال أبو عبيدة: خَلْفَكَ بمعنى بعدك، والآية: العلامة. والثاني: لتكون لبني إِسرائيل آية، قاله السدي. والثالث: لمن تخلّف من قومه، لأنهم أنكروا غرقه على ما ذكرنا في أول الآية، فخرج في معنى الآية قولان: أحدهما: عبرة للناس. والثاني: علامة تدل على غرقه. وقال الزجاج: الآية أنه كان يدَّعي أنه ربٌّ، فبان أمره، وأخرج من بين أصحابه لما غرقوا. وقرأ ابن السميفع، وابو المتوكل، وأبو الجوزاء «لمن خلقك» بالقاف. [سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 97] وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) قوله تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أنزلناهم منزل صدق، أي منزلاً كريما. وفي المراد ببني إِسرائيل قولان. أحدهما: أصحاب موسى. والثاني: قريظة والنضير. وفي المراد بالمنزل الذي أُنزلوه خمسة أقوال: أحدها: أنه الأردن، وفلسطين، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الشام، وبيت المقدس، قاله الضحاك وقتادة. والثالث: مصر، روي عن الضحاك أيضاً. والرابع: بيت المقدس، قاله مقاتل. والخامس: ما بين المدينة والشام من أرض يثرب، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. والمراد بالطيبات: ما أُحل لهم من الخيرات الطيبة. فَمَا اخْتَلَفُوا يعني بني إسرائيل. قال ابن عباس: ما اختلفوا في محمد، لم يزالوا به مصدِّقين، حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعني: القرآن، وروي عنه: حتى جاءهم العلم، يعني محمداً. فعلى هذا يكون العلم ها هنا: عبارة عن المعلوم. وبيان هذا أنه لما

_ (1) فيه مبالغة من حيث عدد جيش فرعون، والظاهر أنه من مجازفات الإسرائيليين.

[سورة يونس (10) : آية 98]

جاءهم، اختلفوا في تصديقه، وكفر به أكثرهم بغياً وحسداً بعد أن كانوا مجتمعين على تصديقه قبل ظهوره. قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ في تأويل هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره من الشاكّين، بدليل قوله في آخر السورة: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي «1» ، ومثله قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً «2» ثم قال تعالى: بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً «3» ولم يقل: بما تعمل، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أن الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو المراد به. ثم في المعنى قولان: أحدهما: أنه خوطب بذلك وإن لم يكن في شك، لأنه من المستفيض في لغة العرب أن يقول الرجل لولده: إن كنت ابني فبِرَّني، ولعبده: إِن كنت عبدي فأطعني، وهذا اختيار الفراء. (787) وقال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شك، ولا سأل. والثاني: أن تكون «إِن» بمعنى «ما» فالمعنى: ما كنت في شكّ فَسْئَلِ، المعنى: لسنا نريد أن نأمرك أن تسأل لأنك شاكّ، ولكن لتزداد بصيرة، ذكره الزجاج. والثالث: أن الخطاب للشاكّين، فالمعنى: إِن كنت أيها الإِنسان في شك مما أُنزل إليك على لسان محمد، فَسَلْ، روي عن ابن قتيبة. وفي الذي أنزل إِليه قولان: أحدهما: أنه أُنزل إِليه أنه رسول الله. والثاني: أنه مكتوب عندهم في التوراة والإِنجيل. قوله تعالى: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ وهم اليهود والنصارى. وفي الذين أُمر بسؤالهم منهم قولان: أحدهما: من آمن منهم، كعبد الله بن سلام، قاله ابن عباس، ومجاهد في آخرين. والثاني: أهل الصدق منهم، قاله الضحاك، وهو يرجع إِلى الأول، لأنه لا يَصْدق إلا من آمن. قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ هذا كلام مستأنف. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ أي: وجبت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي: قوله. وبماذا حقت الكلمة عليهم؟ فيه أربعة أقوال: أحدها: باللعنة. والثاني: بنزول العذاب. والثالث: بالسَّخط. والرابع: بالنقمة. قوله تعالى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، قال الأخفش: إِنما أنَّث فعل «كل» لأنه أضافه إلى «آية» وهي مؤنّثة. [سورة يونس (10) : آية 98] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)

_ أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في «المختارة» كما في «الدر» 3/ 571. عن ابن عباس به، ولم أقف على إسناده لكن الظاهر أنه لا بأس به حيث اختاره الضياء، وقد ورد مرفوعا صريحا. وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 1173، والطبري 17907 و 17908 عن قتادة بلاغا وهو ضعيف لإرساله، ومراسيل قتادة واهية، والصواب أنه من كلام قتادة كما في الرواية الأولى، ولا يصح رفعه. والله أعلم.

قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ أي: أهل قرية. وفي «لولا» قولان: أحدهما: أنه بمعنى لم تكن قرية آمنت فَنَفَعَها إِيمانُها أي قُبِلَ منها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، قاله ابن عباس. وقال قتادة: لم يكن هذا لأمة آمنت عند نزول العذاب إِلا لقوم يونس. والثاني: أنها بمعنى: فهلاّ، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج. قال الزجاج: والمعنى: فهلاّ كانت قرية آمنت في وقت نفعها إيمانها، إلّا قوم يونس؟ وإِلَّا ها هنا استثناء ليس من الأول، كأنه قال: لكن قومُ يونس. قال الفراء: نُصب القوم على الانقطاع مما قبله، ألا ترى أن «ما» بعد «إِلا» في الجحد يتبع ما قبلها؟ تقول: ما قام أحد إِلا أخوك، فإذا قلت: ما فيها أحد إِلا كلباً أو حماراً، نصبتَ، لانقطاعهم من الجنس، كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعاً. وذكر ابن الأنباري في قوله: «إِلا» قولين آخرين. أحدهما: أنها بمعنى الواو، والمعنى: وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا، وهذا مروي عن أبي عبيدة، والفراء ينكره. والثاني: أن الاستثناء من الآية التي قبل هذه، تقديره: حتى يروا العذاب الأليم إِلا قوم يونس، فالاستثناء على هذا متصل غير منقطع. قوله تعالى: كَشَفْنا عَنْهُمْ أي: صرفنا عنهم عَذابَ الْخِزْيِ أي: عذاب الهوان والذل وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي: إِلى حين آجالهم «1» . (الإِشارة إِلى شرح قصتهم) ذكر أهل العلم بالسِّيَر والتفسير أن قوم يونس كانوا ب «نينوى» من أرض الموصل، فأرسل الله عزّ وجلّ إليهم يونس يدعوهم إلى الله ويأمرهم بترك الأصنام، فأبوا، فأخبرهم أن العذاب مصبِّحهم بعد ثلاث، فلما تغشَّاهم العذاب، قال ابن عباس، وأنس: لم يبق بين العذاب وبينهم إِلا قدر ثلثي ميل، وقال مقاتل: قدر ميل، وقال أبو صالح عن ابن عباس: وجدوا حرَّ العذاب على أكتافهم، وقال سعيد بن جبير: غشيهم العذاب كما يغشى الثوبُ القبرَ، وقال بعضهم: غامت السماء غيماً أسود يُظهر دخانا شديداً، فغشي مدينتهم، واسودَّت سطوحهم، فلما أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح «2» ، وحَثَوْا على رؤوسهم الرماد، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، وعجّوا إلى الله تعالى بالتوبة الصادقة، وقالوا: آمنا بما جاء به يونس، فاستجاب الله منهم. قال ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادَّوا المظالم بينهم، حتى ان كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه، فيرده، وقال أبو الجلْد: لما غشيهم العذاب، مشَوا إِلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا: ما ترى؟ قال: قولوا: يا حيُّ حين لا حيَّ، يا حيُّ مُحيي الموتى، يا حيُّ لا إِله إِلا أنت، فقالوها، فكُشف العذاب عنهم. قال

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 533: واختلف المفسرون: هل كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي؟ أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين، أحدهما: إنما كان ذلك في الحياة الدنيا، كما هو مقيد في هذه الآية. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 8/ 342: قيل: إلى أجلهم قاله السّدي وقيل: إلى أن يصيروا إلى الجنة أو إلى النار، قاله ابن عباس. (2) المسوح: الثياب الخشنة، وفي «اللسان» المسيح: المنديل الأخشن.

[سورة يونس (10) : آية 99]

مقاتل: عجّوا إِلى الله أربعين ليلة، فكُشف العذاب عنهم. وكانت التوبة عليهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة. قال: وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم، فقيل له: ارجع إِليهم، فقال: كيف أرجع إِليهم فيجدوني كاذبا؟ وكان مَن يكذب بينهم ولا بيِّنة له يُقتَل، فانصرف مغاضباً، فالتقمه الحوت. وقال أبو صالح عن ابن عباس: أوحى الله إِلى نبي من أنبياء بني إِسرائيل يقال له شَعيا، فقيل له: ائت فلاناً الملِك، فقل له يبعث إِلى بني إِسرائيل نبياً قوياً أميناً، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال الملك ليونس: اذهب إِليهم، فقال: ابعث غيري، فعزم عليه أن يذهب، فأتى بحر الروم، فركب سفينة، فالتقمه الحوت، فلما خرج من بطنها أُمر أن ينطلق إلى قومه فانطلق نذيراً لهم، فأبَوْا عليه، فوعدهم بالعذاب، وخرج، فلما تابوا رُفع عنهم. والقول الأول أثبت عند العلماء، وأنه إِنما التقمه الحوت بعد إِنذاره لهم وتوبتهم. وسيأتي شرح قصته في التقام الحوت إِياه في مكانه إِن شاء الله تعالى. فإن قيل: كيف كُشف العذاب عن قوم يونس بعد إِتيانه إِليهم، ولم يُكشَف عن فرعون حين آمن؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن ذلك كان خاصاً لهم كما ذكرنا في أول الآية. والثاني: أن فرعون باشره العذاب، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية، فأما الذي يعاين، فلا توبة له، ذكره الزجاج. والثالث: أن الله تعالى علم منهم صدق النيات، بخلاف مَن تقدَّمهم من الهالكين، ذكره ابن الأنباري. [سورة يونس (10) : آية 99] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على إِيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبقت له السعادة. قال الأخفش: جاء بقوله: «جميعا» مع «كل» تأكيداً كقوله: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ «1» . قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ قال المفسرون، منهم مقاتل: هذا منسوخ بآية السيف. والصحيح أنه ليس ها هنا نسخ، لأن الإِكراه على الإِيمان لا يصح، لأنه عمل القلب. [سورة يونس (10) : آية 100] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فيه ستة أقوال: أحدها: بقضاء الله وقدره. والثاني: بأمر الله؟ رُويا عن ابن عباس. والثالث: بمشيئة الله، قاله عطاء والرابع: إِلا أن يأذن الله في ذلك، قاله مقاتل. والخامس: بعلم الله. والسادس: بتوفيق الله، ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري. قوله تعالى: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي: ويجعل الله الرجسَ. وروى أبو بكر عن عاصم «ونجعل الرجس» بالنون. وفيه خمسة أقوال: أحدها: أنه السخط، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: الإِثم والعدوان، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه ما لا خير فيه، قاله مجاهد. والرابع: العذاب، قاله الحسن، وأبو عبيدة، والزجاج. والخامس: العذاب والغضب، قاله الفراء. قوله تعالى: عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه. وقيل: لا يعقلون حججه ودلائل توحيده.

_ (1) سورة النحل: 51.

[سورة يونس (10) : آية 101]

[سورة يونس (10) : آية 101] قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال المفسّرون: قل للمشركين الذين يسألونك الآيات على توحيد الله: انظروا بالتفكر والاعتبار ماذا في السّماوات والأرض من الآيات والعبر التي تدل على وحدانيته ونفاذ قدرته كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، وكلُّ هذا يقتضي خالقاً مدبراً. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ في علم الله. [سورة يونس (10) : الآيات 102 الى 103] فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قوله تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ قال ابن عباس: يعني كفار قريش. إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قال ابن الأنباري: أي: مثل وقائع الله بمن سلف قبلهم، والعرب تكني بالأيام عن الشرور والحروب، وقد تقصد بها أيامَ السرور والأفراح إِذا قام دليل بذلك. قوله تعالى: قُلْ فَانْتَظِرُوا هلاكي إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لنزول العذاب بكم. ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا من العذاب إِذا نزل، فلم يَهلك قوم قط إِلا نجا نبيهم والذين آمنوا معه. قوله تعالى: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ وقرأ يعقوب، وحفص، والكسائي في قراءته وروايته عن أبي بكر: «ننجِ المؤمنين» بالتخفيف. ثم في هذا الإِنجاء قولان: أحدهما: ننجيهم من العذاب إِذا نزل بالمكذِّبين، قاله الربيع بن أنس. والثاني: ننجيهم في الآخرة من النار، قاله مقاتل. [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 106] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يعني أهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الإِسلام فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهي الأصنام وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يقدر أن يميتكم. وقال ابن جرير: معنى الآية: لا ينبغي لكم أن تشكُّوا في ديني، لأني أعبد الله الذي يميت وينفع ويضر، ولا تُستَنكرُ عبادة مَنْ يفعل هذا، وإِنما ينبغي لكم أن تشكُّوا وتُنكروا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفَعُ. فإن قيل: لم قال: الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ولم يقل: «الذي خلقكم» ؟ فالجواب: أن هذا يتضمن تهديدهم، لأن ميعاد عذابهم الوفاة. قوله تعالى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ المعنى: وأُمرت أن أقم وجهك، وفيه قولان: أحدهما: أخلص عملك. والثاني: استقم باقبالك على ما أُمرت به بوجهك. وفي المراد بالحنيف ثلاثة أقوال. أحدها: أنه المتَّبِع، قاله مجاهد. والثاني: المُخلِص، قاله عطاء. والثالث: المستقيم، قاله القرظي قوله تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ إِن دعوته وَلا

[سورة يونس (10) : الآيات 107 إلى 109]

يَضُرُّكَ إِن تركتَ عبادته. و «الظالم» الذي يضع الشيء في غير موضعه. [سورة يونس (10) : الآيات 107 الى 109] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي: بشدة وبلاءٍ فَلا كاشِفَ لذلك إِلَّا هُوَ دون ما يعبده المشركون من الأصنام. وإِن يصبك بخير، أي: برخاء ونعمة وعافية، فلا يقدر أحد أن يمنعك إِياه. يُصِيبُ بِهِ أي: بكل واحد من الضُّر والخير. قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني: محمّد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي: فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه. قوله تعالى: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي: في منعكم من اعتقاد الباطل، والمعنى: لست بحفيظ عليكم من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك. قال ابن عباس: وهذه منسوخة بآية القتال، والتي بعدها أيضاً، وهي قوله: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لأن الله تعالى حكم بقتل المشركين، والجزيةِ على أهل الكتاب، والصّحيح: أنه ليس ها هنا نسخ. أما الآية الأولى، فقد ذكرنا الكلام عليها في نظيرتها في «الأنعام» «1» وأما الثانية، فقد ذكرنا نظيرتها في سورة «البقرة» قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ «2» .

_ (1) سورة الأنعام: 107. [.....] (2) سورة البقرة: 109.

سورة هود

سورة هود (فصل في نزولها:) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكّية كلّها، وبه قال الحسن، وعكرمة، ومجاهد، وجابر بن زيد، وقتادة. وروي عن ابن عباس أنه قال: هي مكّية، إلّا آية، وهي قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ «1» ، وعن قتادة نحوه. وقال مقاتل: هي مكّية كلّها، إلّا قوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ «2» وقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ «3» وقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «4» . وروى أبو بكر الصّديق رضي الله عنه قال: (788) قلت: يا رسول الله، عجل إليك الشّيب، قال: «شيّبتني هود وأخواتها: الحاقّة، والواقعة، وعمّ يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة هود (11) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) فأما آلر فقد ذكرنا تفسيرها في سورة يونس.

_ صحيح، أخرجه الترمذي 3297، والحاكم 2/ 344- 476، والبزار في «البحر الزخار» 1/ 170 من حديث ابن عباس عن أبي بكر به وإسناده صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وكذا صححه الألباني في صحيح الترمذي 3/ 113. وهو كما قالوا. وأخرجه أبو يعلى 107 عن عكرمة عن أبي بكر وهذا منقطع لكن الحجة بما قبله. وله شاهد من حديث أنس: أخرجه البزار 92 «البحر الزخار» ولفظه «قلت: يا رسول الله عجل إليك الشيب، قال: شيبتني هود وأخواتها، والواقعة، والحاقة، عم يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية» . وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري قال: «قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! أسرع إليك الشيب، قال: شيبتني هود وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت» أخرجه البيهقي في «الدلائل» 1/ 358 وفيه عطية العوفي واه. وله شاهد من حديث سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها: الواقعة والحاقة، وإذا الشمس كورت» . أخرجه الطبراني 5804، وقال الهيثمي في «المجمع» 11075: فيه سعيد بن سلام العطار، كذاب. وله شاهد من حديث أبي جحيفة قال: قالوا: يا رسول الله قد شبت، قال: «شيبتني هود وأخواتها» . أخرجه الترمذي في «الشمائل» 41، وأبو يعلى 880، والبغوي 4071. وانظر «تفسير الشوكاني» 1220 و 1230 بتخريجنا.

[سورة هود (11) : الآيات 2 إلى 4]

قال الفرّاء: وكِتابٌ مرفوع بالهجاء الذي قبله، كأنك قلت: حروف الهجاء هذا القرآن، وإِن شئت رفعته باضمار: هذا كتاب، والكتاب: القرآن. وفي قوله: أُحْكِمَتْ آياتُهُ أربعة أقوال: أحدها: أحكمت فلم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتاب والشرائع، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة. والثاني: أُحكمت بالأمر والنهي، قاله الحسن، وأبو العالية. والثالث: أُحكمت عن الباطل، أي: مُنعت، قاله قتادة، ومقاتل. والرابع: أُحكمت بمعنى جُمعت، قاله ابن زيد. فإن قيل: كيف عمَّ الآيات ها هنا بالإِحكام، وخص بعضها في قوله: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ «1» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الإِحكام الذي عمَّ به ها هنا، غير الذي خَصَّ به هناك. وفي معنى الإِحكام العامّ خمسة أقوال، قد أسلفنا منها أربعة في قوله: أُحْكِمَتْ آياتُهُ. والخامس: أنه إِعجاز النظم والبلاغة وتضمين الحِكَم المعجزة. ومعنى الإِحكام الخاص: زوال اللَّبْس، واستواء السامعين في معرفة معنى الآية. والجواب الثاني: أن الإِحكام في الموضعين بمعنى واحد. والمراد بقوله: أُحْكِمَتْ آياتُهُ: أُحكم بعضها بالبيان الواضح ومنع الالتباس، فأُوقعَ العمومُ على معنى الخصوص، كما تقول العرب: قد أكلتُ طعام زيد، يعنون: بعضَ طعامه، ويقولون: قُتلنا وربِّ الكعبة، يعنون: قُتل بعضنا، ذكر ذلك ابن الأنباري. وفي قوله: ثُمَّ فُصِّلَتْ ستة أقوال: أحدها: فصِّلت بالحلال والحرام، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: فصِّلت بالثواب والعقاب، رواه جسر بن فرقد «2» عن الحسن. والثالث: فصِّلت بالوعد والوعيد، رواه أبو بكر الهذلي عن الحسن أيضاً. والرابع: فصِّلت بمعنى فسِّرت، قاله مجاهد. والخامس: أُنزلت شيئاً بعد شيء، ولم تنزل جملة، ذكره ابن قتيبة. والسادس: فصِّلت بجميع ما يُحتاج إِليه من الدلالة على التوحيد، وتثبيت نبوَّة الأنبياء، وإِقامة الشرائع، قاله الزجاج. قوله تعالى: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ أي: من عنده. [سورة هود (11) : الآيات 2 الى 4] أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) قوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قال الفراء. المعنى: فصِّلت آياته بأن لا تعبدوا إلّا الله وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا. «وأن» في موضع النصب بالقائك الخافض. وقال الزجاج: المعنى: آمركم أن لا تعبدوا إلها غيره، وأن استغفروا. قال مقاتل: والمراد بهذه العبادة: التّوحيد، والخطاب لكفّار مكّة.

_ (1) سورة آل عمران: 8. (2) هو أبو جعفر جسر بن فرقد البصري، قال البخاري: ليس بذلك عندهم، وقال ابن معين: ليس بشيء. انظر «الميزان» 1/ 398.

[سورة هود (11) : آية 5]

قوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فيه قولان: أحدهما: أن الاستغفار والتوبة هاهنا من الشرك، قاله مقاتل. والثاني: استغفروه من الذنوب السالفة، ثم توبوا إِليه من المستأنفة متى وقعت. وذُكر عن الفراء أنه قال: «ثم» ها هنا بمعنى الواو. قوله تعالى: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً قال ابن عباس: يتفضل عليكم بالرزق والسَّعَة. وقال ابن قتيبة: يُعمِّركْم. وأصل الإِمتاع: الإِطالة، يقال: أمتع الله بك، ومتَّع الله بك، إِمتاعاً ومتاعاً، والشيء الطويل: ماتع، يقال: جبل ماتع، وقد متاع النهار: إِذا تطاول. وفي المراد بالأجل المسمى قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة. والثاني: أنه يوم القيامة، قاله سعيد بن جبير. قوله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: ويؤت كل ذي فضل من حسنةٍ وخيرٍ فضله، وهو الجنة. والثاني: يؤتيه فضله من الهداية إِلى العمل الصالح. والثاني: أنها ترجع إلى العبيد، فيكون المعنى: ويؤت كل من زاد في إِحسانه وطاعاته ثواب ذلك الفضل الذي زاده، فيفضِّله في الدنيا بالمنزلة الرفيعة، وفي الآخرة بالثواب الجزيل. قوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا أي: تُعرضوا عما أُمرتم به. وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي، وأبو مجلز، وأبو رجاء: «وإِن تُوَلُّوا» بضم التاء. فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ فيه إضمار «فقل» . واليوم الكبير: يوم القيامة. [سورة هود (11) : آية 5] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ، في سبب نزولها خمسة أقوال: (789) أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وكان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف إِنه ليحبّه، ويضمر خلاف ما يُظهر له، فنزلت فيه هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (790) والثاني: أنها نزلت في ناس كانوا يستحيون أن يُفضوا إِلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه محمد بن عباد عن ابن عباس. (791) والثالث: أنها نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه لئلّا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قاله عبد الله بن شدّاد.

_ لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته الكلبي، وهو ممن يضع الحديث. ذكره البغوي في «تفسيره» 2/ 373، عن ابن عباس بدون إسناد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 537 بدون إسناد. صحيح. أخرجه البخاري 4681 والطبري 17965 من حديث محمد بن عباد عن ابن عباس. ضعيف. أخرجه الطبري 17952 و 17953 و 17954 عن عبد الله بن شداد بن الهاد به ورجاله ثقات إلا أنه مرسل ابن شداد تابعي والخبر واه.

(792) والرابع: أن طائفة من المشركين قالوا: إِذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمّد صلى الله عليه وسلم، كيف يعلم بنا؟ فأخبر الله عما كتموا، ذكره الزّجّاج. (793) والخامس: أنها نزلت في قوم كانوا لشدة عداوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا سمعوا منه القرآن حنَوا صدورهم، ونكسوا رؤوسهم، وتغشوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يقال: ثنيت الشيء: إِذا عطفته وطويته. وفي معنى الكلام خمسة أقوال: أحدها: يكتمون ما فيها من العداوة لمحمّد عليه السلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: يثنون صدورهم على الكفر، قاله مجاهد. والثالث: يحنونها لئلا يسمعوا كتاب الله، قاله قتادة. والرابع: يثنونها إِذا ناجى بعضهم بعضا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد. والخامس: يثنونها حياءً من الله تعالى، وهو يخرَّج على ما حكينا عن ابن عباس. قال ابن الأنباري: وكان ابن عباس يقرؤها «ألا إِنهم تَثْنَوْني صدورُهم» وفسرها أن ناساً كانوا يستحيون أن يُفضوا إِلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء. فَتَثْنَوْنِي: تفْعَوْعِلُ، وهو فعل للصدور، معناه: المبالغة في تثنّي الصدور، كما تقول العرب: احلولى الشيء، يحلَولي: إِذا بالغوا في وصفه بالحلاوة، قال عنترة: ألا قَاتَلَ اللهُ الطُّلُولَ البَوَالِيَا ... وقَاتَلَ ذِكْرَاكَ السنينَ الخَوَالِيَا «1» وقَوْلَكَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لاَ تَنَالُهُ ... إِذا ما هُوَ احْلَوْلَى ألا لَيْتَ ذا ليا فعلى هذا القول، هو في حق المؤمنين، وعلى بقية الأقوال، هو في حق المنافقين. وقد خُرِّج من هذه الأقوال في معنى يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قولان: أحدهما: أنه حقيقة في الصدور. والثاني: أنه كتمان ما فيها. قوله تعالى: لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ في هاء مِنْهُ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى. والثاني: إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ قال أبو عبيدة: العرب تدخل «ألا» توكيداً وإِيجاباً وتنبيهاً. قال ابن قتيبة: «يستغشون ثيابهم» : أي: يتغشَّونها ويستترون بها. قال قتادة: أخفى ما يكون ابن آدم، إذا حتى ظهره، واستغشى ثيابه، وأضمر همَّه في نفسه. قال ابن الأنباري: أعلم الله أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهراتهم. قوله تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قد شرحناه في سورة آل عمران «2» .

_ لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولعل ابن الأنباري استنبطه من الآية، ولم يروه عن أحد. والله أعلم. ضعيف. أخرجه الطبري 17962 و 17963 عن قتادة مرسلا، مع اختلاف يسير فيه وهو ضعيف لإرساله.

[سورة هود (11) : الآيات 6 إلى 7]

[سورة هود (11) : الآيات 6 الى 7] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ قال أبو عبيدة: «مِنْ» من حروف الزوائد، والمعنى: وما دابة، والدابة: اسم لكل حيوان يدبّ. وقوله تعالى: إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها قال العلماء: فضلاً منه لا وجوبا عليه. و «على» ها هنا بمعنى «مِنْ» . وقد ذكرنا المستقر والمستودع في سورة الأنعام «1» . قوله تعالى: كُلٌّ فِي كِتابٍ أي: ذلك عند الله في اللوح المحفوظ، هذا قول المفسرين. وقال الزجاج: المعنى: ذلك ثابت في علم الله عزّ وجلّ. قوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قال ابن عباس: عرشه: سريره، وكان الماء إِذْ كان العرش عليه على الريح. قال قتادة: ذلك قبل أن يخلق السّماوات والأرض. قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم الاختبار الذي يجازي عليه، فيثيب المعتبر بما يرى من آيات السّماوات والأرض. ويعاقب أهل العناد. قوله تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه أربعة أقوال: (794) أحدها: «أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله عزّ وجلّ، وأسرع في طاعة الله» رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أيكم أعمل بطاعة الله، قاله ابن عباس. والثالث: أيكم أتم عقلاً، قاله قتادة. والرابع: أيكم أزهد في الدنيا، قاله الحسن وسفيان. قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قال الزجاج: السحر باطل عندهم، فكأنهم قالوا: إِن هذا إِلا باطل بيِّن، فأعلمهم الله تعالى أنّ القدرة على خلق السّماوات والأرض تدلّ على بعث الموتى. [سورة هود (11) : آية 8] وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) قوله تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ قال المفسرون: هؤلاء كفار مكة، والمراد بالأمَّة المعدودة: الأجل المعلوم، والمعنى: إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها. لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ وإِنما قالوا ذلك تكذيبا واستهزاءً. قوله تعالى: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ وقال: لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ. وقال بعضهم: لا يُصرف عنهم العذاب إِذا أتاهم. وقال آخرون: إذا أخذتهم سيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تغمد

_ باطل. أخرجه الطبري 18003 من حديث ابن عمر، ومداره على داود بن المجبر، وهو متهم بوضع كتاب «فضل العقل» ، راجع ترجمته في «الميزان» . وهذا الحديث ذكر فيه العقل كما ترى.

[سورة هود (11) : آية 9]

عنهم حتى يباد أهل الكفر وتعلوَ كلمة الإِخلاص. قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ قال أبو عبيدة: نزل بهم وأصابهم. وفي قوله: ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قولان: أحدهما: أنه الرسول صلى الله عليه وسلم والكتاب، قاله أبو صالح عن ابن عباس، فيكون المعنى: حاق بهم جزاء استهزائهم. والثاني: أنه العذاب، كانوا يستهزئون بقولهم: ما يَحْبِسُهُ، وهذا قول مقاتل. [سورة هود (11) : آية 9] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. قاله ابن عباس. والثاني: في عبد الله بن أبي أمية المخزومي، ذكره الواحدي والثالث: أن الإنسان ها هنا اسم جنس، والمعنى: ولئن أذقنا الناس، قاله الزجاج. والمراد بالرحمة: النعمة، من العافية، والمال، والولد. واليؤوس: القنوط، قال أبو عبيدة: هو فعول من يئستُ. قال مقاتل: إِنه ليؤوس عند الشدة من الخير، كفور لله في نعمه في الرّخاء. [سورة هود (11) : آية 10] وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ قال ابن عباس: صحة وسَعة في الرزق بَعْدَ ضَرَّاءَ بعد مرض وفقر. لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي يريد الضر والفقر. إِنَّهُ لَفَرِحٌ أي: بَطِرٌ. فَخُورٌ قال ابن عباس: يفاخر أوليائي بما أوسعت عليه. فإن قيل: ما وجه عيب الإِنسان في قوله: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، وما وجه ذمه على الفرح، وقد وصف الله الشهداء فقال تعالى: فَرِحِينَ؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: إِنما عابه بقوله: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي لأنه لم يعترف بنعمة الله ولم يحمَده على ما صُرف عنه. وإِنما ذمه بهذا الفرح لأنه يرجع إِلى معنى المرح والتكبُّر عن طاعة الله، قال الشاعر: ولا يُنْسينيَ الحَدَثَانُ عِرْضِي ... ولا أُلقِي من الفَرَحِ الإِزارا «1» يعني من المرح. وفرح الشهداءِ فرحٌ لا كِبْر فيه ولا خُيلاء، بل هو مقرون بالشكر فهو مستحسن. [سورة هود (11) : آية 11] إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا قال الفراء: هذا الاستثناء من الانسان، لأنه في معنى الناس، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «2» . وقال الزجاج: هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكنِ الذين صبروا. قال ابن عباس: الوصف الأول للكافر، والذين صبروا أصحاب محمد عليه السلام.

_ (1) البيت لابن أحمر. وفي «اللسان» حدثان الدهر وحوادثه: نوبه وما يحدث منه. (2) سورة العصر: 2- 3.

[سورة هود (11) : آية 12]

[سورة هود (11) : آية 12] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ. سبب نزولها. (795) أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ «1» فهمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يُسمعهم عيب آلهتهم رجاء أن يتَّبعوه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: فلعلك تارك تبليغ بعض ما يوحى إِليك من أمر الآلهة، وضائق بما كُلّفتَه من ذلك صدرُك، خشية أن يقولوا. لولا أُنزل عليه كنز. والثاني: فلعلك لِعظيم ما يرد على قلبك من تخليطهم تتوهَّمُ أنهم يُزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربك. فأما الضائق، فهو بمعنى الضيِّق. قال الزجاج: ومعنى أَنْ يَقُولُوا: كراهية أن يقولوا. وإِنما عليك أن تنذرهم بما يُوحى إِليك، وليس عليك أن تأتيهم باقتراحهم من الآيات. قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الحافظ. والثاني: الشهيد، وقد ذكرناه في سورة آل عمران «2» . [سورة هود (11) : الآيات 13 الى 14] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «أم» بمعنى «بل» ، و «افتراه» أتى به من قِبَل نفسه. قُلْ فَأْتُوا أنتم في معارضتي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في البلاغة مُفْتَرَياتٍ بزعمكم ودعواكم وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلى المعاونة على المعارضة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم: «افتراه» . فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي يجيبوكم إِلى المعارضة فقد قامت الحجة عليهم لكم. فإن قيل: كيف وحَّد القول في قوله: «قل فأتوا» ثم جمع في قوله: «فإن لم يستجيبوا لكم» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنّ الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وحده في الموضعين، فيكون الخطاب له بقوله «لكم» تعظيماً، لأن خطاب الواحد بلفظ الجميع تعظيم، هذا قول المفسرين. والثاني: أنه وحَّد في الأول لخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. وجمع في الثاني لمخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قاله ابن الأنباري. قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: أنزله وهو عالم بانزاله، وعالم بأنه حق من عنده. والثاني: أنزله بما أخبر فيه من الغيب، ودلَّ على ما سيكون وما سلف، ذكرهما الزّجّاج.

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان إذا أطلق، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.

[سورة هود (11) : الآيات 15 إلى 16]

قوله تعالى: وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: واعلموا ذلك. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ استفهام بمعنى الأمر. وفيمن خوطب به قولان: أحدهما: أهل مكة، ومعنى إِسلامهم: إِخلاصهم لله العبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله مجاهد. [سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها عامة في جميع الخلق، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنها في أهل القبلة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنها في اليهود والنصارى، قاله أنس. والرابع: أنها في أهل الرياء، قاله مجاهد. وروى عطاء عن ابن عباس: من كان يريد عاجل الدنيا ولا يؤمن بالبعث والجزاء. وقال غيره: إِنما هي في الكافر، لأن المؤمن يريد الدنيا والآخرة. قوله تعالى: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ أي: أجور أعمالهم فِيها. قال سعيد بن جبير: أُعطوا ثواب ما عملوا من خير في الدنيا. وقال مجاهد: مَنْ عمل عملاً من صِلة، أو صدقة، لا يريد به وجه الله، أعطاه الله ثواب ذلك في الدنيا، ويدرأ به عنه في الدنيا. قوله تعالى: وَهُمْ فِيها قال ابن عباس: أي في الدنيا لا يُبْخَسُونَ أي لا يُنقصون من أعمالهم في الدنيا شيئاً أُولئِكَ الَّذِينَ عملوا لغير الله لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا أي ما عملوا في الدنيا من حسنة وَباطِلٌ ما كانُوا لغير الله سبحانه يَعْمَلُونَ. (فصل:) وذكر قوم من المفسرين، منهم مقاتل، أن هذه الآية اقتضت أن من أراد الدنيا بعمله، أعطي فيها ثواب عمله من الرزق والخير، ثم نُسخ ذلك بقوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ «1» ، وهذا لا يصح، لأنه لا يوفّي إِلا لمن يريد. [سورة هود (11) : الآيات 17 الى 18] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ في المراد أربعة أقوال: أحدها: أنها الدين، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الضحاك. والثالث: القرآن، قاله ابن زيد. والرابع: البيان، قاله مقاتل. وفي المشار إليه ب «مَنْ» قولان: أحدهما: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: أنهم المسلمون، وهو يخرَّج على قول الضحاك. وفي قوله تعالى:

_ (1) سورة الإسراء: 18.

وَيَتْلُوهُ قولان: أحدهما: يتبعه. والثاني: يقرؤه. وفي هاء «يتلوه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني: إِلى القرآن، وقد سبق ذكره في قوله: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ «1» . وفي المراد بالشاهد ثمانية أقوال «2» : أحدها: أنه جبريل، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وإِبراهيم في آخرين. والثاني: أنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتلو القرآن، قاله علي بن أبي طالب، والحسن، وقتادة في آخرين. والثالث: أنه علي بن أبي طالب. و «يتلوه» بمعنى يتبعه، رواه جماعة عن علي بن أبي طالب «3» ، وبه قال محمد بن علي، وزيد بن عليّ. والرابع: أنه رسول لله صلى الله عليه وسلم هو شاهد من الله عزّ وجلّ. قاله الحسين بن علي عليه السلام. والخامس: أنه ملَك يحفظه ويسدده، قاله مجاهد. والسادس: أنه الإِنجيل يتلو القرآن بالتصديق، وإِن كان قد أنزل قبله، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بشَّرت به التوراة، قاله الفراء. والسابع: أنه القرآن ونظمه وإِعجازه، قاله الحسين بن الفضل. والثامن: أنه صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخايله، لأن كل عاقل نظر إِليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هاء «منه» ثلاثة أقوال. أحدها: أنها ترجع إِلى الله تعالى. والثاني: إِلى النبي صلى الله عليه وسلم. والثالث: إِلى البيِّنة. قوله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ في هذه الهاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد. والثاني: إِلى القرآن، قاله ابن زيد. والثالث: إِلى الإِنجيل، أي: ومن قبل الإِنجيل كِتابُ مُوسى يتبع محمداً بالتصديق له، ذكره ابن الأنباري. قال الزجاج: والمعنى: وكان من قبل هذا كتاب موسى دليلاً على أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون «كتاب موسى» عطفا على قوله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أي: ويتلوه كتاب موسى عليه السّلام، لأنّ موسى وعيسى عليهما السّلام بشّرا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة والإِنجيل. ونصب «إِماما» على الحال. فإن قيل: كيف تتلوه التوراة، وهي قبله؟ قيل: لما بشَّرت به، كانت كأنها تالية له، لأنها تبعته بالتصديق له. وقال ابن الأنباري: «كتاب موسى» مفعول في المعنى، لأن جبريل تلاه على موسى عليه السّلام، فارتفع الكتاب، وهو مفعول بمضمر بعده، تأويله: ومن قبله كتاب موسى كذاك، أي: تلاه جبريل أيضاً، كما تقول العرب: أكرمت أخاك وأبوك، فيرفعون الأب، وهو مكرَم على الاستئناف،

_ (1) سورة هود: 13. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» : 2/ 542 وقوله: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ، أي وجاءه شاهد من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة المختتمة بشريعة محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، وأبو العالية والضحاك وإبراهيم النخعي، والسدي، وغير واحد في قوله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ: إنه جبريل عليه السلام. وعن علي، والحسن، وقتادة: وهو محمد صلى الله عليه وسلم- وكلاهما قريب في المعنى، لأن كلا من جبريل ومحمد صلوات الله عليهما بلغ رسالة الله تعالى، فجبريل إلى محمد، ومحمد إلى الأمة. وقيل: هو علي وهو ضعيف لا يثبت له قائل. والأول والثاني هو الحق، وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة بما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة، والفطرة تصدقها وتؤمن بها ولهذا قال تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وهو القرآن، بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبلغه النبي محمد إلى أمته. (3) باطل، لا يصح تخصيص علي بذلك من بين الصحابة، وهو من بدع التأويل وكونه ورد عن علي، فقد أخرجه الطبري 18062، وفيه جابر بن يزيد الجعفي، وهو متهم بالكذب، كذبه أبو حنيفة وغيره.

بمعنى: وأبوك مكرَم أيضاً. قال: وذهب قوم إِلى أن كتاب موسى فاعل، لأنه تلا محمداً بالتصديق كما تلاه الإِنجيل. (فصل:) فتلخيص الآية: أفمن كان على بيِّنة من ربه كمن لم يكن؟ قال الزجاج: ترك المضادَّ له، لأن في ما بعده دليلاً عليه، وهو قوله: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ» . وقال ابن قتيبة: لما ذكر قبل هذه الآية قوما ركنوا إِلى الدنيا، جاء بهذه الآية، وتقدير الكلام: أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم، إِذ كان فيه دليل عليه. وقال ابن الأنباري: إِنما حُذف لانكشاف المعنى، والمحذوف المقدَّر كثير في القرآن والشعر، قال الشاعر: فأُقْسِمُ لَوْ شيءٌ أتانا رسولُه ... سواكَ، وَلكِن لم نَجِدْ لكِ مَدْفعا «2» فإن قلنا: إِن المراد بمن كان على بيِّنة من ربه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعنى الآية: ويتبع هذا النبيَّ شاهد، وهو جبريل عليه السلام «منه» أي: من الله. وقيل: «شاهد» هو علي بن أبي طالب عليه السّلام «3» ، «منه» أي: من النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: «يتلوه» يعني القرآن، يتلوه جبريل، وهو شاهد لمحمّد صلى الله عليه وسلم أن الذي يتلوه جاء من عند الله تعالى. وقيل: ويتلو رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وهو شاهد من الله تعالى. وقيل: ويتلو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ، فلسانه شاهد منه. وقيل: ويتبع محمداً شاهد له بالتصديق، وهو الإِنجيل من الله تعالى. وقيل: ويتبع هذا النبي شاهد من نفسه، وهو سَمْتُه وهديه الدالُّ على صدقه. وإِن قلنا: إِن المراد بمن كان على بيِّنة من ربه المسلمون، فالمعنى: أنهم يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو البيِّنة، ويتبع هذا النبي شاهد له بصدقه. قوله تعالى: إِماماً وَرَحْمَةً إِنما سماه إِماماً، لأنه كان يهتدى به، وَرَحْمَةً أي: وذا رحمة، وأراد بذلك التوراة، لأنها كانت إِماما وسبباً لرحمة من آمن بها. قوله تعالى: أُولئِكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إِشارة إِلى أصحاب موسى. والثاني: إِلى أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم. والثالث: إِلى أهل الحق من أُمة موسى وعيسى ومحمد. وفي هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى التوراة. والثاني: إِلى القرآن. والثالث: إلى محمّد صلى الله عليه وسلم. وفي المراد بالأحزاب هاهنا أربعة أقوال: أحدها: جميع الملل، قاله سعيد بن جبير. والثاني: اليهود والنصارى، قاله قتادة. والثالث: قريش، قاله السدي. والرابع: بنو أُمية، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي، وآل طلحة بن عبد العُزّى، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أي: إِليها مصيره، قال حسان بن ثابت: أَوْرَدْتُمُوها حِيَاضَ «4» المَوْتِ ضَاحِيَةً ... فالنّار موعدها والموت لاقيها قوله تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ قرأ الحسن، وقتادة «مُرية» بضم الميم أين وقع. وفي المكنّى

_ (1) سورة هود: 24. (2) البيت لامرئ القيس كما في ديوانه: 242. (3) تقدم أنه باطل، وأنه من بدع التأويل. (4) في «القاموس» حياض: جمع حوض: من حاضت المرأة، أو من حاض الماء: جمعه، وحوضا اتخذه.

[سورة هود (11) : آية 19]

عنه قولان: أحدهما: أنه الإِخبار بمصير الكافر به، فالمعنى: فلا تك في شك أن موعد المكذِّب به النار، وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنه القرآن، فالمعنى: فلا تك في شك من أن القرآن من الله تعالى، قاله مقاتل. قال ابن عباس: والمراد بالناس هاهنا: أهل مكة. قوله تعالى: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ قال الزجاج: ذكر عرضهم توكيداً لحالهم في الانتقام منهم، وإِن كان غيرهم يعرض أيضاً. فأما «الأشهاد» ففيهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم الرسل، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الملائكة، قاله مجاهد وقتادة. والثالث: الخلائق، روي عن قتادة أيضاً. وقال مقاتل: «الأشهاد» الناس، كما يقال: على رؤوس الأشهاد، أي على رؤوس الناس. والرابع: الملائكة والنّبيّون وأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم يشهدون على الناس، والجوارح تشهد على ابن آدم، قاله ابن زيد. والخامس: الأنبياء والمؤمنون، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وفائدة إِخبار الأشهاد بما يعلمه الله تعظيم بالأمر المشهود عليه ودفع المجاحدة فيه. [سورة هود (11) : آية 19] الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) قوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قد تقدّم تفسيرها في سورة الأعراف «1» . قوله تعالى: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ قال الزجاج: ذُكرت «هم» ثانية على جهة التّوكيد لشأنهم في الكفر. [سورة هود (11) : الآيات 20 الى 21] أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) قوله تعالى: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: لم يُعجزوني أن آمر الأرض فتُخسف بهم. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي: لا وليِّ لهم ممن يعبدون يمنعهم مني. وقال ابن الأنباري: لما كانت عادة العرب جارية بقولهم: لا وزَرَ لك مني ولا نَفَق، يعنون بالوزر: الجبل، والنفق: السرَبَ، وكلاهما يلجأ إِليه الخائف، أعلم الله تعالى أن هؤلاء الكافرين لا يسبقونه هرباً، ولا يجدون ما يحجز بينهم وبين عذابه من جميع ما يستر من الأرض ويُلجأ إِليه. قال: وقوله: مِنْ أَوْلِياءَ يقتضي محذوفاً، تلخيصه: من أولياءَ يمنعونهم من عذاب الله، فحذف هذا لشهرته. قوله تعالى: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ يعني الرؤساء الصادِّين عن سبيل الله، وذلك لإِضلالهم أتباعهم واقتداءِ غيرهم بهم. وقال الزجاج: لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي: في دار الدنيا، ولا لهم ولي يمنع من انتقام الله، ثم استأنف: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ لعظم كفرهم بنبيه وبالبعث والنشور. قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فيمن عني بهذا قولان. أحدهما: أنهم الكفار. ثم في معناه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم لم يقدروا على استماع الخير،

_ (1) في الآية: 45.

[سورة هود (11) : الآيات 22 إلى 24]

وإِبصار الحق، وفعل الطاعة، لأن الله تعالى حال بينهم وبين ذلك، هذا معنى قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أن المعنى: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون حُجج الله ولا يعتبرون بها، فحذف الباء، كما تقول العرب: لأجزينَّك ما عملت، وبما عملت، ذكره الفراء، وأنشد ابن الأنباري في الاحتجاج له: نُغالي اللحمَ للأضياف نيِئا ... ونبذُله إِذا نضِجَ القُدورُ «1» أراد: نغالي باللحم. والثالث: أنهم من شدة كفرهم وعداوتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما كانوا يستطيعون السّمع ليفهموا ما يقول، قاله الزجاج. والقول الثاني: أنهم الأصنام، فالمعنى ما كان للآلهة سمع ولا بصر، فلم تستطع لذلك السمع، ولم تكن تبصر. فعلى هذا، يرجع قوله: «ما كانوا» إِلى أوليائهم، وهي الأصنام، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس أيضا. [سورة هود (11) : الآيات 22 الى 24] لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) قوله تعالى: لا جَرَمَ قال ابن عباس: يريد: حقاً إِنهم الأخسرون. وقال الفراء: لا جَرَمَ كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك، وكثر استعمالهم إِياها حتى صارت بمنزلة «حقا» ، ألا ترى أن العرب تقول: لا جرم لآتينَّك، لا جرم لقد أحسنت، وأصلها من جرمتُ، أي: كسبت الذنب. قال الزجاج: ومعنى لا جَرَمَ: «لا» نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، كأن المعنى: لا ينفعهم ذلك جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون، أي كسب لهم ذلك الفعلُ الخسرانَ. وذكر ابن الأنباري أن «لا» رد على أهل الكفر فيما قدَّروه من اندفاع الشر عنهم في الآخرة، والمعنى: لا يندفع عنهم عذابي، ولا يجدون ولياً يصرف عنهم نقمتي، ثم ابتدأ مستأنفاً «جرم» ، قال: وفيها قولان: أحدهما: أنها بمعنى: كسب كفرهم وما قدَّروا من الباطل وقوعَ العذاب بهم. ف جَرَمَ فعل ماض، معناه: كسب، وفاعله مُضمر فيه من ذكر الكفر وتقرير الباطل. والثاني: أن معنى جرم: أحقَّ وصحَّحَ، وهو فعل ماض، وفاعله مضمر فيه، والمعنى: أحقَّ كفرُهم وقوعَ العذاب والخسران بهم، قال الشاعر: ولقد طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طعنةً ... جرمت فزارة بعدها أن يَغْضَبُوا «2» أراد: حقت الطعنةُ فزارة بالغضب. ومن العرب من يغيِّرُ لفظ «جرم» مع «لا» خاصة، فيقول بعضهم: «لا جُرْم» ، ويقول آخرون: «لا جَرْ» باسقاط الميم، ويقال: «لاذا جرم» و «لاذا جر» بغير ميم، و «لا إِن ذا جرم» و «لا عن ذا جرم» ، ومعنى اللغات كلها: حقا.

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» ، مادة «غلا» ولم ينسبه لأحد. ونغالي: من الغلاء، وهو نقيض الرخص، وغالى بالشيء: اشتراه بثمن غال. (2) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «جرم» ونسبه لأبي أسماء بن الضريبة.

قوله تعالى: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ فيه سبعة أقوال: أحدها: خافوا ربهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنابوا إلى ربهم، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: ثابوا إِلى ربهم، قاله قتادة. والرابع: اطمأنوا، قاله مجاهد. والخامس: أخلصوا، قاله مقاتل. والسادس: تخشَّعوا لربهم، قاله الفراء. والسابع: تواضعوا لربهم، قاله ابن قتيبة. فإن قيل: لم أوثرت «إِلى» على اللام في قوله: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، والعادة جارية بأن يقال: أخبتوا لربهم؟ فالجواب: أن المعنى: وَجَّهوا خوفَهم وخشوعهم وإِخلاصهم إِلى ربهم، واطمأنوا إِلى ربهم. قال الفراء: وربما جعلت العرب «إِلى» في موضع اللام، كقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «1» ، وقوله تعالى: الَّذِي هَدانا لِهذا «2» . وقد يجوز في العربية: فلان يخبت إِلى الله، يريد: يفعل ذلك موجهَه إِلى الله. قال بعض المفسرين: هذه الآية نازلة في أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم، وما قبلها نازل في المشركين. ثم ضرب للفريقين مثلا، فقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ قال مجاهد: الفريقان: المؤمن والكافر. فأما الأعمى والأصم فهو الكافر، وأما البصير والسميع فهو المؤمن. قال قتادة: الكافر عَمِيَ عن الحق وصُمَّ عنه، والمؤمن أبصرَ الحق وسمعَه ثم انتفع به. وقال أبو عبيدة: في الكلام ضمير، تقديره: مثل الفريقين كمثل الأعمى. وقال الزجاج: مثل الفريقين المسلِمَين كالبصير والسميع، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم، لأنهم في عداوتهم وتركهم للفهم بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر. قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي: هل يستويان في المشابهة؟ والمعنى: كما لا يستويان عندكم، كذلك لا يستوي المؤمن والكافر عند الله عزّ وجلّ وقال أبو عبيدة: «هل» هاهنا بمعنى الإِيجاب. لا بمعنى الاستفهام، والمعنى: لا يستويان. قال الفراء: وإِنما لم يقل: «يستوون» لأن الأعمى والأصم من صفةِ واحدٍ، والسميع والبصير من صفةِ واحدٍ، كقول القائل: مررت بالعاقل واللبيب، وهو يعني واحداً قال الشاعر: وما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرضاً ... أُريدُ الخَيْرَ أيهما يليني «3» فقال: أيهما. وإِنما ذكر الخير وحده، لأن المعنى يُعرف، إِذ المبتغي للخير متَّقٍ للشر. وقال ابن الأنباري: الأعمى والأصم صفتان لكافر، والسميع والبصير صفتان لمؤمن، فرُدَّ الفعلُ إِلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة، كما تقول: العاقل والعالم، والظالم والجاهل، حضرا مجلسي، فتثنِّي الخبر بعد ذكرك أربعة، لأن الموصوف بالعلم هو الموصوف بالعقل، وكذلك المنعوت بالجهل هو المنعوت بالظلم، فلما كان المنعوتان اثنين، رجع الخبر إِليهما، ولم يُلتفت إِلى تفريق الأوصاف، ألا ترى أنه يسوغ أن تقول: الأديب واللبيب والكريم والجميل قصدني، فتوحِّد الفعل بعد أوصاف لعلة أن الموصوف بهن واحد، ولا يمتنع عطف النعوت على النعوت بحروف العطف، والموصوفُ واحد، فقد قال تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ثم قال: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فلم يقتض دخولُ الواو وقوعَ خلاف بين الآمرين والناهين، وقد قيل: الآمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر في حال أمره، وكان

_ (1) سورة الزلزال: 5. (2) سورة الأعراف: 43. (3) تقدم في سورة البقرة عند الآية: 180. [.....]

[سورة هود (11) : الآيات 25 إلى 29]

دخول الواو دلالة على الآمر بالمعروف، لأن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر، كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين، ويدل أيضاً على أن العرب تنسق النعت على النعت والمنعوت واحد، كقول الشاعر يخاطب سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان: يَظُنُّ سعيدٌ وابنُ عمروٍ بأننَّي ... إِذا سامَني ذلاً أكونُ به أرْضَى فنسق ابن عمرو على سعيد، وهو سعيد. [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 29] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي «أني» بفتح الألف، والتقدير: أرسلناه بأني، وكأن الوجه بأنه لهم نذير، ولكنه على الرجوع من الإِخبار عن الغائب إِلى خطاب نوح لقومه. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة «إِني» بكسر الألف، فحملوه على القول المضمر، والتقدير: فقال لهم: إِني لكم نذير. قوله تعالى: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي: إِنساناً مثلنا، لا فضل لك علينا. فأما الأراذل، فقال ابن عباس: هم السَّفَلة. وقال ابن قتيبة: هم جمع «أرذل» ، يقال: رجل رَذْل، وقد رَذُل رذالة ورُذُولة. ومعنى: الأراذل: الشرار. قوله تعالى: بادِيَ الرَّأْيِ قرأ الأكثرون «بادِيَ» بغير همز. وقرأ أبو عمرو بالهمز بعد الدال. وكلهم همز «الرأي» غير أبي عمرو. وللعلماء في معنى «بادي» إذا لم يُهمز ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: ما نرى أتباعك إِلا سفلتنا وأرذالنا في بادي الرأي لكل ناظر، يعنون أن ما وصفناهم به من النقص لا يخفى على أحد فيخالفنا، هذا مذهب مقاتل في آخرين. والثاني: أن المعنى أن هؤلاء القوم اتَّبعوك في ظاهر ما يُرى منهم، وطويَّتُهم على خلافك. والثالث: أن المعنى: اتبعوك في ظاهر رأيهم، ولم يتدبروا ما قلتَ، ولو رجعوا إِلى التفكر لم يتبعوك، ذكر هذين القولين الزجاج. قال ابن الأنباري: وهذه الثلاثة الأقوال على قراءة من لم يهمز، لأنه مِن بدا، يبدو: إذا ظهر. فأمّا من همز «بادئ» فمعناه: ابتداء الرأي، أي: اتَّبعوك أول ما ابتدءوا ينظرون، ولو فكروا لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك. قوله تعالى: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من فضل في الخلق، قاله ابن عباس. والثاني: في الملك والمال ونحو ذلك، قاله مقاتل. والثالث: ما فُضِّلتم باتِّباعكم نوحاً، ومخالفتكم لنا بفضيلة نتبعكم طلبا لها، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.

[سورة هود (11) : الآيات 30 إلى 34]

قوله تعالى: بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فيه قولان: أحدهما: نتيقنكم، قاله الكلبي. والثاني: نحسبكم، قاله مقاتل. قوله تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي: على يقين وبصيرة. قال ابن الأنباري: وقوله: «إِن كنت» شرط لا يوجب شكّاً يلحقه، لكن الشك يلحق المخاطَبين من أهل الزيغ، فتقديره: إِن كنتُ على بينة من ربي عندكم. وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فيها قولان: أحدهما: أنها النبوَّة، قاله ابن عباس. والثاني: الهداية، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «فَعَمِيَتْ» بتخفيف الميم وفتح العين. قال ابن قتيبة: والمعنى: عميتم عنها، يقال: عمي عليَّ هذا الأمر: إِذا لم أفهمه، وعميت عنه بمعنى. قال الفراء: وهذا مما حوَّلت العرب الفعل إِليه، وهو في الأصل لغيره، كقولهم: دخل الخاتم في يدي، والخف في رجلي، وإِنما الإِصبع تدخل في الخاتم، والرجل في الخف، واستجازوا ذلك إِذ كان المعنى معروفاً. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «فعُمِّيَتْ» بضم العين وتشديد الميم. قال ابن الأنباري: ومعنى ذلك: فعمّاها الله عليكم إِذ كنتم ممن حُكم عليه بالشقاء. وكذلك قرأ أُبَيّ بن كعب، والأعمش: «فعمّاها عليكم» . وفي المشار إليها قولان: أحدهما: البيِّنة. والثاني: الرحمة. قوله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوها أي: أنُلزمكم قبولها؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، يقول: لا نقدر أن نُلزمكم من ذات أنفسنا. قال قتادة: والله لو استطاع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه، ولكن لم يملك ذلك «1» . وقيل: كان مراد نوح عليه السلام ردَّ قولهم: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فبيَّن فضله وفضل مَن آمن به بأنه على بيِّنة من ربه، وقد آتاه رحمةً من عنده، وسُلب المكذِّبون ذلك. قوله تعالى: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: على نصحي ودعائي إياكم مالاً فتتهموني. وقال ابن الأنباري: لما كانت الرحمة بمعنى الهدى والإِيمان، جاز تذكيرها. قوله تعالى: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا قال ابن جريج: سألوه طردهم أنفة منهم، فقال: لا يجوز لي طردهم، إِذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بايمانهم، ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغَّر شؤونهم. وفي قوله تعالى: وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ قولان: أحدهما: تجهلون أن هذا الأمر من الله تعالى، قاله ابن عباس. والثاني: تجهلون لأمركم إِياي بطرد المؤمنين، قاله أبو سليمان. [سورة هود (11) : الآيات 30 الى 34] وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)

_ (1) أخرجه الطبري رحمه الله في «تفسيره» 18121، عن قتادة قوله.

[سورة هود (11) : آية 35]

قوله تعالى: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي أي: من يمنعني من عذاب الله إِن طردتهم. قوله تعالى: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ قال ابن الأنباري: أراد بالخزائن: عِلمَ الغيب المطوي عن الخلق، لأنهم قالوا له: إنما اتَّبعك هؤلاء في الظاهر وليسوا معك، فقال لهم: ليس عندي خزائن غيوب الله فأعلم ما تنطوي عليه الضمائر. وإِنما قيل للغيوب: خزائن، لغموضها عن الناس واستتارها عنهم. قال سفيان بن عيينة: إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها. قوله تعالى: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ قيل: إِنما قال لهم هذا، لأن أرضهم أجدبت، فسألوه: متى يجيء المطر؟ وقيل: بل سألوه: متى يجيء العذاب؟ فقال: ولا أعلم الغيب. وقوله عزّ وجلّ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ جواب لقولهم: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا «1» . وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي: تحتقر وتستصغر المؤمنين. قال الزجاج: «تزدري» تستقل وتستخِس، يقال: زريت على الرجل: إِذا عبت عليه وخسست فعله، وأزريت به: إِذا قصرت به. وأصل تزدري: تزتري، إِلا أن هذه التاء تبدل بعد الزاي دالاً، لأن التاء من حروف الهمس، وحروف الهمس خفية، فالتاء بعد الزاي تخفى، فأبدلت منها الدال لجهرها. قوله تعالى: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً قال ابن عباس: إِيمانا. ومعنى الكلام: ليس لي أن أطَّلِع على ما في نفوسهم فأقطع عليهم بشيء، وليس لاحتقاركم إِياهم يبطل أجرهم. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إِن قلت هذا الذي تقدم ذكره، وقيل: إِن طردتهم. قوله تعالى: قَدْ جادَلْتَنا قال الزجاج: الجدال: هو المبالغة في الخصومة والمناظرة، وهو مأخوذ من الجَدْل، وهو شدة الفتل، ويقال للصقر: أجدل، لأنه من أشدّ الطّير. ويقرأ «فأكثرت جدلنا» . وقوله تعالى: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا قال ابن عباس: يعنون العذاب. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أنه يأتينا. قوله تعالى: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ أي: أنصحكم. وفي هذه الآية شرطان: فجواب الأول: النصح، وجواب الثاني: النفع. قوله تعالى: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يُضلكم، قاله ابن عباس. والثاني: يُهلككم، حكاه ابن الأنباري. وقال: هو قول مرغوب عنه. والثالث: يضلكم ويهلككم، قاله الزجاج. قوله تعالى: هُوَ رَبُّكُمْ أي: هو أولى بكم، يتصرف في ملكه كما يشاء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الموت. [سورة هود (11) : آية 35] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ قال الزجاج: المعنى: أيقولون: افْتَراهُ؟ قال ابن قتيبة: الافتراء: الاختلاق. فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي: جرم ذلك الاختلاق إِن كنتُ فعلت. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ في التكذيب. وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «فعليَّ أجرامي» بفتح الهمزة.

_ (1) سورة هود: 27.

[سورة هود (11) : آية 36]

[سورة هود (11) : آية 36] وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) قوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قال المفسرون: لما أوحي إِليه هذا، استجاز الدعاء عليهم، فقال: لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» . قوله تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ قال ابن عباس ومجاهد: لا تحزن. وقال الفراء والزجاج: لا تستكن ولا تحزن. قال أبو صالح عن ابن عباس: فلا تحزن إِذا نزل بهم الغرق بِما كانُوا يَفْعَلُونَ. [سورة هود (11) : الآيات 37 الى 38] وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) قوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ أي: واعمل السفينة. وفي قوله: بِأَعْيُنِنا ثلاثة أقوال: أحدها: بمرأىً منا، قاله ابن عباس. والثاني: بحفظنا، قاله الربيع. والثالث: بعلمنا، قاله مقاتل. قال ابن الأنباري: إِنما جمع على مذهب العرب في إِيقاعها الجمع على الواحد، تقول: خرجنا إِلى البصرة في السفن، وإِنما جمع، لأن من عادة الملك أن يقول: أمرنا ونهينا. وفي قوله: وَوَحْيِنا قولان: أحدهما: وأمرنا لك أن تصنعها. والثاني: وبتعليمنا إِياك كيف تصنعها. قوله تعالى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا فيه قولان: أحدهما: لا تسألني الصفح عنهم. والثاني: لا تخاطبني في إِمهالهم. وإِنما نهي عن الخطاب في ذلك صيانة له عن سؤال لا يجاب فيه. (الإِشارة إِلى كيفية عمل السفينة) روى الضحاك عن ابن عباس قال: كان نوح يُضرب ثم يُلفُّ في لِبْدٍ فيُلقى في بيته، يُرَوْن أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم. حتى إِذا يئس من إِيمان قومه، جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصاً، فقال: يا بني، انظر هذا الشيخ لا يغررك، قال: يا أبت أمكني من العصا، فأخذها فضربه ضربةً شجه مُوْضِحَةً، وسالت الدماء على وجهه، فقال: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك، فان يكن لك فيهم حاجة فاهدهم، وإِلا فصبِّرني إِلى أن تحكم، فأوحى الله إِليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ إلى قوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ، قال: يا ربّ، وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء أُنجّي فيه أهل طاعتي، وأغرق أهل معصيتي، قال: يا ربّ، وأين الماء؟ قال: إِني على ما أشاء قدير، قال: يا ربّ، وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر، فغرس الساج عشرين سنة، وكفّ عن دعائهم، وكفُّوا عنه، إِلا أنهم يستهزئون به، فلما أدرك الشجر، أمره ربّه، فقطعه وجفّفه ولفّقه، فقال: يا ربّ، كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: أجعله على ثلاث صور، رأسه كرأس الطّاوس، وجؤجؤه كجؤجؤ الطائر، وذنبه كذنب الديك، واجعلها مطبقة، وبعث الله إِليه جبريل يعلمه، وأوحى الله إِليه أن عجِّل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على مَنْ عصاني، فاستأجر نجارين يعملون معه، وسام، وحام، ويافث، معه ينحتون السفينة، فجعل طولها ستمائة ذراع، وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعا، وعلوها ثلاثا

_ (1) سورة نوح: 26.

[سورة هود (11) : آية 39]

وثلاثين، وفجَّرَ الله له عين القار تغلي غلياناً حتى طلاها. وعن ابن عباس قال: جعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأول الوحوش والسباع والهوام، وفي الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه البطن الأعلى. وروي عن الحسن أنه قال: كانت سفينة نوح طولها ألف ذراع، ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وقال قتادة: كانت فيما ذُكر لنا طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسمائة ذراع، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً. وقال ابن جريج: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ومائة ذراع، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وكان في أعلاها الطير، وفي وسطها الناس، وفي أسفلها السباع. وزعم مقاتل أنه عمل السفينة في أربعمائة سنة. قوله تعالى: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ فيه قولان: أحدهما: أنهم رأوه يبني السفينة وما رأوا سفينة قط، فكانوا يسخرون ويقولون: صرت بعد النبوَّة نجاراً؟ وهذا قول ابن إِسحاق. والثاني: أنهم قالوا له: ما تصنع؟ فقال: أبني بيتا يمشي على الماء، فسخروا من قوله، وهذا قول مقاتل. وفي قوله: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ خمسة أقوال: أحدها: إِن تسخروا من قولنا فانا نسخر من غفلتكم. والثاني: إِن تسخروا من فعلنا عند بناء السفينة، فانا نسخر منكم عند الغرق، ذكره المفسرون. والثالث: إِن تسخروا منا في الدنيا، فانا نسخر منكم في الآخرة، قاله ابن جرير. والرابع: إِن تستجهلونا، فانا نستجهلكم، قاله الزجاج. والخامس: إِن تسخروا منا، فانا نستنصر الله عليكم، فسمى هذا سخرية، ليتفق اللفظان كما بينا في قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «1» ، هذا قول ابن الأنباري. قال ابن عباس: لم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر، فلذلك سخروا منه، وإِنما مياه البحار بقيّة الطّوفان. [سورة هود (11) : آية 39] فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) قوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ هذا وعيد، ومعناه: فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية، ومن هو أحمد عاقبة. وقوله تعالى: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي: يُذلُّه، وهو الغرق. وَيَحِلُّ عَلَيْهِ أي: ويجب عليه عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة. [سورة هود (11) : آية 40] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا فيه قولان: أحدهما: جاء أمرنا بعذابهم وإِهلاكهم. والثاني: جاء عذابنا وهو الماء، ابتدأ بجنبات الأرض فدار حولها كالإِكليل، وجعل المطر ينزل من السماء كأفواه القرب، فجعلت الوحوش يطلبن وسط الأرض هربا من الماء حتى اجتمعن عند السفينة، فحينئذ حمل فيها من كل زوجين اثنين. قوله تعالى: وَفارَ التَّنُّورُ الفور: الغليان والفوَّارة: ما يفور من القِدْر، قاله ابن فارس. قال المصنف: وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال: التّنّور: اسم فارسيّ

_ (1) سورة البقرة: 15.

معرَّب لا تعرف له العرب اسماً غير هذا، فلذلك جاء في التنزيل، لأنهم خوطبوا بما عرفوا. وروي عن ابن عباس أنه قال: التنور، بكل لسان عربي وعجمي. وفي المراد بهذا التنور ستة أقوال: أحدها: أنه اسم لوجه الأرض، رواه عكرمة عن علي عليه السلام. وروى الضحاك عن ابن عباس: التنور: وجه الأرض، قال: قيل له: إِذا رأيت الماءَ قد علا وجهَ الأرض، فاركب أنت وأصحابك، وهذا قول عكرمة، والزهري. والثاني: أنه تنوير الصبح، رواه أبو جحيفة عن عليّ رضي الله عنه. وقال ابن قتيبه: التنوير عند الصلاة. والثالث: أنه طلوع الفجر، روي عن علي أيضا، قال: «وفار التنور» : طلع الفجر. والرابع: أنه طلوع الشمس، وهو منقول عن علي أيضا. والخامس: أنه تنُّور أهله، روى العوفي عن ابن عباس قال: إِذا رأيت تنُّور أهلك يخرج منه الماء، فانه هلاك قومك. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أنه تنُّور آدم عليه السلام، وهبه الله لنوح، وقيل له: إذا فار الماء منه، فاحمل ما أمرت به. وقال الحسن: كان تنوراً من حجارة، وهذا قول مجاهد، والفراء، ومقاتل. والسادس: أنه أعلى الأرض وأشرفها «1» . قال ابن الأنباري: شُبهت أعالي الأرض وأماكنها المرتفعة لعلوها، بالتنانير. واختلفوا في المكان الذي فار منه التنور على ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه فار من مسجد الكوفة، رواه حبّة العرني عن علي عليه السلام. وقال زِرُّ بن حُبَيش: فار التنور من زاوية مسجد الكوفة اليمنى. وقال مجاهد: نبع الماء من التنور، فعلمت به امرأته فأخبرته، وكان ذلك بناحية الكوفة. وكان الشعبي يحلف بالله ما كان التنور إِلا بناحية الكوفة. والثاني: أنه فار بالهند، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنه كان في أقصى دار نوح، وكانت بالشام في مكان يقال له: عين وردة، قاله مقاتل. قوله تعالى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي: في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وروى حفص عن عاصم: «من كُلٍّ» بالتنوين. قال أبو علي: والمعنى: من كل شيء، ومن كل زوج زوجين، فحذف المضاف. وانتصاب «اثنين» على أنهما صفة لزوجين، وقد علم أن الزوجين اثنان، ولكنه توكيد. قال مجاهد: من كل صنف، ذكراً وأنثى. وقال ابن قتيبة: الزوج يكون واحداً، ويكون اثنين، وهو ها هنا واحد، ومعنى الآية: احمل من كل ذكر وأنثى اثنين. وقال الزجاج: المعنى: احمل زوجين اثنين من كل شىء، والزوج في كلام العرب يجوز أن يكون معه واحد، والاثنان يقال لهما: زوجان، يقال: عندي زوجان من الطير، إِنما يريد ذكراً وأنثى فقط، وقال ابن الأنباري: إِنما قال «اثنين» فثنَّى الزوج، لأنه قصد قصْد الذكر والأنثى من الحيوان، وتقديره: من كل ذكر وأنثى. قوله تعالى: وَأَهْلَكَ أي: وأحمل أهلك. قال المفسرون: أراد بأهله: عياله وولده. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي: سبق عليه القول من الله بالإِهلاك. قال الضحاك: وهم امرأته وابنه كنعان.

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 7/ 40- 41: وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله التَّنُّورُ قول من قال: هو التنور الذي يخبز فيه. لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب، الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم الحجة على شيء منه بخلاف ذلك، فيسلم لها. وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 548: وهذه أقوال غريبة. قلت: ليس لها مستند، فهي لا شيء.

[سورة هود (11) : آية 41]

قوله تعالى: وَمَنْ آمَنَ معناه: واحمل من آمن. وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وفي عددهم ثمانية أقوال: أحدها: أنهم كانوا ثمانين رجلاً معهم أهلوهم، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أن نوحاً حمل معه ثمانين إِنساناً، وبنيه الثلاثة، وثلاث نسوة لبنيه، وامرأة نوح. رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس. والثالث: كانوا ثمانين إِنساناً، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة. والرابع: كانوا أربعين، ذكره ابن جريج عن ابن عباس. والخامس: كانوا ثلاثين رجلاً، رواه أبو نهيك عن ابن عباس. والسادس: كانوا ثمانية، قال الحكم بن عتيبة: كان نوح وثلاثة بنيه وأربع كنائنه. قال قتادة: ذُكر لنا أنه لم ينج في السفينة إِلا نوح وامرأته «1» وثلاثة بنين له، ونساؤهم، فجماعتهم ثمانية، وهذا قول القرظي، وابن جريج. والسابع: كانوا سبعة، نوح، وثلاث كنائن له وثلاثة بنين، قاله الأعمش. والثامن: كانوا عشرة سوى نسائهم، قاله ابن إِسحاق. وروي عنه أنه قال: الذين نَجَوْا مع نوح بنوه الثلاثة، ونساؤهم ثلاث، وستة ممّن آمن به. [سورة هود (11) : آية 41] وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) قوله تعالى: وَقالَ يعني نوحاً للذين أمر بحملهم ارْكَبُوا السفينة. قال ابن عباس: ركبوا فيها لعشر مضين من رجب، وخرجوا منها يوم عاشوراء. وقال ابن جريج: دفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر مضين من رجب، فأتت موضع البيت فطافت به أسبوعاً، وكان البيت قد رُفع في ذلك الوقت، ورست بباقردى «2» على الجودي يوم عاشوراء. قال ابن عباس: قرض الفأر حبال السفينة، فشكا نوح ذلك، فأوحى الله تعالى إِليه، فمسح ذنب الأسد، فخرج سنَّوْرانِ، وكان في السفينة عَذِرة، فشكا ذلك إِلى ربه، فأوحى الله تعالى إِليه، فمسح ذنب الفيل، فخرج خنزيران فأكلا ذلك «3» . قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «مُجراها» بضم الميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «مَجراها» بفتح الميم، وكسر الراء. وكلّهم قرءوا بضم الميم من «مرساها» ، إِلا أن ابن كثير، وأبا عمرو، وابن عامر، وحفصاً عن عاصم، كانوا يفتحون السين. ونافع، وأبو بكر عن عاصم، كانا يقرءانها بين الكسر والتفخيم. وكان حمزة، والكسائي، وخلف، يميلونها. وليس في هؤلاء أحد جعلها نعتاً لله، وإِنما جعل الوصفين نعتاً لله تعالى، الحسن، وقتادة، وحُميد الأعرج، وإِسماعيل بن مجالد عن عاصم، فقرؤوا «مجريها ومرسيها» بضم الميم، وبياءين صحيحتين، مثل مبديها ومنشيها. وقرأ ابن مسعود: «مجراها» بفتح

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 549: وهذا فيه نظر، بل الظاهر أنها هلكت لأنها كانت على دين قومها، فأصابها ما أصابهم، كما أصاب امرأة لوط ما أصاب قومها، والله أعلم. (2) ضبطه ياقوت بكسر القاف وفتح الدال، وهو موضع بالجزيرة بالقرب من جبل الجودي. (3) ذكره ابن كثير 2/ 548، عن ابن عباس رضي الله عنه، وقال: أثر غريب. - قلت: أخرجه الطبري 18155 من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس، وإسناده واه، علي ضعيف، روى مناكير كثيرة، وكرره الطبري 18154 عن علي بن زيد عن يوسف به ليس فيه ذكر ابن عباس، وهو الصواب، وهو من الإسرائيليات المنكرة بلا ريب، بل هو من ترهاتهم وأساطيرهم، ولو لم يذكر المفسرون مثل هذا لكان أولى، والله أعلم.

[سورة هود (11) : الآيات 42 إلى 43]

الميم، وإِمالة الراء بعدها ألف، «ومرساها» برفع الميم، وإِمالة السين بعدها ألف. وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكّل: «مجراها» بفتح الميم والراء، وبألف بعدها، ومرساها، برفع الميم وفتح السين، وبألف بعدها. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر: «مَجراها ومَرساها» بفتح الميم فيهما جميعاً، وفتح الراء والسين، وبألف بعدهما. وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الميمين، إِلا أنه أمال الراء والسين فيهما. وقرأ أبو عمران الجوني، وابن جبير، برفع الميم فيهما، وفتح الراء والسين، وبألف بعدهما جميعاً. فمن قرأ بضم الميمين، جعله من أجرى وأرسى. ومن فتحهما، جعله مصدراً من جرى الشيء يجري مَجرى، ورسى يرسي مَرسى. قال الزّجّاج: قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ أي: بالله، والمعنى: أنه أمرهم أن يسمُّوا في وقت جريها ووقت استقرارها. ومن قرأ بضم الميمين، فالمعنى: بالله إِجراؤها، وبالله إرساؤها. ومن فتحهما، فالمعنى: بالله يكون جريها، وبالله يقع إِرساؤها، أي: إِقرارها. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: من ضم الميم في «مُجراها» أراد: أجراها اللهُ مجرىً، ومن فتحها، أراد: جرت مَجرى. وقال الضحاك: كان إِذا أراد أن تجري، قال: بسم الله، فجرت. وإذا أراد أن ترسي، قال: بسم الله، فرست. [سورة هود (11) : الآيات 42 الى 43] وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) قوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ شبهه بالجبال في عِظَمه وارتفاعه، ويقال: إِن الماء أرتفع على أطول جبل في الأرض أربعين ذراعاً، ويروي خمس عشرة ذراعاً. وذكر بعض المفسرين أنه ارتفع نحو السماء سبعين فرسخاً من الأرض. قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ لا يختلفون أنه كان كافراً. وفي اسمه قولان «1» : أحدهما: كنعان، وهو قول الأكثرين. والثاني: اسمه يام، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عبيد بن عمير، وابن إِسحاق. قوله تعالى: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ المعزل: المكان المنقطع. ومعنى العزل: التنحية. وفي معنى الكلام وجهان ذكرهما الزجاج: أحدهما: في معزل من السفينة. والثاني: في معزل من دين أبيه. قوله تعالى: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ «يا بني اركب» مضافة، بكسر الياء. وروى أبو بكر عن عاصم «يا بني» مفتوحة الياء هاهنا، وباقي القرآن مكسورة. وروى حفص عنه بالفتح في كلّ القرآن «يا بنيّ» إِذا كان واحداً. قال النحويون: الأصل في «بُنيّ» ثلاث ياءات، ياء التصغير، وياء بعدها هي لام الفعل، وياء بعد لام الفعل هي ياء الإضافة. فمن قرأ «يا بني» أراد: يا بنيي، فحذف ياء الاضافة، وترك الكسرة تدل عليها، كما

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» : 7/ 550 هذا هو الابن الرابع واسمه يام، وكان كافرا. - قلت: مستند تسميته أخبار الأقدمين، وهي غير حجة، وإنما يستأنس بها فقط.

[سورة هود (11) : الآيات 44 إلى 47]

يقال: يا غلام أقبل. ومن فتح الياء، أبدل من كسرة لام الفعل فتحة، استثقالاً لاجتماع الياءات مع الكسرة، فانقلبت ياء الإِضافة ألفاً، ثم حذفت الألف كما تحذف الياء، فبقيت الفتحة على حالها. وقيل: إِن المعنى: يا بني آمن واركب معنا. قوله تعالى: سَآوِي أي: سأصير وأرجع إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي أي: يمنعني مِنَ الْماءِ أي: من تغريق الماء. قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ فيه قولان: أحدهما: لا مانع اليوم من أمر الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لا معصوم، ومثله: ماء دافق، أي: مدفوق، وسرٌّ كاتم، وليلٌ نائم، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ قال الزجاج: هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن من رحم الله فانه معصوم. قال مقاتل: إِلا من رحم فركب السفينة. قوله تعالى: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ في المكنّى عنهما قولان: أحدهما: أنهما ابن نوح والجبل الذي زعم أنه يعصمه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: نوح وابنه، قاله مقاتل. [سورة هود (11) : الآيات 44 الى 47] وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وقف قوم على ظاهر الآية، وقالوا: إِنما ابتلعت ما نبع منها، ولم تبتلع ماء السماء، فصار ذلك بحاراً وأنهاراً، وهو معنى قول ابن عباس. وذهب آخرون إِلى أن المراد: ابلعي ماءك الذي عليك، وهو ما نبع من الأرض ونزل من السماء، وذلك بعد أن غرق ما على وجه الأرض. قوله تعالى: وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي: أمسكي عن إِنزال الماء. قال ابن الأنباري: لما تقدم ذكر الماء، عُلم أن المعنى: أقلعي عن إِنزال الماء. قوله تعالى: وَغِيضَ الْماءُ أي: نقص. قال الزجاج: يقال: غاض الماء يغيض: إِذا غاب في الأرض. ويجوز إِشمام الضم في الغين. قوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عباس: غرق مَنْ غرق، ونجا مَنْ نجا. وقال مجاهد: «قضي الأمر» : هلاك قوم نوح. وقال ابن قتيبة: «وقضي الأمر» أي: فرغ منه. قال ابن الأنباري: والمعنى: أُحكمتْ هلكة قوم نوح، فلما دلت القصة على ما يبيِّن هلكتهم، أغنى عن نعت الأمر. قوله تعالى: وَاسْتَوَتْ يعني السفينة عَلَى الْجُودِيِّ وهو اسم جبل. وقرأ الأعمش، وابن أبي عبلة: «على الجودي» بسكون الياء. قال ابن الأنباري: وتشديد الياء في «الجوديّ» لأنها ياء النسبة، فهي كالياء في علوي، وهاشمي. وقد خففها بعض القراء. ومن العرب من يخفف ياء النسبة، فيسكنها في الرفع، والخفض، ويفتحها في النصب، فيقول: قام زيد العلوي، ورأيت زيداً العلوي. قال ابن عباس: دارت السفينة بالبيت أربعين يوماً، ثم وجهها الله إِلى الجودي فاستقرت عليه. واختلفوا أين هذا

الجبل على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بالموصل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثاني: بالجزيرة، قاله مجاهد، وقتادة. وقال مقاتل: هو بالجزيرة قريب من الموصل. والثالث: أنه بناحية آمِد، قاله الزجاج. وفي علة استوائها عليه قولان: أحدهما: أنه لم يغرق، لأن الجبال تشامخت يومئذ وتطاولت، وتواضع هو فلم يغرق، فأرست عليه، قاله مجاهد. والثاني: أنه لما قلَّ الماء أَرْسَتْ عليه، فكان استواؤها عليه دلالة على قلة الماء. قوله تعالى: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس: بُعداً من رحمة الله للقوم الكافرين. فان قيل: ما ذنب من أُغرق من البهائم والأطفال؟ فالجواب: أنَّ آجالهم حضرت، فأُميتوا بالغرق، قاله الضحاك، وابن جريج. قوله تعالى: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إِنما قال نوح هذا، لأن الله تعالى وعده نجاة أهله، فقال تعالى: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ قال ابن عباس: أعدل العادلين. وقال ابن زيد: فأنت أحكم الحاكمين بالحق. واختلفوا في هذا الذي سأل فيه نوح على قولين: أحدهما: أنه ابن نوح لصلبه، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والجمهور. والثاني: أنه ولد على فراشه لغير رِشدة ولم يكن ابنه «1» . روى ابن الأنباري باسناده عن الحسن أنه قال: لم يكن ابنَه، إِن امرأته فجرت. وعن الشعبي قال: لم يكن ابنه، إِن امرأته خانته، وعن مجاهد نحو ذلك. وقال ابن جريج: ناداه نوح وهو يحسب أنه ابنه، وكان وُلد على فراشه. فعلى القول الأول، يكون في معنى قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ قولان: أحدهما: ليس من أهل دينك. والثاني: ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإِنما المعنى: ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم. وعلى القول الآخر: الكلام على ظاهره، والأول أصح، لموافقته ظاهر القرآن، ولاجتماع الأكثرين عليه، وهو أولى من رمي زوجة نبيّ بفاحشة «2» .

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 7/ 552: وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه، وإنما كان ابن زنية، ويحكى القول بأنه ليس بابنه وإنما كان ابن امرأته. عن مجاهد، والحسن، وعبيد بن عمر، وأبي جعفر الباقر، وابن جريج. واحتج بعضهم بقوله: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، بقوله: فَخانَتاهُما فممن قاله الحسن البصري، احتج بهاتين الآيتين. وبعضهم يقول: كان ابن امرأته وهذا يحتمل أن يكون أراد ما أراد الحسن، أو أراد أنه نسب إليه مجازا، لكونه كان ربيبا عنده والله أعلم. وقال ابن عباس، وغير واحد من السلف: ما زنت امرأة نبي قط قال: وقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، أي الذين وعدتك نجاتهم. وقول ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه، فإنه الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة، ولهذا غضب الله على الذين رموا أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 52: وأولى القولين بالصواب، قول من قال تأويل ذلك: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك مخالفا، وبي كافرا وكان ابنه، لأن الله تعالى قد أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه فقال: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ، وليس في قوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ دلالة على أنه ليس بابنه. إذ كان قوله: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ محتملا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملا: «إنه ليس من أهل دينك» ، ثم يحذف «الدين» فيقال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، كما قيل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها- يوسف: 82.

[سورة هود (11) : آية 48]

قوله تعالى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «إِنه عملٌ» رفع منون «غيرُ صالح» برفع الراء، وفيه قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى السؤال فيه، فالمعنى: سؤالك إِياي فيه عمل غير صالح، قاله ابن عباس، وقتادة، وهذا ظاهر، لأنه قد تقدم السؤال فيه في قوله عزّ وجلّ: «رب إِن ابني من أهلي» ، فرجعت الكناية إِليه. والثاني: أنه يرجع إِلى المسؤول فيه. وفي هذا المعنى قولان: أحدهما: أنه لغير رِشدة، قاله الحسن. والثاني: أن المعنى: إِنه ذو عمل غير صالح، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: من قال: هو لغير رِشدة، قال: المعنى: إِن أصل أبنك الذي تظن أنه أبنك عملٌ غير صالح. ومن قال: إِنه ذو عمل غير صالح، قال: حذف المضاف، وأقام العمل مقامه، كما تقول العرب: عبد الله إِقبال وإِدبار، أي: صاحب إِقبال وإِدبار. وقرأ الكسائي: «عَمِلَ» بكسر الميم وفتح اللام «غيرَ صالح» بفتح الراء، يشير إِلى أنه مشرك. قوله تعالى: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «فلا تسألنَّ» بفتح اللام، وتشديد النون، غير أن نافعاً، وابن عامر، كسرا النون، وفتحها ابن كثير، وحذفوا الياء في الوصل والوقف. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، بسكون اللام وتخفيف النون، غير أن أبا عمرو، وأبا جعفر، أثبتا الياء في الوصل، وحذفاها في الوقف، ووقف عليها يعقوب بالياء، والباقون يحذفونها في الحالين. قال أبو علي: من كسر النون، فقد عدَّى السؤال إِلى مفعولين، أحدهما: اسم المتكلم، والآخر: الاسم الموصول، وحذفت النون المتصلة بياء المتكلم لاجتماع النونات. وأما إِثبات الياء في الوصل فهو الأصل، وحذفها أخف، والكسرة تدل عليها، وتُعلِمُ أن المفعول مراد في المعنى. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه نسبته إِليه، وليس منه. والثاني: في إِدخاله إِياه في جملة أهله الذين وعده نجاتهم. والثالث: سؤاله في إِنجاء كافر من العذاب. قوله تعالى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن تكون من الجاهلين في سؤالك مَنْ ليس مِنْ حزبك. والثاني: من الجاهلين بوعدي، لأني وعدت بانجاء المؤمنين. والثالث: من الجاهلين بنسبك، لأنه ليس من أهلك. [سورة هود (11) : آية 48] قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) قوله تعالى: يا نُوحُ اهْبِطْ قال ابن عباس: يريد: من السفينة إِلى الأرض بِسَلامٍ مِنَّا أي: بسلامه. قوله تعالى: وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ قال المفسرون: البركات عليه أنه صار أباً للبشر جميعاً، لأن جميع الخلق من نسله وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ قال ابن عباس: يريد من ولدك. قال ابن الأنباري: المعنى من ذراري من معك، والمراد المؤمنون من ذريته. ثم ذكر الكفار فقال عزّ وجلّ: وَأُمَمٌ أي من الذرية أيضاً، والمعنى: وفيمن نَصِفُ لك أُمم وفيمن نقصُّ عليك أمره أُمم سَنُمَتِّعُهُمْ أي في

[سورة هود (11) : الآيات 49 إلى 53]

الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. قال محمد بن كعب القرظي: لم يبق مؤمن ولا مؤمنة في أصلاب الرجال وأرحام النساء يومئذ إِلى أن تقوم الساعة إِلا وقد دخل في ذلك السلام والبركات، ولم يبق كافر إِلا دخل في ذلك المتاع والعذاب. [سورة هود (11) : الآيات 49 الى 53] تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) قوله تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ في المشار إليه ب «تلك» قولان: أحدهما: قصة نوح. والثاني: آيات القرآن، والمعنى: تلك من أخبار ما غاب عنك وعن قومك. فان قيل: كيف قال هاهنا: «تلك» ، وفي مكان آخر «ذلك» ؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: «تلك» إِشارة إِلى آيات القرآن، و «ذلك» إِشارة إِلى الخبر والحديث، وكلاهما معروف في اللغة الفصيحة، يقول الرجل: قد قدم فلان، فيقول سامعٌ قولَه: قد فرحت به، وقد سررت بها، فاذا ذكّر، عنى القدوم، وإِذا أنَّث، ذهب إِلى القَدْمَة. قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ هذا يعني القرآن. فَاصْبِرْ كما صبر نوح على أذى قومه إِنَّ الْعاقِبَةَ أي آخر الأمر بالظفر والتمكين لِلْمُتَّقِينَ أي لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوح. قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ أي: ما أنتم إلّا في إِشراككم مع الله الأوثان. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «1» إِلى قوله: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وهذا أيضاً قد سبق تفسيره في سورة الأنعام «2» . والسبب في قوله لهم ذلك، أن الله حبس المطر عنهم ثلاث سنين وأعقم أرحام نسائهم، فوعدهم إِحياء بلادهم وبسط الرزق لهم إِن آمنوا. قوله تعالى: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الولد وولد الولد، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: يزدكم شدة إِلى شدتكم، قاله مجاهد، وابن زيد. والثالث: خِصباً إِلى خصبكم، قاله الضحاك. قوله تعالى: وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ قال مقاتل: لا تُعرضوا عن التوحيد مشركين. قوله تعالى: ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي: بحجة واضحة. وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا يعنون الأصنام عَنْ قَوْلِكَ أي: بقولك، و «الباء» و «عن» يتعاقبان.

_ (1) سورة يونس: 72. (2) عند الآية: 61. [.....]

[سورة هود (11) : الآيات 54 إلى 56]

[سورة هود (11) : الآيات 54 الى 56] إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) قوله تعالى: إِنْ نَقُولُ أي: ما نقول في سبب مخالفتك إِيانا إِلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون لسبِّك إياها، فالذي تُظهر من عيبها لِما لحق عقلك من التغيير. قال ابن قتيبة: يقال: عراني كذا، واعتراني: إِذا ألمَّ بي. ومنه قيل لمن أتاك يطلب نائلك: عارٍ، ومنه قول النابغة: أَتَيْتُكَ عَارِيَاً خَلَقاً ثيابي ... على خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظّنون «1» قوله تعالى: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِلى آخر الآية. حرك ياء «إِنيَ» نافع. ومعنى الآية: إِن كنتم تقولون: إِن الآلهة عاقبتني لطعني عليها، فاني على يقين من عيبها والبراءةِ منها، وها أنا ذا أزيد في الطعن عليها، فَكِيدُونِي جَمِيعاً أي: احتالوا أنتم وأوثانكم في ضرّي، ثم لا تمهلون. قال الزجاج: وهذا من أعظم آيات الرسل، أن يكون الرسول وحدهَ وأُمتُه متعاونة عليه، فيقول لهم: كيدوني، فلا يستطيع أحد منهم ضرَّه، وكذلك قال نوح لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ «2» . وقال محمّد صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ «3» . قوله تعالى: إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها قال أبو عبيدة: المعنى: أنها في قبضته ومِلكه وسلطانه. فان قيل: لم خص الناصية؟ فالجواب: أن الناصية هي شعر مقدَّم الرأس، فاذا أخذت بها من شخص، فقد ملكت سائر بدنه، وذلَّ لك. قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال مجاهد: على الحق. وقال غيره: في الكلام إِضمار، تقديره: إِن ربي يدل على صراط مستقيم. فان قيل ما وجه المناسبة بين قوله: إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها وبين كونه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ فعنه جوابان «4» : أحدهما: أنه لما أخبر أنه آخذ بنواصي الخلق، كان معناه: أنهم لا يخرجون عن قبضته، فأخبر أنه على طريق لا يعدل عنه هارب، ولا يخفي عليه مستتر. والثاني: أن المعنى: أنه وإِن كان قادرا عليهم، فهو لا يظلمهم، ولا يريد إلّا العدل، ذكرهما ابن الأنباري. [سورة هود (11) : آية 57] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)

_ (1) في «اللسان» : وثوب خلق: بال. (2) سورة يونس: 71. (3) سورة المرسلات: 39. (4) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 554: وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة، ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، بل هي جماد لا تسمع ولا تبصر ولا توالي ولا تعادي، وإنما يستحق إخلاص العبادة، الله وحده لا شريك له الذي بيده الملك، وله التصرف، وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه.

[سورة هود (11) : آية 58]

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فيه قولان: أحدهما: أنه فعل ماض، معناه: فان أعرضوا: فعلى هذا، في الآية إِضمار، تلخيصه: فان أعرضوا فقل لهم: قد أبلغتكم، هذا مذهب مقاتل في آخرين. والثاني: أنه خطاب للحاضرين، وتقديره: فان تتولَّوا، فاستثقلوا الجمع بين تاءين متحركتين، فاقتُصر على إِحداهما، وأسقطت الأخرى، كما قال النابغة: المرءُ يَهْوى أَنْ يَعْي ... شَ وطُوْلُ عَيْشٍ قدَ يَضُرُّهْ تَفْنَى بَشَاَشُتُه ويَبْ ... قَى بَعْد حُلْوِ العَيْشِ مُرُّهْ وتَصَرَّفُ الأيّامُ حت ... ى ما يَرَى شيئاً يَسُرُّهْ أراد: وتتصرف الأيام، فأسقط إِحدى التاءين، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ فيه وعيد لهم بالهلاك. إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ فيه قولان: أحدهما: حفيظ على أعمال العباد حتى يجازيَهم بها. والثاني: أن «على» بمعنى اللام، فالمعنى: لكل شيء حافظ، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء. [سورة هود (11) : آية 58] وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا فيه قولان: أحدهما: جاء عذابنا، قاله ابن عباس. والثاني: جاء أمرنا بهلاكهم. قوله تعالى: نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا فيه قولان: أحدهما: نجيناهم من العذاب بنعمتنا. والثاني: نجيناهم بأن هديناهم إِلى الإِيمان، وعصمناهم من الكفر، روي القولان عن ابن عباس. قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي: شديد، وهو ما استحقه قوم هود من عذاب الدنيا والآخرة. [سورة هود (11) : آية 59] وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) قوله تعالى: وَتِلْكَ عادٌ يعني القبيلة وَعَصَوْا رُسُلَهُ. لقائل أن يقول: إِنما أُرسل إِليهم هود وحده، فكيف ذُكر بلفظ الجمع؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قد يذكر لفظ الجمع ويراد به الواحد، كقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ والمراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده. والثاني: أن من كذَّب رسولاً واحداً فقد كذَّب الكلَّ. والثالث: أن كل مرة ينذرهم فيها هي رسالة مجدَّدة وهو بها رسول. قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا أي: واتبع الأتباع أمر الرؤساء. والجبار: الذي طال وفات اليد. وللعلماء في الجبار أربعة أقوال: أحدها: أنه الذي يقتل على الغضب ويعاقب على الغضب، قاله الكلبي. والثاني: أنه الذي يجبر الناس على ما يريد، قاله الزجاج. والثالث: أنه المسلَّط. والرابع: أنه العظيم في نفسه، المتكبّر على العباد، ذكرهما ابن الأنباري. والذي ذكرناه يجمع هذه الأقوال، وقد زدنا هذا شرحاً في (المائدة) . وأما العنيد: فهو الذي لا يقبل الحق. قال ابن قتيبة: العَنود، والعنيد، والعاند: المعارض لك بالخلاف عليك. [سورة هود (11) : الآيات 60 الى 69] وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)

قوله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي: أُلحقوا لعنة تنصرف معهم. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي: وفي يوم القيامة لُعنوا أيضاً أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي بربهم، فحذف الباء، وأنشدوا «1» : أَمَرتُكَ الخيرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ به قال الزجاج: قوله: «ألا» ابتداء وتنبيه، و «بُعدا» منصوب على معنى: أبعدهم الله فبعدوا بعداً، والمعنى: أبعدهم من رحمته. قوله تعالى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فيه قولان: أحدهما: خلقكم من آدم، وآدم خُلق من الأرض. والثاني: أنشأكم في الأرض. وفي قوله: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ثلاثة أقوال: أحدها: أعمركم فيها، أي: جعلكم ساكنيها مدة أعماركم، ومنه العمرى، وهذا قول مجاهد. والثاني: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ألف سنة إِلى ثلاثمائة، قاله الضحاك. والثالث: جعلكم عُمَّارها، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم، لأنه كان ذا حسب وثروة، قاله كعب. والثاني: أنه كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم، وكانوا يرجون رجوعه إِلى دينهم، فلما أظهر إِنذارهم، انقطع رجاؤهم منه، وإِلى نحو هذا ذهب مقاتل. والثالث: أنهم كانوا يرجون خيره، فلما أنذرهم، زعموا أن رجاءهم لخيره قد انقطع، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ إِن قال قائل: لم قال ها هنا: «وإِننا» وقال في «إِبراهيم» : «وإِنا» ؟ فالجواب: أنهما لغتان من لغات قريش السبع التي نزل القرآن عليها. قال الفراء: من قال: «إِننا» أخرج

_ (1) هذا صدر بيت لعمرو بن معديكرب الزبيدي، كما في الكتاب: 1/ 17، وعجزه: فقد تركتك ذا مال وذا نشبِ وفي «اللسان» نشب: من النشب وهو المال الأصيل من الناطق والصامت، والنّشب: المال والعقار. (2) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 555: أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت.

الحرف على أصله، لأن كناية المتكلمين «نا» فاجتمعت ثلاث نونات، نونا «إِن» والنون المضمومة إلى الألف ومن قال: «إنا» اسثقل الجمع بين ثلاث نونات، فأسقط الثالثة، وأبقى الأولتين وكذلك يقال: إنّ وإٍنني، ولعلّي ولعلني، وليتي وليتني، قال الله تعالى في اللغة العليا: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ «1» ، وقال الشاعر في اللغة الأخرى: أريني جواداً مات هَزْلاً لعلَّني ... أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مخلَّدا «2» وقال الله تعالى: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ «3» ، وقال الشاعر: كمُنيةِ جابرٍ إِذ قال ليتي ... أصادقه وأُتلفُ بعضَ مالي «4» فأما المريب، فهو الموقع للرّيبة والتّهمة. والرّحمة يراد بها ها هنا: النبوَّة. قوله تعالى: فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ التخسير: النقصان. وفي معني الكلام قولان: أحدهما: فما تزيدونني غيرَ بَصَارَةٍ في خسارتكم، قاله ابن عباس. وقال الفراء: المعنى: فما تزيدونني غير تخسيرٍ لكم، أي: كلما اعتذرتم عندي بعذر فهو يزيدكم تخسيراً. وقال ابن الأعرابي: غير تخسير لكم، لا لي. وقال بعضهم: المعنى: فما تزيدونني بما قلتم إِلا نسبتي لكم إِلى الخسارة. والقول الثاني: فما تزيدونني غير الخسران إِن رجعتُ إِلى دينكم، وهذا معنى قول مقاتل. فان قيل: فظاهر هذا أنه كان خاسراً، فزادوه خساراً، فقد أسلفنا الجواب في قوله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «5» . قوله تعالى: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً قد شرحناها في سورة الأعراف «6» . قوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ أي: استمتعوا بحياتكم، وعبَّر عن الحياة بالتمتع، لأن الحيَّ يكون متمتِّعاً بالحواسِّ. قوله تعالى: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قال المفسرون: لمَّا عُقرت الناقة صَعِدَ فصيلُها إِلى الجبل، ورغا ثلاث مرات، فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم، ألا إِن اليوم الأول تصبح وجوهُكم مُصْفَرَّةً، واليوم الثاني مُحْمَرَّةً، واليوم الثالث مُسْوَدَّةً فلما أصبحوا في اليوم الأول، إِذا وجوههم مصفرة، فصاحوا وضجوا، وبَكَوْا، وعَرَفوا أنَّه العذاب، فلما أصبحوا في اليوم الثاني، إِذا وجوههم محمرة، فضجوا، وبكَوا، فلما أصبحوا في اليوم الثالث، إِذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فصاحوا جميعاً: ألا قد حضركم العذاب فتكفَّنوا وألقَوْا أنفسهم بالأرض، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما أصبحوا في اليوم الرابع، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلِّ صاعقة، فتقطَّعتْ قلوبُهم في صدورهم. وقال مقاتل: حفروا لأنفسهم قبوراً، فلما ارتفعت الشمس من اليوم الرابع ولم يأتهم العذاب ظنوا أن الله قد رحمهم فخرجوا من قبورهم يدعو بعضهم بعضاً، إِذ نزل جبريل فقام فوق المدينة فسدّ ضوءَ الشمس فلما عاينوه

_ (1) غافر: 36. (2) ذكره ابن منظور في «اللسان» ، مادة «أنن» ، وقال: هو لحطائط بن يعفر، ويقال: هو لدريد وقال الجوهري: أنشد أبو زيد لحاتم قال: وهو الصحيح، قال: وقد وجدته في شعر معن بن أوس المزني. (3) سورة النساء: 73. (4) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ليت» ونسبه لزيد الخيل. (5) سورة التوبة: 47. (6) عند الآية: 73.

دخلوا قبورهم فصاح بهم صيحة: موتوا عليكم لعنة الله، فخرجت أرواحهم وتزلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم. قوله تعالى: ذلِكَ وَعْدٌ أي: العذاب غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي: غير كذب. قوله تعالى: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «يومِئِذٍ» بكسر الميم. وقرأ الكسائي بفتحها مع الإِضافة. قال مكي: من كسر الميم، أعرب وخفض، لإِضافة الخزي إِلى اليوم، ولم يَبْنِهِ ومن فتح، بنى اليوم على الفتح، لإِضافته إِلى غير متمكّن، وهو «إِذ» . وقرأ ابن مسعود «ومن خزيٍ» بالتنوين، «يومَئذ» بفتح الميم. قال ابن الأنباري: هذه الواو في قوله «ومن خزي» معطوفة على محذوف، تقديره: نجيناهم من العذاب ومن خزي يومئذ. قال: ويجوز أن تكون دخلت لفعل مضمر، تأويله: نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا، ونجيناهم من خِزْي يومئذ. قال: وإِنما قال: «وأخذَ» لأن الصيحة محمولة على الصياح. قوله تعالى: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ اختلفوا في صرف «ثمود» وترك إِجرائه في خمسة مواضع: في (هود:) أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ، وفي (الفرقان) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ «1» ، وفي (العنكبوت) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ «2» ، وفي (النجم) وَثَمُودَ فَما أَبْقى «3» . قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر بالتنوين في أربعة مواضع منها، وتركوا أَلا بُعْداً لِثَمُودَ فلم يصرفوه. وقرأ حمزة بترك صرف هذه الخمسة الأحرف، وصرفهنَّ الكسائي. واختلف عن عاصم، فروى حسين الجعفي عن أبي بكر عنه أنه أجرى الأربعة الأحرف مثل أبي عمرو وروى يحيى بن آدم أنه أجرى ثلاثة، في (هود) أَلا إِنَّ ثَمُودَ، وفي (الفرقان) و (العنكبوت) . وروى حفص عنه أنه لم يجر شيئاً منها مثل حمزة. واعلم أن ثموداً يراد به القبيلة تارة ويراد به الحي تارة. فإذا أريد به القبيلة لم يصرف، وإِذا أريد به الحي صرف. وما أخللنا به فقد سبق تفسيره إِلى قوله: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ. والرسل ها هنا: الملائكة. وفي عددهم ستة أقوال: أحدها: أنهم كانوا ثلاثة، جبريل، وميكائيل، وإِسرافيل، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقال مقاتل: جبريل، وميكائيل، وملك الموت. والثاني: أنهم كانوا اثني عشر، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: ثمانية، قاله محمد بن كعب. والرابع: تسعة، قاله الضحاك. والخامس: أحد عشر، قاله السدي. والسادس: أربعة، حكاه الماوردي. وفي هذه البشرى أربعة أقوال «4» : أحدها: أنها البشرى بالولد، قاله الحسن، ومقاتل. والثاني: بهلاك قوم لوط، قاله

_ (1) سورة الفرقان: 38. (2) سورة العنكبوت: 38. [.....] (3) سورة النجم: 51. (4) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 557: البشرى أي بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل، فإنه يعقوب ولد إسحاق كما قال في آية البقرة: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. ومن ها هنا استدل من استدل بهذه الآية على أن الذبيح إنما هو إسماعيل وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خلف فيه فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا، والحالة هذه، فتعين أن يكون هو إسماعيل. وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه.

[سورة هود (11) : آية 70]

قتادة. والثالث: بنبوَّته، قاله عكرمة. والرابع: بأن محمّدا صلى الله عليه وسلم يخرج من صلبه، ذكره الماوردي. قوله تعالى: قالُوا سَلاماً قال ابن الأنباري: انتصب بالقول، لأنه حرف مقول، والسلام الثاني مرفوع باضمار «عليكم» . وقال الفراء: فيه وجهان: أحدهما: أنه أضمر «عليكم» كما قال الشاعر: فَقُلْنَا السَّلاَمُ فَاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرِهَا ... فما كان إِلاَّ ومْؤُهَا بِالْحَواجِبِ «1» والعرب تقول: التقينا فقلنا: سلام سلام. والثاني: أن القوم سلَّموا، فقال حين أنكرهم هو: سلام، فمن أنتم؟ لإِنكاره إِياهم. وقرأ حمزة، والكسائي: «قال سِلْم» ، وهو بمعنى: سلام، كما قالوا: حِلّ وحلال، وحِرم وحرام فعلى هذا، يكون معنى «سلِم» : سلام عليكم. قال أبو علي: فيكون معنى القراءتين واحداً وإِن اختلف اللفظان «2» . وقال الزجاج: من قرأ «سِلْم» فالمعنى: أمْرُنا سِلْم، أي: لا بأس علينا. قوله تعالى: فَما لَبِثَ أي: ما أقام حتى جاء بعجل حنيذ، لأنه ظنهم أضيافاً، وكانت الملائكة قد جاءته في صورة الغلمان الوِضَاء. وفي الحنيذ ستة أقوال «3» : أحدها: أنه النضيج، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والثاني: أنه الذي يَقْطُر ماؤُه وَدَسمُه وقد شوي، قاله شمر بن عطية. والثالث: أنه ما حفرتَ الأرضَ ثم غممتَه، وهو من فعل أهل البادية معروف، وأصله محنوذ، فقيل: حنيذ، كما قيل: طبيخ للمطبوخ، وقتيل للمقتول. هذا قول الفراء. والرابع: أنه المشوي، قاله أبو عبيدة. والخامس: المشوي بالحجارة المحماة، قاله مقاتل وابن قتيبة. والسادس: السميط، ذكره الزجاج وقال: يقال إنه المشوي فقط، ويقال المشوي الذي يقطر، ويقال المشويّ بالحجارة. [سورة هود (11) : آية 70] فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) قوله تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ يعنى الملائكة لا تَصِلُ إِلَيْهِ يعني العجل نَكِرَهُمْ أي: أنكرهم. قال أبو عبيدة: نَكِرهم وأنكرهم واستنكرهم، سواء، قال الأعشى: وَأَنْكَرَتْني وَمَا كانَ الَّذي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوَادِثِ إِلاَّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا قوله تعالى: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي: أضمر في نفسه خوفاً. قال الفراء: وكانت سُنَّةً في زمانهم إِذا ورد عليهم القوم فأتوهم بالطعام فلم يمسُّوه، ظنوا أنهم عدوّ أو لصوص، فهنالك أوجس في

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ومأ» ونسبه للقنانيّ. وعنده «فقلت» بدل «فقلنا» . (2) كذلك قال الطبري رحمه الله 7/ 68: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأن «السلم» قد يكون بمعنى «السلام» ، «والسلام» بمعنى «السلم» لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السلم دون الأعداء. (3) قال الطبري رحمه الله 7/ 69، بعد أن ذكر الأقوال: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقاربات المعاني بعضها من بعض. اه.

[سورة هود (11) : الآيات 71 إلى 72]

نفسه خيفة، فرأوا ذلك في وجهه، فقالوا: لا تَخَفْ. قوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ قال الزجاج: أي: أُرسلنا بالعذاب إِليهم. قال ابن الأنباري: وإِنما أُضمر ذلك ها هنا، لقيام الدليل عليه بذكر الله تعالى له في سورة أخرى. [سورة هود (11) : الآيات 71 الى 72] وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ واسمها سارة. واختلفوا أين كانت قائمة على ثلاثة أقوال: أحدها: وراء الستر تسمع كلامهم، قاله وهب. والثاني: كانت قائمة تخدمهم، قاله مجاهد، والسدي. والثالث: كانت قائمة تصلي، قاله محمد بن إِسحاق. وفي قوله: فَضَحِكَتْ ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أن الضحك ها هنا بمعنى التعجب، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن معنى «ضحكت» حاضت، قاله مجاهد وعكرمة. قال ابن قتيبة: وهذا من قولهم: ضحكت الأرنب: إِذا حاضت فعلى هذا: يكون حيضها حينئذ تأكيدا للبشارة بالولد. لأن من لا تحيض لا تحمل. وقال الفراء: لم نسمع من ثقة أن معنى (ضحكت) حاضت. قال ابن الأنباري: أنكر الفراء، وأبو عبيدة، وأبو عبيد، أن يكون «ضحكت» بمعنى حاضت وعرفه غيرهم. قال الشاعر: تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقَتْلى هُذَيْلٍ ... وَتَرَى الذِّئْبَ لها يَسْتَهِلُّ «2» قال بعض أهل اللغة: معناه: تحيض «3» . والثالث: أنه الضحك المعروف، وهو قول الأكثرين. وفي سبب ضحكها ستة أقوال: أحدها: أنها ضحكت من شدة خوف إِبراهيم من أضيافه، وقالت: من ماذا يخاف إِبراهيم، وإِنما هم ثلاثة، وهو في أهله وغلمانه؟! رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثاني: أنها ضحكت من بشارة الملائكة لإِبراهيم بالولد، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، ووهب بن منبه فعلى هذا، إِنما ضحكت سروراً بالبشارة، ويكون في الآية تقديم وتأخير، المعنى: وامرأته قائمة فبشرناها فضحكت، وهو اختيار ابن قتيبة. والثالث: ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، قاله قتادة. والرابع: ضحكت من إِمساك الأضياف عن الأكل، وقالت: عجباً لأضيافنا، نخدمهم بأنفسنا، وهم لا يأكلون طعامنا! قاله السّدّيّ. والخامس: ضحكت سرورا

_ (1) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 7/ 72 وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى قوله فَضَحِكَتْ، فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه. وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ فإذا كان ذلك كذلك، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم: لا تَخَفْ، وكان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط. (2) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ضحك» ، ونسبه إلى- تأبط شرا-. (3) وقال ابن منظور في «اللسان» مادة «ضحك» : كان ابن دريد يرد هذا ويقول: من شاهد الضباع عند حيضها فيعلم أنها تحيض؟، وإنما أراد الشاعر أنها تكشر لأكل اللحوم، وهذا سهو منه فجعل كشرها ضحكا.

[سورة هود (11) : آية 73]

بالأمن، لأنها خافت كخوف إِبراهيم، قاله الفراء. والسادس: أنها كانت قالت لإِبراهيم: اضمم إِليك ابن أخيك لوطاً، فانه سينزل العذاب بقومه، فلما جاءت الملائكة بعذابهم، ضحكت سروراً بموافقتها للصواب، ذكره ابن الأنباري. قال المفسرون: قال جبريل لسارة: أَبْشِري أيتها الضاحكة بولد اسمه إِسحاق، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ، فبشروها أنها تلد إِسحاق، وأنها تعيش إِلى أن ترى ولد الولد. وفي معنى الوراء قولان: أحدهما: أنه بمعنى «بعد» ، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره مقاتل، وابن قتيبة. والثاني: أن الوراء: ولد الولد، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الشعبي، واختاره أبو عبيدة. فان قيل: كيف يكون يعقوب وراء إِسحاق وهو ولده لصلبه، وإِنما الوراء: ولد الولد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: المعنى: ومن وراء المنسوب إِلى إِسحاق يعقوب، لأنه قد كان الوراء لإِبراهيم من جهة إِسحاق، فلو قال: ومن الوراء يعقوب، لم يُعلم أهذا الوراء منسوب إِلى إِسحاق، أم إِلى إِسماعيل؟ فأضيف إِلى إِسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس. قال: ويجوز أن ينسب ولد إِبراهيم من غير إِسحاق إلى سارة على جهة المجاز، فكان تأويل الآية: من الوراء المنسوب إِلى سارة، وإلى إِبراهيم من جهة إِسحاق، يعقوب. ومن حمل الوراء على «بعد» لزم ظاهر العربية. واختلف القراء في «يعقوب» ، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «يعقوبُ» بالرفع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: يَعْقُوبَ بالنصب. قال الزجاج: وفي رفع «يعقوب» وجهان: أحدهما: على الابتداء المؤخَّر، معناه التقديم والمعنى: ويعقوبُ يَحْدُثُ لها من وراء إِسحاق. والثاني: وثبت لها من وراء إِسحاق يعقوبُ. ومن نصبه. حمله على المعنى، والمعنى: وهبنا لها إِسحاقَ، ووهبنا لها يعقوبَ. قوله تعالى: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ هذه الكلمة تقال عند الإِيذان بورود الأمر العظيم. ولم تُرِد بها الدعاء على نفسها، وإِنما هي كلمة تخفُّ على ألسنة النساء عند الأمر العجيب. وقولها: أَأَلِدُ استفهام تعجّب. قال الزّجّاج: وشَيْخاً منصوب على الحال. قال ابن الأنباري: إِنما أشارت بقولها هذا لتنبِّه على شيخوخيَّته. واختلفوا في سن إِبراهيم وسارة يومئذ على أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه كان إِبراهيم ابن تسع وتسعين سنة، وسارة بنت ثمان وتسعين، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه كان إِبراهيم ابن مائة سنة، وسارة بنت تسع وتسعين، قاله مجاهد. والثالث: كان إِبراهيم ابن تسعين، وسارة مثله، قاله قتادة. والرابع: كان إِبراهيم ابن مائة وعشرين سنة، وسارة بنت تسعين، قاله عبيد بن عمير، وابن إسحاق. [سورة هود (11) : آية 73] قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) قوله تعالى: قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي: من قضائه وقدرته، وهو إِيجاد ولد من بين كبيرين. قال السدي: قالت سارة لجبريل: ما آية ذلك؟ فأخذ بيده عوداً يابساً فلواه بين أصابعه فاهتزّ أخضر،

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 74: وقيل إنها كانت يومئذ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة.

[سورة هود (11) : الآيات 74 إلى 76]

فقالت: هو إِذن لله ذبيحٌ. قوله تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فيه وجهان: أحدهما: أنه من دعاء الملائكة لهم. والثاني: أنه إِخبار عن ثبوت ذلك لهم. ومن تلك البركات وجود أكثر الأنبياء والأسباط من إِبراهيم وسارة. والحميد بمعنى المحمود. فأما المجيد، فقال ابن قتيبة: المجيد. بمعنى الماجد، وهو الشريف. وقال أبو سليمان الخطابي: هو الواسع الكرم. وأصل المجد في كلامهم: السَّعَة، يقال: رجل ماجد: إِذا كان سخياً واسع العطاء. وفي بعض الأمثال: في كل شجر نار، واستمجدَ المرْخُ والعَفَارُ «1» ، أي: استكثرا منها. [سورة هود (11) : الآيات 74 الى 76] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ يعني الفَزَع الذي أصابه حين امتنعوا من الأكل يُجادِلُنا فيه إِضمار أخذ وأقبل يجادلنا، والمراد: يجادل رسلنا. قال المفسرون: لما قالوا له: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قال: أتهلكون قرية فيها مائة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أتهلكون قرية فيها خمسون مؤمناً؟ قالوا: لا. قال: أربعون؟ قالوا: لا فما زال ينقص حتى قال: فواحد؟ قالوا: لا. فقال حينئذ: إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها، هذا قول ابن إِسحاق. وقال غيره: قيل له: إِن كان فيهم خمسة لم نعذِّبْهم، فما كان فيهم سوى لوط وابنتيه. وقال سعيد بن جبير: قال لهم: أتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمناً؟ قالوا: لا وكان إِبراهيم يَعُدُّهم أربعة عشر مع امرأة لوط، فسكتَ واطمأنَّتْ نفسه وإِنما كانوا ثلاثة عشر فأُهلكوا. قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ قد فسرناه في (براءة) «2» . فعند ذلك قالت الرسل لإِبراهيم: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا يعنون الجدال. إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بعذابهم. وقيل: قد جاء عذاب ربك، فليس بمردود، لأنّ الله تعالى قد قضى به. [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 81] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً قال المفسرون: خرجت الملائكة من عند إِبراهيم نحو قرية

_ (1) في «اللسان» مادة «عفر» المرخ والعفار: هما شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر ويسوّى من أغصانهما الزناد فيقتدح بها، وذكر المثل وقال: استمجد: استكثر. (2) في الآية: 114.

لوط، فأَتَوْهَا عشاءً. وقال السدي عن أشياخه: أَتَوْهَا نصف النهار، فلما بلغوا نهر سدوم لقوا بنت لوط تستقي الماء لأهلها، فقالوا لها: يا جارية، هل من منزل؟ قالت: نعم، مكانَكم لا تدخلوا حتى آتيكم، فَرَقاً عليهم من قومها فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه، أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم وقد كان قومه نَهَوْهُ أن يضيف رجلاً فجاء بهم، ولم يعلم بهم أحد إِلا أهل بيت لوط فخرجت امرأته فأخبرت قومها، فجاؤوا يُهْرَعُونَ إِليه. قوله تعالى: سِيءَ بِهِمْ فيه قولان: أحدهما: ساء ظنه بقومه، قاله ابن عباس. والثاني: ساءه مجيء الرسل، لأنه لم يعرفهم، وأشفق عليهم من قومه، قاله ابن جرير. قال الزجاج: وأصل «سيء بهم» سوئ بهم، من السوء، إِلا أن الواو أسكنت ونقلت كسرتها إِلى السين. قوله تعالى: وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قال ابن عباس: ضاق ذرعاً بأضيافه. قال الفراء: الأصل فيه: وضاق ذرعه بهم، فنُقل الفعل عن الذرع إِلى ضمير لوط، ونُصب الذرع بتحول الفعل عنه، كما قال: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «1» ومعناه: اشتعل شيب الرأس. قال الزجاج: يقال: ضاق فلان بأمره ذرعاً: إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصاً. وذكر ابن الأنباري فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: وقع به مكروه عظيم لا يصل إِلى دفعه عن نفسه فالذرع كناية عن هذا المعنى. والثاني: أن معناه: ضاق صبره وعظم المكروه عليه وأصله من: ذرع فلاناً القيءُ: إِذا غلبه وسبقه. والثالث: أن المعنى: ضاق بهم وُسْعُه، فناب الذرع والذراع عن الوسع، لأن الذراع من اليد، والعرب تقول: ليس هذا في يدي، يعنون: ليس هذا في وُسْعِي ويدل على صحة هذا أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع، فيقولون: ضقت بهذا الأمر ذراعاً، قال الشاعر: إِلَيْكَ إِلَيْكَ ضَاقَ بِهِم ذِرَاعَا فأما العصيب، فقال أبو عبيدة: العصيب: الشديد الذي يعصب الناس بالشر، وأنشد: يوم عصيب يعصب الأبطالا ... عَصْبَ القويِّ السَّلَمَ الطِّوالا وقال أبو عبيد: يقال: يوم عصيب ويوم عصبصب: إِذا كان شديداً. قوله تعالى: يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال ابن عباس، ومجاهد: «يهرعون» يسرعون. وقال الفراء، والكسائي: لا يكون الإِهراع إِلا إِسراعاً مع رِعدة. قال ابن قتيبة: الإِهراع شبيه بالرِعدة، يقال: أُهرع الرجل: إِذا أسرع، على لفظ ما لم يسم فاعله، كما يقال: أُرعد. قال ابن الأنباري: الإِهراع فعل واقع بالقوم وهو لَهم في المعنى، كما قالت العرب: قد أُولع الرجل بالأمر، فجعلوه مفعولاً، وهو صاحب الفعل، ومثله: أُرعد زيد، وسُهي عمرو من السهو، كل واحد من هذه الأفاعيل خرج الاسم معه مقدراً تقدير المفعول، وهو صاحب الفعل لا يُعرف له فاعل غيره. قال: وقال بعض النحويين: لا يجوز للفعل أن يُجعل فاعله مفعولاً، وهذه الأفعال المذكورة فاعلوها محذوفون، وتأويل «أولع زيد» : أولعه طبعه وجِبلَّته، و «أرعد الرجل» : أرعده غضبه، و «سهي عمرو» جعله ساهياً مالُه أو جهله، و «أُهرع» معناه: أهرعه خوفه ورعبه فلهذه العلة خرِّج هؤلاء الأسماء مخرج المفعول به. قال: وقال بعض

_ (1) سورة مريم: 4.

اللغويين: لا يكون الإِهراع إِلا إِسراع المذعور الخائف لا يقال لكل مسرع: مهرع حتى ينضم إِلى إِسراعه جزع وذعر. قال المفسرون: سبب إِهراعهم، أن امرأة لوط أخبرتهم بالأضياف. وَمِنْ قَبْلُ أي: ومن قبل مجيئهم إِلى لوط كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني فعلهم المنكر. وفي قوله: هؤُلاءِ بَناتِي قولان: أحدهما: أنهن بناته لصلبه، قاله ابن عباس. فإن قيل: كيف جمع، وإنّما كن اثنتين؟ فالجواب: أنه قد يقع الجمع على اثنين، كقوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. والثاني: أنه عنى نساء أمته، لأن كل نبي أبو أمته، والمعنى: أنه عرض عليهم التزويج، أو أمرهم أن يكتفوا بنسائهم، وهذا مذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج. فإن قيل: كيف عرض تزويج المؤمنات على الكافرين؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه قد كان يجوز ذلك في شريعته، وكان جائزاً في صدر الإِسلام حتى نسخ، قاله الحسن. والثاني: أنه عرض ذلك عليهم بشرط إِسلامهم، قاله الزجاج، ويؤكده أن عرضهن عليهم موقوف على عقد النكاح، فجاز أن يقف على شرط آخر. قوله تعالى: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ قال مقاتل: هن أحل من إِتيان الرجال. قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ فيه قولان: أحدهما: اتقوا عقوبته. والثاني: اتقوا معصيته. قوله تعالى: وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي حرك ياء «ضيفي» أبو عمرو، ونافع. وفي معنى هذا الخزي ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الفضيحة، قاله ابن عباس. والثاني: الاستحياء، والمعنى: لا تفعلوا بأضيافي فعلاً يلزمني الاستحياء منه، لأن المضيف يلزمه الاستحياء من كل فعل يصل إِلى ضيفه. والعرب تقول: قد خزي الرجل يخزى خِزاية: إذا استحيا، قال الشاعر: مِنَ البِيْضِ لاَ تَخْزَي إِذا الرِّيْحُ أَلْصَقَتْ ... بها مِرْطَهَا أَوْ زَايَلَ الحَلْيُ جِيْدَهَا «1» والثالث: أنه بمعنى الهلاك، لأن المعرة التي تقع بالمضيف في هذه الحال تُلزمه هلكة، ذكرهما ابن الأنباري. قال ابن قتيبة: والضّيف ها هنا: بمعنى الأضياف، والواحد يدل على الجميع، كما تقول: هؤلاء رسولي ووكيلي. قوله تعالى: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ في المراد بالرشيد قولان: أحدهما: المؤمن. والثاني: الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، رويا عن ابن عباس. قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشِد، فيكون المعنى: أليس منكم مرشِد يعظكم ويعرفكم قبيح ما تأتون؟ فيكون الرشيد من صفة الفاعل، كالعليم، والشهيد. ويجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشَد، فيكون المعنى: أليس منكم رجل قد أسعده الله بما منحه من الرشاد يصرفكم عن إِتيان هذه المعرَّة؟ فيجري رشيد مجرى مفعول، كالكتاب الحكيم بمعنى المحكم. قوله تعالى: ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ فيه قولان: أحدهما: ما لنا فيهن حاجة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لسن لنا بأزواج فنستحقهن، قاله ابن إسحاق، وابن قتيبة.

_ (1) في «اللسان» المرط: كساء: من خز أو صوف أو كتان، وقيل هو الثوب الأخضر.

قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ قال عطاء: وإِنك لتعلم أنا نريد الرجال، لا النساء. قوله تعالى: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي: جماعة أقوى بهم عليكم. وقيل: أراد بالقوة البطش. أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أي: أنضم إِلى عشيرة وشيعة تمنعني. وجواب «لو» محذوف على تقدير: لحُلْتُ بينكم وبين المعصية. قال أبو عبيدة: قوله تعالى: «آوي» من قولهم: أويت إِليك، فأنا آوي أُويّاً، والمعنى: صرت إِليك وانضممت. ومجاز الركن ها هنا: العشيرة العزيزة الكثيرة المنيعة، وأنشد «1» : يأوى إِلى رُكْنٍ مِنَ الأَرْكَانِ ... في عدَدٍ طَيْسٍ ومجدٍ باني والطَّيْس: الكثير، يقال: أتانا لبن طيس، وشراب طيس، أي: كثير. واختلفوا أي وقت قال هذا لوط فروي عن ابن عباس أن لوطاً كان قد أغلق بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظرهم ويناشدهم وراء الباب، وهم يعالجون الباب ويرومون تسوّر الجدار فلما رأت الملائكة ما يلقى من الكرب، قالوا: يا لوط إِنا رسل ربك، فافتح الباب ودعنا وإِياهم ففتح الباب، فدخلوا، واستأذن جبريل ربه في عقوبتهم، فأذن له، فضرب بجناحه وجوههم فأعماهم، فانصرفوا يقولون: النجاءَ النجاءَ، فان في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وجعلوا يقولون: يا لوط، كما أنت حتى تصبح، يوعدونه فقال لهم لوط: متى موعد هلاكهم؟ قالوا: الصبح، قال: لو أهلكتموهم الآن، فقالوا: أليس الصبح بقريب؟ وقال أبو صالح عن ابن عباس: إِنهم لما تواعدوه، قال في نفسه: ينطلق هؤلاء القوم غداً من عندي، وأبقى مع هؤلاء فيهلكوني، فقال: لو أن لي بكم قوة. قلت: وإِنما يتوجه هذا إِذا قلنا: إِنه كان قبل علمه أنهم ملائكة. وقال قوم: إِنه إِنما قال هذا لما كسروا بابه وهجموا عليه. وقال آخرون: لما نهاهم عن أضيافه فأبَوْا قال هذا. وفي الجملة، ما أراد بالركن نصر الله وعونه، لأنه لم يخل من ذلك، وإِنما ذهب إِلى العشيرة والأسرة. (796) وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إِلى ركن شديد، وما بعث الله نبياً بعده إِلا في ثروة من قومه» . قوله تعالى: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ قال مقاتل: فيه إِضمار، تقديره: لن يصلوا إِليك بسوء، وذلك أنهم قالوا للوط: إِنا نرى معك رجالاً سحروا أبصارنا، فستعلم غداً ما تَلْقى أنت وأهلُك فقال له جبريل: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ. قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ «فأسر»

_ صدره صحيح وعجزه حسن، أخرجه الترمذي 3116، وأحمد 2/ 332، والطبري 18411، 18412 و 18413 و 18416 وابن حبان 6207 من طريق محمد بن عمرو. عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده حسن لأجل محمد بن عمرو، فإنه صدوق، حسن الحديث. وأخرجه من حديث أبي هريرة مرفوعا دون عجزه «وما بعث الله نبياً بعده إِلا في ثروة من قومه» البخاري 3372 و 4537، ومسلم 151 و 238 والترمذي 3116 وابن ماجة 4026 والطبري 18414 و 18415 و 18417، والبغوي في «شرح السنة» 63، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» 326.

[سورة هود (11) : الآيات 82 إلى 83]

بإثبات الهمز في اللفظ من أسريت. وقرأ ابن كثير، ونافع «فاسر بأهلك» بغير همز من سريت، وهما لغتان. قال الزجاج: يقال: سريت، وأسريت: إِذا سرت ليلاً، قال الشاعر: سريت بهم حتى تكلَّ مَطيُّهم ... وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرسان «1» وقال النابغة: أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْزَاءِ سَارِيَةٌ «2» تُزجِي الشَّمَالُ عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَدِ وقد رووه: سرت. فأما أهله، فقال مقاتل: هم امرأته وابنتاه، واسم ابنتيه: رُبْثا وزُعَرثا. وقال السدي: اسم الكبرى: ريَّة، واسم الصغرى: عروبة، والمراد بأهله: ابنتاه. فأما القِطْع، فهو بمعنى القطعة يقال: مضى قِطْع من الليل، أي: قطعة. قال ابن عباس: يريد به: آخر الليل. وقال ابن قتيبة: «بقِطْع» أي: ببقية تبقى من آخره. وقال ابن الأنباري: ذكر القِطَع بمعنى القطعة مختص بالليل، ولا يقال: عندي قِطْع من الثوب، بمعنى: عندي قطعة. قوله تعالى: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى: لا يتخلَّفْ منكم أحد، قاله أبو صالح عن ابن عباس، والثاني: أنه الالتفات المعروف، قاله مجاهد، ومقاتل. قوله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَكَ قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بنصب التاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن جمّاز عن أبي جعفر برفع التاء. قال الزجاج: من قرأ بالنصب فالمعنى: فأسر بأهلك إِلا امرأتكَ. ومن قرأ بالرفع حمله على: «ولا يلتفتْ منكم أحد إِلا امرأتك» . وإِنما أُمروا بترك الالتفات لئلا يَرَوْا عظيم ما ينزل بهم من العذاب. قال ابن الأنباري: وعلى قراءة الرفع يكون الاستثناء منقطعاً، معناه: لكن امرأتك فإنها تلتفت فيصيبها ما أصابهم فإذا كان استثناءً منقطعاً كان التفاتُها معصيةً لربها، لأنه ندب إِلى ترك الالتفات. قال قتادة: ذُكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية، فلما سمعت هَدّة العذاب التفتت فقالت: وا قوماه، فأصابها حجر فأهلكها، وهو قوله: إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ للعذاب الصُّبْحُ. قوله تعالى: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قال المفسرون: قالت الملائكة: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ فقال: أريد أعجل من ذلك، فقالوا له: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟ [سورة هود (11) : الآيات 82 الى 83] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أمرُ الله الملائكةَ بعذابهم. والثاني: أن الأمر بمعنى العذاب. والثالث: أنه بمعنى القضاء بعذابهم. قوله تعالى: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها الكناية تعود إِلى المؤتفكات، وهي قرى قوم لوط، وقد

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «مطا» ونسبه لامرئ القيس 15/ 284. والمطية: الناقة التي يركب مطاها، والمطيّة: البعير يمتطى ظهره، وجمعه: مطايا. (2) في اللسان السارية: السحابة التي تسري ليلا، وجمعها: السواري.

ذكرناها في سورة براءة «1» ، ونحن نشير إلى قصة هلاكهم ها هنا. قال ابن عباس: أمر جبريل لوطاً بالخروج، وقال: اخرج وأخرج غنمك وبقرك، فقال: كيف لي بذلك وقد أُغلقت أبواب المدينة؟ فبسط جناحه، فحمله وبنتيه وما لهم من شيء، فأخرجهم من المدينة، وسأل جبريل ربَّه، فقال: يا رب ولِّني هلاك هؤلاء القوم، فأوحى الله إِليه أن تولّ هلاكهم فلما أن بدا الصبح، غدا عليهم جبريل فاحتملها على جناحه، ثم صَعِدَ بها حتى خرج الطير في الهواء لا يدري أين يذهب، ثم كَفَأهَا عليهم، وسمعوا وَجْبَةً «2» شديدة، فالتفتت امرأة لوط، فرماها جبريل بحجر فقتلها، ثم صَعِدَ حتى أشرف على الأرض، فجعل يتّبع مُسافِرَهم وَرعَاتهم ومَنْ تحوَّل عن القرية، فرماهم بالحجارة حتى قتلهم. وقال السدي: اقتلع جبريل الأرض من سبع أرضين، فاحتملها حتى بلغ بها إِلى أهل السماء الدنيا، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها. وقال غيره: كانت خمس قرى، أعظمها سَدوم، وكان القوم أربعة آلاف ألف. وقيل: كان في كل قرية مائة ألف مقاتل، فلما رفعها إِلى السماء، لم ينكسر لهم إِناء ولم يسقط حتى قلبها عليهم. وقيل: نجت من الخمس واحدة لم تكن تعمل مثل عملهم. وانفرد سعيد بن جبير، فقال: إِن جبريل وميكائيل تولَّيا قلبها. قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى القرى. والثاني: إِلى الأمة. وفي السّجّيل سبعة أقوال «3» : أحدها: أنها بالفارسية سَنْك وكِلْ، السنك: الحجر، والكل: الطين، هذا قول ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير. وقال مجاهد: أولها حجر، وآخرها طين. وقال الضحاك: يعني الآجرّ. قال ابن قتيبة: من ذهب إِلى هذا القول، اعتبره بقوله: حِجارَةً مِنْ طِينٍ يعنى الآجر. وحكى الفراء أنه طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الرّحاء «4» . والثاني: أنه بحر معلَّق في الهواء بين السماء والأرض، ومنه نزلت الحجارة، قاله عكرمة. والثالث: أن السجيل: اسم السماء الدنيا، فالمعنى: حجارة من السماء الدنيا، قاله ابن زيد. والرابع: أنه الشديد من الحجارة الصلب، قاله أبو عبيدة، وأنشد لابن مقبل: ضرباً تواصَتْ به الأبطالُ سِجِّينَا «5» وردّ هذا القول ابن قتيبة، فقال: هذا بالنون، وذاك باللام، وإِنما هو في هذا البيت فعيل من سجنت، أي: حبست، كأنه يثبت صاحبه. والخامس: أن قوله: مِنْ سِجِّيلٍ كقولك: من سِجلّ، أي: مما كُتب لهم أن يعذَّبوا به، وهذا اختيار الزجاج. والسادس: أنه من أسجلته، أي: أرسلته، فكأنها مرسلة عليهم. والسابع: أنه من أسجلت: إِذا أعطيت، حكى القولين الزّجّاج.

_ (1) الآية: 70. (2) في «اللسان» الوجبة: صوت الشيء يسقط فيسمع له كالهدّة. (3) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 93: والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله المفسرون، وهو أنها حجارة من طين، وبذلك وصفها الله في كتابه في موضع، وذلك قوله: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ سورة الذاريات: 33- 34. (4) وقع في نسخة: «الأرحاء» ، وفي «اللسان» الرحاء من الرحا: الحجارة والصخرة العظيمة. (5) هو عجز بيت، وصدره في «اللسان» مادة «سجن» : ورجلة يضربون البيض عن عرض.

[سورة هود (11) : الآيات 84 إلى 85]

وفي قوله: مَنْضُودٍ ثلاثة أقوال: أحدها: يتبع بعضه بعضا، قاله ابن عباس. والثاني: أنه مصفوف، قاله عكرمة، وقتادة. والثالث: نضد بعضه على بعض، لأنه طين جُمع فجُعل حجارة، قاله الربيع بن أنس «1» . قوله تعالى: مُسَوَّمَةً قاله الزجاج: أي معلَّمة، أُخذ من السُّومة، وهي العلامة. وفي علامتها ستة أقوال: أحدها: بياض في حمرة، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثاني: أنها كانت مختومة، فالحجر أبيض وفيه نقطة سوداء، أو أسود وفيه نقطة بيضاء، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنها المخططة بالسواد والحمرة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: عليها نضح من حمرة فيها خطوط حمر على هيئة الجِزع، قاله عكرمة، وقتادة. والخامس: أنها كانت معلَّمة بعلامة يُعرف بها أنها ليست من حجارة الدنيا، قاله ابن جريج. والسادس: أنه كان على كل حجر منها اسم صاحبه، قاله الربيع. وحكي عن بعض من رأى تلك الحجارة أنه قال: كانت مثل رأس الإبل، ومثل مبارك الإِبل، ومثل قبضة الرجل. وفي قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ أربعة أقوال: أحدها: أن المعنى: جاءت من عند ربك، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: عند ربك معدّة، قاله أبو بكر الهذليّ. والثالث: أن المعنى: هذا التسويم لزم هذه الحجارة عند الله إِيذاناً بنفاذ قدرته وشدة عذابه، قاله ابن الأنباري. والرابع: أن معنى قوله تعالى: «عند ربك» : في خزائنه التي لا يُتصرَّف في شيء منها إِلا بإذنه. قوله تعالى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ في المراد بالظّالمين ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بالظالمين هاهنا: كفار قريش، خوَّفهم الله بها، قاله الأكثرون. والثاني: أنه عام في كل ظالم قال قتادة: والله ما أجار الله منها ظالماً بعد قوم لوط، فاتقوا الله وكونوا منه على حذر. والثالث: أنهم قوم لوط، فالمعنى: وما هي من الظالمين، أي: من قوم لوط ببعيد، والمعنى: لم تكن لتُخطئهم، قاله الفرّاء. [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 85] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) قوله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ قد فسّرناه في سورة الأعراف «2» . قوله تعالى: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي: لا تطفّفوا وكانوا يطفِّفون مع كفرهم. قوله تعالى: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ فيه قولان:

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 93: والصواب من القول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، وذلك أن قوله: مَنْضُودٍ من نعت سِجِّيلٍ، لا من نعت ال حِجارَةً، وإنما أمطر القوم حجارة من طين صفة لذلك الطين أنه نضد بعضه إلى بعض، فصيّر حجارة، ولم يمطر الطين، فيكون موصوفا بأنه تتابع على القوم بمجيئه. وأضاف الطبري: وإنما كان جائزا أن يكون على ما تأوّله هذا المتأول، لو كان التنزيل بالنصب «منضودة» فيكون من نعت «الحجارة» حينئذ. (2) الآية: 85.

[سورة هود (11) : الآيات 86 إلى 95]

أحدهما: أنه رخص الأسعار، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثاني: سَعَةُ المال، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال قتادة، وابن زيد. وقال الفراء: أموالكم كثيرة، وأسعاركم رخيصة، فأيّ حاجة بكم إلى سوء الكيل والوزن «1» ؟! قوله تعالى: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه غلاء السعر، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: القحط والجدب والغلاء. والثاني: العذاب في الدنيا، وهو الذي أصابهم، قاله مقاتل. والثالث: عذاب النار في الآخرة، ذكره الماوردي «2» . قوله تعالى: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ أي: أتمُّوا ذلك بالعدل. والإِيفاء: الإِتمام. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بنقص المكيال والميزان. [سورة هود (11) : الآيات 86 الى 95] بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) قوله تعالى: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ فيه ثمانية أقوال «3» : أحدها: ما أبقى الله بكم من الحلال بعد

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 97: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما أخبر الله عن شعيب أنه قال لقومه، وذلك قوله إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ يعني: بخير الدنيا. وقد يدخل في خير الدنيا المال وزينة الحياة الدنيا ورخص السعر، ولا دلالة على أنه بقيله ذلك بعض خيرات الدنيا دون بعض، فذلك على كل معاني خيرات الدنيا التي ذكر أهل العلم أنهم كانوا أوتوها. (2) في تفسيره: 2/ 495. (3) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 98: يعني تعالى ذكره بقوله: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ما أبقاه الله لكم بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط، فأحله لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان. ثم ذكر سبب اختياره لهذا التأويل فقال في 7/ 100: وإنما اخترت في تأويل ذلك القول الذي اخترته لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بخس الناس أشياءهم في المكيال والميزان، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب، فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظ في الوفاء. في الدنيا والآخرة أولى، مع أن قوله بَقِيَّتُ إنما هي مصدر من قول القائل: «بقيت بقية من كذا» ، فلا وجه لتوجيه معنى ذلك إلا إلى: بقية الله التي أبقاها لكم، مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم، خير لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس، ببخسكم إياها في الكيل والوزن. اه.

إِيفاء الكيل والوزن، خير من البخس، قاله ابن عباس. والثاني: رزق الله خير لكم، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال سفيان. والثالث: طاعة الله خير لكم، قاله مجاهد، والزجاج. والرابع: حظُّكم من الله خير لكم، قاله قتادة. والخامس: رحمة الله خير لكم، قاله ابن زيد. والسادس: وصية الله خير لكم، قاله الربيع. والسابع: ثواب الله في الآخرة خير لكم، قاله مقاتل. والثامن: مراقبة الله خير لكم، ذكره الفراء. وقرأ الحسن البصري: «تقية الله خير لكم» بالتاء. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرطَ الإِيمان في كونه خيراً لهم، لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عزّ وجلّ، عرفوا صحّة ما يقول. وفي قوله عزّ وجلّ: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ثلاثة أقوال: أحدها: ما أُمرْتُ بقتالكم وإِكراهكم على الإِيمان. والثاني: ما أُمرتُ بمراقبتكم عند كيلكم لئلا تبخسوا. والثالث: ما أحفظكم من عذاب الله إِن نالكم. قوله تعالى: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: «أصلاتك» على التوحيد. وفي المراد بصلواته ثلاثة أقوال: أحدها: دينة، قاله عطاء. والثاني: قراءته، قاله الأعمش. والثالث: أنها الصلوات المعروفة. وكان شعيب كثيرَ الصلاة. قوله تعالى: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا قال الفراء: معنى الآية: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ وفي معنى الكلام على قراءة من قرأ بالنون قولان: أحدهما: أن فعلهم في أموالهم هو البخس والتطفيف، قاله ابن عباس فالمعنى: قد تراضينا فيما بيننا بذلك. والثاني: أنهم كانوا يقطعون الدراهم والدنانير، فنهاهم عن ذلك، قاله ابن زيد. وقال القرظي: عُذِّبوا في قطعهم الدراهم. قال ابن الأنباري: وقرأ الضحاك بن قيس الفهري: «ما تشاء» بالتاء، ونسق «أن تفعل» على «أن تترك» ، واستغنى عن الإِضمار. قال سفيان الثوري: في معنى هذه القراءة أنه أمرهم بالزكاة فامتنعوا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وابن أبي عبلة: «أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء» بالتاء فيهما «1» ومعنى هذه القراءة كمعنى قراءة الفهري. وفي قوله تعالى: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ أربعة أقوال: أحدها: أنهم قالوه استهزاءً به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والفراء. والثاني: أنهم قالوا له: إِنك لأنت السفيه الجاهل، فكنى بهذا عن ذلك، ذكره الزجاج. والثالث: أنهم سبّوه بأنه ليس بحليم ولا رشيد، فأثنى الله عزّ وجلّ عليه فقال: بل إِنك لأنت الحليم الرشيد، لا كما قال لك الكافرون، حكاه أبو سليمان الدّمشقي عن أبي الحسن المصّيصي.

_ (1) قال الطبري رحمه الله 7/ 101: فمن قرأ ذلك كذلك، فلا مؤونة فيه، وكانت «أن» الثانية حينئذ معطوفة على «أن» الأولى.

والرابع: أنهم اعترفوا له بالحلم والرشد حقيقة، وقالوا: أنت حليم رشيد، فَلِمَ تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ حكاه الماوردي، وذهب إِلى نحوه ابن كيسان. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي قد تقدّم تفسيره. وفي قوله تعالى: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحلال قال ابن عباس: وكان شعيب كثيرَ المال. والثاني: النبوَّة. والثالث: العلم والمعرفة. قال الزّجّاج: وجواب الشرط ها هنا متروك، والمعنى: إِن كنت على بينة من ربي، أتبع الضلال؟ فترك الجواب، لعلم المخاطَبين بالمعنى، وقد مرَّ مثل هذا. قوله تعالى: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ قال قتادة: لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه. وقال الزجاج: ما أقصد بخلافكم القصد إِلى ارتكابه. قوله تعالى: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي: ما أريد بما آمركم به إِلا إِصلاح أموركم بقدر طاقتي. وقدر طاقتي: إِبلاغكم لا إِجباركم. قوله تعالى: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ فتح تاء «توفيقي» أهل المدينة، وابن عامر. ومعنى الكلام: ما أصابتي الحق في محاولة صلاحكم إِلا بالله، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي: فوضت أمري، وذلك أنهم تواعدوه بقولهم: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي: أرجع. قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي حرك هذه الياء ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع. قال الزجاج: لا تكسبنَّكم عداوتكم إِيايَ أن تعذَّبوا. قوله تعالى: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا قريباً من مساكنهم. والثاني: أنهم كانوا حديثي عهد بعذاب قوم لوط. قال الزجاج: كان إِهلاك قوم لوط أقرب الإِهلاكات التي عرفوها. قال ابن الأنباري: إِنما وحَّد بعيداً، لأنه أزاله عن صفة القوم، وجعله نعتاً مكان محذوف، تقديره: وما قوم لوط منكم بمكان بعيد. قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ قد سبق معنى الرحيم. فأما الودود: فقال ابن الأنباري: معناه: المحب لعباده، من قولهم: ودِدت الرجل أوَدُّه وُدّاً ووِدّاً، ويقال: وددت الرجل ودادا وودادة ووِدادة. وقال الخطابي: هو اسم مأخوذ من الوُدِّ وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون فعولاً في محل مفعول، كما قيل: رجل هيوب، بمعنى مهيب، وفرس رَكوب، بمعنى مركوب، فالله سبحانه مودود في قلوب أوليائه لما يتعرَّفونه من إِحسانه إليهم. والوجه الآخر: أن يكون بمعنى الوادّ، أي أنه يودّ عباده الصالحين، بمعنى أنه يرضى عنهم بِتَقَبُّلِ أعمالهم ويكون معناه: أن يودّدهم إلى خلقه، كقوله عزّ وجلّ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «1» . قوله تعالى: ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ قال ابن الأنباري: معناه: ما نفقه صحة كثير مما تقول، لأنهم كانوا يتديَّنون بغيره، ويجوز أن يكونوا لاستثقالهم ذلك كأنهم لا يفقهونه.

_ (1) سورة مريم: 96. [.....]

قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً فيه أربعة أقوال: أحدها: ضريراً قال ابن عباس وابن جبير وقتادة: كان أعمى. قال الزجاج: ويقال إِن حِمير تسمي المكفوف ضعيفاً. والثاني: ذليلاً، قاله الحسن وأبو روق ومقاتل. وزعم أبو رَوْق أن الله لم يبعث نبياً أعمى ولا نبياً به زمانة. والثالث: ضعيف البصر، قاله سفيان. والرابع: عاجزاً عن التصرف في المكاسب، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ قال الزجاج: لولا عشيرتك لقتلناك بالرّجم، والرّجم من سيّئ القتلات، وكان رهطه من أهل ملَّتهم، فلذلك أظهروا الميل إِليهم والإِكرام لهم. وذكر بعضهم أنّ الرّجم ها هنا بمعنى الشتم والأذى. قوله تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ فيه قولان: أحدهما: بكريم. والثاني: بممتنع أن نقتلك. قوله تعالى: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وأسكن ياء «رهطي» أهل الكوفة، ويعقوب، والمعنى: أتراعون رهطي فيَّ، ولا تراعون الله فيَّ؟ قوله تعالى: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله الجمهور. قال الفراء: المعنى: رميتم بأمر الله وراء ظهوركم. قال الزجاج: والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمر: قد جعل فلان هذا الأمر بظهر، قال الشاعر «1» : تميمَ بنَ قيس لا تكوننَّ حَاجَتي ... بظَهْرٍ فلا يَعْيَا عليَّ جَوَابُها والثاني: أنها كناية عما جاء به شعيب، قاله مجاهد. قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أي: عالم بأعمالكم، فهو يجازيكم بها. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «2» إِلى قوله تعالى: سَوْفَ تَعْلَمُونَ. فإن قال قائل: كيف قال ها هنا: «سوف» وفي أخرى: «فسوف» «3» ؟ فالجواب: أن كلا الأمرين حسن عند العرب، إِن أدخلوا الفاء، دلُّوا على اتصال ما بعد الكلام بما قبله، وإِن أسقطوها، بَنَوْا الكلام الأول على أنه قد تم، وما بعده مستأنف، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً «4» والمعنى: فقالوا: أتتخذنا، بالفاء، فحذفت الفاء لتمام ما قبلها. قال امرؤ القيس: فقالتْ يَمينَ الله ما لك حِيلةٌ ... وَمَا إِنْ أرَى عَنْكَ الغَوَاية تَنْجلي خَرَجْتُ بِها أمْشي تَجُرّ وَرَاءَنا ... عَلى إِثرِنَا أذْيَالَ مِرطٍ مُرحَّلِ «5» قال ابن الأنباري: أراد: فخرجتُ، فأسقط الفاء لتمام ما قبلها. ويروى: فقمت بها أمشي. قوله تعالى: وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ قال ابن عباس: ارتقبوا العذاب، فإني أرتقب الثواب. قوله تعالى: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ. قال المفسرون: صاح بهم جبريل فماتوا في أمكنتهم. قال محمد بن كعب: عُذّب أهل مدين بثلاثة أصناف من العذاب، أخذتهم رجفة في ديارهم حتى خافوا أن تسقط عليهم، فخرجوا منها فأصابهم حرٌّ شديد، فبعث الله الظُلَّةَ، فتنادَوا: هلم إِلى الظل فدخلوا جميعاً في الظُلَّة، فصيح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم. قال ابن عباس: لم تعذّب أمّتان

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ظهر» وعزاه إلى الفرزدق. (2) سورة الأنعام: 135. (3) سورة الأنعام: 135. (4) سورة البقرة: 67. (5) المرحّل: ضرب من برود اليمن، سمي مرحّلا لأن عليه تصاوير رحل. ومرط مرحّل: إذا وخز فيه علم.

[سورة هود (11) : الآيات 96 إلى 97]

قط بعذاب واحد، إلا قوم شعيب وصالح، فأما قوم صالح، فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب، فأخذتهم من فوقهم، نشأت لهم سحابة كهيئة الظُلَّة فيها ريح بعد أن امتنعت الريح عنهم، فَأَتَوْها يستظلُّون تحتها فأحرقتهم. قوله تعالى: كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ أي: كما هلكت ثمود. قال ابن قتيبة: يقال: بَعِدَ يَبْعَدُ: إِذا كان بُعْده هلكة وبَعُدَ يبعد: إذا نأى. [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 97] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا قال الزجاج: بعلاماتنا التي تدل على صحة نبوته. وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: حجة بيِّنة. قوله تعالى: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وهو ما أمرهم به من عبادته واتخاذه إِلهاً. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي: مرشد إلى خير. [سورة هود (11) : آية 98] يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) قوله تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ قال الزجاج: يقال: قَدَمْت القوم أقدُمهم، قَدْماً وقُدوما: إِذا تقدمتهم والمعنى: يقدمهم إِلى النار ويدل عليه قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ قال ابن عباس: أوردهم بمعنى أدخلهم. وقال قتادة: يمضي بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار. وقوله تعالى: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ قال المفسرون: الوِرد: الموضع الذي ترِده. وقال ابن الأنباري: الوِرد: مصدر معناه: الورود، تجعله العرب بمعنى الموضع المورود فتلخيص الحرف: وبئس المدخل المدخول النار. [سورة هود (11) : آية 99] وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) قوله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ. في هذه اللعنة قولان: أحدهما: أنها في الدنيا الغرق، وفي الآخرة عذاب النار، هذا قول الكلبي، ومقاتل. والثاني: أنها اللعنة في الدنيا من المؤمنين، وفي الآخرة من الملائكة، ذكره الماوردي «1» . قوله تعالى: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ قال ابن قتيبة: الرفد: العطية يقول: اللعنة بئس العطية يقال: رفَدته أرفِده: إِذا أعطيته وأعنته. والمرفود: المعطى. [سورة هود (11) : آية 100] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى يعني ما تقدم من الخبر عن القرى المهلَكة. نَقُصُّهُ عَلَيْكَ أي: نخبرك به مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ قال قتادة: القائم: ما يرى مكانه، والحصيد: لا يرى أثره. وقال ابن قتيبة: القائم: الظاهر العين، والحصيد: الذي قد أبيد وحُصد. وقال الزجاج: القائم: ما بقيت حيطانه، والحصيد: الذي خُسِف به وما قد امَّحى أثره.

_ (1) في تفسيره: 2/ 502.

[سورة هود (11) : آية 101]

[سورة هود (11) : آية 101] وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) قوله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ أي: بالعذاب والإِهلاك. وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي. فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ أي: فما نفعتهم ولا دفعت عنهم شيئاً لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بالهلاك. وَما زادُوهُمْ يعني الآلهة غَيْرَ تَتْبِيبٍ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التخسير، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، واختاره ابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الشر، قاله ابن زيد. والثالث: التدمير والإِهلاك، قاله أبو عبيدة. فإن قيل: الآلهة جماد، فكيف قال: «زادوهم» ؟ فعنهْ جوابان: أحدهما: وما زادتهم عبادتها. والثاني: أنها في القيامة تكون عونا عليهم فتزيدهم شرّا. [سورة هود (11) : الآيات 102 الى 104] وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ أي: وكما ذُكر من إِهلاك الأمم وأخذهم بالعذاب أَخْذُ ربك. إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ وصف القرى بالظلم، والمراد أهلها. وقال ابن عباس: الظّلم ها هنا: بمعنى الكفر. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني ما ذُكر من عذاب الأمم وأخْذِهم. والآية: العبرة والعظة. ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ لأن الخلق يُحشرون فيه، ويَشهده البَرُّ والفاجر، وأهل السماء والأرض.. وَما نُؤَخِّرُهُ وروى زيد عن يعقوب، وأبو زيد عن المفضل «وما يؤخره بالياء» والمعنى: وما نؤخر ذلك اليوم إِلا لوقت معلوم لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ. [سورة هود (11) : الآيات 105 الى 108] يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: «يوم يأتي» بياء في الوصل وحذفوها في الوقف غير أن ابن كثير كان يقف بالياء ويصل بالياء. وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة بغير ياء في الوصل والوقف. قال الزجاج: الذي يختاره النحويون «يوم يأتي» باثبات الياء، والذي في المصحف وعليه أكثر القراءات بكسر التاء، وهذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثيراً. وقد حكى الخليل وسيبويه، أن العرب تقول: لا أدرِ، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة، ويزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال. وقال الفراء: كل ياء ساكنة وما قبلها مكسور، أو واو ساكنة وما قبلها مضموم، فإن العرب

تحذفهما وتجتزئ بالكسرة من الياء وبالضمة من الواو، وأنشدني بعضهم «1» : كفّاك كَفٌّ مَا تُلِيْقُ دِرْهَمَا ... جُوْدَاً وأُخْرى تُعْطِ بالسَّيفِ الدِّما قال المفسرون: وقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ يعني: يأتي ذلك اليوم، لا تكلَّم نفس إِلا بإذن الله، فكل الخلائق ساكتون، إِلا من أذن الله له في الكلام. وقيل: المراد بهذا الكلام الشفاعة. قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ قال ابن عباس: منهم من كُتبت عليه الشقاوة، ومنهم من كُتبت له السعادة. قوله تعالى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الزفير كزفير الحمار في الصدر، وهو أول ما ينهق، والشهيق كشهيق الحمار في الحلق، وهو آخر ما يفرغ من نهيقه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل، والفراء. وقال الزجاج: الزفير: شديد الأنين وقبيحه، والشهيق: الأنين الشديد المرتفع جداً، وهما من أصوات المكروبين. وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوته في النهيق. والثاني: أن الزفير في الحلق، والشهيق في الصدور، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وفي رواية أخرى عن ابن عباس: الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف. وقال ابن فارس: الشهيق ضد الزفير، لأن الشهيق ردُّ النَّفَس، والزفير إِخراج النَّفَس. وقال غيره: الزفير: الشديد، مأخوذ من الزَّفْر، وهو الحَمل على الظهر لشدته والشهيق: النَّفَس الطويل الممتد، مأخوذ من قولهم: جبل شاهق، أي طويل. والثالث: أن الزفير زفير الحمار، والشهيق شهيق البغال، قاله ابن السائب. قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ المعروف فيه قولان: أحدهما: أنها السّماوات المعروفة عندنا، والأرض المعروفة. قال ابن قتيبة، وابن الأنباري: للعرب في معنى الأبد الفاظ تقول: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السّماوات والأرض، وما اختلفت الجِرَّة والدِرَّة، وما أطّت الإِبل «2» ، في أشباه لهذا كثيرة، ظناً منهم أن هذه الأشياء لا تتغير، فخاطبهم الله بما يستعملون في كلامهم. والثاني: أنّها سماوات الجنة والنار وأرضهما. قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ في الاستثناء المذكور في حق أهل النار سبعة أقوال «3» :

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ليق» ولم ينسبه لأحد. (2) في «اللسان» الجرّة: ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه. والدّرّة بالكسر: كثرة اللبن وسيلانه. وأطّت الإبل تئطّ أطيطا: أنّت تعبا أو حنينا. (3) قال الطبري رحمه الله 7/ 116: وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب، القول الذي ذكرناه عن قتادة والضحاك: «من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر، أنه يدخلهم النار خالدين فيها أبدا إلا ما شاء من تركهم فيها أقل من ذلك، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أن الله يدخل قوما من أهل الإيمان به بذنوب أصابوها النار، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دخولها، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا، وأنّا إن جعلناه استثناء في ذلك، كنا قد دخلنا في قول من يقول: «لا يدخل الجنة فاسق، ولا النار مؤمن» ، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان، فلا قول قال به القدوة من أهل العلم إلا الثالث. وانظر و «تفسير الشوكاني» 2/ 598.

أحدها: أن الاستثناء في حق الموحِّدين الذين يخرجون بالشفاعة، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: أنه استثناء لا يفعله، تقول: والله لأضربنَّك إِلا أن أرى غير ذلك، وعزيمتك على ضربه، ذكره الفراء، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس: «إِلا ما شاء ربك» قال: فقد شاء أن يخلَّدوا فيها. قال الزجاج: وفائدة هذا، أنه لو شاء أن يرحمهم لرحمهم، ولكنه أعلمنا أنهم خالدون أبداً. والثالث: أن المعنى: خالدين فيها أبداً، غير أن الله تعالى يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم، فيرجع الاستثناء إِلى تلك الحال، قاله ابن مسعود. والرابع: أن «إِلا» بمعنى «سوى» تقول: لو كان معنا رجل إِلا زيد، أي: سوى زيد فالمعنى: خالدين فيها مقدار دوام السّماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود والزيادة، وهذا اختيار الفراء. قال ابن قتيبة: ومثله في الكلام أن تقول: لأُسْكنَنَّك في هذه الدار حولاً إِلا ما شئتَ تريد: سوى ما شئتَ أن أزيدك. والخامس: أنهم إِذا حُشروا وبُعثوا، فهم في شروط القيامة فالاستثناء واقع في الخلود بمقدار موقفهم في الحساب، فالمعنى: خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إِلا مقدار موقفهم للمحاسبة، ذكره الزجاج. وقال ابن كيسان: الاستثناء يعود إِلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب قال ابن قتيبة: فالمعنى: خالدين في النار وخالدين في الجنة دوام السماء والأرض إِلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك، فكأنه جعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد على ما كانت العرب تستعمل، وإن كانتا قد تتغيَّران. واستثنى المشيئة من دوامهما، لأن أهل الجنة والنار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا، لا في الجنة، ولا في النار. والسادس: أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيراً وشهيقاً، إِلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تُذكر وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذُكر، ولهم مما لم يُذكر ما شاء ربك، ذكره الزجاج أيضاً. والسابع: أنّ «إلّا» بمعنى «كما» ، ومنه قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «1» ، ذكره الثعلبي. فأما الاستثناء في حق أهل الجنة، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه استثناء لا يفعله. والثاني: أن «إِلا» بمعنى «سوى» . والثالث: أنه يرجع إِلى وقوفهم للحساب ولبثهم في القبور. والرابع: أنه بمعنى: إِلا ما شاء أن يزيدَهم من النعيم الذي لم يذكر. والخامس: أنّ «إلّا» بمعنى «كما» وهذه الأقوال قد سبق شرحها. والسادس: أن الاستثناء يرجع إِلى لبث من لبث في النار من الموحِّدين، ثم أُدخل الجنة، قاله ابن عباس، والضحاك، ومقاتل. قال ابن قتيبة: فيكون الاستثناء من الخلود مُكث أهل الذنوب من المسلمين في النار، فكأنه قال: إِلا ما شاء ربك من إِخراج المذنبين إِلى الجنة، وخالدين في الجنة إِلا ما شاء ربّك من إدخال المذنبين النار مدّة «2» .

_ (1) سورة النساء: 22. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 118: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب: القول الذي ذكرته عن الضحاك وهو: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ، من قدر مكثهم في النار، من لدن دخولها إلى أن دخلوا الجنة، وتكون الآية معناها الخصوص، لأن الأشهر من كلام العرب في «إلا» توجيهها إلى معنى الاستثناء وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها، إلا أن يكون معها دلالة تدل على خلاف ذلك، ولا دلالة في الكلام، أعني في قوله: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ تدل على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام، فيوجه إليه.

[سورة هود (11) : آية 109]

واختلف القراء في «سعِدوا» فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: «سَعِدوا» بفتح السين. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بضمها، وهما لغتان. قوله تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ نُصب عطاء بما دل عليه الكلام، كأنه قال: أعطاهم النعيم عطاءً. والمجذوذ: المقطوع قال ابن قتيبة: يقال: جذذت، وجددت، وجذفت، وجدفت: إِذا قطعت. [سورة هود (11) : آية 109] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) قوله تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي: فلا تك يا محمد في شك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ المشركون من الأصنام، أنه باطل وضلال، إنّما يقلّدون آباءهم، وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما قُدّر لهم من خير وشر، قاله ابن عباس. والثاني: نصيبهم من الرزق، قاله أبو العالية. والثالث: نصيبهم من العذاب، قاله ابن زيد. وقال بعضهم: لا ينقصهم من عذاب آبائهم. [سورة هود (11) : آية 110] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ فمن مصدِّق به ومكذِّب كما فعل قومك بالقرآن. قال المفسرون: وهذه تعزية للنبيّ صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ قال ابن عباس: يريد: إِني أخَّرت أمتك إِلى يوم القيامة، ولولا ذلك لعجَّلت عقاب من كذبك. وقال ابن قتيبة: لولا نَظِرةٌ لهم إِلى يوم الدين لقُضي بينهم في الدنيا. وقال ابن جرير: سبقت من ربك أنه لا يعجِّل على خلقه بالعذاب، لقضي بين المصدِّق منهم والمكذِّب باهلاك المكذب وإِنجاء المصدق. قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي: من القرآن مُرِيبٍ أي: موقع للريب. [سورة هود (11) : آية 111] وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) قوله تعالى: وَإِنَّ كُلًّا يشير إِلى جميع من قصَّ قصته في هذه السورة. وقال مقاتل: يعني به كفار هذه الأمة. وقيل: المعنى: وإِن كلاًّ لخلق أو بشر لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. قرأ أبو عمرو، والكسائي «وإِنَّ» مشددة النون، «لما» خفيفة. واللام في «لما» لام التوكيد، دخلت على «ما» وهي خبر «إِنّ» . واللام في «لَيوفينَّهم» اللام التي يُتلقَّى بها القَسم، والتقدير: والله ليوفينَّهم، ودخلت «ما» للفصل بين اللامين. قال

[سورة هود (11) : آية 112]

مكي بن أبي طالب: وقيل: إِن «ما» زائدة، لكن دخلت لتفصل بين اللامين اللَّذَيْن يتلقَّيان القسم وكلاهما مفتوح، ففُصل ب «ما» بينهما. وقرأ ابن كثير «وإِنْ» بالتخفيف، وكذلك «لما» . قال سيبويه: حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: إِنْ عَمْراً لمنطلق، فيخففون «إِنّ» ويُعملونها، وأنشد: وَوَجْهٍ حَسَنِ النَّحرِ ... كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: «وإِن» خفيفة، «لمَّا» مشددة، والمعنى: وما كلاًّ إِلا وهذا كما تقول: سألتك لمَّا فعلت، وإِلاَّ فعلت، ومثله قوله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «1» وقرأ حمزة، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «وإِنّ» بالتشديد، «لمّا» بالتشديد أيضاً. قال أبو علي: هذه قراءة مشكلة، لأنه كما لا يحسن: إِنَّ زيداً إِلا منطلق، كذلك لا يحسن تثقيل «إِنَّ» وتثقيل «لمّا» . وحكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل في «لمّا» ، ولم يُبعد فيما قال. وقال مكي بن أبي طالب: الأصل فيها «لَمِن ما» ثم أدغمت النون في الميم، فاجتمعت ثلاث ميمات في اللفظ، فحذفت الميم المكسورة والتقدير: وإِنَّ كلاًّ لمِن خَلْقٍ ليوفينَّهم. قال: وقيل: التقدير: «لَمَن ما» بفتح الميم في «مَن» فتكون «ما» زائدة، وتحذف إِحدى الميمات لتكرير الميم في اللفظ والتقدير: لَخلقٌ ليوفينَّهم، ومعنى الكلام: ليوفّينّهم جزاء أعمالهم «2» . [سورة هود (11) : آية 112] فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ قال ابن عيينة: استقم على القرآن. وقال ابن قتيبة: امض على ما أمرت به. قوله تعالى: وَمَنْ تابَ مَعَكَ قال ابن عباس: من تاب معك من الشرك. قوله تعالى: وَلا تَطْغَوْا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تطغوا في القرآن، فتحلّوا وتحرّموا ما لم آمركم به، قاله ابن عباس. والثاني: لا تعصوا ربكم ولا تخالفوه، قاله ابن زيد. والثالث: لا تخلطوا التوحيد بشك، قاله مقاتل. [سورة هود (11) : آية 113] وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) قوله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا روى عبد الوارث عن أبي عمرو: «تَركُنوا» بفتح التاء وضم الكاف، وهي قراءة قتادة. وروى هارون عن أبي عمرو «تَركِنوا» بفتح التاء وكسر الكاف. وروى محبوب عن أبي عمرو: «تِركَنوا» بكسر التاء وفتح الكاف. وقرأ ابن أبي عبلة «تُركَنوا» بضم التاء وفتح الكاف على ما لم يُسم فاعله. وفي المراد بهذا الركون أربعة أقوال «3» : أحدها: لا تميلوا إلى

_ (1) سورة الطارق: 4. (2) قال الطبري رحمه الله 7/ 122- 123: وأصح هذه القراءات مخرجا على كلام العرب المستفيض فيهم قراءة من قرأ: وَإِنَّ بتشديد نونها، كُلًّا لَمَّا بتخفيف- ما-، لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ بمعنى وإن كل هؤلاء الذين قصصنا عليك يا محمد قصصهم في هذه السور، ليوفينهم ربك أعمالهم بالصالح منها بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها بالشديد من العقاب، فتكون «ما» بمعنى «من» واللام التي فيها جوابا ل «إنّ» واللام في قوله: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ لام قسم. (3) اختار ابن كثير في تفسيره 2/ 568 القول الأول. [.....]

[سورة هود (11) : آية 114]

المشركين، قاله ابن عباس. والثاني: لا تَرضوا أعمالهم، قاله أبو العالية. والثالث: لا تلحقوا بالمشركين، قاله قتادة. والرابع: لا تُداهنوا الظلمة، قاله السّدّيّ، وابن زيد. وفي قوله تعالى: فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وجهان. أحدهما: فتصيبكم النار، قاله ابن عباس. والثاني: فيتعدَّى إِليكم ظلمهم كما تتعدَّى النار إِلى إِحراق ما جاورها، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي ليس لكم أعوان يمنعونكم من العذاب. [سورة هود (11) : آية 114] وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ. (797) أما سبب نزولها، فروى علقمة والأسود عن ابن مسعود أنّ رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إِني أخذت امرأة في البستان فقبَّلتها، وضممتُها إِليَّ، وباشرتُها، وفعلتُ بها كل شيء، غير أنّي لم أجامعها فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ الآية، فدعا الرجل فقرأها عليه، فقال عمر: أهي له خاصَّة أم للناس كافَّة؟ قال: «لا، بل للناس كافة» . (798) وفي رواية أخرى عن ابن مسعود: أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله، فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية، فقال الرجل: أليَ هذه الآية؟ فقال: «لمن عمل بها من أمتي» . (799) وقال معاذ بن جبل: كنت قاعداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل أصاب من امرأة ما لا يحل له، فلم يدَع شيئاً يصيبه الرجل من امرأته إِلا أصابه منها، غير أنه لم يجامعها؟ فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «توضأ وضوءاً حسناً، ثم قم فصلِّ» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال معاذ: أهي له خاصة، أم للمسلمين عامة؟ فقال: «بل هي للمسلمين عامة» . واختلفوا في اسم هذا الرجل. (800) فقال أبو صالح عن ابن عباس: هو عمرو بن غزيّة الأنصاري، وفيه نزلت هذه الآية، كان

_ صحيح. أخرجه مسلم 2763- 42، وأبو داود 4468، والترمذي 3112، والطبري 18668، والبيهقي في «السنن» 8/ 241 من طريق علقمة والأسود عن ابن مسعود به. ولفظه عند مسلم: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها، فأنا هذا، فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت نفسك. قال فلم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي عليه السلام رجلا دعاه، وتلا عليه هذه الآية: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ، فقال رجل من القوم: يا نبي الله! هذا له خاصة؟ قال: «بل للناس كافة» . صحيح، أخرجه البخاري 526 و 4687، ومسلم 2763- 40- 41 والترمذي 3114، والنسائي في «الكبرى» 7326/ 6، وابن ماجة 4254- 1398، وابن خزيمة 312، والطبري 18676، والطبراني 10560، والبيهقي في «السنن» 8/ 241. صحيح. أخرجه الترمذي 3113 والطبري 18695 من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل، ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع بين ابن أبي ليلى، ومعاذ بن جبل، لكن المتن محفوظ بشواهده وطرقه. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس، ثم هو من رواية

يبيع التمر، فأتته امرأة تبتاع منه تمراً، فأعجبته، فقال: إِن في البيت تمراً أجود من هذا، فانطلقي معي حتى أعطيك منه فذكر نحو حديث معاذ. وقال مقاتل: هو أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاري. وذكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ أنه أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري. وذكر في الذي قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أله خاصة؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أبو اليسر صاحب القصة. والثاني: معاذ بن جبل. والثالث: عمر بن الخطاب «1» . فأما التفسير، فقوله عزّ وجلّ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي: أتم ركوعها وسجودها. فأما طرفا النهار، ففي الطرف الأول قولان: أحدهما: أنه صلاة الفجر، قاله الجمهور. والثاني: أنه الظهر، حكاه ابن جرير. وفي الطرف الثاني ثلاثة أقوال: أحدها: أنه صلاة المغرب، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: العصر، قاله قتادة. وعن الحسن كالقولين. والثالث: الظهر، والعصر، قاله مجاهد، والقرظي. وعن الضحاك كالأقوال الثلاثة. قوله تعالى: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وقرأ أبو جعفر، وشيبة «وزلفا» بضم اللام. قال أبو عبيدة: الزُلَف: الساعات، واحدها: زُلْفَة، أي: ساعة ومنزلة وقربة، ومنه سميت المزدلفة، قال العجّاج: ناجٍ طواه الأينُ مما أوجفا ... طَيَّ اللَّيَالي زُلَفاً فزُلَفا سَماوَةَ الهِلاَل حَتَّى احْقَوْقَفَا «2» قال ابن قتيبة: ومنه يقال: أزلفني كذا عندك، أي: أدناني والمزالف: المنازل والدَّرَج، وكذلك الزُّلَف. وفيها للمفسرين قولان: أحدهما: أنها صلاة العتمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وعوف عن الحسن، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال ابن زيد. والثاني: أنها صلاة المغرب والعشاء، روي عن ابن عباس أيضاً، ورواه يونس عن الحسن، ومنصور عن مجاهد، وبه قال قتادة، ومقاتل، والزجاج. قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ في المراد بالحسنات قولان: أحدهما: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وابن المسيب، ومسروق، ومجاهد، والقرظي، والضحاك، والمقاتلان: ابن سليمان، وابن حيان. والثاني: أنها سبحان الله، ولا إِله إِلا الله، والله أكبر، رواه منصور عن مجاهد. والأول أصح، لأن الجمهور عليه. وفيه حديث مسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ الكلبي عنه، كما في «فتح الباري» 35618، وعزاه الحافظ لابن مردويه، والكلبي يضع الحديث وأصل الخبر محفوظ، لكن تفرّد بذكر الصحابي بأنه عمرو بن غزية، فهذا واه. وأخرجه الترمذي 3115 والطبري 18697 و 18698 والطبراني 371 من حديث أبي اليسر، وإسناده ضعيف لضعف قيس بن الربيع، وفي هذا الحديث هو أبو اليسر راوي الحديث. وانظر التعليق الآتي.

[سورة هود (11) : آية 115]

(801) رواه عثمان بن عفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ، وقال: «من توضأ وضوئي هذا، ثم صلى الظهر، غُفر له ما كان بينها وبين صلاة الصبح، ومن صلى العصر، غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ومن صلى المغرب، غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء، غُفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله أن يبيت ليلته يتمرَّغ، ثم إِن قام فتوضأ وصلى الصبح، غُفر له ما بينه وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السّيئات» . فأمّا السّيئات المذكورة ها هنا، فقال المفسرون: هي الصغائر من الذنوب. (802) وقد روى معاذ بن جبل، قال: قلت: يا رسول الله، أوصني قال: «اتق الله حيثما كنت» ، قال: قلت: زدني قال: أتبع السيئة الحسنة تمحها» ، قلت: زدني قال: «خالِقِ الناس بخُلُق حسن» . قوله تعالى: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ في المشار إِليه ب ذلِكَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن. والثاني: إِقام الصلاة. والثالث: جميع ما تقدم من الوصية بالاستقامة، والنهي عن الطغيان، وترك الميل إِلى الظالمين، والقيام بالصلاة. وفي المراد بالذكرى قولان: أحدهما: أنه بمعنى التّوبة. والثاني: بمعنى العظة. [سورة هود (11) : آية 115] وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) قوله تعالى: وَاصْبِرْ فيما أُمر بالصبر عليه قولان: أحدهما: لما يلقاه من أذى قومه. والثاني: الصلاة. وفي المراد بالمحسنين ثلاثة أقوال: أحدها: المصلُّون، قاله ابن عباس. والثاني: المخلصون،

_ ضعيف الإسناد والمتن: أخرجه أحمد 1/ 71 والطبري 18675 و 18676 و 18677 من طريق زهرة بن معبد عن الحارث مولى عثمان بن عفان عن عثمان به. وإسناده ضعيف لجهالة الحارث هذا، حيث لم يرو عنه سوى زهرة ولم يوثقه سوى ابن حبان وهو على قاعدته في توثيق المجاهيل. والهيثمي يعتمد توثيق ابن حبان فقال في «المجمع» 1/ 297: رجاله رجال الصحيح سوى الحارث، وهو ثقة؟! - قلت: والحديث في الصحيحين، ولفظه عند البخاري: عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كل رجل ثلاثا، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه» . وأخرجه البخاري 159 ومسلم 226 وأحمد 1/ 71. حسن. أخرجه الترمذي بإثر حديث 1987 وأحمد 5/ 228 والطبراني 20/ 297- 298 وفي «الصغير» 530 من طريق ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به. وإسناده ضعيف، رجاله ثقات، لكن فيه إرسال بين ميمون ومعاذ. وورد من حديث أبي ذر: أخرجه الترمذي 1987 والدارمي 2794 وأحمد 5/ 153- 158 والحاكم 1/ 54 والقضاعي 652 من طريق ميمون عن أبي ذر به، وإسناده لا بأس به، وهو حسن إن كان سمعه ميمون من أبي ذر، ففي سماعه من أبي ذر وأمثاله اختلاف. وصححه الحاكم على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! مع أن البخاري ما روى لميمون، وقد روى له مسلم في «المقدمة» . وقال الترمذي: حسن صحيح. وانظر «صحيح الجامع» 97.

[سورة هود (11) : آية 116]

قاله مقاتل. والثالث: أنهم المحسنون في أعمالهم، قاله أبو سليمان. [سورة هود (11) : آية 116] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) قوله تعالى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ قال ابن عباس، والفراء: المعنى: فلم يكن. وقال ابن قتيبة: المعنى: فهلاَّ كان من القرون من قبلكم أولو بقية. وروى ابن جماز عن أبي جعفر «أولو بِقْيَةٍ» بكسر الباء وسكون القاف وتخفيف الياء. وفي معنى «أولو بقيَّة» ثلاثة أقوال: أحدها: أولو دين، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة: يقال: قوم لهم بقية، وفيهم بقية: إِذا كانت بهم مُسكة وفيهم خير. والثاني: أولو تمييز. والثالث: أولو طاعة، ذكرهما الزجاج، وقال: إِذا قلت: فلان فيه بقية، فمعناه: فيه فضل. قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا استثناء منقطع، أي: لكنّ قليلاً ممن أنجينا منهم ممن نهى عن الفساد. قال مقاتل: لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشرك إِلا قليلاً ممن أنجينا من العذاب مع الرسل. قوله تعالى: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي: اتبعوا مع ظلمهم ما أُترفوا فيه مع استدامة نعيمهم، فلم يقبلوا ما ينقص من ترفهم. قال الفراء: آثروا اللذات على أمر الآخرة. قال: ويقال: اتبعوا ذنوبهم السيئة إلى النار. [سورة هود (11) : آية 117] وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ فيه قولان: أحدهما: بغير جرم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: بشرك، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان. وفي قوله: وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: ينتصف بعضهم من بعض، رواه قيس بن أبي حازم عن جرير. قال أبو جعفر الطبري: فيكون المعنى: لا يهلكهم إِذا تناصفوا وإِن كانوا مشركين، وإِنما يهلكهم إِذا تظالموا. والثاني: مصلحون لأعمالهم، متمسكون بالطاعة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: مؤمنون، قاله مقاتل. [سورة هود (11) : الآيات 118 الى 119] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً قال ابن عباس: لو شاء أن يجعلهم كلَّهم مسلمين لفعل. قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في المشار إِليهم قولان «1» : أحدهما: أنهم أهل

_ (1) قال الطبري رحمه الله 7/ 139: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك «ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى إلا من رحم ربك، فآمن بالله وصدّق رسله فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق رسله وما جاءهم من عند الله» وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ففي ذلك دليل واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس، إنما هو عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار، ولو كان خبرا عن اختلافهم في الرزق، لم يعقب ذلك بالخبر عن عقابهم.

[سورة هود (11) : آية 120]

الحق وأهل الباطل، رواه الضحاك عن ابن عباس فيكون المعنى: إِن هؤلاء يخالفون هؤلاء. والثاني: أنهم أهل الأهواء لا يزالون مختلفين، رواه عكرمة عن ابن عباس. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ قال ابن عباس: هم أهل الحق. وقال الحسن: أهل رحمة الله لا يختلفون. قولة تعالى: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ في المشار إِليه بذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يرجع إِلى ما هم عليه. قال ابن عباس: خلقهم فريقين، فريقاً يُرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يُرحم يختلف. والثاني: أنه يرجع إِلى الشقاء والسعادة، قاله ابن عباس أيضاً، واختاره الزجاج، قال: لأن اختلافهم مؤدِّيهم إِلى سعادة وشقاوة. قال ابن جرير: واللام في قوله: «ولذلك» بمعنى «على» . والثالث: أنه يرجع إِلى الاختلاف، رواه مبارك عن الحسن. والرابع: أنه يرجع إِلى الرحمة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة فعلى هذا يكون المعنى: ولرحمته خلق الذين لا يختلفون في دينهم «1» . قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قال ابن عباس: وجب قول ربك: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ من كفّار الجنّة، وكفّار الناس. [سورة هود (11) : آية 120] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) قوله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ قال الزجاج: «كلاً» منصوب ب «نقص» ، المعنى: كل الذي تحتاج إِليه من أنباء الرسل نقص عليك. و «ما» منصوبة بدلاً من كل، المعنى: نقص عليك ما نثبِّت به فؤادك ومعنى تثبيت الفؤاد: تسكين القلب ها هنا، ليس للشك، ولكن كلما كان البرهان والدلالة أكثر، كان القلب أثبت. قوله تعالى: وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ في المشار إِليه ب «هذه» أربعة أقوال: أحدها: أنها السورة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير وأبو العالية، ورواه شيبان عن قتادة. والثاني: أنها الدنيا، فالمعنى: وجاءك في هذه الدنيا، رواه سعيد عن قتادة وعن الحسن كالقولين. والثالث: أنها الأقاصيص المذكورة. والرابع: أنها هذه الآية بعينها، ذكر القولين ابن الأنباري «2» . وفي المراد بالحقّ ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها البيان. والثاني: صدق القصص والأنباء. والثالث: النبوة. فإن قيل: أليس قد جاءه الحق في كل القرآن، فلم خصّ هذه السّورة؟

_ (1) قال الطبري رحمه الله 7/ 141: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: «وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم» ، لأن الله جلّ ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل والآخر أهل حق، ثم عقّب ذلك بقوله: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، فعمّ بقوله: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له. (2) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 574: والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف نجاهم الله والمؤمنين بهم، وأهلك الكافرين، جاءك فيها قصص حق، ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون، وذكرى يتوقّر بها المؤمنون. وقال الطبري رحمه الله 7/ 144: وأولى التأويلين بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: «وجاءك في هذه السورة الحق» لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.

[سورة هود (11) : الآيات 121 إلى 122]

فالجواب: أنا إِن قلنا: إِن الحق النبوة، فالإِشارة ب «هذه» إِلى الدنيا، فيكون المعنى: وجاءك في هذه الدنيا النبوة، فيرتفع الإِشكال. وإِن قلنا: إِنها السورة، فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن المراد بالحق البيان، وهذه السورة جمعت من تبيين إِهلاك الأمم، وشرح مآلهم، ما لم يجمع غيرها، فبان أثر التخصيص، وهذا مذهب بعض المفسرين. والثاني: أن بعض الحق أوكد من بعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا، ولهذا يقول الناس: فلان في الحق إذا كان في الموت، وإِن لم يكن قبله في باطل، ولكن لتعظيم ما هو فيه، فكأن الحق المبين في هذه السورة أجلى من غيره، وهذا مذهب الزجاج. والثالث: أنه خص هذه السورة بذلك لبيان فضلها، وإِن كان في غيرها حق أيضاً، فهو كقوله عزّ وجلّ: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى «1» ، وقوله عزّ وجلّ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «2» ، وهذا مذهب ابن الأنباري. والرابع: أن المعنى: وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك من سائر السور، قاله ابن جرير الطبري. قوله تعالى: وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي: يتعظون إِذا سمعوا هذه السورة وما نزل بالأمم فتلين قلوبهم. [سورة هود (11) : الآيات 121 الى 122] وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ هذا تهديد ووعيد، والمعنى: اعملوا ما أنتم عاملون فستعلمون عاقبة أمركم وَانْتَظِرُوا ما يِعدكم الشيطان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما يعِدنا ربنا. (فصل:) قال المفسرون: وهذه الآية اقتضت تركهم على أعمالهم، والاقتناع بإنذارهم، وهي منسوخة بآية السيف. واعلم أنه إِذا قلنا: إِن المراد بالآية التّهديد، لم يتوجّه نسخ. [سورة هود (11) : آية 123] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) قوله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: علم ما غاب عن العباد فيهما. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ قرأ نافع، وحفص عن عاصم «يُرجع الأمر كله» بضم الياء. وقرأ الباقون، وأبو بكر عن عاصم «يَرجع» بفتح الياء، والمعنى: إِن كل الأمور ترجع إِليه في المعاد. فَاعْبُدْهُ أي: وحِّده. وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ أي: ثِقْ به. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «تعلمون» بالتاء. وقرأ الباقون بالياء. قال أبو علي: فمن قرأ بالتاء، فالمعنى: قل لهم: وما ربك بغافل عما تعملون. ومن قرأ بالياء، فالخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولجميع الخلق مؤمِنهم وكافِرهم، فهو أعم من التاء، وهذا وعيد، والمعنى: إِنه يجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. قال كعب: خاتمة التوراة خاتمة «هود» .

_ (1) سورة البقرة: 238. (2) سورة البقرة: 98.

سورة يوسف

سورة يوسف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يوسف (12) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) (فصل في نزولها:) هي مكية بالإِجماع. وفي سبب نزولها قولان: (803) أما القول الأول: فروي عن سعد بن أبي وقاص قال: أُنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى: آلر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إلى قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا، فأنزل الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «1» كل ذلك يؤمرون بالقرآن. (804) وقال عون بن عبد الله: ملّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلَّة، فقالوا: يا رسول الله حدِّثنا، فأنزل الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، ثم إِنهم ملوّا مَلَّة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، فوق الحديث، ودون القرآن، يعنون القصص، فأنزل الله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، فأراد الحديث، فدلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص، فدلهم على أحسن القصص. (805) والثاني: رواه الضحاك عن ابن عباس قال: سألت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: حدّثنا عن

_ صحيح. أخرجه البزار 3218 وأبو يعلى 740 وابن حبان 6209 والحاكم 2/ 345 والطبري 18789 والواحدي في «أسباب النزول» 544 من طرق عن عمرو بن قيس عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه به. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وانظر ما بعده. مرسل. أخرجه الطبري 18788 عن عون بن عبد الله بن مسعود مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، لكن للحديث شاهد من حديث سعد، وهو المتقدم. وشاهد آخر من حديث ابن عباس: أخرجه الطبري 18786 عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن عباس، وإسناده منقطع، عمرو لم يسمع من ابن عباس. وكرره الطبري 18787 من مرسل عمرو بن قيس، وهو شاهد لما قبله، وإن كان ضعيفا، والله أعلم. باطل لا أصل له. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، فقد روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ليس له أصل، وهذا

[سورة يوسف (12) : آية 2]

أمر يعقوب وولده وشأن يوسف، فأنزل الله عزّ وجلّ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وذلك أن التوراة بالعبرانية، والإِنجيل بالسريانية، وأنتم قوم عرب، ولو أنزلته بغير العربية ما فهمتموه. وقد بينا تفسير أول هذه السورة في أول سورة يونس، إِلا أنه قد ذكر ابن الأنباري زيادة وجه في هذه السورة، فقال: لما لحق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مللٌ وسآمة، فقالوا له: حدثنا بما يزيل عنا هذا الملل، فقال: تلك الأحاديث التي تقدرون الانتفاع بها وانصراف الملل، هي آيات الكتاب المبين. وفي معنى «المبين» خمسة أقوال: أحدها: البيِّن حلاله وحرامه، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: المبيّن للحروف التي تسقط عن ألسن الأعاجم، رواه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. والثالث: البيِّن هداه ورشده، قاله قتادة. والرابع: المبيِّن للحق من الباطل. والخامس: البيِّن إِعجازه فلا يعارَض، ذكرهما الماوردي «1» . [سورة يوسف (12) : آية 2] إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الكتاب، قاله الجمهور. والثاني: إِلى خبر يوسف، ذكره الزجاج، وابن القاسم. قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا قد ذكرنا معنى القرآن واشتقاقه في سورة النساء «2» . وقد اختلف الناس، هل في القرآن شيء بغير العربية، أم لا، فمذهب أصحابنا أنه ليس فيه شيء بغير العربية. وقال أبو عبيدة. من زعم أن في القرآن لساناً سوى العربية فقد أعظم على الله القول، واحتجّ بقوله: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «3» . وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة أن فيه من غير لسان العرب، مثل: «سجيل» و «المشكاة» و «اليم» و «الطور» و «أباريق» و «إِستبرق» وغير ذلك. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قال أبو عبيد: وهؤلاء أعلم من أبي عبيدة، ولكنهم ذهبوا إِلى مذهب، وذهب هو إِلى غيره، وكلاهما مصيب إِن شاء الله، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل، فقال: أولئك على الأصل، ثم لفظت به العرب بألسنتها فعربته فصار عربياً بتعريبها إِياه، فهي عربية في هذه الحالة، أعجمية الأصل، فهذا القول يصدِّق الفريقين جميعاً. قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ قال ابن عباس: لكي تفهموا. [سورة يوسف (12) : آية 3] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ قد ذكرنا سبب نزولها في أول الكلام. وقد خُصَّت بسبب آخر «4» : فروي عن سعيد بن جبير قال: اجتمع أصحاب محمّد عليه السلام إلى سلمان، فقالوا:

_ الحديث منه، فإن السورة مكية بإجماع كما ذكر المصنف، وسؤالات اليهود إنما كانت في المدينة، فتنبّه، والله الموفّق.

[سورة يوسف (12) : الآيات 4 إلى 5]

حدِّثنا عن التوراة فانها حسن ما فيها، فأنزل الله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ يعني: قصص القرآن أحسن مما في التوراة. قال الزجاج: والمعنى نحن نبين لك أحسن البيان، والقاصُّ: الذي يأتي بالقصة على حقيقتها قال: وقوله تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي: بوحينا إِليك هذا القرآن. قال العلماء: وإِنما سميت قصة يوسف أحسن القصص، لأنها جمعت ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والأنعام، وسير الملوك، والمماليك، والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء، وحيلهن، وذكر التوحيد، والفقه، والسرّ، وتعبير الرؤيا، والسياسة، والمعاشرة، وتدبير المعاش، والصبر على الأذى، والحلم والعزّ، والحكم، إِلى غير ذلك من العجائب. قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتَ في «إِن» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «قد» . والثاني: بمعنى «ما» . قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ قال ابن عباس: من قبل نزول القرآن. لَمِنَ الْغافِلِينَ عن علم خبر يوسف وما صنع به إخوته. [سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 5] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) قوله تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ في «إِذ» قولان: أحدهما: أنها صلة للفعل المتقدِّم، والمعنى: نحن نقص عليك إِذ قال يوسف. والثاني: أنها صلة لفعل مضمر، تقديره: اذكر إِذ قال يوسف، ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري. قوله تعالى: يا أَبَتِ قرأ أبو جعفر، وابن عامر بفتح التاء، ووقفا بالهاء، وافقهما ابن كثير في الوقف بالهاء، وقرأ الباقون بكسر التاء. فمن فتح التاء، أراد: يا أبتا، فحذف الألف كما تحذف الياء، فبقيت الفتحة دالة على الألف، كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء. ومن وقف على الهاء، فلان تاء التأنيث تبدل منها الهاء في الوقف. وقرأ أبو جعفر: «أحد عشر» ، و «تسعة عشر» ، بسكون العين فيهما. وفيما رآه يوسف قولان: أحدهما: أنه رأى الشمس والقمر والكواكب، وهو قول الأكثرين. قال الفراء: وإِنما قال: «رأيتهم» على جمع ما يعقل، لأن السجود فعل ما يعقل، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «1» . قال المفسرون: كانت الكواكب في التأويل إِخوته، والشمس أمه، والقمر أباه، فلما قصَّها على يعقوب أشفق من حسد إِخوته. وقال السدي: الشمس أبوه، والقمر خالته، لأن أمه كانت قد ماتت. والثاني: أنه رأى أبويه وإِخوته ساجدين له، فكنى عن ذكرهم، وهذا مروي عن ابن عباس، وقتادة. فأما تكرار قوله تعالى: رَأَيْتُهُمْ فقال الزجاج: إِنما كرره لمَّا طال الكلام توكيداً. وفي سن يوسف لما رأى هذا المنام ثلاثة أقوال: أحدها: سبع سنين. والثاني: اثنتا عشرة سنة. والثالث: سبع عشرة سنة. قال المفسرون: علم يعقوب أن إِخوة يوسف يعلمون تأويل رؤياه، فقال: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً

_ (1) سورة النحل: 18.

[سورة يوسف (12) : آية 6]

، قال ابن قتيبة: يحتالوا لك حيلة ويغتالوك. وقال غيره: اللام صلة، والمعنى: فيكيدوك. والعدو المبين: الظّاهر العداوة. [سورة يوسف (12) : آية 6] وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) قوله تعالى: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ قال الزجاج، وابن الأنباري: ومثل ما رأيت من الرفعة والحال الجليلة، يختارك ربك ويصطفيك من بين إِخوتك. وقد شرحنا في الأنعام معنى الاجتباء. وقال ابن عباس: يصطفيك بالنّبوّة. قوله تعالى: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فيه ثلاثة اقوال: أحدها: أنه تعبير الرؤيا، قاله ابن عباس ومجاهد، وقتادة، فعلى هذا سمي تأويلاً لأنه بيان ما يؤول أمر المنام إِليه. والثاني: أنه العلم والحكمة، قاله ابن زيد. والثالث: تأويل أحاديث الأنبياء والأمم والكتاب، ذكره الزّجّاج. قال مقاتل: و «من» ها هنا صلة. قوله تعالى: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بالنبوة، قاله ابن عباس. والثاني: باعلاء الكلمة. والثالث: بأن أحوج إِخوته إِليه حتى أنعم عليهم، ذكرهما الماوردي «1» . وفي آلِ يَعْقُوبَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ولده، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: يعقوب وامرأته وأولاده الأحد عشر، أتم عليهم نعمته بالسجود ليوسف، قاله مقاتل. والثالث: أهله، قاله أبو عبيدة، واحتج بأنك إِذا صغَّرت الآل، قلت: أُهيل. قوله تعالى: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ قال عكرمة: فنعمته على إِبراهيم أن نجاه من النار، ونعمته على إِسحاق أن نجاه من الذبح. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ أي: عليم حيث يضع النبوة حَكِيمٌ في تدبير خلقه. [سورة يوسف (12) : آية 7] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) قوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي: في خبر يوسف وقصة إِخوته آيات أي: عِبَر لمن سأل عنهم، فكل حال من أحواله آية. وقرأ ابن كثير «آيةٌ» «2» . (806) قال المفسرون: وكان اليهود قد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، فأخبرهم بها كما في التّوراة، فعجبوا من ذلك.

_ باطل لا أصل له. هو بعض حديث مطوّل، أخرجه البزار، 222، والطبري 18792، وابن حبان في «المجروحين» 1/ 250، والعقيلي 1/ 259/ 316، والبيهقي في «الدلائل» 6/ 277 وابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 146 من حديث ابن جابر، ومداره على الحكم بن ظهير، وهو متروك. وقال ابن حبان: لا أصل له من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، والحكم يروي الموضوعات ووافقه ابن الجوزي، وقال: واضعه يريد شين الإسلام بمثل هذا. اه. وضعفه ابن كثير 2/ 577. والصواب أنه باطل لا أصل له، وهو من الإسرائيليات.

[سورة يوسف (12) : آية 8]

وفي وجه هذه الآيات خمسة أقوال: أحدها: الدّلالة على صدق محمّد عليه السّلام حين أخبر أخبار قوم لم يشاهدهم، ولا نظر في الكتاب. والثاني: ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه. والثالث: صدق رؤياه وصحة تأويله. والرابع: ضبط نفسه وقهر شهوته حتى قام بحق الأمانة. والخامس: حدوث السرور بعد اليأس. فإن قيل: لم خص السائلين، ولغيرهم فيها آيات أيضاً؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن المعنى: للسائلين وغيرهم، فاكتفى بذكر السائلين من غيرهم، كما اكتفى بذكر الحر من البرد في قوله تعالى: تَقِيكُمُ الْحَرَّ. والثاني: أنه إِذا كان للسائلين عن خبر يوسف آية، كان لغيرهم آية أيضاً وإِنما خص السائلين، لأن سؤالهم نتج الأعجوبة وكشف الخبر. [سورة يوسف (12) : آية 8] إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) قوله تعالى: إِذْ قالُوا يعني إِخوة يوسف. لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ يعنون بن يامين. وإِنما قيل له: ابن يامين، لأن أمه ماتت نفساء. ويامين بمعنى الوجع، وكان أخاه لأمه وأبيه. والباقون إِخوته لأبيه دون أمه. فأما العصبة، فقال الزجاج: هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد يتابع بعضهم بعضاً في الفعل، ويتعصب بعضهم لبعض. وللمفسرين في العصبة ستة أقوال: أحدها: أنها ما كان أكثر من عشرة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنها ما بين العشرة إِلى الأربعين، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال قتادة. والثالث: أنها ستة أو سبعة، قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنها من عشرة إِلى خمسة عشر، قاله مجاهد. والخامس: الجماعة، قاله ابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج. والسادس: عشرة، قاله مقاتل. وقال الفراء: العصبة عشرة فما زاد. قوله تعالى: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فيه ثلاثة اقوال: أحدها: لفي خَطَأٍ من رأيه، قاله ابن زيد. والثاني: في شَقَاءٍ، قاله مقاتل والمراد به عناء الدنيا. والثالث: لفي ضلال عن طريق الصواب الذي يقتضي تعديل المحبة بيننا، لأن نفعنا له أعم. قال الزجاج: ولو نسبوه إِلى الضلال في الدين كانوا كفاراً، إِنما أرادوا: إِنه قدَّم ابنين صغيرين علينا في المحبة ونحن جماعة نفعنا أكثر. [سورة يوسف (12) : آية 9] اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قوله تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ قال أبو علي: قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي: «مبينٌ اقتلوا» بضمّ التنوين، لأنّ تحريكه يلزم لالتقاء السّاكنين، فحركوه بالضم ليُتبعوا الضمة الضمة، كما قالوا: «مد» «وظلمات» . وقرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، بكسر التنوين، فلم يتبعوا الضمة كما قالوا: «مدَّ» «ظُلُمات» . قال المفسرون: وهذا قولهم بينهم: أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً قال الزجاج: نصب «أرضاً» على إسقاط «في» ، وإفضاء الفعل إِليها والمعنى: أو اطرحوه أرضاً يبعد بها عن أبيه. وقال غيره: أرضاً تأكله فيها السباع. قوله تعالى: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي: يفرغ لكم من الشغل بيوسف. وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد يوسف. قَوْماً صالِحِينَ فيه قولان: أحدهما: صالحين بالتوبة من بعد قتله، قاله ابن عباس. والثاني: يصلح حالكم عند أبيكم، قاله مقاتل. وفي قصتهم نكتة عجيبة، وهو أنهم عزموا على التوبة قبل الذنب، وكذلك المؤمن لا ينسى التّوبة وإن كان مرتكبا للخطايا.

[سورة يوسف (12) : الآيات 10 إلى 14]

[سورة يوسف (12) : الآيات 10 الى 14] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يهوذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبه، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه شمعون، قاله مجاهد. والثالث: روبيل، قاله قتادة، وابن إِسحاق. فأما غيابة الجب، فقال أبو عبيدة: كل شيء غيَّب عنك شيئاً فهو غيابة. والجب: الرَّكية التي لم تطو. وقال الزجاج: الغيابة: كل ما غاب عنك، أو غيَّب شيئاً عنك، قال المنخَّل: فإنْ أنا يَوْماً غيَّبَتْني غَيَابَتي ... فسِيروا بِسَيْري في العشيرة والأهْلِ والجب: البئر التي لم تطو سميت جباً من أجل أنها قُطعت قطْعاً، ولم يحدث فيها غير القطع من طي وما أشبهه. وقال ابن عباس: «في غيابة الجب» أي: في ظلماته. وقال الحسن: في قعره. وقرأ نافع: «غيابات الجب» فجعل كلّ جزء منه غيابة. وروى خارجة عن نافع: «غيَّابات» بتشديد الياء. وقرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد: «غيبة الجب» بغير ألف مع إِسكان الياء «1» . وأين كان هذا الجب، فيه قولان: أحدهما: بأرض الأردن، قاله وهب. وقال مقاتل: هو بأرض الأردن على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب. والثاني: ببيت المقدس، قاله قتادة. قوله تعالى: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ قال ابن عباس: يأخذه بعض من يسير. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي: إِن أضمرتم له ما تريدون. وأكثر القراء قرءوا «يلتقطه» بالياء. وقرأ الحسن، وقتادة، وابن أبي عبلة بالتاء. قال الزجاج: وجميع النحويين يجيزون ذلك، لأن بعض السيارة سيارة، فكأنه قال: تلتقطه سيارة بعض السيارة. وقال ابن الأنباري: من قرأ بالتاء، فقد أنَّث فعل بعض، وبعض مذكر، وإِنما فعل ذلك حملاً على المعنى، إِذ التأويل: تلتقطه السيارة، قال الشاعر: رأت مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السِّرارُ مِنَ الهِلاَلِ «2» أراد: رأت السنين، وقال الآخر: طُولُ الليالي أَسْرَعتْ في نَقْضي ... طَوَيْنَ طُوِلي وَطَوَيْنَ عَرْضِي أراد: الليالي أسرعت، وقال جرير: لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ المدينة والجبال الخشّع

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 153: وقراءة ذلك بالتوحيد أحبّ إليّ. (2) البيت لجرير كما في ديوانه 426، و «مجاز القرآن» 1/ 98. وفي «اللسان» السرار: آخر الشهر ليلة يستسر الهلال، واستسر القمر أي خفي ليلة السرار.

أراد: تواضعت المدينة، وقال الآخر: وتشْرَقُ بالْقَوْلِ الَّذي قد أَذَعْتُهُ ... كما شَرقتْ صدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ «1» أراد: كما شرقت القناة. قال المفسرون: فلما عزم القوم على كيد يوسف، قالوا لأبيه: ما لَكَ لا تَأْمَنَّا قرأ الجماعة «تأمنا» بفتح الميم وإِدغام النون الأولى في الثانية والإِشارة إِلى إِعراب النون المدغمة بالضم قال مكي: لأن الأصل «تأمننا» ثم أدغمت النون الأولى، وبقي الإِشمام يدل على ضمة النون الأولى. والإِشمام: هو ضمّك شفتيك من غير صوت يُسمع، فهو بعد الإِدغام وقبل فتحه النون الثانية. وابن كيسان يسمي الإِشمام الإِشارة، ويسمى الرَّوم إِشماماً والرَّوْم: صوت ضعيف يُسمع خفياً. وقرأ أبو جعفر «تأمنّا» بفتح النون من غير إِشمام إِلى إعراب المدغم. وقرأ الحسن «ما لك لا تأمُنّا» بضم الميم. وقرأ ابن مقسم «تأمننا» بنونين على الأصل والمعنى: ما لك لا تأمنا على يوسف فترسله معنا، فانه قد كبر ولا يعلم شيئاً من أمر المعاش، وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ فيما أشرنا به عليك أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إِلى الصحراء. وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وذلك أنهم قالوا له: أرسله معنا، فقال: إِني لَيَحْزُنُني أن تذهبوا به، فقالوا: ما لك لا تأمنّا. قوله تعالى: يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو «نرتع ونلعب» بالنون فيهما، والعين ساكنه وافقهم زيد عن يعقوب في «نرتع» فحسب. وفي معنى «نرتع» ثلاثة أقوال: أحدها: نَلْهُ، قاله الضحاك. والثاني: نَسْعَ، قاله قتادة. والثالث: نأكل يقال: رتعت الإِبل: إِذا رعت، وأرتعتها: إِذا تركتها ترعى. قال الشاعر: وَحْبِيبٍ لي إِذَا لاقيته ... وإذا يخلو لَهُ لَحْمِي رَتَعْ «2» أي أكله، هذا قول ابن الأنباري، وابن قتيبة. وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي: «يرتع ويلعب» بالياء فيهما وجزْم العين والباء، يعنون «يوسف» . وقرأ نافع: «نرتعِ» بكسر العين من «نرتع» من غير بلوغ إِلى الياء. قال ابن قتيبة: ومعناها: نتحارس، ويرعى بعضنا بعضاً، أي: يحفظ ومنه يقال: رعاك الله، أي: حفظك. ورويت عن ابن كثير أيضاً «نرتعي» باثبات ياء بعد العين في الوصل والوقف. وقرأ أنس، وأبو رجاء «نرتعي» باثبات ياء بعد العين في الوصل والوقف. وقرأ أنس، وأبو رجاء «نُرتِعْ» بنون مرفوعة وكسر التاء وسكون العين، و «نلعبْ» بالنون. قال أبو عبيدة: أي: نرتع إِبلنا «3» . فأمّا قوله تعالى: «ونلعب» فقال ابن عباس: نلهو.

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» ، مادة «شرق» ونسبه للأعشى. وشرق الشيء شرقا فهو شرق: اشتدت حمرته بدم أو بحسن لون أحمر. (2) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري من قصيدة في «المفضليات» 190- 202، و «الشعر والشعراء» 384. (3) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 155: وأولى ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأه في الحرفين كليهما بالياء، وبجزم العين في «يرتع» ، لأن القوم إنما سألوا أباهم إرسال يوسف معهم، وخدعوه بالخبر عن مسألتهم إياه ذلك، كما ليوسف في إرساله معهم من الفرح والسرور. والنشاط بخروجه إلى الصحراء وفسحتها ولعبه هنالك، لا بالخبر عن أنفسهم.

[سورة يوسف (12) : آية 15]

فإن قيل: كيف لم ينكر عليهم يعقوب ذِكر اللعب؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء، قاله أبو عمرو بن العلاء. والثاني: أنهم عَنَوْا مباح اللعب، قاله الماوردي «1» . قوله تعالى: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي: يحزنني ذهابكم به، لأنه يفارقني فلا أراه. وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: «الذئب» بالهمز في الثلاثة المواضع. وقرأ الكسائي، وأبو جعفر، وشيبة بغير همز. قال أبو علي: «الذئب» مهموز في الأصل. يقال: تذاءَبَتِ الريح: إِذا جاءت من كل جهة كما يأتي الذئب. وفي علة تخصيص الذئب بالذكر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه رأى في منامة أن الذئب شد على يوسف، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن أرضهم كانت كثيرة الذئاب، قاله مقاتل. والثالث: أنه خافهم عليه فكنى بذكر الذئب، قاله الماوردي «2» . قوله تعالى: وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ فيه قولان: أحدهما: غافلون في اللعب. والثاني: مشتغلون برعيتكم. قوله تعالى: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي: جماعة نرى الذئب قد قصده ولا نرد عنه إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ أي: عاجزون. قال ابن الأنباري: ومن قرأ «عصبةً» بالنصب، فتقديره: ونحن نجتمع عصبة. [سورة يوسف (12) : آية 15] فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ في الكلام اختصار وإِضمار، تقديره: فأرسله معهم فلما ذهبوا. وَأَجْمَعُوا أي: عزموا على أن يجعلوه في غيابة الجبّ. (الإشارة إلى قصّة ذهابهم به) قال المفسرون «3» : قالوا ليوسف: أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيد؟ قال: بلى، قالوا: فسل أباك أن يرسلك معنا، قال: أفعل، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب، فقالوا: يا أبانا إِن يوسف قد أحب أن يخرج معنا، فقال: ما تقول يا بني؟ قال: نعم يا أبت، قد أرى من إِخوتي اللين واللطف، فأنا أحب أن تأذن لي، فأرسله معهم، فلما أصحروا، أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة، وأغلظوا له القول، وجعل يلجأ إِلى هذا، فيضربه، وإِلى هذا، فيؤذيه، فلما فطن لما قد عزموا عليه، جعل ينادي: يا أبتاه، يا يعقوب، لو رأيت يوسف وما ينزل به من إِخوته لأَحَزْنَكَ ذلك وأبكاك، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك، وضيَّعوا وصيَّتك وجعل يبكي بكاءً شديداً. قال الضحاك عن ابن عباس: فأخذه روبيل فجلد به الأرض، ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف: مهلاً يا أخي لا تقتلني، قال: يا

_ (1) انظر «تفسير الماوردي» : 3/ 13. (2) انظر «تفسير الماوردي» : 3/ 13. (3) هذه الآثار مصدرها كتب الأقدمين يستأنس بها من غير احتجاج، وفي بعضها غرابة.

[سورة يوسف (12) : الآيات 16 إلى 17]

ابن راحيل صاحبَ الأحلام، قل لرؤياك تخلصك من أيدينا، ولوى عنقه ليكسرها، فنادى يوسف: يا يهوذا اتق الله فيّ، وخل بيني وبين مَنْ يريد قتلي، فأدركته له رحمة، فقال يهوذا: يا إِخوتاه، ألا أدلكم على أمرٍ هو خير لكم وأرفق به؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: تلقونه في هذا الجب فيلتقطه بعض السّيّارة، قالوا: نفعل فانطلقوا به إِلى الجب، فخلعوا قميصه، فقال: يا إِخوتاه، لِمَ نزعتم قميصي؟ ردوه عليَّ أستر به عورتي ويكون كفناً لي في مماتي فأخرج الله له حجراً في البئر مرتفعاً من الماء، فاستقرت عليه قدماه. وقال السدي: جعلوا يدلونه في البئر، فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إِخوتاه، ردّوا عليّ قميصي أتوارى به، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً، فدلّوه في البئر، حتى إِذا بلغ نصفها ألقوه إِرادة أن يموت، فكان في البئر ماءٌ فسقط فيه، ثم أوى إِلى صخرة فيها فقام عليها فلما أَلْقَوْهُ في الجب جعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة، فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وقال كعب: جمعوا يديه إِلى عنقه ونزعوا قميصه، فبعث الله إِليه مَلَكاً، فحلَّ عنه وأخرج له حجراً من الماء، فقعد عليه وكان يعقوب قد أدرج قميص إِبراهيم الذي كساه الله إِياه يوم أُلْقي في النار في قصبة، وجعلها في عنق يوسف، فألبسه إِياه الملك حينئذ، وأضاء له الجب. وقال الحسن: أُلقي في الجب، فَعَذُبَ ماؤه، فكان يغنيه عن الطعام والشراب ودخل عليه جبريل، فأنس به، فلما أمسى نهض جبريل ليذهب، فقال له يوسف: إِنك إِذا خرجت عني استوحشت، فقال: إِذا رهبت شيئاً فقل: يا صريخ المستصرخين، ويا غوث المستغيثين، ويا مفرِّج كرب المكروبين، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري. فلما قالها حفّته الملائكة، فاستأنس في الجب ومكث فيه ثلاثة أيام، وكان إِخوته يرعون حول الجب. وقال محمد بن مسلم الطائفي: لما أُلقي يوسف في الجُبِّ، قال: يا شاهدا غير غائب، ويا قريباً غير بعيد، ويا غالباً غير مغلوب، اجعل لي فرجاً مما أنا فيه قال: فما بات فيه. وفي مقدار سنِّة حين أُلقي في الجب أربعة أقوال: أحدها: اثنتا عشرة سنة، قاله الحسن. والثاني: ست سنين، قاله الضحاك. والثالث: سبع عشرة، قاله ابن السائب، وروي عن الحسن أيضاً. والرابع: ثمان عشرة. قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ فيه قولان: أحدهما: أنه إِلهام، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه وحي حقيقة. قال المفسرون: أُوحي إِليه لتخبرنّ إِخوتك بأمرهم، أي: بما صنعوا بك وأنت عال عليهم. وفي قوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قولان: أحدهما: لا يشعرون أنك يوسف وقت إِخبارك لهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثاني: لا يشعرون بالوحي، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. فعلى الأول يكون الكلام من صلة «لتنبئنهم» وعلى الثاني من صلة «وأوحينا إِليه» . قال حميد: قلت للحسن: أيحسد المؤمنُ المؤمن؟ قال: لا أبا لك، ما نسّاك بني يعقوب؟ [سورة يوسف (12) : الآيات 16 الى 17] وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) قوله تعالى: وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ وقرأ أبو هريرة، والحسن، وابن السميفع، والأعمش:

[سورة يوسف (12) : آية 18]

«عشاء» بضمّ العين. قال المفسّرون: جاءوا وقت العتمة ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار بالكذب، فلما سمع صوتهم فزع، وقال: ما لكم يا بَنِيَّ، هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما اصابكم؟ وأين يوسف؟ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: ننتضل، قاله ابن عباس، وابن قتيبة، قال: والمعنى، يسابق بعضنا بعضاً في الرمي. والثاني: نشتد، قاله السدي. والثالث: نتصيد، قاله مقاتل. فيكون المعنى على الأول: نستبق في الرمي لننظر أينا أسبق سهماً وعلى الثاني: نستبق على الأقدام وعلى الثالث: للصيد. قوله تعالى: وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أي: ثيابنا. وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي: بمصدّق. وفي قوله تعالى: وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ قولان: أحدهما: أن المعنى: وإِن كنا قد صدقنا، قاله ابن إِسحاق. والثاني: لو كنا عندك من أهل الصدق لاتّهمتنا في يوسف لمحبتك إِياه، وظننت أنا قد كذبناك، قاله الزّجّاج. [سورة يوسف (12) : آية 18] وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) قوله تعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قال اللغويون: معناه: بدم مكذوب فيه، والعرب تجعل المصدر في كثير من الكلام مفعولاً، فيقولون للكذب مكذوب، وللعقل معقول، وللجلد مجلود، قال الشاعر: حتَّى إِذا لَمْ يَتْرُكُوا لِعِظَامِهِ ... لَحْماً وَلاَ لِفُؤَادِهِ مَعْقُولاَ «1» أراد: عقلاً. وقال الآخر: قد والذي سَمَكَ السماءَ بِقُدْرَةٍ ... بُلغ العَزَاءُ وأُدْرِكَ المَجْلُوْدُ «2» يريد: أُدرك الجلد. ويقولون: ليس لفلان عقد رأي، ولا معقود رأي، ويقولون: هذا ماء سكْب، يريدون: مسكوباً، وهذا شراب صب، يريدون: مصبوباً، وماء غور، يعنون: غائراً، ورجل صوم، يريدون: صائماً، وامرأة نَوْح، يريدون: نائحة وهذا الكلام مجموع قول الفراء، والأخفش، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين. قال ابن عباس: أخذوا جدياً فذبحوه، ثم غمسوا قميص يوسف في دمه، وأتوه به وليس فيه خرق، فقال: كذبتم، لو كان أكله الذئب لخرّق القميص. وقال قتادة: كان دم ظبية. وقرأ ابن أبي عبلة: «بدمٍ كذباً» بالنصب. وقرأ ابن عباس، والحسن، وأبو العالية: «بدم كدب» بالدال غير معجمة، أي: بدم طريّ. قوله تعالى: بَلْ سَوَّلَتْ أي: زَيَّنَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً غير ما تصفون فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال الخليل: المعنى: فشأني صبر جَميل، والذي أعتقده صبر جميل. وقال الفراء: الصبر مرفوع، لأنه عزّى نفسه وقال: ما هو إِلا الصبر، ولو أمرهم بالصبر، لكان نصباً. وقال قطرب: المعنى: فصبري

_ (1) البيت للراعي النميري كما في «ديوانه» 137. (2) في «اللسان» سمك الشيء: رفعه فارتفع.

[سورة يوسف (12) : آية 19]

صبر جميل. وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ، وأبو المتوكل: «فصبراً جميلاً» بالنصب. قال الزجاج: والصبر الجميل لا جزع فيه، ولا شكوى إِلى الناس. قوله تعالى: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ فيه قولان: أحدهما: على ما تصفون من الكذب. والثاني: على احتمال ما تصفون. [سورة يوسف (12) : آية 19] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) قوله تعالى: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ أي: قوم يسيرون فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ قال الأخفش: أنّث السيارة وذكّر الوارد، لأن السيارة في المعنى للرجال. وقال الزجاج: الوارد: الذي يَرِدُ الماء ليستقي للقوم. وفي اسم هذا الوارد قولان: أحدهما: مالك بن ذُعْر بن يؤيب بن عيفا بن مدين بن إِبراهيم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: مجلث بن رعويل، قاله وهب بن منبه. قوله تعالى: فَأَدْلى دَلْوَهُ أي: أرسلها. قال الزجاج: يقال: أدليت الدلو: إِذا أرسلتها لتملأها، ودلوتها: إِذا أخرجتها. قالَ يا بُشْرى قرأه ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «يا بشرايَ» بفتح الياء وإِثبات الألف. وروى ورش عن نافع «بشرايْ» و «محيايْ» و «مثواي» بسكون الياء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي «يا بشرى» بألف بغير ياء. وعاصم بفتح الراء، وحمزة، والكسائي يميلانها. قال الزجاج: من قرأ «يا بشراي» فهذا النداء تنبيه للمخاطبين، لأن البشرى لا تجيب ولا تعقل فالمعنى: أبشروا، ويا أيها البشرى هذا من أوانك، وكذلك إِذا قلت: يا عجباه، فكأنك قلت: اعجبوا، ويا أيها العجب هذا من حينك وقد شرحنا هذا المعنى. فأما قراءة من قرأ «يا بشرى» فيجوز أن يكون المعنى: يا من حضر، هذه بشرى. ويجوز أن يكون المعنى: يا بشرى هذا أوانك على ما سبق بيانه من تنبيه الحاضرين. وذكر السدي أنه نادى بذاك أحدهم وكان اسمه بشرى «1» . وقال ابن الأنباري: يجوز فيه هذه الأقوال، ويجوز أن يكون اسم امرأة. وقرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة: «يا بُشْرَيَّ» بتشديد الياء وفتحها من غير ألف «2» . قال ابن عباس: لما أدلى دَلْوَه تعلق يوسف بالحبل فنظر إِليه فإذا بغلام أحسن ما يكون من الغلمان، فقال لأصحابه: البشرى، فقالوا: ما وراءك؟ قال: هذا غلام في البئر، فأقبلوا يسألونه الشركة فيه، واستخرجوه من الجُبِّ، فقال بعضهم لبعض: اكتموه عن أصحابكم لئلّا يسألوكم الشركة فيه، فإن قالوا: ما هذا؟ فقولوا: استبضعنَاه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر فجاء إخوة يوسف فطلبوه فلم يجدوه في البئر، فنظروا، فإذا هم بالقوم ومعهم

_ (1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله 2/ 582: هذا القول من السدي غريب، لأنه لم يسبق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس، والله أعلم. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 165: وأعجب القراءة في ذلك إلي قراءة من قرأه بإرسال الياء وتسكينها، لأنه إن كان اسم رجل بعينه كان معروفا فيهم، كما قال السدي، فتلك هي القراءة الصحيحة لا شك فيها، وإن كان من «التبشير» فإنه يحتمل ذلك إذا قرئ كذلك على ما بينت. وأما التشديد والإضافة في الياء فقراءة شاذة، لا أرى القراءة بها، وإن كانت لغة معروفة لإجماع الحجة من القراء على خلافها.

[سورة يوسف (12) : آية 20]

يوسف، فقالوا لهم: هذا غلام أبق منا، فقال مالك بن ذعر: فأنا أشتريه منكم، فباعوه بعشرين درهماً وحُلَّة ونعلين، وأسره مالك بن ذعر من أصحابه، وقال: استبضعَناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. قوله تعالى: وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً قال الزجاج: «بضاعةً» منصوب على الحال، كأنه قال: وأسرّوه جاعليه بضاعة. وقال ابن قتيبة: أسرّوا في أنفسهم أنه بضاعة وتجارة. وفي الفاعلين لذاك قولان: أحدهما: أنهم واردو الجب، أسرّوا ابتياعه عن باقي أصحابهم، وتواصَوا أنه بضاعة استبضعهم إِياها أهل الماء وقد ذكرنا هذا المعنى عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: أنهم إِخوته، أسروّا أمره وباعوه، وقالوا: هو بضاعة لنا، وهذا المعنى مرويٌّ عن ابن عباس أيضاً «1» . قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ يعمّ الباعة والمشترين. [سورة يوسف (12) : آية 20] وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) قوله تعالى: وَشَرَوْهُ هذا حرف من حروف الأضداد، تقول: شريت الشيء بمعنى بعته وشريته، بمعنى اشتريته. فإن كان بمعنى باعوه، ففيهم قولان: أحدهما: أنهم إِخوته، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنهم السيارة، ولم يبعه إِخوته، قاله الحسن، وقتادة. وإِن كان بمعنى اشتروه، فإنهم السيارة «2» . قوله تعالى: بِثَمَنٍ بَخْسٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحرام، قاله ابن عباس،

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 167: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: «وأسرّ وارد القوم المدلي دلوه ومن معه من أصحابه، من رفقته السيارة، أمر يوسف أنهم اشتروه، خيفة منهم أن يستشركوهم، وقالوا لهم: هو بضاعة أبضعها معنا أهل الماء» . وذلك أنه عقيب الخبر عنه، فلأن يكون ما وليه من الخبر خبرا عنه، أشبه من أن يكون خبرا عمن هو بالخبر عنه غير متصل. [.....] (2) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله 2/ 582: والأول أقوى، لأن قوله: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة، لأن السيارة استبشروا به وأسرّوه بضاعة، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه، فترجّح من هذا أن الضمير في وَشَرَوْهُ إنما هو لإخوته. وقال الطبري رحمه الله 7/ 168: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: «وشرى إخوة يوسف يوسف بثمن بخس» ، وذلك أن الله عز وجل قد أخبر عن الذين اشتروه أنهم أسرّوا شراء يوسف من أصحابهم، خيفة أن يستشركوهم بادّعائهم أنه بضاعة. ولم يقولوا ذلك إلا رغبة فيه أن يخلص لهم دونهم، واسترخاصا لثمنه الذي ابتاعوه به، لأنهم ابتاعوه كما قال جل ثناؤه: بِثَمَنٍ بَخْسٍ. ولو كان مبتاعوه من إخوته فيه من الزاهدين، لم يكن لقيلهم لرفاقهم: «هو بضاعة» معنى، ولا كان لشرائهم إياه وهم فيه من الزاهدين وجه، إلا أن يكونوا كانوا مغلوبا على عقولهم، لأنه محال أن يشتري صحيح العقل ما هو فيه زاهد من غير إكراه مكره له عليه، ثم يكذب في أمره الناس بأن يقول: «هو بضاعة لم أشتره» مع زهده فيه. بل هذا القول من قول من هو بسلعته ضنّين لنفاستها عنده، ولما يرجو من نفيس الثمن لها وفضل الربح. - قلت: كذا رجّح الطبري وابن كثير، في حين لم يرجح ابن العربي في «الأحكام» 3/ 42- 43 وكذا القرطبي 9/ 132- 133 أحد القولين، مع أن القرطبي ذكر أقوالا أخر. والصواب والله أعلم خلاف ما ذهب إليه الطبري وابن كثير. أما الأثر الوارد عن ابن عباس، فإنه ساقط، أخرجه الطبري 18908 بسند فيه ثلاثة مجاهيل. وأما سياق الآيات وسباقها، فإنه يدل على أن المراد بذلك بعض السيارة. فإن من وجده في البئر من السيارة أسرّ ذلك ولم يخبر باقي القافلة، فلما قدم مصر باعه بثمن بخس بسبب فقره، وعدم معرفته بقيمة هذا الملتقط، أما إخوة يوسف فقد ألقوه في الجب، وانطلقوا، وهو الذي يدل عليه كلامهم حيث قال أحدهم، وقد أخذوا برأيه لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ لم يقل نبيعه، فكان كما أراد هذا القائل. ثم هو كان قد ألقي في الجب، وقد تبرأ منه إخوته، فكيف يأخذون ثمنا عن تسليمه؟!

والضحاك، وقتادة في آخرين. والثاني: أنه القليل، قاله عكرمة، والشعبي. قال ابن قتيبة: البخس: الخسيس الذي بُخس به البائع. والثالث: الناقص، وكانت الدراهم عشرين درهماً في العدد، وهي تنقص عن عشرين في الميزان، قاله أبو سليمان الدمشقي «1» . قوله تعالى: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ قال الفراء: إِنما قيل: «معدودة» ليُستدَل بها على القلَّة. وقال ابن قتيبة: أي: يسيرة، سهل عددها لقلَّتها، فلو كانت كثيرة لثقل عددها. وقال ابن عباس: كانوا في ذلك الزمان لا يَزِنُون أقل من أربعين درهماً، وقيل: إِنما لم يَزِنُوها لزهدهم فيه. وفي عدد تلك الدراهم خمسة أقوال: أحدها: عشرون درهماً، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، وعكرمة في رواية، ونوف الشامي، ووهب بن منبِّه، والشعبي، وعطية، والسدي، ومقاتل في آخرين. والثاني: عشرون درهماً وحُلَّة، ونعلان، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: اثنان وعشرون درهماً، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والرابع: أربعون درهماً، قاله عكرمة في رواية، وابن إِسحاق. والخامس: ثلاثون درهماً، ونعلان، وحُلَّة «2» ، وكانوا قالوا له بالعبرانية: إِما أن تُقرَّ لنا بالعبودية، وإِما أن نأخذَك منهم فنقتلَك، قال: بل أُقرُّ لكم بالعبودية، ذكره إِسحاق بن بشر عن بعض أشياخه. قال المفسرون: اقتسموا ثمنه، فاشترَوا به نعالاً وخفافاً. وكان بعض الصالحين يقول: والله ما يوسف- وإِن باعه أعداؤه- بأعجبَ منك في بيعكَ نفسَكَ بشهوةِ ساعةٍ من معاصيك. قوله تعالى: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ الزهد: قلَّة الرغبة في الشيء. وفي المشار إِليهم قولان «3» : أحدهما: أنهم إخوته، قال ابن عباس فعلى هذا، في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى يوسف، لأنهم لم يعلموا مكانه من الله تعالى، قاله الضحاك، وابن جريج. والثاني: أنها ترجع إِلى الثمن. وفي علَّة زهدهم قولان: أحدهما: رداءته. والثاني: أنهم قصدوا بُعد يوسف، لا الثمن. والثاني: أنهم السيارة الذين اشترَوه. وفي علَّة زهدهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ارتابوا لقلة ثمنه. والثاني: أن إِخوته وصفوه عندهم بالخيانة والإباق. والثالث: لأنهم علموا أنه حرّ.

_ (1) وهو ما اختاره ابن كثير 2/ 582 فقال: وقيل: المراد بقوله: بَخْسٍ الحرام، وقيل: الظلم. وهذا وإن كان كذلك لكن ليس هو المراد هنا، لأن هذا معلوم يعرفه كل أحد أن ثمنه حرام على كل حال، وعلى كل أحد، لأنه نبي ابن نبي ابن نبي، ابن خليل الرحمن فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وإنما المراد هنا بالبخس: الناقص، أو الزيوف أو كلاهما، أي أنهم إخوته وقد باعوه، ومع هذا بأنقص الأثمان، ولهذا قال: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 171: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، لم يحدّ مبلغ ذلك بوزن ولا عدد ولا وضع عليه دلالة في كتاب، ولا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ... وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به دخول ضرّ فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض وما عداه فموضوع عنا تكلّف علمه. (3) الضمير في «كانوا» يعود على الواردة الذين استخرجوه من البئر ثم باعوه بثمن بخس زهدا، فلا مكان لذكر الإخوة هاهنا، والله أعلم.

[سورة يوسف (12) : آية 21]

[سورة يوسف (12) : آية 21] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ قال وهب: لما ذهبت به السيارة إِلى مصر، وقفوه في سوقها يعرضونه للبيع، فتزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنَه مسكاً، ووزنه ورِقاً، ووزنه حريراً، فاشتراه بذلك الثمن رجل يقال له: قطفير، وكان أمين فرعون وخازنه، وكان مؤمناً. وقال ابن عباس: إِنما اشتراه قطفير من مالك بن ذعر بعشرين ديناراً، وزوجَيْ نعل، وثوبَيْن أبيضين، فلما رجع إِلى منزله قال لامرأته: أكرمي مثواه. وقال قوم: اسمه أُطفير. وفي اسم المرأة قولان: أحدهما: راعيل بنت رعاييل، قاله ابن إِسحاق. والثاني: أزليخا بنت تمليخا، قاله مقاتل. قال ابن قتيبة: «أكرمي مثواه» يعني منزله ومقامه عندك، من قولك: ثويت بالمكان: إِذا أقمت به. وقال الزجاج: أحسني إِليه في طول مُقامه عندنا. قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرَّس في يوسف، فقال لامرأته: «أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا» ، وابنة شعيب حين قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ «1» ، وأبو بكر حين استخلف عمر. وفي قوله تعالى: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا قولان: أحدهما: يكفيَنَا إِذا بلغ أمورنا. والثاني: بالربح في ثمنه. قوله تعالى: أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً قال ابن عباس: نتبنَّاه. وقال غيره: لم يكن لهما ولد، وكان العزيز لا يأتي النساء. قوله تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أي: وكما أنجيناه من إِخوته وأخرجناه من ظلمة الجُبِّ، مكنَّا له في الأرض، أي: ملَّكناه في أرض مصر فجعلناه على خزائنها. وَلِنُعَلِّمَهُ قال ابن الأنباري: إِنما دخلت الواو في «ولنعلِّمه» لفعل مضمر هو المجتلب للام، والمعنى: مكنَّا ليوسف في الأرض، واختصصناه بذلك لكي نعلِّمه من تأويل الأحاديث. وقد سبق تفسير «تأويل الأحاديث» . وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى، فالمعنى: أنه غالب على ما أراد من قضائه، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني: أنها ترجع إِلى يوسف «2» ، فالمعنى: غالب على أمر يوسف حتى يبلِّغه ما أراده له، وهذا معنى قول مقاتل. وقال بعضهم: والله غالب على أمره حيث أمر يعقوبُ يوسفَ أن لا يقصَّ رؤياه على إِخوته، فعلموا بها، ثم أراد يعقوب أن يلتقطه بعض السيارة فيندرس أمره، فعلا أمره، ثم باعوه ليكون مملوكاً، فغلب أمره حتى ملك، وأرادوا أن يعطفوا أباهم، فأباهم، ثم أرادوا أن يغرّوا يعقوب بالبكاء والدم الذي ألقَوْه على القميص، فلم يَخْفَ عليه، ثم أرادوا أن يكونوا بعده قوماً صالحين، فنسوا ذنبهم إِلى أن أقرُّوا به بعد سنين. فقالوا: إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ «3» ، ثم أرادوا أن يمحوا محبَّته من قلب أبيه، فازدادت، ثم أرادت أزليخا أن تلقي عليه التهمة بقولها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً «4» ، فغلب أمره، حتى شهد شاهد من أهلها، وأراد يوسف أن

_ (1) سورة القصص: 26. (2) وكذا قال الطبري رحمه الله 7/ 174: الهاء في قوله: عَلى أَمْرِهِ عائدة على يوسف. (3) سورة يوسف: 97. (4) سورة يوسف: 25.

[سورة يوسف (12) : آية 22]

يتخلص من السجن بذكر الساقي، فنسي الساقي حتى لبث في السجن بضع سنين. [سورة يوسف (12) : آية 22] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) قوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قد ذكرنا معنى الأشدّ في سورة الأنعام «1» ، واختلف العلماء في المراد به ها هنا على ثمانية أقوال: أحدها: أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. وبه قال مجاهد، وقتادة. والثاني: ثماني عشرة سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والثالث: أربعون سنة، قاله الحسن. والرابع: بلوغ الحلم، قاله الشعبي، وربيعة، وزيد بن أسلم، وابنه. والخامس: عشرون سنة، قاله الضحاك. والسادس: أنه من نحو سبع عشرة سنة إِلى نحو الأربعين، قاله الزجاج. والسابع: أنه بلوغ ثمان وثلاثين سنة، حكاه ابن قتيبة. والثامن: ثلاثون سنة، ذكره بعض المفسرين «2» . قوله تعالى: آتَيْناهُ حُكْماً فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الفقه والعقل، قاله مجاهد. والثاني: النبوَّة، قاله ابن السائب. والثالث: أنه جُعل حكيماً، قاله الزجاج، قال: وليس كل عالم حكيماً، إنما الحكيم: العالم المستعمِل علمه، الممتنع به من استعمال ما يجهَّل فيه. والرابع: أنه الإِصابة في القول: ذكره الثعلبي. قال اللغويون: الحكم عند العرب ما يصرف عن الجهل والخطأ، ويمنع منهما، ويردُّ النفس عما يشينها ويعود عليها بالضرر، ومنه: حكمَة الدابة. وأصل أحكمت في اللغة: منعت، وسمي الحاكم حاكماً، لأنه يمنع من الظلم والزّيغ. وفي المراد بالعلم ها هنا قولان: أحدهما: الفقه. والثاني: علم الرؤيا. قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف وحراسته، نثيب من أحسن عمله، واجتنب المعاصي، فننجِّيه من الهلكة، ونستنقذه من الضّلالة ونجعله من أهل العلم والحكمة كما فعلنا بيوسف. وفي المراد بالمحسنين ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: الصابرون على النوائب. والثاني: المهتدون، رويا عن ابن عباس. والثالث: المؤمنون. قال محمد بن جرير: هذا، وإِن كان مخرج ظاهره على كل محسن، فالمراد به محمّد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: كما فعلت بيوسف بعد ما لقي من البلاء فمكَّنته في الأرض وآتيته العلم، كذلك أفعل بك وأنجيك من مشركي قومك «3» .

_ (1) في الآية: 152. (2) قال الطبري رحمه الله 7/ 175: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى أخبر أنه آتى يوسف لما بلغ أشده حكما وعلما و «الأشدّ» هو انتهاء قوته وشبابه، وجائز أن يكون آتاه ذلك وهو ابن ثماني عشرة سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن عشرين سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولا دلالة له في كتاب الله، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في إجماع الأمة على أي ذلك كان، وإذا لم يكن ذلك موجودا من الوجه الذي ذكرت، فالصواب أن يقال فيه كما قال عز وجل، حتى تثبت حجة بصحة ما قيل في ذلك من الوجه الذي يجب التسليم له، فيسلم لها حينئذ. (3) انظر «تفسير الطبري» 7/ 175.

[سورة يوسف (12) : آية 23]

[سورة يوسف (12) : آية 23] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) قوله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ أي: طلبت منه المواقعة، وقد سبق اسمها. قال الزجاج: المعنى: راودته عما أرادته مما يريد النساء من الرجال وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قرأ ابن كثير: «هَيْتُ لك» بفتح الهاء وتسكين الياء وضم التاء. وقرأ نافع، وابن عامر: «هِيتَ لك» بكسر الهاء وتسكين الياء وفتح التاء، وهي مروية عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى الحُلواني عن هشام عن ابن عامر مثله، إِلا أنه همزه. قال أبو علي الفارسي: هو خطأ. وروي عن ابن عامر: «هِئْتُ لك» بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء، وهي قراءة ابن عباس، وأبي الدرداء، وقتادة. قال الزجاج: هو من الهيئة، كأنها قالت: تهيأت لك. وعن ابن محيصن، وطلحة بن مصرف مثل قراءة ابن عباس إِلا أنها بغير همز. وعن ابن محيصن بفتح الهاء وكسر التاء، وهي قراءة أبي رزين، وحميد. وعن الوليد بن عتبة بكسر الهاء والتاء مع الهمز، وهي قراءة أبي العالية. وقرأ ابن خثيم مثله، إِلا أنه لم يهمز. وعن الوليد بن مسلم عن نافع بكسر الهاء وفتح التاء مع الهمز. وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «هُيِّئتُ لك» برفع الهاء والتاء وبياء مشددة مكسورة بعدها همزة ساكنة. وقرأ أُبَيُّ بن كعب: «ها أنا لك» . وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء بغير همز. قال الزجاج: وهو أجود اللغات، وأكثرها في كلام العرب، ومعناها: هلم لك، أي: أقبل على ما أدعوك إِليه، وقال الشاعر: أَبْلِغْ أمِيْرَ المُؤْمِنْينَ أَخَا العِرَاقِ إِذَا أَتَيْتَا ... أَنَّ العِرَاقَ وأَهْلَهُ عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا «1» أي: فأقبل وتعال. وقال ابن قتيبة: يقال: هيَّت فلان لفلان: إِذا دعاه وصاح به قال الشاعر: قد رابني أنَّ الكَرِيَّ أَسْكَتَا ... لو كانَ مَعْنِيَّاً بها لَهَيَّتَا «2» أي: صار ذا سكوت. واختلف العلماء في قوله «هيت لك» بأي لغة هي، على أربعة أقوال: أحدها: أنها عربية قاله مجاهد. وقال ابن الأنباري: وقد قيل: إِنها من كلام قريش، إِلا أنها مما درس وقلَّ في أفواههم آخراً، فأتى الله به، لأن أصله من كلامهم، وهذه الكلمة لا مصدر لها، ولا تصرُّف، ولا تثنية، ولا جمع، ولا تأنيث، يقال للاثنين: هيت لكما، وللجميع: هيت لكم، وللنسوة: هيت لَكُنَّ. والثاني: أنها بالسريانية، قاله الحسن. والثالث: بالحورانية، قاله عكرمة، والكسائي. وقال الفراء: يقال: إِنها لغة لأهل حوران، سقطت إِلى أهل مكة فتكلموا بها. والرابع: أنها بالقبطية، قاله السدي. قوله تعالى: قالَ مَعاذَ اللَّهِ قال الزجاج: هو مصدر، والمعنى: أعوذ بالله أن أفعل هذا، يقال: عذت عياذاً ومعاذاً ومعاذة. إِنَّهُ رَبِّي أي: إِن العزيز صاحبي أَحْسَنَ مَثْوايَ، قال: ويجوز

_ (1) البيت لأبي عمرو بن العلاء في «مجاز القرآن» 1/ 300، و «تفسير الماوردي» 3/ 23 وذكره ابن منظور في «اللسان» ، مادة «عنق» ، ولم ينسبه لقائل. وعنق: العنق الجماعة الكثيرة، وجاء القوم عنقا أي طوائف، أي إذا جاءوا فرقا، كل جماعة منهم عنق. (2) في «اللسان» : الكريّ: من الكراء وهو أجر المستأجر، والكري: الذي يكريك دابته أو هو المكتري.

[سورة يوسف (12) : آية 24]

أن يكون «إنه ربي» يعني الله عزّ وجلّ «أحسن مثواي» أي: توّلاني في طول مُقامي. قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي: إن فعلت هذا فخنته في أهله بعد ما أكرمني فأنا ظالم. وقيل: الظّالمون ها هنا: الزّناة. [سورة يوسف (12) : آية 24] وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ الهم بالشيء في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعته ما لم يواقع. فأما همّ أزليخا، فقال المفسرون: دعته إِلى نفسها واستلقت له. واختلفوا في همِّه بها على خمسة أقوال «1» :

_ (1) وقال الإمام أبو حيان في «البحر المحيط» 5/ 294/ 295 ما ملخصه: طوّل المفسرون في تفسير هذين الهمين، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق والذي أختاره: أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا تقول إن جواب لولا متقدم عليها، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشرط العامة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد، بل نقول: إن جواب (لولا) محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما تقول: جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت. فيقدرونه: إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله: أنت ظالم على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فكان موجدا لهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان، فانتفى الهم، ولا التفات إلى قول الزجاج، ولو كان الكلام: ولهمّ بها، كان بعيدا، فكيف مع سقوط اللام، لأنه يوهم أن قوله: وهم بها هو جواب (لولا) ونحن لم نقل بذلك، وإنما هو دليل الجواب، وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب، فاللام ليست بلازمة، لجواز أن ما يأتي جواب (لولا) إذا كان بصيغة الماضي باللام، وبغير لام تقول: لولا زيد لأكرمتك، فمن ذهب إلى أن قوله (وهمّ بها) هو نفس الجواب لم يبعد، ولا التفات إلى قول ابن عطية: إن قول من قال: إن الكلام قد تم في قوله (ولقد همت به) وإن جواب (لولا) في قوله (وهم بها) ، وإن المعنى لولا أن رأى البرهان لهم بها. فلم يهم يوسف عليه السلام قال: وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف. أما قوله: يرده لسان العرب، فليس كما ذكر، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب، قال تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- القصص: 10- فقوله: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به، وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة، يناقض بعضها بعضا. مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة، والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب، لأنهم قدروا جواب (لولا) محذوفا، ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا: لهمّ بها، ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأن ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه، وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين، ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري وابن عطية وغيرهما. [.....]

أحدها: أنه كان من جنس همّها، ولولا أن الله تعالى عصمه لفعل، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير، وابن الأنباري. وقال ابن قتيبة: لا يجوز في اللغة: هممت بفلان، وهمّ بي، وأنت تريد اختلاف الهمَّين. واحتجَ منْ نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه. قالوا: ورجوعه عما همّ به من ذلك خوفاً من الله تعالى يمحو عنه سيّئ الهمِّ، ويوجب له علوَّ المنازل. (807) ويدل على هذا الحديث الصّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار، فانطبقت عليهم صخرة، فقالوا: ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله. فقال أحدهم: اللهم إِنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إلّا بمائة دينار، فلمّا أتيت بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة أُرعدتْ وقالت: إِن هذا لعملٌ ما عملته قطُّ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرِج عنا، فزال ثلث الحجر» . والحديث معروف، وقد ذكرته في «الحدائق» ، فعلى هذا نقول: إِنما همت، فترقَّت همَّتها إِلى العزيمة، فصارت مصرَّة على الزنا. فأما هو، فعارضه ما يعارض البشر من خَطَرَاتِ القلب، وحديث النفس، من غير عزم، فلم يلزمه هذا الهمُّ ذنباً، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه. (808) وقد قال عليه السلام: «عفي لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل» . (809) وقال عليه السّلام: «هلك المصرّون» وليس الإِصرار إِلا عزم القلب، فقد فرَّق بين حديث النفس وعزم القلب. وسئل سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال: إذا كانت عزما.

_ صحيح. أخرجه البخاري 2215 و 2233 و 3465 و 5974، ومسلم 2743، والطبراني في «الدعاء» 199، وابن حبان 897، والبغوي في «شرح السنة» 3420 من طريق نافع عن ابن عمر مرفوعا بأتم منه. - وأخرجه البخاري 2272 ومسلم 2743 وأحمد 2/ 116 من طريقين عن سالم، عن ابن عمر به. - وله شواهد منها: حديث أبي هريرة: أخرجه البزار 1869 وابن حبان 972 وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 142 و 143: رواه البزار والطبراني في «الأوسط» بأسانيد ورجال البزار وأحد أسانيد الطبراني رجالهما رجال الصحيح. وحديث النعمان بن بشير: أخرجه أحمد 2/ 142 والبزار 3178 و 3179 و 3180. وذكره الهيثمي في «المجمع» 8/ 142 وقال: ورجال أحمد ثقات. وحديث أنس: أخرجه أحمد 3/ 142 و 143 والبزار 1868 والطبراني في «الدعاء» 200. وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 140: رواه أحمد مرفوعا، ورواه أبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح. فهذا حديث مشهور. صحيح. أخرجه البخاري 2528 و 5269 و 6664 ومسلم 127 وأبو داود 2209 والترمذي 1183 والنسائي 6/ 156 و 157 وابن ماجة 2044 والبيهقي 7/ 298 والطيالسي 2459 وابن حبان 4334 من طرق عن قتادة، عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة به. حسن. أخرجه أحمد 2/ 165- 219 والبيهقي في «الشعب» 7236 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في أثناء حديث، وإسناده حسن، وجوّده المنذري في «الترغيب» 3628. وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 190- 191: رجال أحمد رجال الصحيح غير حبان بن زيد، ووثقه ابن حبان. قلت: وقال عنه الحافظ في «التقريب» : ثقة.

(810) ويؤيده الحديث الصّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: إِذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيئة» . واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة، وإِنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله: قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي وقولِه: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ وكل ذلك إِخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية، وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إلى العزم. فإن قيل: فقد سوّى القرآن بين الهمتين، فلم فرقتم؟ فالجواب: أن الاستواء وقع في بداية الهمة، ثم ترقت همتها إِلى العزيمة، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه، ولم تتعد همته مقامها، بل نزلت عن رتبتها، وانحل معقودها. بدليل هربه منها، وقوله: قالَ مَعاذَ. ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا، دل على العزم، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا. والقول الثاني: أنها همت به أن يفترشها، وهمّ بها، أي: تمنَّاها أن تكون له زوجة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والقول الثالث: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها فلما رأى البرهان، لم يقع منه الهم، فقُدِّم جواب «لولا» عليها، كما يقال: قد كنتَ من الهالكين، لولا أن فلاناً خلَّصك لكنت من الهالكين، ومنه قول الشاعر: فَلا يَدْعُني قَوْمِي صَرِيْحاً لِحُرَّةٍ ... لئن كُنْتُ مَقْتُولاً وتَسْلَم عَامِرُ أراد: لئن كنت مقتولاً وتسلم عامر، فلا يدعني قومي، فقدم الجواب. وإِلى هذا القول ذهب قطرب، وأنكره قوم، منهم ابن الأنباري، وقالوا: تقديم جواب «لولا» عليها شاذ مستكره، لا يوجد في فصيح كلام العرب، فأما البيت المستشهَد به، فمن اضطرار الشعراء، لأن الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره، فيضع الكلمة في غير موضعها، ويقدِّم ما حكمه التأخير، ويؤخِّر ما حكمه التقديم، ويعدل عن الاختيار إلى المستقبح للضّرورة، قال الشاعر: وجزى ربُّه عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ ... بِتَرْكي وَخِذْلاَني جَزَاءً موفَّراً تقديره: جزى عني عديَّ بن حاتم ربُّه، فاضطر إِلى تقديم الرب، وقال الآخر: لَمَّا جْفَا إِخوانُه مُصْعَبَاً ... أدَّى بِذَاكَ البيَعَ صَاعاً بِصاعِ أراد: لما جفا مصعباً إخوانه، وأنشد الفرّاء: طلبا لعرفك يا ابن يحيى بعد ما ... تقطّعت بي دونك الأسباب فزاد تاء على تاء «تقطعت» لا أصل لها ليصلح وزن شعره، وأنشد ثعلب: إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَك شَتَّى ... فَالْزَمِي الخَفْضَ وانعمي تَبْيَضِّضي فزاد ضاداً لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت، وقال الفرزدق:

_ صحيح. أخرجه البخاري 7501 و 6491، ومسلم 128، والترمذي 3073، وأحمد 2/ 242، وابن مندة 375، من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا.

هُمَا تَفَلا في فِيَّ مِن فَمَوَيْهِمَا ... عَلَى النَّابِحِ العَاوِي أشدُّ لِجَامِيا فزاد واواً بعد الميم ليصلح شعره. ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب الله النازل بالفصاحة، لأنها من ضرورات الشعراء. والقول الرابع: أنه همّ أن يضربها ويدفعها عن نفسه، فكان البرهان الذي رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه أنه إِن ضربها كان ضربه إِياها حجة عليه، لأنها تقول: راودني فمنعته فضربني، ذكره ابن الأنباري. والقول الخامس: أنه همّ بالفرار منها، حكاه الثعلبي، وهو قول مرذول، أفَتراه أراد الفرار منها، فلما رأى البرهان أقام عندها؟! قال بعض العلماء: كان همّ يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء، وإِنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه، وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم، وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة. قال الحسن: إِن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا لهم، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته. يعني الحسن أن الحجة للأنبياء ألزم، فاذا قبل التوبة منهم، كان إِلى قبولها منكم أسرع. (811) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد يلقى الله تعالى إِلا وقد همّ بخطيئة أو عملها، إِلا يحيى بن زكريا، فإنه لم يهم ولم يعملها» . قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جواب «لولا» محذوف. قال الزجاج: المعنى: لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما همّ به. قال ابن الأنباري: لزنى، فلما رأى البرهان كان سبب انصراف الزنا عنه. وفي البرهان ستة أقوال: أحدها: أنه مُثّل له يعقوب. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: نُودي يا يوسف، أتزني فتكون مثل الطائر الذي نُتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع؟ فلم يعط على النداء شيئاً، فنودي الثانية، فلم يعط على النداء شيئاً فتمثل له يعقوب فضرب صدره، فقام، فخرجت شهوته من أنامله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضَّاً على أنامله، فأدبر هارباً، وقال: وحقِّك يا أبت لا أعود أبدا. وقال أبو صالح عن ابن عباس: رأى مثال يعقوب في الحائط عاضَّاً

_ متن واه بمرة، شبه موضوع، فيه زيادة تدل على بطلانه. أخرجه ابن المنذر كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 369 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يلقى الله إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا فإن الله تعالى يقول: وَسَيِّداً وَحَصُوراً قال: «وإنما ذكره مثل هدبة الثوب» . وكذا ذكره الديلمي في «الفردوس» 4788 وفي الإسناد سويد بن سعيد، وقد ضعفه الجمهور وهو الذي جاء بحديث «من عشق فعف ... » وقال فيه ابن معين: لو كان لي فرس ورمح غزوت سويدا. وقال البخاري: منكر الحديث. وقد قال البخاري في تاريخه، كل من قلت عنه منكر الحديث فلا يحل الرواية عنه. اه راجع ترجمته في «الميزان» . وله طريق أخرى عند الطبري 6976 وفيه ابن إسحاق مدلس وقد عنعن، والظاهر أنه سمعه من ضعيف فأسقطه، فقد كرره الطبري 6977 بإسناد صحيح عن ابن المسيب من قوله وهو أشبه وكرره 6979 بإسناد آخر عنه أيضا، و 6978 عن ابن المسيب عن عبد الله بن عمرو موقوفا وهو أشبه، فإن المتن منكر أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والراجح أنه متلقى عن أهل الكتاب هذا ما تميل إليه النفس والله أعلم. وقد رجح الوقف السيوطي في «الدر» 2/ 39.

على شفتيه. وقال الحسن: مثّل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضَّا على إِبهامه أو بعض أصابعه. وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن سيرين، والضحاك في آخرين. وقال عكرمة: كل ولد يعقوب، قد ولد له اثنا عشر ولداً، إلاَّ يوسف فانه ولد له أحد عشر ولداً، فنُقص بتلك الشهوة ولداً. والثاني: أنه جبريل عليه السلام. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: مثِّل له يعقوب فلم يزدجر، فنودي: أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه؟! فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره، فوثب. والثالث: أنها قامت إِلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال لها يوسف: أي شيء تصنعين؟ قالت: أستحي من إِلهي هذا أن يراني على هذه السوأة، فقال: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحي من إِلهي القائم على كل نفس بما كسبت؟ فهو البرهان الذي رأى، قاله عليّ بن أبي طالب، وعليّ بن الحسين، والضحاك. والرابع: أنّ الله تعالى بعث إِليه ملكاً، فكتب في وجه المرأة بالدّم: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا «1» ، قاله الضحاك عن ابن عباس. وروي عن محمد بن كعب القرظي: أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها، وفي رواية أخرى عنه، أنه رآها مكتوبة في الحائط. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد ولا معصم، وفيها مكتوب وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا، فقام هاربا، وقامت، فلمّا ذهب عنهما الرّوع عادت وعاد، فلما قعد إِذا بكفٍّ قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» الآية، فقام هارباً، فلما عاد، قال الله تعالى لجبرئيل: أدركْ عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل عاضّاً على كفه أو أصبعه وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟!. وقال وهب بن منبه: ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3» ، فانصرفا، فلما عادا رجعت وعليها مكتوب وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ «4» ، فلما عادا عادت وعليها مكتوب وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى الآية، فعاد، فعادت الرابعة وعليها مكتوب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، فولَّى يوسف هاربا «5» . والخامس: أنه سيّدُه العزيز دنا من الباب، رواه ابن إِسحاق عن بعض أهل العلم. وقال ابن إِسحاق: يقال: إِن البرهان خيال سيِّده، رآه عند الباب فهرب. والسادس: أن البرهان أنه علِم ما أحل الله مما حرّم الله، فرأى تحريم الزنا، روي عن محمد بن كعب القرظي. قال ابن قتيبة: رأى حجة الله عليه، وهي البرهان، وهذا هو القول الصحيح، وما تقدَّمه فليس بشيء، وإِنما هي أحاديث من أعمال القصاص، وقد أشرت إِلى فسادها في كتاب «المغني في التفسير» . وكيف يُظن بنبيٍّ لله كريمٍ أنه يخوَّف ويرعَّب ويُضطر إِلى ترك هذه المعصية وهو مصرّ؟! هذا غاية القبح.

_ (1) سورة الإسراء: 32. (2) سورة البقرة: 281. (3) سورة الرعد: 33. (4) سورة الانفطار: 10- 11. (5) هذه الآثار جميعا من الإسرائيليات، لا حجة في شيء منها، وتقدم ما فيه كفاية.

[سورة يوسف (12) : الآيات 25 إلى 27]

قوله تعالى: كَذلِكَ أي: كذلك أريناه البرهان لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وهو خيانة صاحبه وَالْفَحْشاءَ ركوبَ الفاحشة إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بكسر اللام، والمعنى: إِنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بفتح اللام، أرادوا: من الذين أخلصهم الله من الأسواء والفواحش. وبعض المفسرين يقول: السوء: الزنى، والفحشاء: المعاصي. [سورة يوسف (12) : الآيات 25 الى 27] وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) قوله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ يعني يوسف والمرأة، تبادرا إِلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه، وأراد يوسف أن يسبق ليفتح الباب ويخرج، وأرادت هي إِن سبقت إِمساك الباب لئلا يخرج، فأدركته فتعلقت بقميصه من ورائه، فجذبته إِليها، فقدَّت قميصه من دبر، أي: قطعته من خلفه، لأنه كان هو الهارب وهي الطالبة له. قال المفسرون: قطعت قميصه نصفين، فلما خرجا، ألفيا سيدها، أي: صادفا زوجها عند الباب، فحضرها في ذلك الوقت كيد، فقالت سابقةً بالقول مبرِّئةً لنفسها من الأمر ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً قال ابن عباس: تريد الزّنى إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أي: ما جزاؤه إِلا السّجن أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني الضرب بالسياط، فغضب يوسف حينئذ وقال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقال وهب بن منبِّه: قال له العزيز حينئذ: أخنتني يا يوسف في أهلي، وغدرتَ بي، وغررتني بما كنت أرى من صلاحك! فقال حينئذ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي. قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وذلك أنه لما تعارض قولاهما، احتاجا إِلى شاهد يُعلَم به قول الصادق. وفي ذلك الشاهد ثلاثة «1» أقوال: أحدها: أنه كان صبياً في المهد، رواه عكرمة عن ابن عباس «2» ، وشهر بن حوشب عن أبي هريرة، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك، وهلال بن يساف

_ (1) الصواب من هذه الأقوال القول الثاني، وأنه- أي الشاهد- من خاصة الملك أو العزيز، والأشبه أن يكون مستشارا له أو قاضيا، فإن ما قاله في شأن القميص يدل على فهم وخبرة. - وأما مستند القول الأول عن ابن عباس فخبره واه، لا تقوم به حجة. (2) أخرجه الطبري 19109 و 19118 عن ابن عباس قوله، وإسناده ضعيف، فيه عطاء بن السائب، وقد اختلط. وكرره 19120 بإسناد ساقط، فيه عطية العوفي ضعيف، وعنه مجاهيل وأخرج خلافه برقم 19121 عن ابن عباس قوله: كان ذا لحية. ورجاله رجال مسلم، لكن سماك بن حرب مضطرب الرواية في عكرمة. - قلت: وورد أثر ابن عباس بمثل سياق المصنف مرفوعا، أخرجه الحاكم 2/ 595 من طريق السري بن خزيمة عن مسلم بن إبراهيم عن جرير بن حازم عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون» . - صححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! وليس بشيء، والوهم فيه من السري بن خزيمة، أو من شيخ الحاكم، فقد أخرج البخاري 3436 ومسلم 2550 وأحمد 2/ 307 وغيرهما من طرق عن مسلم بن إبراهيم. بهذا الإسناد «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة فذكر فيه عيسى بن مريم، وصاحب جريج، والطفل الرضيع وقصته مع الجبار والجارية» وسيأتي. فهذا هو الصحيح، وليس فيه ذكر ابن ماشطة فرعون ولا شاهد يوسف. ويلاحظ أن خبر الحاكم صدره «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة. ثم ذكر أربعة؟!!. فهذا دليل على أنه حديث مقلوب، جعل إسناده لمتن آخر، والله أعلم.

[سورة يوسف (12) : آية 28]

في آخرين. والثاني: أنه كان من خاصة الملك. رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. وقال أبو صالح عن ابن عباس: كان ابن عم لها، وكان رجلاً حكيماً، فقال: قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب، فإن كان شقُّ القميص من قدَّامه فأنتِ صادقة وهو كاذب، وإِن كان من خلفه فهو صادق وأنت كاذبة، وقال بعضهم: كان ابن خالة المرأة. والثالث: أنه شقُّ القميص، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وفيه ضعف، لقوله: مِنْ أَهْلِها. فإن قيل: كيف وقعت شهادة الشّاهد ها هنا معلَّقة بشرط، والشارط غير عالم بما يشرطه؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري. أحدهما: أن الشاهد شاهد بأمر قد علمه، فكأنه سمع بعض كلام يوسف وأزليخا، فعلم، غير أنه أوقع في شهادته شرطاً ليَلزم المخاطبين قبولُ شهادته من جهة العقل والتمييز، فكأنه قال: هو الصّادق عندي، فإن تدبّرتم ما أشترطه لكم، عقلتم قولي، ومثل هذا قول الحكماء: إِن كان القَدَر حقاً، فالحرص باطل، وإِن كان الموت يقيناً، فالطمأنينة إِلى الدنيا حمق. والجواب الثاني: أن الشاهد لم يقطع بالقول، ولم يعلم حقيقة ما جرى، وإِنما قال ما قال على جهة إِظهار ما يسنح له من الرأي، فكان معنى قوله: وَشَهِدَ شاهِدٌ: أعلم وبيَّن. فقال: الذي عندي من الرأي أن نقيس القميص ليوقَف على الخائن. فهذان الجوابان يدلان على أن المتكلم رجل. فإن قلنا: إِنه صبي في المهد، كان دخول الشرط مصحِّحاً لبراءة يوسف، لأن كلام مثله أعجوبة ومعجزة لا يبقى معها شكّ. [سورة يوسف (12) : آية 28] فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) قوله تعالى: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ في هذا الرائي والقائل: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ قولان: أحدهما: أنه الزوج. والثاني: الشاهد. وفي هاء الكناية في قوله: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ «1» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى تمزيق القميص، قاله مقاتل. والثاني: إِلى قولها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً، فالمعنى: قولكِ هذا من كيدكن، قاله الزجاج. والثالث: إِلى السوء الذي دعته إِليه، ذكره الماوردي. قال ابن عباس: إِنَّ كَيْدَكُنَّ أي: عملكن عَظِيمٌ تخلطن البريء والسّقيم. [سورة يوسف (12) : الآيات 29 الى 30] يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)

_ (1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله 2/ 586: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ أي: إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن.

[سورة يوسف (12) : الآيات 31 إلى 32]

قوله تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا المعنى: يا يوسف أعرض. وفي القائل له هذا قولان: أحدهما: أنه ابن عمها وهو الشاهد، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الزوج، ذكره جماعة من المفسرين. قال ابن عباس: أَعرضْ عن هذا الأمر فلا تذكره لأحد، واكتمه عليها. وروى الحلبيّ عن عبد الوارث: «يوسف أعرَضَ عن هذا» بفتح الراء على الخبر. قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ فيه قولان: أحدهما: استعفي زوجك لئلا يعاقبَكِ، قاله ابن عباس. والثاني: توبي من ذنبكِ فإِنكِ قد أثمتِ. وفي القائل لهذا قولان: أحدهما: ابن عمها. والثاني: الزوج. قوله تعالى: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ يعني: من المذنبين. قال المفسرون: ثم شاع ذلك الحديث في مصر حتى تحدَّث بذلك النساء، وهو قوله: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ، وفي عددهن قولان: أحدهما: أنهن كن أربعاً: امرأة ساقي الملك، وامرأة صاحب دواته، وامرأة خبَّازه، وامرأة صاحب سجنه، قاله ابن عباس. والثاني: أنهن خمس: امرأة الخبَّاز، وامرأة الساقي، وامرأة السجَّان، وامرأة صاحب الدواة، وامرأة الآذن، قاله مقاتل. وأما العزيز، فهو بلغتهم الملك، والفتى بمعنى العبد. قال الزجاج: كانوا يسمون المملوك فتى. وإِنما تكلم النسوة في حقها، طعناً فيها، وتحقيقاً لبراءة يوسف. قوله تعالى: قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي: بلغ حبُّه شَغاف قلبها. وفي الشَّغاف أربعة أقوال: أحدها: أنه جلدةٌ بين القلب والفؤاد، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنه غلاف القلب، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: ولم يُرِدِ الغلاف، إِنما أراد القلب، يقال: شغفت فلاناً: إِذا أصبت شغافه، كما يقال: كبدته: إِذا أصبت كبده، وبطنته: إِذا أصبت بطنه. والثالث: أنه حَبَّة القلب وسويداؤه. والرابع: أنه داءٌ يكون في الجوف في الشراسيف، وأنشدوا: وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُوْنَ ذَلِكَ دَاخِلٌ ... دُخُوْلَ الشَّغافِ تَبْتَغِيْهِ الأَصَابِعُ «1» ذكر القولين الزجاج. وقال الأصمعي: الشَّغاف عند العرب: داءٌ يكون تحت الشراسيف في الجانب الأيمن من البطن، والشَّراسيف: مقاطّ رؤوس الأضلاع، واحدها: شُرسوف. وقرأ عبد الله بن عمرو، وعلي بن الحسين، والحسن البصري، ومجاهد، وابن محيصن، وابن أبي عبلة «قد شعفها» بالعين، قال الفراء: كأنه ذهب بها كل مذهب، والشَّعَف: رؤوس الجبال. قوله تعالى: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: عن طريق الرشد، لحبها إِياه. والمبين: الظّاهر. [سورة يوسف (12) : الآيات 31 الى 32] فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ يعني: امرأة العزيز بِمَكْرِهِنَّ وفيه قولان: أحدهما: أنه قولهنّ

_ (1) البيت للنابغة الذبياني انظر ديوانه 79، وذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «شغف» .

وعيبهن لها، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة. قال الزجاج: وإِنما سمي هذا القول مكراً، لأنها كانت أطلعتهن على أمرها، واستكتمتهن، فمكرن وأفشين سرها. والثاني: أنه مكر حقيقة، وإِنما قلن ذلك مكراً بها لتريَهنّ يوسف، قاله ابن إِسحاق. قوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ قال الزجاج: أفعلت من العتاد، وكل ما اتخذته عُدَّةً لشيء فهو عتاد، والعتاد: الشيء الثابت اللازم. فأما المتكأ، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المجلس فالمعنى: هيأت لهن مجلساً، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه الوسائد اللائي يتكئن عليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال الزجاج: المتكأ: ما يُتَّكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث. والثالث: أنه الطعام، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة. قال ابن قتيبة: يقال: اتكأنا عند فلان: إِذا طعمنا، قال جميل بن معمر: فَظَلِلْنَا في نَعْمةٍ واتَّكأْنا ... وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُلَلِهْ «1» والأصل في هذا أن من دَعَوْتَه ليطعم، أعددت له التُّكأة للمقام والطمأنينة، فسمي الطعام متَّكأً على الاستعارة. قال الأزهري: إِنما قيل للطعام: متكأ، لأن القوم إِذا قعدوا على الطعام اتكؤوا، ونُهيت هذه الأمة عن ذلك. وقرأ مجاهد «مُتْكاً» بإسكان التاء خفيفة، وفيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الأُتْرُجّ، قاله ابن عباس ومجاهد ويحيى بن يعمر في آخرين، ومنه قول الشاعر: وترى المُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارَا «2» يريد: الأُتْرُجّ. والثاني: أنه الطعام أيضا، قاله عكرمة. والثالث: كل شيء يُحَزُّ بالسكاكين، قاله الضحاك. والرابع: أنه الزُّماورد، روي عن الضحاك أيضاً. وقد روي عن جماعة أنهم فسروا المتَّكأَ بما فسروا به المُتك، فروي عن ابن جريج أنه قال: المتَّكأُ: الأترج، وكل ما يُحَزُّ بالسكاكين. وعن الضحاك قال: المتَّكأُ: كل ما يُحَزُّ بالسكاكين. وفرق آخرون بين القراءتين، فقال مجاهد: من قرأ «متَّكَأً» بالتثقيل، فهو الطعام، ومن قرأ بالتخفيف، فهو الأُتْرُجُّ. قال ابن قتيبة: من قرأ «مُتْكاً» فإنه يريد الأترج، ويقال: الزُّماورد. وأياً ما كان، فإني لا أحسبه سمي مُتْكاً إِلا بالقطع، كأنه مأخوذ من البَتْك، فأبدلت الميم منه باءً، كما يقال: سَمَد رأسه وسَبَده: إِذا استأصله، وشر لازم، ولازب، والميم تبدل من الباء كثيراً، لقرب مخرجيها. قوله تعالى: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً إِنما فعلت ذلك، لأن الطعام الذي قدمتْ لهن يحتاج إِلى السكاكين. وقيل: كان مقصودها افتضاحهن بتقطيع أيديهن كما فضحنها. قال وهب بن منبه: ناولت كل واحدة منهن أُتْرُجَّةً وسكيناً، وقالت لهن: لا تقطعن ولا تأكلن حتى أُعلمكن، ثم قالت ليوسف: اخرج عليهن. قال الزجاج: إِن شئت ضممت التاء من قوله: «وقالت» ، وإِن شئت كسرت، والكسر الأصل لسكون التاء والخاء، ومن ضم التاء، فلثقل الضمة بعد الكسرة. ولم يمكنه أن لا يخرج، لأنه بمنزلة العبد لها. وذكر بعض أهل العلم أنها إِنما قالت: «اخرج» وأضمرت في نفسها «عليهن» ، فأخبر الحق عما في النفس كأن اللسان قد نطق به، ومثله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً

_ (1) في «اللسان» مادة «قلل» القلّة: الحبّ العظيم، وقيل: الجرة العظيمة، وقيل: الجرة عامة وقيل: الكوز الصغير، والجمع قلل وقلال، وقيل: هو إناء للعرب كالجرة الكبيرة. (2) هو عجز بيت وصدره: لنشرب الإثم بالصّواع جهارا. انظر «تفسير القرطبي» 9/ 153.

وَلا شُكُوراً «1» لم يقولوا ذلك، إِنما أضمروه، ويدل على صحة هذا أنها لو قالت له وهو شاب مستحسَن: اخرج على نسوة من طبعهن الفتنة، ما فعل. وفي قوله تعالى: أَكْبَرْنَهُ قولان: أحدهما: أَعْظَمْنَهُ، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة، وابن زيد. والثاني: حِضْنَ «2» ، رواه الضحاك عن ابن عباس. وروى عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: حضن من الفَرَح، قال: وفي ذلك يقول الشاعر: نَأْتي النساءَ لدى أطهارهنّ ولا ... نأتي النساء إذا أكثرن إِكبارا «3» وقد روى هذا المعنى ليث عن مجاهد، واختاره ابن الأنباري، وردّه بعض اللغويين، فروي عن أبي عبيدة أنه قال: ليس في كلام العرب «أكبرن» بمعنى «حِضن» ، ولكن عسى أن يكنّ من شدة ما أعظمنه حضن، وكذلك روي عن الزجاج أنه أنكره. قوله تعالى: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: حَزَزْنَ أيديَهن، وكن يحسبن أنهن يقطّعن طعاماً، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: قطّعن أيدَيهن حتى ألقينها، قاله مجاهد، وقتادة. والثالث: كلَمن الأكُفَّ وأبنَّ الأنامل، قاله وهب بن منبّه. قوله تعالى: وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ قرأ أبو عمرو «حاشا» بألف في الوصل في الموضعين، واتفقوا على حذف الألف في الوقف، وأبو عمرو جاء به على التمام والأصل، والباقون حذفوا. وهذه الكلمة تستعمل في موضعين. أحدهما: الاستثناء. والثاني: التبرئة من الشر. والأصل «حاشا» وهي مشتقة من قولك: كنت في حشا فلان، أي: في ناحيته. والحشا: الناحية، وأنشدوا: بأيِّ الحَشَا أَمْسَى الخَلِيْطُ المُبَايِنُ «4» أي: بأي النواحي، والمعنى: صار يوسف في حشاً من أن يكون بشراً، لفرط جماله. وقيل: صار في حشاً مما قرفته به امرأة العزيز. وقال ابن عباس، ومجاهد: «حاش لله» بمعنى: معاذ الله. قال الفراء: و «بشراً» منصوب، لأن الباء قد استعملت فيه، فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إِلا بالباء، فلما حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه، فنصبوا على ذلك، وكذلك قوله: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ «5» ، وأما أهل نجد فيتكلمون بالباء وبغير الباء، فإذا أسقطوها، رفعوا، وهو أقوى الوجهين في العربية. قال الزّجّاج: قوله: الرّفع أقوى الوجهين، غلط، لأن كتاب الله أقوى اللغات، ولم يقرأ بالرفع أحد. وزعم الخليل، وسيبويه، وجميع النحويين القدماء أن «بشراً» منصوب، لأنه خبر «ما» و «ما» بمنزلة «ليس» . قلت: وقد قرأ أبو المتوكّل، وأبو نهيك، وعكرمة، ومعاذ القارئ في آخرين: «ما هذا

_ (1) سورة الإنسان: 9. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله: 7/ 203: مرجحا القول الأول: لا شك أن المحال أن يحضن من يوسف، ولكن الخبر، إن كان صحيحا عن ابن عباس على ما روي فخليق أن يكون معناه في ذلك: أنهن حضن لما أكبرن من حسن يوسف وجماله في أنفسهن، ووجدن ما يجد النساء من مثل ذلك. ووافقه ابن كثير في تفسيره 2/ 587 بقوله: أكبرنه: أي أعظمن شأنه وأجللن قدره. (3) بيت مصنوع، وقائله مجهول، انظر تفسير الطبري والبحر المحيط. [.....] (4) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «حشا» ، وعزاه إلى المعطّل الهذلي، وعنده- الحبيب- بدل- الخليط-. (5) سورة المجادلة: 2.

[سورة يوسف (12) : الآيات 33 إلى 34]

بشر» بالرفع. وقرأ أُبيُّ بنُ كعبٍ، وأبو الجوزاء، وأبو السَّوَّار: «ما هذا بِشِرىً» بكسر الباء والشين مقصوراً منونّاً. قال الفراء: أي: ما هذا بمشترى. وقرأ ابن مسعود: «بشراءٍ» بالمد والهمز مخفوضاً منونّاً. قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قرأ أبيّ، وأبو رزين، وعكرمة، وأبو حياة، والجحدري: «ملِك» بكسر اللام. قوله تعالى: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ قال المفسرون: لما ذهلت عقولهن فقطَّعن أيدَيهن، قالت لهن ذلك. فإن قيل: كيف أشارت إِليه وهو حاضر بقولها: «فذلكن» ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أنها أشارت ب «ذلكن» إِلى يوسف بعد انصرافه من المجلس. والثاني: أن في الكلام إِضمار «هذا» تقديره: فهذا ذلكن. ومعنى «لمتنّني فيه» أي: في حبه. ثم أقرت عندهن، فقالت: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي: امتنع. قوله تعالى: وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ قال الزجاج: القراءة الجيدة تخفيف «وليكوننْ» والوقف عليها بالألف، لأن النون الخفيفة تبدل منهما في الوقف الألف، تقول: اضربا زيداً، وإِذا وقفت قلت: اضربا. وقد قرئت «وليكوننَّ» بتشديد النون، وأكرهُها، لخلاف المصحف، لأن الشديدة لا يبدل منها شيء. والصاغرون: المذَلُّون. [سورة يوسف (12) : الآيات 33 الى 34] قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) قوله تعالى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ قال وهب بن منبه: لما قالت: «فذلكن الذي لمتنّني فيه» قلن: لا لوم عليكِ، قالت: فاطلبن إِلى يوسف أن يسعفني بحاجتي، فقلن: يا يوسف افعل، فقالت: لئن لم يفعل لأخلدنَّه السجن، فعند ذلك قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وقرأ يعقوب: «السَّجن» بفتح السين ها هنا فحسب. قال الزجاج: من كسر سين «السجن» فعلى اسم المكان، فيكون المعنى: نزول السجن أحب إِليَّ من ركوب المعصية، ومن فتح، فعلى المصدر، المعنى: أن أُسجن أحب إِلي. وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أي: إِلاَّ تعصمني أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي: أمِل إِليهن. يقال: صبا إِلى اللهو يصبو صَبْواً وصُبُوّاً وصَباءً: إِذا مال إليه. وقال ابن الأنباري: ومعنى هذا الكلام: اللهم اصرف عني كيدهن، ولذلك قال: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ. قال: فإن قيل: إِنما كادته امرأة العزيز وحدها، فكيف قال: «كيدهن» ؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن العرب توقع الجمع على الواحد، فيقول قائلهم: خرجت إِلى البصرة في السفن، وهو لم يخرج إِلا في سفينة واحدة. والثاني: أن المكنيَّ عنه امرأة العزيز والنسوة اللاتي عاضدنها على أمرها. والثالث: أنه عنى امرأة العزيز وغيرها من نساء العالَمين اللاتي لهنّ مثل كيدها. [سورة يوسف (12) : آية 35] ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ في المراد بالآيات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها شق القميص، وقضاء ابن عمها عليها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

[سورة يوسف (12) : آية 36]

والثاني: أنها قدّ القميص، وشهادة الشاهد، وقطع الأيدي، وإِعظام النساء إِياه، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثالث: جَمَاله وعِفَّتُه، ذكره الماوردي. قال وهب بن منبه: فأشار النسوة عليها بسجنه رجاء أن يستهوينه حين يخلو لهن في السجن، وقلن: متى سجنتيه قطع ذلك عنكِ قَالَةَ الناس التي قد شاعت، ورأوا أنكِ تبغضينه، ويذلُّه السجن لك، فلما انصرفن عادت إِلى مراودته فلم يزدد إِلا بُعداً عنها، فلما يئست، قالت لسيدها: إِن هذا العبد قد فضحني، وقد أبغضتُ رؤيته، فائذن لي في سجنه، فأذن لها، فسجنتْه وأضرَّتْ به. وقال السدي: قالت: إِما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر بعذري، وإِما أن تحبسه كما حبستني، فظهر للعزيز وأصحابه من الرأي حبس يوسف. قال الزجاج: كان العزيز أمر بالإِعراض فقط، ثم تغيَّر رأيه عن ذلك. قال ابن الأنباري: وفي معنى الآية قولان: أحدهما: «ثم بدا لهم» أي: ظهر لهم بالقول والرأي والفكر سجنه. والثاني: ثم بدا لهم في يوسف بداء، فقالوا: والله لنسجننَّه، فاللام جواب يمين مضمرة. فأما «الحين» ، فهو يقع على قصير الزمان وطويله. وفي المراد به ها هنا للمفسرين خمسة أقوال: أحدها: خمس سنين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: سنة، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: سبع سنين، قاله عكرمة. والرابع: إِلى انقطاع القالَة، قاله عطاء. والخامس: أنه زمان غير محدود، ذكره الماوردي، وهذا هو الصحيح، لأنهم لم يعزموا على حبسه مدة معلومة، وإِنما ذكر المفسّرون قدر ما لبث. [سورة يوسف (12) : آية 36] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قوله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قال الزجاج: فيه دليل على أنه حبس، وإِن لم يُذكر ذلك. و «فتيان» جائز أن يكونا حَدَثين أو شيخين، لأنهم يسمون المملوك فتى. قال ابن الأنباري: إِنما قال: «فتيان» لأنهما كانا مملوكين، والعرب تسمي المملوك فتى، شاباً كان أو شيخاً. قال المفسرون: عُمِّر ملك مصر فملُّوه، فدسُّوا إِلى خبَّازه وصاحب شرابه أن يسمَّاه، فبلغه ذلك فحبسهما، فكان يوسف قال لأهل السجن: إِني أعبِّر الأحلام، فقال أحد الفتيين: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني. واختلفوا هل كانت رؤياهما صادقة، أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كانت كذباً، وإِنما سألاه تجريباً، قاله ابن مسعود، والسدي. والثاني: أنها كانت صدقاً، قاله مجاهد، وابن إِسحاق. والثالث: أن الذي صُلب منهما كان كاذباً، وكان الآخر صادقاً، قاله أبو مجلز. قوله تعالى: قالَ أَحَدُهُما يعني الساقي إِنِّي أَرانِي أي: في النوم أَعْصِرُ خَمْراً أي: عنباً. وفي تسمية العنب خمراً ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سماه باسم ما يؤول إِليه، لأن المعنى لا يلتبس، كما يقال: فلان يطبخ الآجُرَّ ويعمل الدبس، وإِنما يطبخ اللبِن ويصنع التمر، وهذا قول أكثر المفسرين. قال ابن الأنباري: وإِنما كان

[سورة يوسف (12) : الآيات 37 إلى 39]

كذلك، لأن العرب توقع بالفرع ما هو واقع بالأصل كقولهم: فلان يطبخ آجُرَّاً. والثاني: أن الخمر في لغة أهل عُمان اسم للعنب، قاله الضحاك، والزجاج. قال ابن القاسم: وقد نطقت قريش بهذه اللغة وعرفتها. والثالث: أن المعنى: أعصر عنب خمر، وأصل خمر، وسبب خمر، فحذف المضاف، وخلفه المضاف إِليه، كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» . قال أبو صالح عن ابن عباس: رأى يوسف ذات يوم الخباز والساقي مهمومَين، فقال: ما شأنكما؟ قالا: رأينا رؤيا، قال: قصّاها عليّ، فقال الساقي: إِني رأيت كأني دخلت كرماً فجنيت ثلاثة عناقيد عنب، فعصرتهن في الكأس، ثم أتيت به الملك فشربه، وقال الخباز: رأيت أني خرجت من مطبخ الملك أحمل فوق رأسي ثلاث سلال من خبز، فوقع طير على أعلاهن فأكل منها، نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي: أخبرنا بتفسيره. وفي قوله تعالى: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ خمسة أقوال: أحدها: أنه كان يعود المرضى ويداويهم ويعزّي الحزين، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثاني: إِنا نراك محسناً إِن أنبأتنا بتأويله، قاله ابن إِسحاق. والثالث: إِنا نراك من العالِمين قد أحسنت العلم، قاله الفراء. قال ابن الأنباري: فعلى هذا يكون مفعول الإِحسان محذوفاً، كما حذف في قوله: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ «2» يعني العنب والسمسم. وإِنما علموا أنه عالم، لنشره العلم بينهم. والرابع: إِنا نراك ممن يحسن التأويل، ذكره الزجاج. والخامس: إِنا نراك محسناً إِلى نفسك بلزومك طاعة الله، ذكره ابن الأنباري. [سورة يوسف (12) : الآيات 37 الى 39] قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) قوله تعالى: قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في معنى الكلام قولان: أحدهما: لا يأتيكما طعام تُرْزَقانه في اليقظة إِلا أخبرتكما به قبل أن يصل إِليكما، لأنه كان يخبر بما غاب كعيسى عليه السلام، وهو قول الحسن. والثاني: لا يأتيكما طعام تُرْزَقانه في المنام إِلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة، هذا قول السدي. قال ابن عباس: فقالا له: وكيف تعلم ذلك، ولست بساحر، ولا عرّاف، ولا صاحب نجوم فقال: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي. فإن قيل: هذا كله ليس بجواب سؤالهما، فأين جواب سؤالهما؟ فعنه أربعة أجوبة:

_ (1) سورة يوسف: 82. (2) سورة يوسف: 49.

[سورة يوسف (12) : الآيات 40 إلى 41]

أحدها: أنه لما علم أن أحدهما مقتول، دعاهما إِلى نصيبهما من الآخرة، قاله قتادة. والثاني: أنه عدل عن الجواب لما فيه من المكروه لأحدهما، قاله ابن جريج. والثالث: أنه ابتدأ بدعائهما إِلى الإِيمان قبل جواب السؤال، قاله الزجاج. والرابع: أنه ظنهما كاذبَين في رؤياهما، فعدل عن جوابهما ليُعرضا عن مطالبته بالجواب، فلما ألحّا أجابهما، ذكره ابن الأنباري. فأما الملَّة فهي الدين. وتكرير قوله: «هم» للتوكيد. قوله تعالى: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قال ابن عباس: يريد: أن الله عصمنا من الشرك ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا أي: اتِّباعنا الإِيمان بتوفيق الله. وَعَلَى النَّاسِ يعني المؤمنين بأن دلهم على دينه. وقال ابن عباس: «ذلك من فضل الله علينا» أن جعلنا أنبياء «وعلى الناس» أن بعثنا إِليهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ من أهل مصر لا يَشْكُرُونَ نعم الله فيوحِّدونه. قوله تعالى: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ يعني: الأصنام من صغير وكبير خَيْرٌ أي: أعظم صفة في المدح أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يعني أنه أحق بالإِلهية من الأصنام؟ فأما الواحد، فقال الخطابي: هو الفرد الذي لم يزل وحده، وقيل: هو المنقطع القرين، المعدوم الشريك والنظير، وليس كسائر الآحاد من الأجسام المؤلَّفة، فإن كل شيء سواه يُدعى واحداً من جهة، غير واحد من جهات، والواحد لا يثنّى من لفظه، لا يقال: واحدان. والقهار: الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلَّهم بالموت. وقال غيره: القهار: الذي قهر كل شيء فذلَّلَه، فاستسلم وذلّ له. [سورة يوسف (12) : الآيات 40 الى 41] ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) قوله تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِنما جمع في الخطاب لهما، لأنه أراد جميع من شاركهما في شركهما. وقوله: «من دونه» أي: من دون الله إِلَّا أَسْماءً يعني: الأرباب والآلهة، ولا يصح معاني تلك الأسماء للأصنام، فكأنها أسماء فارغة، فكأنهم يعبدون الأسماء، لأنها لا تصح معانيها. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: من حجة بعبادتها إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي: ما القضاء والأمر والنهي إِلا له. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: المستقيم، يشير إِلى التوحيد. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيه قولان: أحدهما: أنه لا يجوز عبادة غيره. والثاني: لا يعلمون ما للمطيعين من الثواب وللعاصين من العقاب. قوله تعالى: أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً الرب هاهنا: السيد. قال ابن السائب: لما قص الساقي رؤياه على يوسف، قال له: ما أحسن ما رأيت! أما الأغصان الثلاثة، فثلاثة أيام، يبعث إِليك الملك عند انقضائها، فيردك إِلى عملك، فتعود كأحسن ما كنت فيه، وقال للخبَّاز: بئس ما رأيت، السلال الثلاث، ثلاثة أيام، ثم يبعث إِليك الملك عند انقضائهن، فيقتلك ويصلبك ويأكل الطير من رأسك، فقالا: ما رأينا شيئاً، فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي: فُرغ منه، وسيقع بكما، صدقتما أو كذبتما.

[سورة يوسف (12) : آية 42]

فإن قيل: لم حتّم على وقوع التأويل، وربما صدق تأويل الرؤيا وكذب؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه حتم ذلك لوحي أتاه من الله، وسبيل المنام المكذوب فيه أن لا يقع تأويله، فلما قال: «قضي الأمر» ، دل على أنه وحي. والثاني: أنه لم يحتم، بدليل قوله: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا، قال أصحاب هذا الجواب: معنى «قضي الأمر» : قُطع الجواب الذي التمستماه من جهتي، ولم يعنِ أن الأمر واقع بكما. وقال أصحاب الجواب الأول: الظّنّ ها هنا بمعنى العلم. [سورة يوسف (12) : آية 42] وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) قوله تعالى: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا يعني الساقي. وفي هذا الظن قولان: أحدهما: أنه بمعنى العلم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الظن الذي يخالف اليقين، قاله قتادة. قوله تعالى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي: عند صاحبك، وهو الملك، وقل له: إِن في السجن غلاماً حُبس ظلماً. واسم الملك: الوليد بن الريّان. قوله تعالى: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فيه قولان: أحدهما: فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف لربه، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن إِسحاق. والثاني: فأنسى الشيطان يوسف ذكر ربه، وأمره بذكر الملك ابتغاءَ الفرج من عنده، قاله مجاهد ومقاتل والزجاج، وهذا نسيان عمد، لا نسيان سهو، وعكسه القول الذي قبله. قوله تعالى: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ أي: غير ما كان قد لبث قبل ذلك، عقوبة له على تعلُّقه بمخلوق. وفي البضع تسعة أقوال: أحدها: ما بين السبع والتسع. (812) روى ابن عباس أن أبا بكر لما ناحب قريشاً عند نزول الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا احتطتَ، فانَّ البِضْع ما بين السبع إِلى التسع» . والثاني: اثنتا عشرة سنة، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: سبع سنين، قاله عكرمة. والرابع: أنه ما بين الخمس إِلى السبع، قاله الحسن. والخامس: أنه ما بين الأربع إِلى التسع، قاله مجاهد. والسادس: ما بين الثلاث إِلى التسع، قاله الأصمعي، والزجاج. والسابع: أن البضع يكون بين الثلاث والتسع والعشر، قاله قتادة. والثامن: أنه ما دون العشرة، قاله الفراء، وقال الأخفش: البضع: من واحد إلى عشرة. والتاسع: أنه ما لم يبلغ العقد ولا نصفه، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: يعني ما بين الواحد إِلى الأربعة. وروى الأثرم عن أبي عبيدة: البضع: ما بين ثلاث وخمس. وفي جملة ما لبث في السجن ثلاثة أقوال: أحدها: اثنتا عشرة سنة، قاله ابن عباس. والثاني: أربع عشرة، قاله الضحاك. والثالث: سبع سنين، قاله قتادة. قال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: «اذكرني عند ربك» ، قيل

_ يأتي في مطلع سورة الروم إن شاء الله تعالى.

[سورة يوسف (12) : آية 43]

له: يا يوسف، أتخذت من دوني وكيلاً؟ لأطيلنّ حبسك، فبكى، وقال: يا ربّ، أنسى قلبي كَثرةُ البلوى، فقلت كلمة، فويل لإخوتي. [سورة يوسف (12) : آية 43] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قوله تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ يعني ملك مصر الأكبر إِنِّي أَرى يعني في المنام، ولم يقل: رأيت، وهذا جائز في اللغة أن يقول القائل: أرى، بمعنى رأيت. قال وهب بن منبه: لما انقضت المدة التي وقّتها الله تعالى ليوسف في حبسه، دخل عليه جبريل إِلى السجن، فبشَّره بالخروج وملكِ مصر ولقاءِ أبيه، فلما أمسى الملك من ليلتئذ، رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر، في آثارهن سبع عجاف، فأقبلت العجاف على السمان، فأخذن بأذنابهن فأكلنهن إِلى القرنين، ولم يزد في العجاف شيء، ورأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن، ولم يزدد في اليابسات شيء، فدعا أشراف قومه فقصها عليهم، فقالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ. قال الزجاج: والعجاف: التي قد بلغت في الهزال الغاية. والملأ: الذين يُرجع إِليهم في الأمور ويقتدى برأيهم، واللام في قوله: لِلرُّءْيا دخلت على المفعول للتبيين، المعنى: إِن كنتم تعبرون. ثم بيّن باللام فقال: «للرؤيا» . ومعنى عبرتُ الرؤيا وعبَّرتها: أخبرت بآخر ما يؤول إِليه أمرها، واشتقاقه من عبر النهر، وهو شاطئ النهر، فتأويل عبرت النهر: بلغت إِلى عِبْره، أي: إِلى شطه، وهو آخر عرضه. وذكر ابن الأنباري في اللام قولين: أحدهما: أنها للتوكيد. والثاني: أنها أفادت معنى «إِلى» والمعنى: إن كنتم توجّهون العبارة إلى الرّؤيا. [سورة يوسف (12) : آية 44] قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) قوله تعالى: قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ قال أبو عبيدة: واحدها ضِغث، مكسورة، وهي ما لا تأويل له من الرؤيا تراه جماعات، تُجمع من الرؤيا كما يُجمع الحشيش، فيقال: ضغث، أي: ملء كف منه. وقال الكسائي: الأضغاث: الرؤيا المختلطة. وقال ابن قتيبة: «أضغاث أحلام» أي: أخلاط مثل أضغاث النبات يجمعها الرجل، فيكون فيها ضروب مختلفة. وقال الزجاج: الضغث في اللغة: الحزمة والباقة من الشيء، كالبقل وما أشبهه، فقالوا له: رؤياك أخلاط أضغاث، أي: حزم أخلاط، ليست برؤيا بيِّنه وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ أي: ليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل. وقال غيره: وما نحن بتأويل الأحلام الذي هذا وصفها بعالمين. والأحلام: جمع حُلُم، وهو ما يراه الإِنسان في نومه مما يصحّ ومما يبطل. [سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 48] وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)

قوله تعالي: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما يعني الذي تخلص من القتل من الفتيين، وهو الساقي، وَادَّكَرَ اي: تذكر شأن يوسف وما وصَّاه به. قال الزجاج: وأصل ادَّكر: اذتكر، ولكن التاء ابدلت منها الدال، وأدغمت الذال في الدال. وقرأ الحسن: «واذَّكر» بالذال المشددة. وقوله تعالى: بَعْدَ أُمَّةٍ أي: بعد حين، وهو الزمان الذي لبثه يوسف بعده في السجن، وقد سبق بيانه. وقرأ ابن عباس، والحسن «بعد أَمَةً» أراد: بعد نسيان. فإن قيل: هذا يدل على أن الناسي في قوله: «فأنساه الشيطان ذكر ربه» هو الساقي، ولا شك أن من قال: إِن الناسي يوسف يقول: لم ينس الساقي. فالجواب: أن من قال: إِن يوسف نسي، يقول: معنى قوله: «وادَّكر» ذكر، كما تقول العرب: احتلب بمعنى حلب، واغتدى بمعنى غدا، فلا يدل إِذاً على نسيان سبقه. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: إِنما لم يذكر الساقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إِلى تأويل رؤياه، خوفاً من أن يكون ذكره ليوسف سبباً لذكره الذنب الذي من أجله حبس، ذكر هذا الجواب ابن الأنباري. قوله تعالى: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أي: من جهة يوسف فَأَرْسِلُونِ أثبت الياء فيها وفي وَلا تَقْرَبُونِ «1» أَنْ تُفَنِّدُونِ «2» يعقوب في الحالين، فخاطب الملك وحده بخطاب الجميع، تعظيماً، وقيل: خاطبه وخاطب أتباعه. وفي الكلام اختصار، المعنى: فأرسلوه فأتى يوسف فقال: يا يوسف يا أيها الصدّيق. والصدّيق: الكثير الصدق، كما يقال: فسّيق، وسكّير، وقد سبق بيانه. قوله تعالى: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه. وفي قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: يعلمون تأويل رؤيا الملك. والثاني: يعلمون بمكانك فيكون سبب خلاصك. وذكر ابن الأنباري في تكرير «لعلّ» قولين. أحدهما: أن «لعل» الأولى متعلقة بالإِفتاء، والثانية: مبنية على الرجوع، وكلتاهما بمعنى «كي» . والثاني: أن الأولى بمعنى «عسى» ، والثانية بمعنى «كي» فأعيدت لاختلاف المعنيين، وهذا هو الجواب عن قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3» . قال: المفسرون: كان سيِّده العزيز قد مات، واشتغلت عنه امرأته. وقال بعضهم: لم يكن العزيز قد مات، فقال يوسف للساقي: قل للملك: هذه سبع سنين مُخصِبات، ومن بعدهن سبع سنين شداد، إِلا أن يُحتال لهن، فانطلق الرسول إِلى الملك فأخبره، فقال له الملك: ارجع إِليه فقل له: كيف يُصنع؟ فقال: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «دأْباً» ساكنة الهمزة، إِلا أن أبا عمرو كان إِذا أدرج القراءة لم يهمزها. وروى حفص عن عاصم «دأَباً» بفتح الهمزة. قال أبو علي: الأكثر في «دأب» الإِسكان، ولعل الفتح لغة، ومعنى «دأَباً» أي: زراعة متوالية على عادتكم، والمعنى: تزرعون دائبين. فناب «دأب» عن «دائبين» . وقال الزجاج: المعنى: تدأبون دأباً، ودل على تدأبون «تزرعون» والدأب: الملازمة للشيء والعادة. فإن قيل: كيف حكم بعلم الغيب، فقال: «تزرعون» ولم يقل: إِن شاء الله؟ فعنه أربعة أجوبة:

_ (1) سورة يوسف: 60. (2) سورة يوسف: 94. (3) سورة يوسف: 63.

[سورة يوسف (12) : آية 49]

أحدها: أنه كان بوحي من الله عزّ وجل. والثاني: أنه بنى على علم ما علّمه الله من التأويل الحق، فلم يشك. والثالث: أنه أضمر «إِن شاء الله» كما أضمر إِخوته في قولهم: وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا «1» ، فاضمروا الاستثناء في نياتهم، لأنهم على غير ثقة مما وعدوا، ذكره ابن الأنباري. والرابع: أنه كالآمر لهم، فكأنه قال: ازرعوا. قوله تعالى: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ فإنه أبقى له، وأبعد من الفساد. والشِّداد: المجدبات التي تشتد على الناس. يَأْكُلْنَ أي: يُذهبن ما قدمتم لهنّ في السنين المخصبة، فوصف السنين بالأكل، وإِنما يؤكل فيها، كما يقال: ليل نائم. قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي: تحرزون وتدّخرون. [سورة يوسف (12) : آية 49] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) قوله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ إِن قيل: لِمَ أشار إِلى السنين وهي مؤنثة ب «ذلك» ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن القاسم: أحدهما: أن السبع مؤنثه، ولا علامة للتأنيث في لفظها، فأشبهت المذكّر، كقوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «2» فذكّر منفطراً لمّا لم يكن في السماء علم التأنيث، قال الشاعر: فلا مُزْنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... وَلاَ أَرْضٌ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا «3» فذكرّ «أبقل» لِما وصفنا. والثاني: أن «ذلك» إِشارة إِلى الجدب، وهذا قول مقاتل، والأول قول الكلبي. قال قتادة: زاده الله علم عام لم يسألوه عنه. قوله تعالى: فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ فيه قولان أحدهما: يصيبهم الغيث، قاله ابن عباس. والثاني: يغاثون بالخصب. ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: «يعصرون» بالياء. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء، فوجَّها الخطاب إِلى المستفتين. وفي قوله: «يعصرون» خمسة أقوال: أحدها: يعصرون العنب والزيت والثمرات، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والجمهور. والثاني: «يعصرون» بمعنى يحتلبون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وروى ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد قال: تفسير «يعصرون» يحتلبون الألبان لِسَعَةِ خيرهم واتِّساع خصبهم، واحتج بقول الشاعر: فما عِصْمةُ الأعْرَابِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُم ... طَعَامٌ وَلاَ دَرٌّ مِنَ المَالِ يُعْصَرُ أي: يُحلب. والثالث: ينجون، وهو من العَصَر، والعَصَر: النجاء، والعُصْرة: المنجاة. ويقال: فلان في عُصْرة: إِذا كان في حصن لا يُقدَر عليه، قال الشاعر: صَادِياً يَسْتغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود «4»

_ (1) سورة يوسف: 65. (2) سورة المزمل: 18. (3) البيت لعامر بن جوين الطائي، انظر «خزانة الأدب» 1/ 21. وذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ودق» . وودق به أي: أنس، والودق: المطر كله شديدة وهيّنه، وقد ودق: أي قطر. (4) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «عصر» ونسبه لأبي زبيد. والصدى: شدة العطش.

[سورة يوسف (12) : الآيات 50 إلى 51]

أي: غياثاً للمغلوب المقهور، وقال عدي: لَوْ بِغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغصَّانِ بالماءِ اعْتِصَارِي «1» هذا قول أبي عبيده. والرابع: يصيبون ما يحبون، روي عن أبي عبيدة أيضاً أنه قال: المعتصر: الذي يصيب الشيء ويأخذه، ومنه هذه الآية. ومنه قول ابن أحمر: فإنَّما العَيْشُ بريّانِه ... وأَنْتَ من أفْنَانِه مُعْتَصَر والخامس: يعطون ويفضِلون لِسَعَةِ عيشهم، رواه ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة. وقرأ سعيد بن جبير: «يُعصَرون» بضم الياء وفتح الصاد. وقال الزجاج: أراد: يُمطرون من قوله: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً «2» . [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 51] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) قوله تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ قال المفسرون: لما رجع الساقي إِلى الملك وأخبره بتأويل رؤياه، وقع في نفسه صحة ما قال، فقال: ائتوني بالذي عبّر رؤياي، فجاءه الرسول، فقال: أجب الملك، فأبى أن يخرج حتى تبين براءته مما قُرف به، فقال: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ يعني الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ وقرأ ابن أبي عبلة: «النُّسوة» بضم النون، والمعنى: فاسأل الملك أن يتعرف ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي، وإِنما أشفق أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره أو متّهم بفاحشة، وأحب أن يراه بعد استقرار براءته عنده. وظاهر قوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ أنه يعني الله عزّ وجلّ، وحكى ابن جرير الطبري أنه أراد به سيده العزيز، والمعنى: أنه يعلم براءتي. وقد روي عن نبيّنا صلّى الله عليه وسلم أنه استحسن حزم يوسف وصبره عن التسرع إلى الخروج. فقال صلّى الله عليه وسلم: (813) «إنّ الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إِسحاق بن إِبراهيم، لو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم جاءني الداعي لأجبت» .

_ صحيح. أخرجه الترمذي 3116، والطحاوي في «المشكل» 330، والطبري 19404 من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن لأجل محمد بن عمرو، وحسنه الترمذي. وورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه البخاري 3372 ومسلم 151 وابن ماجة 4026، وأحمد 2/ 326، وابن حبان 6208، والطحاوي في «المشكل» 326 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه في البخاري: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «نحن أحق من إبراهيم إذ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ويرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إِلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي» .

[سورة يوسف (12) : آية 52]

وفي ذكره للنسوة دون امرأة العزيز أربعة أقوال: أحدها: أنه خلطها بالنسوة، لحسن عِشرةٍ فيه وأدبٍ، قاله الزجاج. والثاني: لأنها زوجة ملك، فصانها. والثالث: لأن النسوة شاهدات عليها له. والرابع: لأن في ذكره لها نوع تهمة، ذكر الأقوال الثلاثة الماوردي. قال المفسرون: فرجع الرسول إِلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك النسوة وفيهن امرأة العزيز، فقال: ما خَطْبُكُنَّ أي: ما شأنكن وقصتكن إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ. فإن قيل: إِنما راودته واحدة، فلم جمعهنّ؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه جمعهن في السؤال ليُعلم عينُ المراوِدة. والثاني: أن أزليخا راودته على نفسه، وراوده باقي النسوة على القبول منها. والثالث: أنه جمعهنَّ في الخطاب، والمعنى لواحدة منهن، لأنه قد يوقع على النوع وصف الجنس إِذا أُمن من اللبس، يدلّ عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلم: (814) «إِنكن أكثر أهل النار» فجمعهن في الخطاب والمعنى لبعضهن، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ قال الزجاج: قرأ الحسن «حاش» بتسكين الشين، ولا اختلاف بين النحويين أن الإِسكان غير جائز، لأن الجمع بين ساكنين لا يجوز، ولا هو من كلام العرب. فأعلم النسوةُ الملكَ براءة يوسف من السوء، فقالت امرأة العزيز: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي: برز وتبين، واشتقاقه في اللغة من الحِصَّة، أي: بانت حصة الحق وجهته من حصة الباطل. وقال ابن القاسم: «حصحص» بمعنى وضح وانكشف، تقول العرب: حصحص البعير في بروكه: إِذا تمكن، وأثَّر في الأرض، وفرَّق الحصى. وللمفسرين في ابتداء أزليخا بالإِقرار قولان: أحدهما: أنها لما رأت النسوة قد برّأنه، قالت: لم يبق إِلا أن يُقبِلن علي بالتقرير، فأقرت، قاله الفراء. والثاني: أنها أظهرت التوبة وحقّقت صدق يوسف، قاله الماوردي. [سورة يوسف (12) : آية 52] ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال مقاتل: «ذلك» بمعنى هذا. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع وأشباهه، لقرب الخبر من أصحابه، فصار كالمشاهد الذي يشار إِليه بهذا، ولمّا كان متقضياً أمكن أن يشار إِليه بذلك، لأن المتقضّي كالغائب. واختلفوا في القائل لهذا على ثلاثة أقوال:

_ صحيح. هذا جزء من حديث طويل، أخرجه البخاري 304، ومسلم 80 والبيهقي 4/ 235، وابن حبان 5744 والبغوي 19 من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه في البخاري خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أضحى- أو فطر- إلى المصلى، فمرّ على النساء فقال: «يا معشر النساء تصدّقن، فإني أريتكن أكثر أهل النار» ، فقلن: وبم يا رسول الله؟، قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن» ، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟» قلن: بلى. قال: «فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟» قلن: بلى. قال: «فذلك من نقصان دينها» . وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه مسلم 79.

أحدها: أنه يوسف «1» ، وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكي عن شخص شيئاً ثم تصله بالحكاية عن آخر، ونظير هذا قوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ هذا قول الملأ فَماذا تَأْمُرُونَ «2» قول فرعون. ومثله: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً هذا قول بلقيس وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ «3» قول الله عزّ وجلّ. ومثله: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا قول الكفار، فقالت الملائكة: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ «4» وإِنما يجوز مثل هذا في الكلام، لظهور الدلالة على المعنى. واختلفوا، أين قال يوسف هذا؟ على قولين: أحدهما: أنه لما رجع الساقي إِلى يوسف فأخبره وهو في السجن بجواب امرأة العزيز والنسوة للملك، قال حينئذ: «ذلك ليعلم» ، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن جريج. والثاني: أنه قاله بعد حضوره مجلس الملك، رواه عطاء عن ابن عباس. قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أي: ذلك الذي فعلت من ردِّي رسول الملك، ليعلم. واختلفوا في المشار إِليه بقوله: «ليعلم» وقوله: «لم أخنه» على أربعة أقوال: أحدها: أنه العزيز، والمعنى: ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته بِالْغَيْبِ أي: إِذا غاب عني، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. والثاني: أن المشار إِليه بقوله: «ليعلم» الملك، والمشار إِليه بقوله: «لم أخنه» العزيز، والمعنى: ليعلم الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أن المشار إِليه بالشيئين، الملك، فالمعنى: ليعلم الملك أني لم أخنه، يعني الملك أيضاً، بالغيب. وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان: أحدهما: لكون العزيز وزيره، فالمعنى: لم أخنه في امرأة وزيره، قاله ابن الأنباري. والثاني: لم أخنه في بنت أخنه، وكانت أزليخا بنت أخت الملك، قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع: أن المشار إِليه بقوله: «ليعلم» الله عزّ وجلّ، فالمعنى: ليعلم الله أني لم أخنه، روي عن مجاهد، قال ابن الأنباري: نسبَ العلم إِلى الله في الظاهر، وهو في المعنى للمخلوقين، كقوله: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ «5» . فإن قيل: إِن كان يوسف قال هذا في مجلس الملك، فكيف قال: «ليعلم» ولم يقل: لتعلم، وهو يخاطبه؟ فالجواب: أنا إِن قلنا: إِنه كان حاضراً عند الملك، فانما آثر الخطاب بالياء توقيراً للملك، كما يقول الرجل للوزير: إِن رأى الوزير أن يوقّع في قصتي. وإِن قلنا: إِنه كان غائباً، فلا وجه لدخول التاء، وكذلك إِن قلنا: إِنه عنى العزيز، والعزيز غائب عن مجلس الملك حينئذ. والقول الثاني: أنه قول امرأة العزيز، فعلى هذا يتصل بما قبله، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم

_ (1) هذا القول ورد عن جماعة من المفسرين، وهو غريب، وكأنهم تتابعوا على ذلك حيث أخذه بعضهم عن بعض، وليس بصواب وانظر ما يأتي. [.....] (2) سورة الأعراف: 110. (3) سورة النمل: 34. (4) سورة يس: 52. (5) سورة محمد: 31.

[سورة يوسف (12) : الآيات 53 إلى 56]

أخنه في غيبته الآن بالكذب عليه «1» . والثالث: أنه قول العزيز، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، فلم أغفل عن مجازاته على أمانته، حكى القولين الماوردي. قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ قال ابن عباس: لا يصوِّب عمل الزناة، وقال غيره: لا يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته. [سورة يوسف (12) : الآيات 53 الى 56] وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) قوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ، في القائل لهذا ثلاثة أقوال، وهي تقدمت في الآية قبلها. فالذين قالوا: هو يوسف، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال: أحدها: أنه لما قال: «ليعلم أني لم أخنه بالغيب» غمزه جبريل عليه السّلام، فقال: ولا حين هممت؟ فقال: «وما أبرّئ نفسي» رواه عكرمة عن ابن عباس «2» ، وبه قال الأكثرون. والثاني: أن يوسف لما قال: «لم أخنه» ذكر أنه قد همّ بها، فقال: «وما أبرّئ نفسي» ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه لمّا قال ذلك،

_ (1) هذا القول هو الحق إن شاء الله تعالى، وسياق الكلام في الآيات وسياقها يدل على ذلك دلالة واضحة، فيوسف اكتفى بقوله لرسول الملك ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قاله وهو في السجن، وانقطع كلامه، ثم كان من الملك أن جمع النسوة مع امرأة العزيز، وسألهن عن ذلك بقوله قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ... فالكلام موصول. حوار يدور بين الملك والنسوة، وأما يوسف فهو في السجن، وقد اكتفى بأمره رسول الملك أن يستفسر الملك عن ذلك. - وقال الحافظ ابن كثير في «التفسير» 2/ 593 ما ملخصه: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي، ذلك ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته لأن النفس أمّارة بالسوء، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي: إلا من عصمه الله تعالى، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا القول هو الأشهر والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في تفسيره. وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة، وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، وابن أبي هذيل، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي والقول الأول أقوى وأظهر، لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف- عليه السلام- عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك. (2) باطل مصنوع. أخرجه الطبري 19435 و 19436 و 19437 من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس، وسماك ضعيف في روايته عن عكرمة، وقد اختلط بأخرة، وهذا قول باطل، وإن ثبت عن ابن عباس، فإنما يكون تلقاه عن كتب الأقدمين.

خاف أن يكون قد زكَّى نفسه، فقال: «وما أبرّئ نفسي» ، قاله الحسن. والرابع: أنه لما قاله، قال له الملك الذي معه: اذكر ما هممت به، فقال: «وما أبرّئ نفسي» ، قاله قتادة. والخامس: أنه لما قاله، قالت امرأة العزيز: ولا يوم حللتَ سراويلك؟ فقال: «وما أبرّئ نفسي» ، قاله السدي «1» . والذين قالوا: هذا قول امرأة العزيز، فالمعنى: وما أبرّئ نفسي من سوء الظن بيوسف، لأنه قد خطر لي. قوله تعالى: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة، ويعقوب إِلا رويساً: «بالسوء إِلا» بتحقيق الهمزتين. وقرأ أبو عمرو، وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف الأولى. وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياءً. وقرأ أبو جعفر، وورش، ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية بين بين، مثل: «السُّوء عِلاَّ» . وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واواً، وأدغمها في الواو قبلها، فتصير واواً مكسورة مشددة قبل همزة «إِلا» . قوله تعالى: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي قال ابن الأنباري: قال اللغويون: هذا استثناء منقطع، والمعنى: إِلا أن رحمة ربي عليها المعتمَد. قال أبو صالح عن ابن عباس: المعنى: إِلا من عصم ربي وقيل «ما» بمعنى «من» . قال الماوردي: ومن قال: هو من قول امرأة العزيز، فالمعنى: إِلا من رحم ربي في قهره لشهوته، أو في نزعها عنه. ومن قال: هو قول العزيز، فالمعنى: إِلا من رحم ربي بأن يكفيَه سوء الظن، أو يثبِّته، فلا يعجل. قال ابن الأنباري: والقول بأن هذا قول يوسف أصح لوجهين: أحدهما: لأن العلماء عليه. والثاني: لأن المرأة كانت عابدة وثن، وما تضمنته الآية أليق أن يكون قول يوسف من قول من لا يعرف الله تعالى. وقال المفسرون: فلما تبين الملك عذر يوسف وعَلِم أمانته، قال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي: أجعله خالصاً لي، لا يشركني فيه أحد. فإن قيل: فقد رويتم في بعض ما مضى أن يوسف قال في مجلس الملك: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» ، فكيف قال الملك: «ائتوني به» وهو حاضر عنده؟! فالجواب: أن أرباب هذا القول يقولون: أمر الملك باحضاره ليقلِّده الأعمال في غير المجلس الذي استحضره فيه لتعبير الرؤيا. قال وهب: لما دخل يوسف على الملك، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً، كان كلما كلَّمه بلسان، أجابه يوسف بذلك اللسان، فعجب الملك، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فقال إِني أحب أن أسمع رؤياي منك شِفاهاً، فذكرها له، قال: فما ترى أيها الصِّدِّيق؟ قال: أرى أن تزرع زرعاً كثيراً في هذه السنين المخصبة، وتجمع الطعام، فيأتيك الناس فيمتارون، وتجمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد، فقال الملك: ومن لي بهذا؟ فقال يوسف: «اجعلني على خزائن الأرض» . قال ابن عباس: ويريد بقوله: مَكِينٌ أَمِينٌ أي: قد مكَّنتكَ في ملكي وائتمنتكَ فيه. وقال مقاتل: المكين: الوجيه، والأمين: الحافظ.

_ (1) هذه الأقوال جميعا باطلة لا تليق بنبي الله يوسف عليه السلام، كيف وقد أثنى عليه الله تبارك وتعالى حيث قال إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ؟

قوله تعالى: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي: خزائن أرضك. وفي المراد بالخزائن قولان: أحدهما: خزائن الأموال، قاله الضحاك، والزجاج. والثاني: خزائن الطعام فحسب، قاله ابن السائب. قال الزجاج: وإِنما سأل ذلك لأن الأنبياء بُعثوا بالعدل، فعلم أنه لا أحد أقوَم بذلك منه. وفي قوله تعالى: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ثلاثة أقوال: أحدها: حفيظ لِما ولَّيتني، عليم بالمجاعة متى تكون، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: حفيظ لما استودعتني، عليم بهذه السنين، قاله الحسن. والثالث: حفيظ للحساب، عليم بالألسن، قاله السدي، وذلك أن الناس كانوا يَرِدُون على الملك من كل ناحية فيتكلمون بلغات مختلفة. واختلفوا، هل وَّلاه الملك يومئذ، أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه وَّلاه بعد سنة. (815) روى الضحاك عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل: اجعلني على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، ولكنه أَخَّر ذلك سنة» . (816) وذكر مقاتل أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن يوسف قال إِني حفيظ عليم إِن شاء الله، لملك من وقته» . قال مجاهد: أسلم الملك على يد يوسف. وقال أهل السِّيَر: أقام في بيت الملك سنة، فلما انصرمت دعاه الملك، فتوَّجه، وردَّاه بسيفه، وأمر له بسرير من ذهب، وضرب عليه كِلَّةً من إِستبرق، فجلس على السرير كالقمر، ودانت له الملوك، ولزم الملك بيته وفوَّض أمره إِليه، وعزل قُطَفِير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، ثم إِن قطفير هلك في تلك الليالي، فزوَّج الملكُ يوسفَ بامرأة قطفير، فلما دخل عليها، قال: أليس هذا خيراً مما تريدين؟ فقالت: أيها الصِّدِّيق لا تلمني، فاني كنت امرأة حسناء في مُلك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، فغلبتني نفسي، فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء، فولدت له ابنين، إفراييم، وميشا، واستوثق له ملك مصر. والقول الثاني: أنه ملَّكه بعد سنة ونصف، حكاه مقاتل عن ابن عباس. والثالث: أنه سلَّم إِليه الأمر من وقته، قاله وهب، وابن السائب. فان قيل: كيف قال يوسف إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ولم يقل: إِن شاء الله؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن ترك الاستثناء أوجب عقوبة بأن أخِّر تمليكُه، على ما ذكرنا عن النبي صلّى الله عليه وسلم. والثاني: أنه أضمر الاستثناء، كما أضمروه في قولهم: وَنَمِيرُ أَهْلَنا. والثالث: أنه أراد أن حفظي وعِلمي يزيدان على حفظ غيري وعِلمه، فلم يحتج هذا إِلى الاستثناء، لعدم الشك فيه، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.

_ باطل. ذكره الزمخشري في «الكشاف» 2/ 482 وقال ابن حجر في تخريجه: أخرجه الثعلبي من حديث ابن عباس وهو من رواية إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك، وهذا إسناد ساقط. قلت: إسحاق متروك متهم، ومثله جويبر بن سعيد، والضحاك لم يلق ابن عباس، والمتن منكر جدا فهو باطل. وانظر «تفسير القرطبي» 3683، بتخريجنا. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو ممن يضع الحديث ويكذب فهذا خبر باطل.

[سورة يوسف (12) : آية 57]

فإن قيل: كيف مدح نفسه بهذا القول، ومن شأن الأنبياء والصالحين التواضع؟ فالجواب: أنه لما خلا مدحُه لنفسه من بغي وتكبر، وكان مراده به الوصول إِلى حق يقيمه وعدل يحييه وجور يبطله، كان ذلك جميلاً جائزا. (817) وقد قال نبيّنا عليه السلام: «أنا أكرم ولد آدم على ربه» . وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: والله ما من آية إِلا وأنا أعلم أبِليل نزلت، أم بنهار. وقال ابن مسعود: لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإِبل لأتيته. فهذه الأشياء، خرجت مخرج الشكر لله، وتعريف المستفيد ما عند المفيد، ذكر هذا محمد بن القاسم. قال القاضي أبو يعلى: في قصة يوسف دلالة على أنه يجوز للانسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه، وأنه ليس من المحظور في قوله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ «1» . قوله تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الكلام محذوف، تقديره: اجعلني على خزائن الأرض، قال: قد فعلت، فحُذف ذلك، لأن قوله: «وكذلك مكنا ليوسف» يدل عليه، والمعنى: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في دفع المكروه عنه، وتخليصه من السجن، وتقريبه من قلب الملك، أقدرناه على ما يريد في أرض مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ قال ابن عباس: ينزل حيث أراد. وقرأ ابن كثير، والمفضل: «حيث نشاء» بالنون. قوله تعالى: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا أي: نختصُّ بنعمتنا من النبوَّة والنجاة مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يعني المؤمنين. يقال: إِن يوسف باع أهل مصر الطعام بأموالهم وحُلِيِّهم ومواشيهم وعقارهم وعبيدهم ثم بأولادهم ثم برقابهم، ثم قال للملك: كيف ترى صُنع ربي؟ فقال الملك: إِنما نحن لك تبع، قال: فإني أُشهد الله وأُشهدك أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أملاكهم. وكان يوسف لا يَشبع في تلك الأيام، ويقول: إِني أخاف أن أنسى الجائع. [سورة يوسف (12) : آية 57] وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) قوله تعالى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ المعنى: ما نُعطي يوسف في الآخرة، خير مما أعطيناه في الدنيا، وكذلك غيره من المؤمنين ممن سلك طريقه في الصّبر. [سورة يوسف (12) : آية 58] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) قوله تعالى: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ روى الضحاك عن ابن عباس قال: لما فوَّض الملك إلى

_ صحيح. أخرجه الترمذي 3610، والدارمي 1/ 26- 27، والبغوي في «شرح السنة» 3518 وفي تفسيره 1324، من حديث أنس رضي الله عنه بأتم منه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قلت: إسناده ضعيف، مداره على ليث وهو ابن أبي سليم، ضعفه ابن معين والنسائي، وقال أحمد: مضطرب الحديث. ثم هو مدلس، وقد عنعن، فالحديث بهذا اللفظ وبهذا الإسناد ضعيف، والذي صح في ذلك «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وهذا هو الصحيح، وسيأتي.

[سورة يوسف (12) : الآيات 59 إلى 60]

يوسف أمْر مصر، تلطَّف يوسف للناس، ولم يزل يدعوهم إلى الإسلام، فآمنوا وأحبُّوه، فلما أصاب الناسَ القحطُ، نزل ذلك بأرض كنعان، فأرسل يعقوبُ ولده للميرة، وذاع أمر يوسف في الآفاق، وانتشر عدله ورحمته ورأفته، فقال يعقوب: يا بَني، إِنه قد بلغني أن بمصر ملكاً صالحاً، فانطلقوا إِليه وأقرئوه مني السلام، وانتسبوا له لعله يعرفكم، فانطلقوا فدخلوا عليه، فعرفهم وأنكروه، فقال: من أين أقبلتم؟ قالوا: من أرض كنعان، ولنا شيخ يقال له: يعقوب، وهو يقرئك السلام، فبكى وعصر عينيه وقال: لعلكم جواسيس جئتم تنظرون عورة بلدي، فقالوا: لا والله، ولكنَّا من كنعان، أصابنا الجَهد، فأمرَنا أبونا أن نأتيَك، فقد بلغه عنك خير، قال: فكم أنتم؟ قالوا: أحد عشر أخاً، وكنا اثني عشر فأكل أحدَنا الذئبُ، قال: فمن يعلم صدقكم؟ ائتوني بأخيكم الذي من أبيكم. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: لما دخلوا عليه كلَّموه بالعبرانية، فأمر الترجمان فكلَّمهم ليشبِّه عليهم، فقال للترجمان: قل لهم: أنتم عيون، بعثكم ملككم لتنظروا إِلى أهل مصر فتخبرونه فيأتينا بالجنود، فقالوا: لا، ولكنا قوم لنا أب شيخ كبير، وكنا اثني عشر، فهلك منا واحد في الغنم، وقد خلّفنا عند أبينا أخاً له من أمه، فقال: إِن كنتم صادقين، فخلِّفوا عندي بعضكم رهنا، وائتوني بأخيكم، فحبس عنده شمعون. واختلفوا بماذا عرفهم يوسف على قولين: أحدهما: أنه عرفهم برؤيتهم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ما عرفهم حتى تعرَّفوا إِليه، قاله الحسن. قوله تعالى: وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قال مقاتل: لا يعرفونه. وفي علَّة كونهم لم يعرفوه قولان: أحدهما: أنهم جاءوه مقدِّرين أنه ملك كافر، فلم يتأملوا منه ما يزول به عنهم الشك. والثاني: أنهم عاينوا من زِيِّه وحليته ما كان سبباً لإِنكارهم. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان لابسا ثياب حرير، وفي عنقه طوق من ذهب. فإن قيل: كيف يخفى من قد أُعطي نصف الحسن، وكيف يشتبه بغيره؟ فالجواب: أنهم فارقوه طفلاً ورأوه كبيراً، والأحوال تتغير، وما توهموا أنه ينال هذه المرتبة. وقال ابن قتيبة: معنى كونه أُعطي نصف الحسن، أن الله تعالى جعل للحسن غاية وحدّاً، وجعله لمن شاء من خَلقه، إِما للملائكة، أو للحور، فجعل ليوسف نصف ذلك الحسن، فكأنه كان حُسناً مقارباً لتلك الوجوه الحسنة، وليس كما يزعم الناس من أنه أُعطي هذا الحسن، وأُعطي الناس كلّهم نصف الحسن. [سورة يوسف (12) : الآيات 59 الى 60] وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قوله تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ يقال: جهَّزت القوم تجهيزاً: إِذا هيأت لهم ما يصلحهم، وجهاز البيت: متاعه. قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيراً، وقال: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أي: أُتمه ولا أَبْخَسُه، وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ يعني: المضِيفين، وذلك أنه أحسنَ ضيافتهم. ثم أوعدهم على ترك الإِتيان بأخيهم، فقال: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وفيه قولان: أحدهما: أنه يعني به: فيما بعد، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه منعهم الكيل في الحال، قاله وهب بن منبّه.

[سورة يوسف (12) : آية 61]

[سورة يوسف (12) : آية 61] قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) قوله تعالى: قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي: نطلبه منه، والمراودة: الاجتهاد في الطلب. وفي قوله تعالى: وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: وإنّا لجاءوك به، وضامنون لك المجيء به، هذا مذهب الكلبي. والثاني: أنه توكيد، قاله الزجاج، فعلى هذا يكون الفعل الذي ضمِنوه عائداً إِلى المراودة، فيصحّ معنى التّوكيد. والثالث: وإنّا لمديمون المطالبة به لأبينا، ومتابعون المشورة عليه بتوجيهه، وهذا غير المراودة، ذكره ابن الأنباري. فإن قيل: كيف جاز ليوسف أن يطلب أخاه، وهو يعلم ما في ذلك من إِدخال الحزن على أبيه؟ فعنه خمسة أجوبة: أحدها: أنه يجوز أن يكون ذلك بأمر عن الله تعالى زيادة لبلاء يعقوب ليعظم ثوابه، وهذا الأظهر. والثاني: أنه طلبه لا ليحبسه، فلما عرفه قال: لا أفارقك يا يوسف، قال: لا يمكنني حبسك إِلا أن أنسبك إِلى أمر فظيع، قال: أفعل ما بدا لك، قاله كعب. والثالث: أن يكون قصد تنبيه يعقوب بذلك على حال يوسف. والرابع: ليتضاعف سرور يعقوب برجوع ولديه. والخامس: ليعجِّل سرور أخيه باجتماعه به قبل إِخوته. وكل هذه الأجوبة مدخوله، إِلا الأول، فانه الصحيح. ويدل عليه ما روينا عن وهب بن منبه، قال: لما جمع الله بين يوسف ويعقوب، قال له يعقوب: بيني وبينك هذه المسافة القريبة، ولم تكتب إِليَّ تعرِّفني؟! فقال: إِن جبريل أمرني أن لا أعرِّفك، فقال له: سل جبريل، فسأله، فقال: إِن الله أمرني بذلك، فقال: سل ربك، فسأله، فقال: قل ليعقوب: خفتَ عليه الذئب، ولم تؤمنّي؟ [سورة يوسف (12) : آية 62] وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) قوله تعالى: وَقالَ لِفِتْيانِهِ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «لفتيته» . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «لفتيانه» . قال أبو علي: الفتية جمع فتى في العدد القليل، والفتيان في الكثير. والمعنى: قال لغلمانه: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ وهي التي اشترَوا بها الطعام فِي رِحالِهِمْ، والرحل: كل شيء يُعَدُّ للرحيل. لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي: ليعرفوها إِذَا انْقَلَبُوا أي: رجعوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: لكي يرجعوا. وفي مقصوده بذلك خمسة أقوال: أحدها: أنه تخوف أن لا يكون عند أبيه من الورِق ما يرجعون به مرة أخرى، فجعل دراهمهم في رحالهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه أراد أنهم إِذا عرفوها، لم يستحلُّوا إِمساكها حتى يردُّوها، قاله الضحاك. والثالث: أنه استقبح أخذ الثمن من والده وإِخوته مع حاجتهم إِليه، فردَّه عليهم من حيث لا يعلمون سبب رده تكرماً وتفضلاً، ذكره ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي. والرابع: ليعلموا أنّ طلبه لعَوْدهم لم يكن طمعاً في أموالهم، ذكره الماوردي. والخامس: أنه أراهم كرمه وبِرَّه ليكون أدعى إِلى عَوْدهم. [سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 64] فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

[سورة يوسف (12) : الآيات 65 إلى 68]

قوله تعالى: فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قال المفسرون: لما عادوا إِلى يعقوب، قالوا: يا أبانا: قَدِمنا على خير رجل، أنزلنا، وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته. وفي قوله تعالى: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ قولان قد تقدما في قوله: (فلا كيل لكم عندي) . فإن قلنا: إِنه لم يكل لهم، فلفظ «مُنع» بَيِّن. وإِن قلنا: إِنه خوّفهم منع الكيل، ففي المعنى قولان: أحدهما: حُكم علينا بمنع الكيل بعد هذا الوقت، كما تقول للرجل: دخلت والله النار بما فعلت. والثاني: أن المعنى: يا أبانا يُمنع منا الكيل إِن لم ترسله معنا، فناب «مُنع» عن «يمنع» كقوله تعالى: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ «1» أي: يخلده، وقوله: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ «2» ، وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى «3» أي: وإِذ يقول، ذكرهما ابن الأنباري. قوله تعالى: فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: «نكتل» بالنون. وقرأ حمزة، والكسائي: «يكتل» بالياء. والمعنى: إِن أرسلته معنا اكتلنا، وإِلا فقد مُنعنا الكيل. قوله تعالى: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ أي لا آمنكم عليه إِلا كأمني على يوسف، يريد أنه لم ينفعه ذلك الأمن إِذ خانوه. فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «حفظاً» ، والمعنى: خير حفظاً من حفظكم، وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم: «خير حافظاً» بألف. قال أبو علي: ونصبُه على التمييز دون الحال. [سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68] وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) قوله تعالى: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ يعني أوعية الطعام وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ التي حملوها ثمناً للطعام رُدَّتْ قال الزجاج: الأصل «رُدِدَتْ» ، فأدغمت الدال الأولى في الثانية، وبقيت الراء مضمومة. ومن قرأ بكسر الراء جعل كسرتها منقولة من الدال، كما فُعل ذلك في: قيل، وبيع، ليدل على أن أصل الدال الكسر. قوله تعالى: ما نَبْغِي في «ما» قولان: أحدهما: أنها استفهام، المعنى: أي شيء نبغي وقد رُدَّت بضاعتنا إِلينا؟ والثاني: أنها نافية، المعنى: ما نبغي شيئاً، أي: لسنا نطلب منك دراهم نرجع بها

_ (1) سورة الهمزة: 3. (2) سورة الأعراف: 50. (3) سورة المائدة: 116.

إِليه، بل تكفينا هذه في الرجوع إِليه، وأرادوا بذلك تطييب قلبه ليأذن لهم بالعَود. وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر، والجحدري، وأبو حياة «ما تبغي» بالتاء، على الخطاب ليعقوب. قوله تعالى: وَنَمِيرُ أَهْلَنا أي: نجلب لهم الطعام. قال ابن قتيبة: يقال: مار أهله يميرهم مَيْراً، وهو مائر لأهله: إِذا حمل إِليهم أقواتهم من غير بلده. قوله تعالى: وَنَحْفَظُ أَخانا فيه قولان: أحدهما: نحفظ أخانا ابن يامين الذي ترسله معنا، قاله الأكثرون. والثاني: ونحفظ أخانا شمعون الذي أخذ رهينة عنده، قاله الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى: وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ أي: وِقْر بعير، يعنون بذلك نصيب أخيهم، لأن يوسف كان لا يعطي الواحد أكثر من حِمل بعير. قوله تعالى: ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ذلك كيل سريع، لا حبس فيه، يعنون: إِذا جاء معنا، عجَّل الملك لنا الكيل، قاله مقاتل. والثاني: ذلك كيل سهل على الذي نمضي إِليه، قاله الزجاج. والثالث: ذلك الذي جئناك به كيل يسير لا يُقنعُنا، قاله الماوردي. قوله تعالى: حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي: تعطوني عهداً أثق به، والمعنى: حتى تحلفوا لي بالله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ أي: لتَرُدُّنَّه إِلي. قال ابن الأنباري: وهذه اللام جواب لمضمَر، تلخيصه: وتقولوا: والله لتأتُنّني به. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فيه قولان: أحدهما: أن يهلك جميعكم، قاله مجاهد. والثاني: أن يُحال بينكم وبينه فلا تقدرون على الإِتيان به، قاله الزجاج. قوله تعالى: فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أي: أعطَوْه العهد، وفيه قولان: أحدهما: أنهم حلفوا له بحقّ محمّد صلّى الله عليه وسلم ومنزلته من ربه، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنهم حلفوا بالله تعالى، قاله السدي. قوله تعالى: قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الشهيد. والثاني: كفيل بالوفاء، رُويا عن ابن عباس. قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ قال المفسرون: لما تجهزوا للرحيل، قال لهم يعقوب: «لا تدخلوا» يعني مصر «من باب واحد» . وفي المراد بهذا الباب قولان: أحدهما: أنه أراد باباً من أبواب مصر، وكان لمصر أربعة أبواب، قاله الجمهور. والثاني: أنه أراد الطرق لا الأبواب، قاله السدي، وروى نحوه أبو صالح عن ابن عباس. وفي ما أراد بذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خاف عليهم العين، وكانوا أُولي جمال وقوة، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنه خاف أن يُغتَالوا لِما ظهر لهم في أرض مصر من التهمة، قاله وهب بن منبه. والثالث: أنه أحب أن يلقَوا يوسف في خَلوة، قاله إِبراهيم النخعي. قوله تعالى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: لن أدفع عنكم شيئاً قضاه الله، فإنه إِن شاء أهلككم متفرقين، ومصداقه في الآية التي بعدها ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وهي إِرادته أن يكون دخولهم كذلك شفقة عليهم. قال الزجاج: «إِلا حاجة» استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكنْ حاجةٌ في نفس يعقوب قضاها. قال ابن عباس: «قضاها» أي: أبداها وتكلم بها. قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ فيه سبعة أقوال: أحدها: إِنه حافظ لما علَّمناه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وإنه لذو علم أنّ دخولهم من أبواب متفرقة لا يغني عنهم من الله شيئاً، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: وإِنه لعامل بما عُلِّم، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: سمّي العمل

[سورة يوسف (12) : آية 69]

علما، لأنّ العلم أول أسباب العمل. والرابع: وإِنه لمتيقن لوعدنا، قاله الضحاك. والخامس: وإِنه لحافظ لوصيِّتنا، قاله ابن السائب. والسادس: وإِنه لعالم بما علَّمناه أنه لا يصيب بنيه إِلا ما قضاه الله، قاله مقاتل. والسابع: وإِنه لذو علم لتعليمنا إيّاه، قاله الفرّاء. [سورة يوسف (12) : آية 69] وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) قوله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ يعني إِخوته آوى إِلَيْهِ أَخاهُ يعني بنيامين، وكان أخاه لأبيه وأمه، قاله قتادة، وضمه إِليه وأنزله معه. قال ابن قتيبة: يقال: آويتُ فلاناً إِليَّ، بمد الألف: إِذا ضممتَه إِليك، وأويت إِلى بني فلان، بقصر الألف: إِذا لجأت إِليهم. وفي قوله: قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ قولان: أحدهما: أنهم لما دخلوا عليه حبسهم بالباب، وأدخل أخاه، فقال له: ما اسمك؟ فقال: بنيامين، قال: فما اسم أمك؟ قال: راحيل بنت لاوَي، فوثب إِليه فاعتنقه، فقال: «إِني أنا أخوك» ، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وكذلك قال ابن إِسحاق: أخبره أنه يوسف. والثاني: أنه لم يعترف له بذلك، وإِنما قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، قاله وهب بن منبه. وقيل: إِنه أجلسهم كل اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحيداً يبكي، وقال: لو كان أخي حياً لأجلسني معه، فضمَّه يوسف إِليه وقال: إنّي أرى هذا وحيدا، فأجلسه معه على مائدته. فلما جاء الليل، نام كل اثنين على منام، فبقي وحيداً، فقال يوسف: هذا ينام معي. فلما خلا به، قال: هل لك أخ من أمك؟ قال: كان لي أخ من أمي فهلك، فقال أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال: أيها الملك، ومن يجد أخاً مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف، وقام إِليه فاعتنقه، وقال: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ قال قتادة: لا تأس ولا تحزن، وقال الزجاج: لا تحزن ولا تستكِنْ. قال ابن الأنباري: «تبتئس» : تفتعل، من البؤس، وهو الضُرُّ والشدة، أي: لا يلحقنَّك بؤس بالذي فعلوا. قوله تعالى: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا يعيِّرون يوسف وأخاه بعبادة جدِّهما أبي أُمهما للأصنام، فقال: لا تبتئس بما كانوا يعملون من التعيير لنا، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لا تحزن بما سيعملون بعد هذا الوقت حين يسرِّقونك، فتكون «كانوا» بمعنى «يكونون» قال الشاعر: فَأَدْرَكْتُ مَنْ قَدْ كَانَ قَبْلي وَلَمْ أَدَعْ ... لِمَنْ كَانَ بَعْدِي في القَصَائِد مَصْنَعَا وقال آخر: وانْضَحْ جَوانِبَ قَبْرِهِ بِدِمَائِهَا ... فَلَقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وَذَبَائِحِ أراد: فقد كان، وهذا مذهب مقاتل. والثالث: لا تحزن بما عملوا من حسدنا، وحرصوا على صرف وجه أبينا عنّا، وإِلى هذا المعنى ذهب ابن إِسحاق. [سورة يوسف (12) : الآيات 70 الى 72] فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)

قوله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قال المفسرون: أوفى لهم الكيل، وحمّل بنيامين بعيراً باسمه كما حمَّل لهم، وجعل السقاية في رحل أخيه، وهي الصواع، فهما اسمان واقعان على شيء واحد، كالبُرِّ والحنطة، والمائدة والخُوان. وقال بعضهم: الاسم الحقيقي: الصواع، والسقاية وصف، كما يقال: كوز، وإِناء، فالاسم الخاص: الكوز. قال المفسرون: جعل يوسف ذلك الصاع مكيالاً لئلا يُكال بغيره. وقيل: كال لإِخوته بذلك، إِكراماً لهم. قالوا: ولما ارتحل إِخوة يوسف وأمعنوا، أرسل الطلب في أثرهم، فأُدركوا وحبسوا، ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قال الزجاج: أعلم مُعْلم يقال: آذنته بالشيء فهو مؤذن به أي: أعلمته، وآذنت: أكثرت الإِعلام بالشيء، يعني: أنه إِعلام بعد إِعلام. أَيَّتُهَا الْعِيرُ يريد: أهل العير، فأنث لأنه جعلها للعير. قال الفراء: لا يقال: عير، إِلا لأصحاب الإِبل. وقال أبو عبيدة: العير: الإِبل المرحولة المركوبة. وقال ابن قتيبة: العير: القوم على الإِبل. فإن قيل: كيف جاز ليوسف أن يُسرِّق من لم يسرق؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن المعنى: إِنكم لسارقون يوسف حين قطعتموه عن أبيه وطرحتموه في الجب، قاله الزجاج. والثاني: أن المنادي نادى وهو لا يعلم أن يوسف أمر بوضع السقاية في رحل أخيه، فكان غير كاذب في قوله، قاله ابن جرير. والثالث: أن المنادي نادى بالتسريق لهم بغير أمر يوسف. والرابع: أن المعنى: إِنكم لسارقون فيما يظهر لمن لم يعلم حقيقة أخباركم، كقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «1» أي: عند نفسك، لا عندنا. وقولِ النبي صلّى الله عليه وسلم: (818) «كذب إِبراهيم ثلاث كَذَبات» أي: قال قولاً يشبه الكذب، وليس به. قوله تعالى: قالُوا يعني: إخوة يوسف وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ فيه قولان: أحدهما: على المؤذن وأصحابه. والثاني: أقبل المنادي ومن معه على إِخوة يوسف بالدّعوى. ماذا تَفْقِدُونَ ما الذي ضلَّ عنكم؟ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ. قال الزجاج: الصواع هو الصاع بعينه، وهو يذكّر ويؤنّث، وكذلك الصّاع يذكّر ويؤنّث. وقد قرئ: «صياع» بياء، وقرئ: «صوغ» بغين معجمة، وقرئ: «صَوع» بعين غير معجمة مع فتح الصاد، وضمها، وقرأ أبو هريرة: «صاع الملك» وكل هذه لغات ترجع إِلى معنى واحد، إِلا أن الصوغ، بالغين المعجمة، مصدر صغت، وُصف الإِناء به، لأنه كان مصوغاً من ذهب. واختلفوا في جنسه على خمسة أقوال: أحدها: أنه كان قدحاً من زبرجد. والثاني: أنه كان من نحاس، رويا عن ابن عباس. والثالث: أنه كان شربة من فضة مرصَّعة بالجوهر، قاله عكرمة. والرابع: كان كأساً من ذهب، قاله ابن زيد. والخامس: كان من مِسٍّ «2» ، حكاه الزجاج. وفي صفته قولان: أحدهما: أنه

_ غريب بهذا اللفظ، وقد ورد بسياق آخر وهو صدر حديث، أخرجه البخاري 2635 و 2217 والترمذي 3166، وأحمد في «المسند» 2/ 403- 404، والبيهقي 7/ 366، من حديث أبي هريرة. وأخرجه مسلم 2371، والبيهقي 7/ 366 من حديث محمد بن سيرين به. وأخرجه أبو داود 2212 من حديث هشام بن حسان به. ولفظه عند البخاري: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منهنّ في ذات الله عز وجل: قوله إِنِّي سَقِيمٌ وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ... إلخ» .

[سورة يوسف (12) : الآيات 73 إلى 75]

كان مستطيلاً يشبه المكوك. والثاني: أنه كان يشبه الطاس. قوله تعالى: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ يعني الصواع حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي: كفيل لمن ردَّه بالحِمل، يقوله المؤذّن. [سورة يوسف (12) : الآيات 73 الى 75] قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ قال الزجاج: «تالله» بمعنى: والله، إِلا أن التاء لا يقسم بها إلّا في الله عزّ وجلّ. ولا يجوز: تالرحمن لأفعلن، ولا: تربي لأفعلن. والتاء تُبدل من الواو، كما قالوا في وُراث: تراث، وقالوا: يتَّزن، وأصله: يوتزن، من الوزن. قال ابن الأنباري: أبدلت التاء من الواو، كما أبدلت في التخمة والتراث والتُجاه، وأصلهنّ من الوخمة والوارث والوجاه، لأنهنّ من الوخامة والوارثة والوَجه. ولا تقول العرب: تالرحمن، كما قالوا: تالله، لأن الاستعمال في الإِقسام كثر بالله، ولم يكن بالرحمن، فجاءت التاء بدلاً من الواو في الموضع الذي يكثر استعماله. قوله تعالى: لَقَدْ عَلِمْتُمْ يعنون يوسف ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ أي: لنظلم أحداً أو نسرق. فإن قيل: كيف حلفوا على عِلم قوم لا يعرفونهم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم قالوا ذلك، لأنهم ردّوا الدراهم ولم يستحلُّوها، فالمعنى: لقد علمتم أنا رددنا عليكم دراهمكم وهي أكثر من ثمن الصاع، فكيف نستحل صاعكم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثاني: لأنهم لما دخلوا مصر كعموا «1» أفواه إِبلهم وحميرهم حتى لا تتناول شيئاً، وكان غيرهم لا يفعل ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أن أهل مصر كانوا قد عرفوهم أنهم لا يظلمون أحداً. قوله تعالى: فَما جَزاؤُهُ المعنى: قال المنادي وأصحابه: فما جزاؤه. قال الأخفش: إِن شئت رددت الكناية إِلى السارق، وإِن شئت رددتها إِلى السرق. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أي: في قولكم، وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا يعني: إِخوة يوسف جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أي: يُستعبَد بذلك. قال ابن عباس: وهذه كانت سنّة آل يعقوب. [سورة يوسف (12) : آية 76] فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قوله تعالى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قال المفسرون: انصرف بهم المؤذن إِلى يوسف، وقال: لا بد من تفتيش أمتعتكم، فَبَدَأَ يوسف بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ لإِزالة التهمة، فلما وصل إِلى وعاء أخيه، قال: ما أظن هذا أخذ شيئاً، فقالوا: والله لا نبرح حتى تنظر في رحله، فهو أطيب لنفسك. فلما فتحوا متاعه وجدوا الصّاع، فذلك قوله: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها. وفي هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى السرقة، قاله الفراء. والثاني: إِلى السقاية، قاله الزجاج. والثالث: إلى الصّواع على لغة من

_ (1) كعم البعير يكعمه كعما فهو مكعوم وكعيم: شدّ فاه، وقيل: شدّ فاه في هياجه لئلا يعض أو يأكل. [.....]

[سورة يوسف (12) : الآيات 77 إلى 79]

يؤنّثه، ذكره ابن الأنباري. قال المفسرون: فأقبلوا على ابن يامين، وقالوا: أي شيء صنعت؟! فضحتنا وأزريت بأبيك الصدِّيق، فقال: وضع هذا في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم، وقد كان يوسف أخبر أخاه بما يريد أن يصنع به. قوله تعالى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ فيه أربعة أقوال: أحدها: كذلك صنعنا له، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: احتلنا له، والكيد: الحيلة، قاله ابن قتيبة. والثالث: أردنا ليوسف، ذكره ابن القاسم. والرابع: دبَّرنا له بأن ألهمناه ما فعل بأخيه ليتوصل إِلى حبسه. قال ابن الأنباري: لما دبَّر الله ليوسف ما دبَّر من ارتفاع المنزلة وكمال النعمة على غير ما ظن إِخوتُه، شُبِّه بالكيد من المخلوقين، لأنهم يسترون ما يكيدون به عمن يكيدونه. قوله تعالى: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ في المراد بالدين ها هنا قولان: أحدهما: أنه السلطان، فالمعنى: في سلطان الملك، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه القضاء، فالمعنى: في قضاء الملك، لأن قضاء الملك أن من سرق إِنما يُضرب ويُغرَّم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وبيانه أنه لو أجرى أخاه على حكم الملك ما أمكنه حبسه، لأن حكم الملك الغرم والضرب فحسب، فأجرى الله على ألسنة إِخوته أن جزاء السارق الاسترقاق، فكان ذلك مما كاد الله ليوسف لطفاً حتى أظفره بمراده بمشيئة الله، فذلك معنى قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ. وقيل: إِلا أن يشاء الله إِظهار علَّة يستحق بها أخاه. قوله تعالى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وقرأ يعقوب «يرفع درجاتِ من يشاء» بالياء فيهما. وقرأ أهل الكوفة «درجاتٍ» بالتنوين، والمعنى: نرفع الدرجات بصنوف العطاء، وأنواع الكرامات، وابواب العلوم، وقهر الهوى، والتوفيق للهدى، كما رفعنا يوسف. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أي: فوق كل ذي علم رفعه الله بالعلم مَن هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إِلى الله تعالى، والكمال في العلم معدوم من غيره. وفي مقصود هذا الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: يوسف أعلم من إِخوته، وفوقه من هو أعلم منه. والثاني: أنه نبَّه على تعظيم العِلم، وبيَّن أنه أكثر من أن يُحاط به. والثالث: أنه تعليم للعالم التّواضع لئلّا يعجب. [سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 79] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) قوله تعالى: قالُوا يعني: إِخوة يوسف إِنْ يَسْرِقْ يعنون ابن يامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يعنون يوسف. قال المفسرون: عوقب يوسف ثلاث مرات، قال للساقي: «اذكرني عند ربك» فلبث في السجن بضع سنين، وقال للعزيز: «ليعلم أني لم أخنه بالغيب» ، فقال له جبريل: ولا حين هممت؟ فقال: «وما أبرّئ نفسي» ، وقال لإِخوته: «إِنكم لسارقون» ، فقالوا: «إِن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل» . وفي ما عنوا بهذه السرقة سبعة أقوال: أحدها: أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه في سني

المجاعة، فيطعمه للمساكين، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه سرق مكحلة لخالته، رواه أبو مالك عن ابن عباس. والثالث: أنه سرق صنماً لجده أبي أمه، فكسره وألقاه في الطريق، فعيَّره إِخوته بذلك، قاله سعيد بن جبير، ووهب بن منبه، وقتادة. والرابع: أن عمة يوسف- وكانت أكبر ولد إِسحاق- كانت تحضن يوسف وتحبُّه حباً شديداً، فلما ترعرع، طلبه يعقوب، فقالت: ما أقدر أن يغيب عني، فقال: والله ما أنا بتاركه، فعمدت إِلى منطقة إِسحاق، فربطتها على يوسف تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إِسحاق، فانظروا من أخذها، فوجدوها مع يوسف، فأخبرت يعقوب بذلك، وقالت: والله إِنه لي أصنع فيه ما شئت، فقال: أنت وذاك، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، فذاك الذي عيَّره به إِخوته، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس: أنه جاءه سائل يوماً، فسرق شيئاً، فأعطاه السائل، فعيَّروه بذلك. وفي ذلك الشيء ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان بيضة، قاله مجاهد. والثاني: أنه شاة، قاله كعب. والثالث: دجاجة، قاله سفيان بن عيينة. والسادس: أن بني يعقوب كانوا على طعام، فنظر يوسف إِلى عَرْق، فخبأه، فعيَّروه بذلك، قاله عطية العوفي، وإِدريس الأودي. قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلِّها ما يوجب السرقة، لكنها تشبه السرقة، فعيَّره إِخوته بذلك عند الغضب. والسابع: أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إِليه، قاله الحسن. وقرأ أبو رزين، وابن أبي عبلة: «فقد سُرِّق» بضم السين وكسر الراء وتشديدها. قوله تعالى: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الكلمة التي ذُكرت بعد هذا، وهي قوله تعالى: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها ترجع إِلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم: «فقد سرق أخ له من قبل» ، وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس، فعلى هذا يكون المعنى: أسرَّ جواب الكلمة فلم يجبهم عليها. والثالث: أنها ترجع إِلى الحُجة، المعنى: فأسر الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً فيه قولان: أحدهما: شرٌّ صنيعاً من يوسف لما قدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم، قاله ابن عباس. والثاني: شرٌّ منزلة عند الله، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ فيه قولان: أحدهما: تقولون، قاله مجاهد. والثاني: بما تكذبون، قاله قتادة. قال الزجاج: المعنى: والله أعلم أسرق أخ له أم لا. وذكر بعض المفسرين، أنه لما استخرج الصواع من رحل أخيه، نقر الصواع، ثم أدناه من أذنه، فقال: إِنَّ صواعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثنى عشر رجلاً، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه، فقال ابن يامين: أيها الملك، سل صواعك عن أخي، أحيّ هو؟ فنقره، ثم قال: هو حي، وسوف تراه، فقال: سل صواعك، من جعله في رحلي؟ فنقره، وقال: إِنَّ صواعي هذا غضبان، وهو يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟ فغضب روبيل، وكان بنو يعقوب إِذا غضبوا لم يطاقوا، فإِذا مسَّ أحدهم الآخر ذهب غضبه، فقال: والله أيها الملك لتتركنَّا، أو لأصيحنَّ صيحةً لا يبقى بمصر امرأة حامل إِلا أَلقتْ ما في بطنها، فقال يوسف لابنه: قم إِلى جنب روبيل فامسسه، ففعل الغلام، فذهب غضبه، فقال روبيل: ما هذا؟! إِن في هذا البلد من ذرية يعقوب؟ قال يوسف: ومَن يعقوب؟ فقال: أيها

[سورة يوسف (12) : الآيات 80 إلى 81]

الملك، لا تذكر يعقوب، فانه إِسرائيل الله ابن ذبيح الله ابن خليل الله. فلمَّا لم يجدوا إِلى خلاص أخيهم سبيلاً، سألوه أن يأخذ منهم بديلاً به، فذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً أي: في سِنِّه، وقيل: في قَدره، فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ أي: تستعبده بدلاً عنه إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فيه قولان: أحدهما: فيما مضى. والثاني: إِن فعلت. قالَ مَعاذَ اللَّهِ قد سبق تفسيره، والمعنى: أعوذ بالله أن نأخذ بريئاً بسقيم. [سورة يوسف (12) : الآيات 80 الى 81] فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ أي: يئسوا. وفي هاء «منه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى يوسف، فالمعنى: يئسوا من يوسف أن يخلّي سبيل أخيهم. والثاني: إِلى أخيهم، فالمعنى: يئسوا من أخيهم. قوله تعالى: خَلَصُوا نَجِيًّا أي: اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم، يتناجَون ويتناظرون ويتشاورون، يقال: قوم نجي، والجمع أنجية، قال الشاعر: إِني إِذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ ... وَاضّطربَتْ أَعْنَاقُهم كالأَرْشِيَهْ «1» وإِنما وحد «نجياً» لأنه يجري مجرى المصدر الذي يكون للاثنين، والجمع والمؤنث بلفظ واحد. وقال الزجاج: انفردوا متناجين فيما يعملون في ذهابهم إِلى أبيهم وليس معهم أخوهم. قوله تعالى: قالَ كَبِيرُهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه كبيرهم في العقل، ثم فيه قولان «2» : أحدهما: أنه يهوذا، ولم يكن أكبرهم سناً، وإِنما كان أكبرهم سناً روبيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل. والثاني: أنه شمعون، قاله مجاهد. والثاني: أنه كبيرهم في السن وهو روبيل، قاله قتادة، والسدي. قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ في حفظ أخيكم وردِّه إِليه وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ قال الفراء: «ما» في موضع رفع، كأنه قال: ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف، وإِن شئت جعلتها نصباً، المعنى: ألم تعلموا هذا، وتعلموا من قبل تفريطكم في يوسف. وإن

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «نجا» وعزاه إلى سحيم بن وثيل اليربوعي. وأرشت الشجرة إذا امتدت أغصانها، وقال الأصمعي: إذا امتدت أغصان الحنظل قيل قد أرشت أي صارت كالأرشية وهي الحبال. (2) قال الطبري رحمه الله 7/ 270: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: عني بقوله قالَ كَبِيرُهُمْ روبيل لإجماع جميعهم على أنه كان أكبرهم سنا، ولا تفهم العرب في المخاطبة إذا قيل لهم: «فلان كبير القوم» مطلقا بغير وصل إلا أحد معنيين: إما في الرياسة عليهم والسؤدد، وإما في السن. فأما في العقل، فإنهم إذا أرادوا ذلك وصلوه فقالوا: هو كبيرهم في العقل. وقد قال أهل التأويل: لم يكن لشمعون- وإن كان من العقل والعلم بالمكان الذي جعله الله به- على إخوته رئاسة وسؤدد. فإذا كان كذلك، فلم يبق إلا الوجه الآخر وهو الكبر في السن وروبيل كان أكبر القوم سنا.

[سورة يوسف (12) : آية 82]

شئت جعلت «ما» صلة، كأنه قال: ومن قبل فرَّطتم في يوسف. قال الزجاج: وهذا أجود الوجوه، أن تكون «ما» لغواً. قوله تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أي: لن أخرج من أرض مصر، يقال: بَرِح الرجل بَراحاً: إِذا تنحّى عن موضعه. حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي قال ابن عباس: حتى يبعث إِليَّ أن آتيه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أو يحكم الله لي، فيردَّ أخي عليّ. والثاني: يحكم الله لي بالسيف، فأحارب من حبس أخي. والثالث: يقضي في أمري شيئاً، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أي: أعدلهم وأفضلهم. قوله تعالى: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وقرأ ابن عباس، والضحاك، وابن أبي سريج عن الكسائي: «سُرِّق» بضم السين وتشديد الراء وكسرها. قوله تعالى: وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا فيه قولان: أحدهما: وما شهدنا عليه بالسرقة إِلا بما علمنا، لأنا رأينا المسروق في رحله، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يؤخذ بسرقته إِلا بما علمنا من دينك، قاله ابن زيد. وفي قوله: وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ثمانية أقوال: أحدها: أن الغيب هو الليل، والمعنى: لم نعلم ما صنع بالليل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وهذا يدل على أن التهمة وقعت به ليلاً. والثاني: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال عكرمة، وقتادة، ومكحول. قال ابن قتيبة: فالمعنى: لم نعلم الغيب حين أعطيناك الموثق لنأتينَّك به أنه يسرق فيؤخذ. والثالث: لم نستطع أن نحفظه فلا يسرق، رواه عبد الوهاب عن مجاهد. والرابع: لم نعلم أنه سرق للملك شيئاً، ولذلك حكمنا باسترقاق السارق، قاله ابن زيد. والخامس: أن المعنى: قد رأينا السرقة قد أُخذت من رحله، ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرَّقوه، قاله ابن إِسحاق. والسادس: ما كنا لغيب ابنك حافظين، إِنما نقدر على حفظه في محضره، فإِذا غاب عنا، خفيت عنا أموره. والسابع: لو علمنا من الغيب أن هذه البلية تقع بابنك ما سافرنا به، ذكرهما ابن الأنباري. والثامن: لم نعلم أنك تُصَابُ به كما أُصبتَ بيوسف، ولو علمنا لم نذهب به، قاله ابن كيسان. [سورة يوسف (12) : آية 82] وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ المعنى: قولوا لأبيكم: سل أهل القرية الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون مصر وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وأهل العير، وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: وسل القرية والعير فانها تعقل عنك لأنك نبي والأنبياء قد تخاطبهم الأحجار والبهائم، فعلى هذا تسلم الآية من إضمار. [سورة يوسف (12) : آية 83] قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) قوله تعالى: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ في الكلام اختصار، والمعنى: فرجعوا إِلى أبيهم فقالوا له ذلك، فقال لهم هذا، وقد شرحناه في أوّل السّورة. واختلفوا لأي علَّة قال لهم هذا القول، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ظن أن الذي تخلَّف منهم، إِنما تخلف حيلة ومكراً ليصدِّقهم، قاله وهب بن منبه. والثاني: أن المعنى: سوَّلت لكم أنفسكم أنّ

[سورة يوسف (12) : آية 84]

خروجكم بأخيكم يجلب نفعاً، فجرَّ ضرراً، قاله ابن الأنباري. والثالث: سوَّلت لكم أنه سرق، وما سرق. قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً يعني: يوسف وابن يامين وأخاهما المقيم بمصر. وقال مقاتل: أقام بمصر يهوذا وشمعون، فأراد بقوله: «أن يأتيني بهم» يعني: الأربعة. قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ أي: بشدة حزني، وقيل: بمكانهم، الْحَكِيمُ فيما حكم عليّ. [سورة يوسف (12) : آية 84] وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قوله تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي: أعرض عن ولده أن يطيل معهم الخطب، وانفرد بحزنه، وهيَّج عليه ذِكر يوسف وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ قال ابن عباس: يا طول حزني على يوسف. قال ابن قتيبة: الأسف: أشد الحسرة. قال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الأمّة عند المصيبة ما لم يُعْطَ الأنبياء قبلهم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، إِذ يقول: «يا أسفى على يوسف» . فإن قيل: هذا لفظ الشكوى، فأين الصبر؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه شكا إِلى الله تعالى، لا مِنْهُ. والثاني: أنه أراد به الدعاء، فالمعنى: يا ربّ ارحم أسفي على يوسف. وذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: نداء يعقوب الأسف في اللفظ من المجاز الذي يُعنى به غير المظهر في اللفظ، وتلخيصه: يا إِلهي ارحم أسفي، أو أنت راءٍ أسفي، وهذا أسفي، فنادى الأسف في اللفظ، والمنادى في المعنى سواه، كما قال: «يا حسرتنا» والمعنى: يا هؤلاء تنبهوا على حسرتنا، قال: والحزن ونفور النفس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إِذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثِّم ولم يشكُ إِلا إِلى ربه، فلما كان قوله: «يا أسفى» شكوى إِلى ربه، كان غير ملوم. وقد روي عن الحسن أن أخاه مات، فجزع الحسن جزعاً شديداً، فعوتب في ذلك، فقال: ما وجدت الله عاب على يعقوب الحزن حيث قال: «يا أسفى على يوسف» . قوله تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي: انقلبت إِلى حال البياض. وهل ذهب بصره، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه ذهب بصره، قاله مجاهد. والثاني: ضعف بصره لبياضٍ تغشّاه من كثرة البكاء، ذكره الماوردي. وقال مقاتل: لم يُبصر بعينيه ست سنين. قال ابن عباس: وقوله: «من الحزن» أي: من البكاء، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه، فلما كان الحزن سبباً للبكاء، سمي البكاء حزناً. وقال ثابت البُناني: دخل جبريل على يوسف، فقال: أيها الملَك الكريم على ربه، هل لك علِم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه، قال: ما بلغ حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فهل له على ذلك من أجر؟ قال: أجر مائة شهيد. وقال الحسن البصري: ما فارق يعقوبَ الحزنُ ثمانين سنة، وما جفَّت عينه، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره. قوله تعالى: فَهُوَ كَظِيمٌ الكظيم بمعنى الكاظم، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره، قاله ابن قتيبة، وقد شرحنا هذا عند قوله: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «1» .

_ (1) سورة آل عمران: 134.

[سورة يوسف (12) : الآيات 85 إلى 87]

[سورة يوسف (12) : الآيات 85 الى 87] قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ قال ابن الأنباري: معناه: والله، وجواب هذا القسم «لا» المضمرة التي تأويلها: تالله لا تفتأ، فلما كان موضعها معلوماً خفف الكلام بسقوطها من ظاهره، كما تقول العرب: والله أقصدك أبداً، يعنون: لا أقصدك، قال امرؤ القيس: فقلتُ يمينُ اللهِ أبرحُ قَاعِدَاً ... وَلَوْ قطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي يريد: لا أبرح، وقالت الخنساء: فَأَقْسَمْتُ آسَى عَلَى هالك ... أو اسأل نائحة ما لها أرادت: لا آسى، وقال الآخر: لَمْ يَشْعُرِ النَّعْشُ مَا عَلَيْهِ مِن ال ... عُرْفِ وَلاَ الحاملون ما حملوا تاللهِ أَنْسَى مُصِيْبتي أَبَدَاً ... مَا أَسْمَعَتْني حَنِيْنَها الإِبِلُ وقرأ أبو عمران، وابن محيصن، وأبو حياة: «قالوا بالله» بالباء، وكذلك كل قسم في القرآن. وأما قوله: «تفتأ» فقال المفسرون وأهل اللغة: معنى «تفتأ» تزال، فمعنى الكلام: لا تزال تذكر يوسف، وأنشد أبو عبيدة: فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وتدَّعي ... ويَلْحَقُ منها لاَحِقٌ وتقطّع «1» وأنشد أبو القاسم: فَمَا فَتِئَتْ مِنَّا رِعَالٌ كَأنَّها ... رِعَالٌ القَطَا حَتَّى احْتَوَيْنَ بني صَخْرِ قوله تعالى: حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً. فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الدَّنِف، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: يقال: أحرضه الحزن، أي: أدنفه. قال أبو عبيدة: الحرض: الذي قد أذابه الحزن أو الحُب، وهي في موضع مُحْرَض. وأنشد: إِني امرؤٌ لجَّ بي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي ... حَتى بَلِيتُ وحَتَى شفَّني السَّقَم «2» أي: أذابني. وقال الزجاج: الحرض: الفاسد في جسمه، والمعنى: حتى تكون مدنفاً مريضاً. والثاني: أنه الذاهب العقل، قاله الضحاك عن ابن عباس. وقال ابن إِسحاق: الفاسد العقل. قال الزجاج: وقد يكون الحرض: الفاسد في أخلاقه. والثالث: أنه الفاسد في جسمه وعقله، يقال: رجل حارض وحرض، فحارض يثنَّي ويُجمع ويُؤنث، وحرض لا يُجمع ولا يثنَّى، لأنه مصدر، قاله الفراء. والرابع: أنه الهرم، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد. قوله تعالى: أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ يعنون: الموتى. فان قيل: كيف حلفوا على شيء يجوز

_ (1) ذكره أبو حيان في تفسيره 5/ 324، وعزاه إلى أوس بن حجر. (2) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «حرض» ، ونسبه إلى عبد الله بن عمر بن عبد الله العرجيّ.

أن يتغير؟ فالجواب: أن في الكلام إِضماراً، تقديره: إِن هذا في تقديرنا وظننا. قوله تعالى: نَّما أَشْكُوا بَثِّي قال ابن قتيبة: البثُّ: أشد الحزن، سمي بذلك، لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه. قوله تعالى: لَى اللَّهِ المعنى: إِني لا أشكو إِليكم، وذلك لما عنَّفوه بما تقدم ذِكره. (819) وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «كان ليعقوب أخ مؤاخٍ، فقال له ذات يوم: يا يعقوب، ما الذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوَّس ظهرك؟ قال: أمَّا الذي أذهب بصري، فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوَّس ظهري، فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل، فقال: يا يعقوب إِن الله يقرئك السلام ويقول لك: أما تستحي أن تشكو إِلى غيري؟ فقال: إِنما أشكو بثّي وحزني إِلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو، ثم قال يعقوب: أي رب، أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبتَ بصري، وقوَّستَ ظهري، فاردد عليَّ ريحاني أشمه شمَّة قبل الموت، ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل، فقال: يا يعقوب، إِن الله يقرأ عليك السّلام ويقول: أبشر، فو عزّتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك، اصنع طعاماً للمساكين، فإن أحب عبادي إِليّ المساكين، وتدري لم أذهبتُ بصرك، وقوّست ظهرك، وصنع إِخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ لأنكم ذبحتم شاة، فأتاكم فلان المساكين وهو صائم، فلم تطعموه منها. فكان يعقوب، بعد ذلك إِذا أراد الغداء أمر منادياً فنادى: ألا مَن أراد الغداء من المساكين فليتغدَّ مع يعقوب، وإِذا كان صائماً أمر منادياً فنادى: من كان صائماً فليُفطر مع يعقوب. وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إِلى يعقوب: أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا، قال: لأنك شويت عناقاً وقتَّرت على جارك وأكلت ولم تطعمه» . وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها، وهي تخور، فلم يرحمها. فإن قيل: كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكاً؟ فقد ذكر المفسرون عنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى، وهو الأظهر. والثاني: لئلّا يظنّ الملك بتعجيل

_ أخرجه الحاكم 2/ 348- 349، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 2/ 601 وإسناده ضعيف جدا. قال الحاكم: هكذا في سماعي بخط يد حفص بن عمر بن الزبير، وأظن الزبير وهما من الراوي فإنه حفص بن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ابن أخي أنس بن مالك، فإن كان كذلك فالحديث صحيح! وسكت الذهبي، في حين ذكر الذهبيّ في «الميزان» 1/ 566 حفصا هذا، وقال: ضعفه الأزدي. وذكر الحافظ في «اللسان» 2/ 329 كلام الذهبي، وزاد: وذكره ابن حبان في «ثقاته» وقال: حفص بن عمر بن أبي الزبير عن أنس، روى عنه يحيى بن عبد الملك. قلت: ابن حبان يوثق المجاهيل، وقد تفرد يحيى بن عبد الملك بالرواية عنه، فهو مجهول، ويدل على ذلك إبهامه في بعض الروايات كما سيأتي. وأخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» 857، من طريق يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية عن حفص بن عمر الأحمسي عن أبي الزبير عن أنس بن مالك. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 40: رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط» عن شيخه: محمد بن أحمد الباهلي البصري وهو ضعيف جدا. والحديث استغربه ابن كثير واستنكره، والأشبه أنه متلقى عن أهل الكتاب، ولا أصل له في المرفوع. وأخرجه ابن أبي الدنيا في «الفرج بعد الشدة» 46، من طريق يحيى بن عبد الملك، عن رجل، عن أنس ابن مالك. الخلاصة: هو حديث ضعيف جدا، شبه موضوع، والأشبه أنه من الإسرائيليات، ولا يصح رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم.

[سورة يوسف (12) : الآيات 88 إلى 93]

استدعائه أهله، شدة فاقتهم. والثالث: أنه أحب بعد خروجه من السجن أن يدرِّج نفسه إِلى كمال السرور. والصحيح أن ذلك كان عن أمر الله تعالى، ليرفع درجة يعقوب بالصبر على البلاء. وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيماً، ولا يقدر على دفع سببه. قوله تعالى: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فيه أربعة أقال: أحدها: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأنّا سنسجد له، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أعلم من سلامة يوسف ما لا تعلمون. قال ابن السائب: وذلك أن ملك الموت أتاه، فقال له يعقوب: هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا. والثالث: أعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون، قاله عطاء. والرابع: أنه لما أخبره بنوه بسيرة العزيز، طمع أن يكون هو يوسف، قاله السدي، قال: ولذلك قال لهم: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا. وقال وهب بن منبه: لما قال له ملك الموت: ما قبضت روح يوسف، تباشر عند ذلك، ثم أصبح، فقال لبنيه: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ. قال أبو عبيدة: «تحسسوا» أي: تخبَّروا والتمِسوا في المظانّ. فان قيل: كيف قال: «من يوسف» والغالب أن يقال: تحسست عن كذا؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أن المعنى: عن يوسف، ولكن نابت عنها «من» كما تقول العرب: حدثني فلان من فلان، يعنون عنه. والثاني: أن «مِن» أوثرت للتبعيض، والمعنى: تحسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف. قوله تعالى: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من رحمة الله، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: من فرج الله، قاله ابن زيد. والثالث: من توسعة الله، حكاه ابن القاسم. قال الأصمعي: الروح: الاستراحة من غم القلب. وقال أهل المعاني: لا تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ لأن المؤمن يرجو الله في الشدائد. [سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 93] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) قوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ في الكلام محذوف، تقديره: فخرجوا إِلى مصر، فدخلوا على يوسف، ف قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ وكان يسمُّون ملكهم بذلك، مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ يعنون الفقر والحاجة «1» وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ. وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال: أحدها: أنها كانت دراهم،

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 9/ 214: في هذا دليل على جواز الشكوى عند الضر أي الجوع، بل واجب عليه إذا ضاف على نفسه الضّر من الفقر وغيره أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع، كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه، ولا يكون ذلك قدحا في التوكل، وهذا ما لم يكن التشكّي على سبيل التّسخط، والصبر والتجلد في النوائب أحسن، والتعفف عن المسألة أفضل، وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى.

رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها كانت متاعاً رثّاً كالحبل والغرارة، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. والثالث: كانت أَقِطاً «1» ، قاله الحسن. والرابع: كانت نعالاً وأدَماً، رواه جويبر عن الضحاك. والخامس: كانت سويق المُقْل، روي عن الضحاك أيضاً. والسادس: حبة الخضراء وصنوبر، قاله أبو صالح. والسابع: كانت صوفاً وشيئاً من سمن، قاله عبد الله بن الحارث. وفي المزجاة خمسة أقوال: أحدها: أنها القليلة. روى العوفي عن ابن عباس قال: دراهم غير طائلة، وبه قال مجاهد، وابن قتيبة. قال الزجاج: تأويله في اللغة أن التزجية: الشيء الذي يدافَع به، يقال: فلان يزجي العيش، أي: يدفع بالقليل ويكتفي به، فالمعنى: جئنا ببضاعة إِنما ندافع بها ونتقوَّت، وليست مما يُتَّسع به، قال الشاعر: الوَاهِبُ المائَةَ الهِجَانَ وَعَبْدَهَا ... عُوذَاً تُزَجِّي خَلْفَهَا أَطْفَالَهَا «2» أي: تدفع أطفالها. والثاني: أنها الرديئة، رواه الضحاك عن ابن عباس. قال أبو عبيدة: إِنما قيل للرديئة: مزجاة، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها، قال: وهي من الإِزجاء، والإِزجاء عند العرب: السَّوق والدفع، وأنشد: لِيَبْكِ على مِلحانَ ضيفٌ مُدفَّع ... وَأَرْمَلَةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أَرْمَلاَ «3» أي: تسوقه. والثالث: الكاسدة، رواه الضحاك أيضاً عن ابن عباس. والرابع: الرثّة، وهي المتاع الخَلَق، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. والخامس: الناقصة، رواه أبو حصين عن عكرمة. قوله تعالى: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي: أتمه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا. قوله تعالى: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: تصدَّق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة، قاله سعيد بن جبير، والسدي. قال ابن الأنباري: كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التصدُّق، وليس به. والثاني: بردّ أخينا، قاله ابن جريج، قال: وذلك أنهم كانوا أنبياء، والصَّدَقَةُ لا تحل للأنبياء. والثالث: وتصدَّق علينا بالزيادة على حقِّنا، قاله ابن عيينة، وذهب إِلى أن الصدقة قد كانت تحل للأنبياء قبل نبيّنا صلّى الله عليه وسلم، حكاه عنه أبو سليمان الدمشقي، وأبو الحسن الماوردي، وأبو يعلى بن الفراء. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ أي: بالثواب. قال الضحاك: لم يقولوا: إِن الله يجزيك إِن تصدقت علينا، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن. قوله تعالى: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ في سبب قوله لهم هذا، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أخرج إِليهم نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر، وفي آخر الكتاب: «وكتب يهوذا» فلمّا قرءوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا: هذا كتاب كتبناه على أنفسنا عند بيع عبدٍ كان لنا، فقال يوسف عند ذلك: إِنكم تستحقون العقوبة، وأمر بهم ليُقتَلوا، فقالوا: إِن كنت فاعلاً، فاذهب بأمتعتنا إِلى يعقوب، ثم أقبل يهوذا على بعض إِخوته، وقال: قد كان أبونا متصل الحزن لفقد واحد من ولده، فكيف به إِذا أُخبر بهُلكنا أجمعين؟ فرقَّ يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره، وقال لهم هذا القول، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم لما قالوا: (مسَّنا وأهلنا الضرُّ) أدركته

_ (1) في «القاموس» : الأقط: شيء يتخذ من المخيض الغنميّ، وأقط الطعام: عمله به. (2) البيت للأعشى في ديوانه 29، وفي «القاموس» الهجائن: البيض الكرام. (3) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «رمل» ، ونسبه إلى ابن بري. وامرأة أرملة ورجل أرمل: من لا زوج له.

الرحمة، فقال لهم هذا، قاله ابن إِسحاق. والثالث: أن يعقوب كتب إِليه كتاباً: إِن رددتَ ولدي، وإِلا دعوتُ عليك دعوةً تدرك السابعَ من ولدك، فبكى، وقال لهم هذا. وفي «هل» قولان: أحدهما: أنها استفهام لتعظيم القصة لا يراد به نفس الاستفهام. قال ابن الأنباري: والمعنى: ما أعظم ما ارتكبتم، وما أسمج ما آثرتم من قطيعة الرحم وتضييع الحق، وهذا مثل قول العربي: أتدري من عصيت؟ هل تعرف من عاديت؟ لا يريد بذلك الاستفهام، ولكن يريد تفظيع الأمر، قال الشاعر: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي «1» لم يرد الاستفهام، إِنما أراد أن هذا غير مرجوٍّ عندهم. قال: ويجوز أن يكون المعنى: هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله لهما من المكروه؟ وهذه الآية تصديق قوله: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ. والثاني: أن «هل» بمعنى «قد» ، ذكره بعض أهل التفسير. فان قيل: فالذي فعلوا بيوسف معلوم، فما الذي فعلوا بأخيه، وما سعَوا في حبسه ولا أرادوه؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنهم فرَّقوا بينه وبين يوسف، فنغَّصوا عيشه بذلك. والثاني: أنهم آذوْهُ بعد فُقْدِ يوسف. والثالث: أنهم سبّوه لما قُذف بسرقة الصاع. وفي قوله: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أربعة أقوال: أحدها: إِذ أنتم صبيان، قاله ابن عباس. والثاني: مذنبون، قاله مقاتل. والثالث: جاهلون بعقوق الأب، وقطع الرحم، وموافقة الهوى. والرابع: جاهلون بما يؤول إِليه أمر يوسف، ذكرهما ابن الأنباري. قوله تعالى: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وابن محيصن: «إِنك» على الخبر، وقرأه آخرون بهمزتين محققتين، وأدخل بعضهم بينهما ألفاً «2» . واختلف المفسرون، هل عرفوه، أم شبّهوه؟ على قولين: أحدهما: أنهم شبّهوه بيوسف، قاله ابن عباس في رواية. والثاني: أنهم عرفوه، قاله ابن إِسحاق. وفي سبب معرفتهم له ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تبسم، فشبَّهوا ثناياه بثنايا يوسف، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه كانت له علامة كالشامة في قرنه، وكان ليعقوب مثلها، ولإسحاق مثلها، ولسارة، فلما وضع التاج عن رأسه، عرفوه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أنه كشف الحجاب، فعرفوه، قاله ابن إِسحاق. قوله تعالى: قالَ أَنَا يُوسُفُ قال ابن الأنباري: إِنما أظهر الاسم، ولم يقل: أنا هو، تعظيماً لما وقع به من ظلم إِخوته، فكأنه قال: أنا المظلوم المستحَلُّ منه، المراد قتلُه، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني، ولهذا قال: وَهذا أَخِي وهم يعرفونه، وإِنما قصد: وهذا المظلوم كظلمي. قوله تعالى:

_ (1) هذا صدر بيت وعجزه (وقومي تميم والفلاة ورائيا) ، وسيأتي بتمامه ص 507. (2) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 602: القراءة المشهورة هي الأولى، لأن الاستفهام يدل على الاستعظام، أي: إنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر، وهم لا يعرفون، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ. وقال الطبري رحمه الله 7/ 291: الصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأه بالاستفهام، لإجماع الحجة من القراء عليه، فوافق بذلك ابن كثير.

قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بخير الدنيا والآخرة. والثاني: بالجمع بعد الفرقة. والثالث: بالسلامة ثم بالكرامة. قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ قرأ ابن كثير في رواية قنبل: «من يتقي ويصبر» بياء في الوصل والوقف، وقرأ الباقون بغير ياء في الحالين. وفي معنى الكلام أربعة أقوال: أحدها: من يتق الزنى ويصبر على البلاء. والثاني: من يتّق الزّنى ويصبر على العزوبة. والثالث: من يتق الله ويصبر على المصائب، رويت هذه الأقوال عن ابن عباس. والرابع: من يتق معصية الله ويصبر على السجن، قاله مجاهد. قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي: أجر مَنْ كان هذا حاله. قوله تعالى: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي: اختارك وفضَّلك. وبماذا عنوا أنه فضَّله فيه؟ أربعة أقوال: أحدها: بالملك، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: بالصبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: بالحلم والصفح عنا، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والرابع: بالعلم والعقل والحسن وسائر الفضائل التي أعطاه. قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ قال ابن عباس: لمذنبين آثمين في أمرك. قال ابن الأنباري: ولهذا اختير «خاطئين» على «مخطئين» ، وإِن كان «أخطأ» على ألسن الناس أكثر من «خطئ يخطأ» لأنّ معنى خطئ يخطأ، فهو خاطئ: آثم، ومعنى أخطأ يخطئ، فهو مخطئ: ترك الصواب ولم يأثم، قال الشاعر: عِبَادُكَ يخطئون وَأَنْتَ رَبٌّ ... بِكَفَّيْكَ المَنَايَا والحُتُومُ «1» أراد: يأثمون. قال: ويجوز أن يكون آثر «خاطئين» على «مخطئين» لموافقة رؤوس الآيات، لأن «خاطئين» أشبه بما قبلها. وذكر الفراء في معنى «إِن» قولين: أحدهما: وقد كنا خاطئين. والثاني: وما كنا إِلا خاطئين. قوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ قال أبو صالح عن ابن عباس: لا أعيِّركم بعد اليوم بهذا أبداً. قال ابن الأنباري: إِنما أشار إِلى ذلك اليوم، لأنه أول أوقات العفو، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة. وقال ثعلب: قد ثرَّب فلان على فلان: إِذا عدَّد عليه ذنوبه. وقال ابن قتيبة: لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما صنعتم، وأصل التثريب: الإِفساد، يقال: ثرَّب علينا: إِذا أفسد. وفي الحديث: (820) «إِذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدَّ، ولا يثرِّب» أي: لا يعيِّرها بالزّنى. قال ابن عباس:

_ صحيح. أخرجه البخاري 2152- 2234- 6839، ومسلم 30- 31- 1703 وأبو داود 4470 و 4471، من طريق سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظ الحديث بتمامه في البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا زنت الأمة فتبين زناها، فليجلدها ولا يثرّب، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرّب، ثم إن زنت الثالثة، فليبعها ولو بحبل من شعر» وسيأتي ذكره في سورة النور.

[سورة يوسف (12) : آية 94]

جعلهم في حِلّ، وسأل الله المغفرة لهم. وقال السدي: لما عرّفهم نفسه، سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصَه، وقال: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي وهذا القميص كان في قصبة من فضة معلَّقاً في عنق يوسف لما أُلقي في الجب، وكان من الجنة، وقد سبق ذكره. قوله تعالى: يَأْتِ بَصِيراً قال أبو عبيدة: يعود مبصراً. فان قيل: من أين قطع على الغيب؟ فالجواب: أن ذلك كان بالوحي إليه، قاله مجاهد. قوله تعالى: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قال الكلبي: كان أهله نحواً من سبعين إنسانا. [سورة يوسف (12) : آية 94] وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قوله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أي: خرجت من مصر متوجهة إِلى كنعان. وكان الذي حمل القميص يهوذا. قال السدي: قال يهوذا ليوسف: أنا الذي حملت القميص إِلى يعقوب بدم كذب فأحزنتُه، وأنا الآن أحمل قميصك لأسرَّه، فحمله، قال ابن عباس: فخرج حافياً حاسراً يعدو، ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها. قوله تعالى: قالَ أَبُوهُمْ يعني يعقوب لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ومعنى أجد: أشم، قال الشاعر: وَلَيْسَ صَرِيْرُ النّعش ما تسمعونه ... وَلَكِنَّها أَصْلاَبُ قَوْمٍ تَقَصَّف «1» وَلَيْسَ فَتِيقُ المِسْكِ ما تجدونه ... وَلَكِنَّه ذَاكَ الثَّنَاءُ المُخلَّفُ فان قيل: كيف وجد يعقوب ريحه وهو بمصر، ولم يجد ريحه من الجب وبعد خروجه منه، والمسافة هناك أقرب؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الله أخفى أمر يوسف على يعقوب في بداية الأمر لتقع البلية التي يتكامل بها الأجر، وأوجده ريحه من المكان النازح عند تقضِّي البلاء ومجيء الفرج. والثاني: أن هذا القميص كان في قصبة من فضة معلقا في عنق يوسف على ما سبق بيانه، فلما نشره فاحت روائح الجنان في الدنيا فاتصلت بيعقوب، فعلم أن الرائحة من جهة ذلك القميص. قال مجاهد: هبت ريح فضربت القميص، ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إِلا ما كان من ذلك القميص، فمن ثم قال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ. وقيل: إِن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل البشير فأذن لها، فلذلك يستروح كل محزون إِلى ريح الصبا، ويجد المكروبون لها رَوْحاً، وهي ريح لينة تأتي من ناحية المشرق، قال أبو صخر الهذلي: إِذا قُلْتُ هَذَا حِينَ أَسْلُو يَهِيْجُني ... نَسِيْمُ الصَّبا مِنْ حَيْثُ يطَّلِعُ الفَجْرُ قال ابن عباس: وجد ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال ثمانين فرسخاً. قوله تعالى: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ فيه خمسة أقوال: أحدها: تُجهِّلونِ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن

_ (1) في «اللسان» الأصلاب: جمع صلب وهو الظهر.

[سورة يوسف (12) : آية 95]

عباس، وبه قال مقاتل. والثاني: تسفِّهونِ، رواه عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وقتادة، ومجاهد في رواية. وقال في رواية أخرى: لولا أن تقولوا: ذهب عقلك. والثالث: تكذِّبونِ، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك. والرابع: تهرِّمونِ، قاله الحسن، ومجاهد في رواية. قال ابن فارس: الفَنَد: إِنكار العقل من هرم. والخامس: تعجِّزونِ، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: تسفِّهون وتعجِّزون وتلومون، وأنشد: يا صاحبيّ دَعَا لَوْمِي وَتَفْنِيدِي ... فَلَيْسَ مَا فَاتَ مِنْ أَمْرٍ بِمَرْدُودِ «1» قال ابن جرير: وأصل التفنيد: الإِفساد، وأقوال المفسرين تتقارب معانيها «2» ، وسمعت الشيخ أبا محمّد بن الخشاب يقول: قوله: «لولا أن تفنِّدون» فيه إضمار تقديره: لأخبرتكم أنه حيّ. [سورة يوسف (12) : آية 95] قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ قال ابن عباس: بنو بنيه خاطبوه بهذا، وكذلك قال السدي: هذا قول بني بنيه، لأن بنيه كانوا بمصر. وفي معنى هذا الضلال ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى الخطأ، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: أنه الجنون، قاله سعيد بن جبير. والثالث: الشقاء والعناء، قاله مقاتل، يريد بذلك شقاء الدنيا. [سورة يوسف (12) : الآيات 96 الى 98] فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ فيه قولان: أحدهما: أنه يهوذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبه، والسدي، والجمهور. والثاني: أنه شمعون، قاله الضحاك. فان قيل: ما الفرق بين قوله ها هنا: فَلَمَّا أَنْ جاءَ وقال في موضع: فَلَمَّا جاءَهُمْ «3» . فالجواب: أنهما لغتان لقريش خاطبهم الله بهما جميعاً، فدخول «أن» لتوكيد مُضِّي الفعل، وسقوطها للاعتماد على إِيضاح الماضي بنفسه، ذكره ابن الأنباري «4» . قوله تعالى: أَلْقاهُ يعني القميص عَلى وَجْهِهِ يعني يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً، الارتداد: رجوع الشيء إِلى حال قد كان عليها. قال ابن الأنباري: إِنما قال: ارتد، ولم يقل: رُدَّ، لأن هذا من الأفعال المنسوبة إِلى المفعولِين، كقولهم: طالت النخلة، والله أطالها، وتحركت الشجرة، والله قد

_ (1) البيت لهانئ بن شكيم العدوي «مجاز القرآن» 1/ 318. [.....] (2) قال الطبري رحمه الله 7/ 297: أصل التفنيد، الإفساد. وإذ كان ذلك كذلك فالضعف والهرم والكذب وذهاب العقل والضعف، وفي الفعل: الكذب واللوم بالباطل. فالأقوال على اختلاف عباراتهم متقاربة المعاني، محتمل جميعها ظاهر التنزيل، إذ لم يكن في الآية دليل على أنه معني به بعض ذلك دون بعض. (3) سورة البقرة: 89. (4) كذلك قال الطبري رحمه الله 7/ 299، وقال أيضا: هذا في «لما» و «حتى» خاصة، كما قال جل ثناؤه، وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا- العنكبوت: 33-.

حركها. قال الضحاك: رجع إِليه بصره بعد العمى، وقوّته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم، وسروره بعد الحزن. وروى يحيى بن يمان عن سفيان قال: لما جاء البشيرُ يعقوبَ، قال: على أيِّ دين تركت يوسف؟ قال: على الإِسلام، قال: الآن تمت النعمة. قوله تعالى: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فيه أقوال قد سبق ذكرها قبل هذا بقليل. قوله تعالى: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا سألوه أن يستغفر لهم ما أتوا، لأنه نبيّ مجاب الدعوة. قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي في سبب تأخيره لذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أخَّرهم لانتظار الوقت الذي هو مَظِنَّة الإِجابة، ثم فيه ثلاثة أقوال: (821) أحدها: أنه أخَّرهم إِلى ليلة الجمعة، رواه ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال وهب: كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيِّف وعشرين سنة «1» . والثاني: إِلى وقت السّحَر من ليلة الجمعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال طاوس: فوافق ذلك ليلة عاشوراء. والثالث: إِلى وقت السَّحَر، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وابن عمر، وقتادة، والسدي، ومقاتل. قال الزجاج: إِنما أراد الوقت الذي هو أخلق لإِجابة الدعاء، لا أنه ضَنَّ عليهم بالاستغفار، وهذا أشبه بأخلاق الأنبياء عليهم السلام. والقول الثاني: أنه دفعهم عن التعجيل بالوعد. قال عطاء الخراساني: طلبُ الحوائج إِلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ، ألا ترى إِلى قول يوسف: (لا تثريب عليكم اليوم) وإِلى قول يعقوب: (سوف أستغفر لكم ربي) . والثالث: أنه أخَّرهم ليسأل يوسف، فان عفا عنهم، استغفر لهم، قاله الشعبي. وروي عن أنس بن مالك أنهم قالوا: يا أبانا إِنْ عفا الله عنا، وإِلا فلا قُرَّة عين لنا في الدنيا، فدعا يعقوبُ وأمَّن يوسف، فلم يُجب فيهم عشرين سنة، ثم جاء جبريل فقال: إِن الله قد أجاب دعوتك في ولدك، وعفا عما صنعوا به، واعتقد مواثيقهم من بَعْدُ على النبوَّة. قال المفسرون: وكان يوسف قد بعث مع البشير إِلى يعقوب جَهازاً ومائتي راحلة، وسأله أن يأتيه بأهله وولده. فلما ارتحل يعقوب ودنا

_ ضعيف جدا، والأشبه أنه موضوع. أخرجه الطبري 19880 و 19881 من طريقين عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال: حدثنا الوليد، قال: أخبرنا ابن جريج عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قد قال أخي يعقوب سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة» . وهذا إسناد ضعيف جدا، وله علتان: الأولى: ضعف سليمان بن عبد الرحمن، فهو وإن وثقه بعضهم، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق، فقد عقب ذلك أبو حاتم بقوله: إلا أنه من أروى الناس عن الضعفاء والمجهولين، وهو عندي في حدّ لو أن رجلا وضع له حديثا لم يفهم، وكان لا يميّز. راجع «الميزان» 2/ 212- 214. العلة الثانية: عنعنة ابن جريج، وهو مدلس، وهو لم يسمع من عكرمة. قال الإمام أحمد: بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج، لا يبالي من أين يأخذها. راجع «الميزان» 2/ 659. فالحديث ضعيف جدا، والأشبه أنه موضوع. وقال الحافظ ابن كثير 2/ 406: هذا حديث غريب، وفي رفعه نظر، والله أعلم.

[سورة يوسف (12) : آية 99]

من مصر، استأذن يوسف الملِك الذي فوقه في تلقِّي يعقوب، فأذن له، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه، فخرج في أربعة آلاف من الجند، وخرج معهم أهل مصر. وقيل: إِن الملك خرج معهم أيضاً. فلما التقى يعقوب ويوسف، بكيا جميعاً، فقال يوسف: يا أبت بكيتَ عليَّ حتى ذهب بصرك، أما علمتَ أن القيامة تجمعني وإِياك؟ قال: أي بني، خشيت أن تسلب دينك فلا نجتمع. وقيل: إِن يعقوب ابتدأه بالسلام، فقال: السّلام عليك يا مذهب الأحزان. [سورة يوسف (12) : آية 99] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) قوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ يعني: يعقوب وولده. وفي هذا الدخول قولان: أحدهما: أنه دخول أرض مصر، ثم قال لهم: ادْخُلُوا مِصْرَ يعني البلد. والثاني: أنه دخول مصر، ثم قال لهم: «ادخلوا مصر» أي: استوطنوها. وفي قوله تعالى: آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ قولان: أحدهما: أبوه وخالته، لأن أمه كانت قد ماتت، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: أبوه وأمه، قاله الحسن، وابن إسحاق. وفي قوله تعالى: إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أربعة أقوال «1» : أحدها: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، فالمعنى: سوف أستغفر لكم ربي إِن شاء الله، إِنه هو الغفور الرحيم، هذا قول ابن جريج. والثاني: أن الاستثناء يعود إِلى الأمن. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه لم يثق بانصراف الحوادث عنهم. والثاني: أن الناس كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر، فلا يدخلون إِلا بجوارهم. والثالث: أنه يعود إِلى دخول مصر، لأنه قال لهم هذا حين تلقَّاهم قبل دخولهم، على ما سبق بيانه. والرابع: أن «إِن» بمعنى: «إِذ» : كقوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «2» . قال ابن عباس: دخلوا مصر يومئذ وهم نيّف وسبعون بين ذكر وأنثى. وقال ابن مسعود: دخلوا وهم ثلاثة وتسعون، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا «3» . [سورة يوسف (12) : الآيات 100 الى 101] وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) قوله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ في «أبويه» قولان: قد تقدما في الآية التي قبلها. والعرش ها هنا: سرير المملكة، أجلس أبويه عليه وَخَرُّوا لَهُ يعني: أبويه وإِخوته. وفي هاء «له» قولان:

_ (1) قال القرطبي رحمه الله 9/ 224: إنما قال: «إن شاء الله» تبركا وجزما «آمنين» من القحط أو من فرعون، وكانوا لا يدخلونها إلا بجوازه. وقال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 302: والصواب في ذلك عندنا ما قاله السدي، وهو أن يوسف قال ذلك لأبويه ومن معهما من أولادهما وأهاليهم قبل دخولهم مصر حين تلقاهم لأن ذلك في ظاهر التنزيل كذلك، فلا دلالة تدل على صحة ما قاله ابن جريج، ولا وجه لتقديم شيء من كتاب الله عن موضعه أو تأخيره عن مكانه إلا بحجة واضحة. (2) سورة النور: 33. (3) هذه أرقام مصدرها كتب الأقدمين، لا حجة في شيء من ذلك.

أحدهما: أنها ترجع إِلى يوسف، قاله الجمهور. قال أبو صالح عن ابن عباس: كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعل الأعاجم. وقال الحسن: أمرهم الله بالسجود لتأويل الرؤيا. قال ابن الأنباري: سجدوا له على جهة التحية لا على معنى العبادة، وكان أهل ذلك الدهر يحيِّى بعضهم بعضاً بالسجود والانحناء، فحظره رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فروى أنس بن مالك قال: (822) «قال رجل: يا رسول الله! أحدنا يلقى صديقه، أينحني له؟ قال: لا» . والثاني: أنها ترجع إِلى الله، فالمعنى: وخرُّوا لله سجَّداً، رواه عطاء، والضحاك عن ابن عباس، فيكون المعنى: أنهم سجدوا شكراً لله إِذ جمع بينهم وبين يوسف. قوله تعالى: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ أي: تصديق ما رأيت، وكان قد رآهم في المنام يسجدون له، فأراه الله ذلك في اليقظة. واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها على سبعة أقوال: أحدها: أربعون سنة، قاله سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد بن الهاد ومقاتل. والثاني: اثنتان وعشرون سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: ثمانون سنة، قاله الحسن والفضيل بن عياض. والرابع: ست وثلاثون سنة، قاله سعيد بن جبير وعكرمة والسدي. والخامس: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. والسادس: سبعون سنة، قاله عبد الله بن شوذب. والسابع: ثماني عشرة سنة، قاله ابن إِسحاق. قوله تعالى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي أي: إِليّ. والبَدْوُ: البَسْطُ من الأرض. وقال ابن عباس: البدو: البادية، وكانوا أهل عمود وماشية. قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أي: أفسد بيننا. قال أبو عبيدة: يقال: نزغ بينهم يَنْزَغ، أي: أفسد وهيَّج، وبعضهم يكسر زاي ينزِغ. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي: عالم بدقائق الأمور. وقد شرحنا معنى «اللطيف» في سورة (الأنعام) «1» . فان قيل: قد توالت على يوسف نعم جمّة، فما السّرّ في اقتصاره على ذكر السّجن، وهلّا ذكر الجبّ، وهو أصعب؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه ترك ذِكر الجُبِّ تكرماً، لئلا يذكِّر إِخوته صنيعهم، وقد قال (لا تثريب عليكم اليوم) . والثاني: أنه خرج من الجُبِّ إِلى الرق، ومن السجن إِلى الملك، فكانت هذه النعمة أوفى. والثالث: أن طول لبثه في السجن كان عقوبة له، بخلاف الجُبِّ، فشكر الله على عفوه.

_ أخرجه الترمذي 2728، وابن ماجة 3702، وأبو يعلى 4289، والطحاوي في «المعاني» 1/ 281 والبيهقي في «السنن» 7/ 100 من طريق حنظلة بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم» . وإسناده ضعيف لضعف حنظلة، قال الذهبي في «الميزان» 1/ 621: قال يحيى القطان: تركته عمدا، كان قد اختلط، وضعفه أحمد، وقال: منكر الحديث، يحدث بأعاجيب، وقال ابن معين: ليس بشيء. وضعف هذا الحديث البيهقي عقب روايته، وكذا ضعفه أحمد كما في «تخريج الإحياء» 2/ 204. وهو ضعيف بهذا اللفظ، وبهذا الإسناد، فقد وردت أحاديث مرفوعة وموقوفة في جواز المعانقة والالتزام. وأما سياق المصنف ابن الجوزي: فله طرق وشواهد تقويه.

[سورة يوسف (12) : آية 102]

قال العلماء بالسِّيَر: أقام يعقوب بعد قدومه مصر أربعاً وعشرين سنة. وقال بعضهم: سبع عشرة سنة في أهنأ عيش، فلما حضرته الوفاة أوصى إِلى يوسف أن يُحمَل إِلى الشام حتى يدفنه عند أبيه إِسحاق، ففعل به ذلك، وكان عمره مائة وسبعاً وأربعين سنة، ثم إِن يوسف تاق إِلى الجنة، وعلم أن الدنيا لا تدوم فتمنَّى الموت، قال ابن عباس، وقتادة: ولم يتمنَّ الموتَ نبيّ قبله، فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ يعني: ملك مصر وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وقد سبق تفسيرها، وفي «مِنْ» قولان: أحدهما: أنها صلة، قاله مقاتل. والثاني: أنها للتبعيض، لأنه لم يؤتَ كلَّ الملك، ولا كلَّ تأويل الأحاديث. قوله تعالى: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قد شرحناه في (الأنعام) «1» . أَنْتَ وَلِيِّي أي: الذي تلي أمري. تَوَفَّنِي مُسْلِماً قال ابن عباس: يريد: لا تسلبني الإِسلام حتى تتوفاني عليه. وكان ابن عقيل يقول: لم يتمنَّ يوسف الموت، وإِنما سأل أن يموت على صفة، والمعنى: توفني إِذا توفيتني مسلماً، وهذا الصحيح «2» . قوله تعالى: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ والمعنى: ألحقني بدرجاتهم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الجنة، قاله عكرمة. والثاني: آباؤه إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب، قاله الضحاك، قالوا: فلما احتُضر يوسف، أوصى إِلى يهوذا، ومات، فتشاحَّ الناس في دفنه، كل يُحبُّ أن يُدفن في محلَّته رجاءَ البركة، فاجتمعوا على دفنه في النيل ليمر الماء عليه ويصل إِلى الجميع، فدفنوه في صندوق من رخام، فكان هنالك إِلى أن حمله موسى حين خرج من مصر ودفنه بأرض كنعان. قال الحسن: مات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة. وذكر مقاتل أنه مات بعد يعقوب بسنتين. [سورة يوسف (12) : آية 102] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر يوسف وإِخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنك، فأنزلته عليك دليلاً على نبوَّتك. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي: عند إِخوة يوسف إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أي: عزموا على إِلقائه في الجب وَهُمْ يَمْكُرُونَ بيوسف. وفي هذا احتجاج على صحة نبوّة نبيّنا عليه السّلام، لأنه لم يشاهد تلك القصة، ولا كان يقرأ الكتاب، وقد أخبر عنها بهذا الكلام المعجز، فدلّ على أنه أخبر بوحي. [سورة يوسف (12) : الآيات 103 الى 104] وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) قوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ قال ابن الأنباري: إِن قريشاً واليهود سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وإِخوته، فشرحها شرحاً شافياً، وهو يؤمّل أن يكون ذلك سببا

_ (1) سورة الأنعام: 14. (2) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 606: وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام كما أن نوحا أول من قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً.

[سورة يوسف (12) : آية 105]

لإسلامهم، فخالفوا ظنّه، فحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعزَّاه الله تعالى بهذه الآية «1» . قال الزجاج: ومعناها: وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي: على القرآن وتلاوته وهدايتك إِياهم مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ أي: ما هو إِلا تذكرة لهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم. [سورة يوسف (12) : آية 105] وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ أي: وكم مِنْ آيَةٍ أي: علامة ودلالة تدلهم على توحيد الله، من أمر السّماوات والأرض، يَمُرُّونَ عَلَيْها أي: يتجاوزونها غير مفكّرين ولا معتبرين. [سورة يوسف (12) : آية 106] وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المشركون، ثم في معناها المتعلق بهم قولان: أحدهما: أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والشعبي، وقتادة. والثاني: أنها نزلت في تلبية مشركي العرب، كانوا يقولون: لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لكْ، تملكه وما ملك، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنهم النصارى، يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم، ومع ذلك يشركون به، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنهم المنافقون، يؤمنون في الظاهر رئاء للناس، وهم في الباطن مشركون، قاله الحسن. فان قيل: كيف وصف المشرك بالإِيمان؟ فالجواب: أنه ليس المراد به حقيقة الإِيمان، وإِنما المعنى: أن أكثرهم، مع إِظهارهم الإيمان بألسنتهم، مشركون. [سورة يوسف (12) : آية 107] أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ قال ابن قتيبة: الغاشية: المجلِّلة تغشاهم. وقال الزجاج: المعنى: يأتيهم ما يغمرهم من العذاب. والبغتة: الفجأة من حيث لم تتوقّع. [سورة يوسف (12) : آية 108] قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) قوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي المعنى: قل يا محمد للمشركين: هذه الدعوة التي أدعو إِليها، والطريقة التي أنا عليها، سبيلي، أي: سُنَّتي ومنهاجي. والسبيل تذكَّر وتؤنَّث، وقد ذكرنا ذلك في (آل عمران) «2» . أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أي: على يقين. قال ابن الأنباري: وكل مسلم لا يخلو من الدعاء إلى الله عزّ وجلّ، لأنه إِذا تلا القرآن، فقد دعا إِلى الله بما فيه. ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: إِلَى اللَّهِ ثم ابتدأ فقال: عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي «3» .

_ (1) مساءلة اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام عن قصة يوسف هو خبر موضوع. انظر «تفسير الشوكاني» 3/ 5. (2) في آل عمران: 195. (3) قال الشوكاني 3/ 71: وفي هذا دليل على أن كل متّبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقّ عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الله، أي الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده والعمل بما شرعه لعباده. وكذلك قال ابن كثير 2/ 610.

[سورة يوسف (12) : آية 109]

قوله تعالى: وَسُبْحانَ اللَّهِ المعنى: وقل: سبحان الله تنزيها له عمّا أشركوا. [سورة يوسف (12) : آية 109] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا هذا نزل من أجل قولهم: هلاّ بعث الله ملكاً، فالمعنى: كيف تعجَّبوا من إِرسالنا إِياك، وسائر الرسل كانوا على مثل حالك «يوحى إِليهم» ، وقرأ حفص عن عاصم: «نوحي» بالنون. والمراد بالقرى: المدائن. وقال الحسن: لم يبعث الله نبيّاً من أهل البادية، ولا من الجن، ولا من النساء، قال قتادة: لأن أهل القرى أعلم وأحلم من اهل العَمود. قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني: المشركين المنكرين نبوَّتك فَيَنْظُرُوا إِلى مصارع الأمم المكذِّبة فيعتبروا بذلك. وَلَدارُ الْآخِرَةِ يعني: الجنة خَيْرٌ من الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك. قال الفراء: أضيفت الدار إِلى الآخرة، وهي الآخرة، لأن العرب قد تضيف الشيء إِلى نفسه إِذا اختلف لفظه، كقوله: لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «1» والحق: هو اليقين، وقولهم: أتيتك عام الأول، ويوم الخميس. قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وحفص، والمفضَّل، ويعقوب: تَعْقِلُونَ بالتاء، وقرأ الآخرون بالياء، والمعنى: أفلا يعقلون هذا فيؤمنوا. [سورة يوسف (12) : آية 110] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ المعنى متعلق بالآية الأولى، فتقديره: وما أرسلنا من قبلك إِلا رجالاً، فدعَوا قومهم، فكذَّبوهم، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم، حتى إِذا استيأس الرسل، وفيه قولان: أحدهما: استيأسوا من تصديق قومهم، قاله ابن عباس. والثاني: من أن نعذِّب قومهم، قاله مجاهد. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «كُذِّبوا» مشددة الذال مضمومة الكاف «2» ، والمعنى: وتيقَّن الرسل أن قومهم قد كذَّبوهم، فيكون الظّنّ ها هنا بمعنى اليقين، هذا قول الحسن، وعطاء، وقتادة. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ: «كذبوا» خفيفة،

_ (1) سورة الواقعة: 96. [.....] (2) قال الطبري رحمه الله 7/ 322- 323: وبهذه القراءة كانت تقرأ عامة قراء المدينة والبصرة والشام أعني بتشديد الذال من «كذّبوا» وضم كافها. وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك، خلاف لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة، لأنه لم يوجه «الظن» في هذا الموضع منهم أحد إلى معنى العلم واليقين، مع أن «الظن» استعمله العرب في موضع العلم فيما أدرك من جهة الخبر أو من غير وجه المشاهدة والمعاينة. وأما رواية مجاهد المخالفة بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال «كذبوا» فهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، لإجماع الحجة من قراء الأمصار على خلافها، وقال الحافظ ابن كثير 2/ 613: قد أنكرت عائشة رضي الله عنها على من قرأ «كذبوا» بالتخفيف. وانتصر لها ابن جرير، ووجّه المشهور عن الجمهور، وزيّف القول الآخر بالكلية وردّه وأباه، ولم يقبله ولا ارتضاه والله أعلم.

[سورة يوسف (12) : آية 111]

والمعنى: ظن قومهم أن الرسل قد كُذِبوا فيما وُعدوا به من النصر، لأن الرسل لا يظنون ذلك. وقرأ أبو رزين، ومجاهد، والضحاك: «كَذَبوا» بفتح الكاف والذال خفيفة، والمعنى: ظن قومهم أيضاً أنهم قد كَذَبوا، قاله الزجاج. قوله تعالى: جاءَهُمْ نَصْرُنا يعني: الرسل فَنُجِّيَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «فننجي» بنونين «1» ، الأولى مضمومة والثانية ساكنة والياء ساكنة. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر، وحفص، جميعاً عن عاصم، ويعقوب: «فَنُجِّيَ» مشدده الجيم مفتوحة الياء بنون واحدة، يعني: المؤمنين، نجوا عند نزول العذاب. [سورة يوسف (12) : آية 111] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) قوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي: في خبر يوسف وإِخوته. وروى عبد الوارث كسر القاف، وهي قراءة قتادة، وأبي الجوزاء. عِبْرَةٌ أي: عظة لِأُولِي الْأَلْبابِ أي: لذوي العقول السليمة، وذلك من وجهين: أحدهما: ما جرى ليوسف من إِعزازه وتمليكه بعد استعباده، فإنَّ من فَعَلَ ذلك به قادر على إعزاز محمّد صلّى الله عليه وسلم وتعلية كلمته. والثاني: أن من تفكَّر، علم أنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلم مع كونه أمَّياً، لم يأت بهذه القصة على موافقة ما في التوراة مِنْ قِبَل نفسه، فاستدل بذلك على صحة نبوَّته. قوله تعالى: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله قتادة. والثاني: ما تقدم من القصص، قاله ابن إِسحاق. فعلى القول الأول، يكون معنى قوله: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: ولكن كان تصديقا لما بين يديه من الكتاب وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يُحتاج إِليه من أمور الدين وَهُدىً بياناً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي: يصدّقون بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلم. وعلى القول الثاني: وتفصيل كل شيء من نبأ يوسف وإخوته.

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 324: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأ «ننجي» بنونين، لأن ذلك هو القراءة التي عليها القراء في الأمصار، وما خالفه ممن قرأ ذلك ببعض الوجوه فمنفرد بقراءته عما عليه الحجة مجمعة من القراء. وغير جائز خلاف ما كان مستفيضا بالقراءة في قراء الأمصار.

سورة الرعد

سورة الرّعد (فصل في نزولها:) اختلفوا في نزولها على قولين: أحدهما: أنها مكّيّة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكّيّة، إلّا آيتين منها، قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ «1» إلى آخر الآية، وقوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا «2» . والثاني: أنها مدنيّة، رواه عطاء الخراسانيّ عن ابن عباس، وبه قال جابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنها مدنيّة، إلّا آيتين نزلتا بمكّة، وهما قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ «3» إلى آخرها. وقال بعضهم: المدنيّ منها قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ إلى قوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ «4» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) قوله تعالى: المر قد ذكرنا في سورة (البقرة) جملةً من الكلام في معاني هذه الحروف. وقد روي عن ابن عباس في تفسير هذه الكلمة ثلاثة أقوال «5» : أحدها: أن معناها: أنا الله أعلم وأرى، رواه

_ (1) سورة الرعد: 31. (2) سورة الرعد: 43. (3) سورة الرعد: 31. (4) سورة الرعد: 14. (5) قال الإمام الطبري 7/ 326: ما جاء في هذه السورة عن ابن عباس من نقل أبي الضحى مسلم بن صبيح وسعيد بن جبير عنه، التفريق بين معنى ما ابتدئ به أولها ومع زيادة الميم التي فيها على سائر السور ذوات «الر» ، ومعنى ما ابتدئ به أخواتها، مع نقصان ذلك منها عنها فعن ابن عباس: «المر» ، قال: أنا الله أرى. وعن مجاهد: «المر» فواتح يفتتح بها كلامه. وقال ابن كثير 2/ 614: إن كل سورة تبتدأ بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب، ولهذا قال: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ. - قلت: الصواب في ذلك أن يقال في الكلام على هذه الأحرف في أوائل بعض السور: الله أعلم بمراده.

[سورة الرعد (13) : آية 3]

أبو الضحى عنه. والثاني: أنا الله أرى، رواه سعيد بن جبير عنه. والثالث: أنا الله الملِك الرحمن، رواه عطاء عنه. قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ في «تلك» قولان، وفي «الكتاب» قولان قد تقدمت في أول «يونس» «1» . قوله تعالى: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ يعني: القرآن وغيره من الوحي وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس: يعني: أهل مكة. قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون، عرَّف الدليل الذي يوجب التّصديق بالخالق فقال عزّ وجلّ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ قال أبو عبيدة: العَمَد: متحرك الحروف بالفتحة وبعضهم يحركها بالضمة، لأنها جمع عمود، وهو القياس، لأن كل كلمة هجاؤها أربعة أحرف الثالث منها ألِف أو ياء أو واو، فجميعه مضموم الحروف، نحو رسول، والجمع: رسل، وحمار، والجمع: حُمُر، غير أنه قد جاءت أسامي استعملوا جميعها بالحركة والفتحة، نحو عمود، وأديم، وإِهاب، قالوا: أَدَم، وأَهَب. ومعنى «عمدٍ» : سَوارٍ، ودعائم، وما يَعْمِد البناء. وقرأ أبو حياة: «بغير عُمُد» بضم العين والميم. وفي قوله تعالى: تَرَوْنَها قولان: أحدهما: أن هاء الكناية ترجع إلى السّماوات، فالمعنى: ترونها بغير عَمَد، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، والجمهور. وقال ابن الأنباري: «ترونها» خبر مستأنف، والمعنى: رفع السّماوات بلا دعامة تمسكها، ثم قال: «ترونها» أي: ما تشاهدون من هذا الأمر العظيم، يغنيكم عن إِقامة الدلائل عليه. والثاني: أنها ترجع إِلى العَمَد، فالمعنى: إِنها بعمد لا ترونها، رواه عطاء والضحاك عن ابن عباس، وقال: لها عَمَد على قاف، ولكنكم لا ترون العَمَد، وإِلى هذا القول ذهب مجاهد، وعكرمة، والأول أصح «2» . قوله تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ اي: ذلَّلهما لما يُراد منهما كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي: إِلى وقت معلوم، وهو فناء الدنيا. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: يصرِّفه بحكمته. يُفَصِّلُ الْآياتِ أي: يبيِّن الآيات التي تدل أنه قادر على البعث لكي توقنوا بذلك. وقرأ أبو رزين، وقتادة، والنخعي: «ندبِّر الأمر نفصِّل الآيات» بالنون فيهما. [سورة الرعد (13) : آية 3] وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)

_ (1) قال الطبري رحمه الله 7/ 326- 327: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ: تلك التي قصصت عليك خبرها، آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك إلى من أنزلته إليه من رسلي قبلك. وقيل: عني بذلك التوراة والإنجيل. وقال ابن كثير رحمه الله 2/ 614: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ أي: هذه آيات الكتاب وهو القرآن، وقيل التوراة والإنجيل.. وفيه نظر، بل هو بعيد. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 329: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها فهي مرفوعة بغير عمد نراها، كما قال ربنا جل ثناؤه، ولا خبر بغير ذلك ولا حجة يجب التسليم بها بقول سواه. وقال الحافظ ابن كثير 2/ 615: ناقلا قول إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد وكذا روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق، والظاهر من قوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فعلى هذا يكون قوله تَرَوْنَها تأكيدا لنفي ذلك، أي هي مرفوعة بغير عمد ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة.

[سورة الرعد (13) : آية 4]

قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ قال ابن عباس: بسطها على الماء. وقوله تعالى: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ قال الزجاج: أي جبالا ثوابت، يقال: رسا الشيء يرسو رسوّا، فهو راس: إذا ثبت. جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي: نوعين: والزوج: الواحد الذي له قرين من جنسه. قال المفسرون: ويعني بالزوجين: الحلو والحامض، والعذب والملح، والأبيض والأسود. قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ قد شرحناه في سورة الأعراف «1» . [سورة الرعد (13) : آية 4] وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ فيها قولان: أحدهما: أنها الأرض السَّبِخة، والأرض العذبة، تنبت هذه، وهذه إِلى جنبها لا تنبت، هذا قول ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، والضحاك. والثاني: أنها القرى المتجاورات، قاله قتادة، وابن قتيبة، وهو يرجع إِلى معنى الأول «2» . قوله تعالى: وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ رفعاً في الكُلِّ. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان» خفضاً في الكُلِّ. قال أبو علي: من رفع، فالمعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وجنَّات، وفي الأرض زرع، ومن خفض حمله على الأعناب، فالمعنى: جنَّاتٌ من أعناب، ومن زرع، ومن نخيل «3» . قوله تعالى: صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ هذا من صفة النخيل. قال الزجاج: الصنوان: جمع صِنْوٍ وصُنْوٍ، ومعناه: أن يكون الأصل واحداً وفيه النخلتان والثلاثُ والأربع. وكذلك قال المفسرون: الصنوان: النخل المجتمع وأصله واحد، وغير صنوان: المتفرِّق. وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، وابن جبير، وقتادة: «صُنوانٌ» بضم الصاد. قال الفراء: لغة أهل الحجاز «صِنوانٍ» بكسر الصاد، وتميم وقيس يضمون الصاد. قوله تعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، «تسقى» بالتاء، «ونفضّل»

_ (1) في سورة الأعراف: 54. (2) قال الطبري رحمه الله 7/ 331: في الأرض قطع منها متقاربات متدانيات، يقرب بعضها من بعض بالجوار وتختلف بالتفاضل مع تجاورها، فمنها قطعة سبخة لا تنبت شيئا، في جوار قطعة طيبة تنبت وتنفع. وقال ابن كثير رحمه الله 2/ 616: كذلك، أي: أراض يجاور بعضها بعضا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئا. وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء وهذه محجرة وهذه سهلة. (3) قال الإمام الطبري 7/ 333: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وقرأ بكل واحدة منهما قراء مشهورون، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن «الزرع والنخيل» إذا كانا في البساتين فهما في الأرض، وإذا كانا في الأرض فالأرض التي هما فيها جنة فسواء وصفا بأنهما في بستان أو في أرض.

[سورة الرعد (13) : آية 5]

بالنون. وقرأ حمزة، والكسائي «تسقى» بالتاء أيضاً، لكنهما أمالا القاف. وقرأ الحسن «ويفضِّل» بالياء. وقرأ عاصم، وابن عامر «يُسقى» بالياء، «ونفضِّل» بالنون، وكلُّهم كسر الضاد. وروى الحلبي عن عبد الوارث ضمَّ الياء من «يُفضَّل» وفتح الضاد، «بعضُها» برفع الضاد. وقال الفراء: من قرأ «تُسقى» بالتاء ذهب إِلى تأنيث الزرع، والجنَّات، والنخيل «1» ، ومن كسر ذهب إِلى النبت، وذلك كلُّه يُسقى بماءٍ واحد، وأُكْلُه مختلف حامِض وحُلو، ففي هذا آية. قال المفسرون: الماء الواحد: ماء المطر، والأُكُل: الثمر، بعضه أكبر من بعض، وبعضه أفضل من بعض، وبعضه حامض وبعضه حلو، إِلى غير ذلك، وفي هذا دليل على بطلان قول الطبائعيين، لأنه لو كان حدوث الثّمر من طبع الأرض، والهواء، والماء، وجب أن يتفق ما يحدث لاتفاق ما أوجب الحدوث، فلما وقع الاختلاف، دلَّ على مدبِّرٍ قادر، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أنه لا تجوز العبادة إِلا لمن يقدر على هذا. [سورة الرعد (13) : آية 5] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) قوله تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ أي: من تكذيبهم وعبادتهم ما لا ينفع ولا يضرّ بعد ما رأوا من تأثير قدرة الله عزّ وجلّ في خلق الأشياء، فإنكارهم البعث موضعُ عجب. وقيل: المعنى: وإِن تعجب بما وقفت عليه من القِطَع المتجاورات وقدرةِ ربك في ذلك، فعجب جحدهم البعث، لأنه قد بان لهم من خلق السّماوات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة. قوله تعالى: أَإِذا كُنَّا تُراباً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، «آيذا كنا تراباً آينَّا» جميعاً بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمدُّ الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدٍّ. وقرأ نافع «آيذا» مثل أبي عمرو، واختُلف عنه في المَدِّ، وقرأ «إِنا لفي خلق» مكسورة على الخبر. وقرأ عاصم، وحمزة «أإذا كُنَّا» «أإِنا» بهمزتين فيهما. وقرأ ابن عامر «إِذا كُنَّا تراباً» مكسورة الألِف من غير استفهام، «ءاإنا» يهمز ثم يَمُدُّ ثم يهمز على وزن: فاعنّا. وروي عن ابن عامر أيضاً «أإِذا» بهمزتين لا ألِف بينهما. والأغلال جمع غُلٍّ، وفيها قولان: أحدهما: أنها أغلال يوم القيامة، قاله الأكثرون. والثاني: أنها الأعمال التي هي أغلال، قاله الزّجّاج.

_ (1) قال الإمام الطبري 7/ 337: وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها، قراءة من قرأ بالتاء على أن معناه: تسقى الجنات والنخل والزرع بماء واحد، لمجيء «تسقى» بعد ما قد جرى ذكرها، وهي جماع من غير بني آدم، وليس الوجه الآخر بممتنع على معنى: يسقى ذلك بماء واحد. وفي قراءة «نفضل» : هما قراءتان مستفيضتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن الياء أعجبهما إليّ في القراءة، لأنه في سياق الكلام ابتداؤه: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ فقراءته بالياء، إذ كان كذلك أولى.

[سورة الرعد (13) : الآيات 6 إلى 9]

[سورة الرعد (13) : الآيات 6 الى 9] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) قوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في كفار مكة، سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب، استهزاءً منهم بذلك، قاله ابن عباس «1» . والثاني: في مشركي العرب، قاله قتادة. والثالث: في النضر بن الحارث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحقَ من عندك، قاله مقاتل. وفي السيئة والحسنة قولان: أحدهما: بالعذاب قبل العافية، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: بالشرِّ قبل الخير، قاله قتادة. فأما الْمَثُلاتُ فقرأ الجمهور بفتح الميم. وقرأ عثمان، وأبو رزين، وأبو مجلز، وسعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، وابن أبي عبلة برفع الميم. ثم في معناها قولان: أحدهما: أنها العقوبات، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: المعنى: قد تقدَّم من العذاب ما هو مثله وما فيه نكال، لو أنهم اتعظوا. وقال ابن الأنباري: المُثْلَةُ: العقوبة التي تُبقي في المعاقَب شَيْناً بتغيير بعض خَلْقِه، من قولهم: مثّل فلان بفلان، إذا شأن خلقه بقَطْعِ أنفه أو أُذُنِهِ، أو سملِ عينيه ونحو ذلك. والثاني: أن المثلاتِ: الأمثالُ التي ضربها الله تعالى لهم، قاله مجاهد، وأبو عبيدة. قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قال ابن عباس: لذو تجاوزٍ عن المشركين إِذا آمنوا، وإِنه لشديد العقاب للمصرِّين على الشرك. وقال مقاتل: لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب، وإِنه لشديد العقاب إذا عذَّب. (فصل:) وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «2» ، والمحققون على أنها محكَمة. قوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «لولا» بمعنى هلاَّ، والآية التي طلبوها، مثلُ عصا موسى وناقة صالح. ولم يقنعوا بما رأوا، فقال الله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي: مخوِّفٌ عذاب الله، وليس لك من الآيات شيء. وفي قوله تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ستة أقوال «3» : أحدها: أن المراد بالهادي: الله عزّ وجلّ،

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 617: كانوا يطلبون من الرسول أن يأتيهم بعذاب الله، وذلك من شدة تكذيبهم وكفرهم وعنادهم. وقال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 341 كذلك. وقال الشوكاني في «فتح القدير» 3/ 81: وهذا الاستعجال من هؤلاء هو على طريقة الاستهزاء، كقولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ. [.....] (2) سورة النساء: 48. (3) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 228: وقد بينت معنى «الهداية» ، وأنه الإمام المتبع الذي يقدم القوم، فإذا كان كذلك، فجائز أن يكون ذلك هو الله يهدي خلقه، ويتبع خلقه هداه، ويأتمون بأمره ونهيه. وجائز أن يكون نبي الله الذي تأتم به أمته، وجائز أن يكون إماما من الأئمة يؤتمّ به، ويتبع منهاجه وطريقته أصحابه، وجائز أن يكون داعيا من الدعاة إلى خير أو شر، وإن كان ذلك كذلك، فلا قول أولى في ذلك بالصواب من أن يقال كما قال جل ثناؤه: إن محمدا هو المنذر لمن أرسل إليه بالإنذار، وأن لكل قوم هاديا يهديهم فيتبعونه ويأتمون به.

رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، والنخعي. فيكون المعنى: إِنما إِليك الإِنذار، والله الهادي. والثاني: أن الهادي: الداعي، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أن الهادي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قاله الحسن، وعطاء، وقتادة، وابن زيد، فالمعنى: ولكل قوم نبيٌّ ينذرهم. والرابع: أن الهادي: رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيضاً، قاله عكرمة، وأبو الضحى، والمعنى: أنت منذرٌ، وأنت هادٍ. والخامس: أن الهادي: العملُ، قاله أبو العالية. والسادس: أن الهاديَ: القائدُ إِلى الخير أو إِلى الشر، قاله أبو صالح عن ابن عباس. (823) وقد روى المفسرون من طرق ليس فيها ما يثبت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية، وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده على صدره، فقال: «أنا المنذِر» ، وأومأ بيده إِلى منكب عليٍّ، فقال: «أنت الهادي يا عليُّ، بك يُهتدى من بعدي» . قال المصنف: وهذا من موضوعات الرافضة. ثم إِن الله تعالى أخبرهم عن قدرته، رداً على منكري البعث، فقال: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي: من علقة أو مُضغة، أو زائد أو ناقص، أو ذكَرٍ أو أنثى، أو واحد أو اثنين أو أكثر، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ أي: ما تنقص، وَما تَزْدادُ وفيه أربعة أقوال: أحدها: ما تغيض: بالوَضع لأقل من تسعة أشهر، وما تزداد: بالوضع لأكثر من تسعة أشهر، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: وما تغيض: بالسِّقْطِ الناقص، وما تزداد: بالولد التامِّ، رواه العوفي عن ابن عباس، وعن الحسن كالقولين. والثالث: وما تغيض: بإراقة الدم في الحَمْل حتى يتضاءل الولد، وما تزداد: إِذا أمسكَتِ الدمَ فيعظم الولد، قاله مجاهد. والرابع: «ما تغيض الأرحام» مَنْ ولدته من قبل، «وما تزداد» مَنْ تلده من بعد، روي عن قتادة، والسُّدِّي. قوله تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي: بقدر. قال أبو عبيدة: هو مِفعالٌ من القَدَرِ. قال ابن عباس: عَلِمَ كُلِّ شيء فقدَّره تقديرا.

_ باطل لا أصل له، أخرجه الطبري 20161 من حديث ابن عباس، وفيه عطاء بن السائب صدوق اختلط بأخرة، وعنه معاذ بن مسلم ذكره الذهبي في «الميزان» وقال: مجهول، وله عن عطاء بن السائب خبر باطل. وعنه الحسن بن حسين الكوفي، قال ابن عدي: لا يشبه حديثه حديث الثقات. وقال ابن حبان: يأتي عن الثقات بالملزقات اه. وقد حكم ابن الجوزي بوضعه كما ترى. وقال ابن كثير: هذا الحديث فيه نكارة شديدة. انظر «تفسير ابن كثير» 2/ 618. وورد من حديث علي، أخرجه عبد الله بن أحمد 1044، والطبراني في «الأوسط» 1383 و «الصغير» 739 عن علي به. وقال الهيثمي في «المجمع» 11090: رجال المسند ثقات اه. وفيما قاله نظر، فإن في الإسناد المطلب بن زياد الثقفي، وهو وإن كان وثقه أحمد ويحيى وابن حبان، فقد قال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به. وضعفه عيسى بن شاذان، وقال ابن سعد: كان ضعيفا جدا. وشيخه السدي أيضا ضعفه غير واحد. وورد عن علي موقوفا أخرجه الحاكم 3/ 129 وصححه. ورده الذهبي بقوله: بل كذب، قبح الله واضعه. اه. وهو كما قال الذهبي: موضوع، لا يصح بوجه من الوجوه. وهو من بدع التأويل، ولو صح مثل هذا لكان مقام عليّ أعلى من مقام رسول الله عليه الصلاة والسلام. وهذا لا يقوله مسلم، بل الصواب أن المنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله هو الهادي لمن أراد والله تعالى أعلم. انظر «تفسير الشوكاني» 1286- 1287 بتخريجنا.

[سورة الرعد (13) : آية 10]

قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ قد شرحنا ذلك في (الأنعام) «1» . والْكَبِيرُ بمعنى: العظيم. ومعناه: يعود إِلى كبر قدره واستحقاقه صفات العلوِّ، فهو أكبر من كُلِّ كبير، لأن كل كبير يصغر بالإِضافة إِلى عظمته. ويقال: «الكبير» الذي كَبُر عن مشابهة المخلوقين. فأمّا الْمُتَعالِ فقرأ ابن كثير «المتعالي» بياء في الوصل والوقف، وكذلك روى عبد الوارث عن أبي عمرو، وأثبتها في الوقف دون الوصل ابنُ شَنْبُوذَ عن قُنْبُل، والباقون بغير ياء في الحالين. والمتعالي هو المتنزِّه عن صفات المخلوقين، قال الخطّابي: وقد يكون بمعنى العالي فوق خَلْقه، وروي عن الحسن أنه قال: المتعالي عمّا يقول المشركون. [سورة الرعد (13) : آية 10] سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) قوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ قال ابن الأنباري: ناب «سواءٌ» عن مُستوٍ، والمعنى: مستوٍ منكم مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ أي أخفاه وكتمه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أعلنه وأظهره، والمعنى: أن السِرَّ والجهر سواء عنده. قوله تعالى: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ فيه قولان: أحدهما: أن المستخفي: هو المستتر المتواري في ظلمة الليل، والسارب بالنهار: الظاهر المتصرِّف في حوائجه. يقال: سرَبتِ الإِبل تَسرِب: إِذا مضت في الأرض ظاهرةً، وأنشدوا: أرى كُلَّ قَوْمٍ قارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِم ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فَهْو سَارِبُ أي: ذاهب. ومعنى الكلام: أن الظاهر والخفيِّ عنده سواء، هذا قول الأكثرين. وروى العوفي عن ابن عباس: «ومَنْ هو مستخف» قال: صاحب رِيبة بالليل، فإذا خرج بالنهار أرى الناسَ أنه بريء من الإِثم. والثاني: أن المستخفيَ بالليل: الظاهر، والساربَ بالنهار: المستتر، يقال: انسرب الوحش: إِذا دخل في كِناسِهِ، وهذا قول الأخفش، وذكره قطرب أيضاً واحتج له ابن جرير بقولهم: خَفَيْتُ الشيء: إِذا أظهرتَه، ومنه (أكاد أخفيها) «2» بفتح الألف، أي: أُظهرها، قال: وإِنما قيل للمتواري: ساربٌ، لأنه صار في السرَبِ مستخفياً. [سورة الرعد (13) : آية 11] لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ في هاء «له» أربعة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني: إِلى الملك من ملوك الدنيا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: إِلى الإِنسان، قاله الزجاج. والرابع: إِلى الله تعالى، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي. وفي المعقِّبات قولان: أحدهما: أنها الملائكة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والحسن، وقتادة في آخرين. قال الزجاج: والمعنى: للإنسان ملائكة يعتقبون، يأتي بعضهم بِعَقِب بعض. وقال أكثر المفسرين: هم الحَفَظَة، اثنان بالنهار واثنان بالليل، إِذا مضى فريق، خلف بعده فريق، ويجتمعون عند صلاة المغرب والفجر. وقال قوم، منهم ابن زيد: هذه الآية خاصة في

_ (1) عند الآية: 6. (2) سورة طه: 15.

[سورة الرعد (13) : آية 12]

رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عزم عامر بن الطُّفَيْل وأربد بن قيس على قتله، فمنعه الله منهما، وأنزل هذه الآية «1» . والقول الثاني: أن المعقِّبات حُرَّاس الملوك الذين يتعاقبون الحَرْس، وهذا مروي عن ابن عباس وعكرمة. وقال الضحّاك: هم السلاطين المشركون المحترسون من الله تعالى. وفي قوله تعالى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ سبعة أقوال: أحدها: يحرسونه من أمر الله ولا يقدرون، هذا على قول من قال: هي في المشركين المحترسين من أمر الله. والثاني: أن المعنى: حِفْظُهم له من أمر الله، قاله ابن عباس، وابن جُبير، فيكون تقدير الكلام: هذا الحفظ ممّا أمرهم الله به. والثالث: يحفظونه بأمر الله، قاله الحسن، ومجاهد، وعكرمة. قال اللغويون: والباء تقوم مقام «مِنْ» ، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. والرابع: يحفظونه من الجن، قاله مجاهد، والنخعي. وقال كعب: لولا أن الله تعالى وكَّل بكم ملائكة يَذُبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم، إذن لتخطَّفَتْكم الجن. وقال مجاهد: ما من عَبْدٍ إِلا ومَلَكٌ موكّل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإِنس والهوامِّ، فإذا أراده شيء، قال: وراءك وراءك، إِلا شيء قد قضي له أن يصيبه. وقال أبو مجلز: جاء رجل من مُراد إِلى عليّ عليه السلام، فقال: احترس، فإن ناساً من مُراد يريدون قتلك، فقال: إِن مع كل رجل ملَكين يحفظانه مما لم يقدَّر، فاذا جاء القدر خلَّيا بينه وبينه، وإِن الأجل جُنَّة حصينة. والخامس: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: له معقِّبات من أمر الله يحفظونه، قاله أبو صالح، والفراء. والسادس: يحفظونه لأمر الله فيه حتى يُسْلِموه إِلى ما قدِّر له، ذكره أبو سليمان الدمشقي، واستدل بما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: يحفظونه من أمر الله، حتى إِذا جاء القَدَر خلّوا عنه. وقال عكرمة: يحفظونه لأمر الله. والسابع: يحفظون عليه الحسنات والسيئات، قاله ابن جُريج. قال الأخفش: وإِنما أنَّث المعقّبات لكثرة ذلك منها، نحو النسَّابة، والعلاَّمة ثم ذكَّر في قوله: «يحفظونه» لأن المعنى مذكَّر. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ أي: لا يسلبهم نِعَمَهُ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ فيعملوا بمعاصيه. قال مقاتل: ويعني بذلك كفار مكة. قوله تعالى: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فيه قولان: أحدهما: أنه العذاب. والثاني: البلاء. قوله تعالى: فَلا مَرَدَّ لَهُ أي: لا يردُّه شيء ولا تنفعه المعقِّبات. وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ يعني: من دون الله مِنْ والٍ أي: من وليّ يدفع عنهم العذاب والبلاء. [سورة الرعد (13) : آية 12] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً فيه أربعة أقوال: أحدها: خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال قتادة: فالمسافر خاف أذاه ومشقَّته والمقيم يرجو منفعته. والثاني: خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثالث: خوفاً للبلد الذي يخاف ضرر المطر وطمعاً لمن يرجو الانتفاع به، ذكره الزجاج. والرابع: خوفاً من العقاب وطمعاً في الثواب، ذكره الماوردي. وكان ابن الزبير إِذا سمع صوت الرعد يقول: إن هذا وعيد شديد لأهل الأرض.

_ (1) يأتي عند الآية (13) .

[سورة الرعد (13) : آية 13]

قوله تعالى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ أي: ويخلق السحاب الثقال بالماء. قال الفراء: السحاب، وإِن كان لفظه واحداً، فانه جمع واحدته سحابة، جُعل نعته على الجمع، كما قال مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ «1» ولم يقل: أخضر، ولا حسن. [سورة الرعد (13) : آية 13] وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) قوله تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ فيه قولان: أحدهما: أنه اسم الملَك الذي يزجر السحاب، وصوته: تسبيحه، قاله مقاتل. والثاني: أنه الصوت المسموع. وإِنما خُص الرعد بالتسبيح، لأنه من أعظم الأصوات. قال ابن الأنباري: وإِخباره عن الصوت بالتسبيح مجاز، كما يقول القائل: قد غمَّني كلامك. قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، وهو الأظهر. قال ابن عباس: يخافون الله، وليس كخوف ابن آدم، لا يعرف أحدهم مَنْ على يمينه ومَنْ على يساره، ولا يَشْغَله عن عبادة الله شيء. والثاني: أنها ترجع إِلى الرعد، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: (824) أحدها: أنها نزلت في أربد بن قيس، وعامر بن الطّفيل، أتيا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدان الفتك به، فقال: «اللهم اكفنيهما بما شئت» ، فأما أربد فأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاحٍ فأحرقته، وأما عامر فأصابته غُدّة فهلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، هذا قول الأكثرين، منهم ابن جريج، وأربد هو أخو لبيد بن ربيعة لأُمه. (825) والثاني: أنها نزلت في رجل جاء إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: حدِّثني يا محمد عن إِلهك، أياقوت هو؟ أذهبٌ هو؟ فنزلت على السائل صاعقة فأحرقته، ونزلت هذه الآية، قاله عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال مجاهد: وكان يهودياً. (826) وقال أنس بن مالك: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِلى بعض فراعنة العرب يدعوه إِلى الله تعالى،

_ أخرجه الطبراني 10760، وفي «الطوال» 37 من حديث ابن عباس. وقال الهيثمي في «المجمع» 11091: في إسنادهما عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف. وذكره الواحدي في الأسباب 547 بقوله: قال ابن عباس في رواية أبي صالح وهو واه، وابن جريج، وابن زيد، فساقه بلا سند. وأثر ابن جريج أسنده الطبري 20272 عنه وهو معضل.. وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 624. أخرجه الطبري 20269 من حديث علي، وإسناده واه، فيه سيف ابن أخت سفيان الثوري، متروك الحديث. وله شاهد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري 20267، ومع إرساله فيه ليث، وهو ضعيف. وانظر ما بعده. جيد. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 1/ 304، والبزار 2221، وأبو يعلى 3341 و 3342 من رواية ديلم بن غزوان عن ثابت عن أنس مطوّلا، ورجال البزار وأبي يعلى في الرواية الأولى ثقات. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 42: ورجال البزار رجال الصحيح غير ديلم بن غزوان، وهو ثقة، وفي رجال أبي يعلى والطبراني علي بن أبي سارة، وهو ضعيف اه. وأخرجه أبو يعلى 3342 و 3468، والواحدي 546،

[سورة الرعد (13) : آية 14]

فقال للرسول: وما الله، أمِن ذهب هو، أم مِن فضة، أم من نحاس؟ فرجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: «ارجع إِليه فادعه» ، فرجع، فأعاد عليه الكلام، إِلى أن رجع إِليه ثالثة، فبينما هما يتراجعان الكلام، إِذ بعث الله سحابة حيال رأسه، فرعدت ووقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه، ونزلت هذه الآية. (827) والثالث: أنها في رجل أنكر القرآن وكذَّب رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ونزلت هذه الآية، قاله قتادة. قوله تعالى: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: يكذِّبون بعظَمة الله، قاله ابن عباس. والثاني: يخاصِمون في الله، حيث قال قائلهم: أهو من ذهب، أم من فضة؟ على ما تقدم بيانه. قوله تعالى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ فيه خمسة أقوال: أحدها: شديد الأخذ، قاله عليّ عليه السلام. والثاني: شديد المكر، شديد العداوة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: شديد العقوبة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وقال مجاهد في رواية عنه: شديد الانتقام. وقال أبو عبيدة: شديد العقوبة والمكر والنكال، وأنشد للأعشى: فَرْعُ نَبْعٍ يهتزُّ في غُصُن المج ... د، غزيرُ النَّدى، شديدُ المِحال إِن يُعاقِب يكُنْ غَراماً وإِن يُعْ ... طِ جَزيلاً فإنَّهُ لا يبالي والرابع: شديد القوَّة، قاله مجاهد. قال الزجاج: يقال: ما حلتُه مِحالاً: إِذا قاويته حتى تبيَّن له أيكما الأشد، والمَحَل في اللغة: الشدة. والخامس: شديد الحقد، قاله الحسن البصري فيما سمعناه عنه مسنداً من طرق، وقد رواه عنه جماعة من المفسرين منهم ابن الأنباري، والنقاش، ولا يجوز هذا في صفات الله عزّ وجلّ. قال النقاش: هذا قول مُنكرٌ عند أهل الخبر والنظر في اللغة لا يجوز أن تكون هذه صفة من صفات الله تعالى. والذي أختاره في هذا ما قاله عليّ عليه السلام: شديد الأخذ، يعني: أنه إِذا أخذ الكافر والظالم لم يفلته من عقوباته. [سورة الرعد (13) : آية 14] لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) قوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ فيه قولان: أحدهما: أنها كلمة التوحيد، وهي: لا إِله إِلا الله، قاله عليّ وابن عباس والجمهور، فالمعنى له من خَلقه الدعوة الحق، فأضيفت الدعوة إِلى الحق لاختلاف اللفظين. والثاني: أن الله عزّ وجلّ هو الحق، فمن دعاه دعا الحق، قاله الحسن.

_ والطبري 20270، والنسائي في «التفسير» 279، والعقيلي في «الضعفاء» 3/ 232 من طريق علي بن أبي سارة مطوّلا. وإسناده ضعيف، لضعف ابن أبي سارة. قال البخاري: في حديثه نظر. وقال أبو حاتم: شيخ ضعيف الحديث اه. انظر «الميزان» 3/ 130، و «التهذيب» 7/ 324. مرسل. أخرجه الطبري 20271 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، لكن يشهد لما قبله، فأصل الخبر قوي بشواهده وطرقه، وإن اختلفت بعض ألفاظه. وأصح شيء في الباب حديث أنس. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 3725 بتخريجنا، والله الموفق.

[سورة الرعد (13) : آية 15]

قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام آلهة. قال أبو عبيدة: المعنى: والذين يدعون غيره من دونه. قوله تعالى: لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ أي: لا يجيبونهم. قوله تعالى: إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه العطشان يمدُّ يده إِلى البئر ليرتفع الماء إِليه وما هو ببالغه قاله عليّ عليه السلام، وعطاء. والثاني: أنه الرجل العطشان قد وضع كفَّيه في الماء وهو لا يرفعهما، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه العطشان يرى خياله في الماء من بعيد، فهو يريد أن يتناوله فلا يقدر عليه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنه الرجل يدعو الماءَ بلسانه ويشير إِليه بيده فلا يأتيه أبداً، قاله مجاهد. والخامس: أنه الباسط كفَّيه ليقبض على ماء حتى يؤدِّيَه إِلى فيه، لا يتم له ذلك، والعرب تقول: من طلب ما لا يجد فهو القابض على الماء، وأنشدوا: وإِنِّي وإِيَّاكم وشَوْقاً إِليكُمُ ... كقابضِ ماءٍ لم تَسِقْهُ أنامِلُهْ «1» أي: لم تحمله، والوَسْق: الحِمْلُ، وقال آخر: فأصبحتُ مما كان بَيْني وبَيْنَها ... مِنَ الوُدِّ مِثْلَ القَابِضِ الماءَ باليَدِ هذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة. قوله تعالى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ فيه قولان: أحدهما: وما دعاء الكافرين ربَّهم إِلا في ضلال، لأنّ أصواتهم محجوبة عن الله عزّ وجلّ، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: وما عبادة الكافرين الأصنامَ إِلا في خسران وباطل، قاله مقاتل. [سورة الرعد (13) : آية 15] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ أي: من الملائكة، ومَن في الأرض من المؤمنين طَوْعاً وَكَرْهاً. وفي معنى سجود الساجدين كَرها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سجود مَنْ دخل في الإِسلام بالسيف، قاله ابن زيد. والثاني: أنه سجود ظِلِّ الكافر، قاله مقاتل. والثالث: أن سجود الكاره تذلُّله وانقياده لما يريده الله عزّ وجلّ منه من عافية ومرض وغنى وفقر «2» . قوله تعالى: وَظِلالُهُمْ أي: وتسجد ظلال الساجدين طوعاً وكَرهاً، وسجودُها: تمايلها من جانب إِلى جانب، وانقيادها للتسخير بالطُّول والقِصَر. قال ابن الأنباري: قال اللغويون: الظِّل ما كان بالغَدَوات قبل انبساط الشمس، والفيءُ ما كان بعد انصراف الشمس، وإِنما سُمِّي فيئاً، لأنه فاء، أي: رجع إِلى الحال التي كان عليها قبل ان تنبسط الشمس، وما كان سوى ذلك فهو ظلّ، نحو ظلّ

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» ، مادة «وسق» ، ونسبه إلى ضابئ بن الحرث البرجمي. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 366: فإن امتنع هؤلاء الذين يدعون من دون الله الأوثان والأصنام لله شركاء، من إفراد الطاعة والإخلاص بالعبادة له، فلله يسجد من في السماوات من الملائكة الكرام، ومن في الأرض من المؤمنين به طوعا، فأما الكافرون به فإنهم يسجدون له كرها حين يكرهون على السجود. وقال ابن كثير رحمه الله 2/ 625: يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ولهذا يسجد له كل شيء طوعا من المؤمنين، وكرها من المشركين.

[سورة الرعد (13) : آية 16]

الإِنسان، وظل الجدار، وظل الثوب، وظل الشجرة، قال حُمَيد بن ثور: فلا الظِّلُّ من بَردِ الضُّحى تَسْتَطِيعُهُ ... ولا الفيءَ مِن بردِ العَشِيِّ تَذوق وقال لبيد: بينما الظِّلُّ ظَلِيلٌ مُوْنِقٌ ... طَلَعَتْ شَمْسٌ عَلَيْه فاضْمَحَلّ وقال آخر: أيا أثلاث القَاعِ مِنْ بَطْنِ تُوضِحٍ ... حَنِيْنِي إِلى أَظْلالِكُنَّ طَوِيلُ «1» وقيل: إِن الكافر يسجد لغير الله، وظلُّه يسجد لله. وقد شرحنا معنى الغُدُوِّ والآصال في (الأعراف) «2» . [سورة الرعد (13) : آية 16] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) قوله تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ إِنما جاء السؤال والجواب من جهة، لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء فلما لم ينكروا، كان كأنهم أجابوا. ثم ألزمهم الحُجة بقوله: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني: الأصنام توليتموهم فعبدتموهم وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف لغيرهم؟! ثم ضرب مثلاً للذي يعبد الأصنام والذي يعبد الله بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني المشرك والمؤمن أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «تستوي» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «يستوي» بالياء. قال أبو علي: التأنيث حسنٌ، لأنه فعلُ مؤنثٍ، والتذكير سائغ، لأنه تأنيث غير حقيقي. ويعني بالظلمات والنور: الشركَ والإِيمان. أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قال ابن الأنباري: معناه: أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه خلق الله بخلق هؤلاء؟ وهذا استفهام إِنكار، والمعنى: ليس الأمر على هذا، بل إِذا فكَّروا علموا أن الله هو المنفرد بالخلق، وغيره لا يخلق شيئاً. قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ قال الزجاج: قُل ذلك وبيِّنه بما أخبرت به من الدلالة في هذه السورة مما يدل على أنه خالق كل شيء، وقد ذكرنا في (يوسف) «3» معنى الواحد القهّار. [سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 18] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)

_ (1) البيت لمجنون ليلى من ديوانه: 221. (2) سورة الأعراف: 7. (3) سورة يوسف: 39.

قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ وهي جمع وادٍ، وهو كل منفرَج بين جبلين يجتمع إِليه ماء المطر فيسيل بِقَدَرِها أي: بمبلغ ما تحمل، فإن صَغُر الوادي، قلَّ الماء، وإِن هو اتسع، كَثُر. وقرأ الحسن، وابن جبير، وأبو العالية، وأيوب، وابن يعمر، وأبو حاتم عن يعقوب: «بقدرها» بإسكان الدال. وقوله تعالى: «فسالت أودية» توسُّع في الكلام، والمعنى: سالت مياهها، فحُذف المضاف، وكذلك قوله: «بقدَرِها» أي: بقدر مياهها. فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً أي: عالياً فوق الماء، فهذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ. ثم ضرب مثلا آخر، فقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «توقِدون عليه» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم بالياء. قال أبو علي: من قرأ بالتاء، فَلِما قبله من الخطاب، وهو قوله: «أفاتخذتم» ، ويجوز أن يكون خطاباً عامّاً للكافّة، ومن قرأ بالياء فلأَنَّ ذِكر الغَيبة قد تقدم في قوله: «أم جعلوا لله شركاء» . ويعني بقوله: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ ما يدخل إِلى النار فيُذاب من الجواهر ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ يعني: الذهب والفضة أَوْ مَتاعٍ يعني: الحديد والصُّفْر والنحاس والرصاص تُتخذ منه الأواني والأشياء التي يُنتفع بها، زَبَدٌ مِثْلُهُ أي: له زَبَد إِذا أُذيب مثل زَبَد السَّيل، فهذا مثل آخر. وفيما ضُرب له هذان المثلان ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه القرآن، شُبِّه نزوله من السماء بالماء، وشُبِّه قلوبُ العِباد بالأودية تحمل منه على قدر اليقين والشك، والعقل والجهل، فيستكنّ فيها، فينتفع المؤمن بما في قلبه كانتفاع الأرض التي يستقر فيها المطر، ولا ينتفع الكافر بالقرآن لمكان شَكِّه وكفره، فيكون ما حصل عنده من القرآن كالزبَد وكخبَث الحديد لا يُنتفع به. والثاني: أنه الحق والباطل، فالحق شُبِّه بالماء الباقي الصافي، والباطل مشبَّه بالزَّبد الذاهب، فهو وإِن علا على الماء فانه سيمَّحِق، كذلك الباطل، وإِن ظهر على الحق في بعض الأحوال، فإن الله سيُبطله. والثالث: أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فمثَل المؤمن واعتقاده وعمله كالماء المنتفَع به، ومثَل الكافر واعتقاده وعمله كالزبَد. قوله تعالى: كَذلِكَ أي: كما ذُكر هذا، يضرب الله مَثل الحق والباطل. وقال أبو عبيدة: كذلك يمثِّل الله الحق ويمثِّل الباطل. فأما الجُفاء، فقال ابن قتيبة: هو ما رمى به الوادي إِلى جنَباته، يقال: أجفأتِ القِدرُ بزَبَدها: إِذا ألقته عنها. قال ابن فارس: الجُفاء: ما نفاه السيل، ومنه اشتقاق الجَفاء. وقال ابن الأنباري: «جُفاءً» أي: بالياً متفرقاً. قال ابن عباس: إِذا مُسَّ الزَّبَد لم يكن شيئاً. قوله تعالى: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء والجواهر التي زال زَبَدها فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ فيُنتفع به كَذلِكَ يبقى الحق لأهله. قوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى يعني: المؤمنين، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 369: وهذا مثل ضربه الله للحق والباطل، والإيمان به والكفر، يقول تعالى ذكره: مثل الحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها يقول: فاحتملته الأودية بملئها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً يقول: فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء زبدا عاليا فوق السيل، فهذا أحد مثلي الحق والباطل، فالحق هو الماء الباقي، والزبد الذي لا ينتفع به هو الباطل.

[سورة الرعد (13) : آية 19]

يعني: الكفار. قال أبو عبيدة: استجبت لك واستجبتك سواء، وهو بمعنى: أجبت. وفي الحُسنى ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الجنة، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنها الحياة والرزق، قاله مجاهد. والثالث: كل خير من الجنة فما دونها، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: لَافْتَدَوْا بِهِ اي: لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب، ولا يُقبل منهم. وفي سوء الحساب ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المناقشة بالأعمال، رواه ابو الجوزاء عن ابن عباس. وقال النخعي: هو أن يحاسَب بذنبه كله، فلا يُغفر له منه شيء. والثاني: أن لا تُقبل منهم حسنة، ولا يُتجاوز لهم عن سيئة. والثالث: أنه التّوبيخ والتّقريع عند الحساب. [سورة الرعد (13) : آية 19] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى قال ابن عباس: نزلت في حمزة، وأبي جهل. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أي: إِنما يتَّعظ ذوو العقول. والتّذكّر: الاتّعاظ. [سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 21] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) قوله تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ في هذا العهد قولان: أحدهما: أنه ما عاهدهم عليه حين استخرجهم من ظهر آدم. والثاني: ما أمرهم به وفرضه عليهم. وفي الذي أمر الله به، عزّ وجلّ، أن يوصل، ثلاثة أقوال قد نسبناها إِلى قائلها في أول سورة «البقرة» «1» ، وقد ذكرنا سوء الحساب آنفا. [سورة الرعد (13) : الآيات 22 الى 24] وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) قوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا أي: على ما أُمروا به ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أي: طلباً لرضاه وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتمُّوها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال في طاعة الله. قال ابن عباس: يريد بالصلاة: الصلوات الخمس، وبالإِنفاق: الزكاة. قوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ أي: يدفعون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ. وفي المراد بهما خمسة أقوال: أحدها: يدفعون بالعمل الصالح الشرَّ من العمل، قاله ابن عباس. والثاني: يدفعون بالمعروف المنكر، قاله سعيد بن جبير. والثالث: بالعفو الظلمَ، قاله جُوَيبر. والرابع: بالحلم السفهَ، كأنهم إِذا سُفه عليهم حَلُموا، قاله ابن قتيبة. والخامس: بالتوبة الذنْبَ، قاله ابن كيسان. قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ قال ابن عباس: يريد: عقباهم الجنة، أي: تصير الجنة آخر

_ (1) عند الآية: 27.

[سورة الرعد (13) : آية 25]

أمرهم. قوله تعالى: وَمَنْ صَلَحَ وقرأ ابن أبي عبلة: «صلُح» بضم اللام. ومعنى «صلح» : آمن، وذلك أن الله تعالى ألحق بالمؤمن أهله المؤمنين إِكراماً له، لتقرَّ عينُه بهم. وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ قال ابن عباس: بالتحية من الله والتحفة والهدايا. قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: أُضمر القول ها هنا، لأن في الكلام دليلاً عليه. وفي هذا السلام قولان: أحدهما: أنه التحية المعروفة «1» ، يدخل الملَك فيسلِّم وينصرف. قال ابن الأنباري: وفي قول المسلِّم: سلام عليكم، قولان: أحدهما: أن السلام: الله عزّ وجلّ، والمعنى: الله عليكم، أي: على حفظكم. والثاني: أن المعنى: السلامة عليكم، فالسلام جمع سلامة. والثاني: أن معناه: إِنما سلَّمكم الله تعالى من أهوال القيامة وشرِّها بصبركم في الدنيا. وفيما صبروا عليه خمسة أقوال: أحدها: أنه أمر الله، قاله سعيد بن جبير. والثاني: فضول الدنيا، قاله الحسن. والثالث: الدِّين. والرابع: الفقر، رويا عن أبي عمران الجَوني. والخامس: أنه فقد المحبوب، قاله ابن زيد. [سورة الرعد (13) : آية 25] وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ قد سبق تفسيره في سورة (البقرة) «2» . وقال مقاتل: نزلت في كفّار أهل الكتاب. وقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي: عليهم. [سورة الرعد (13) : آية 26] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي: يوسِّع على من يشاء وَيَقْدِرُ أي: يضيِّق. وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا قال ابن عباس: يريد مشركي مكة، فرحوا بما نالوا من الدنيا فطغوا وكذّبوا الرّسل. وقوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي: بالقياس إِليها إِلَّا مَتاعٌ أي: كالشيء الذي يتمتّع به، ثم يفنى. [سورة الرعد (13) : آية 27] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا نزلت في مشركي مكة حين طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل آيات الأنبياء «3» . قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ أي: يردُّه عن الهدى كما ردّكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أي: رجع إِلى الحق، وإِنما يرجع إِلى الحق من شاء اللهُ رجوعه، فكأنه قال: ويهدي من يشاء.

_ (1) وهو ما اختاره الطبري رحمه الله 7/ 376. [.....] (2) سورة البقرة: 27. (3) لم أجد من ذكره سوى المصنف على أنه سبب نزول، وقد ذكره الطبري استنباطا من الآية الكريمة، حيث تدل على ذلك.

[سورة الرعد (13) : الآيات 28 إلى 29]

[سورة الرعد (13) : الآيات 28 الى 29] الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا هذا بدل من قوله: أَنابَ، والمعنى: يهدي الذين آمنوا، وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ في هذا الذِّكر قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني: ذِكر الله على الإِطلاق. وفي معنى هذه الطمأنينة قولان: أحدهما: أنها الحُب له والأُنس به. والثاني: السكون إِليه من غير شك، بخلاف الذين إِذا ذُكر الله اشمأزت قلوبهم. قوله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ قال الزجاج: «ألا» حرف تنبيه وابتداء، والمعنى: تطمئن القلوب التي هي قلوب المؤمنين، لأن الكافر غير مطمئن القلب. قوله تعالى: طُوبى لَهُمْ فيه ثمانية أقوال: أحدها: أنه اسم شجرة في الجنة. (828) روى أبو سعيد الخدري «عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» . وقال أبو هريرة: طوبى: شجرة في الجنة، يقول الله عزّ وجلّ لها: تفتَّقي لعبدي عما شاء، فتتفتق له عن الخيل بسروجها ولُجمها، وعن الإِبل بأزمَّتها، وعمَّا شاء من الكسوة. وقال شهر بن حوشب: طوبى: شجرة في الجنة، كل شجر الجنة منها أغصانها، من وراء سور الجنة، وهذا مذهب عطية، وشمر بن عطية، ومغيث بن سُمَي، وأبي صالح. والثاني: أنه اسم الجنة بالحبشية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال المصنف: وقرأت على شيخنا أبي منصور عن سعيد بن مَسْجوح قال: طوبى: اسم الجنة بالهندية، وممن ذهب إِلى أنه اسم الجنة عكرمة، وعن مجاهد كالقولين. والثالث: أن معنى طوبى لهم: فرح وقُرَّة عين لهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أن معناه: نُعمى لهم، قاله عكرمة في رواية، وفي رواية أخرى عنه: نعم ما لهم. والخامس: غبطة لهم، قاله سعيد بن جبير، والضحاك. والسادس: أن معناه: خير لهم، قاله النخعي في رواية، وفي أخرى عنه قال: الخير والكرامة اللَّذان أعطاهم الله، وروى معمر عن قتادة قال: يقول الرجل للرجل: طوبى لك، أي: أصبتَ خيراً، وهي كلمة عربية. والسابع: حسنى لهم، رواه سعيد عن قتادة عن الحسن. والثامن: أن المعنى: العيش الطِّيب لهم. و «طوبى» عند النحويين: فُعلى من الطيب، هذا قول الزجاج. وقال ابن الأنباري: تأويلها: الحال المستطابة، والخَلَّة المستلَذَّة، وأصلها: «طُيْبى» فصارت الياء واواً لسكونها وانضمام ما قبلها كما صارت في «مُوقن» والأصل فيه «مُيْقن» لأنه مأخوذ من اليقين، فغلبت الضمة فيه الياء فجعلتها واوا.

_ صدره حسن، وعجزه ضعيف، أخرجه أحمد 3/ 71 وأبو يعلى 1374 وابن حبان 7413 والخطيب 4/ 91 والطبري 20394. من طريق درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا. وهذا إسناد ضعيف، لضعف درّاج في روايته عن أبي الهيثم، ولصدره شواهد، والوهن فقط في عجزه «ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» . وله شاهد من حديث عتبة بن عبد السلمي، أخرجه الطبري 20392 وابن حبان 7414 وأحمد 4/ 183 وإسناده ضعيف لجهالة عامر بن زيد، لكن يشهد لما قبله. وله شاهد من حديث قرة بن إياس، أخرجه الطبري 20393 وإسناده ضعيف لضعف فرات بن أبي الفرات. وله شواهد أخرى واهية.

[سورة الرعد (13) : آية 30]

قوله تعالى: وَحُسْنُ مَآبٍ المآب: المرجع والمنقلَب. [سورة الرعد (13) : آية 30] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) قوله تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ أي: كما أرسلنا الأنبياء قبلك. قوله تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (829) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما قال لكفار قريش: اسجدوا للرحمن، قالوا: وما الرحمن؟ فنزلت هذه الآية، وقيل لهم: إِن الرحمن الذي أنكرتم هو ربي، هذا قول الضحاك عن ابن عباس. (830) والثاني: أنهم لما أرادوا كتاب الصلح يوم الحديبية، كتب عليّ عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمن إِلا مسيلمة، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة، وابن جريج، ومقاتل. (831) والثالث: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يوماً في الحِجْر يدعو، وأبو جهل يستمع إِليه وهو يقول: يا رحمن، فولى مُدْبراً إِلى المشركين فقال: إِن محمداً كان ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إِلهين! فنزلت هذه الآية، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. قوله تعالى: وَإِلَيْهِ مَتابِ قال أبو عبيدة: هو مصدر تبت إليه. [سورة الرعد (13) : الآيات 31 الى 32] وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ. (832) سبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: لو وسَّعت لنا أودية مكة بالقرآن، وسيَّرت

_ لا أصل له، عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، فقد روى عن الضحاك تفسيرا مصنوعا عن ابن عباس. - وذكره الواحدي في «الأسباب» 549 وعزاه للضحاك عن ابن عباس. لم أقف عليه مسندا بهذا اللفظ، وهو باطل لا أصل له. وذكره الواحدي 548 بقوله: قال المفسرون ... فهذا بدون إسناد كما ترى، أي لا أصل له، والأشبه كونه كلام مقاتل، وهو ابن سليمان، وهو ممن يضع الحديث. وتفرّد بذكر نزول الآية مع لفظ «إلا مسيلمة» . وأخرجه الطبري 20396 عن قتادة مرسلا، دون ذكر نزول الآية، ودون استثناء مسيلمة. وكذا أخرجه 20397 عن ابن جريج عن مجاهد مرسلا أيضا هكذا. وأصل حديث الحديبية متفق عليه. دون ذكر نزول الآية واستثناء مسيلمة. وسيأتي في سورة الفتح. لم أقف عليه، وعزاه المصنف للمفسر النيسابوري، وهو يذكر ما لا أصل له. وقد ورد شيء من هذا في أواخر سورة الإسراء، وسيأتي. حسن. أخرجه الطبري 20398 من رواية عطية العوفي عن ابن عباس، وعطية العوفي روى مناكير كثيرة، وهو

جبالها فاحترثناها، وأحييت من مات منا، فنزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس. (833) وقال الزبير بن العوّام: قالت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: ادع الله أن يسيِّر عنا هذه الجبال ويفجِّر لنا الأرض أنهاراً فنزرع، أو يحيي لنا موتانا فنكلمهم، أو يصيّر هذه الصخرة ذهباً فتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فقد كان للأنبياء آيات، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «1» . ومعنى قوله: أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي: شقِّقت فجُعلت أنهاراً، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى أي: أُحيوا حتى كلّموا. واختلفوا في جواب «لو» على قولين: أحدهما: أنه محذوف. وفي تقدير الكلام قولان: أحدهما: أن تقديره: لكان هذا القرآن، ذكره الفراء، وابن قتيبة. قال قتادة: لو فُعل هذا بقرآن غيرِ قرآنكم لفُعل بقرآنكم. والثاني: أن تقديره: لو كان هذا كلّه لما آمنوا. ودليله قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ «2» ، قاله الزجاج. والثاني: أن جواب «لو» مقدَّم، والمعنى: وهم يكافرون بالرحمن، ولو أنزلنا عليهم ما سألوا، ذكره الفراء أيضاً. قوله تعالى: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي: لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا، وإِذا لم يشأْ، لم ينفع ما اقترحوا من الآيات. ثم أكد ذلك بقوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا وفيه أربعة أقوال: أحدها: أفلم يتبيَّن، رواه العَوفي عن ابن عباس، وروى عنه عكرمة أنه كان يقرؤها كذلك، ويقول: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وأبي مالك، ومقاتل. والثاني: أفلم يعلم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد. وقال ابن قتيبة: ويقال: هي لغة للنَّخَع «ييأس» بمعنى «يعلم» ، قال الشاعر: أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابنُ فَارِسَ زَهْدَمِ «3» وإِنما وقع اليأس في مكان العلِم، لأن في علمك الشيء وتيقُّنك به يأسَك من غيره. والثالث: أن المعنى: قد يئس الذين آمنوا أن يَهدوا واحداً، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً، قاله أبو العالية. والرابع: أفلم ييأس الذين آمنوا أن يؤمن هؤلاء المشركون، قاله الكسائي. وقال

_ ضعيف، وأخرجه الطبراني 12617 من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس، وقابوس ضعيف. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 635 من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري. وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 20403 و 20404. وله شاهد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 20405. وله شاهد من مرسل ابن زيد، أخرجه الطبري 20406. ويشهد له ما بعده، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، فهو حسن إن شاء الله. حسن. أخرجه أبو يعلى 679، والواحدي في «أسباب النزول» 550 من حديث الزبير. وإسناده ضعيف فيه عبد الجبار بن عمر الأيلي عن عبد الله بن عطاء، وكلاهما ضعيف، لكن يشهد له ما قبله.

[سورة الرعد (13) : آية 33]

الزجاج: المعنى عندي: أفلم ييأس الذين آمنوا من إِيمان هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم لا يؤمنون، لأنه لو شاء لهدى الناس جميعاً. قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيهم قولان: أحدهما: أنهم جميع الكفار، قاله ابن السائب. والثاني: كفار مكة، قاله مقاتل. فأما القارعة، فقال الزجاج: هي في اللغة: النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم. وفي المراد بها ها هنا قولان: أحدهما: أنها عذاب من السماء، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: السرايا والطلائع التي كان ينفذها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله عكرمة «1» . وفي قوله: أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ قولان: أحدهما: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فالمعنى: أو تَحُلُّ أنت يا محمد، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة. والثاني: أنها القارعة، قاله الحسن. وفي قوله: حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ قولان: أحدهما: فتح مكة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: القيامة، قاله الحسن. [سورة الرعد (13) : آية 33] أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يعني: نفسه عزّ وجلّ. ومعنى القيام ها هنا: التولي لأمور خَلقه، والتدبير لأرزاقهم وآجالهم، وإِحصاء أعمالهم للجزاء، والمعنى: أفمن هو مجازي كلّ نفس بما كسبت، يثيبها إِذا أحسنت، ويأخذها بما جنت، كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام؟ قال الفراء: فتُرك جوابه، لأن المعنى معلوم، وقد بيَّنه بعد هذا بقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ كأنه قيل: كشركائهم. قوله تعالى: قُلْ سَمُّوهُمْ أي: بما يستحقونه من الصفات وإِضافةِ الأفعال إِليهم إِن كانوا شركاء لله كما يسمّى الله بالخالق، والرّزاق، والمحيي، والمميت، ولو سمَّوهم بشيء من هذا لكذبوا. قوله تعالى: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ هذا استفهام منقطع مما قبله، والمعنى: فإن سمَّوهم بصفات الله، فقل لهم: أتنبئونه، أي: أتخبرونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلم لنفسه شريكاً، ولو كان لَعَلِمَه؟ قوله تعالى: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أم بظن من القول، قاله مجاهد. والثاني: بباطل، قاله قتادة. والثالث: بكلام لا أصل له ولا حقيقة. قوله تعالى: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ قال ابن عباس: زين لهم الشيطان الكفر. قوله تعالى: وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «وَصَدُّوا» بفتح الصاد، ومثله في (حم المؤمن) . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «وصُدُّوا» بالضم فيهما. فمن فتح، أراد: صَدُّوا المسلمين، إِما عن الإِيمان، أو عن البيت الحرام. ومن ضم، أراد: صدّهم الله عن سبيل الهدى. [سورة الرعد (13) : آية 34] لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)

_ (1) قال الطبري رحمه الله 7/ 389: القارعة هي: ما يقرعهم من البلاء والعذاب والنّقم، بالقتل أحيانا، وبالحروب أحيانا، والقحط أحيانا.

[سورة الرعد (13) : آية 35]

قوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهو القتل، والأسر، والسقم، فهو لهم في الدنيا عذاب، وللمؤمنين كفَّارة، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ أي: أشد وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي: مانع يقيهم عذابه. [سورة الرعد (13) : آية 35] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ أي: صفتها أن الأنهار تجري من تحتها، هذا قول الجمهور. وقال ثعلب: خبر المثَل مُضمَر قبله، والمعنى: فيما نصف لكم مَثَل الجنة، وفيما نقصُّه عليكم خبر الجنة أُكُلُها دائِمٌ قال الحسن: يريد أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا وَظِلُّها لأنه لا يزول ولا تنسخه الشمس. قوله تعالى: تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا أي: عاقبة أمرهم المصير إليها. [سورة الرعد (13) : آية 36] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مسلمو اليهود، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل: هم عبد الله بن سلام وأصحابه. والثاني: أنهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله قتادة. والثالث: مؤمنو أهل الكتابين من اليهود والنصارى، ذكره الماوردي. والذي أُنزل إِليه: القرآن، فرح به المسلمون وصدَّقوه، وفرح به مؤمنو أهل الكتاب، لأنه صدَّق ما عندهم. وقيل: إِن عبد الله بن سلام ومَن آمَن معه من أهل الكتاب، ساءهم قِلَّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذِكره في التوراة، فلما نزل ذِكره فرحوا، وكفر المشركون به، فنزلت هذه الآية. فأما الأحزاب، فهم الكفار الذين تحزَّبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمعاداة، وفيهم أربعة أقوال «1» : أحدها: أنهم اليهود والنصارى، قاله قتادة. والثاني: أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله ابن زيد. والثالث: بنو أمية وبنو المغيرة وآل أبي طلحة بن عبد العزّى، قاله مقاتل. والرابع: كفار قريش، ذكره الماوردي. وفي بعضه الذي أنكروه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ذكر الرّحمن والبعث ومحمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله مقاتل. والثاني: أنهم عرفوا بعثة الرسول في كتبهم وأنكروا نبوَّته. والثالث: أنهم عرفوا صدقه، وأنكروا تصديقه، ذكرهما الماوردي.

_ (1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله 2/ 639: وقوله وَمِنَ الْأَحْزابِ أي: ومن الطوائف من يكذب ببعض ما أنزل إليك. وقال مجاهد: وَمِنَ الْأَحْزابِ اليهود والنصارى من ينكر بعض ما جاءك من الحق. وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا كما قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.

[سورة الرعد (13) : آية 37]

[سورة الرعد (13) : آية 37] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي: وكما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلغاتهم، أنزلنا عليك القرآن حُكْماً عَرَبِيًّا قال ابن عباس: يريد ما فيه من الفرائض. وقال أبو عبيدة: ديناً عربيّاً. قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فيه قولان: أحدهما: في صلاتك إِلى بيت المقدس بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أن قبلتك الكعبة، قاله ابن السائب. والثاني: في قبول ما دعوك إِليه من مِلَّة آبائك، قاله مقاتل. قوله تعالى: ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: ما لك من عذاب الله من قريب ينفعك وَلا واقٍ يقيك. [سورة الرعد (13) : آية 38] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ الآية. (834) سبب نزولها أن اليهود عيَّروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكثرة التزويج، وقالوا: لو كان نبياً كما يزعم، شغلته النبوَّة عن تزويج النساء، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الآية: أن الرسل قبلك كانوا بشراً لهم أزواج، يعني النساء، وذريَّة، يعني الأولاد. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره، وهذا جواب للذين اقترحوا عليه الآيات. قوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لكل أجل من آجال الخَلق كتاب عند الله، قاله الحسن. والثاني: أنه من المقدّم والمؤخّر، والمعنى: لكل كتاب ينزل من السماء أجل، قاله الضحاك والفراء. والثالث: لكل أجل قدَّره الله عزّ وجلّ ولكل أمر قضاه كتاب أُثبت فيه ولا تكون آية ولا غيرها إِلا بأجل قد قضاه الله في كتاب، هذا معنى قول ابن جرير. [سورة الرعد (13) : آية 39] يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: «ويثبت» ساكنة الثاء خفيفة الباء. وقرأ ابن عامر: وحمزة، والكسائي: «ويثبِّت» مشددة الباء مفتوحة الثاء. قال أبو علي: المعنى: ويثبِّته، فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني. واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبِت على ثمانية أقوال «1» : أحدها: أنه عامّ، في

_ لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي وتقدم مرارا، أنهما رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 551 عن الكلبي.

الرزق، والأجل، والسعادة. والشقاوة، وهذا مذهب عمر، وابن مسعود، وأبي وائل، والضحاك، وابن جريج. والثاني: أنه الناسخ والمنسوخ، فيمحو المنسوخ، ويثبت الناسخ، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، والقرظي، وابن زيد. وقال ابن قتيبة: «يمحو الله ما يشاء» أي: ينسخ من القرآن ما يشاء «ويثبت» أي: يدعه ثابتاً لا ينسخه، وهو المُحكَم. والثالث: أنه يمحو ما يشاء، ويثبت، إِلا الشقاوة والسعادة، والحياة والموت، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، ودليل هذا القول ما روى مسلم في (صحيحه) من حديث حذيفة بن أسيد قال: (835) سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إِذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة، يقول الملَك الموكَّل: أذَكر أم أنثى؟ فيقضي الله عزّ وجلّ، ويكتب الملَك، فيقول: أشقي، أم سعيد؟ فيقضي الله، ويكتب الملَك، فيقول: عمله وأجله؟ فيقضي الله، ويكتب الملَك، ثم تطوى الصحيفة، فلا يزاد فيها ولا يُنقص منها» . والرابع: يمحو ما يشاء ويثبت، إِلا الشقاوة والسعادة لا يغيَّران، قاله مجاهد. والخامس: يمحو من جاء أجله، ويثبت من لم يجئ أجله، قاله الحسن. والسادس: يمحو من ذنوب عباده ما يشاء فيغفرها، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها، روي عن سعيد بن جبير. والسابع: يمحو ما يشاء بالتوبة، ويثبت مكانها حسنات، قاله عكرمة. والثامن: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، قاله الضحاك، وأبو صالح. وقال ابن السائب: القول كلُّه يُكتَب، حتى إِذا كان في يوم الخميس، طُرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلتُ، شربت، دخلت، خرجت، ونحوه، وهو صادق، ويُثبت ما فيه الثواب والعقاب. قوله تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قال الزجاج: أصل الكتاب. قال المفسرون: وهو اللوح

_ صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه 2645، والآجري في «الشريعة» ص 183- 184، واللالكائي في «أصول الاعتقاد» 1047 من طريقين عن ابن جريج عن أبي الزبير به. وأخرجه الحميدي 826، وأحمد 4/ 6- 7، والآجري ص 182- 183، واللالكائي 1045، 1046، وابن أبي عاصم في «السنة» 177 و 179 و 180، والطبراني 3036 و 3043 و 3045 من طرق عن عامر بن واثلة به. واللفظ عند مسلم: عن عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقيّ من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكا. فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء. ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب! أجله. فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب! رزقه. فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده. فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص» .

[سورة الرعد (13) : آية 40]

المحفوظ الذي أُثبت فيه ما يكون ويحدث. وروى أبو الدّرداء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (836) «إِن الله تعالى في ثلاث ساعات يبقَين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت» . وروى عكرمة عن ابن عباس قال: هما كتابان، كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب لا يغيّر منه شيء. [سورة الرعد (13) : آية 40] وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) قوله تعالى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي: من العذاب وأنت حيٌّ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريَك ذلك، فليس عليك إِلا أن تبلّغ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ قال مقاتل: يعني الجزاء. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ نُسخ بآية السيف وفرض الجهاد، وبه قال قتادة. [سورة الرعد (13) : آية 41] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها فيه خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه ما يفتح الله على نبيه من الأرض، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والضّحّاك. قال مقاتل: (أو لم يروا) يعني: كفار مكة (أنا نأتي الأرض) يعني: أرض مكة «ننقصها من أطرافها» يعني: ما حولها. والثاني: أنها القرية تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والثالث: أنه نقص أهلها وبركتها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال الشعبي: نقص الأنفس والثمرات. والرابع: أنه ذهاب فقهائها وخيار أهلها، رواه عطاء عن ابن عباس. والخامس: أنه موت أهلها، قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ قال ابن قتيبة: لا يتعقَّبه أحد بتغيير ولا نقص. وقد شرحنا معنى سرعة الحساب في سورة (البقرة) «2» .

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبري 20502 و 20503 والبزار 3516 «كشف» ، وأبو نعيم في «صفة الجنة» 8، وابن الجوزي في «العلل» 21 من حديث أبي الدرداء. وقال ابن الجوزي: هذا الحديث من عمل زيادة بن محمد، ولم يتابعه عليه أحد اه. وقال في «المجمع» 18719: زيادة بن محمد، ضعيف. - قلت: الصواب أنه ضعيف جدا، قال الذهبي في «الميزان» 2/ 98: قال البخاري والنسائي: منكر الحديث. ثم ذكر الذهبي هذا الحديث بأتم منه، وقال: فهذه ألفاظ منكرة، لم يأت بها غير زيادة. وقاعدة البخاري: كل من قلت عنه منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه.

[سورة الرعد (13) : آية 42]

[سورة الرعد (13) : آية 42] وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) قوله تعالى: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كفار الأمم الخالية، مكروا بأنبيائهم يقصدون قتلهم، كما مكرت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يعني: أن مَكر الماكرين مخلوق له، ولا يضرُّ إِلا بإرادته وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسكين له. يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من خير وشر، ولا يقع ضرر إلّا بإذنه. وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «وسيعلم الكافر» . قال ابن عباس: يعني: أبا جهل. وقال الزّجّاج: الكافر ها هنا: اسم جنس. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «الكفار» على الجمع. قوله تعالى: لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي: لمن الجنة آخر الأمر. [سورة الرعد (13) : آية 43] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى. والثاني: كفار قريش. قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي: شاهداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بما أظهرَ من الآيات، وأبان من الدلالات على نبوَّتي. قوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ فيه سبعة أقوال «1» : أحدها: أنهم علماء اليهود والنصارى، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه عبد الله بن سلام، قاله الحسن، ومجاهد، وعِكرمة، وابن زيد، وابن السائب، ومُقاتل. والثالث: أنهم قوم من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحق، منهم عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداريّ، قاله قتادة. والرابع: أنه جبريل عليه السلام، قاله سعيد بن جُبير. والخامس: أنه علي بن أبي طالب، قاله ابن الحنفية. والسادس: أنه ابن يامين، قاله شمر. والسابع: أنه الله عزّ وجلّ، روي عن الحسن، ومجاهد، واختاره الزجاج واحتجَّ له بقراءة من قرأ: «ومِنْ عِندِه عُلِمَ الكتابُ» وهي قراءة ابن السّميفع، وابن أبي عبلة، ومجاهد، وأبي حياة. ورواية ابن أبي سريج عن الكسائي: «ومِنْ» بكسر الميم «عِندِه» بكسر الدال «عُلِمَ» بضم العين وكسر اللام وفتح الميم «الكتابُ» بالرفع. وقرأ الحسن «ومِنْ» بكسر الميم «عندِه» بكسر الدال «عِلْمُ» بكسر العين وضمِّ الميم «الكتابِ» مضاف، كأنه قال: أنزل من علم الله عزّ وجلّ.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 643: والصحيح في هذا: أن وَمَنْ عِنْدَهُ اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة، من بشارات الأنبياء، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل: أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزّلة. وقال في أَنها نزلت في عبد الله بن سلام: وهذا القول غريب، لأن هذه الآية مكية، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، والأظهر في هذا ما قاله العوفي.

سورة ابراهيم

سورة ابراهيم وهي مكيّة من غير خلاف علمناه بينهم، إلّا ما روي عن ابن عباس، وقتادة أنهما قالا: سوى آيتين منها، وهما قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً والتي بعدها «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) قوله تعالى: الر قد سبق بيانه. وقوله: كِتابٌ قال الزجاج: المعنى: هذا كتاب، والكتاب: القرآن. وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال: أحدها: أن الظلمات: الكفر. والنور: الإِيمان، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أن الظلمات: الضلالة. والنور: الهدى، قاله مجاهد، وقتادة. والثالث: أن الظلمات: الشكُّ. والنور: اليقين، ذكره الماوردي. وفي قوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: بأمر ربهم، قاله مقاتل. والثاني: بتوفيق ربهم، قاله أبو سليمان. والثالث: أنه الإِذن نفسه، فالمعنى: بما أَذِن لك من تعليمهم، قاله الزجاج، قال: ثم بيَّن ما النُّور، فقال: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ قال ابن الأنباري: وهذا مِثْلُ قول العرب: جلست إِلى زيد، إِلى العاقل الفاضل، وإِنما تُعاد «إِلى» بمعنى التعظيم للأمر، قال الشاعر «2» : إِذَا خَدِرَتْ رِجْلي تَذَكّرْتُ مَنْ لَهَا ... فَنَادَيْتُ لُبْنَى بِاسْمِهَا وَدَعَوْتُ دَعَوْتُ الَّتِي لَوَ أَنَّ نَفْسِي تُطِيعُنِي ... لأَلْقَيْتُها من حُبِّها وقضَيتُ فأعاد «دعوت» لتفخيم الأمر. قوله تعالى: اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «الحميدِ اللهِ» على البدل. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبان، والمفضَّل: «الحميدِ. اللهُ» رفعاً على الاستئناف، وقد سبق بيان ألفاظ الآية.

_ (1) سورة إبراهيم: 28- 29. (2) البيتان لقيس لبنى كما في ديوانه: 69.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 3 إلى 6]

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 3 الى 6] الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) قوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي: يؤثرونها عَلَى الْآخِرَةِ قال ابن عباس: يأخذون ما تعجَّل لهم منها تهاوُناً بأمر الآخرة. قوله تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: يمنعون الناس من الدخول في دِينه، وَيَبْغُونَها عِوَجاً قد شرحناه في (آل عمران) «1» . قوله تعالى: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ أي: في ذهاب عن الحق بَعِيدٍ من الصواب. قوله تعالى: إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ أي: بلُغتهم. قال ابن الأنباري: ومعنى اللغة عند العرب: الكلام المنطوق به، وهو مأخوذ من قولهم: لَغا الطائر يَلْغُو: إِذا صَوَّت في الغَلَس. وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجُحدري: «إِلاَّ بِلُسُنِ قومه» برفع اللام والسين من غير ألف. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران: «بِلِسْنِ قومه» بكسر اللام وسكون السين من غير ألف. قوله تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أي: الذي أُرسل به فيفهمونه عنه. وهذا نزل، لأن قريشاً قالوا: ما بال الكتاب كلِّها أعجمية، وهذا عربي! قوله تعالى: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ قال الزجاج: «أن» مفسِّر، والمعنى: قلنا له: أَخرج قومك، وقد سبق بيان الظّلمات والنّور. وفي قوله: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ثلاثة أقوال «2» : (837) أحدها: أنها نِعَمُ الله، رواه أُبيُّ بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه قال مجاهد وقتادة وابن قتيبة.

_ أخرجه أحمد 5/ 122 من طريق محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب مرفوعا، وكرره عبد الله بن أحمد من طريق الطيالسي عن الجعفي به موقوفا. وأخرجه مسلم 2380 ح 71 من طريق آخر عن أبي إسحاق به مرفوعا في أثناء خبر مطول، وفيه «وأيام الله نعماؤه وبلاؤه» . وأخرجه النسائي في «التفسير» 280 من طريق آخر عن أبي إسحاق به مرفوعا، وليس فيه لفظ «بلاؤه» . الخلاصة هذه الروايات تتأيد بمجموعها، وقد ورد موقوفا عن جماعة من التابعين، فهو صحيح إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 7 إلى 14]

والثاني: أنها وقائع الله في الأمم قبلهم، قاله ابن زيد وابن السائب ومقاتل. والثالث: أنها أيام نِعَم الله عليهم وأيام نِقَمِه ممن كَفر من قوم نوح وعاد وثمود، قاله الزجاج. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: التذكير لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على طاعة الله وعن معصيته شَكُورٍ لأنعُمه. والصبَّار: الكثير الصبر، والشَّكور: الكثير الشُّكر، وإِنما خصه بالآيات، لانتفاعه بها. وما بعد هذا مشروح في سورة البقرة. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 7 الى 14] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ مذكور في (الأعراف) «1» . وفي قوله لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي، قاله الحسن. والثاني: لئن شكرتم إِنعامي لأزيدنكم من فضلي، قاله الربيع. والثالث: لئن وحَّدتموني لأزيدنكم خيراً في الدنيا، قاله مقاتل. وفي قوله: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ قولان: أحدهما: أنه كفر بالتوحيد. والثاني: كفران النِّعَم. قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ أي: غني عن خَلْقه، محمود في أفعاله، لأنه إِمّا متفضِّل بفعله، أو عادل. قوله تعالى: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ قال ابن الأنباري: أي: لا يحصي عددهم إِلا هو، على أن الله تعالى أهلك أُمماً من العرب وغيرها، فانقطعت أخبارهم، وعفَت آثارهم، فليس يعلمهم أحد إِلا الله. قوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ فيه سبعة أقوال: أحدها: أنهم عضُّوا أصابعهم غيظاً، قاله ابن مسعود، وابن زيد. وقال ابن قتيبة: «في» ها هنا بمعنى: «إِلى» ، ومعنى الكلام: عضُّوا عليها حَنَقاً وغيظا، كما قال الشاعر «2» :

_ (1) سورة الأعراف: 167. (2) هذا صدر بيت، لم أجد من نسبه لقائل، وهو في «تفسير القرطبي» 9/ 346: تردّون في فيه غش الحسود ... حتى يعضّ عليّ الأكفا

يَرُدُّون في فيه عَشْرَ الحَسودِ يعني: أنهم يغيظون الحسود حتى يَعَضَّ على أصابعه العشر، ونحوه قول الهذلي: قَدَ افْنَى أَنامِلَه أَزْمُهُ ... فأضحى يَعَضُّ عَلَيَّ الوَظِيفا «1» يقول: قد أكل أصابعه حتى أفناها بالعضِّ، فأضحى يعضُّ عليَّ وظيف الذّراع. والثاني: أنهم كانوا إِذا جاءهم الرسول فقال: إِني رسول، قالوا له: اسكت، وأشاروا بأصابعهم إِلى أفواه أنفسهم، رَدَّاً عليه وتكذيباً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم لما سمعوا كتاب الله، عجّوا ورجعوا بأيديهم إِلى أفواههم، رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: أنهم وضعوا أيديَهم على أفواه الرسل. ردَّاً لقولهم، قاله الحسن. والخامس: أنهم كذَّبوهم بأفواههم، وردُّوا عليهم قولهم، قاله مجاهد، وقتادة. والسادس: أنه مَثَلٌ، ومعناه: أنهم كَفُّوا عما أُمروا بقبوله من الحق، ولم يؤمنوا به. يقال: رَدَّ فلان يده إِلى فمه، أي: أمسك فلم يُجِب، قاله أبو عبيدة. والسابع: رَدُّوا ما لَوْ قبلوه لكان نِعَماً وأياديَ من الله، فتكون الأيدي بمعنى: الأيادي، و «في» بمعنى: الباء، والمعنى: رَدُّوا الأياديَ بأفواههم، ذكره الفراء، وقال: قد وجدنا مِن العرب مَن يجعل «في» موضعَ الباء، فيقول: أدخلك الله بالجنة، يريد: في الجنة، وأنشدني بعضهم: وأَرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورهطِهِ ... ولكنَّني عن سَنْبَسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ فقال: أرغب فيها، يعني: بنتاً له، يريد: أرغب بها، وسَنْبَسُ: قبيلة. قوله تعالى: وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي: على زعمكم أنكم أُرسلتم، لا أنهم أقرُّوا بإرسالهم. وباقي الآية قد سبق «2» تفسيره. قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ هذا استفهام إِنكار، والمعنى: لا شك في الله، أي: في توحيده يَدْعُوكُمْ بالرّسل والكتاب لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ قال أبو عبيدة: «من» زائدة، كقوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ، قال أبو ذؤيب: جَزَيْتُكِ ضِعْفَ الحُبِّ لمَّا شَكَوتِهِ ... وما إِن جزاكِ الضِّعْفَ مِن أَحَدٍ قبلي أي: أحد. وقوله تعالى: وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو الموت، والمعنى: لا يعاجلكم بالعذاب. قالُوا للرسل إِنْ أَنْتُمْ أي: ما أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي: ليس لكم علينا فضل، والسلطان: الحُجَّة. قالت الرسل: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فاعترفوا لهم بذلك، وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ يعنون: بالنبوَّة والرسالة، وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: ليس ذلك من قِبَل أنفسنا. قوله تعالى: وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا فيه قولان: أحدهما: بيَّن لنا رشدنا. والثاني: عرَّفنا طريق التوكل. وإِنما نصّ هذا وأمثاله على نبيّنا صلى الله عليه وسلم ليقتديَ بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم. قوله تعالى: لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ يعني: الكافرين بالرّسل. وقوله: مِنْ بَعْدِهِمْ أي: بعد هلاكهم. ذلِكَ الإِسكان لِمَنْ خافَ مَقامِي قال ابن عباس: خاف مُقامه بين يديَّ. قال الفراء: العرب قد

_ (1) في «القاموس» الأزم: القطع بالناب وبالسكين، وأزم: عض بالفم كله شديدا. (2) سورة هود: 62.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 15 إلى 17]

تضيف أفعالها إِلى أنفسها، وإِلى ما أُوقِعَتْ عليه، فتقول: قد ندمت على ضربي إِياك، وندمت على ضربك، فهذا من ذاك، ومِثْله وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ «1» أي: رزقي إيّاكم. وقوله تعالى: وَخافَ وَعِيدِ أثبت ياء «وعيدي» في الحالين يعقوب، وتابعه ورش في الوصل. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 15 الى 17] وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) قوله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا يعني: استنصروا. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وحميد، وابن مُحَيصن: «واستفتِحوا» بكسر التاء على الأمر. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم الرسل، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنهم الكفار، واستفتاحهم: سؤالهم العذاب، كقولهم: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا «2» وقولهم: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «3» ، هذا قول ابن زيد. قوله تعالى: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ قال ابن السائب: خسر عند الدعاء، وقال مقاتل: خسر عند نزول العذاب، وقال أبو سليمان الدمشقي: يئس من الإِجابة. وقد شرحنا معنى الجبّار والعنيد في سورة (هود) «4» . قوله تعالى: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى القُدَّام، قال ابن عباس، يريد: أمامه جهنم. وقال أبو عبيدة: «من ورائه» أي: قدّامه، يقال: الموت من ورائك، وأنشد «5» : أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَان سَمْعي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمي تَمِيمٌ وَالْفَلاَةُ وَرَائِيَا والثاني: أنها بمعنى: «بَعْد» ، قال ابن الأنباري: «من ورائه» أي: من بعد يأسه، فدلَّ «خاب» على اليأس، فكنى عنه، وحملت «وراء» على معنى: «بَعْد» كما قال النابغة: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ للمرءِ مَذْهَبُ أراد: ليس بَعْد الله مَذهب. قال الزجاج: والوراء يكون بمعنى الخَلْف والقُدَّام، لأن ما بين يديك وما قُدَّامك إِذا توارى عنك فقد صار وراءك، قال الشاعر «6» : أَلَيْسَ وَرَائَي إِن تَرَاخَتْ مَنِيتَّي ... لُزُومُ العَصَا تُحنَى عليها الأَصَابِع قال: وليس الوراء من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة. وسئل ثعلب: لم قيل: الوراء للأمام؟ فقال: الوراء: اسم لما توارى عن عينك، سواء أكان أمامك أو خلفك. وقال الفراء: إِنما يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدهر، تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد. ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك: هو وراءك، ولا للرجُل وراءك: هو بين يديك. قوله تعالى: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ قال عكرمة، ومجاهد، واللغويون: الصديد: القيح والدّم،

_ (1) سورة الواقعة: 82. (2) سورة ص: 16. (3) سورة الأنفال: 32. (4) سورة هود: 59. (5) ذكره ابن منظور في «اللسان» ، مادة «وري» ، ونسبه إلى سوّار بن المضرّب. (6) ذكره ابن منظور في «اللسان» ، مادة «وري» ، ونسبه إلى لبيد.

[سورة إبراهيم (14) : آية 18]

قاله قتادة، وهو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه. وقال القرظي: هو غُسالة أهل النار، وذلك ما يسيل من فروج الزناة. وقال ابن قتيبة: المعنى: يُسقى الصديدَ مكانَ الماء، قال: ويجوز أن يكون على التشبيه، أي: ما يُسقَى ماءٌ كأنه صديد. قوله تعالى: يَتَجَرَّعُهُ والتجرع: تناول المشروب جُرعة جُرعة، لا في مرة واحدة، وذلك لشدة كراهته له، وإنما يكره على شربه. قوله تعالى: وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ قال الزجاج: لا يقدر على ابتلاعه، تقول: ساغ لي الشيء، وأسغته. (838) وروى أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يُقرَّب إِليه فيكرهه، فإذا أُدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطَّع أمعاءه حتى يخرج من دبره» . قوله تعالى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أي: همُّ الموت وكربه وألمه مِنْ كُلِّ مَكانٍ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: من كل شعرة في جسده، رواه عطاء عن ابن عباس. وقال سفيان الثوري: من كل عِرْق. وقال ابن جريج: تتعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فتموت ولا ترجع إِلى مكانها فتجد راحة. والثاني: من كل جهة، من فوقه وتحته وعن يمينه وشماله وخلفه وقُدَّامه، قاله ابن عباس أيضاً. والثالث: أنها البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتاً، قاله الأخفش. قوله تعالى: وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أي: موتاً تنقطع معه الحياة. وَمِنْ وَرائِهِ أي: من بعد هذا العذاب. قال ابن السائب: من بعد الصديد عَذابٌ غَلِيظٌ. وقال إِبراهيم التيمي: بعد الخلود في النار. والغليظ: الشديد. [سورة إبراهيم (14) : آية 18] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ قال الفراء: أضاف المَثَل إِليهم، وإِنما المثل للأعمال، فالمعنى: مَثَل أعمال الذين كفروا. ومِثلُه: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «1» أي: ترى وجوههم. وجعل العُصُوف تابعاً لليوم في إِعرابه، وإِنما العُصُوف للريح، وذلك جائز على جهتين:

_ حديث حسن، أو يقرب من الحسن بمجموع طرقه وشواهده، أخرجه الترمذي 2583 والنسائي في «التفسير» 283، وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» 314، وأحمد 5/ 265 والحاكم 1/ 351، والطبري 20632، والبيهقي في «البعث» 602، رووه من طرق عن ابن المبارك به، وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي! وهو ضعيف لضعف ابن بسر. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وهكذا قال البخاري عن عبيد الله بن بسر، ولا نعرف عبيد الله بن بسر إلا في هذا الحديث. وله شاهد من حديث أبي سعيد، أخرجه أحمد 3/ 70، وابن حبان 3473، وإسناده ضعيف، لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم. وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه البيهقي في «البعث 579، وفيه دراج، لكن رواه عن غير أبي الهيثم، فالإسناد لا بأس به. الخلاصة: هذا الحديث بشواهده يصير حسنا، أو قريبا من الحسن، والآية تشهد لبعضه، وهناك آيات تشهد لبعضه الآخر، والحديث في الترهيب، ومذهب ابن المبارك وأحمد وغيرهما التساهل في هذا الباب، والله أعلم.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 إلى 20]

إِحداهما: أن العصوف، وإِن كان للريح، فإن اليوم يوصف به، لأن الريح فيه تكون، فجاز أن تقول: يوم عاصف، كما تقول: يوم بارد، ويوم حار. والوجه الآخر: أن تريد: في يومٍ عاصفِ الريح، فتحذف الريح، لأنها قد ذكرت في أول الكلام قال الشاعر: وتضحك عِرفانُ الدُّرُوْعِ جُلودَنا ... إِذا كانَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كَاسِفُ يريد: كاسف الشمس. وروي عن سيبويه أنه قال: في هذه الآية إِضمار، والمعنى: وممّا نقصُّ عليك مَثَل الذين كفروا، ثم ابتدأ فقال: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ. وقرأ النخعي، وابن يعمر، والجُحدري: «في يومِ عاصفٍ» بغير تنوين اليوم. قال المفسرون: ومعنى الآية: أن كل ما يتقرَّب به المشركون يَحْبَط ولا ينتفعون به، كالرماد الذي سَفَتْه الريح فلا يُقدَر على شيء منه، فهم لا يقدرون مما كسبوا في الدنيا على شيء في الآخرة، أي: لا يجدون ثوابه، ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ من النجاة. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: ألم تُخْبَر، قاله ابن السائب. والثاني: ألم تعلم، قاله مقاتل، وأبو عبيدة. قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ قال المفسرون: أي: لم يخلقهن عبثاً، وإِنما خلقهن لأمر عظيم. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ قال ابن عباس: يريد: يميتكم يا معشر الكفار ويخلق قوماً غيركم خيراً منكم وأطوع، وهذا خطاب لأهل مكة. قوله تعالى: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي: بممتنع متعذّر. [سورة إبراهيم (14) : آية 21] وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) قوله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً لفظه لفظ الماضي، ومعناه المستقبل، والمعنى: خرجوا من قبورهم يوم البعث، واجتمع التابع والمتبوع، فَقالَ الضُّعَفاءُ وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم المتبوعون: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً قال الزجاج: هو جمع تابع، يقال: تابِع وتَبَع، مِثْل: غائب وغَيَب، والمعنى: تبعناكم فيما دعوتمونا إِليه. قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا أي: دافعون عنا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. قال القتادة: لَوْ هَدانَا اللَّهُ أي: لو أرشدنا في الدنيا لأرشدناكم، يريدون: أن الله أضلَّنا فدَعوناكم إِلى الضلال، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا قال ابن زيد: إِن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالوا نبكي ونتضرّع، فإنما أدرك أهلُ الجنة الجنةَ ببكائهم وتضرُّعهم، فَبَكَوْا وتضرعوا، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم، قالوا: تعالَوْا نصبر، فانما أدرك أهل الجنة بالصبر، فصبروا صبراً لم يُرَ مثلُه قط، فلم ينفعهم ذلك، فعندها قالوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم قال: جَزِعوا مائة سنة، وصبروا مائة سنة. وقال مقاتل: جزعوا خمسمائة عام، وصبروا خمسمائة عام. وقد

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 22 إلى 23]

شرحنا معنى المحيص في سورة النّساء «1» . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 22 الى 23] وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) قوله تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ قال المفسرون: يعني به إِبليس، لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي: فُرغ منه، فدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فحينئذ يجتمع أهل النار باللَّوم على إِبليس، فيقوم فيما بينهم خطيباً ويقول: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ أي: وعدكم كَوْن هذا اليوم فَصَدَقكم وَوَعَدْتُكُمْ أنه لا يكون فَأَخْلَفْتُكُمْ الوعد وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي: ما أظهرت لكم حُجَّةً على ما ادَّعيت. وقال بعضهم: ما كنت أملككم فأُكرهكم إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ وهذا من الاستثناء المنقطع، والمعنى: لكن دعوتكم فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أجبتموني من غير برهان، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي: بمغيثكم وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ أي: بمغيثيَّ. قرأ حمزة «بمُصرِخيِّ» فحرك الياء إِلى الكسر، وحرَّكها الباقون إِلى الفتح. قال قُطرب: هي لغة في بني يربوع يعني: قراءة حمزة. قال اللغويون: يقال: استصرخني فلان فأصرخته، أي: استغاثني فأغثته. إِنِّي كَفَرْتُ اليوم بإشراككم إِياي في الدنيا مع الله في الطاعة، إِنَّ الظَّالِمِينَ يعني: المشركين. قوله تعالى: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي: بأمر ربهم. وقوله: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ قد ذكرناه في سورة يونس «2» . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 25] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، قال المفسرون: ألم تر بعين قلبك كيف ضرب الله مثلاً أي: بيَّن شَبَهاً، كَلِمَةً طَيِّبَةً قال ابن عباس: هي شهادة أن لا إِله إِلا الله. كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أي: طيبة الثمرة، فترك ذكر الثمرة اكتفاء بدلالة الكلام عليه. وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها النخلة. (839) وهو في (الصحيحين) من حديث ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد رواه سعيد بن جبير عن

_ صحيح. أخرجه البخاري 61 ومسلم 2811، والترمذي 2867، وأحمد 2/ 61 و 157 و 2/ 31 و 2/ 12 و 115، والحميدي 676، وابن مندة في «الإيمان» 190، وابن حبان 246 و 243 و 244. واللفظ عند البخاري: عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم، حدّثوني ما هي؟» قال: فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة. ثم قالوا: حدّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: «هي النخلة» .

ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وأنس بن مالك، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك في آخرين. والثاني: أنها شجرة في الجنة، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والثالث: أنها المؤمن، وأصله الثابت أنه يعمل في الأرض ويبلغ عمله السماء. وقوله عزّ وجلّ: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ فالمؤمن يذكر الله كلّ ساعة من النهار، ورواه عطية عن ابن عباس. قوله تعالى: أَصْلُها ثابِتٌ أي: في الأرض، وَفَرْعُها أعلاها عالٍ فِي السَّماءِ أي: نحو السماء، وأُكُلُها: ثمرها. وفي الحين ها هنا ستة أقوال «1» : أحدها: أنه ثمانية أشهر، قاله علي عليه السلام. والثاني: ستة أشهر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، وقتادة. والثالث: أنه بُكْرة وعشية، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والرابع: أنه السنة، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مجاهد، وابن زيد. والخامس: أنه شهران، قاله سعيد بن المسيب. والسادس: أنه غُدوة وعشية وكلّ ساعة، قاله ابن جرير. فمن قال: ثمانية أشهر، أشار إِلى مدَّة حملها باطناً وظاهراً، ومن قال: ستة أشهر، فهي مدة حملها إِلى حين صِرامها، ومن قال: بُكرة وعشية، أشار إِلى الاجتناء منها، ومن قال: سنة، أشار إِلى أنها لا تحمل في السنة إِلاَّ مَرَّة، ومن قال: شهران، فهو مدة صلاحها. قال ابن المسيب: لا يكون في النخلة أكُلُها إِلا شهرين. ومن قال: كل ساعة، أشار إِلى أن ثمرتها تؤكل دائماً. قال قتادة: تؤكل ثمرتها في الشتاء والصّيف. وقال ابن جرير: الطلع في الشتاء من أُكلها، والبلح والبُسر والرطب والتمر في الصيف. فأما الحكمة في تمثيل الإِيمان بالنخلة، فمن أوجه: أحدها: أنها شديدة الثبوت، فشبِّه ثبات الإِيمان في قلب المؤمن بثباتها. والثاني: أنها شديدة الارتفاع، فشُبِّه ارتفاع عمل المؤمن بارتفاع فروعها. والثالث: أنّ ثمرتها تأتي في كل حين، فشُبِّه ما يكسب المؤمن من بركة الإِيمان وثوابه في كل وقت بثمرتها المجتناة في كل حين على اختلاف صنوفها، فالمؤمن كلما قال: لا إِله إِلا الله، صَعِدَتْ إِلى السماءِ، ثم جاءه خيرها ومنفعتها. والرابع: أنها أشبهُ الشجر بالإِنسان، فإن كل شجرة يقطع رأسها تتشعب غصونها من جوانبها، إِلا هي، إِذا قُطع رأسها يبست، ولأنها لا تحمل حتى تلقَّح، ولأنها فضلة تربة آدم عليه السلام فيما يروى «2» .

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 443: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بالحين في ذلك الموضع غدوة وعشية كل ساعة، لأن الله تعالى ذكره، ضرب ما تؤتي هذه الشجرة كل حين من الأكل لعمل المؤمن وكلامه مثلا، ولا شك أن المؤمن يرفع له إلى الله في كل يوم صالح من العمل والقول لا في كل سنة أو في كل ستة أشهر أو في كل شهرين فإذا كان ذلك كذلك فلا شك أن المثل لا يكون خلافا للممثّل به في المعنى، وإذا كان ذلك كذلك كان بينا صحة ما قلنا. فإن قال قائل: فأي نخلة تؤتي أكلها في كل وقت أكلا صيفا أو شتاء؟ قيل: أما في الشتاء فإن الطلع من أكلها، وأما في الصيف فالبلح والبسر والرّطب والتمر. وذلك كله من أكلها. (2) يشير المصنف لحديث علي رضي الله عنه، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة آدم، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران، فأطعموا نساءكم الولّد الرطب فإن لم يكن رطبا فتمرا» . وهو ضعيف جدا. أخرجه أبو يعلى 455، وابن حبان في «المجروحين» 3/ 44، وابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 184، وأبو نعيم في «الحلية» 6/ 123. وفي إسناده مسرور بن سعيد. قال ابن الجوزي: لا يصح، مسرور بن سعيد منكر الحديث.

[سورة إبراهيم (14) : آية 26]

[سورة إبراهيم (14) : آية 26] وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) قوله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ قال ابن عباس: هي الشّرك. وقوله عزّ وجلّ: كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ فيها خمسة أقوال: أحدها: (840) أنها الحنظلة، رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال أنس، ومجاهد «1» . والثاني: أنها الكافر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وروى العوفي عنه أنه قال: الكافر لا يُقبل عمله، ولا يصعد إِلى الله تعالى، فليس له أصل في الأرض ثابت، ولا فرع في السماء. والثالث: أنها الكَشُوثَى «2» ، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: أنه مَثَل، وليست بشجرة مخلوقة، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والخامس: أنها الثوم، روي عن ابن عباس أيضاً. قوله تعالى: اجْتُثَّتْ قال ابن قتيبة: استُؤصلت وقُطعت. قال الزجاج: ومعنى اجتثّ الشيء في اللغة: أخذت جُثته بكمالها. وفي قوله تعالى: ما لَها مِنْ قَرارٍ قولان: أحدهما: مالها من أصل، لم تَضرِب في الأرض عِرقاً. والثاني: مالها من ثبات. ومعنى تشبيه الكافر بهذه الشجرة أنه لا يصعد للكافر عمل صالح، ولا قول طيّب، ولا لقوله أصل ثابت. [سورة إبراهيم (14) : آية 27] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي: يثبتهم على الحق بالقول الثابت، وهو شهادة أن لا إِله إِلا الله. قوله تعالى: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ فيه قولان: أحدهما: أن الحياة الدنيا: زمان الحياة على وجه الأرض، والآخرةُ: زمان المساءلة في القبر، وإِلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب، وفيه أحاديث تعضده. والثاني: أن الحياة الدنيا: زمن السؤال في القبر، والآخرةُ: السؤال في القيامة، وإلى هذا المعنى ذهب طاوس، وقتادة.

_ أخرجه الترمذي 3119 والنسائي في «الكبرى» 11262، و «التفسير» 282، وأبو يعلى 4165، والحاكم 2/ 352، والطبري 20669 و 20670 عن حماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس مرفوعا. وإسناده صحيح، حماد من رجال مسلم، وشيخه روى له الشيخان، لكن أعله الترمذي بالوقف حيث قال: وروى غير واحد مثل هذا موقوفا، ولا نعلم أحدا رفعه غير حماد بن سلمة، ورواه معمر وحماد بن زيد وغير واحد فلم يرفعوه. وأخرجه الطبري 20668 من طريق ابن علية و 20672 من طريق مهدي بن ميمون كلاهما عن شعيب به موقوفا. انظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1308 بتخريجنا.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 إلى 29]

قال المفسرون: هذه الآية وردت في فتنة القبر، وسؤال الملَكين، وتلقين الله تعالى للمؤمنين كلمة الحقّ عند السؤال، وتثبيته إيّاهم على الحق «1» . وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعنى: المشركين، يضلهم عن هذه الكلمة، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من هداية المؤمن وإضلال الكافر. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 29] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً في المشار إِليهم سبعة أقوال «2» : أحدها: أنهم الأفجران من قريش: بنو أمية، وبنو المغيرة، روي عن عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب. والثاني: أنهم منافقو قريش، رواه أبو الطُّفيل عن علي. والثالث: بنو أمية، وبنو المغيرة، ورؤساء أهل بدر الذين ساقوا أهل بدر إِلى بدر، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أهل مكة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والخامس: المشركون من أهل بدر، قاله مجاهد، وابن زيد. والسادس: أنهم الذين قُتلوا ببدر من كفار قريش، قاله سعيد بن جبير، وأبو مالك. والسابع: أنها عامة في جميع المشركين، قاله الحسن. قال المفسرون: وتبديلهم نعمة الله كفراً، أن الله أنعم عليهم برسوله، وأسكنهم حَرَمه، فكفروا بالله وبرسوله، ودعَوْا قومهم إلى الكفر به، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ أي: الهلاك. ثم فسّر الدّار بقوله تعالى: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي: يقاسون حَرَّها وَبِئْسَ الْقَرارُ أي: بئس المقرّ هي. [سورة إبراهيم (14) : آية 30] وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً قد بينَّاه في سورة البقرة «3» ، واللام في «ليَضِلُّوا» لام العاقبة، وقد سبق شرحها «4» ، ومن قرأ «لِيُضِلوا» بضم الياء، أراد: ليُضِلُّوا الناس عن دين الله. قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا أي: في حياتكم الدنيا، وهذا وعيد لهم. قال ابن عباس: لو كان الكافر مريضاً لا ينام، جائعاً لا يأكل ولا يشرب، لكان هذا نعيماً يتمتع به بالقياس إِلى ما يصير إِليه من العذاب، ولو كان المؤمن في أنعم عيش لكان بؤساً عند ما يصير إليه من نعيم الآخرة.

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 451: والصواب من القول في ذلك ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهو أن معناه يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وذلك تثبيته إياهم في الحياة الدنيا بالإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وَفِي الْآخِرَةِ بمثل الذي ثبّتهم به في الحياة الدنيا، وذلك في قبورهم حين يسألون عن الذي هم عليه من التوحيد والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم. (2) انظر «تفسير ابن كثير» 2/ 664. (3) سورة البقرة: 22. (4) سورة يونس: 88.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 31 إلى 36]

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 31 الى 36] قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) قوله تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا أسكن ابن عامر، وحمزة، والكسائي ياء «عبادي» . قوله تعالى: يُقِيمُوا الصَّلاةَ قال ابن الأنباري: معناه: قل لعبادي: أقيموا الصلاة وأنفِقوا، يقيموا وينفقوا، فحُذف الأمران، وتُرك الجوابان، قال الشاعر: فأيّ امرئ أنت أيّ امرئ ... إِذا قِيْلَ في الحَرْبِ من يُقْدِمُ أراد: إِذا قيل: من يُقدم تُقْدِمُ. ويجوز أن يكون المعنى: قل لعبادي أقيموا الصلاة، وأنفقوا، فصُرف عن لفظ الأمر إِلى لفظ الخبر. ويجوز أن يكون المعنى: قل لهم ليُقيموا الصلاة، وليُنفقوا، فحذف لام الأمر، لدلالة «قل» عليها. قال ابن قتيبة: والخِلال مصدر خالَلْت فلاناً خلالاً ومُخالَّة، والاسم الخُلَّة، وهي الصداقة. قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ أي: ذلَّلها، تجري حيث تريدون، وتركبون فيها حيث تشاؤون. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما دائِبَيْنِ في إِصلاح ما يُصلحانه من النبات وغيره، لا يفتران. ومعنى الدؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ لتسكنوا فيه، راحة لأبدانكم، وَالنَّهارَ لتنتفعوا بمعاشكم، وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وفيه خمسة أقوال: أحدها: أن المعنى: من كل الذي سألتموه، قاله الحسن وعكرمة. والثاني: من كلّ ما سألتموه لو سألتموه، قاله الفراء. والثالث: وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا، فأضمر الشيء، كقوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «1» أي، من كل شيء في زمانها شيئاً، قاله الأخفش. والرابع: من كل ما سألتموه وما لم تسأله لأنكم لم تسألوا شمساً ولا قمراً ولا كثيرا من النّعم التي ابتدأكم بها، فاكتفي بالأول من الثاني، كقوله عزّ وجلّ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» ، قاله ابن الأنباري. والخامس: على قراءة ابن مسعود، وأبي رزين والحسن وعكرمة وقتادة وأبان عن عاصم وأبي حاتم عن يعقوب: «من كلٍّ ما» بالتنوين من غير إِضافة، فالمعنى: آتاكم من كُلٍّ ما لم تسألوه، قاله قتادة والضحاك. قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ أي: إِنعامه لا تُحْصُوها لا تُطيقوا الإِتيان على جميعها بالعَدِّ لكثرتها. إِنَّ الْإِنْسانَ قاله ابن عباس: يريد أبا جهل. وقال الزجاج: الإِنسان اسم للجنس يُقصَد به الكافر خاصة. وقوله تعالى: لَظَلُومٌ كَفَّارٌ الظَّلوم هاهنا: الشاكرُ غيرَ مَن أنعم عليه، والكَفَّار: الجحود لنِعم الله تعالى.

_ (1) سورة النمل: 23. (2) سورة النحل: 81.

[سورة إبراهيم (14) : آية 37]

قوله تعالى: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً قد سبق تفسيره في سورة البقرة «1» . قوله تعالى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أي: جنِّبني وإِياهم، والمعنى: ثبِّتني على اجتناب عبادتها. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعني: الأصنام، وهي لا توصَف بالإِضلال ولا بالفعل، ولكنهم لما ضلّوا بسببها، كانت كأنها أضلَّتهم. فَمَنْ تَبِعَنِي أي: على ديني التوحيد فَإِنَّهُ مِنِّي أي: فهو على مِلَّتي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ومن عصاني ثم تاب فانك غفور رحيم، قاله السدي. والثاني: ومن عصاني فيما دون الشرك، قاله مقاتل بن حيان. والثالث: ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إِلى التوحيد، قاله مقاتل بن سليمان. وقال ابن الأنباري: يحتمل أن يكون دعا بهذا قبل أن يُعلِمه الله تعالى أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبيه. [سورة إبراهيم (14) : آية 37] رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) قوله تعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي في «مِنْ» قولان: أحدهما: أنها للتبعيض، قاله الأخفش، والفراء. والثاني: أنها للتوكيد، والمعنى: أسكنت ذريتي، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ يعني: مكة، ولم يكن فيها حرث ولا ماء. عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ إِنما سمي محرَّماً، لأنه يحرم استحلال حرماته والاستخفاف بحقه. فإن قيل: ما وجه قوله: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ولم يكن هناك بيت حينئذ، إِنما بناه إِبراهيم بعد ذلك بمُدَّة؟ فالجواب من ثلاثة وجوه: أحدها: أن الله تعالى حرّم موضع البيت منذ خلق السّماوات والأرض، قاله ابن السائب. والثاني: عند بيتك الذي كان قبل أن يُرفَع أيام الطوفان. والثالث: عند بيتك الذي قد جرى في سابق علمك أنه يحدث هاهنا، ذكرهما ابن جرير «2» . وكان أبو سليمان الدمشقي يقول: ظاهر الكلام يدل على أن هذا الدعاء إِنما كان بعد أن بُني البيت وصارت مكة بلداً. والمفسرون على خلاف ما قال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن إِبراهيم خرج من الشام ومعه ابنه إِسماعيل وأمّه هاجر ومعه جبريل حتى قدم مكة وبها ناس يقال لهم: العماليق، خارجاً من مكة، والبيت يومئذ ربوة حمراء، فقال إِبراهيم لجبريل: أهاهنا أُمرتُ أن أضعهما؟ قال: نعم فأنزلهما في مكانٍ من الحِجر، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشاً، ثم قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي الآية وفتح أهل الحجاز، وأبو عمرو ياء «إِنيَ أسكنت» . قوله تعالى: لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ في متعلَّق هذه اللام قولان: أحدهما: أنها تتعلّق بقوله تعالى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، فالمعنى: جنَبهم الأصنام ليُقيموا الصلاة، هذا قول مقاتل. والثاني: أنها تتعلّق بقوله تعالى: أَسْكَنْتُ، فالمعنى: أسكنتُهم عند بيتك ليُقيموا الصلاة، لأن البيت قِبلة الصلوات، ذكره الماوردي. قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ، فيه قولان: أحدهما: أنها القلوب، قاله الأكثرون. قال ابن الأنباري: وإِنما عبَّر عن القلوب بالأفئدة، لقرب القلب من الفؤاد

_ (1) سورة البقرة: 126. (2) انظر «تفسير الطبري» 7/ 465.

[سورة إبراهيم (14) : آية 38]

ومجاورته، قال امرؤ القيس: رَمَتْني بَسَهْمٍ أَصَابَ الفُؤَادَ ... غَدَاةَ الرَّحِيلِ فَلَمْ أَنْتَصِر وقال آخر: كَأَنَّ فُؤادِي كُلمَّا مَرَّ رَاكِبٌ ... جَنَاحُ غُرَابٍ رَامَ نَهْضَاً إِلى وِكْرِ وقال آخر: وإِنَّ فُؤَادَاً قَادَني لِصَبَابَةٍ ... إِلَيْكِ عَلَى طُوْلِ الهَوى لصبور يعنون بالفؤاد: القلب. والقول الثاني: أنّ المراد بالأفئدة الجماعة من الناس. قاله الزّجّاج. قوله تعالى: تَهْوِي إِلَيْهِمْ قال ابن عباس: تَحِنُّ إِليهم. وقال قتادة: تنزع إِليهم. وقال الفراء: تريدهم، كما تقول: رأيت فلاناً يَهوي نحوك، أي: يريدك. وقرأ بعضهم: «تهوَى إِليهم» بمعنى: تهواهم، كقوله: رَدِفَ لَكُمْ «1» ، أي: ردفكم. و «إلى» توكيد للكلام. وقال ابن الأنباري: «تهوي» : تنحط إِليهم وتنحدر. وفي معنى هذا المَيل قولان: أحدهما: أنه المَيل إِلى الحج، قاله الأكثرون. والثاني: أنه حُبُّ سُكنى مكة، رواه عطيّة عن ابن عباس. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لو كان إِبراهيم قال: فاجعل أفئدة الناس تهوي إِليهم، لحجَّه اليهود والنصارى، ولكنه قال: من النّاس. [سورة إبراهيم (14) : آية 38] رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي قال أبو صالح عن ابن عباس: ما نخفي من الوَجد بمفارقة إِسماعيل، وما نعلن من الحُبِّ له. قال المفسرون: إِنما قال هذا لمّا نزل إِسماعيل الحرم، وأراد فراقه. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 39 الى 40] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي: بعد الكبر إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ قال ابن عباس: وُلد له إِسماعيلُ وهو ابن تسع وتسعين، ووُلد له إِسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. قوله تعالى: رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وهبيرة عن حفص عن عاصم: «وتقبَّل دعائي» بياء في الوصل. وقال البزي عن ابن كثير: يصل ويقف بياء. وقال قنبل عن ابن كثير: يُشِمُّ الياء في الوصل، ولا يثبتها، ويقف عليها بالألف. الباقون «دعاءِ» بغير ياء في الحالين. قال أبو علي: الوقف والوصل بياء هو القياس، والإِشمام جائز، لدلالة الكسرة على الياء. [سورة إبراهيم (14) : آية 41] رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) قوله تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قال ابن الأنباري: استغفرَ لأبويه وهما حيّان، طمعاً في أن يُهْدَيا إِلى الإِسلام. وقيل: أراد بوالديه: آدم، وحواء. وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ، والنخعي، والزهري: «ولِولَديَّ» يعني: إِسماعيل وإِسحاق، يدل عليه ذِكرُهما قبل ذلك. وقرأ مجاهد: «ولوالِدِي» على

_ (1) سورة النمل: 72.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 إلى 43]

التوحيد. وقرأ عاصم الجُحدري: «ولِوُلْدي» بضم الواو. وقرأ يحيى بن يعمر، والجَوني: «ولِوَلَدِي» بفتح الواو وكسر الدال على التوحيد. يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي: يَظهر الجزاء على الأعمال. وقيل: معناه: يوم يقوم الناس للحساب.، فاكتُفي بذِكر الحساب من ذِكر الناس إِذ كان المعنى مفهوما. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 43] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس: هذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم. قوله تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، وقتادة: «نؤخِّرهم» بالنون، أي: يؤخر جزاءهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي: تشخص أبصار الخلائق لظهور الأحوال فلا تغتمض. قوله تعالى: مُهْطِعِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الإِهطاع: النظر من غير أن يَطْرِف الناظر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك، وأبو الضُّحى. والثاني: أنه الإِسراع، قاله الحسن، وسعيد بن جُبير، وقتادة، وأبو عبيدة. وقال ابن قتيبة: يقال: أهطع البعير في سيره، واستهطع: إِذا أسرع. وفي ما أسرعوا إِليه قولان: أحدهما: إِلى الداعي، قاله قتادة. والثاني: إِلى النار، قاله مقاتل. والثالث: أن المُهطع: الذي لا يرفع رأسه، قاله ابن زيد. وفي قوله تعالى: مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ قولان: أحدهما: رافعي رؤوسهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وأبو عبيدة، وأنشد أبو عبيدة: أَنْغَضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وأَقْنَعَا ... كَأَنَمَّا أَبْصَرَ شَيْئَاً أَطْمَعَا «1» وقال ابن قتيبة: المقنع رأسه: الذي رفعه وأقبل بطرْفه على ما بين يديه. وقال الزّجّاج: رافعي رؤوسهم، ملتصقة بأعناقهم. و «مهطعين مقنعي رؤوسهم» نصبٌ على الحال، المعنى: ليوم تشخص فيه أبصارهم مهطعين. والثاني: ناكسي رؤوسِهم، حكاه الماوردي عن المؤرِّج. قوله تعالى: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي: لا ترجع إِليهم أبصارهم من شدة النظر، فهي شاخصة. قال ابن قتيبة: والمعنى: أن نظرهم إِلى شيء واحد، وقال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إِلى السماء، لا ينظر أحد إِلى أحد. قوله تعالى: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ الأفئدة: مساكن القلوب. وفي معنى الكلام أربعة أقوال: أحدها: أن القلوب خرجت من مواضعها فصارت في الحناجر، رواه عطاء عن ابن عباس. وقال قتادة: خرجت من صدورهم فنَشِبَت في حلوقهم، فأفئدتهم هواءٌ ليس فيها شيء. والثاني: وأفئدتهم ليس فيها شيء من الخير، فهي كالخِرْبة، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: وأفئدتهم مُنخرِقة لا تعي شيئاً، قاله مُرَّة بن شراحيل. وقال الزجاج: متخرّقة لا تعي

_ (1) في «القاموس» أنغض: حرّك، والنّغض: من يحرك رأسه، ويرجف في مشيته. [.....]

[سورة إبراهيم (14) : آية 44]

شيئاً من الخوف. والرابع: وأفئدتهم جُوْف لا عقول لها، قاله أبو عبيدة، وأنشد لحسَّان: أَلاَ أَبْلِغْ أُبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ فعلى هذا يكون المعنى: أن قلوبهم خلت عن العقول لمِا رأوا من الهول، والعرب تسمي كلَّ أجوَفَ خاوٍ هواءً. قال ابن قتيبة: ويقال: أفئدتهم منخوبة من الخوف والجبن. [سورة إبراهيم (14) : آية 44] وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) قوله تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ أي: خوِّفهم يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ يعني به يوم القيامة وإِنما خصه بذِكر العذاب، وإِن كان فيه ثواب، لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعُصاة. قال ابن عباس: يريد بالناس هاهنا: أهل مكة. قوله تعالى: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي: أمهلنا مُدَّة يسيرة. وقال مقاتل: سألوا الرجوع إِلى الدنيا، لأن الخروج من الدنيا قريب. نُجِبْ دَعْوَتَكَ يعني: التوحيد، فيقال لهم: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي: حلفتم في الدنيا أنكم لا تُبعَثُون ولا تنتقلون من الدنيا إلى الآخرة. [سورة إبراهيم (14) : آية 45] وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) قوله تعالى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي: نزلتم في أماكنهم وقُراهم، كالحِجر ومَدين، والقُرى التي عُذِّب أهلها. ومعنى «ظلموا أنفسهم» ضرُّوها بالكفر والمعصية. وَتَبَيَّنَ لَكُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل النّاجي «وتببّن» بضم التاء. كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ يعني: كيف عذَّبناهم، يقول: فكان ينبغي لكم أن تنزجروا عن المخالفة اعتبارا بمساكنهم بعد ما علمتم فِعلنا بهم، وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ قال ابن عباس: يريد الأمثال التي في القرآن. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 46 الى 47] وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) قوله تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ في المشار إِليهم أربعة أقوال: أحدها: أنه نمرود الذي حاجَّ إِبراهيم في ربه، قال: لا أنتهي حتى أنظر إِلى السماء، فأمر بفرخَي نسر فرُبِّيا حتى سمنا واستعلجا، ثم أمر بتابوت فنُحت، ثم جعل في وسطه خشبة، وجعل على رأس الخشبة لحماً شديد الحُمرة، ثم جوَّعهما وربط أرجلهما بأوتار إِلى قوائم التابوت. ودخل هو وصاحب له في التابوت وأغلق بابه، ثم أرسلهما، فجعلا يريدان اللحم، فصَعِدا في السماء ما شاء الله، ثم قال لصاحبه: افتح وانظر ماذا ترى؟ ففتح، فقال: أرى الأرض كأنها الدخان، فقال له: أغلِق، ثم صَعِد ما شاء الله، ثم قال: افتح فانظر، ففتح، فقال: ما أرى إِلا السماء، وما نزداد منها إِلا بُعداً، قال: فصوّب

[سورة إبراهيم (14) : آية 48]

خشبتك، فصوَّبَها، فانقضَّت النسور تريد اللحم، فسمعت الجبال هدَّتها، فكادت تزول عن مراتبها «1» . هذا قول عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وفي رواية عنه: كانت النسور أربعة. وروى السّدّيّ عن أشياخه: أنه ما زال يصعد إِلى أن رأى الأرض يحيط بها بحر، فكأنها فَلْكة في ماءٍ، ثم صَعِدَ حتى وقع في ظُلمة، فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته، ففزع، فصوب اللحم، فانقضَّت النسور، فلما نزل أخذ في بناء الصرح. وروي عن ابن عباس أنه بنى الصرح، ثم صَعِدَ منه مع النسور، فلما لم يقدر على السماء، اتخذه حِصناً، فأتى الله بنيانَه من القواعد. وقال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنُّشَّاب، فرمى بسهم فعاد إِليه ملطَّخاً بالدم، فقال: كُفيتَ إِله السماء، وذلك من دم سمكة في بحر معلَّق في الهواء، فلما هاله الارتفاع، قال لصاحبه: صوِّب الخشبة، فصوَّبَها، فانحطت النسور، فظنت الجبال أنه أمرٌ نزل من السماء فزالت عن مواضعها. وقال غيره: لما رأت الجبال ذلك، ظنت أنه قيام الساعة، فكادت تزول، وإِلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير، وأبو مالك. والقول الثاني: أنه بخت نصّر، وأن هذه القصة له جرت، وأن النسور لما ارتفعت تطلب اللحم إِلى حيث شاء الله، نودي: يا أيها الطاغية، أين تريد؟ ففرِق، ثم سمع الصوت فوقه، فنزل، فلما رأت الجبال ذلك، ظنت أنه قيام الساعة فكادت تزول، وهذا قول مجاهد. والثالث: أن المشار إِليهم الأمم المتقدمة. قال ابن عباس: وعكرمة: مكرهم: شركهم. والرابع: أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم حين همّوا بقتله وإخراجه. وفي قوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ قولان: أحدهما: أنه محفوظ عنده حتى يجازَيهم به، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: وعند الله جزاء مكرهم. قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ وقرأ أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وأُبيّ، وابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية: «وإِن كاد مكرهم» بالدال، لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ وقرأ الأكثرون «لِتزولَ» بكسر اللام الأولى من «لتزول» وفتح الثانية. أراد: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي: هو أضعف وأوهن، كذلك فسرها الحسن البصري. وقرأ الكسائي «لَتزولُ» بفتح اللام الأولى وضم الثانية، أراد: قد كادت الجبال تزول من مكرهم، كذلك فسرها ابن الأنباري. وفي المراد بالجبال قولان: أحدهما: أنها الجبال المعروفة، قاله الجمهور. والثاني: أنها ضربت مثلا لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وثبوتُ دينه كثبوت الجبال الراسية، والمعنى: لو بلغ كيدهم إِلى إِزالة الجبال، لَمَا زال أمر الإِسلام، قاله الزجاج. قال أبو علي: ويدلّ على صحّة هذا قوله عزّ وجلّ: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ أي: فقد وعدك الظهورَ عليهم، قال ابن عباس: يريد بوعده: النصر والفتح وإِظهار الدين. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي: منيع ذُو انتِقامٍ من الكافرين، وهو أن يجازَيهم بالعقوبة على كفرهم. [سورة إبراهيم (14) : آية 48] يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وروى أبان «يوم نبدّل» بالنون وكسر الدال «الأرض»

_ (1) لا يصح هذا وأمثاله عن علي، وإنما مصدر هذه الأخبار كتب الإسرائيليات، وظاهر الآيات يدل على أن المراد بذلك أعداء الرسل في كل قوم، والله أعلم.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 49 إلى 51]

بالنّصب، «والسماوات» بخفض التاء، ولا خلاف في نصب «غير» . وفي معنى تبديل الأرض قولان: أحدهما: أنها تلك الأرض، وإِنما يُزاد فيها ويُنقص منها، وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها، وتُمد مَدَّ الأديم، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. (841) وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قال: «يبسطها ويمدها مَدَّ الأديم» . والثاني: أنها تبدَّل بغيرها. ثم فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها تُبدَّل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يُعمل عليها خطيئة، رواه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود، وعطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: أنها تُبدَّل ناراً، قاله أُبيّ بن كعب. والثالث: أنها تُبدَّل بأرض من فضة، قاله أنس بن مالك. والرابع: تُبدَّل بخبزة بيضاء، فيأكل المؤمن من تحت قدميه، قاله أبو هريرة، وسعيد بن جبير، والقرظي. وقال غيرهم: يأكل منها أهل الإِسلام حتى يفرغ من حسابهم. فأمّا تبديل السّماوات، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنها تُجعَل من ذهب، قاله علي عليه السلام. والثاني: أنها تصير جِناناً، قاله أُبيّ بن كعب. والثالث: أن تبديلها: تكوير شمسها وتناثر نجومها، قاله ابن عباس. والرابع: أن تبديلها: اختلاف أحوالها، فَمرة كالمُهْل، ومَرَّة تكون كالدِّهان، قاله ابن الأنباري. والخامس: أن تبديلها أن تُطوى كَطَيِّ السِّجِلِّ للكتاب. والسادس: أن تنشقَّ فلا تُظِلُّ، ذكرهما الماوردي. قوله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي: خرجوا من القبور. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 49 الى 51] وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) قوله تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يعني: الكفار مُقَرَّنِينَ يقال: قرنت الشيء إلى الشيء: إذا

_ ضعيف. هو بعض حديث الصور، أخرجه الطبراني في «الطوال» 36، وأبو الشيخ في «العظمة» 388 و 389 و 390، والبيهقي في «البعث» 668 و 669، والطبري 2/ 330 و 331 و 20962 من طرق عن إسماعيل بن رافع تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع، ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد، وهو واه. وانظر مزيد الكلام عليه في سورة الأنعام عند الآية: 73.

[سورة إبراهيم (14) : آية 52]

وصلتَه به. وفي معنى «مُقرَّنين» ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يُقرَّنون مع الشياطين، قاله ابن عباس. والثاني: أن أيديَهم وأرجلَهم قُرنت إِلى رقابهم، قاله ابن زيد. والثالث: يُقرَّن بعضهم إِلى بعض، قاله ابن قتيبة. وفي الأصفاد ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الأغلال، قاله ابن عباس، وابن زيد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج، وابن الأنباري. والثاني: القيود والأغلال، قاله قتادة. والثالث: القيود، قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما السرابيل، فقال أبو عبيدة: هي القُمُص، واحدها سِربال. وقال الزجاج: السِّربال: كل ما لُبس. وفي القَطِرَانِ ثلاث لغات: فتح القاف وكسر الطاء، وفتح القاف مع تسكين الطاء، وكسر القاف مع تسكين الطاء، وفي معناه قولان: أحدهما: أنه النحاس المذاب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه قَطِران الإِبل، قاله الحسن، وهو شيء يَتَحلَّب من شجر تُهْنَأ به الإِبل. قال الزجاج: وإِنما جُعل لهم القَطِرَان، لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود، ولو أراد الله تعالى المبالغة في إِحراقهم بغير ذلك لقَدَرَ، ولكنه حذَّرهم ما يعرفون حقيقته. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وعِكرمة، وقتادة، وابن أبي عبلة، وأبو حاتم عن يعقوب: «مِنْ قِطْرٍ» بكسر القاف وسكون الطاء والتنوين «آنٍ» بقطع الهمزة وفتحها ومدها. والقِطْر: النحاس، وآن: قد انتهى حَرُّه. قوله تعالى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ: أي تعلوها. واللام في لِيَجْزِيَ متعلّقة بقوله: وَبَرَزُوا. [سورة إبراهيم (14) : آية 52] هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) قوله تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني: الإِنذار. والبلاغ: الكفاية. قال مقاتل: والمراد بالناس: أهل مكة. قوله تعالى: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ أي: أُنزل لينذروا به، وليعملوا بما فيه من الحُجج أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أي: وليتّعظ أُولُوا الْأَلْبابِ.

سورة الحجر

سورة الحجر وهي مكّيّة كلّها من غير خلاف نعلمه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحجر (15) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) قوله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ قد سبق بيانه. قوله تعالى: وَقُرْآنٍ مُبِينٍ فيه قولان: أحدهما: أن القرآن: هو الكتاب، جُمع له بين الاسمين. والثاني: أن الكتاب: هو التوراة والإِنجيل، والقرآن: كتابُنا. وقد ذكرنا في أول يوسف معنى المبين. [سورة الحجر (15) : آية 2] رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) قوله تعالى: رُبَما وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «رُبَّما» مشددة. وقرأ نافع، وعاصم، وعبد الوارث «رُبَما» بالتخفيف. قال الفراء: أسَد وتميم يقولون: «رُبَّما» بالتشديد، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون: «رُبَما» بالتخفيف. قال الفراء: أسَد وتميم يقولون: «رُبَّما» بالتشديد، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون: «رُبَما» بالتخفيف. وتَيْم الرّباب يقولون: «رَبَّما» بفتح الراء. وقيل: إِنما قرئت بالتخفيف، لِما فيها من التضعيف، والحروف المضاعَفة قد تحذف، نحو «إِنّ» و «لكنّ» فإنهم قد خفَّفوها. قال الزجاج: يقولون: رُبَّ رُجل جاءني، ورُبَ رُجل جاءني، وأنشد: أزهير إِن يَشِبِ القَذالُ فإنني ... رُبَ هَيْضَلٍ مَرْسٍ لفَفْت بِهَيضَلِ «1» هذا البيت لأبي كبير الهذلي، وفي ديوانه: رُبَ هَيْضَلٍ لِجَبٍ لفَفْتُ بِهَيْضَلِ والهَيْضَل: جمع هَيْضلة، وهي الجماعة يغرى بهم، يقول لففتهم بأعدائهم في القتال. و «رُبَّ» كلمة موضوعة للتقليل، كما أن «كم» للتكثير، وإِنما زيدت «ما» مع «رُبَّ» ليليَها الفعل، تقول: رُبَّ رجل جاءني، وربما جاءني زيد. وقال الأخفش: أُدخل مع «رُبَّ» ما، ليُتكلم بالفعل بعدها، وإِن شئت جعلت «ما» بمنزلة «شيء» ، فكأنك قلت: رُبَّ شيء، أي: رُبَّ وَدٍّ يَوَدُّه الذين كفروا. وقال أبو سليمان الدّمشقي: «ما» ها هنا بمعنى «حين» ، فالمعنى: رُبَّ حين يَوَدُّون فيه. واختلف المفسرون متى يقع هذا من الكفار، على قولين: أحدهما: أنه في الآخرة. ومتى يكون ذلك؟ فيه أربعة أقوال:

_ (1) «ديوان الهذليين» 2/ 89. والقذال: جماع مؤخر الرأس، معقد العذار من الفرس خلف الناصية.

(842) أحدها: «أنه إِذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم مَنْ شاء الله من أهل القِبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إِسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأُخذنا بها فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القِبلة فأُخرجوا، فلما رأى ذلك الكفار، قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين فنُخرَج كما أُخرجوا» رواه أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إِليه ابن عباس في رواية وأنس بن مالك، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وإِبراهيم. والثاني: أنه ما يزال الله يرحم ويشفِّع حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فذلك حين يَوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثالث: أن الكفار إِذا عاينوا القيامة، وَدُّوا لو كانوا مسلمين، ذكره الزجاج. والرابع: أنه كلما رأى أهل الكفر حالاً من أحوال القيامة يعذَّب فيها الكافر ويَسلم من مكروهها المؤمن، وَدُّوا ذلك، ذكره ابن الأنباري. والقول الثاني: أنه في الدنيا، إِذا عاينوا وتبين لهم الضلال من الهدى وعلموا مصيرهم، وَدُّوا ذلك، قاله الضحاك. فإن قيل: إِذا قلتم: إِن «رُبَّ» للتقليل، وهذه الآية خارجة مخرج الوعيد، فإنما يناسب الوعيدَ تكثيرُ ما يُتواعَد به؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري: أحدها: أن «ربما» تقع على التقليل والتكثير، كما يقع الناهل على العطشان والريَّان، والجَوْن على الأسود والأبيض. والثاني: أن أهوال القيامة وما يقع بهم من الأهوال تكثُر عليهم، فإذا عادت إِليهم عقولهم، وَدُّوا ذلك. والثالث: أن هذا الذي خُوِّفوا به، لو كان مما يُوَدُّ في حال واحدة من أحوال العذاب، أو كان الإِنسان يخاف الندم إِذا حصل فيه ولا يتيقّنُه، لوجب عليه اجتنابه. فإن قيل: كيف جاء بعد «ربما» مستقبَل، وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي، تقول: ربما لقيت عبد الله؟ فالجواب: أن ما وَعَدَ اللهُ حَقٌّ، فمستقبَلُه بمنزلة الماضي، يدل عليه قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ «1» وقوله: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «2» وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ «3» ، على أنّ الكسائيّ

_ حسن. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 843 والطبراني كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 674 والحاكم 2/ 242 والبيهقي في «البعث والنشور» 85 من طريق خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى مرفوعا. وأخرجه الطبري 21005 من طريق خالد بن نافع بالإسناد المذكور عن أبي موسى الأشعري قال: بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة ... فذكره ثم قال في عجزه: «ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ... » . وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي؟ ومداره على خالد بن نافع قال الحافظ في «لسان الميزان» : ضعفه أبو زرعة والنسائي، وهو من أولاد أبي موسى وقال أبو حاتم: ليس بقوي يكتب حديثه. وقال أبو داود: متروك. وهذا تجاوز في الحد فإن الرجل قد حدّث عنه أحمد بن حنبل ومسدد، فلا يستحق الترك اهـ. وله شاهد من حديث جابر: أخرجه النسائي في «التفسير» 291 والطبراني في «الأوسط» 5142. وإسناده حسن فيه محمد بن عباد بن الزبرقان، وهو صدوق يهم كما في «التقريب» . وله شاهد آخر من حديث أنس: أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 844 وإسناده منقطع فيه أبو الخطاب حرب بن ميمون الراوي عن أنس لا يعرف له رواية عن أحد من الصحابة. الخلاصة: هو حديث حسن بطرقه وشواهده.

[سورة الحجر (15) : آية 3]

والفراء حكيا عن العرب أنهم يقولون: ربما يندم فلان، قال الشاعر: رُبَّما تجزَعُ النفوس من الأم ... رِ له فُرجَة كَحَلِّ العِقالِ «1» [سورة الحجر (15) : آية 3] ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) قوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا أي: دع الكفار يأخذوا حظوظهم في الدنيا، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ أي: ويشغلهم ما يأملون في الدنيا عن أخذ حظهم من الإِيمان والطاعة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذا وردوا القيامة وبالَ ما صنعوا، وهذا وعيد وتهديد، وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف. [سورة الحجر (15) : الآيات 4 الى 5] وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي: ما عذَّبنا من أهل قرية إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي أجل موقّت لا يُتقدم ولا يُتأخر عنه. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها «من» صِلة، والمعنى: ما تتقدم وقتها الذي قدِّر لها بلوغه، ولا تستأخر عنه. قال الفراء: إِنما قال: «أَجَلها» لأن الأمَّة لفظُها مؤنث، وإِنما قال: «يستأخرون» إخراجا له على معنى الرّجال. [سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 8] وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) قوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي أمية والنضر بن الحارث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة. قال ابن عباس: والذِّكر القرآن. وإِنما قالوا هذا استهزاءً، لو أيقنوا أنه نُزِّل عليه الذِّكْر، ما قالوا إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. قال أبو علي الفارسي: وجواب هذه الآية في سورة أخرى في قوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «2» . قوله تعالى: لَوْ ما تَأْتِينا قال الفراء: «لو ما» و «لولا» لغتان معناهما: هلاّ، وكذلك قال أبو عبيدة: هما بمعنى واحد، وأنشد لابن مقبل: لو ما الحياء ولو ما الدِّيُن عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُما عَوَرِي قال المفسرون: إِنما سألوا الملائكة ليشهدوا له بصدقه، وأن الله أرسله، فأجابهم الله تعالى بقوله: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «ما تَنزَّلُ» بالتاء المفتوحة «الملائكةُ» بالرفع. وروى أبو بكر عن عاصم «ما تُنزَّل» بضم التاء على ما لم يُسم فاعله. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخَلَف «ما نُنِّزل» بالنون والزاي مشددة «الملائكةَ» نصباً. وفي المراد بالحق أربعة أقوال: أحدها: أنه العذاب إِن لم يؤمنوا، قاله الحسن. والثاني: الرساله، قاله مجاهد. والثالث: قبض الأرواح عند الموت، قاله ابن السائب. والرابع: أنه القرآن، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَما كانُوا يعني المشركين إِذاً مُنْظَرِينَ أي عند نزول الملائكة إذا نزلت.

_ (1) البيت لأمية بن أبي الصلت كما في «اللسان» مادة «فرج» . والفرجة: الراحة من حزن أو مرض. (2) سورة القلم: 2.

[سورة الحجر (15) : آية 9]

[سورة الحجر (15) : آية 9] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، من عادة الملوك إِذا فعلوا شيئاً، قال أحدهم: نحن فعلنا، يريد نفسه وأتباعه، ثم صار هذا عادة للملِك في خطابه، وإِنِ انفرد بفعل الشيء، فخوطبت العرب بما تعقل من كلامها. والذِّكْر: القرآن، في قول جميع المفسرين. وفي هاء «له» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الذِّكْر، قاله الأكثرون. قال قتادة: أنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إِبليس أن يزيد فيه باطلا، ولا ينقص منه حقاً. والثاني: أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من الشياطين والأعداء، لقولهم: «إِنك لمجنون» ، هذا قول ابن السائب، ومقاتل. [سورة الحجر (15) : آية 10] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يعني: رسلاً، فحُذف المفعولُ، لدلالة الإِرسال عليه. والشِّيَع: الفِرَق، وحكي عن الفراء أنه قال: الشيعة: الأمَّة المتابعة بعضها بعضاً فيما يجتمعون عليه من أمر. [سورة الحجر (15) : آية 11] وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) قوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هذا تعزية للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إِنَّ كل نبيٍّ قبلك كان مبتلىً بقومه كما ابتليت. [سورة الحجر (15) : الآيات 12 الى 13] كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) قوله تعالى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ في المشار إِليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الشِّرك، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد. والثاني: أنه الاستهزاء، قاله قتادة. والثالث: التكذيب، قاله ابن جريج، والفرّاء. ومعنى الآية: كما سلكنا الكفر في قلوب شِيَع الأولين، نُدخل في قلوب هؤلاء التكذيبَ فلا يؤمنوا. ثم أخبر عن هؤلاء المشركين، فقال تعالى: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ. وفي المشار إِليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الرسول. والثاني: القرآن. والثالث: العذاب. قوله تعالى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فيه قولان: أحدهما: مضت سُنَّة الله في إِهلاك المكذِّبين. والثاني: مضت سنّتهم بتكذيب الأنبياء. [سورة الحجر (15) : الآيات 14 الى 15] وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ يعني: كفار مكة فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ أي: يصعدون، يقال: ظل يفعل كذا: إِذا فعله بالنهار. وفي المشار إِليهم بهذا الصعود قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، قاله ابن عباس، والضحاك، فالمعنى: لو كُشف عن أبصار هؤلاء فرأوا باباً مفتوحاً في السماء والملائكة تصعد فيه، لما آمنوا به. والثاني: أنهم المشركون، قاله الحسن، وقتادة، فيكون المعنى: لو وصَّلناهم إِلى صعود السماء لم يستشعروا إِلا الكفر، لعنادهم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 16 إلى 18]

قوله تعالى: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قرأ الأكثرون بتشديد الكاف. وقرأ ابن كثير، وعبد الوارث بتخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين متقارب، والمعنى: حُبستْ، من قولهم: سَكَرَت الريح: إِذا سكنت وركدت. وقال أبو عمرو بن العلاء: معنى «سُكِرَتْ» بالتخفيف، مأخوذ من سُكْر الشراب، يعني: أن الأبصار حارت، ووقع بها من فساد النّظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغيُّر العقل. قال ابن الأنباري: إذا كان هذا معنى الوصف، فسُكِّرت، بالتشديد، يراد به وقوع هذا الأمر مرّة بعد مرّة. وقال أبو عبيدة: «سُكِّرت» بالتشديد، من السُّكور التي تمنع الماءَ الجِرْيَةَ، فكأن هذه الأبصار مُنعت من النظر كما يمنع السِّكرُ الماءَ من الجري. وقال الزّجّاج: «سكّرت» بالتشديد، فسّروها: أغشيت، و «سكرت» بالتخفيف: تحيَّرتْ وسكنتْ عن أن تنظر، والعرب تقول: سَكِرَتِ الريحُ تَسْكَرُ: إِذا سكنت. وروى العوفي عن ابن عباس: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قال: أُخذ بأبصارنا وشبِّه علينا، وإِنما سُحِرْنا. وقال مجاهد: «سُكِّرت» سُدَّت بالسِّحر، فيتماثل لأبصارنا غير ما ترى. [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 18] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً في البروج ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بروج الشمس والقمر، أي: منازلهما، قاله ابن عباس، وأبو عبيدة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأسماؤها: الحَمَل، والثَّور، والجَوْزاء، والسَّرَطان، والأسد، والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجَدْي، والدلو، والحوت. والثاني: أنها قصور، روي عن ابن عباس أيضاً. وقال عطية: هي قصور في السماء فيها الحرس. وقال ابن قتيبة: أصل البروج: الحصون. والثالث: أنها الكواكب، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل. قال أبو صالح: هي النجوم العِظام. قال قتادة: سُميت بروجاً، لظهورها. قوله تعالى: وَزَيَّنَّاها أي: حسَّنّاها بالكواكب. وفي المراد بالناظرين قولان: أحدهما: أنهم المبصرون. والثاني: المعتبِرون. قوله تعالى: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي: حفِظناها أن يصل إِليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئاً إِلا استراقاً، ثم يتبعه الشهاب. والرجيم مشروح في سورة آل عمران «1» . واختلف العلماء: هل كانت الشياطين ترمى بالنّجوم قبل مبعث نبيّنا صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها لم ترم حتى بعث صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى: مذكور في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. (843) وقد أخرج في «الصحيحين» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «انطلق

_ صحيح. أخرجه البخاري 773 و 4921، ومسلم 449، والترمذي 3320، وأحمد 1/ 252 و 270، وأبو يعلى 2369 من حديث ابن عباس قال: انطلَق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلتْ عليهم الشُّهُب فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا

رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلت عليهم الشهب» . وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك. قال الزجاج: ويدل على أنها إِنما كانت بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شعراء العرب الذين يمثِّلون بالبرق والأشياء المسرعة، لم يوجد في أشعارها ذِكر الكواكب المنقضّة، فلما حدثت بعد مولد نبيّنا صلى الله عليه وسلم، استعملت الشعراء ذِكرها، فقال ذو الرُّمَّة: كأنَّه كوكبٌ في إِثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مُسَوَّم في سوادِ الليل مُنْقَضِبُ «1» والثاني: أنه قد كان ذلك قبل نبيّنا صلى الله عليه وسلم. (844) فروى مسلم في «صحيحه» من حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال: بينا النبيّ صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه، إِذ رمي بنجم، فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون إِذا كان مثل هذا في الجاهلية» ؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم، أو يولد عظيم، قال: «فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكنْ ربُّنا إِذا قضى أمراً، سبَّح حملة العرش، ثم سبَّح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهلَ هذه السماء، ثم يستخبر أهلُ كل سماءٍ أهلَ سماءٍ، حتى ينتهي الخبر إِلى هذه السماء، وتخطف الجنّ ويرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرِفون فيه ويزيدون» . وروي عن ابن عباس أن الشياطين كانت لا تحجب عن السّماوات، فلمّا ولد عيسى، منعت من ثلاث سماوات، فلمّا ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعوا من السّماوات كلِّها. وقال الزهري: قد كان يرمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله، ولكنها غُلِّظت حين بعث صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب ابن قتيبة، قال: وعلى هذا وجدنا الشعر القديم، قال بشر بن أبي خازم، وهو جاهلي: والعَيْرُ يَرْهَقُها الغُبارُ وجَحْشُها ... يَنْقَضُّ خلفهما انقضاضَ الكوكبِ وقال أوس بن حَجَر، وهو جاهلي: فانقض كالدِّرِّيء يتبعه ... نقع يثور تخالهُ طُنُبا قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي: اختطف ما سمعه من كلام الملائكة. قال ابن فارس: استرق السمع: إذا تسمّع مستخفياً. فَأَتْبَعَهُ أي: لحقه شِهابٌ مُبِينٌ قال ابن قتيبة: كوكب مضيء. وقيل: «مبين» بمعنى: ظاهر يراه أهل الأرض. وإِنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض، فأما وحي الله عزّ وجلّ، فقد صانه عنهم. واختلفوا، هل يَقتل الشهاب، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه

_ مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء قال: فانطلق الذين توجّهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلِّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا تسمَّعوا له فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجَعوا إِلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنّا سَمِعْنا قرآناً عَجَباً يَهدي إِلى الرُّشْد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا. وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وإنما أوحي إليه قول الجن. صحيح. أخرجه مسلم 2229 والترمذي 3224 وأحمد 1/ 218 والطحاوي في «المشكل» 2332 وابن حبان 6129 والبيهقي 8/ 138 من حديث ابن عباس.

[سورة الحجر (15) : الآيات 19 إلى 20]

يُحرق ويخبِّل ولا يقتُل، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنه يقتُل، قاله الحسن. فعلى هذا القول، هل يُقتَل الشيطان قبل أن يخبِر بما سمع، فيه قولان: أحدهما: أنه يقتل قبل ذلك، فعلى هذا، لا تصل أخبار السماء إِلى غير الأنبياء. قال ابن عباس: ولذلك انقطعت الكِهانة. والثاني: أنه يُقتَل بعد إِلقائه ما سمع إِلى غيره من الجن، ولذلك يعودون إِلى الاستراق، ولو لم يصل لقطعوا الاستراق. [سورة الحجر (15) : الآيات 19 الى 20] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) قوله تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي: بسطناها على وجه الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وهي الجبال الثوابت وَأَنْبَتْنا فِيها في المشار إِليها قولان: أحدهما: أنها الأرض، قاله الأكثرون. والثاني: الجبال، قاله الفرّاء. وفي قوله: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قولان «1» : أحدهما: أن الموزون: المعلوم، رواه العَوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك. وقال مجاهد، وعكرمة في آخرين: الموزون: المقدور. فعلى هذا يكون المعنى: معلومَ القَدْر كأنه قد وُزِن، لأن أهل الدنيا لمَّا كانوا يعلمون قدر الشيء بوزنه، أخبر الله تعالى عن هذا أنه معلوم القَدْر عنده بأنه موزون. وقال الزجاج: المعنى: أنه جرى على وَزْنٍ من قَدَر الله تعالى، لا يجاوز ما قدَّره الله تعالى عليه، ولا يستطيع خَلْقٌ زيادةً فيه ولا نُقصاناً. والثاني: أنه عنى به الشيء الذي يُوزَن كالذهب، والفضة، والرصاص، والحديد، والكُحل، ونحو ذلك، وهذا المعنى مروي عن الحسن، وعكرمة، وابن زيد، وابن السائب، واختاره الفراء. قوله تعالى: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ في المشار إِليها قولان: أحدهما: أنها الأرض. والثاني: أنها الأشياء التي أَنبتت. والمعايش جمع معيشة. والمعنى: جعلنا لكم فيها أرزاقاً تعيشون بها. وفي قوله: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أربعة أقوال «2» : أحدها: أنه الدواب والأنعام، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني: الوحوش، رواه منصور، عن مجاهد. وقال ابن قتيبة: الوحش، والطير، والسباع، وأشباه ذلك مما لا يرزقه ابن آدم. والثالث: العبيد والإِماء، قاله الفراء. والرابع: العبيد، والأنعام، والدواب، قاله الزجاج. قال الفراء: و «مَنْ» في موضع نصب، فالمعنى: جعلنا لكم فيها المعايش، والعبيد، والإِماء. ويقال: إِنها في موضع خفض، فالمعنى: جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين. وقال الزجاج: المعنى: جعلنا لكم الدواب، والعبيد، وكُفيتم مؤونة أرزاقها. فإن قيل: كيف قلتم: إن «مَنْ» هاهنا للوحوش والدواب، وإِنما تكون لمن يعقل؟ فالجواب: أنه لما وُصفت الوحوش وغيرها بالمعاش الذي الغالب عليه أن يوصف به الناس،

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 7/ 502: وأولى الأقوال عندنا بالصواب القول الأول لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 7/ 503: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأحسن أن يقال: عني بقوله وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ من العبيد والإماء والدواب والأنعام.

[سورة الحجر (15) : آية 21]

فيقال: للآدمي معاش، ولا يقال: للفرس معاش، جرت مجرى الناس، كما قال: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «1» ، وقال: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «2» ، وقال: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «3» ، وإِن قلنا: أُريدَ به العبيد، والوحوش، فإنه إِذا اجتمع الناس وغيرهم، غُلِّب الناس على غيرهم، لفضيلة العقل والتّمييز. [سورة الحجر (15) : آية 21] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ أي: وما من شيء إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وهذا الكلام عامّ في كل شيء. وذهب قوم من المفسرين إِلى أن المراد به المطر خاصة، فالمعنى عندهم: وما من شيء من المطر إِلا عندنا خزائنه، أي: في حُكمنا وتدبيرنا، وَما نُنَزِّلُهُ كل عام إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ لا يزيد ولا ينقص، فما من عام أكثرُ مطراً من عام، غير أن الله تعالى يصرفه إلى من يشاء، ويمنعه من يشاء. [سورة الحجر (15) : الآيات 22 الى 23] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ وقرأ حمزة وخلف: «الريح» . وكان أبو عبيدة يذهب إِلى أن «لواقح» بمعنى مَلاقح، فسقطت الميم منه، قال الشاعر: لِيُبْكَ يَزِيدُ بائسٌ لِضَرَاعَةٍ ... وَأَشْعَثُ مِمَّنْ طَوَّحتْهُ الطَّوَائِحُ «4» أراد: المَطاوح، فحذف الميم، فمعنى الآية عنده: وأرسلنا الرياح مُلقِحة، فيكون هاهنا فاعلٌ بمعنى مفْعِل، كما أتى فاعل بمعنى مفعول، كقوله تعالى: ماءٍ دافِقٍ «5» أي: مدفوق، وعِيشَةٍ راضِيَةٍ «6» أي: مَرضيَّة، وكقولهم: ليل نائم، أي: مَنُوم فيه، ويقولون: أبقل النبت، فهو باقل، أي: مُبقِل. قال ابن قتيبة: يريد أبو عبيدة أنها تُلْقِح الشجر، وتُلْقِح السحاب كأنها تُنتجه. ولست أدري ما اضطرّه إِلى هذا التفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمي الرياحَ لواقحَ، والريحَ لاقحاً، قال الطِّرِمَّاح، وذكر بُرْداً مَدَّه على أصحابه في الشمس يستظلُّون به: قَلِقٌ لأفنان الريا ... ح لِلاَقحٍ منها وحائل «7» فاللاقح: الجنوب، والحائل: الشمال، ويسمون الشمال أيضاً: عقيماً، والعقيم: التي لا تحمل، كما سمَّوا الجنوب لاقحاً، قال كثيِّر: ومرّ بسفساف التّراب عقيمها «8»

_ (1) سورة النمل: 18. (2) سورة يوسف: 40. [.....] (3) سورة الأنبياء: 33. (4) البيت لنهشل بن حري، انظر «كتاب سيبويه» 1/ 145، وفي «اللسان» مادة «طيح» وطوّحته الطوائح: قذفته القواذف، وطوّح الشيء: ضيعه، طاح طيحا: تاه، وطيّح نفسه وطاح الشيء طيحا: فني وذهب، وأطاحه هو: أفناه. قال ابن جني: أول البيت مبني على اطّراح ذكر الفاعل، فإن آخره عوود فيه الحديث على الفاعل لأن تقديره فيما بعد ليبكه مختبط مما تطيح الطوائح، فدل قوله: ليبك على ما أراد من قوله ليبك. (5) سورة الطارق: 6. (6) سورة القارعة: 7. (7) للبيت للطّرمّاح كما في «غريب القرآن» لابن قتيبة 236. (8) في «اللسان» مادة «سفّ» ونسبه لكثير، وعنده: «هاج» بدل «مرّ» . والسفساف: ما دقّ من التراب.

يعني: الشمال. وإِنما جعلوا الريح لاقحاً، أي: حاملاً، لأنها تحمل السحاب وتقلِّبه وتصرِّفه، ثم تحلُّه فينزل، فهي على هذا حامل، ويدل على هذا قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً «1» أي: حملت، قال ابن الأنباري: شبّه ما تحمله الرّيح من الماء وغيره، بالولد الذي تشتمل عليه الناقة، وكذلك يقولون: حرب لاقح، لِما تشتمل عليه من الشر، فعلى قول أبي عبيدة، يكون معنى «لواقح» : أنها مُلقحة لغيرها، وعلى قول ابن قتيبة: أنها لاقحة نفسها، وأكثر الأحاديث تدل على القول الأول «2» . قال عبد الله بن مسعود: يبعث الله الرياح لتلقح السحاب، فتحمل الماء، فتمجّه في السّحاب ثم تَمريه «3» ، فيدرُّ كما تدرُّ اللقحة «4» . وقال الضحاك: يبعث الله الرياح على السحاب فتُلقِحه فيمتلئ ماءً. قال النخعي: تُلْقِح السحاب ولا تُلْقِح الشجر. وقال الحسن في آخرين: تُلْقح السحاب والشجر، يعنون أنها تُلْقح السحاب حتى يُمطر والشجر حتى يُثمر. قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ يعني السحاب ماءً يعني المطر فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي: جعلناه سقيا لكم. قال الفراء: العرب مجتمعون على أن يقولوا: سقيت الرجل، فأنا أسقيه: إِذا سقيته لِشَفَتِه، فإذا أجرَوا للرجل نهراً قالوا: أسقيته وسقيته، وكذلك السُّقيا من الغيث، قالوا فيها: سقيت وأسقيت، وقال أبو عبيدة: كل ما كان من السماء، ففيه لغتان: أسقاه الله، وسقاه الله، قال لبيد: سَقَى قَوْمي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْراً والقَبَائِلَ مِنْ هِلاَلِ فجاء باللغتين. وتقول: سقيت الرجل ماءً وشراباً من لبن وغيره، وليس فيه إِلا لغة واحدة بغير ألِف، إِذا كان في الشَّفه، وإِذا جعلت له شِرْباً، فهو: أسقيته، وأسقيت أرضه، وإِبله، ولا يكون غير هذا، وكذلك إِذا استسقيت له، كقول ذي الرمة: وَقَفْتُ عَلَى رَسْمٍ «5» لِمَيَّةَ نَاقَتِي ... فَما زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وأُخَاطِبُهْ وأُسْقِيه حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ فإذا وهبت له إِهاباً ليجعله سقاءً، فقد أسقيته إِياه. قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ لَهُ يعني: الماء المُنزَل بِخازِنِينَ وفيه قولان: أحدهما: بحافظين، أي: ليست خزائنه بأيديكم، قاله مقاتل. والثاني: بمانعين، قاله سفيان الثوري. قوله تعالى: وَنَحْنُ الْوارِثُونَ يعني: أنه الباقي بعد فناء الخلق.

_ (1) سورة الأعراف: 57. (2) ورد في هذا الباب حديث مرفوع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح، وهي التي ذكر الله تعالى في كتابه، وفيها منافع للناس» . أخرجه الطبري 21109، وأبو الشيخ في «العظمة» 805 وإسناده ضعيف جدا، فيه أبو المهزم، وهو متروك، وكذا عبيس بن ميمون. والحديث ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 549 وضعفه. (3) في «القاموس» : مرى الناقة يمريها، مسح ضرعها، فأمرت هي: درّ لبنها وهي: المرية بالضم والكسر. ومرى الشيء: استخرجه كامتراه. (4) أخرجه الطبري 21098 عن ابن مسعود موقوفا عليه. (5) في «القاموس» الرسم: الأثر أو بقيته أو ما لا شخص له من الآثار.

[سورة الحجر (15) : الآيات 24 إلى 25]

[سورة الحجر (15) : الآيات 24 الى 25] وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ يقال: استقدم الرجل، بمعنى: تقدم، واستأخر، بمعنى: تأخر، وفي سبب نزولها قولان: (845) أحدهما: أن امرأةً حسناءَ كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم يستقدم حتى

_ باطل. أخرجه الترمذي 3122، والنسائي في «الكبرى» 112273، و «التفسير» 293 وابن ماجة 1046، والطيالسي 2712، وأحمد 1/ 305، وابن حبان 401، والحاكم 2/ 353 والطبراني 12/ 171، والطبري 21136 و 21137، والبيهقي من طرق عن نوح بن قيس عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس به. قال الترمذي: روى جعفر بن سليمان هذا الحديث عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء نحوه، ولم يذكر فيه عن ابن عباس، وهو أشبه أن يكون أصح من حديث نوح. وقال الحاكم: صحيح. وقال عمرو بن علي- الفلاس-: لم يتكلم أحد في نوح بن قيس الطاحي بحجة. وقال الذهبي: هو صدوق خرّج له مسلم. وقال الشيخ أحمد شاكر في «تعليقه على المسند» : 2/ 278: إسناده صحيح. وجعله الألباني في «صحيح السنن» و «الصحيحة» 2472. وليس كما قالوا والصواب أنه غير صحيح، وهو معلول بالإرسال، وبأنه ورد عن ابن عباس خلافه. - فقد أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 1445 والطبري 21135 عن جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال: المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين. وجعفر بن سليمان من رجال مسلم. ونوح بن قيس، وإن روى له مسلم، ووثقه أحمد ويحيى، فقد ضعّفه يحيى في رواية. وقال النسائي: لا بأس به، وقال الذهبي: بصري صالح الحال اه. فليس هو بالثبت. وقد خالفه غيره، فرواه من قول أبي الجوزاء، وبدون القصة. وقال ابن كثير رحمه الله 2/ 678- 679: غريب جدا، وفيه نكارة شديدة. ورواه عبد الرزاق عن أبي الجوزاء ليس فيه ذكر ابن عباس، وصوّب الترمذي الإرسال. فهذه علّة للحديث. وله علّة أخرى، وهي: أنه ورد عن ابن عباس «يعني بالمستقدمين من مات، وبالمستأخرين من هو حيّ ولم يمت» . وهذا أخرجه الطبري 21121 لكن فيه عطية العوفي، وهو ضعيف وكرره 21118 عن قتادة عن ابن عباس، وهو منقطع، لكن يصلح للمتابعة. وورد مثله عن الشعبي وابن زيد وغيرهم. وورد عن مجاهد «المستقدمين» أي القرون الأول، والمستأخرين: أمة محمد صلى الله عليه وسلم اه. وهذا أخرجه عبد الرزاق 1447 والطبري 21127 و 21128 و 21129 و 21130 وأسند عبد الرزاق 1446 عن عكرمة: أن المراد بالمستقدمين ما خرج من الخلق، وبالمستأخرين ما بقي في الأصلاب لم يخرج بعد. ومجاهد وعكرمة من أجلّة أصحاب ابن عباس، ولم يذكرا أن المراد بذلك صفوف الصلاة، فلو صح هذا الحديث عند شيخهم ابن عباس لروياه عنه، ولفسّرا الآية الكريمة به. وقال الطبري رحمه الله بعد أن ذكر هذه الأقوال جميعا: وأولى الأقوال عندي قول من قال: معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي، ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد لدلالة ما قبله من الكلام وهو قوله وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ وما بعده وهو قوله وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ. ومما يدل على وهن الخبر ونكارته: وهو أنهم أجمعوا على أن السورة مكية، نقل الإجماع القرطبي، ووافقه الشوكاني وغيره. ثم إن الآية المتقدمة، والآية الآتية فيهما قرينة ترجيح أن المراد بالمستقدمين من مات، وبالمستأخرين من هو على قيد الحياة، ولم يولد بعد. وبهذا يتبين وهن الحديث ونكارته كما ذهب إليه الحافظ الناقد ابن كثير رحمه الله خلافا لمن صححه اعتمادا منه على ظاهر إسناده من غير تأمل لما جاء في تفسير هذه الآية، وبأنها مكية لا مدنية والله الموفق. وانظر «تفسير الشوكاني» 1341، وأحكام القرآن لابن العربي 1316، وهما بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.

[سورة الحجر (15) : الآيات 26 إلى 28]

يكون في أول الصفِّ لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في آخر صف، فإذا ركع نظر من تحت إِبطه، فنزلت هذه الآية، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. (846) والثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حرَّض على الصف الأول، فازدحموا عليه، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المدينة: لنبيعنَّ دُورنا، ولنشترينَّ دوراً قريبة من المسجد حتى ندركَ الصف المتقدم، فنزلت هذه الأية ومعناها: إِنما تُجْزَون على النيات، فاطمأَنوا وسكنوا، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وللمفسرين في معنى المستقدمين والمستأخِرين ثمانية أقوال «1» : أحدها: التقدم في الصف الأول، والتأخر عنه، وهذا على القولين المذكورين في سبب نزولها، فعلى الأول: هو التقدُّم للتقوى، والتأخُّر للخيانة بالنظر، وعلى الثاني: هو التقدم لطلب الفضيلة، والتأخر للعذر. والثاني: أن المستقدمين: من مات، والمستأخرين: من هو حي لم يمت، رواه العَوفي عن ابن عباس، وخُصَيف عن مجاهد، وبه قال عطاء، والضحاك، والقرظي. والثالث: أن المستقدمين: من خرج من الخلق فكان. والمستأخرين: الذين في أصلاب الرجال، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والرابع: أن المستقدمين: من مضى من الأمم، والمستأخرين: أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس: أنّ المستقدمين: المتقدّمون في الخير، والمستأخرين، المثبِّطون عنه، قاله الحسن وقتادة. والسادس: أن المستقدمين في صفوف القتال، والمستأخرين عنها، قاله الضحاك. والسابع: أن المستقدمين: من قُتل في الجهاد، والمستأخرين: من لم يُقتَل، قاله القرظي. والثامن: أن المستقدمين: أول الخلق، والمستأخرين: آخر الخلق، قاله الشّعبيّ. [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 28] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم مِنْ صَلْصالٍ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الطّين اليابس الذي لم تصبه نار، فإذا نقرتَهَ صَلَّ، فسمعتَ له صلصلة، قاله ابن عباس وقتادة وأبو عبيدة وابن قتيبة. والثاني: أنه الطين المنتن، قاله مجاهد والكسائي وأبو عبيد. ويقال: صَلَّ اللحمُ: إِذا تغيرت رائحته. والثالث: أنه طين خُلط برمل، فصار له صوت عند نقره، قاله الفراء. فأما الحمأُ، فقال أبو عبيدة: هو جمع حَمْأة، وهو الطين المتغير. وقال ابن الأنباري: لا خلاف أن الحمأ: الطين الأسود المتغيِّر الريح، وروى السدي عن أشياخه قال: بُلَّ الترابُ حتى صار طيناً. ثم تُرك حتى أنتن وتغيّر. وفي المسنون أربعة أقوال: أحدها: أنه المنتن أيضاً، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال

_ لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي، وتقدم أنهما رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 553 عن الربيع بن أنس بدون إسناد.

مجاهد، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة: المسنون: المتغير الرائحة. والثاني: أنه الطين الرطب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه المصبوب، قاله أبو عمرو بن العلاء، وأبو عبيد. والرابع: أنه المحكوك، ذكره ابن الأنباري، قال: فمن قال: المسنون: المنتن، قال: هو من قولهم: قد تسنَّى الشيء: إِذا أنتن، ومنه قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ «1» ، وإِنما قيل له: مسنون لتقادم السنين عليه، ومن قال: الطين الرطب، قال: سمي مسنوناً، لأنه يسيل وينبسط، فيكون كالماء المسنون المصبوب. ومن قال: المصبوب، احتج بقول العرب: قد سننت عليَّ الماء: إِذا صببته. ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال، من قوله: رأيت سُنَّة وجهه، أي: صورة وجهه، قال الشاعر: تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلاَ نَدَبُ «2» ومن قال: المحكوك، احتج بقول العرب: سننت الحجر على الحجر: إِذا حككته عليه. وسمي المِسَنُّ مسناً، لأن الحديد يُحَكُّ عليه. قال: وإِنما كُرِّرت «مِنْ» لأن الأولى متعلقة ب «خلقنا» ، والثانية متعلقة بالصلصال، تقديره: ولقد خلقنا الإِنسان من الصلصال الذي هو من حمأٍ مسنون. قوله تعالى: وَالْجَانَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مسيخ الجن «3» ، كما أن القردة والخنازير مسيخ الإِنس «4» ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنه أبو الجن، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه الضحاك أنه قال: الجانُّ أبو الجن، وليسوا بشياطين، والشياطين ولد إِبليس «5» لا يموتون إِلا مع إِبليس، والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. والثالث: أنه إِبليس، قاله الحسن، وعطاء، وقتادة، ومقاتل. فإن قيل: أليس أبو الجن هو إِبليس؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه هو، فيكون هذا القول هو الذي قبله. والثاني: أن الجانَّ أبو الجن، وإِبليس أبو الشياطين، فبينهما إِذاً فرق على ما ذكرنا عن ابن عباس، قال العلماء: وإِنما سمي جانّاً، لتواريه عن العيون. قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ يعني: قبل خَلْق آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ، وقال ابن مسعود: من نار الريح الحارَّة، وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم «6» . والسَّموم في اللغة: الريح الحارَّة وفيها نار، قال

_ (1) سورة البقرة: 259. (2) البيت لذي الرمة كما في «ديوانه» 8. وفي «القاموس» أقرفه الرجل وغيره: دنا من الهجنة، والقرفة: الهجنة. ووجه مقرف: غير حسن. والخال: شامة في البدن. [.....] (3) هذا قول باطل، ليس بشيء. ويعارضه ما أخرجه مسلم 2996 وابن حبان 6155 والبيهقي في «الصفات» ص 385 وأحمد 6/ 153 من حديث عائشة مرفوعا «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» . (4) هذا قول باطل. يعارضه ما أخرجه مسلم 2663 من حديث ابن مسعود «إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك» . وفي الباب أحاديث تشهد له. (5) الصواب أن الشياطين هم مردة الجن. (6) في الباب من حديث أبي هريرة: «ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم» قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: «فضلت عليهن بتسعة وتسعين جزءا كلهنّ مثل حرّها» أخرجه البخاري 3265 واللفظ له، ومسلم 2843، ومالك 2/ 994، والترمذي 2589، وأحمد 2/ 313، وابن حبان 7462.

[سورة الحجر (15) : الآيات 29 إلى 41]

ابن السائب: وهي نار لا دخان لها. [سورة الحجر (15) : الآيات 29 الى 41] فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) قوله تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي: عدَّلتُ صورته، وأتممتُ خلقته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي هذه الروح هي التي يحيا بها الإِنسان، ولا تعلم ماهيّتها، وإِنما أضافها إِليه، تشريفاً لآدم، وهذه إِضافة مِلْك. وإِنما سمي إِجراء الروح فيه نفخاً، لأنها جرت في بدنه على مثل جري الريح فيه. قوله تعالى: فَقَعُوا أمر من الوقوع. وقوله تعالى: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ قال فيه سيبويه والخليل: هو توكيد بعد توكيد. وقال المبرد: «أجمعون» يدل على اجتماعهم في السجود، فالمعنى: سجدوا كلُّهم في حالة واحدة. قال ابن الأنباري: وهذا، لأن «كلاًّ» تدل على اجتماع القوم في الفعل، ولا تدل على اجتماعهم في الزمان. قال الزجاج: وقول سيبويه أجود، لأن «أجمعين» معرفة، ولا تكون حالاً. قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ قال المفسرون: معناه: يلعنك أهل السماء والأرض إِلى يوم الحساب. قال ابن الأنباري: وإِنما قال: إِلى يَوْمِ الدِّينِ لأنه يوم له أول وليس له آخر، فجرى مجرى الأبد الذي لا يفنى، والمعنى: عليك اللعنة أبداً. قوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ يعني: المعلوم بموت الخلائق فيه، فأراد أن يذيقه ألم الموت قبل أن يذيقه العذاب الدائم في جهنم. قوله تعالى: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مفعول التزيين محذوف، والمعنى: لأزيِّننَّ لهم الباطلَ حتى يقعوا فيه. وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أي: ولأُضِلَّنَّهم. والمخلَصون: الذين أخلصوا دينهم لله عن كل شائبة تناقض الإِخلاص. وما أخللنا به من الكلمات ها هنا، فقد سبق تفسيرها في سورة الأعراف وغيرها. قوله تعالى: قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعني بقوله هذا: الإِخلاصَ، فالمعنى: إِن الإِخلاص طريق إِليَّ مستقيم، و «عليَّ» بمعنى «إِليَّ» . والثاني: هذا طريق عليَّ جَوازه، لأني بالمرصاد، فأجازيهم بأعمالهم، وهو خارج مخرج الوعيد، كما تقول للرجل تخاصمه: طريقك عليَّ، فهو كقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «1» . والثالث: هذا صراط عليَّ استقامته، أي: أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان. وقرأ قتادة، ويعقوب: «هذا صراطٌ عَلِيٌّ» بكسر اللام ورفع الياء وتنوينها، أي: رفيع.

_ (1) سورة الفجر: 14.

[سورة الحجر (15) : الآيات 42 إلى 44]

[سورة الحجر (15) : الآيات 42 الى 44] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي فيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم المؤمنون. والثاني: المعصومون، رُوِيا عن قتادة. والثالث: المخلِصون، قاله مقاتل. والرابع: المطيعون، قاله ابن جرير. فعلى هذه الأقوال، تكون الآية من العامِّ الذي أريد به الخاصُّ، وفي المراد بالسلطان قولان: أحدهما: أنه الحجة، قاله ابن جرير، فيكون المعنى: ليس لك حجة في إِغوائهم. والثاني: أنه القهر والغلبة إِنما له أن يَغُرَّ ويزيِّن، قاله أبو سليمان الدمشقي. وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية، فقال: ليس لك عليهم سلطان أن تلقيَهم في ذَنْب يضيق عفوي عنه. قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ يعني: الذين اتَّبعوه. قوله تعالى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ وهي دركاتها بعضها فوق بعض، قال علي عليه السلام: أبواب جهنم ليست كأبوابكم هذه، ولكنها هكذا وهكذا وهكذا بعضها فوق بعض، ووصف الراوي عنه بيده وفتح أصابعه. قال ابن جرير: لها سبعة أبواب، أولها جهنم، ثم لَظى، ثم الحُطَمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقال الضحاك: هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض، فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذَّبون على قدر ذنوبهم ثم يُخرَجون، والثاني فيه النصارى، والثالث فيه اليهود، والرابع فيه الصّابئون، والخامس فيه المجوس، والسادس فيه مشركو العرب، والسابع فيه المنافقون. قال ابن الأنباري: لما اتصل العذاب بالباب، وكان الباب مِنْ سببه، سمي باسمه للمجاورة، كتسميتهم الحدث غائطاً. قوله تعالى: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ أي من أتباع إبليس جُزْءٌ مَقْسُومٌ والجزء بعض الشيء. [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 48] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) قد شرحنا في سورة (البقرة) معنى التقوى والجنات. فأما العيون، فهي عيون الماء، والخمر، والسلسبيل، والتسنيم، وغير ذلك مما ذُكر أنه من شراب الجنة. قوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ المعنى: يقال لهم: ادخلوها بسلام، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: بسلامة من النار. والثاني: بسلامة من كل آفة. والثالث: بتحية من الله تعالى. وفي قوله: آمِنِينَ أربعة أقوال: أحدها: آمنين من عذاب الله. والثاني: من الخروج. والثالث: من الموت. والرابع: من الخوف والمرض. قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قد ذكرنا تفسيرها في سورة الأعراف «1» ، فإن المفسرين ذكروا ما هناك هاهنا من تفسير وسبب نزول.

_ (1) عند الآية: 43.

[سورة الحجر (15) : الآيات 49 إلى 53]

قوله تعالى: إِخْواناً منصوب على الحال، والمعنى: أنهم متوادّون. فإن قيل: كيف نصب «إِخواناً» على الحال، فأوجب ذلك أن التآخي وقع من نزع الغِلِّ وقد كان التآخي بينهم في الدنيا؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: ما مضى من التآخي قد كان تشوبه ضغائن وشحناء، وهذا التآخي بينهم الموجودُ عند نزع الغِلِّ هو تآخي المصافاة والإِخلاص، ويجوز أن ينتصب على المدح، المعنى: اذكر إِخواناً. فأما السرر، فجمع سرير، قال ابن عباس: على سرر من ذهب مكلَّلة بالزبرجد والدُّرِّ والياقوت، السرير مثل ما بين عدن إِلى أيلة «1» ، مُتَقابِلِينَ لا يرى بعضهم قفا بعض، حيثما التفت رأى وجهاً يحبه يقابله. قوله تعالى: لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي: لا يصيبهم في الجنة إعياء وتعب. [سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 53] نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. (847) سبب نزولها ما روى ابن المبارك بإسناد له عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، ونحن نضحك، فقال: «ألا أراكم تضحكون؟» ثم أدبر، حتى إِذا كان عند الحِجر، رجع إِلينا القهقرى، فقال: «إِني لمَّا خرجت، جاء جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، يقول الله تعالى: لم تقنّط عبادي؟ نبّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم» . وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو بتحريك ياء «عباديَ» وياء «أنيَ أنا» ، وأسكنها الباقون. قوله تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) قد شرحنا القصة في (هود) «2» وبيَّنَّا هنالك معنى الضيف والسبب في خوفه منهم، وذكرنا معنى الوَجَل في (الأنفال) «3» . قوله تعالى: بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي: إِنه يبلغ ويعلم.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 21214 عن عطاء عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا، وفي إسناده مصعب بن ثابت ضعفه أحمد ويحيى، وكذا عاصم بن عبيد الله ضعفوه. وله شاهد من حديث عبد الله بن الزبير أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 11107 وقال الهيثمي: وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف متروك. وفيه أيضا مصعب بن ثابت، وهو ضعيف كما تقدم. وفي الباب من حديث عمر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» 10/ 18573 مطوّلا، وإسناده ضعيف، فيه سلام الطويل، وهو مجمع على ضعفه قاله الهيثمي. فالخبر ضعيف الإسناد، والمتن منكر بهذا اللفظ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 54 إلى 66]

[سورة الحجر (15) : الآيات 54 الى 66] قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) قوله تعالى: قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي أي: بالولد عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي: على حالة الكِبَر والهرم فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تُبشِّرونَ» بفتح النون. وقرأ نافع بكسر النون، ووافقه ابن كثير في كسرها، لكنه شددها. وهذا استفهام تعجب، كأنه عجب من الولد على كِبَرِه. قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي: بما قضى الله أنه كائن فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ يعني: الآيسين. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: «ومن يقنَط» بفتح النون في جميع القرآن. وقرأ أبو عمرو، والكسائي: «يقنِط» بكسر النون. وكلّهم قرءوا مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا بفتح النون، وروى خارجة عن أبي عمرو «ومن يقنُط» بضم النون. قال الزجاج: يقال: قنِط يقنَط، وقنَط يقنِط، والقُنوط بمعنى اليأس، ولم يكن إِبراهيم قانطاً، ولكنه استبعد وجود الولد. قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي: ما أمرُكم؟ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا أي: بالعذاب. وقوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ استثناء ليس من الأول. فأما آل لوط فهم أتباعه المؤمنون. قوله تعالى: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «لمنجُّوهم» مشددة الجيم. وقرأ حمزة والكسائي «لمُنجوهم» خفيفة. قوله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَهُ المعنى: إٍنا لمنجوهم إِلا امرأته قَدَّرْنا وروى أبو بكر عن عاصم «قَدَرْنا» بالتخفيف، والمعنى واحد، يقال: قدَّرت وقدّرْت، والمعنى: قضينا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ يعني: الباقين في العذاب. قوله تعالى: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ يعني: لا أعرفكم، قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ يعنون: العذاب، كانوا يشكّون في نزوله. وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي: بالأمر الذي لا شك فيه من عذاب قومك. قوله تعالى: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي: سِرْ خلفهم وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي: حيث يأمركم جبريل، وفي المكان الذي أُمِروا بالمضي إِليه قولان: أحدهما: أنه الشام، قاله ابن عباس. والثاني: قرية من قرى لوط، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أي: أوحينا إِليه ذلك الأمر، أي: الأمر بهلاك قومه. قال الزجاج: فسَّر: ما الأمر بباقي الآية، والمعنى: وقضينا إِليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين. فأما الدّابر، فقد سبق تفسيره، والمعنى: إِن آخر من يبقى منكم يَهْلِك وقت الصّبح.

[سورة الحجر (15) : الآيات 67 إلى 71]

[سورة الحجر (15) : الآيات 67 الى 71] وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) قوله تعالى: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وهي قرية لوط، واسمها سَدُوم «1» ، يَسْتَبْشِرُونَ بأضياف لوط، طمعاً في ركوب الفاحشة، فقال لهم لوط: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي: بقصدكم إِياهم بالسوء، يقال: فضَحَه يفضَحُه: إِذا أبان من أمره ما يلزمه به العار. وقد أثبت يعقوب ياء «تفضحون» ، وياء «تُخزون» في الوصل والوقف. قوله تعالى: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي: عن ضيافة العالَمين. قوله تعالى: بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ حرك ياء «بناتي» نافع، وأبو جعفر. [سورة الحجر (15) : الآيات 72 الى 77] لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) قوله تعالى: لَعَمْرُكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: وحياتك يا محمد، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني: لَعَيْشُك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الأخفش، وهو يرجع إِلى معنى الأول. والثالث: أن معناه: وحقّك على أمتك، تقول العرب: لَعَمْرُ الله لا أقوم، يعنون: وحَق الله، ذكره ابن الأنباري، قال: وفي العَمْرِ ثلاث لغات: عمر وعمر، وعمر، وهو عند العرب: البقاء. وحكى الزجاج أن الخليل وسيبويه وجميع أهل اللغة قالوا: العَمْرُ والعُمْرُ في معنى واحد، فإذا استُعمل في القسَم، فُتح لا غير، وإِنما آثروا الفتح في القسَم، لأن الفتح أخف عليهم، وهم يؤثرون القسَم ب «لعَمري» و «لعَمّرك» فلما كثر استعمالهم إِياه، لزموا الأخف عليهم، قال: وقال النحويون: ارتفع «لَعمرُكَ» بالابتداء، والخبر محذوف، والمعنى: لعَمْرك قَسَمي، ولعَمْرك ما أُقسِمُ به، وحُذف الخبر، لأن في الكلام دليلاً عليه. المعنى: أُقسِم إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وفي المراد بهذه السكرة قولان: أحدهما: أنها بمعنى الضلالة، قاله قتادة. والثاني: بمعنى الغفلة، قاله الأعمش، وقد شرحنا معنى العَمَه في سورة البقرة «2» . وفي المشار إِليهم بهذا قولان: أحدهما: أنهم قوم لوط، قاله الأكثرون. والثاني: قوم نبينا صلى الله عليه وسلم، قاله عطاء. قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني: صيحة العذاب، وهي صيحة جبريل عليه السلام. مُشْرِقِينَ قال الزجاج: يقال: أشرقنا، فنحن مُشرقون: إِذا صادفوا شروق الشمس وهو طلوعها، كما يقال: أصبحنا: إِذا صادفوا الصبح، يقال: شَرَقت الشمس: إِذا طلعت، وأشرقت: إِذا أضاءت وصَفَت، هذا أكثر اللغة. وقد قيل: شَرَقت وأشرقت في معنى واحد، إِلا أن «مُشرقين» في معنى

_ (1) في «معجم البلدان» 3/ 200: «سدوم» هي «سرمين» بلدة من أعمال حلب معروفة عامرة عندهم. (2) عند الآية: 15.

مصادِفين لطلوع الشمس. قوله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها قد فسرنا الآية في سورة (هود) «1» ، وفي المتوسِّمين أربعة أقوال: أحدها: أنهم المتفرِّسُون. (848) روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثمّ

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 3127 والبخاري في «تاريخه» 4/ 1/ 354 والطبري 2149 والعقيلي 4/ 129 وأبو نعيم 10/ 281- 282 والخطيب 7/ 242 والطبراني في «الأوسط» 7839 وابن الجوزي في «الموضوعات» 3/ 145- 146 كلهم من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد مرفوعا، وإسناده واه لأجل عطية، فقد ضعفوه، وهو مدلس، وقد عنعن. وضعف الترمذي إسناده بقوله غريب، وحكم ابن الجوزي بوضعه. وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه الطبري 21251 وأبو نعيم 4/ 94 وابن الجوزي 3/ 145- 146 وإسناده ساقط، لأجل الفرات بن السائب، ضعفه الجمهور، وقال أبو حاتم: كان كذابا، فلا يفرح بهذا الشاهد. وله شاهد ثان من حديث ثوبان، أخرجه ابن حبان في «المجروحين» 3/ 33، والطبري 21255 وأبو الشيخ في «الأمثال» 128 وفيه سليمان بن سلمة الخبائري، ضعفه النسائي وغيره، وقال ابن الجنيد: كان يكذب، وفيه مؤمل بن سعيد متروك. وله شاهد ثالث من حديث أبي أمامة، أخرجه الخطيب 5/ 99 والطبراني 7497 وأبو نعيم 6/ 118 وابن الجوزي 3/ 146- 147 وأعله ابن الجوزي بعبد الله بن صالح، ونقل أحمد قوله ليس بشيء، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات. وله شاهد رابع من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو الشيخ في «الأمثال» 126 وابن الجوزي 3/ 147 وأعله بسليمان بن أرقم، وأنه متروك، واتهمه ابن حبان بالوضع. قال ابن الجوزي: قال الخطيب: فالمحفوظ ما رواه سفيان عن عمرو بن قيس أنه قال: كان يقال: اتقوا فراسة المؤمن. ثم أسنده الخطيب عن عمرو بن قيس. ووافقه ابن الجوزي، وهو الراجح، والله تعالى أعلم. الخلاصة: هو حديث ضعيف، لا يرقى عن درجة الضعف بسبب شدة ضعف طرقه وشواهده. - وورد بلفظ آخر عن أنس، أخرجه البزار 3632 والطبري 21252 والطبراني في «الأوسط» 2956 والقضاعي 1005 والواحدي في «الوسيط» 2956 من طرق عن سعيد بن محمد الجرمي ثنا عبد الواحد بن واصل، قال: ثنا أبو بشر المزلّق عن ثابت البناني عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم» . وإسناده غير قوي، وحسنه الهيثمي في «المجمع» 10/ 268، وكذا حسنه السخاوي في «المقاصد الحسنة» 23 وكذا الألباني في «الصحيحة» 1693 ومما قاله: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات غير أبي بشر واسمه بكر بن الحكم، وثقه أبو عبيدة الحداد وأبو سلمة التبوذكي وسعيد بن محمد الحربي- كذا وقع والصواب الجرمي- وابن حبان، ولم يضعفه أحد غير أن أبا زرعة قال: شيخ ليس بالقوي. قلت: إسناده إلى الضعف أقرب. فليس في الإسناد علة واحدة. بل فيه أيضا عبد الواحد بن واصل، فهو وإن وثقه غير واحد، فقد قال الإمام أحمد: لم يكن صاحب حفظ، كان كتابه صحيحا اه. وما الذي يدرينا هل روى هذا الحديث من كتابه أو من حفظه؟ والذي يترجح عندي أنه رواه من حفظه، والدليل على ذلك هو أنه لم يرو في شيء من الكتاب الستة والمسانيد المشهورة. ولقد ضعفه أحمد فيما نقله الأزدي عن عبد الله بن أحمد، وقال الأزدي: ما أقرب ما قال أحمد، لأن له أحاديث غير مرضية عن شعبة وغيره. راجع «التهذيب» 6/ 395. وقال الحافظ في ترجمة أبي بشر المزلّق: صدوق فيه لين. وقال الذهبي في «الميزان» 1/ 344: صدوق، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. وقال التبوذكي: ثقة. قلت: روى خبرا منكر- قاله أبو حاتم- عن ثابت عن أنس فذكر هذا الحديث. واعترض الألباني على الذهبي بقوله: وقول الذهبي: روى خبرا منكرا ... ثم ذكره. غير مقبول منه، إلا أن يعني أنه تفرد به. قلت: وهذا وهم من العلامة الألباني، فإن الذي حكم بنكارة هذا الحديث إنما هو أبو حاتم كما هو واضح في السياق الذي ذكرته. والذهبي وافقه فحسب. والذي أوزع به هو ما ذهب إليه أبو حاتم وكذا الذهبي من أنه خبر منكر. ولعل الراجح وقفه على أنس، وهو أقرب، والله تعالى أعلم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 78 إلى 79]

قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال: «المتفرِّسين» وبهذا قال مجاهد، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: يقال: توسَّمتُ في فلان الخير، أي: تبيَّنتُه. وقال الزجاج: المتوسمون، في اللغة: النُّظَّار المتثبِّتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سِمة الشيء، يقال: توسمت في فلان كذا، أي: عرفت وسم ذلك فيه. وقال غيره: المتوسم: الناظر في السِّمَة الدالة على الشيء. والثاني: المعتبرون، قاله قتادة. والثالث: الناظرون، قاله الضحاك. والرابع: المتفكرون، قاله ابن زيد، والفراء. قوله تعالى: وَإِنَّها يعني: قرية قوم لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ فيه قولان: أحدهما: لَبِطريق واضح، رواه نهشل عن الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والزجاج. وقال ابن زيد: لبطريق مبين. والثاني: لبهلاك. رواه أبو رَوْق عن الضحاك عن ابن عباس، والمعنى: إِنها بحال هلاكها لم تُعْمَر حتى الآن! فالاعتبار بها ممكن، وهي على طريق قريش إِذا سافروا إِلى الشّام. [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 79] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) قوله تعالى: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ قال الزجاج: معنى «إِنْ» واللام: التوكيدُ، والأيك: الشجر الملتف، فالفصل بين واحده وجمعه، الهاء. فالمعنى: أصحاب الشجرة. قال المفسرون: هم قوم شعيب، كان مكانُهم ذا شجر، فكذَّبوا شعيباً فأُهلكوا بالحرِّ كما بيَّنا في سورة (هود) . قوله تعالى: وَإِنَّهُما في المكنى عنهما قولان: أحدهما: أنهما الأيكة ومدينة قوم لوط، قاله الأكثرون. والثاني: لوط وشعيب، ذكره ابن الأنباري. وفي قوله: لَبِإِمامٍ مُبِينٍ قولان: أحدهما: لبطريق ظاهر، قاله ابن عباس، قال ابن قتيبة: وقيل للطريق: إِمام، لأن المسافر يأتمُّ به حتى يصير إِلى الموضع الذي يريده. والثاني: لفي كتاب مستبين، قاله السدي. قال ابن الأنباري: «وإنهما» يعني: لوطا وشعيبا لبطريق من الحقّ يؤتمّ به. [سورة الحجر (15) : الآيات 80 الى 81] وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) قوله تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ يعني بهم ثمود. قال ابن عباس: كانت منازلهم بالحِجر بين المدينة والشام، وفي الحِجر قولان: أحدهما: أنه اسم الوادي الذي كانوا به، قاله قتادة، والزجاج. والثاني: اسم مدينتهم، قاله الزهري، ومقاتل. قال المفسرون: والمراد بالمرسَلين: صالح وحده، لأنه من كذَّب نبياً فقد كذَّب الكُلّ. والمراد بالآيات: الناقة، قال ابن عباس: كان فيها آيات: خروجها من الصخرة، ودنوّ نتاجها عند خروجها، وعِظَمُ خَلْقها فلم تشبهها ناقة، وكثرةُ لبنها حتى كان يكفيهم جميعاً، فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لم يتفكروا فيها ولم يستدلُّوا بها. [سورة الحجر (15) : الآيات 82 الى 86] وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)

[سورة الحجر (15) : الآيات 87 إلى 89]

قوله تعالى: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً قد شرحناه في (الأعراف) «1» . وفي قوله: آمِنِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: آمنين أن تقع عليهم. والثاني: آمنين من خرابها. والثالث: من عذاب الله عزّ وجلّ. وفي قوله: ما كانُوا يَكْسِبُونَ قولان: أحدهما: ما كانوا يعملون من نحت الجبال. والثاني: ما كانوا يكسبون من الأموال والأنعام. قوله تعالى: إِلَّا بِالْحَقِّ أي: للحق ولإِظهار الحق، وهو ثواب المصدِّق وعقاب المكذِّب. وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي: وإِن القيامة لتأتي، فيجازى المشركون بأعمالهم، فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ عنهم، وهو الإِعراض الخالي من جزع وفُحش، قال المفسرون: وهذا منسوخ بآية السيف. فأما الْخَلَّاقُ فهو خالق كلّ شيء. والْعَلِيمُ قد سبق شرحه في سورة البقرة «2» . [سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 89] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي. سبب نزولها: (849) «أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات «3» ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها أنواع من البَزِّ والطيب والجواهر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوَّينا بها وأنفقناها في سبيل الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال: أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل» ، ويدل على صحة هذا قوله: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية، قاله الحسين بن الفضل. وفي المراد بالسبع المثاني أربعة أقوال: (850) أحدها: أنها فاتحة الكتاب، قاله عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وابن مسعود في رواية، وابن عباس في رواية الأكثرين عنه، وأبو هريرة، والحسن، وسعيد بن جبير في رواية، ومجاهد في رواية، وعطاء، وقتادة في آخرين. فعلى هذا، إِنما سمِّيت بالسبع، لأنها سبع آيات. وفي تسميتها بالمثاني سبعة أقوال «4» : أحدها: لأن الله تعالى استثناها لأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، فلم يعطها أمّة قبلهم،

_ عزاه المصنف للحسين بن الفضل تبعا للواحدي في «أسباب النزول» 556، والحسين هذا لم أجد له ترجمة، فهو مجهول، وخبره معضل، وتفرده به دون سائر أهل الحديث والأثر دليل وهنه بل بطلانه، والخبر أمارة الوضع لائحة عليه. هو أصح الأقوال حيث ورد مرفوعا. أخرجه البخاري 4704 والترمذي 3124 وأحمد 2/ 448 من حديث أبي هريرة. وورد من حديث أبي سعيد بن المعلى، أخرجه البخاري 4703 وغيره، وتقدم. وفي الباب أحاديث أخرجها الطبري 21353- 21361.

رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: لأنها تُثنَّى في كل ركعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال ابن الأنباري: والمعنى: آتيناك السبع الآيات التي تُثنَّى في كل ركعة، وإِنما دخلت «مِنْ» للتوكيد، كقوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ «1» . وقال ابن قتيبة: سمي «الحمد» مثانيَ، لأنها تُثنَّى في كل صلاة. والثالث: لأنها ما أُثني به على الله تعالى، لأن فيها حمد الله وتوحيده وذِكر مملكته، ذكره الزجاج. والرابع: لأن فيها «الرحمن الرحيم» مرتين، ذكره أبو سليمان الدمشقي عن بعض اللغويين، وهذا على قول من يرى التسمية منها. والخامس: لأنها مقسومة بين الله تعالى وبين عبده. (851) ويدل عليه حديث أبي هريرة «قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي» . والسادس: لأنها نزلت مرتين، ذكره الحسين بن الفضل. والسابع: لأن كلماتها مثنّاة، مثل: الرحمن الرحيم، إِياك إِياك، الصراط صراط، عليهم عليهم، غير غير «2» ، ذكره بعض المفسرين. ومن أعظم فضائلها أن الله تعالى جعلها في حيِّزٍ، والقرآن كله في حيِّزٍ، وامتنّ عليه بها كما امتنَّ عليه بالقرآن كله. والقول الثاني: أنها السبع الطُّوَل، قاله ابن مسعود في رواية، وابن عباس في رواية، وسعيد بن جبير في رواية، ومجاهد في رواية، والضحاك. فالسبع الطُّوَل هي: (البقرة) ، و (آل عمران) ، و (النساء) ، و (المائدة) ، و (الأنعام) ، و (الأعراف) ، وفي السابعة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها (يونس) ، قاله سعيد بن جبير. والثاني: (براءة) ، قاله أبو مالك. والثالث: (الأنفال) و (براءة) جميعاً، رواه سفيان عن مسعر عن بعض أهل العلم. قال ابن قتيبة: وكانوا يرون (الأنفال) و (براءة) سورة واحدة، ولذلك لم يفصلوا بينهما. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: هي الطّول بضمّ الطاء، ولا تَقُلها بالكسر، فعلى هذا، في تسميتها بالمثاني قولان: أحدهما: لأن الحدود والفرائض والأمثال ثنِّيت فيها، قاله ابن عباس. والثاني: لأنها تجاوز المائة الأولى إِلى المائة الثانية، ذكره الماوردي. والقول الثالث: أن السبع المثاني سبع معان أُنزلت في القرآن: أمر ونهي، وبشارة، وإِنذار، وضرب الأمثال وتعداد النِّعَم، وأخبار الأُمم، قاله زياد بن أبي مريم. والقول الرابع: أنّ المثاني: القرآن كلّه، قاله طاوس، والضحاك، وأبو مالك، فعلى هذا، في تسمية القرآن بالمثاني أربعة أقوال: أحدها: لأن بعض الآيات يتلو بعضاً، فتثنَّى الآخرة على الأولى، ولها مقاطع تفصل الآية بعد الآية حتى تنقضيَ السورة، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنه سمي بالمثاني لِما يتردَّد فيه من الثناء على الله عزّ وجلّ. والثالث: لما يتردَّد فيه من ذِكْر الجنة، والنار، والثواب، والعقاب. والرابع: لأن الأقاصيص، والأخبار، والمواعظ، والآداب، ثنِّيت فيه، ذكرهن ابن الأنباري. وقال ابن قتيبة: قد يكون المثاني سور القرآن كله، قصارها وطوالها، وإِنما سمي مثاني، لأنّ الأنبياء

_ تقدم في سورة الفاتحة، رواه الشيخان.

[سورة الحجر (15) : الآيات 90 إلى 93]

والقصص تثنّى فيه، فعلى هذا القول، المراد بالسبع: سبعة أسباع القرآن، ويكون في الكلام إِضمار، تقديره: وهي القرآن العظيم. فأما قوله تعالى: مِنَ الْمَثانِي ففي «مِن» قولان: أحدهما: أنها للتبعيض، فيكون المعنى: آتيناك سبعاً من جملة الآيات التي يُثنى بها على الله تعالى، وآتيناك القرآن. والثاني: أنها للصفة، فيكون السبع هي المثاني، ومنه قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» لا أن بعضها رجس، ذكر الوجهين الزجاج، وقد ذكرنا عن ابن الأنباري قريباً من هذا المعنى. قوله تعالى: وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يعني: العظيم القَدْر، لأنه كلامُ الله تعالى، ووحيُه، وفي المراد به ها هنا قولان: أحدهما: أنه جميع القرآن. قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك. والثاني: أنه الفاتحة أيضاً، قاله أبو هريرة، وقد روينا فيه حديثا في أول تفسير (الفاتحة) . قال ابن الأنباري: فعلى القول الأول، يكون قد نسق الكلّ على البعض، كما يقول العربي: رأيت جدار الدار والدار، وإِنما يصلح هذا، لأن الزيادة التي في الثاني من كثرة العدد أشبهَ بها ما يغاير الأولَ، فجوَّز ذلك عطفَه عليه. وعلى القول الثاني، نُسِق الشيء على نفسه لمَّا زِيد عليه معنى المدح والثناء، كما قالوا: روي ذلك عن عمر، وابن الخطّاب، يعنون بابن الخطاب: الفاضلَ العالم الرفيع المنزلة، فلما دخلته زيادة، أشبه ما يغاير الأول فعُطف عليه. ولما ذكر الله تعالى مِنَّته عليه بالقرآن، نهاه عن النظر إِلى الدنيا ليستغنيَ بما آتاه من القرآن عن الدنيا، فقال: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي: أصنافاً من اليهود والمشركين، والمعنى: أنه نهاه عن الرغبة في الدنيا، وفي قوله: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قولان: أحدهما: لا تحزن عليهم إِن لم يؤمنوا. والثاني: لا تحزن بما أنعمتُ عليهم في الدنيا. قوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: أَلِن جانبك لهم، وخفضُ الجناح، عبارةٌ عن السكون وترك التّعصّب والإِباء، قال ابن عباس: ارفق بهم ولا تغلُظ عليهم. قوله تعالى: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ حرك ياء «إِنيَ» ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع. وذكر بعض المفسرين أن معناها منسوخ بآية السّيف. [سورة الحجر (15) : الآيات 90 الى 93] كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) قوله تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) في هذه الكاف قولان: أحدهما: أنها متعلِّقة بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى: ولقد آتيناك سبعا من المثاني، كما أنزلنا الكتاب على المقتسمين، قاله مقاتل. والثاني: أن المعنى: ولقد شرَّفناك وكرَّمناك بالسبع المثاني، كما شرَّفناك وأكرمناك بالذي أنزلناه على المقتسمين من العذاب، والكافُ بمعنى «مِثْلٍ» و «ما» بمعنى «الذي» ذكره ابن الأنباري. والثاني: أنّها

_ (1) سورة الحج: 30.

متعلقة بقوله: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ، والمعنى: إِني أنا النذير، أنذرتكم مثلَ الذي أُنزل على المقتسمين من العذاب، وهذا معنى قول الفراء. فخرج في معنى «أنزلنا» قولان: أحدهما: أنزلنا الكتاب، على قول مقاتل. والثاني: العذابَ، على قول الفراء. وفي «المقتسمين» ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود والنصارى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن ومجاهد. فعلى هذا في تسميتهم بالمقتسمين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهم اقتسموا القرآن، فقال بعضهم: هذه السورة لي، وقال آخر: هذه السورة لي، استهزاءً به، قاله عكرمة. والثالث: أنهم اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها، وآمن آخرون بما كفر به غيرهم، قاله مجاهد. والثاني: أنهم مشركو قريش. قاله قتادة، وابن السائب، فعلى هذا في تسميتهم بالمقتسمين قولان: أحدهما: أن أقوالهم تقسَّمت في القرآن، فقال بعضهم: إِنه سحر، وزعم بعضهم أنه كهانة، وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين، منهم الأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، وعدي بن قيس السهمي، والعاص بن وائل، قاله قتادة. والثاني: أنهم اقتسموا على عِقاب مكة، قال ابن السائب: هم رهط من أهل مكة اقتسموا على عِقاب مكة حين حضر الموسم، قال لهم الوليد بن المغيرة: انطلقوا فتفرَّقوا على عِقاب مكة حيث يمرُّ بكم أهل الموسم، فاذا سألوكم عنه، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقل بعضكم: كاهن، وبعضكم: ساحر، وبعضكم: شاعر، وبعضكم: غاوٍ، فإذا انتهَوْا إِلَّي صدَّقتُكم، ومنهم حنظلة بن أبي سفيان، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل، والعاص بن هشام، وابو قيس بن الوليد، وقيس بن الفاكه، وزهير بن أبي أميّة، وهلال بن عبد الأسود، والسائب بن صيفي، والنضر بن الحارث، وأبو البَخْتري بن هشام، وزمعة بن الحجاج، وأُمية بن خلف، وأوس بن المغيرة. والثالث: أنهم قوم صالح الذي تقاسموا بالله: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ فكفاه الله شرهم، قاله عبد الرحمن بن زيد. فعلى هذا هو من القَسَم، لا من القِسمة. قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ في المراد بالقرآن قولان: أحدهما: أنه كتابنا، وهو الأظهر، وعليه الجمهور. والثاني: أن المراد به: كتب المتقدمين قبلنا. وفي «عضين» قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من الأعضاء. قال الكسائي، وأبو عبيدة: اقتسموا بالقرآن وجعلوه أعضاءً. ثم فيما فعلوا فيه قولان: أحدهما: أنهم عضَّوه أعضاءً، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه، والمعضي: المفرِّق، والتعضية: تجزئة الذبيحة أعضاءً، قال علي عليه السلام: لا تَعْضِيَةَ في ميراث، أراد: تفريق ما يوجب تفريقه ضرراً على الورثة كالسيف، ونحوه. وقال رؤبة: وليسَ دَيْنُ الله بالمُعَضَّى» وهذا المعنى في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهم عضَّوْا القول فيه، أي: فرَّقوا، فقالوا: شعر، وقالوا: سحر، وقالوا: كهانة، وقالوا: أساطير الأولين، وهذا المعنى في رواية

_ (1) في «اللسان» مادة «عضا» .

[سورة الحجر (15) : آية 94]

ابن جريج عن مجاهد، وبه قال قتادة، وابن زيد. والثاني: أنه مأخوذ من العَضَهِ، والعَضَهُ، بلسان قريش: السِّحر، ويقولون للساحرة: عاضهة. وفي الحديث: (852) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن العاضهة والمستعضهة. فيكون المعنى: جعلوه سِحراً، وهذا المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والفراء. قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ هذا سؤال توبيخ، يُسأَلون عما عملوا في ما أُمروا به من التّوحيد والإيمان، فيقال لهم: لم عصيتم وتركتم الإِيمان؟ فتظهر فضيحتهم عند تعذّر الجواب. قال أبو العالية: يُسأَل العبادُ كلُّهم يوم القيامة عن خَلَّتين: عما كانوا يعبدون، وعما أجابوا المرسَلين. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ «1» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه لا يسألهم: هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم، وإِنما يقول: لم عملتم كذا؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنهم يُسأَلون في بعض مواطن القيامة، ولا يُسأَلون في بعضها، رواه عكرمة عن ابن عباس. [سورة الحجر (15) : آية 94] فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فامض لما تؤمر، قاله ابن عباس. والثاني: أَظْهِر أمرك، رواه ليث عن مجاهد، قال ابن قتيبة: «فاصدع بما تؤمر» أي: أَظْهِر ذلك. وأصله: الفَرْق والفتح، يريد: اصدع الباطلَ بحقك. وقال الزجاج: اظهَر بما تؤمر به، أُخذ ذلك من الصديع، وهو الصبح، قال الشاعر: كأنَّ بياضَ غُرَّتِه صَديع «2» وقال الفراء: إِنما لم يقل: بما تؤمر به، لأنه أراد: فاصدع بالأمر. وذكر ابن الأنباري أن «به» مضمرة، كما تقول: مررت بالذي مررت. والثالث: أن المراد به: الجهر بالقرآن في الصلاة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال موسى بن عبيدة: (853) ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية، فخرج هو وأصحابه. وفي قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: اكفف عن حربهم. والثاني: لا تبالِ بهم، ولا تلتفت إِلى لومهم على إِظهار أمرك. والثالث: أعرضْ عن الاهتمام باستهزائهم. وأكثر المفسرين على أن هذا القدْر من الآية منسوخ بآية السّيف.

_ ضعيف. أخرجه ابن عدي في «الكامل» 3/ 339 من حديث ابن عباس وفي إسناده زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، وكلاهما ضعيف. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 590: وله شاهد عند عبد الرزاق من رواية ابن جريح عن عطاء اه. وهذا مرسل، فهو ضعيف. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 21413 عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة وإسناده ضعيف جدا، فهو مرسل، ومع إرساله موسى بن عبيدة ضعيف.

[سورة الحجر (15) : الآيات 95 إلى 99]

[سورة الحجر (15) : الآيات 95 الى 99] إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) المعنى: فاصدع بأمري كما كفيتك المستهزئين، وهم قوم كانوا يستهزئون به وبالقرآن، وفي عددهم قولان: أحدهما: أنهم كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس، قاله ابن عباس، واسم أبي زمعة: الأسود بن المطلب. وكذلك ذكرهم سعيد بن جبير، إِلا أنه قال مكان الحارث بن قيس، الحارث ابن غيطلة، قال الزهري: غيطلة أمه، وقيس أبوه، فهو واحد، وإِنما ذكرتُ ذلك، لئلا يُظَن أنه غيره، وقد ذكرتُ في كتاب «التلقيح» «1» من يُنْسَب إِلى أمه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وسميت آباءهم ليُعرَفوا إِلى أي الأبوين نُسبوا. وفي رواية عن ابن عباس مكان الحارث بن قيس: عدي بن قيس. والثاني: أنهم كانوا سبعة، قاله الشعبي، وابن أبي بزة، وعدَّهم ابن أبي بَزَّة، فقال: العاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والحارث بن عدي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، وأصرم وبعكك ابنا عبد الحارث بن السبّاق. وكذلك عدَّهم مقاتل، إِلا أنه قال مكان الحارث بن عدي: الحارث بن قيس السهميّ، وقال: أصرم وبعكك ابنا الحجاج بن السبَّاق. (ذِكر ما أهلكهم الله به فكفى رسوله صلى الله عليه وسلم أمرهم) (854) قال المفسرون: أتى جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والمستهزئون يطوفون بالبيت، فمر الوليد بن المغيرة، فقال جبريل: يا محمد، كيف تجد هذا؟ فقال «بئس عبد الله» ، قال: قد كفيت، وأومأ إِلى ساق الوليد، فمر الوليد برجُل يَريش «2» نبلاً له، فتعلقت شظية من نبل بإزاره، فمنعه الكِبْرُ أن يطامن «3» لينزعها، وجعلت تضرب ساقه، فمرض ومات. وقيل: تعلَّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه، فمات. ومر العاص بن وائل، فقال جبريل: كيف تجد هذا يا محمد، فقال: «بئس عبد الله» فأشار إلى أخمص

_ متن حسن بطرقه وشواهده من جهة الإسناد، لكن المتن غريب. أخرجه الطبري 21417 عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير به مع اختلاف يسير وهذا مرسل. وكرره 21419 عن سعيد بن جبير مرسلا، وكرره 21430 من مرسل قتادة. وورد بنحوه عن قتادة ومقسم أخرجه الطبري 21428. وورد بنحوه من حديث ابن عباس عند الطبراني في «الطوال» 33 وفي «الأوسط» 4983 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 317- 318 من طريقين عن جعفر بن إياس عن سعيد عن ابن عباس. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 46- 47 وقال: وفيه محمد بن عبد الحكيم النيسابوري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. قلت: توبع عند البيهقي. الخلاصة: هذه روايات عامتها مرسلة، والموصول لا بأس به بطريقيه، فالحديث حسن من جهة الإسناد بطرقه وشواهده، لكن المتن فيه غرابة والله تعالى أعلم.

رجله، وقال: قد كُفيتَ، فدخلت شوكة في أخمصه، فانتفخت رجله ومات. ومر الأسود بن المطلب، فقال: كيف تجد هذا؟ قال: «عبد سوء» فأشار بيده إِلى عينيه، فعمي وهلك. وقيل: جعل ينطح برأسه الشجر ويضرب وجهه بالشوك، فاستغاث بغلامه، فقال: لا أرى أحداً يصنع بك هذا غير نفسك، فمات وهو يقول: قتلني ربُّ محمد. ومر الأسود بن عبد يغوث، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ فقال: «بئس عبد الله» ، فقال: قد كُفيت، وأشار إِلى بطنه، فسَقَى بطنُه، فمات. وقيل: أصاب عينه شوك، فسالت حدقتاه، وقيل: خرج عن أهله فأصابه السَّموم، فاسودَّ حتى عاد حبشياً، فلما أتى أهله لم يعرفوه، فأغلقوا دونه الأبواب حتى مات. ومر به الحارث بن قيس، فقال: كيف تجد هذا؟ قال: «عبدَ سوء» فأومأ إِلى رأسه، وقال: قد كُفيت، فانتفخ رأسه فمات، وقيل: أصابه العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انقدَّ بطنُه، وأما أصرم وبعكك، فقال مقاتل: أخذتْ أحدَهما الدُّبَيْلَةُ «1» والآخرَ ذاتُ الجَنْبِ، فماتا جميعاً. قال عكرمة: هلك المستهزئون قبل بدر. وقال ابن السائب: أُهلكوا جميعاً في يوم وليلة. قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فيه قولان: أحدهما: أنه التكذيب. والثاني: الاستهزاء. قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فيه قولان: أحدهما: قل سبحان الله وبحمده، قاله الضحاك. والثاني: فصلِّ بأمر ربك، قاله مقاتل. وفي قوله: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قولان: أحدهما: من المصلِّين. والثاني: من المتواضعين، رويا عن ابن عباس. قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فيه قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور. وسمي يقيناً، لأنه موقَن به. وقال الزجاج: معنى الآية: اعبد ربك أبداً، ولو قيل: اعبد ربك، بغير توقيت، لجاز إِذا عبد الإِنسان مرة أن يكون مطيعاً، فلما قال: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أُمر بالإِقامة على العبادة ما دام حيَّاً «2» . والثاني: أنه الحق الذي لا ريب فيه مِنْ نصرك على أعدائك، حكاه الماوردي.

_ (1) في «القاموس» : الدبيلة: داء في الجوف. (2) استدل الباطنية القرامطة ومنهم الشاذلية اليشرطية بهذه الآية على سقوط التكليف عنهم، وفسروا اليقين هنا بالعلم والمعرفة، فقالوا: من حصلت له المعرفة بالله سقطت عنه التكاليف. قال الحافظ ابن كثير في رده عليهم في «تفسيره» 2/ 692: ويستدل من هذه الآية الكريمة، وهي قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن عمران بن حصين- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» . ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء- عليهم السلام- كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين هاهنا الموت، كما قدمناه. ولله الحمد والمنة والحمد لله على الهداية، وعليه الاستعانة والتوكل، وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها.

سورة النحل

سورة النّحل (فصل في نزولها:) روى مجاهد، وعطيّة، وابن أبي طلحة عن ابن عباس: أنها مكّيّة، وكذلك روي عن الحسن، وعكرمة، وعطاء: أنها مكّيّة كلّها. وقال ابن عباس في رواية: إنه نزل منها بعد قتل حمزة: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ «1» . وقال في رواية: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة، وهي قوله: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إلى قوله: يَعْمَلُونَ «2» . وقال الشّعبيّ: كلّها مكيّة إلّا قوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ ... إلى آخر الآيات. وقال قتادة: هي مكّية إلّا خمس آيات: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا ... الآيتين، ومن قوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ ... إلى آخرها. وقال ابن السّائب: هي مكيّة إلّا خمس آيات: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا «3» الآية، وقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا «4» الآية، وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها. وقال مقاتل: مكيّة إلّا سبع آيات، قوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا الآية، وقوله: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ «5» الآية، وقوله: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ الآية، وقوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً «6» الآية، وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها. قال جابر بن زيد: أنزل من أول النّحل أربعون آية بمكّة وبقيّتها بالمدينة. وروى حمّاد عن عليّ بن زيد قال: كان يقال لسورة النّحل: سورة النّعم، يريد لكثرة تعداد النّعم فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ قرأ حمزة والكسائيّ بالإمالة.

_ (1) سورة النحل: 126. [.....] (2) سورة النحل: 95- 97. (3) سورة النحل: 41. (4) سورة النحل: 110. (5) سورة النحل: 106. (6) سورة النحل: 112.

(855) سبب نزولها: أنه لما نزل قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «1» ، فقال الكفار بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أنَّ القيامة قد اقتربت، فأمْسِكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر، فلما رأوا أنَّه لا ينزل شيء قالوا: ما نرى شيئاً، فأنزل الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ «2» فأشفقوا، وانتظروا قرب الساعة، فلما امتدَّت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به، فأنزل الله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ، فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع الناسُ رؤوسهم، فنزل: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا، قاله ابن عباس. وفي قوله: أَتى ثلاثة أقوال: أحدها: أتى بمعنى: يأتي، كما يقال: أتاك الخير فأبشر، أي: سيأتيك، قاله ابن قتيبة، وشاهده: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «3» ، وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى «4» ونحو ذلك. والثاني: أتى بمعنى: قَرُب، قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن ذلك في قربه بمنزلة ما قد أتى. والثالث: أن «أتى» للماضي، والمعنى: أتى بعض عذاب الله، وهو: الجدب الذي نزل بهم، والجوع. فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فينزل بكم مستقبلاً كما نزل ماضياً، قاله ابن الأنباري. وفي المراد ب «أمر الله» خمسة أقوال: أحدها: أنها الساعة، وقد يخرج على قول ابن عباس الذي قدمناه، وبه قال ابن قتيبة. والثاني: خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، يعني: أن خروجه من أمارات الساعة. وقال ابن الأنباري: أتى أمر الله من أشراط الساعة، فلا تستعجلوا قيام الساعة. والثالث: أنه الأحكام والفرائض، قاله الضحاك «5» . والرابع: عذاب الله، ذكره ابن الأنباري. والخامس: وعيد المشركين، ذكره الماوردي. قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي: لا تطلبوه قبل حينه، سُبْحانَهُ أي: تنزيه له وبراءة من السوء عما يشركون به من الأصنام. قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «يُنْزِل» بإسكان النون وتخفيف الزاي. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: يُنَزِّلُ بالتشديد، وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم: «تُنزَّل» بالتاء مضمومة، وفتح الزاي مشددة. «الملائكة» رفع. قال ابن عباس: يريد

_ واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 557 عن ابن عباس بدون إسناد. والظاهر أنه من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة. وأخرجه الطبري 21448 عن ابن جريج مرسلا بنحوه، ومراسيل ابن جريج واهية، فالخبر لا شيء، وهو شبه موضوع.

[سورة النحل (16) : آية 4]

بالملائكة جبريل عليه السلام وحده. وفي المراد بالروح ستة أقوال «1» : أحدها: الوحي، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه النبوَّة، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أن المعنى: تنزل الملائكة بأمره، رواه العوفي عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى: أن أمر الله كلَّه روح. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياة النفوس بالإِرشاد. والرابع: أنه الرحمة، قاله الحسن، وقتادة. والخامس: أنه أرواح الخلق: لا ينزل ملك إِلا ومعه روح، قاله مجاهد. والسادس: أنه القرآن، قاله ابن زيد. فعلى هذا سماه روحاً، لأن الدين يحيا به، كما أن الروح تُحيي البدن. وقال بعضهم: الباء في قوله: بِالرُّوحِ بمعنى: مع، فالتقدير: مع الروح، مِنْ أَمْرِهِ أي: بأمره، عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني: الأنبياء، أَنْ أَنْذِرُوا قال الزجاج: والمعنى: أَنذِروا أهل الكفر والمعاصي أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا أي: مُروهم بتوحيدي، وقال غيره: أًنذروا بأنه لا إِله إِلا أنا، أي: مروهم بالتوحيد مع تخويفهم إِن لم يُقِرُّوا. [سورة النحل (16) : آية 4] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ قال المفسرون: أخذ أبيُّ بن خلف عظماً رميماً، فجعل يفتّه ويقول: يا محمّد كيف يبعث الله هذا بعد ما رُمّ؟ فنزلت فيه هذه الآية. والخصيم: المخاصم، والمبين: الظاهر الخصومه. والمعنى: أنه مخلوق من نطفة، وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث، أفلا يستدل بأولة على آخرة، وأن من قدر على إِيجاده أولاً، يقدر على إِعادتة ثانيا؟! وفية تنبية على إِنعام الله عليه حين نقله من حال ضعف النطفة إِلى القوّة التي أمكنه معها الخصام. [سورة النحل (16) : الآيات 5 الى 7] وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) قوله تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ الأنعام: الإِبل، البقر، والغنم. قوله تعالى: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ فيه قولان: أحدهما: أنه ما استدفئ من أوبارها تتخذ ثياباً، وأخبية، وغير ذلك. روى العوفي عن ابن عباس أنه قال: يعني بالدفء: اللباس، وإِلى هذا المعنى ذهب الأكثرون. والثاني: أنه نسلها. روى عكرمة عن ابن عباس: فِيها دِفْءٌ قال: الدفء: نسل كل دابة، وذكر ابن السائب قال: يقال: الدفءُ أولادها، ومن لا يحمل من الصغار، وحكى ابن فارس اللغويّ عن الأمويّ، قال: الدفء عند العرب: نتاج الإِبل وألبانها. قوله تعالى: وَمَنافِعُ أي: سوى الدفء من الجلود، والألبان، والنسل، والركوب، والعمل عليها، إِلى غير ذلك، وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني: من لحوم الأنعام.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 561: يقول الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ أي الوحي كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ....

[سورة النحل (16) : آية 8]

قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ أي: زينة، حِينَ تُرِيحُونَ أي: حين تردُّونها إِلى مراحها، وهو المكان الذي تأوي إِليه، فترجع عِظَامَ الضُّرُوعِ والأَسْنِمَة، فيقال: هذا مال فلان، وَحِينَ تَسْرَحُونَ: ترسلونها بالغداة إِلى مراعيها. فإن قيل: لم قدَّم الرَّواح وهو مؤخَّر؟ فالجواب: أنها في حال الرواح تكون أجمل لأنها قد رعت، وامتلأت ضروعها، وامتدّت أسنمتها. قوله تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ الإِشارة بهذا إِلى ما يطيق الحمل منها، والأثقال: جمع ثقل، وهو متاع المسافر. وفي قوله تعالى: إِلى بَلَدٍ قولان: أحدهما: أنه عامّ في كل بلد يقصِدُه المسافر، وهو قول الأكثرين. والثاني: أن المراد به: مكة، قاله عكرمة، والأول أصح. والمعنى: أنها تحملكم إِلى كل بلد لو تكلفتم أنتم بلوغه لم تبلغوه إِلا بشِق الأنفس. وفي معنى «شِق الأنفس» قولان: أحدهما: أنه المشقة، قاله الأكثرون. قال ابن قتيبة: يقال: نحن بشِق من العيش، أي: بجهد. (856) وفي حديث أم زرع: «وجدني في أهل غُنَيْمَةٍ بِشِقّ» . والثاني: أن الشِّق: النِّصف، فكان الجهد ينقص من قوة الرجل ونفسه كأنه قد ذهب نصفه، ذكره الفراء. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي حين مَنّ عليكم بالنعم التي فيها هذه المرافق. [سورة النحل (16) : آية 8] وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) قوله تعالى: وَالْخَيْلَ أي: وخلق الخيل وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً قال الزجاج: المعنى: وخلقها زينة. فصل: ويجوز أكل لحم الخيل، وإِنما لم يُذكَر في الآية، لأنه ليس هو المقصود، وإِنما معظم المقصود بها الركوب والزينة، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: لا تؤكل لحوم الخيل. قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ذكر قوم من المفسرين: أن المراد به عجائب المخلوقات في السّماوات والأرض التي لم يُطَّلع عليها، مثل ما يروى: أن لله ملكاً من صفته كذا، وتحت العرش نهر من صفته كذا. وقال قوم: هو ما أعد الله لأهل الجنة فيها ولأهل النار. وقال أبو سليمان الدمشقي: في الناس مَن كره تفسير هذا الحرف. وقال الشعبي: هذا الحرف من أسرار القرآن. [سورة النحل (16) : الآيات 9 الى 12] وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)

_ صحيح، هو قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري 5189 ومسلم 2448، وأبو يعلى 4701 والترمذي في «الشمائل» 251 وابن حبان 7105 من حديث عائشة.

قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ القصد: استقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد: إِذا قصد بك ما تريد. قال الزجاج: المعنى: وعلى الله تبيين الطريق المستقيم، والدعاء إِليه بالحجج والبرهان. قوله تعالى: وَمِنْها جائِرٌ قال أبو عبيدة: السبيل لفظه لفظ الواحد، وهو في موضع الجميع، فكأنه قال: ومن السبل سبيل جائر. قال ابن الأنباري: لما ذكر السبيل، دلّ على السبل، فلذلك قال: وَمِنْها جائِرٌ، كما دل الحَدَثان على الحوادث في قول العبدي: وَلاَ يَبْقَى عَلَى الحَدَثَانِ حَيّ ... فَهَلْ يَبْقَى عليهِنَّ السِّلامُ أراد: فهل يبقى على الحوادث، والسِّلام: الصخور، قال: ويجوز أن يكون إِنما قال: (ومنها) لأن السبيل تؤنث وتذكَّر، فالمعنى: من السبيل جائر. وقال ابن قتيبة: المعنى: ومن الطُّرق جائر لا يهتدون فيه، والجائر: العادل عن القصد، قال ابن عباس: وَمِنْها جائِرٌ الأهواء المختلفة. وقال ابن المبارك: الأهواء والبدع. قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وهو ما تشربونه، وَمِنْهُ شَجَرٌ ذكر ابن الأنباري في معناه قولين: أحدهما: ومنه سَقي شجر، وشرب شجر، فخلف المضافُ إِليه المضافَ، كقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «1» . والثاني: أن المعنى: ومن جهة الماء شجر، ومن سقيه شجر، ومن ناحيته شجر، فحُذف الأول، وخلَفه الثاني، قال زهير: لِمَنِ الدِّيارُ بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن شهر «2» أي: من ممرِّ حجج. قال ابن قتيبة: والمراد بهذه الشجر: المرعى. وقال الزجاج: كل ما نبت على الأرض فهو شجر، قال الشاعر يصف الخيل: يَعْلِفُهَا الَّلحْمَ إِذا عَزَّ الشَّجَرْ ... وَالخَيْلُ في إِطعَامها الَّلحْمَ ضَرَرْ يعني: أنهم يسقون الخيل اللبن إِذا أجدبت الأرض. وتُسِيمُونَ بمعنى: تَرعَون، يقال: سامت الإِبل فهي سائمة: إِذا رعت، وإِنما أخذ ذلك من السُّومة، وهي: العلامة، وتأويلها: أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات. قوله تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وروى أبو بكر عن عاصم: «ننبت» بالنون. قال ابن عباس: يريد الحبوب، وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى: وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ قال الأخفش: المعنى: وجعلَ النجوم مسخراتٍ، فجاز إِضمار فعل غير الأول، لأن هذا المضمر في المعنى مثل المُظَهر، وقد تفعل العرب أَشدَّ من هذا، قال الراجز: تَسْمَعُ في أجوافِهِنَّ صَرَدَا ... وفي اليَديْنِ جُسْأَةً وَبَدَدَا «3» المعنى: وترى في اليدين. والجُسأة: اليبس. والبَدَد: السَّعة. وقال غيره: قوله تعالى: مُسَخَّراتٌ حال مؤكدة، لأن تسخيرها قد عرف بقوله تعالى: وَسَخَّرَ. وقرأ ابن عامر: «والشمس

_ (1) سورة البقرة: 93. (2) في «القاموس» : قنة الحجر: موضع قرب حومانة الدّرّاج. (3) في «اللسان» الصّرد: البرد، وقيل: شدّته. والجسأة: من جسأ فهو جاسئ: صلب وخشن. [.....]

[سورة النحل (16) : الآيات 13 إلى 16]

والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ» ، رفعاً كله، وروى حفص عن عاصم: بالنصب كالجمهور إِلاّ قوله تعالى: وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ فإنه رفعها. [سورة النحل (16) : الآيات 13 الى 16] وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) قوله تعالى: وَما ذَرَأَ لَكُمْ أي: وسخر ما ذرأ لكم. وذرأ بمعنى: خلق. وسَخَّرَ الْبَحْرَ أي: ذلَّله للركوب والغوص فيه لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا يعني: السمك وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني: الدُّر، واللؤلؤ، والمرجان، وفي هذا دلالة على أن حالفاً لو حلف: لا يلبس حُلِيّاً، فلبس لؤلؤاً، أنه يحنث، وقال أبو حنيفة: لا يحنث. قوله تعالى: وَتَرَى الْفُلْكَ يعني: السفن. وفي معنى مَواخِرَ قولان: أحدهما: جواري، قاله ابن عباس. قال اللغويون: يقال: مخرت السفينة مَخْراً: إِذا شقت الماء في جريانها. والثاني: المواخر، يعني: المملوءة، قاله الحسن. وفي قوله تعالى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ قولان: أحدهما: بالركوب فيه للتجارة ابتغاء الربح من فضل الله؟! والثاني: بما تستخرجون من حليته، وتصيدون من حيتانه. قال ابن الأنباري: وفي دخول الواو في قوله تعالى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وجهان: أحدهما: أنها معطوفة على لامٍ محذوفة تقديره: وترى الفلك مواخر فيه لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا. والثاني: أنها دخلت لفعل مضمر، تقديرهُ: وفعل ذلك لكي تبتغوا. قوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي: نصب فيها جبالاً ثوابت أَنْ تَمِيدَ أي: لئلاَّ تميد، وقال الزجاج: كراهة أن تميد، يقال: ماد الرجل يميد مَيْداً: إِذا أُدير به، وقال ابن قتيبة: الميد: الحركة والمَيْل، يقال: فلان يميد في مشيته، أي: يتكفَّأ. قوله تعالى: وَأَنْهاراً قال الزجاج: المعنى: وجعل فيها سُبُلاً، لأن معنى «ألقى» : «جعل» ، فأمّا السّبل، فهي الطّرق، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لكي تهتدوا إِلى مقاصدكم. قوله تعالى: وَعَلاماتٍ فيها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها معالم الطّرق بالنهار، وبالنّجم هم يهتدون بالليل، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها النّجوم أيضا، منها ما يكون

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 572: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عدّد على عباده من نعمه، إنعامه عليهم بما جعل لهم من العلامات التي يهتدون بها في مسالكهم وطرقهم التي يسيرونها، ولم يخصص بذلك بعض العلامات دون بعض، فكل علامة استدل بها الناس على طرقهم وفجاج سبلهم، فداخل في قوله وَعَلاماتٍ والطرق المسبولة: الموطوءة، علامة للناحية المقصودة، والجبال علامات يهتدى بهن إلى قصد السبيل، وكذلك النجوم بالليل. غير أن الذي أولى بتأويل الآية أن تكون العلامات من أدلة النهار إذ كان الله قد فصل منها أدلة الليل بقوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، وإذ كان ذلك أشبه وأولى بتأويل الآية، فالواجب أن يكون القول في ذلك ما قاله ابن عباس في الخبر الذي رويناه وهو أن العلامات معالم الطرق وأماراتها التي يهتدى بها إلى المستقيم منها نهارا، وأن يكون النجم الذي يهتدى به ليلا هو الجدي والفرقدان. لأن بها اهتداء السفر دون غيرها من النجوم.

[سورة النحل (16) : الآيات 17 إلى 19]

علامة لا يُهتدى به، ومنها ما يُهتدى به، قاله مجاهد، وقتادة، والنخعي. والثالث: الجبال، قاله ابن السائب، ومقاتل. وفي المراد بالنجم أربعة أقوال: أحدها: أنه الثريّا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي، قاله السدي. والثاني: أنه الجَدْي، والفرقدان، قاله ابن السائب. والثالث: أنه الجدي وحده، لأنه أثبتُ النجومِ كلِّها في مركزه، ذكره الماوردي. والرابع: أنه اسم جنس، والمراد جميع النجوم، قاله الزجاج. وقرأ الحسن، والضحاك، وأبو المتوكل، ويحيى بن وثاب: «وبالنُّجْم» بضم النون وإِسكان الجيم، وقرأ الجحدري: «وبالنُّجُم» بضم النون والجيم، وقرأ مجاهد: «وبالنجوم» بواوٍ على الجمع. وفي المراد بهذا الاهتداء قولان: أحدهما: الاهتداء إِلى القِبلة. والثاني: إِلى الطريق في السّفر. [سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 19] أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) قوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ يعني: الأوثان، وإِنما عبَّر عنها ب «مَن» لأنهم نحلوها العقل والتمييز، أَفَلا تَذَكَّرُونَ يعني: المشركين، يقول: أفلا تتعظون كما اتعظ المؤمنون؟ قال الفراء: وإِنما جاز أن يقول: كَمَنْ لا يَخْلُقُ، لأنه ذُكر مع الخالق، كقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ «1» ، والعرب تقول: اشتبه عليَّ الراكب وجملُه، فما أدري مَن ذا مِن ذا، لأنهم لما جمعوا بين الإِنسان وغيره صلحت «مَن» فيهما جميعا. قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها قد فسّرناه في سورة إِبراهيم «2» . قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ أي: لِما كان منكم من تقصيركم في شكر نِعَمه رَحِيمٌ بكم إِذ لم يقطعها عنكم بتقصيركم. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) ، روى عبد الوارث، إِلا القزاز «يسرون» و «يعلنون» بالياء. [سورة النحل (16) : الآيات 20 الى 21] وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» ، قرأ عاصم: يدعون، بالياء. قوله تعالى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ يعني: الأصنام. قال الفراء: ومعنى الأموات هاهنا: أنها لا روح فيها. قال الأخفش: وقوله: غَيْرُ أَحْياءٍ توكيد. قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، «أيَّانَ» بمعنى: «متى» . وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنها الأصنام، عبّر عنها كما يُعبّر عن الآدميين. قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها، فيتبرَّؤون من عبادتهم، ثم يُؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار. الثاني: أنهم الكفار، لا يعلمون متى بعثهم، قاله مقاتل.

_ (1) سورة النور: 45. (2) سورة إبراهيم: 34.

[سورة النحل (16) : الآيات 22 إلى 27]

[سورة النحل (16) : الآيات 22 الى 27] إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) قوله تعالى: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ قد ذكرناه في سورة (البقرة) «1» . قوله تعالى: فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي: بالبعث والجزاء قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ أي: جاحدة لا تعرف التوحيد وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي: ممتنعون من قبول الحقّ. قوله تعالى: لا جَرَمَ قد فسرناه في (هود) «2» . ومعنى الآية: أنَّه يجازيهم بسرِّهم وَعَلنهم، لأنه يعلمه. والمستكبرون: المتكبرون عن التوحيد والإِيمان. وقال مقاتل: (ما يُسرون) حين بَعثوا في كل طريق مَنْ يصدُّ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وما يعلنون) حين أظهروا العداوة لرسول الله. قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني: المستكبرين ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على محمّد صلى الله عليه وسلم؟ قال الزّجّاج: «ماذا» بمعنى «ما الذي» . وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مرفوعة على الجواب، كأنهم قالوا: الذي أُنزل: أساطيرُ الأولين، أي: الذي تذكرون أنتم أنه منزَّل أساطير الأولين. وقد شرحنا معنى الأساطير في سورة الأنعام «3» . قال مقاتل: الذين بعثهم الوليد بن المغيرة في طرق مكة يصدُّون الناس عن الإِيمان، ويقول بعضهم: إِن محمداً ساحر، ويقول بعضهم: شاعر، وقد شرحنا هذا المعنى في الحجر: في ذكر المقتسمين «4» . قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ هذه لام العاقبة، وقد شرحناها في غير موضع، والأوزار: الآثام، وإِنما قال: كاملة، لأنه لم يُكَفَّرْ منها شيء بما يُصيبهم من نكبة، أو بليَّة، كما يُكَفَّرُ عن المؤمن، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: أنهم أضلُّوهم بغير دليل، وإِنما حملوا من أوزار الأتباع، لأنهم كانوا رؤساء يقتدى بهم في الضلالة، وقد ذكر ابن الأنباري في «مِنْ» وجهين: أحدهما: أنها للتبعيض، فهم يحملون ما شَرِكوهم فيه، فَأَمَّا مَا ركبه أولئك باختيارهم من غير تزيين هؤلاء، فلا يحملونه، فيصح معنى التبعيض. والثاني: أن «مِنْ» مُؤكِّدة، والمعنى: وأوزار الذين يضلونهم. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي: بئس ما حملوا على ظهورهم. قوله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال المفسرون: يعني به: النمرود بن كنعان، وذلك أنه بنى صرحاً طويلاً، واختلفوا في طوله، فقال ابن عباس: خمسة آلاف ذراع، وقال مقاتل: كان طوله فرسخين، قالوا: ورام أن يصعد إِلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه. ومعنى «المكر» ها هنا: التّدبير

_ (1) سورة البقرة: 163. (2) سورة هود: 22. (3) سورة الأنعام: 25. (4) سورة الحجر: 90.

[سورة النحل (16) : الآيات 28 إلى 29]

الفاسد. وفي الهاء والميم من «قبلهم» قولان: أحدهما: أنها للمقتسمين على عقاب مكة، قاله ابن السائب. والثاني: لكفار مكة، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي: من الأساس. قال المفسرون: أرسل الله ريحاً فألقت رأس الصرح في البحر، وخَرَّ عليهم الباقي. قال السدي: لما سقط الصرح، تَبَلْبَلَتْ أَلْسُن الناس من الفزع، فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً، فلذلك سميت «بابل» «1» ، وإِنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية، وهذا قول مردود، لأن التَّبَلْبُلَ يُوجب الاختلاط والتكلمَ بشيء غير مستقيم، فأما أن يوجب إِحداث لغة مضبوطة الحواشي، فباطل، وإِنما اللغات تعليم من الله تعالى. فإن قيل: إِذا كان الماكر واحداً، فكيف قال: «الذين» ولم يقل: «الذي» ؟، فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه كان الماكر ملكاً له أتباع، فأدخلوا معه في الوصف. والثاني: أن العرب توقع الجمع على الواحد، فيقول قائلهم: خرجت إِلى البصرة على البغال، وإِنما خرج على بغل واحد. والثالث: أن «الذين» غير موقع على واحد معين، لكنه يراد به: قد مكر الجبارون الذين من قبلهم، فكان عاقبة مكرهم رجوع البلاء عليهم، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري. قال: وذكر بعض العلماء: أنه إِنما قال: «من فوقهم» ، لينبه على أنهم كانوا تحته، إِذ لو لم يقل ذلك، لاحتمل أنهم لم يكونوا تحته، لأن العرب تقول: سقط علينا البيت، وخَرَّ علينا الحانوت، وتداعت علينا الدار، وليسوا تحت ذلك. قوله تعالى: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي: من حيث ظنوا أنهم آمنون فيه. قال السدي: أُخذوا من مأمنهم، وروى عطية عن ابن عباس قال: خَرَّ عليهم عذاب من السماء، وعامة المفسرين على ما حكيناه من أنه بنيان سقط. وقال ابن قتيبة: هذا مَثَل، والمعنى: أهلكهم الله، كما هلك من هُدِم مسكنه من أسفله، فخر عليه. قوله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي: يذلُّهم بالعذاب. وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، «شركائيَ الذين» بهمزة وفتح الياء، وقال البزِّيُّ عن ابن كثير: «شركايَ» مثل: هدايَ، والمعنى: أين شركائي على زعمكم؟ هلاّ دفعوا عنكم!. الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي: تخالفون المسلمين فتعبدونهم وهم يعبدون الله، وقرأ نافع: «تشاقُّونِ» بكسر النون، أراد: تشاقُّونني، فحذف النون الثانية، وأبقى الكسرة تدل عليها، والمعنى: كنتم تنازعونني فيهم، وتخالفون أمري لأجلهم. قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الملائكة، قاله ابن عباس. والثاني: الحفظة من الملائكة، قاله مقاتل. والثالث: أَنهم المؤمنون. فأمَّا «الخِزي» فقد شرحناه في مواضع «2» ، و «السّوء» ها هنا: العذاب. [سورة النحل (16) : الآيات 28 الى 29] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

_ (1) في «اللسان» بابل: موضع بالعراق، وقيل: موضع ينسب إليه السحر والخمر. (2) انظر تفسير آل عمران: 192.

[سورة النحل (16) : الآيات 30 إلى 32]

قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قال عكرمة: هؤلاء قوم كانوا بمكة أقرُّوا بالإِسلام ولم يُهاجروا، فأخرجهم المشركون كرهاً إِلى بدر، فقتل بعضهم، وقد شرحنا هذا في سورة (النساء) «1» . قوله تعالى: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ قال ابن قتيبة: انقادوا واستسلموا، والسَّلَم: الاستسلام. قال المفسّرون: وهذا عند الموت يتبرّؤون من الشّرك، وهو قولهم: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وهو الشرك، فتردُّ عليهم الملائكة فتقول: «بلى» . وقيل: هذا ردُّ خزنة جهنم عليهم بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الشرك والتكذيب. ثم يقال لهم: ادخلوا أبواب جهنم، وقد سبق تفسير ألفاظ الآية «2» . [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) قوله تعالى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ. (857) روى أبو صالح عن ابن عباس أنّ مشركي قريش بعثوا ستة عشر رجلاً إِلى عِقاب «3» مكة أيام الحج على طريق الناس، ففرَّقوهم على كل عَقَبَةٍ أربعة رجال، ليصدّوا الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم: مَنْ أتاكم من الناس يسألُكم عن محمد فلْيقُلْ بعضُكم شاعِرٌ، وبَعْضُكم كاهِنٌ، وبَعْضُكم مجنون، وألاَّ ترَوْه ولا يراكم خَيْرٌ لكم، فإذا انتهوا إلينا صدّقناكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إِلى كل أربعة منهم أربعةً من المسلمين، فيهم عبد الله بن مسعود، فأُمِرُوا أن يكذِّبوهم، فكان الناس إِذا مرُّوا على المشركين، فقالوا ما قالوا، ردّ عليهم المسلمون، وقالوا: كذبوا، بل يدعو إِلى الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إِلى الخير، فيقولون: وما هذا الخير الذي يدعو إِليه؟ فيقولون: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ. قوله تعالى: قالُوا خَيْراً أي: أنزل خيراً، ثم فسر ذلك الخير فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا قالوا: لا إِله إِلا الله، وأحسنوا العمل حَسَنَةٌ أي: كرامة من الله تعالى في الآخرة، وهي الجنة، وقيل: «للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة» في الدنيا وهي ما رزقهم من خيرها وطاعته فيها، وَلَدارُ الْآخِرَةِ يعني: الجنة خَيْرٌ من الدنيا. وفي قوله تعالى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ قولان: أحدهما: أنها الجنة، قاله الجمهور. قال ابن الأنباري: في الكلام محذوف، تقديره: ولنعم دار المتقين الآخرةُ، غير أنه لمّا ذكرت أولا، عرف

_ لا أصل له، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، ليس له أصل، وتفردهما بهذا الخبر لا شيء، وهو مما لا أصل له.

[سورة النحل (16) : الآيات 33 إلى 34]

معناها آخراً، ويجوز أن يكون المعنى: ولنعم دار المتقين جناتُ عَدْنٍ. والثاني: أنها الدنيا. قال الحسن: ولنعم دار المتقين الدنيا، لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة. قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ قد شرحناه في (براءة) «1» . قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وقرأ حمزة «يتوفاهم» بياء مع الإِمالة. وفي معنى طَيِّبِينَ خمسة أقوال: أحدها: مؤمنين. والثاني: طاهرين من الشرك. والثالث: زاكية أفعالهم وأقوالهم. والرابع: طيبةٌ وفاتُهم سَهْلٌ خروجُ أرواحهم. والخامسة: طيبة أنفسهم بالموت، ثقة بالثواب. قوله تعالى: يَقُولُونَ يعني الملائكة سَلامٌ عَلَيْكُمْ، وفي أي وقت يكون هذا السلام؟ فيه قولان: أحدهما: عند الموت. قال البراء بن عازب: يسلِّم عليه ملك الموت إِذا دخل عليه. وقال القرظي: ويقول له: الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السلام، ويبشره بالجنة. والثاني: عند دخول الجنة. قال مقاتل: هذا قول خزنة الجنة لهم في الآخرة. يقولون: سلام عليكم. [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) قوله تعالى: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ وقرأ حمزة، والكسائي «يأتيهم» بالياء، وهذا تهديد للمشركين، وقد شرحناه في سورة البقرة «2» . وآخر سورة الأنعام «3» . وفي قوله تعالى: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ قولان: أحدهما: أمر الله فيهم، قاله ابن عباس. والثاني: العذاب في الدنيا، قاله مقاتل. قوله تعالى: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يريد: كفار الأمم الماضية، كذّبوا كما كذّب هؤلاء. ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بإهلاكهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالشرك فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي: جزاؤها، قال ابن عباس: جزاء ما عملوا من الشرك، وَحاقَ بِهِمْ قد بيّناه في سورة الأنعام «4» ، والمعنى: أحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب. [سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 37] وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: كفار مكة لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ

_ (1) سورة التوبة: 72. (2) سورة البقرة: 210. [.....] (3) عند الآية: 158. (4) عند الآية: 10.

[سورة النحل (16) : الآيات 38 إلى 42]

يعني: الأصنام، أي: لو شاء ما أشركنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء من البَحِيرَة، والسائبة، والوصيلة، والحَامِ، والحرث، وذلك أنه لمّا نزل: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» قالوا هذا، على سبيل الاستهزاء، لا على سبيل الاعتقاد، وقيل: معنى كلامهم: لو لم يأمرنا بهذا ويُرِدْهُ منّا، لم نأته. قوله تعالى: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: من تكذيب الرسل وتحريم ما أحل الله، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني: ليس عليهم إِلاّ التبليغ، فأما الهداية، فهي إِلى الله تعالى، وبيَّن ذلك بقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أي: كما بعثناك في هؤلاء أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: وحِّدوه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وهو الشيطان فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أي: أرشده وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أي: وجبت في سابق علم الله، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه إِنما بعث الرسل بالأمر بالعبادة، وهو من وراء الإِضلال والهداية، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: معتبرين بآثار الأمم المكذبة، ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة لا يهتدي، فقال: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ أي: إِن تطلب هداهم بجهدك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، «لا يُهدَى» برفع الياء وفتح الدال، والمعنى: من أضله، فلا هادي له، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «يَهْدِي» بفتح الياء وكسر الدال، ولم يختلفوا في «يُضِل» أنها بضم الياء وكسر الضاد، وهذه القراءة تحتمل معنيين، ذكرهما ابن الأنباري: أحداهما: لا يهدي من طَبَعَهُ ضَالاًّ، وخَلَقَهُ شقيّاً. والثاني: لا يهدي، أي: لا يهتدي من أضله، أي: مَنْ أضله الله لا يهتدي، فيكون معنى يهدي: يهتدي، تقول العرب: قد هدى فلان الطّريق، يريدون: اهتدى. [سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 42] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ. (858) سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دَين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلَّم به: والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك: وإِنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية. وجَهْدَ أَيْمانِهِمْ مفسر في المائدة «2» . وقوله: بَلى رَدٌّ عليهم، قال الفراء: والمعنى: بَلى ليبعثنَّهم وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا. قوله تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال الزجاج: يجوز أن يكون متعلّقا بالبعث، فيكون

_ ضعيف. أخرجه الطبري 21587 عن أبي العالية مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.

المعنى: بلى يَبعثهم فيبين لهم، ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ليُبيِّنَ لهم. وللمفسرين في قوله لِيُبَيِّنَ لَهُمُ قولان: أحدهما: أنهم جميع الناس، قاله قتادة. والثاني: أنهم المشركون، يبين لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه. قوله تعالى: أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ أي: فيما أقسموا عليه من نفي البعث. ثم أخبر بقدرته على البعث بقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة «فيكونُ» رفعاً، وكذلك في كل القرآن. وقرأ ابن عامر، والكسائي «فيكونَ» نصباً. قال مكي بن إِبراهيم: من رفع، قطعه عمَّا قبله، والمعنى: فهو يكون، ومن نصب، عطفه على «يقول» ، وهذا مثل قوله: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وقد فسرناه في البقرة «1» . فإن قيل: كيف سمي الشيء قبل وجوده شيئاً؟. فالجواب: أن الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق، لأنه بمنزلة ما قد عُوِينَ وشَوهِدَ. قوله تعالى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: (859) أحدها: أنها نزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلالٍ، وعمار، وصهيب، وخبَّاب بن الأرتِّ، وعايش وجبر مَولَيان لقريش، أخذهم أهل مكة فجعلوا يُعذِّبونهم، ليردُّوهم عن الإِسلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو، قاله داود بن أبي هند. والثالث: أنهم جميع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة. ومعنى (هاجروا في الله) ، أي: في طلب رضاه وثوابه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بما نال المشركون منهم، لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفيها خمسة أقوال «2» : أحدها: لنزلنّهم المدينة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والشعبي، وقتادة، فيكون المعنى: لَنُبَوِّئنَّهم داراً حسنة وبلدة حسنة. والثاني: لنرزقنَّهم في الدنيا الرزق الحسن، قاله مجاهد. والثالث: النصر على العدوِّ، قاله الضحاك. والرابع: أنه ما بقي بعدهم من الثناء الحسن، وصار لأولادهم من الشرف، ذكره الماوردي، وقد روي معناه عن مجاهد، فروى عنه ابن أبي نجيح أنه قال: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قال: لسان صادق. والخامس: أن المعنى: لنحسِنَنَّ إِليهم في الدنيا، قال بعض أهل المعاني: فتكون على هذه الأقوال «لنبوّئنهم» ، على سبيل الاستعارة، إِلا على القول الأول. قوله تعالى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ قال ابن عباس: يعني: الجنة، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني: أهل مكة. ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان إِذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه،

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وتقدم الكلام على هذه الرواية مرارا، فهو لا شيء.

[سورة النحل (16) : الآيات 43 إلى 44]

قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أفضل، ثم يتلو هذه الآية. ثم إِن الله أثنى عليهم ومدحهم بالصبر فقال: الَّذِينَ صَبَرُوا أي: على دينهم، لم يتركوه لأِذَى نالهم، وهم في ذلك واثقون بربّهم. [سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 44] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا. (860) قال المفسرون: لما أنكر مشركو قريش نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فهلاَّ بعث إِلينا ملَكاً! فنزلت هذه الآية. والمعنى: أن الرسل كانوا مثلك آدميِّين، إِلا أنهم يُوحَى إِليهم. وقرأ حفص عن عاصم: «نوحي» بالنون وكسر الحاء. فَسْئَلُوا يا معشر المشركين أَهْلَ الذِّكْرِ وفيهم أربعة أقوال «1» : أحدها: أنهم أهل التوراة والإِنجيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أهل التوراة، قاله مجاهد. والثالث: أهل القرآن، قاله ابن زيد. والرابع: العلماء بأخبار من سلف، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: لا تعلمون أن الله تعالى بعث رسولاً من البشر. والثاني: لا تعلمون أن محمداً رسول الله. فعلى القول الأول، جائز أن يسأل مَن آمن برسول الله ومَن كفر، لأن أهل الكتاب والعلم بالسِّيَر متفقون على أن الأنبياء كلَّهم من البشر، وعلى الثاني إِنما يسأل مَنْ آمَنَ مِنْ أهل الكتاب. وقد روي عن مجاهد فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ قال: عبد الله بن سلام، وعن قتادة، قال: سلمان الفارسي. قوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ في هذه «الباء» قولان: أحدهما: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: وما أرسلنا من قبلك إِلاّ رجالا أرسلناهم بالبيّنات. والزّبر: الكتاب. وقد شرحنا هذا في آل عمران «2» .

_ ضعيف جدا، ذكره الواحدي في «أسباب نزول القرآن» 562 من دون عزو لقائل، فهو لا أصل له من هذا الوجه. وأخرجه الطبري 21602 من طريق بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط، بشر ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس.

[سورة النحل (16) : الآيات 45 إلى 47]

قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ وهو القرآن بإجماع المفسرين لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فيه من حلال وحرام، ووعد ووعيد وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ذلك فيعتبرون. [سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 47] أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) قوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ قال المفسرون: أراد مشركي مكة. ومكرهم السيئات: شركهم وتكذيبهم، وسمي ذلك مكراً، لأن المكر في اللغة: السعي بالفساد، وهذا استفهام إِنكار، ومعناه: ينبغي أن لا يأمَنوا العقوبة، وكان مجاهد يقول: عنى بهذا الكلام نمرود بن كنعان. قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: في أسفارهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: في منامهم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: في ليلهم ونهارهم، قاله الضحاك وابن جريج ومقاتل. والرابع: أنه جميع ما يتقلَّبون فيه، قاله الزجاج. قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فيه قولان: أحدهما: على تنقُّص، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. قال ابن قتيبة: التّخوّف: التّنقّص، ومثله التخوُّن. يقال: تخوفته الدهور وتخونته: إِذا نقصته وأخذت من ماله وجسمه. وقال الهيثم بن عدي: التخوُّف: التنقُّص، بلغة أزد شنوءة. ثم في هذا التنقُّص ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تنقّصٌ من أعمالهم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أخذُ واحد بعد واحد، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: تنقُّصُ أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم، قاله الزجاج. والثاني: أنه التخوف نفسه، ثم فيه قولان: أحدهما: يأخذهم على خوف أن يعاقب أو يتجاوز، قاله قتادة. والثاني: أنه يأخذ قرية لتخاف القرية الأخرى، قاله الضحاك. وقال الزجاج: يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها، فعلى هذا خوَّفهم قبل هلاكهم، فلم يتوبوا، فاستحقوا العذاب. قوله تعالى: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ إِذ لم يعجِّل بالعقوبة، وأمهل للتوبة. [سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 50] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «أو لم يروا» بالياء وقرأ حمزة، والكسائي: «تروا» بالتاء، واختلف عن عاصم. قوله تعالى: إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أراد من شيء له ظل، من جبل، أو شجر، أو جسم قائم يَتَفَيَّؤُا قرأ الجماعة بالياء، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب بالتاء ظِلالُهُ وهو جمع ظل، وإِنما جمع وهو مضاف إِلى واحد، لأنه واحدٌ يُراد به الكثرة، كقوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ «1» قال ابن قتيبة: ومعنى يتفيَّأُ ظلاله: يدور ويرجع من جانب إِلى جانب، والفيء: الرجوع، ومنه قيل للظّلّ بالعشيّ: فيء، لأنه فاء عن المغرب إِلى المشرق، قال

_ (1) سورة الزخرف: 13.

المفسرون: إِذا طلعتْ الشمس وأنت متوجه إِلى القبلة، كان الظل قُدَّامك، فإذا ارتفعتْ كان عن يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك، وإِذا دنتْ للغروب كان على يسارك، وإِنما وحّد اليمين، والمراد به: الجمع، إيجازاً في اللفظ، كقوله تعالى: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» ، ودلّت «الشمائل» على أن المراد به الجميع، وقال الفراء: إِنما وحد اليمين، وجمع الشمائل، ولم يقل: الشمال، لأن كل ذلك جائز في اللغة، وأنشد: الوَارِدُوْنَ وَتَيْم في ذَرَىَ سَبَأٍ ... قد عضّ أعناقَهُم جِلْدُ الجوامِيْسِ «2» ولم يقل: جلود، ومثله: كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُم تَعِيْشُوا ... فانَّ زَمَانَكُم زَمَنٌ خَمِيْصُ «3» وإِنما جاز التوحيد، لأن أكثر الكلام يواجَه به الواحد. وقال غيره: اليمين راجعة إِلى لفظٍ ما وهو واحد، والشمائل راجعة إِلى المعنى. قوله تعالى: سُجَّداً لِلَّهِ قال ابن قتيبة: مستسلمة، منقادة، وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «4» . وفي قوله تعالى: وَهُمْ داخِرُونَ قولان: أحدهما: والكفار صاغرون. والثاني: وهذه الأشياء داخرة مجبولة على الطاعة، قال الأخفش: إِنما ذكر مَن ليس من الإِنس، لأنه لما وصفهم بالطاعة أشبهوا الإِنس في الفعل. قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ الآية. الساجدون على ضربين: أحدهما: مَن يعقل، فسجوده عبادة. والثاني: مَن لا يعقل، فسجوده بيان أثر الصَّنعة فيه، والخضوع الذي يدل على أنه مخلوق، هذا قول جماعة من العلماء، واحتجوا في ذلك بقول الشاعر: بِجَيْشٍ تضِلُّ البُلْق في حَجَراتِهِ ... تَرىَ الأُكْمَ فيه سُجَّداً لِلْحَوافِرِ «5» قال ابن قتيبة: حَجَرَاتُهُ، أي: جوانبه، يريد أن حوافر الخيل قد قلعت الأُكم ووطئتها حتى خشعت وانخفضت. فأما الشمس والقمر والنجوم، فألحقها جماعة بمن يعقل، فقال أبو العالية: سجودها حقيقة، ما منها غارب إلّا خرّ ساجدا بين يدي الله عزّ وجلّ، ثم لا ينصرف حتى يُؤذَن له. ويشهد لقول أبي العالية حديث أبي ذر قال: (861) كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين وجبت الشمس، فقال: «يا أبا ذرّ! تدري أين

_ صحيح. أخرجه البخاري 3199 و 4802 و 7424، ومسلم 159، والترمذي 2186 و 3227، والطيالسي 640، وأحمد 5/ 177، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص 392- 393، والبغوي في «معالم التنزيل» 4/ 12- 13. من طرق عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر مرفوعا، وسيأتي.

[سورة النحل (16) : الآيات 51 إلى 52]

ذهبت الشمس» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربّها عزّ وجلّ، فتستأذن في الرجوع، فيؤذَن لها، فكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جِئتِ، فترجع إِلى مطلعها فذلك مستقرها، ثم قرأ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها «1» ، أخرجه البخاري ومسلم. وأمّا النبات والشجر، فلا يخلو سجوده من أربعة أشياء. أحدها: أن يكون سجوداً لا نعلمه وهذا إِذا قلنا: إِن الله يُودِعه فهماً. والثاني: أنه تفيُّؤ ظلاله. والثالث: بيان الصنعة فيه. والرابع: الانقياد لما سُخِّر له. قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ إِنما أخرج الملائكة من الدوابّ لخروجهم بالأجنحة عن صفة الدبيب. وفي قوله: وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ قولان: أحدهما: أنه من صفة الملائكة خاصة، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: أنه عام في جميع المذكورات، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي قوله: مِنْ فَوْقِهِمْ قولان، ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أنه ثناءٌ على الله تعالى، وتعظيم لشأنه، وتلخيصه: يخافون ربهم عالياً رفيعاً عظيماً. والثاني: أنه حال، وتلخيصه: يخافون ربهم معظّمين له عالمين بعظيم سلطانه. [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 52] وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ. (862) سبب نزولها: أن رجلاً من المسلمين دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن، فقال رجل من المشركين: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً، فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قال الزجاج: ذِكْر الاثنين توكيد، كما قال تعالى: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ. قوله تعالى: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً في المراد بالدِّين أربعة أقوال: أحدها: أنه الإِخلاص، قاله مجاهد. والثاني: العبادة، قاله سعيد بن جبير. والثالث: شهادة أن لا إِله إِلاّ الله، وإِقامة الحدود، والفرائض، قاله عكرمة. والرابع: الطاعة، قاله ابن قتيبة. وفي معنى «واصباً» أربعة أقوال. أحدها: دائماً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد والثوري واللغويون. قال أبو الأسود الدؤلي: لا أَبْتَغِي الحمدَ القَليلَ بقاؤه ... يوما بذمّ الدّهر أجمع واصبا

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق، وهو ممن يضع الحديث. - وقد ورد نحو هذا في آخر سورة الإسراء، وسيأتي.

[سورة النحل (16) : الآيات 53 إلى 55]

قال ابن قتيبة: معنى الكلام: أنه ليس من أحدٍ يُدَان له ويُطاع إِلاّ انقطع ذلك عنه بزوالٍ أو هَلَكةٍ، غيرَ الله عزّ وجلّ، فإن الطاعة تدوم له. والثاني: واجباً، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: خالصاً، قاله الربيع بن أنس. والرابع: وله الدين موصباً، أي: متعباً، لأن الحق ثقيل، وهو كما تقول العرب: همٌّ ناصب، أي: مُنْصِبٌ، قال النابغة: كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةُ ناصِبِ ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكبِ ذكره ابن الأنباري. قال الزجاج: ويجوز أن يكون المعنى: له الدين، والطاعة، رضي العبد بما يُؤمَر به وسهل عليه، أو لم يسهل، فله الدين وإِن كان فيه الوصب. والوصب: شدّة التّعب. [سورة النحل (16) : الآيات 53 الى 55] وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ قال الزجاج: المعنى: ما حل بكم من نعمة، من صحة في جسم، أو سَعَةٍ في رزق، أو متاعٍ من مال وولد فَمِنَ اللَّهِ وقرأ ابن أبي عبلة: «فَمَنُّ الله» بتشديد النون. قوله تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ قال ابن عباس: يريد الأسقام، والأمراض، والحاجة. قوله تعالى: فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ قال الزجاج: «تجأرون» : ترفعون أصواتكم إِليه بالاستغاثة، يقال: جأر يجأر جُؤاراً، والأصوات مبْنية على «فُعَالٍ» و «فَعِيل» ، فأما «فُعَال» فنحو «الصُّرَاخ» و «الخُوَار» ، وأما «الفَعِيل» فنحو «العويل» و «الزَّئير» ، والفُعَال أكثر. قوله تعالى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ قال ابن عباس: يريد أهل النفاق. قال ابن السائب: يعني الكفار. قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قال الزجاج: المعنى: ليكفروا بأنّا أنعمنا عليهم، فجعلوا نِعَمَنا سبباً إِلى الكفر، وهو كقوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ إلى قوله: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ «1» ، ويجوز أن يكون «ليكفروا» ، أي: ليجحدوا نعمة الله في ذلك. قوله تعالى: فَتَمَتَّعُوا تهدّد، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة أمركم. [سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 59] وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ يعني: الأوثان. وفي الذين لا يعلمون قولان: أحدهما: أنهم الجاعلون، وهم المشركون، والمعنى: لما لا يعلمون لها ضراً ولا نفعاً فمفعول العلم محذوف، وتقديره: ما قلنا، هذا قول مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الأصنام التي لا تعلم شيئاً، وليس لها حس ولا معرفة، وإِنما قال: يعلمون، لأنهم لمَّا نحلوها الفهم، أجراها مجرى مَنْ يعقل على زعمهم، قاله جماعة من أهل المعاني، قال المفسرون: وهؤلاء مشركو العرب جعلوا لأوثانهم جزءاً من أموالهم، كالبَحِيرَةِ والسائِبَةِ وغير ذلك مما شرحناه في الأنعام «2» .

_ (1) سورة يونس: 88. (2) سورة الأنعام: 39.

[سورة النحل (16) : آية 60]

قوله تعالى: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ رجع عن الإِخبار عنهم إِلى الخطاب لهم، وهذا سؤال توبيخ. قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ قال المفسرون: يعني: خزاعة وكنانة، زعموا أن الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ أي: تنزه عما زعموا. وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني: البنين. قال أبو سليمان: المعنى: ويتمنَّون لأنفسهم الذكور. قوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أي أُخبر بأنه قد وُلد له بنت ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا قال الزجاج: أي: متغيِّراً تغيُّر مغتمٍّ، يقال لكل من لقي مكروهاً: قد اسود وجهه غَمّاً وحَزَناً. قوله تعالى: وَهُوَ كَظِيمٌ أي: يكظم شدة وَجْدِهِ، فلا يظهره، وقد شرحناه في سورة يوسف. قوله تعالى: يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ قال المفسرون: وهذا صنيع مشركي العرب، كان أحدُهم إِذا ضرب امرأتَه المخاضُ، توارى إِلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكراً سُرَّ به، وإِن كانت أنثى، لم يظهر أياماً يُدَبِّر كيف يصنع في أمرها، وهو قوله: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ فالهاء ترجع إِلى ما في قوله: ما بُشِّرَ بِهِ، والهُون في كلام العرب: الهوان. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة، والجحدري: «على هوان» ، والدس: إِخفاء الشيء في الشيء، وكانوا يدفنون البنت وهي حية أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ إِذْ جعلوا لله البنات اللاتي محلُّهن منهم هذا، ونسبوه إلى الولد، وجعلوا لأنفسهم البنين. [سورة النحل (16) : آية 60] لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) قوله تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ أي: صفة السَّوْء من احتياجهم إِلى الولد، وكراهتهم للإناث، خوف الفقر والعار وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي: الصفة العليا من تنزُّهه وبراءته عن الولد. [سورة النحل (16) : آية 61] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ أي: بشركهم ومعاصيهم، كلما وُجد شيء منهم أو خذوا به ما تَرَكَ عَلَيْها يعني: الأرض، وهذه كناية عن غير مذكور، غير أنه مفهوم، لأن الدوابّ إِنما هي على الأرض. وفي قوله: مِنْ دَابَّةٍ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عنى جميع ما يدبُّ على وجه الأرض، قاله ابن مسعود. قال قتادة: وقد فعل ذلك في زمن نوح عليه السلام، وقال السدي: المعنى: لأقحط المطر فلم تبق دابة إِلا هلكت، وإِلى نحوه ذهب مقاتل، والثاني: أنه أراد من الناس خاصة، قاله ابن جريج. والثالث: من الإِنس والجن، قاله ابن السائب، وهو اختيار الزجاج. قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو منتهى آجالهم، وباقي الآية قد تقدم. [سورة النحل (16) : آية 62] وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ المعنى: ويحكمون له بما يكرهونه لأنفسهم، وهو البنات، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي: تقول الكذب، وقرأ أبو العالية، والنخعي، وابن أبي عبلة: «الكُذُب» بضم الكاف والذال. ثم فسر ذلِك الكذب بقوله: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى وفيها ثلاثة أقوال:

[سورة النحل (16) : الآيات 63 إلى 64]

أحدها: أنها البنون، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنها الجزاء الحسن من الله تعالى، قاله الزجاج. والثالث: أنها الجنة، وذلك أنه لما وعد الله المؤمنين الجنة، قال المشركون: إِن كان ما تقولونه حقاً، لندخلَنَّها قبلكم، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: لا جَرَمَ قد شرحناها فيما مضى «1» . وقال الزجاج: «لا» ردٌ لقولهم، والمعنى: ليس ذلك كما وصفوا «جرم» أنَّ لهم النار، المعنى: جرم فعلهم، أي: كسب فعلهم هذا أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ وفيه أربعة أوجه، قرأ الأكثرون: «مُفْرَطون» بسكون الفاء وتخفيف الراء وفتحها، وفي معناها قولان: أحدهما: مُتْرَكون، قاله ابن عباس. وقال الفراء: منسيُّون في النار. والثاني: مُعْجَّلون، قاله ابن عباس أيضاً. وقال ابن قتيبة: مُعْجَّلون إِلى النار. قال الزجاج: معنى «الفرط» في اللغة: المتقدم، فمعنى «مفرطون» : مقدَّمون إِلى النار، ومَنْ فسرها «مُتْرَكون» فهو كذلك أيضاً، أي: قد جُعلوا مقدَّمين إِلى العذاب أبداً، متروكين فيه. وقرأ نافع، ومحبوب عن أبي عمرو، وقتيبة عن الكسائي «مُفْرِطون» بسكون الفاء وكسر الراء وتخفيفها، قال الزجاج: ومعناها: أنهم أفرطوا في معصية الله. وقرأ أبو جعفر وابن أبي عبلة «مُفَرَّطُون» بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها، قال الزجاج: ومعناها: أنهم فرَّطوا في الدنيا فلم يعملوا فيها للآخرة، وتصديق هذه القراءة: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «2» ، وروى الوليد بن مسلم عن ابن عامر «مُفَرَّطُون» بفتح الفاء والراء وتشديدها، قال الزجاج: وتفسيرها كتفسير القراءة الأولى، فالمفرَّط والمفرَط بمعنى واحد. [سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 64] تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) قوله تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ قال المفسرون: هذه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الخبيثة حتى عصَوا وكذَّبوا، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ فيه قولان: أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله ابن السائب، ومقاتل، كأنهما أرادا: فهو وليهم يوم تكون لهم النار. والثاني: أنه الدنيا، فالمعنى: فهو مواليهم في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ يعني: الكفار الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ أي: ما خالفوا فيه المؤمنين من التوحيد والبعث والجزاء، فالمعنى: أنزلناه بياناً لما وقع فيه الاختلاف. [سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 67] وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي: بعد يُبْسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي: يعتبرون.

_ (1) انظر ما تقدم عند سورة هود: 22. (2) سورة الزمر: 56.

قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وحمزة، والكسائي: «نُسقيكم» بضم النون، ومثله في (المؤمنين) «1» . وقرأ نافع، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: «نَسقيكم» بفتح النون فيهما. وقرأ أبو جعفر: «تَسْقِيكم» بتاء مفتوحة، وكذلك في (المؤمنين) وقد سبق بيان الأنعام، وذكرنا معنى «العبرة» في آل عمران «2» ، والفرق بين «سقى» و «أسقى» في (الحجر) «3» . فأما قوله: مِمَّا فِي بُطُونِهِ فقال الفراء: النَّعَم والأنعام شيء واحد، وهما جمعان، فرجع التذكير إِلى معنى «النَّعَم» إِذ كان يؤدي عن الأنعام، أنشدني بعضهم. وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ «4» فرجع إِلى اللبن، لأن اللبن والألبان في معنى قال: وقال الكسائيّ: أراد: نسقيكم ممّا في بطون ما ذكرنا، وهو صواب، أنشدني بعضهم: مِثْلَ الفِراخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُه «5» وقال المبرِّد: هذا فاشٍ في القرآن، كقوله للشّمس: هذا رَبِّي «6» يعني: هذا الشيء الطالع وكذلك: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ثم قال: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ «7» ولم يقل: «جاءت» لأن المعنى: جاء الشيء الذي ذكرنا، وقال أبو عبيدة: الهاء في «بطونه» للبعض، والمعنى: نُسقيكم مما في بطون البعض الذي له لبن، لأنه ليس لكل الأنعام لبن، وقال ابن قتيبة: ذهب بقوله: «مما في بطونه» إِلى النَّعَم، والنَّعَم تذكَّر وتؤنَّث. والفَرْث: ما في الكرش، والمعنى: أن اللبن كان طعاماً، فخلص من ذلك الطعام دم، وبقي فرث في الكرش، وخلص من ذلك الدم لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ أي: سهلاً في الشرب لا يشجى به شاربه، ولا يَغصّ. وقال بعضهم: سائغاً، أي: لا تعافه النفس وإِن كان قد خرج من بين فرث ودم، وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: إِذا استقر العَلَف في الكَرش طحنه فصار أسفله فرثاً، وأعلاه دماً، وأوسطه لَبَنَاً، والكبد مسلَّطة على هذه الأصناف الثلاثة، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضَّرع، ويبقى الفرث في الكرش. قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تقدير الكلام: ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سَكَرا. والعرب تضمر «ما» كقوله: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ «8» أي: ما ثَمَّ. والكناية في «منه» عائدة على «ما» المضمرة. وقال الأخفش: إِنما لم يقل: منهما، لأنه أضمر الشيء، كأنه قال: ومنها شيء تتخذون منه سَكَراً. وفي المراد بالسَّكر ثلاثة أقوال «9» : أحدها: أنه الخمر، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والحسن وسعيد بن جبير، ومجاهد، وإبراهيم، وابن أبي ليلى، والزّجّاج، وابن قتيبة. وروى

_ (1) سورة المؤمنون: 21. (2) سورة آل عمران: 13. (3) سورة الحجر: 22. (4) ذكره في «اللسان» مادة «كتد» ، ونسبه إلى ثعلب. وصدره: بال سهيل في الفضيخ ففسد. (5) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «نعم» ، ولم ينسبه لقائل. (6) سورة الأنعام: 78. (7) سورة النمل: 35- 36. (8) سورة الإنسان: 20. (9) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 611- 612: السّكر هو كل ما كان حلالا شربه، كالنبيذ الحلال والخل والرطب، وهذا التأويل هو أولى الأقوال بتأويل هذه الآية، وذلك أن السكر في كلام العرب على أحد أوجه أربعة: أحدها: ما أسكر من الشراب. والثاني: ما طعم من الطعام. والثالث: السّكون، والرابع: المصدر من قولهم: سكر فلان يسكر سكرا وسكرا وسكرا، فإذا كان ذلك كذلك، وكان ما يسكر من الشراب حراما بما قد دللنا عليه في كتابنا «لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام» وكان غير جائز لنا أن نقول: هو منسوخ، إذ كان المنسوخ هو ما نفى حكمه الناسخ وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السّكر الذي هو غير الخمر، وغير ما يسكر من الشراب، حرام، إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب، ومن نزل بلسانه القرآن هو كل ما طعم، ولم يكن مع ذلك، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول، ولا أجمعت عليه الأمة، فوجب القول بما قلنا من أنّ معنى السّكر في هذا الموضع: هو كل ما حل شربه مما يتخذ من ثمر النخل والكرم، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب، وخرج أن يكون معناه السّكر نفسه، إذ كان السكر ليس مما يتخذ من النخل والكرم ومن أن يكون بمعنى السكون. [.....]

[سورة النحل (16) : الآيات 68 إلى 69]

عمرو بن سفيان عن ابن عباس قال: السَّكَرُ: ما حرِّم من ثمرتها، وقال هؤلاء المفسرون: وهذه الآية نزلت إِذْ كانت الخمرة مباحة، ثم نسخ ذلك بقوله: فَاجْتَنِبُوهُ «1» ، وممن ذكر أنها منسوخة، سعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، والنخعي. والثاني: أن السَّكَر: الخَلّ، بلغة الحبشة، رواه العَوفي عن ابن عباس. وقال الضحاك: هو الخل، بلغة اليمن. والثالث: أن «السَّكَر» الطُّعْم، يقال: هذا له سَكَر، أي: طُعْم، وأنشدوا: جَعَلْتَ عَيْبَ الأَكْرَمِيْن سَكَرا «2» قاله أبو عبيدة. فعلى هذين القولين، الآية محكمة. فأما الرزق الحسن، فهو ما أُحِلَّ منهما، كالتمر، والعنب، والزبيب، والخل، ونحو ذلك. [سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 69] وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ في هذا الوحي قولان: أحدهما: أنه إِلهام، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك، ومقاتل. والثاني: أنه أمر، رواه العوفي عن ابن عباس. وروى ابن مجاهد عن أبيه قال: أَرسل إِليها. والنحل: زنابير العسل، واحدتها نحلة، و «يَعرِشون» يجعلونه عريشاً، وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «يَعْرُشُون» بضم الراء، وهما لغتان، يقال: «يعرِش» و «يعرش» مثل «يعكف» و «يعكف» ثم فيه قولان: أحدهما: ما يعرشون من الكروم، قاله ابن زيد. والثاني: أنها سقوف البيوت، قاله الفراء، وقال ابن قتيبة: كل شيء عُرِش، من كرم، أو نبات، أو سقف، فهو عَرْش، ومعروش. وقيل: المراد ب «مما يعرشون» : مما يبنون لهم من الأماكن التي تلقي فيها العسل، ولولا التسخير، ما كانت تأوي إِليها. قوله تعالى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ قال ابن قتيبة: أي: من الثّمرات، و «كلّ» ها هنا ليست على العموم، ومثله قوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ «3» . قال الزّجّاج: فهي تأكل الحامض، والمرّ، وما لا يوصف

_ (1) سورة المائدة: 90. (2) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «سكر» ، ولم ينسبه لقائل، وعنده «أعراض الكرام» بدل «عيب الأكرمين» . أي جعلت ذمّهم طعما لك. (3) سورة الأحقاف: 25.

[سورة النحل (16) : آية 70]

طعمه، فيحيل الله عزّ وجلّ من ذلك عسلاً. قوله تعالى: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ السُّبُل: الطُّرُق، وهي التي يطلب فيها الرّعي. و «الذلل» جمع ذَلول. وفي الموصوف بها قولان: أحدهما: أنها السُّبُل، فالمعنى: اسلكي السُّبُل مُذَلَّلَةً لكِ، فلا يتوعَّر عليها مكان سلكته، وهذا قول مجاهد، واختيار الزجاج. والثاني: أنها النحل، فالمعنى، إنك مذلّلة بالتّسخير لبني آدم، وهذا قول قتادة، واختيار ابن قتيبة. قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ يعني: العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ قال ابن عباس: منه أحمر، وأبيض، وأصفر. قال الزجاج: يخرج من بطونها، إِلاَّ أنها تلقيه من أفواهها، وإِنما قال: من بطونها، لأن استحالة الأطعمة لا تكون إِلاَّ في البطن، فيخرج كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم. قوله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى العسل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، واختلفوا هل الشفاء الذي فيه يختص بمرض دون غيره أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه عامّ في كل مرض. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء. وقال قتادة: فيه شفاء للناس من الأدواء. (863) وقد روى أبو سعيد الخدري قال: جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِن أخي استطلق بطنُه، فقال: «اسقه عسلاً» فسقاه، ثم أتى فقال: قد سقيتُه فلم يزده إِلاَّ استطلاقاً، قال: «اسقه عسلاً» ، فذكر الحديث ... إِلى أن قال: فَشُفِيَ، إِما في الثالثة، وإِما في الرابعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله وكذب بطن أخيك» أخرجه البخاري، ومسلم. ويعني بقوله: «صدق الله» : هذه الآية. والثاني: فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه، قاله السدي. والصحيح أن ذلك خرج مخرج الغالب. قال ابن الأنباري: الغالب على العسل أنه يعمل في الأدواء، ويدخل في الأدوية، فإذا لم يوافق آحادَ المرضى، فقد وافق الأكثرين، وهذا كقول العرب: الماء حياة كل شيء، وقد نرى من يقتله الماء، وإِنما الكلام على الأغلب. والثاني: أن الهاء ترجع إِلى الاعتبار. والشفاء: بمعنى الهدى، قاله الضحاك. والثالث: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله مجاهد. [سورة النحل (16) : آية 70] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أي: أوجدكم ولم تكونوا شيئاً ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عند انقضاء آجالكم، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وهو أردؤه، وأَدْوَنُه، وهي حالة الهرم. وفي مقداره من السنين ثلاثة أقوال: أحدها: خمس وسبعون سنة، قاله عليّ عليه السلام. والثاني: تسعون سنة، قاله قتادة. والثالث: ثمانون سنة، قاله قطرب. قوله تعالى: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً قال الفراء: لكي لا يعقل من بعد عقله الأول شيئا. وقال

_ صحيح. أخرجه البخاري 5716 و 5684، ومسلم 2217، والترمذي 2083 وأحمد 3/ 19 و 92، وأبو يعلى 1261، والبغوي في «شرح السنة» 3125. من حديث أبي سعيد الخدري.

[سورة النحل (16) : آية 71]

ابن قتيبة: أي: حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئاً، لشدة هرمه. وقال الزجاج: المعنى: أن منكم من يَكْبُرُ حتى يذهب عقله خَرَفاً، فيصير بعد أن كان عالماً جاهلاً، ليريَكم من قدرته، كما قَدِر على إِماتته وإِحيائه، أنه قادر على نقله من العلم إِلى الجهل. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: ليس هذا في المسلمين، المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إِلاَّ كرامة عند الله، وعقلاً، ومعرفة. وقال عكرمة: من قرأ القرآن، لم يُردّ إِلى أرذل العمر. [سورة النحل (16) : آية 71] وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) قوله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ يعني: فضل السادة على المماليك فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا يعني: السادة بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فعبرت «ما» عن «مَنْ» لأنه موضع إِبهام، تقول: ما في الدار؟ فيقول المخاطب: رجلان أو ثلاثة، ومعنى الآية: أن المولى لا يردّ على ما ملكت يمينه من مالِه حتى يكون المولى والمملوك في المال سواءً، وهو مَثَل ضربه الله تعالى للمشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء له، والأصنامَ ملكاً له، يقول: إِذا لم يكن عبيدُكم معكم في المُلك سواءً، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء، وترضَون لي ما تأنفون لأنفسكم منه؟! وروى العوفي عن ابن عباس، قال: لم يكونوا أشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في نصارى نجران حين قالوا: عيسى ابن الله تعالى. قوله تعالى: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قرأ أبو بكر عن عاصم: «تَجحدون» بالتاء. وفي هذه النعمة قولان: أحدهما: حُجته وهدايته. والثاني: فضله ورزقه. [سورة النحل (16) : الآيات 72 الى 74] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني النساء، وفي معنى «من أنفسكم» قولان: أحدهما: أنه خلَق آدم، ثم خلَق زوجته منه، قاله قتادة. والثاني: «من أنفسكم» ، أي: من جنسكم من بني آدم، قاله ابن زيد. وفي الحَفَدَة خمسة أقوال: أحدها: أنهم الأصهار، أختان الرجل على بناته، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، ومجاهد في رواية، وسعيد بن جبير، والنخعي، وأنشدوا من ذلك: ولو أنَّ نَفْسِي طاوعتني لأَصْبَحَتْ ... لها حَفَدٌ مِمَّا يُعدُّ كثيرُ «1» ولكنَّها نَفْسٌ عَلَيَّ أبِيَّةٌ ... عَيُوفٌ لأصهار اللئِام قذورُ والثاني: أنهم الخدم، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية الحسن، وطاوس وعكرمة في رواية الضحاك، وهذا القول يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يراد بالخدم: الأولاد، فيكون

_ (1) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «حفد» . ولم ينسبه لقائل.

المعنى: أن الأولاد يَخدمون. قال ابن قتيبة: الحفدة: الخدم والأعوان، فالمعنى: هم بنون، وهم خدم. وأصل الحَفْد: مداركة الخطو والإِسراع في المشي، وإِنما يفعل الخدم هذا، فقيل لهم: حَفَدَة. ومنه يقال في دعاء الوتر: (864) «وإِليك نسعى ونَحفِد» . والثاني: أن يراد بالخدم: المماليك، فيكون معنى الآية: وجعل لكم من أزواجكم بنين، وجعل لكم حفدة من غير الأزواج، ذكره ابن الأنباري. والثالث: أنهم بنوا امرأة الرجل من غيره، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والرابع: أنهم ولد الولد، رواه مجاهد عن ابن عباس. والخامس: أنهم: كبار الأولاد، والبنون: صغارهم، قاله ابن السائب، ومقاتل. قال مقاتل: وكانوا في الجاهلية تخدمهم أولادهم. قال الزجاج: وحقيقة هذا الكلام أن الله تعالى جعل من الأزواج بنين، ومن يعاون على ما يُحتاج إِليه بسرعة وطاعة. قوله تعالى: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ قال ابن عباس: يريد: من أنواع الثمار والحبوب والحيوان. قوله تعالى: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الأصنام، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الشريك والصاحبة والولد، فالمعنى: يصدِّقون أن لله ذلك؟! قاله عطاء. والثالث: أنه الشيطان، أمرهم بتحريم البحيرة والسائبة، فصدَّقوا. وفي المراد ب «نعمة الله» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التوحيد، قاله ابن عباس. والثاني: القرآن، والرسول. والثالث: الحلال الذي أحلَّه الله لهم. قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً وفي المشار إِليه قولان: أحدهما: أنها الأصنام، قاله قتادة. والثاني: الملائكة، قاله مقاتل. قوله تعالى: مِنَ السَّماواتِ يعني: المطر، ومن «الأرض» النبات والثمر. قوله تعالى: شَيْئاً قال الأخفش: جعل «شيئاً» بدلاً من الرزق، والمعنى: لا يملكون رزقاً قليلا ولا كثيرا وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي لا يقدرون على شيء. قال الفراء: وإِنما قال في أول الكلام «يملك» وفي آخره «يستطيعون» ، لأن «ما» في مذهب: جمعٌ لآلهتهم، فوحَّد «يملك» على لفظ «ما» وتوحيدها، وجمع في «يستطيعون» على المعنى، كقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «1» . قوله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي: لا تشبِّهوه بخَلْقه، لأنه لا يُشْبِه شيئاً، ولا يُشبِهه شيء، فالمعنى: لا تجعلوا له شريكا. وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أربعة أقوال:

_ ضعيف. أخرجه البيهقي 2/ 210 عن خالد بن أبي عمران مرسلا مرفوعا، فهو ضعيف. وهو بعض حديث. وأخرجه البيهقي 2/ 210، 211 عن عمر موقوفا، وقال الزيلعي في «نصب الراية» 2/ 135: روى هذا الدعاء أبو داود في مراسيله عن خالد بن أبي عمران أن جبريل علمه للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مرسل جيد الإسناد رجاله ثقات إلا أنه لم يذكر أنه في وتر أو في غير وتر. وانظر «تلخيص الحبير» 2/ 24.

[سورة النحل (16) : الآيات 75 إلى 76]

أحدها: يعلم ضرب المثل، وأنتم لا تعلمون ذلك، قاله ابن السائب. والثاني: يعلم أنه ليس له شريك، وأنتم لا تعلمون أنه ليس له شريك، قاله مقاتل. والثالث: يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه. والرابع: يعلم ما كان ويكون، وأنتم لا تعلمون قدر عظَمته حين أشركتم به ونسبتموه إِلى العجز عن بعث خلقه. [سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 76] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي: بيَّنَ شَبَهاً فيه بيان المقصود، وفيه قولان: أحدهما: انه مَثَلٌ للمؤمن والكافر. فالذي لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ هو الكافر، لأنه لا خير عنده، وصاحب الرّزق هو المؤمن، لما عنده من الخير هذا قول ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنه مَثَل ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان، لأنه مالكُ كل شيء، وهي لا تملك شيئاً، هذا قول مجاهد، والسدي. وذُكر في التفسير أن هذا المثل ضُرب بِقوم كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم قولان: أحدهما: أن المملوك: أبو الجوار، وصاحب الرّزق الحسن: سيّده هشام بن عمرو، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال مقاتل: المملوك: أبو الحواجر «1» . والثاني: أن المملوك: أبو جهل بن هشام، وصاحب الرزق الحسن: أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه، قاله ابن جريج. فأما قوله: هَلْ يَسْتَوُونَ ولم يقل: يستويان، لأن المراد: الجنس. وقال ابن الأنباري: لفظ «مَنْ» لفظ توحيد، ومعناها معنى الجمع، ولم يقع المَثَل بعبد معيَّن، ومالك معين، لكن عُنِيَ بهما جماعةُ عبيد، وقومٌ مالكون، فلما فارق من تأويل الجمع، جمع عائدها لذلك. وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: هو المستحق للحمد، لأنه المنعم، ولا نعمة للأصنام، بَلْ أَكْثَرُهُمْ يعني المشركين لا يَعْلَمُونَ أن الحمد لله. قال العلماء: وصف أكثرهم بذلك، والمراد: جميعهم. قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ قد فسرنا «البكم» في سورة البقرة «2» . ومعنى لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ أي: من الكلام، لأنه لا يَفْهَم ولا يُفهَم عنه. وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ قال ابن قتيبة: أي: ثِقل على وليِّه وقرابته. وفيمن أُريد بهذا المَثَل أربعة أقوال «3» : أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فالكافر هو الأبكم، والذي يأمر بالعدل هو المؤمن، رواه العوفي عن ابن

_ (1) في «الدر المنثور» 4/ 235: أبو الجوزاء. (2) البقرة عند الآية: 18. (3) رجح الطبري رحمه الله في «تفسيره» 7/ 624: القول الثالث.

[سورة النحل (16) : آية 77]

عباس. والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان، هو الذي يأمر بالعدل، وفي مولى له كان يكره الإِسلام وينهى عثمان عن النَّفقة في سبيل الله، وهو الأبكم، رواه إِبراهيم بن يعلى بن مُنْيَة عن ابن عباس. والثالث: أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه، وللوثن. فالوثن: هو الأبكم، والله تعالى: هو الآمر بالعدل، وهذا قول مجاهد، وقتادة، وابن السائب، ومقاتل. والرابع: أن المراد بالأبكم: أُبيُّ بن خلف، وبالذي يأمر بالعدل: حمزة، وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون، قاله عطاء. فيخرج على هذه الأقوال في معنى مولاه» قولان: أحدهما: أنه مولىً حقيقة، إِذا قلنا: إِنه رجل من الناس. والثاني: أنه بمعنى الولي، إِذا قلنا: إِنه الصنم، فالمعنى: وهو ثِقل على وليِّه الذي يخدمه ويزيِّنه. ويخرج في معنى «أينما يوجهه» قولان: إِن قلنا: إِنه رجل، فالمعنى: أينما يرسله. والتوجيه: الإِرسال في وجه من الطريق. وإن قلنا: إنه الصّم، ففي معنى الكلام قولان: أحدهما: أينما يدعوه، لا يجيبه، قاله مقاتل. والثاني: أينما توجَّه تأميله إِيّاه ورجاه له، لا يأتِه ذلك بخير، فحذف التأميل، وخلفه الصنم، كقوله: ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «1» أي: على ألسنة رسلك. وقرأ البزي عن ابن محيصن «أينما تُوَجِهْهُ» بالتاء على الخطاب. فأما قوله: لا يَأْتِ بِخَيْرٍ فان قلنا: هو رجل، فانما كان كذلك، لأنه لا يفهم ما يقال له، ولاَ يُفْهَمُ عنه، إِما لكفره وجحوده، أو لِبَكَمٍ به. وإِن قلنا: إِنه الصنم، فلكونه جماداً. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي: هذا الأبكم وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي: ومن هو قادر على التكلم، ناطق بالحقّ. [سورة النحل (16) : آية 77] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) قوله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قد ذكرناه في آخر (هود) «2» ، وسبب نزول هذه الآية أن كفار مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فنزلت هذه، قاله مقاتل. وقال ابن السائب: المراد بالغيب هاهنا: قيام الساعة. قوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ يعني: القيامة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ واللمح: النظر بسرعة، والمعنى: إِن القيامة في سرعة قيامها وبعث الخلائق، كلمح العين، لأن الله تعالى يقول: كُنْ فَيَكُونُ «3» ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ قال مقاتل: بل هو أسرع. وقال الزجاج: ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء. [سورة النحل (16) : آية 78] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ قرأ حمزة «إِمِّهاتِكم» بكسر الألف والميم، وقرأ الكسائي بكسر الإِلف وفتح الميم، والباقون بضم الألف وفتح الميم، وكذلك في النور «4» والزمر «5»

_ (1) سورة آل عمران: 194. (2) سورة هود: 123. (3) سورة البقرة: 117. (4) سورة النور: 61. (5) سورة الزمر: 6.

[سورة النحل (16) : آية 79]

والنجم «1» ، ولا خلاف بينهم في الابتداء بضم الهمزة. قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لفظه لفظ الواحد، والمراد به الجميع، وقد بيَّنَّا علة ذلك في أول البقرة «2» والأفئدة: جمع فؤاد. قال الزجاج: مثل غراب وأغربة، ولم يجمع «فؤاد» على أكثر العدد، لم يقل فيه: «فئدان» مثل غُراب وغِربان. وقال أبو عبيدة: وإِنما جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة قبل أن يخرجهم. غير أن العرب تقدِّم وتؤخِّر، وأنشد: ضَخْمٌ تُعَلَّقُ أَشْنَاقُ الدِّيَات بِه ... إِذا المئون أُمِرَّتْ فَوْقَهُ حَمَلا «3» الشَّنَق: ما بين الفريضتين. والمئون أعظم من الشَّنَق، فبدأ بالأقل قبل الأعظم. قال المفسرون: ومقصود الآية: أن الله تعالى أبان نعمه عليهم حيث أخرجهم جهّالاً بالأشياء، وخلق لهم الآلات التي يتوصلون بها إِلى العلم. [سورة النحل (16) : آية 79] أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) قوله تعالى: مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ قال الزجاج: هو الهواء البعيد من الأرض. قوله تعالى: ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فيه قولان: أحدهما: ما يمسكهنَّ عند قبض أجنحتهن وبسطِها أن يَقَعْنَ على الأرض إِلا الله، قاله الأكثرون. والثاني: ما يُمسكهنَّ أن يرسِلن الحجارة على شرار هذه الأمة، كما فُعِلَ بغيرهم، إلّا الله، قاله ابن السّائب. [سورة النحل (16) : الآيات 80 الى 83] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً أي: موضعا تسكنون فيه، وفي المساكن المتَّخَذة من الحجر والمدر تستر العورات والحُرَم، وذلك أن الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن بناء البيت وتسقيفه، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً وهي القباب والخيم المتخذة من الأدم تَسْتَخِفُّونَها أي: يخفُّ عليكم حملها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «ظَعَنِكُم» بفتح العين. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بتسكين العين، وهما لغتان، كالشَّعَر والشَّعْر، والنَّهَرِ والنَّهْرِ، والمعنى: إِذا سافرتم، وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أي: لا تثقل عليكم في الحالين وَمِنْ أَصْوافِها يعني: الضأن وَأَوْبارِها يعني: الإِبل وَأَشْعارِها يعني: المعز أَثاثاً قال الفراء: الأثاث: المتاع، لا

_ (1) سورة النجم: 32. [.....] (2) سورة البقرة: 7. (3) البيت للأخطل كما في «ديوانه» 143، وذكره في «اللسان» مادة «شنق» وعنده «قرم» بدل «ضخم» .

واحد له، كما أن المتاع لا واحد له. والعرب تقول: جمع المتاع أمتعه، ولو جمعت الأثاث، لقلت: ثلاثة أئثّة، وأثث: مثل أعثّة وعثث لا غير. وقال ابن قتيبة: الأثاث: متاع البيت من الفرش والأكسية. قال أبو زيد: واحد الأثاث: أثاثة. وقال الزجاج: يقال: قد أثَّ يَأَث أَثّاً: إِذا صار ذا أثاث. وروي عن الخليل أنه قال: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إِلى بعض، ومنه: شَعَر أثيث. فأما قوله: وَمَتاعاً فقيل: إِنما جمع بينة وبين الأثاث، لاختلاف اللفظين. وفي قوله: إِلى حِينٍ قولان: أحدهما: أنه الموت، والمعنى: ينتفعون به إِلى حين الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه إِلى حين البلى، فالمعنى: إِلى أن يَبلى ذلك الشيء، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أي: ما يقيكم حر الشمس، وفيه خمسة أقوال: أحدها: أنه ظلال الغمام، قاله ابن عباس. والثاني: ظلال البيوت، قاله ابن السائب. والثالث: ظلال الشجر، قاله قتادة، والزجاج. والرابع: ظلال الشجر والجبال، قاله ابن قتيبة. والخامس: انه كل شيء له ظل من حائط وسقف وشجر وجبل وغير ذلك، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً أي: ما يكنّكم من الحرِّ والبرد، وهي الغيران والأسراب. وواحد الأكنان «كِنّ» ، وكل شيء وقى شيئاً وستره فهو «كِنّ» . وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ وهي القُمُص تَقِيكُمُ الْحَرَّ ولم يقل: البرد، لأنّ ما وقى من الحر، وقى من البرد. وأنشد: وَمَا أدري إذا يَمَّمْتُ أرضاً ... أُريدُ الخير أيهما يَلَيْنِي «1» وقال الزجاج: إِنما خص الحرَّ لأنهم كانوا في مكاناتهم أكثر معاناةً له من البرد. وهذا مذهب عطاء الخراساني. قوله تعالى: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يريد الدروع التي يتَّقون بها شدّة الطعن والضرب في الحرب. قوله تعالى: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أي: مثلما أنعم الله عليكم بهذه الأشياء، يتم نعمته عليكم في الدنيا لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ والخطاب لأهل مكة، وكان أكثرهم حينئذٍ كفاراً، ولو قيل: إِنه خطاب للمسلمين، فالمعنى: لعلكم تدومون على الإِسلام وتقومون بحقه. وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو رجاء: «لعلكم تَسلَمون» بفتح التاء واللام، على معنى: لعلكم إِذا لبستم الدروع تَسلَمون من الجراح في الحرب. قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإِيمان فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وهذه عند المفسرين منسوخة بآية السّيف. قوله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وفي هذه النعمة قولان «2» : أحدهما: أنها المساكن نعم الله عزّ وجلّ عليهم في الدنيا. وفي إِنكارها ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يقولون: هذه ورثناها عن آبائنا. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نِعَم الله المساكن، والأنعام، وسرابيل الثياب، والحديد، يعرفه كفار قريش، ثم ينكرونه بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا

_ (1) البيت للمثقب العبدي وتقدم في الجزء الأول. (2) رجح الطبري رحمه الله القول الثاني 7/ 630.

[سورة النحل (16) : الآيات 84 إلى 87]

ورثناه عنهم، وهذا عن مجاهد. والثاني: أنهم يقولون: لولا فلان، لكان كذا، فهذا إِنكارهم، قاله عون بن عبد الله. والثالث: يعرفون أن النعم من الله، ولكن يقولون: هذه بشفاعة آلهتنا، قاله ابن السائب، والفراء، وابن قتيبة. والثاني: أنّ المراد بالنّعمة ها هنا: محمّد صلى الله عليه وسلم يعرفون أنه نبيٌّ ثم يكذِّبونه، وهذا مروي عن مجاهد، والسدي، والزجاج. قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ قال الحسن: وجميعهم كفار، فذكر الأكثر، والمراد به الجميع. [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 87] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) قوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يعني: يوم القيامة، وشاهد كلِّ أُمةٍ نبيّها يشهد عليها بتصديقها وتكذيبها ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يُطلب منهم أن يرجعوا إِلى ما أمر الله به لأن الآخرة ليست بدار تكليف. قوله تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا الْعَذابَ يعني: النار فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ لا يؤخَّرون ولا يمهلون وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله في العبادة، وذلك أن الله يبعث كل معبود من دونه، فيقول المشركون: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا أي: نعبد من دونك. فان قيل: فهذا معلوم عند الله تعالى، فما فائدة قولهم: «هؤلاء شركاؤنا» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنهم لما كتموا الشرك في قولهم: واللهِ ما كنا مشركين، عاقبهم الله تعالى باصمات ألسنتهم، وإِنطاق جوارحهم، فقالوا عند معاينة آلهتهم: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا أي: قد أقررنا بعد الجحد، وصدَّقنا بعد الكذب، التماساً للرحمة، وفراراً من الغضب، وكأنَّ هذا القول منهم على وجه الاعتراف بالذنْب، لا على وجه إِعلام من لا يعلم. والثاني: أنهم لما عاينوا عِظَم غضب الله تعالى قالوا: هؤلاء شركاؤنا، تقديرَ أن يعود عليهم من هذا القول روح، وأن تلزم الأصنام إِجرامهم، أو بعض ذنوبهم إِذْ كانوا يدَّعون لها العقل والتمييز، فأجابتهم الأصنام بما حسم طمعهم. قوله تعالى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ أي: أجابوهم وقالوا لهم: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ قال الفراء: ردت عليهم آلهتهم قولهم. وقال أبو عبيدة: «فألقوا» ، أي: قالوا لهم. يقال: ألقيت إِلى فلان كذا، أي: قلت له. قال العلماء: كذَّبوهم في عبادتهم إِياهم، وذلك أن الأصنام كانت جماداً لا تعرف

[سورة النحل (16) : الآيات 88 إلى 89]

عابديها فظهرت فضيحتهم يومئذٍ إِذْ عبدوا مَن لم يعلم بعبادتهم وذلك كقوله: سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ «1» . قوله تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ المعنى: أنهم استسلموا له. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون، قاله الأكثرون. ثم في معنى استسلامهم قولان: أحدهما: أنهم استسلموا له بالإِقرار بتوحيده وربوبيته. والثاني: أنهم استسلموا لعذابه. والثاني: أنهم المشركون والأصنام كلُّهم. قال الكلبي: والمعنى: أنهم استسلموا لله منقادين لحُكمه. قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فيه قولان: أحدهما: بَطَل قولهم أنها تشفع لهم. والثاني: ذهب عنهم ما زيَّن لهم الشّيطان أنّ لله شريكا وولدا. [سورة النحل (16) : الآيات 88 الى 89] الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال ابن عباس: منعوا النَّاس من طاعة الله والإِيمان بمحمد. قوله تعالى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ إِنما نكَّر العذاب الأول، لأنه نوع خاص لقوم بأعيانهم، وعرَّف العذاب الثاني، لأنه العذاب الذي يعذَّب به أكثر أهل النار، فكان في شهرته بمنزلة النار في قول القائل: نعوذ بالله من النار، وقد قيل: إِنما زِيدوا هذا العذاب على ما يستحقونه من عذابهم، بصدِّهم عن سبيل الله. وفي صفة هذا العذاب الذي زِيدوا أربعة أقوال: أحدها: أنها عقارب كأمثال النخل الطوال، رواه مسروق عن ابن مسعود. والثاني: أنها حيَّات كأمثال الفِيَلَة، وعقارب كأمثال البغال، رواه زرٌّ عن ابن مسعود. والثالث: أنها خمسة أنهار من صُفْر «2» مُذَابٍ تسيل من تحت العرش يعذَّبون بها، ثلاثة على مقدار الليل، واثنان على مقدار النهار، قاله ابن عباس. والرابع: أنه الزمهرير، ذكره ابن الأنباري. قال الزّجّاج: يخرجون من حرّ الزمهرير، فيتبادرون من شدة برده إِلى النار. قوله تعالى: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم قومه، قاله ابن عباس. والثاني: أُمَّته قاله مقاتل. وتمّ الكلام ها هنا. ثم قال: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً قال الزجاج: التبيان: اسم في معنى البيان. فأما قوله تعالى: لِكُلِّ شَيْءٍ فقال العلماء بالمعاني: يعني: لكل شيء من أمور الدين، إِما بالنص عليه، أو بالإِحالة على ما يوجب العلم، مثل بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين.

_ (1) سورة مريم: 83. (2) في «اللسان» : الصّفر: النحاس الجيد وقيل: ضرب من النحاس.

[سورة النحل (16) : الآيات 90 إلى 93]

[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 93] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه شهادة أن لا إِله إِلا الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه الحق، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى، قاله سفيان بن عيينة. والرابع: أنه القضاء بالحق، ذكره الماوردي. قال أبو سليمان: العدل في كلام العرب: الإِنصاف، وأعظمُ الإِنصاف: الاعتراف للمنعِم بنعمته. وفي المراد بالإِحسان خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه أداء الفرائض، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: العفو. رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الإِخلاص، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أن تعبد الله كأنك تراه، رواه عطاء عن ابن عباس. والخامس: أن تكون السريرة أحسن من العلانية، قاله سفيان بن عيينة. فأما قوله تعالى: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى فالمراد به: صلة الأرحام. وفي الفحشاء قولان: أحدهما: أنها الزنا، قاله ابن عباس. والثاني: المعاصي، قاله مقاتل. وفي (المنكر) أربعة أقوال: أحدها: أنه الشرك، قاله مقاتل. والثاني: أنه ما لا يُعرَف في شريعة ولا سُنَّة. والثالث: أنه ما وعد الله عليه النار، ذكرهما ابن السائب. والرابع: أن تكون علانية الإِنسان أحسن من سريرته، قاله سفيان بن عيينة. فأما (البغي) فقال ابن عباس: هو الظلم، وقد سبق شرحه في مواضع. قوله تعالى: يَعِظُكُمْ قال ابن عباس: يؤدِّبكم، وقد ذكرنا معنى الوعظ في سورة النساء «2» . وتَذَكَّرُونَ بمعنى: تتَّعظون. قال ابن مسعود: هذه الآية أجمع آية في القرآن لخير أو لشر. وقال الحسن: والله ما ترك العدلُ والاحسانُ شيئاً من طاعة الله إِلاَّ جمعاه، ولا تركت الفحشاء والمنكر والبغي شيئاً من معصية الله إِلاّ جمعوه. قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين «3» : أحدهما: أنها نزلت في

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» : الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا، ويقال على معنيين، أحدهما: متعد بنفسه كقولك: أحسنت كذا، أي حسّنته وكملته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء، وثانيهما: متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان أي أوصلت إليه ما ينتفع به. قلت: وهو في الآية مراد بالمعنيين معا، فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسنّور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك، وهو تعالى غني عن إحسانهم ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن. (2) سورة النساء: 58. (3) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 636: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم، ونهاهم عن نقض الأيمان بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين، بعقود تكون بينهم بحق، مما لا يكرهه الله. وجائز أن تكون نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيهم عن نقض بيعتهم حذرا من قلة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين، وأن تكون نزلت في الذين أرادوا الانتقال بحلفهم عن حلفائهم لقلة عددهم في آخرين لكثرة عددهم. وجائز أن تكون في غير ذلك، ولا خبر تثبت به الحجة أنها نزلت في شيء من ذلك دون شيء، ولا دلالة في كتاب ولا حجة عقل أي ذلك عني بها، ولا قول في ذلك أولى بالحق مما قلنا لدلالة ظاهره عليه، وأن الآية كانت قد نزلت لسبب من الأسباب، ويكون الحكم بها عاما في كل ما كان بمعنى السبب الذي نزلت فيه.

حلف أهل الجاهلية، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المفسرون: العهد الذي يجب الوفاء به، هو الذي يحسن فعله، فاذا عاهد العبد عليه، وجب الوفاء به، والوعد من العهد وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها أي: بعد تغليظها وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين، بخلاف لغو اليمين، ووكدت الشيء توكيداً، لغة أهل الحجاز. فأما أهل نجد، فيقولون: أكدته تأكيداً. وقال الزجاج: يقال: وكَّدت الأمر، وأكّدت، لغتان جيدتان، والأصل الواو، والهمزة بدل منها. قوله تعالى: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي: بالوفاء وذلك أن من حلف بالله، فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه. وللمفسرين في معنى «كفيلا» ثلاثة أقوال: أحدها: شهيداً، قاله سعيد بن جبير. والثاني: وكيلا، قاله مجاهد. والثالث: حفيظاً مراعياً لعقدكم، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها قال مجاهد: هذا فعل نساء أهل نجد، تنقض إِحداهن حبلها، ثم تنفشه، ثم تخلطه بالصوف فتغزله. وقال مقاتل: هي امرأة من قريش تسمى «رَيْطة» بنت عمرو بن كعب، كانت إِذا غزلت، نقضته. وقال ابن السائب: اسمها «رَائطة» وقال ابن الأنباري: اسمها «رَيطة» بنت عمرو المرِّيّة، ولقبها الجعراء، وهي من أهل مكة، وكانت معروفة عند المخاطبين، فعرفوها بوصفها، ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك، كانت متناهية الحمق، تغزِلُ الغزل من القطن أو الصوف فتُحكِمُه، ثم تأمر جاريتها بتقطيعه. وقال بعضهم: كانت تغزل هي وجواريها، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن، فضربها الله مثلا لناقضي العهد. و «نقضت» ، بمعنى: تنقض، كقوله: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1» بمعنى: وينادي. وفي المراد بالغَزْل قولان: أحدهما: أنه الغَزْل المعروف، سواء كان من قطن أو صوف أو شعر، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه الحَبْل، قاله مجاهد. وقوله: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ قال قتادة: من بعد إِبرام، وقوله: أَنْكاثاً أي: أنقاضاً. قال ابن قتيبة: الأنكاث: ما نُقض من غَزْل الشَّعْر وغيره. وواحدها: نِكْث. يقول: لا تؤكدوا على أنفسكم الأَيمان والعهود، ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه، فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت، ثم نقضت ذلك النسج، فجعلته أنكاثاً. قوله تعالى: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي: دغلاً، ومكراً، وخديعة، وكل شيء دخله عيب، فهو مدخول، وفيه دَخَلٌ. قوله تعالى: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ قال ابن قتيبة: لأن تكون أمة، هِيَ أَرْبى أي: هي أغنى مِنْ أُمَّةٍ وقال الزجاج: المعنى: بأن تكون أمة هي أكثر، يقال: ربا الشيء يربو: إِذا كثر. قال ابن الأنباري: قال اللغويون: «أربى» : أَزْيَد عدداً. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم

_ (1) سورة الأعراف: 44.

[سورة النحل (16) : الآيات 94 إلى 96]

وأعزَّ، فينقضون حِلف هؤلاء ويحالفون أولئك، فنُهوا عن ذلك! وقال الفراء: المعنى: لا تغدِروا بقوم لقلَّتِهم وكثرتكم، أو قِلَّتكم وكثرتهم وقد غرَّرتموهم بالأَيمان. قوله تعالى: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الكثرة، قاله سعيد بن جبير، وابن السائب، ومقاتل، فيكون المعنى: إِنما يختبركم الله بالكثرة، فاذا كان بين قومين عهد فكثر أحدهما، فلا ينبغي أن يفسخ الذي بينه وبين الأقلِّ. فان قيل: إِذا كنى عن الكثرة، فهلاّ قيل بها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري. بأن الكثرة ليس تأنيثها حقيقياً، فحملت على معنى التذكير، كما حملت الصيحة على معنى الصياح. والثاني: أنها ترجع إِلى العهد، فانَّه لدلالة الأَيمان عليه، يجرى مجرى المظهر، ذكره ابن الأنباري. والثالث: أنها ترجع إِلى الأمر بالوفاء، ذكره بعض المفسرين. قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً قد فسرناه في آخر هود «1» . قوله تعالى: وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ صريح في تكذيب القَدَرية، حيث أضاف الإِضلال والهداية إليه، وعلّقهما بمشيئته. [سورة النحل (16) : الآيات 94 الى 96] وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا هذا استئناف للنهي عن أيمان الخديعة. فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها قال أبو عبيدة: هذا مَثَل يقال لكل مبتَلَىً بعد عافية، أو ساقط في ورطة بعد سلامة: زلّت به قَدَمه. قال مقاتل: ناقض العهد يَزِلُّ في دينه كما تَزِلُّ قَدم الرَّجُل بعد الاستقامة. قال المفسرون: وهذا نهي للذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِسلام ونصرة الدين عن نقض العهد، ويدلّ عليه قوله تعالى: وَتَذُوقُوا السُّوءَ يعني: العقوبة بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يريد أنهم إِذا نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدَّوا الناس عن الإِسلام، فاستحقُّوا العذاب. وقوله تعالى: وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني: في الآخرة. ثم أكد ذلك بقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا. (865) قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في رجُلين اختصما إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، يقال لأحدهما: «عِيدان بن أشوع» وهو صاحب الأرض، وللآخر: «امرؤ القيس» وهو المدعى عليه، فهمّ امرؤ القيس أن يحلف، فأخّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وتقدم أن هذا إسناد ساقط، وتقدم في سورة النساء بسياق آخر صحيح، فالخبر بذكر نزول هذه الآية، ليس له أصل.

[سورة النحل (16) : آية 97]

وذكر أبو بكر الخطيب أن اسم صاحب الأرض «ربيعة بن عبْدان» ، وقيل: «عَيدان» ، بفتح العين وياء معجمة باثنتين. ومعنى الآية: لا تنقضوا عهودكم، تطلبون بنقضها عَرَضاً يسيراً من الدنيا، إنّ ما عند الله من الثواب على الوفاء هو خير لكم من العاجل. ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ أي: يفنى وَما عِنْدَ اللَّهِ في الآخرة باقٍ وقف بالياء ابن كثير في رواية عنه، ولا خلاف في حذفها في الوصل. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «ولَيَجْزِيَنَّ» بالياء. وقرأ ابن كثير، وعاصم «ولَنَجْزِيَنَّ» بالنون. ولم يختلفوا في وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ أنها بالنون، ومعنى هذه الآية: وليَجْزِيَنَّ الذين صبروا على أمره أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون في الدنيا، ويتجاوز عن سيئاتهم. [سورة النحل (16) : آية 97] مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن امرأ القيس المتقدِّم ذكره أقرّ بالحقّ الذي كان هَمَّ أن يحلف عليه، فنزلت فيه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً، وهو إِقراره بالحق، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن ناساً من أهل التّوراة وأهل الإِنجيل وأهل الأوثان جلسوا فتفاضلوا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح. قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً اختلفوا أين تكون هذه الحياة الطيبة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس. ثم فيها للمفسرين تسعة أقوال «1» : أحدها: أنها القناعة، قاله علي عليه السلام، وابن عباس في رواية، والحسن في رواية، ووهب بن منبه. والثاني: أنها الرزق الحلال، رواه أبو مالك عن ابن عباس. وقال الضحاك: يأكل حلالاً ويلبس حلالاً. والثالث: أنها السعادة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنها الطاعة، قاله عكرمة. والخامس: أنها رزق يوم بيوم، قاله قتادة. والسادس: أنها الرزق الطيِّب، والعمل الصالح، قاله إِسماعيل بن أبي خالد. والسابع: أنها حلاوة الطاعة، قاله أبو بكر الوراق. والثامن: العافية والكفاية. والتاسع: الرضى بالقضاء، ذكرهما الماوردي. والثاني: أنها في الآخرة، قاله الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد، وذلك إِنما يكون في الجنة. والثالث: أنها في القبر، رواه أبو غسّان عن شريك. [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 102] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 643: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه، ولم يعظم فيها نصبه، ولم يتكدر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها، وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها.

قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: فاذا أردتَ القراءة فاستعذ، ومثله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «1» وقوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» وقوله: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً «3» . ومثله في الكلام: إذا أكلت، فقل بسم الله، هذا قول عامة العلماء واللغويين. والثاني: أنه على ظاهره، وأن الاستعاذة بعد القراءة، روي عن أبي هريرة، وداود «4» . والثالث: أنه من المقدَّم والمؤخَّر، فالمعنى: فاذا استعذت بالله فاقرأ، قاله أبو حاتم السجستاني، والأول أصح. فصل: والاستعاذة عند القراءة سُنَّةٌ في الصلاة وغيرها. وفي صفتها عن أحمد روايتان: إحداهما: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِن الله هو السميع العليم، رواها أبو بكر المروزي. والثانية: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، إِن الله هو السميع العليم، رواها حنبل. وقد بيَّنَّا معنى «أعوذ» في أول الكتاب، وشرحنا اشتقاق الشيطان في البقرة «5» والرجيم في آل عمران «6» . قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا في المراد بالسلطان قولان «7» : أحدهما: أنه التسلُّط. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ليس له عليهم سلطان بحال، لأن الله صرف سلطانه عنهم بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «8» . والثاني: ليس له عليهم سلطان، لاستعاذتهم منه. والثالث: ليس له قُدْرة على أن يحملهم على ذَنْب لا يُغْفَر. والثاني: أنه الحُجَّة. فالمعنى: ليس له حُجَّة على ما يدعوهم إِليه من المعاصي، قاله مجاهد. فأما قوله: يَتَوَلَّوْنَهُ معناه: يطيعونه. وفي هاء الكناية في قوله: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله مجاهد، والضحاك. والثاني: أنها ترجع إِلى الشيطان، فالمعنى: الذين هم من أجله مشركون بالله، وهذا كما يقال: صار فلان بك عالماً، أي: من أجلك، هذا قول ابن قتيبة. وقال ابن الأنباري: المعنى: والذين هم باشراكهم إِبليسَ في العبادة، مشركون بالله تعالى. قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ. (866) سبب نزولها أن الله تعالى كان ينزِّل الآية، فيُعمَل بها مدة، ثم ينسخها، فقال كفار قريش: والله ما محمد إِلاَّ يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، ويأتيهم غداً بما هو أهون عليهم منه،

_ لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهذه رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 565، دون عزو لقائل. والخبر باطل لا أصل له، وهل علم كفار قريش بالناسخ والمنسوخ أيضا؟!!

[سورة النحل (16) : الآيات 103 إلى 105]

فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والمعنى: إِذا نسخنا آية بآية، إِما نسخ الحكم والتلاوة، أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من ناسخٍ ومنسوخ، وتشديد وتخفيف، فهو عليم بالمصلحة في ذلك قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي: كاذب بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيه قولان: أحدهما: لا يعلمون أنّ الله أنزله. والثاني: لا يعلمون فائدة النسخ. قوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ يعني: القرآن رُوحُ الْقُدُسِ يعني: جبريل. وقد شرحنا هذا الاسم في البقرة «1» . وقوله تعالى: مِنْ رَبِّكَ أي: من كلامه بِالْحَقِّ أي: بالأمر الصحيح لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا بما فيه من البيّنات فيزدادوا يقينا. [سورة النحل (16) : الآيات 103 الى 105] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ يعني: قريشاً إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أي: آدمي، وما هو من عند الله. وفيمن أرادوا بهذا البشر تسعة أقوال: (867) أحدها: أنه كان لبني المغيرة غلام يقال له: يعيش، يقرأ التوراة، فقالوا: منه يتعلم محمد، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عكرمة في رواية: كان هذا الغلام لبني عامر بن لؤي، وكان رومياً. (868) والثاني: أنه فتى كان بمكة يسمى بلعام وكان نصرانياً أعجمياً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمه، فلما رأى المشركون دخوله إِليه وخروجه، قالوا ذلك، روي عن ابن عباس أيضاً. (869) والثالث: أنه نزلت في كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيملى عليه «سميع عليم» فيكتب هو «عزيز حكيم» أو نحو هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي ذلك كتبت فهو كذلك» ، فافتتن، وقال: إِن محمداً يَكِل ذلك إِليَّ فأكتب ما شئت، روي عن سعيد بن المسيب. (870) والرابع: أنه غلام أعجمي لامرأة من قريش يقال له: جابر، وكان جابر يأتي

_ مرسل. أخرجه الطبري 21934 عن عكرمة مرسلا، وورد من مرسل قتادة برقم 21935. وعزاه المصنف لعكرمة عن ابن عباس أيضا، ولم أره عن ابن عباس من طريقة عكرمة. وانظر ما بعده. ضعيف. أخرجه الطبري 21933 من حديث ابن عباس، وضعّفه السيوطي في «الدر» 4/ 247. - وعلّته مسلم بن كيسان أبو عبد الله الملائي، فقد ضعفه الجمهور. أخرجه الطبري 21943 عن سعيد بن المسيب مرسلا. والمشهور في هذا السياق ما يأتي في مطلع سورة «المؤمنون» . هو مرسل، وانظر ما يأتي.

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعلم منه، فقال المشركون: إِنما يتعلم محمد من هذا، قاله سعيد بن جبير. (871) والخامس: أنهم عَنوا سلمان الفارسي، قاله الضحاك وفيه بُعْدٌ من جهة أن سلمان أسلم بالمدينة، وهذه الآية مكية. (872) والسادس: أنهم عَنَوا به رجلا حدّادا كان يقال له: يحنّس النَّصراني، قاله ابن زيد. (873) والسابع: أنهم عَنَوا به غلاماً لعامر بن الحضرمي، وكان يهودياً أعجمياً، واسمه «يسار» ، ويكنى أبا فُكَيهة، قاله مقاتل. وقد روي عن سعيد بن جبير نحو هذا، إِلاَّ أنه لم يقل: إِنه كان يهودياً. (874) والثامن: أنهم عَنَوا غلاماً أعجمياً اسمه عايش، وكان مملوكاً لحويطب، وكان قد أسلم، قاله الفراء، والزجاج. (875) والتاسع: أنهما رجلان، قال عبد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا عبدان من أهل عين التمر، يقال لأحدهما: «يسار» وللآخر «جبر» وكانا يصنعان السيوف بمكة، ويقرآن الإِنجيل، فربّما مرّ بهما النبيّ صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن، فيقف يستمع، فقال المشركون: إِنما يتعلم منهما. قال ابن الأنباري فعلى هذا القول، يكون البشر واقعاً على اثنين، والبشر من أسماء الأجناس، يعبّر عن اثنين، كما يعبر «أحد» عن الاثنين والجميع، والمذكر والمؤنث. قوله تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: «يُلحِدون» بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ حمزة والكسائي: «يَلحَدون» بفتح الياء والحاء. فأما القراءة الأولى، فقال ابن قتيبة: «يُلحدون» أي: يميلون إِليه، ويزعمون أنه يعلِّمه، وأصل الإِلحاد المَيْل. وقال الفراء: «يُلحِدون» بضم الياء: يعترضون، ومنه قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ أي: باعتراض، و «يلحدون» بفتح الياء: يميلون. وقال الزجاج: يَلَحدون إِليه، أي: يُميلون القول فيه أنه أعجمي. قال ابن قتيبة: لا يكاد عوام الناس يفرِّقون بين العجمي والأعجمي، والعربيّ والأعرابي، فالأعجمي: الذي لا يُفصح وإِن كان نازلا بالبادية، والعجمي: منسوب إِلى العجم وإِن كان فصيحاً والأعرابي: هو البدوي، والعربي: منسوب إِلى العرب وإِن لم يكن بدوياً. قوله تعالى: وَهذا لِسانٌ يعني: القرآن، عَرَبِيٌّ قال الزجاج: أي: أن صاحبه يتكلم بالعربية. قوله تعالى: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي: الذين إِذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلّا

_ باطل. أخرجه الطبري 21941 عن الضحاك مرسلا، فهذه علة، وله علّة ثانية، فيه راو لم يسم، وله علة ثالثة، وهي كون السورة مكية، وسلمان كان في المدينة. وكذا ضعف هذا القول ابن كثير في «التفسير» . هذا معضل، وابن زيد واسمه عبد الرحمن ضعيف متروك إذا وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟! عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم. عزاه المصنف للفراء والزجاج، ولم أر من أسنده. مرسل. أخرجه الطبري 21938 و 21939 و 21940 والواحدي في «الأسباب» 566 عن عبد الله بن مسلم الحضرمي مرسلا، فهو ضعيف. وله شاهد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري 21942. - الخلاصة: هذه الروايات جميعا ضعيفة، لا يحتج بشيء منها بمفرده. لكن تعدد هذه الروايات مع اختلاف مخارجها يدل على صحة أصل هذه الأخبار مع ضعف تعيين ذاك الرجل الذي يقصده المشركون في ذلك.

[سورة النحل (16) : الآيات 106 إلى 111]

الله، كذَّبوا بها، وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أي: أن الكذب نعت لازم لهم، وعادة من عاداتهم، وهذا ردَّ عليهم إِذ قالوا: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ «1» . وهذه الآية من أبلغ الزجر عن الكذب، لأنه خصّ به من لا يؤمن. [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ. قال مقاتل: (876) نزلت في عبد الله بن سعد بن أَبي سرح القرشي، ومِقْيَس بن صُبابة، وعبد الله بن أنس بن خَطَل، وطعمة بن أُبيرِق، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وقيس بن الفاكه المخزومي. فأما قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال: (877) أحدها: أنه نزل في عمار بن ياسر، أخذه المشركون فعذَّبوه، فأعطاهم ما أرادوا بلسانه، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال قتادة. (878) والثاني: أنه لما نزل قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إلى آخر الآيتين اللتين

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان إن أطلق، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر باطل، وقد تفرّد به. حسن، أخرجه الطبري 21944 عن ابن عباس في قوله مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ... إلى آخر الآية، وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذبوه، ثم تركوه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالذي لقي من قريش والذي قال. فأنزل الله تعالى ذكره عذره مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ.... إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» 1/ 140 عن مجاهد مرسلا. وله شاهد عند الحاكم 2/ 357، وعبد الرزاق في تفسيره 1509، والطبري 21946 من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه. وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، مع أن مداره على محمد بن عمار بن ياسر، وهو مقبول، ولم يرو له الشيخان، لكن أصل الخبر محفوظ، فقد أخرجه الطبري 21947 عن أبي مالك مرسلا. وله شاهد من مرسل قتادة: أخرجه الطبري 21944. الخلاصة: هذه الروايات تتأيد بمجموعها، وله شواهد أخرى أوردها السيوطي في «الدر» 4/ 249. حسن. أخرجه الطبري 21953 بإسناد حسن عن ابن عباس. وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 21952. وله شاهد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري 21950 و 21951.

في سورة النساء «1» ، كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إِلىَ من كان بمكة، فخرج ناس ممن أقرَّ بالإِسلام، فاتَّبعهم المشركون، فأدركوهم، فأكرهوهم حتى أعطوا الفتنة، فنزل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. (879) والثالث: أنه نزل في عياش بن أبي ربيعة، كان قد هاجر فحلفت أُمُّه ألاَّ تستظل ولا تشبع من طعام حتى يرجع، فرجع إِليها، فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون، قاله ابن سيرين. (880) والرابع: أنه نزل في جبر، غلام ابن الحضرمي، كان يهودياً فأسلم، فضربه سيِّده حتى رجع إِلى اليهودية، قاله مقاتل. وأما قوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فقال مقاتل: هم النفر المسَمَّوْن في أول الآية. فأما التفسير، فاختلف النحاة في قوله: مَنْ كَفَرَ وقوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ فقال الكوفيون: جوابهما جميعا في قوله: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، فقال البصريون: بل قوله: مَنْ كَفَرَ مرفوع بالرد على الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون خبرُ مَنْ كَفَرَ محذوفاً، لوضوح معناه، تقديره: من كفر بالله، فالله عليه غضبان. قوله تعالى: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ أي: ساكن إِليه راضٍ به. وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً قال قتادة: من أتاه بايثار واختيار. وقال ابن قتيبة: من فتح له صدره بالقبول. وقال أبو عبيدة: المعنى: من تابعته نفسه، وانبسط إِلى ذلك، يقال: ما ينشرح صدري بذلك، أي: ما يطيب: وجاء قوله: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ على معنى الجميع، لأن «مَنْ» تقع على الجميع. فصل: الإِكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها. وفي الإِكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان «2» : إِحداهما: أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إِن لم يفعل ما أُمر به. والثانية: أن التخويف لا يكون إِكراها حتى يُنَال بعذاب. وإذا ثبت جواز «التَّقِيَة» فالأفضل ألاَّ يفعل، نص عليه أحمد، في أسير خُيِّر بين القتل وشرب الخمر، فقال: إِن صبر على القتل فله الشرف، وإِن لم يصبر، فله الرخصة، فظاهر هذا، الجوازُ. وروى عنه الأثرم أنه سئل عن التَّقيَّة في شرب الخمر فقال: إنما

_ عزاه السيوطي في «الدر» 4/ 549 لابن أبي حاتم عن ابن سيرين لكن ذكره مختصرا، وهو غير صحيح، وما قبله هو الراجح، وكذا حديث عمار، هو أشهر وأصح حديث في الباب. باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق، وهو ممن يضع الحديث.

التقية في القول. فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك. فأما إِذا أُكره على الزنا، لم يجز له الفعل، ولم يصح إِكراهه، نص عليه أحمد. فان أُكره على الطلاق، لم يقع طلاقه، نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يقع. قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا في المشار إِليه بذلك قولان: أحدهما: أنه الغضب والعذاب، قاله مقاتل. والثاني: أنه شرح الصدر للكفر. و «استحبُّوا» بمعنى: أحبوا الدنيا واختاروها على الآخرة. قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ أي: وبأن الله لا يريد هدايتهم. وما بعد هذا قد سبق شرحه «1» إِلى قوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ففيه قولان: أحدهما: الغافلون عما يراد بهم، قاله ابن عباس. والثاني: عن الآخرة، قاله مقاتل. قوله تعالى: لا جَرَمَ قد شرحناها في هود «2» . وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: (881) أحدها: أنها نزلت فيمن كان يفتن بمكّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. (882) والثاني: أن قوماً من المسلمين خرجوا للهجرة، فلحقهم المشركون فأعطَوهم الفتنة، فنزل فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ «3» فكتب المسلمون إِليهم بذلك، فخرجوا، وأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقُتِل من قتل، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. (883) والثالث: أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان الشيطان قد أزلَّه حتى لحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتَل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفّان، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وفيه بُعد، لأن المشار إِليه وإِن كان قد عاد إِلى الإِسلام، فان الهجرة انقطعت بالفتح. والرابع: أنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو، وعبد الله بن أَسيد الثقفي، قاله مقاتل. فأما قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا فقرأ الأكثرون: «فُتنوا» بضم الفاء وكسر التاء، على معنى: من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم. قال ابن عباس: فُتنوا بمعنى: عُذِّبوا. وقرأ عبد الله بن عامر:

_ تقدم قبل قليل، ويدل عليه ما بعده. أخرجه الطبري 21953 من رواية عكرمة عن ابن عباس بنحوه، وتقدم قبل قليل. أخرجه الطبري 21955 عن عكرمة والحسن مرسلا، وهو ضعيف بذكر نزول الآية فيه، وأما استشفاع عثمان له وإعلان إسلامه فصحيح، ولعله يأتي.

[سورة النحل (16) : آية 112]

«فَتَنوا» بفتح الفاء والتاء، على معنى: من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله، يشير إِلى من أسلم من المشركين. وقال أبو علي: من بعد ما فَتنوا أنفسهم باظهار ما أظهروا للتقية، لأن الرخصة لم تكن نزلت بعدُ. قوله تعالى: ثُمَّ جاهَدُوا أي: قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وَصَبَرُوا على الدين والجهاد. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها في المكنيِّ عنها أربعة أقوال: أحدها: الفتنة، وهو مذهب مقاتل. والثاني: الفَعلة التي فعلوها، قاله الزجاج. والثالث: المجاهدة، والمهاجرة، والصبر. والرابع: المهاجرة. ذكرهما واللَّذَين قبلهما ابن الأنباري. قوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي قال الزجاج: هو منصوب على أحد شيئين، إِما على معنى: إِن ربك لغفور يوم تأتي، وإِما على معنى: اذكر يوم تأتي. ومعنى تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها أي: عنها. والمراد: أن كل إِنسان يجادل عن نفسه. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب خوِّفنا، فقال: إِن لجهنم زفرةً ما يبقى ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسل إِلاَّ وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إِن إِبراهيم خليل الرحمن ليدلي بالخلة فيقول: يا رب أنا خليلك إِبراهيم، لا أسألك إِلاَّ نفسي، وإِن تصديق ذلك في كتاب الله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها. وقد شرحنا معنى «الجدال» في هود «1» . [سورة النحل (16) : آية 112] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً في هذه القرية قولان: أحدهما: أنها مكة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور، وهو الصحيح. والثاني: أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجوع حتى كانوا يأكلون ما يقاعدون، قاله الحسن. فأما ما يروى عن حفصة أنها قالت: هي المدينة، فذلك على سبيل التمثيل، لا على وجه التفسير، وبيانه: ما روى سليم بن عتر «2» ، قال: صدرنا من الحج مع حفصة، وعثمان محصور بالمدينة، فرأت راكبين فسألتهما عنه، فقالا: قُتِل، فقالت: والذي نفسي بيده إنها للقرية، تعني المدينة التي قال الله تعالى في كتابه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، تعني حفصة: أنها كانت على قانون الاستقامة في أيّام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ عند قتل عثمان رضي الله عنه. ومعنى كانَتْ آمِنَةً أي: ذات أمْنٍ يأمن فيها أهلها أن يُغَارَ عليهم، مُطْمَئِنَّةً أي: ساكنة بأهلها لا يحتاجون إِلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق. وقد شرحنا معنى الرغد في البقرة «3» . وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي: يجلَب إِليها من كل بلد وذلك كلُّه بدعوة إِبراهيم عليه السلام، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ بتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي واحد الأنعم قولان: أحدهما: أن واحدها «نُعْمٌ» قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: «نِعْمة» قاله الزجاج: قال ابن قتيبة: ليس قول من

_ (1) سورة هود: 32. [.....] (2) في المطبوع «عنز» والمثبت عن «التاريخ الكبير» 2/ 2/ 125 للبخاري. (3) سورة البقرة: 35- 58.

[سورة النحل (16) : آية 113]

قال: هو جمع «نعمة» بشيء، لأن «فِعْلَةَ» لا تجمع على «أفْعُلٍ» ، وإِنما هو جمع «نُعْمٍ» ، يقال: يوم نُعْمٌ، ويوم بُؤْسٌ، ويجمع «أَنْعُماً» ، و «أَبْؤُساً» . قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وروى عبيد بن عقيل، وعبد الوارث عن أبي عمرو: «والخوفَ» بنصب الفاء. وأصل الذَّوق إِنما هو بالفم، وهذا استعارة منه، وقد شرحنا هذا المعنى في آل عمران «1» . وإِنما ذكر اللباس هاهنا تجوُّزاً، لما يظهر عليهم من أثر الجوع والخوف، فهو كقوله: وَلِباسُ التَّقْوى «2» وذلك لما يظهر على المتَّقي من أثر التقوى. قال المفسرون: عذَّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحترقة. فأما الخوف، فهو خوفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سراياه التي كان يبعثها حولهم. والكلام في هذه الآية خرج على القرية، والمراد أهلها، ولذلك قال: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني به: بتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإِخراجهم إِياه وما همُّوا به من قتله. [سورة النحل (16) : آية 113] وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة رَسُولٌ مِنْهُمْ يعني: محمّدا صلى الله عليه وسلم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وفيه قولان: أحدهما: أنه الجوع، قاله ابن عباس. والثاني: القتل ببدر، قاله مجاهد. قال ابن السائب: وَهُمْ ظالِمُونَ أي: كافرون. [سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 115] فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في المخاطَبين بهذا قولان: أحدهما: أنهم المسلمون، وهو قول الجمهور. والثاني: أنهم أهل مكة المشركون، لما اشتدت مجاعتهم، كلَّم رؤساؤُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إِن كنتَ عاديتَ الرجال، فما بال النساء والصّبيان؟! فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أن يحملوا الطعام إِليهم، حكاه الثعلبي، وذكر نحوه الفراء. وهذه الآية والتي تليها مفسّرتان في البقرة «3» . [سورة النحل (16) : الآيات 116 الى 117] وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ قال ابن الأنباري: اللام في «لِما» بمعنى من أجل، وتلخيص الكلام: ولا تقولوا: هذه الميتة حلال، وهذه البَحيرة حرام، من أجل كذبكم، وإِقدامكم على الوصف، والتخرُّص «4» لما لا أصل له، فجرت اللام ها هنا مجراها في قوله:

_ (1) سورة آل عمران: 106- 185. (2) سورة الأعراف: 26. (3) سورة البقرة: 172- 173. (4) في «اللسان» التخرّص: من خرص أي كذب، وتخرّص فلان على الباطل واخترصه أي افتعله.

[سورة النحل (16) : الآيات 118 إلى 119]

وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ «1» أي: وإِنه من أجل حب الخير لبخيل، و «ما» بمعنى المصدر، والكذب منصوب ب «تصف» ، والتّخليص: لا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب. وقرأ ابن أبي عبلة: «الكُذُبَ» ، قال ابن القاسم: هو نعت الألسنة، وهو جمع كذوب. قال المفسرون: والمعنى: أن تحليلكم وتحريمكم ليس له معنىً إِلاَّ الكذب. والإِشارة بقوله: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ إِلى ما كانوا يُحلُّون ويحرِّمون، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إِلى الله تعالى، ويقولون: هو أمرنا بهذا. وقوله تعالى: مَتاعٌ قَلِيلٌ أي: متاعهم بهذا الذي فعلوه قليل. [سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 119] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعني به ما ذكر في الأنعام «2» وهو قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريمنا ما حرَّمنا عليهم، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالبغي والمعاصي. قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ قد شرحناه في سورة النساء «3» ، وشرحنا في البقرة «4» التوبة والاصلاح، وذكرنا معنى قوله: مِنْ بَعْدِها آنفا. [سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 122] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قال ابن الأنباري: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة، وفلان علاَّمة، ونسَّابة، ويقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه، والعرب قد توقع الأسماء المبهَمة على الجماعة، وعلى الواحد، كقوله: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ «5» ، وإِنما ناداه جبريل وحده. وللمفسرين في المراد بالأمّة ها هنا ثلاثة أقوال «6» : أحدها: أن الأُمَّة: الذي يعلِّم الخير، قاله ابن مسعود، والفراء، وابن قتيبة. والثاني: أنه المؤمن وحده في زمانه، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: أنه الإِمام الذي يُقتدَى به، قاله قتادة، ومقاتل، وأبو عبيدة، وهو في معنى القول الأول. فأما القانت فقال ابن مسعود: هو المطيع، وقد شرحنا «القنوت» في البقرة «7» وكذلك الحنيف «8» . قوله تعالى: وَلَمْ يَكُ قال الزجاج: أصلها: لم يكن، وإِنما حذفت النون عند سيبويه، لكثرة

_ (1) سورة العاديات: 8. (2) سورة الأنعام: 126. (3) سورة النساء: 17. (4) سورة البقرة: 160. (5) سورة آل عمران: 39. (6) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 729: الأمة: هو الإمام الذي يقتدى به. (7) سورة البقرة: 116- 238. (8) سورة البقرة: 135. [.....]

[سورة النحل (16) : آية 123]

استعمال هذا الحرف، وذكر الجلّة من البصريين أنها إِنما احتملت الحذف، لأنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال، وأنها عبارة عن كل ما يمضي من الأفعال وما يستأنف، وأنها قد أشبهت حروف اللين، وأنها تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة، وأنها غُنَّة تخرج من الأنف، فلذلك احتملت الحذف. قوله تعالى: شاكِراً لِأَنْعُمِهِ انتصب بدلاً من قوله: أُمَّةً قانِتاً وقد ذكرنا واحد الأنعم آنفاً، وشرحنا معنى «الاجتباء» في (الأنعام) «1» . قال مقاتل: والمراد بالصّراط المستقيم ها هنا: الإِسلام. قوله تعالى: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً فيها ستة أقوال «2» : أحدها: أنها الذِّكْر الحسن، قاله ابن عباس. والثاني: النبوَّة، قاله الحسن. والثالث: لسان صدق، قاله مجاهد. والرابع: اجتماع المِلَل على ولايته، فكلهم يتولّونه ويرضَونه، قاله قتادة. والخامس: أنها الصلاة عليه مقرونة بالصّلاة على محمّد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل بن حيان. والسادس: الأولاد الأبرار على الكِبَر، حكاه الثعلبي. وباقي الآية مفسر في البقرة «3» . [سورة النحل (16) : آية 123] ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ملَّتُه: دينُه. وفيما أُمر باتباعه من ذلك قولان: أحدهما: أنه أُمر باتباعه في جميع ملته، إِلا ما أُمر بتركه، وهذا هو الظاهر. والثاني: اتباعه في التبرُّؤ من الأوثان، والتدين بالإِسلام، قاله أبو جعفر الطبري. وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع المفضول، لأن رسولنا أفضلُ الرسل، وإِنما أمر باتّباعه، لسبقه إلى القول بالحقّ. [سورة النحل (16) : آية 124] إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) قوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي: إِنما فرض تعظيمه وتحريمه، وقرأ الحسن، وأبو حياة: «إِنما جَعَل» بفتح الجيم والعين، «السبتَ» بنصب التاء عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ والهاء ترجع إِلى السبت. وفي معنى اختلافهم فيه قولان: أحدهما: أن موسى قال لهم: تفرَّغوا لله في كل سبعة أيام يوماً، فاعبدوه في يوم الجمعة، ولا تعملوا فيه شيئاً من صنيعكم، فأبَوا أن يقبلوا ذلك، وقالوا: لا نبتغي إِلاَّ اليوم الذي فرغ فيه من الخلق، وهو يوم السبت، فجعل ذلك عليهم، وشدِّد عليهم فيه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل: لما أمرهم موسى بيوم الجمعة، قالوا: نتفرغ يوم السبت، فان الله لم يخلق فيه شيئاً، فقال: إِنما أُمرت بيوم الجمعة، فقال أحبارهم: انتهوا إِلى أمر نبيّكم، فأبوا،

_ (1) سورة الأنعام: 87. (2) قال الإمام الطبري 7/ 661 في ذلك: وآتينا إبراهيم على قنوته لله وشكره له على نعمه، وإخلاصه العبادة له في هذه الدنيا ذكرا حسنا، وثناء جميلا باقيا على الأيام. وقال ابن كثير 2/ 730: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، أي: جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة. (3) سورة البقرة: 130.

[سورة النحل (16) : آية 125]

فذلك اختلافهم، فلما رأى موسى حرصهم على السبت، أمرهم به، فاستحلوا فيه المعاصي. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: رأى موسى رجلاً يحمل قصباً يوم السبت، فضرب عنقه، وعكفت عليه الطير أربعين صباحاً. وذكر ابن قتيبة في (مختلف الحديث) : أن الله تعالى بعث موسى بالسبت، ونسخ السبت بالمسيح. والثاني: أنّ بعضهم استحلّه، وبعضهم حرّمه، قاله قتادة. [سورة النحل (16) : آية 125] ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ قال ابن عباس: نزلت مع الآية التي بعدها، وسنذكر هناك السبب. فأما السبيل، فقال مقاتل: هو دين الإِسلام. وفي المراد بِالْحِكْمَةِ ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها القرآن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الفقه، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: النبوَّة، ذكره الزجاج. وفي وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ قولان «2» : أحدهما: مواعظ القرآن، قاله أبو صالح عن ابن عباس «3» . والثاني: الأدب الجميل الذي يعرفونه، قاله الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم أهل مكّة، قاله أبو صالح. والثاني: أهل الكتاب، قاله مقاتل. وفي قوله: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثلاثة أقوال: أحدها: جادلهم بالقرآن. والثاني: ب «لا آله إِلاّ الله» ، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: جادلهم غير فظٍّ ولا غليظ، وأَلِنْ لهم جانبك، قاله الزجاج. وقال بعض علماء التفسير: وهذا منسوخ بآية السيف «4» . قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ المعنى: هو أعلم بالفريقين، فهو يأمرك فيهما بما فيه الصلاح. [سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 128] وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ في سبب نزولها قولان: (884) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف على حمزة، فرآه صريعاً، فلم ير شيئا كان أوجع لقلبه

_ عجزه ضعيف. أخرجه البزار 1795 من حديث أبي هريرة، وقال: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه. وقال الهيثمي في «المجمع» 10104: فيه صالح بن بشير المري، وهو ضعيف. اهـ. وقد ضعفه ابن كثير أيضا 2/ 732، والوهن فقط في ذكر نزول جبريل، ونزول الآية، ولفظ: «وكفر عن يمينه» ، وأما صدره فهو حسن، وله شاهد من حديث أنس، أخرجه ابن سعد 3/ 1/ 8 والدارقطني 4/ 116، وفيه عبد العزيز بن عمران ضعيف.

منه، فقال: «والله لأمثلن بسبعين منهم» ، فنزل جبريل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم واقف، بقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ إِلى آخرها، فصبر رسول الله وكفَّر عن يمينه، قاله أبو هريرة. (885) وقال ابن عباس: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة قد شُق بطنه، وجُدِعت أذناه، فقال: «لولا أن تحزن النساء أو تكون سنَّة بعدي لتركته حتَّى يبعثه الله من بطون السباع والطير ولأقتلنَّ مكانه سبعين رجلا منهم» ، فنزل قوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إِلى قوله: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ. (886) وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذٍ: «لَئِن ظفرتُ بقاتل حمزة لأمثلنَّ به مثلة تتحدث بها العرب» ، وكانت هند وآخرون معها قد مثّلوا به، فنزلت هذه الآية. (887) والثاني: أنه أصيب من الأنصار يوم أُحدٍ أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، ومثَّلوا بقتلاهم، فقالت الأنصار: لَئِن أصبنا منهم يوماً من الدهر، لنزيدنَّ على عِدَّتهم مرتين، فنزلت هذه الآية، قاله أُبيُّ بن كعب. (888) وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن المسلمين قالوا: لَئِن أمكننا الله منهم لنمثِّلنَّ بالأحياء فضلا عن الأموات، فنزلت هذه الآية، يقول: إِن كنتم فاعلين، فمثِّلوا بالأموات، كما مثَّلوا بأمواتكم. قال ابن الأنباري: وإِنما سمّى فعل المشركين معاقبة وهم ابتدءوا بالمثلة، ليزدوج اللفظان، فيخف على اللسان، كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» . فصل: واختلف العلماء، هل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ على قولين «2» : أحدهما: أنها نزلت قبل (براءة) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله، ولا يبدأ بالقتال، ثم نسخ ذلك، وأمر بالجهاد، قاله

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 573 بدون إسناد، وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» 3/ 10، والبيهقي في «الدلائل» 3/ 287، والواحدي 570 و 572 من حديث ابن عباس، بإسناد ضعيف جدا، فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، متهم بسرقة الحديث كما في «التقريب» ، وقيس بن الربيع تغير لما كبر. وأيضا هذا إسناد منقطع بين الحكم ومقسم، كما في «تهذيب التهذيب» 2/ 373. وانظر ما قبله. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، وانظر ما تقدم. جيد، أخرجه الترمذي 3129، وأحمد 5/ 135، والحاكم 2/ 359- 358، والنسائي في «التفسير» 299، وابن حبان 487، من حديث أبي بن كعب. وإسناده حسن لأجل الربيع بن أنس، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الترمذي. وله شاهد مرسل، أخرجه الطبري 21996 و 21997 عن الشعبي مرسلا. وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار، أخرجه الطبري 21998. وآخر من مرسل قتادة برقم 21999. وآخر من مرسل ابن جريح برقم 22000. فهذه المراسيل تشهد للموصول المتقدم، وترقى به إلى درجة الجودة. وانظر «تفسير الشوكاني» 1396 بتخريجي. باطل بهذا اللفظ، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وتقدم مرارا أنه إسناد ساقط.

ابن عباس، والضحاك، فعلى هذا يكون المعنى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عن القتال، ثم نسخ هذا بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» . والثاني: أنها محكمة، وإِنما نزلت فيمن ظُلِم ظُلامة، فلا يحلُّ له أن ينال من ظالمه أكثر مما ناله الظالم منه، قاله مجاهد، والشعبي، والنخعي، وابن سيرين، والثوري، وعلى هذا يكون المعنى: ولئن صبرتم عن المثلة، لا عن القتال. قوله تعالى: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي: بتوفيقه ومعونته. وهذا أمر بالعزيمة. وفي قوله: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قولان «2» : أحدهما: على كفار مكة إِن لم يُسلموا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: ولا تحزن على قتلى أُحُد، فانهم أفضَوا إِلى رحمة الله، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. قوله تعالى: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ قرأ الأكثرون بنصب الضاد، وقرأ ابن كثير: «في ضيق» بكسر الضّاد ها هنا وفي (النمل) «3» . قال الفراء: الضَيق بفتح الضاد: ما ضاق عنه صدرك، والضيّق: ما يكون في الذي يضيق ويتسع، مثل الدار والثوب وأشباه ذلك. وقال ابن قتيبة: الضَّيْق: تخفيف ضَيِّق، مثل: هَيْن ولَيْن. وهو، إِذا كان على هذا التأويل: صفة، كأنه قال: لا تك في أمر ضَيِّقٍ من مكرهم. قال: ويقال: مكان ضَيْق وضِيق، بمعنى واحد، كما يقال: رَطْلٌ ورِطْلٌ، وهذا أعجب إِليَّ. فأما مكرهم المذكور ها هنا، فقال أبو صالح عن ابن عباس: فعلهم وعملهم. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ما نهاهم عنه، وأحسنوا فيما أمرهم به، بالعون والنصر.

_ (1) سورة التوبة: 5. (2) قال الإمام الطبري رحمه الله 7/ 666: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لا تحزن على هؤلاء المشركين الذين يكذبونك وينكرون ما جئتهم به في آن ولوا عنك وأعرضوا عما أتيتهم به من النصيحة. (3) سورة النمل: 70.

الجزء الثالث

الجزء الثالث سورة الإسراء فصل في نزولها: هي مكيّة في قول الجماعة، إلّا أنّ بعضهم يقول: فيها مدنيّ، فروي عن ابن عباس أنه قال: هي مكيّة إلّا ثمان آيات: من قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إلى قوله تعالى: نَصِيراً «1» ، وهذا قول قتادة. وقال مقاتل: فيها من المدنيّ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ «2» وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ «3» وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ «4» وقوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ «5» وقوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ «6» وقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ والتي تليها «7» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإسراء (17) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) قوله تعالى: سُبْحانَ. (889) روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه سئل عن تفسير «سبحان الله» ، فقال: «تنزيه الله عن كل سوءٍ» ، وقد ذكرنا هذا المعنى في سورة البقرة «8» . قال الزجاج: و «أسرى» : بمعنى: «سيَّر عبده» ، يقال: أسريت وسريت: إِذا سرت ليلاً. وقد جاءت اللغتان في القرآن، قال الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) «9» . وفي معنى التّسبيح ها هنا قولان: أحدهما: أن العرب تسبِّح عند الأمر المعجب، فكأن الله تعالى عجَّب العباد مما أسدى إِلى رسوله من النعمة. والثاني: أن يكون خرّج الرّدّ عليهم، لأنه لمّا حدّثهم

_ ضعيف جدا. أخرجه البزار 3082 والحاكم 1/ 502 من طريق عبد الرحمن بن حماد عن حفص بن سليمان عن طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن تفسير ... الحديث. صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: بل لم يصح، فإن طلحة منكر الحديث، قاله البخاري، وحفص واه وعبد الرحمن، قال أبو حاتم: منكر الحديث. قلت: فهو إسناد ضعيف جدا، مسلسل بالضعفاء.

بالاسراء، كذبوه، فيكون المعنى: تنزه الله أن يتخذ رسولا كذاباً. ولا خلاف أن المراد بعبده هاهنا: محمّد صلى الله عليه وسلّم. وفي قوله تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قولان: أحدهما: أنه أُسري به من نفس المسجد، قاله الحسن، وقتادة. ويسنده حديث مالك بن صعصعة، وهو في (الصحيحين) : (890) «بينما أنا في الحطيم» وربما قال بعض الرواة: في «الحِجر» «1» . والثاني: أنه أُسري به من بيت أمّ هانئ «2» ، وهو قول أكثر المفسرين «3» ، فعلى هذا يعني بالمسجد الحرام: الحرم. والحرم كلُّه مسجد، ذكره القاضي أبو يعلى وغيره. فأما الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فهو بيت المقدس، وقيل له: الأقصى، لبُعد المسافة بين المسجدَين. ومعنى بارَكْنا حَوْلَهُ: أن الله أجرى حوله الأنهار، وأنبت الثِّمار. وقيل: لأنه مَقَرُّ الأنبياء، ومَهْبِطُ الملائكة. واختلف العلماء، هل دخل بيتَ المقدس، أم لا؟ (891) فروى أبو هريرة أنه دخل بيت المقدس، وصلّى فيه بالأنبياء، ثم عُرِج به إِلى السماء. وقال حُذيفة بن اليمان: لم يدخل بيت المقدس ولم يصلِّ فيه، ولا نزل عن البراق حتى عرج به «4» . فإن

_ صحيح. أخرجه البخاري 3207 و 3393 و 3430 و 3887، وابن حبان 48، والبيهقي في «الدلائل» 2/ 387 من طرق عن أنس عن مالك بن صعصعة. صحيح. أخرجه مسلم 172 والنسائي في «الكبرى» 11284، وابن مندة في «الإيمان» 740 من طريق حجين بن المثنى به. وأخرجه أبو عوانة 1/ 131، وابن مندة 740 من طريق أحمد بن خالد الوهبي به وأربعتهم عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لقد رأيتني في الحجر. وقريش تسألني عن مسراي. فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها. فكربت كربة ما كربت مثله قط. قال: فرفعه الله لي أنظر إليه. ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به. وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء. فإذا موسى قائم يصلي. فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة. وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي. أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي. وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي. أشبه الناس به صاحبكم (يعني نفسه) فحانت الصلاة فأممتهم. فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه. فالتفت إليه فبدأني بالسلام» . واللفظ لمسلم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 إلى 3]

قيل: ما معنى قوله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وأنتم تقولون: صعِد إِلى السماء؟ فالجواب: أن الإِسراء كان إِلى هنالك، والمعراج كان من هنالك. وقيل: إِن الحكمة في ذِكْر ذلك، أنه لو أخبر بصعوده إِلى السماء في بَدْءِ الحديث، لاشتد إِنكارهم، فلما أخبر ببيت المقدس، وبان لهم صدقُه فيما أخبرهم به من العلامات الصادقة، أخبر بمعراجه. قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يعني: ما رأى تلك الليلة من العجائب التي أَخبر بها الناس. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لمقالة قريش، الْبَصِيرُ بها. وقد ذكرنا في كتابنا المسمى ب «الحدائق» أحاديث المعراج، وكرهنا الإطالة ها هنا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3] وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) قوله تعالى: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لمَّا ذكر في الآية الأولى إكرام محمّد صلى الله عليه وسلّم، ذكر في هذه كرامة موسى. والْكِتابَ: التوراة. وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي: دللناهم به على الهدى. أَلَّا تَتَّخِذُوا قرأ أبو عمرو: «يتخذوا» بالياء، والمعنى: هديناهم لئلا يتخذوا، وقرأ الباقون بالتاء، قال أبو علي: وهو على الانصراف إِلى الخطاب بعد الغَيْبَة، مثل: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثم قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ. قوله تعالى: وَكِيلًا قال مجاهد: شريكاً. وقال الزجاج: ربّاً. قال ابن الأنباري: وإِنما قيل للربِّ: وكيل، لكفايته وقيامه بشأن عباده، من أجل أَن الوكيل عند الناس قد عُلم أَنه يقوم بشئون أصحابه، وتفقُّد أمورهم، فكان الرب وكيلاً من هذه الجهة، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكِّل وانحطاط أمر الوكيل. قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا قال مجاهد: هو نداء: يا ذرية من حملنا. قال ابن الأنباري: من قرأ: «ألاَّ تتخذوا» بالتاء، فإنه يقول: بعد الذرية مضمر حُذفَ اعتماداً على دلالة ما سبق، تلخيصه: يا ذرية من حملنا مع نوح لا تتخذوا وكيلاً، ويجوز أن يستغني عن الإضمار بقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً لأنه بمعنى: اشكروني كشكره. ومن قرأ: «ألّا يتخذوا» بالياء، جعل النداء متصلاً بالخطاب، و «الذرية» تنتصب بالنداء، ويجوز نصبها بالاتخاذ على أنها مفعول ثان، تلخيص الكلام: ألّا يتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلاً. قال قتادة: الناس كلُّهم ذرِّيَّة من أنجى الله في تلك السفينة. قال العلماء: ووجه الإِنعام على الخَلْق بهذا القول، أنهم كانوا في صلب من نجا. قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً قال سلمان الفارسي: كان إِذا أَكل قال: «الحمد لله» وإِذا شرب قال: «الحمد لله» . وقال غيره: كان إِذا لبس ثوباً قال: «الحمد لله» فسمَّاه الله «عبدا شكورا» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 6] وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)

قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فيه قولان «1» : أحدهما: أخبرناهم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: قضينا عليهم، رواه العوفي عن ابن عباس. وبه قال قتادة، فعلى الأول: تكون إِلى على أصلها، ويكون الكتاب: التوراة، وعلى الثاني: تكون إِلى بمعنى «على» ، ويكون «الكتاب» : الذِّكر الأول. قوله تعالى: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ يعني: أرض مصر مَرَّتَيْنِ بالمعاصي ومخالفة التوراة. وفي مَنْ قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان: أحدهما: زكريا، قاله السدي عن أشياخه. والثاني: شَعْيَا، قاله ابن إِسحاق. فأما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني: فهو يحيى بن زكريا. قال مقاتل: كان بين الفسادَين مائتا سنة وعشر سنين. فأما السبب في قتلهم زكريا، فإنهم اتهموه بمريم، وقالوا: منه حملت، فهرب منهم، فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي من ردائه هدب، فجاءهم الشيطان فدلَّهم عليه، فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها. وأما السبب في قتلهم «شعيا» ، فهو أنه قام فيهم برسالةٍ مِنَ الله ينهاهم عن المعاصي. وقيل: هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار، وأنّ زكريّا مات حتف أنفه. فأمّا السبب في قتلهم يحيى بن زكريا، ففيه قولان: أحدهما: أن ملِكهم أراد نكاح امرأة لا تحلُّ له، فنهاه عنها يحيى. ثم فيها أربعة أقوال: أحدها: أنها ابنة أخيه، قاله ابن عباس. والثاني: ابنته، قاله عبد الله بن الزبير. والثالث: أنها امرأة أخيه، وكان ذلك لا يصلح عندهم، قاله الحسين بن علي عليهما السلام. والرابع: ابنة امرأته، قاله السدي عن أشياخه، وذكر أن السبب في ذلك: أن ملك بني إِسرائيل هويَ بنت امرأته، فسأل يحيى عن نكاحها، فنهاه، فحنقت أمها على يحيى حين نهاه أن يتزوج ابنتها، وعمدت إِلى ابنتها فزينتها وأرسلتها إِلى الملك حين جلس على شرابه، وأمرتْها أن تسقيَه، وأن تعرض له، فان أَرادها على نفسها، أَبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طَسْت، ففعلت ذلك، فقال: ويحك سليني غير هذا، فقالت: ما أريد إِلا هذا، فأمر، فأُتي برأسه والرأس يتكلم ويقول: لا تحلُّ لك، لا تحلُّ لك. والقول الثاني: أن امرأة الملك رأت يحيى عليه السلام وكان قد أُعطيَ حسناً وجمالاً، فأرادته على نفسه، فأبى، فقالت لابنتها: سلي أباك رأس يحيى، فأعطاها ما سألت، قاله الربيع بن أنس. قال العلماء بالسِّيَر: ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إِسرائيل سبعون ألفاً، فسكن، وقيل: لم يسكن حتى جاء قاتله، فقال: أنا قتلته، فقُتِل، فسكن. قوله تعالى: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً أي: لتَعَظَّمُنّ عن الطاعة ولتبغُنَّ. قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي: عقوبة أُولى المرَّتين بَعَثْنا أي: أرسلنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا وفيهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم جالوت وجنوده، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: «بُخْتَنَصَّر» ، قاله سعيد بن المسيب، واختاره الفراء، والزجاج. والثالث: العمالقة، وكانوا كفاراً، قاله الحسن. والرابع: سنحاريب، قاله سعيد بن جبير. والخامس: قوم من أهل فارس، قاله مجاهد. وقال ابن زيد:

_ (1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 34: يقول الله تعالى: إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي تقدّم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم: أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا، أي يتجبرون ويطغون على الناس. كما قال تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ، أي تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 7 إلى 8]

سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس. قوله تعالى: أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: ذوي عدد وقوة في القتال. وفي قوله: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ثلاثة أقوال: أحدها: مشَوا بين منازلهم، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: يتجسَّسون أخبارهم ولم يكن قتال. وقال الزجاج: طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ و «الجوس» : طلب الشيء باستقصاء. والثاني: قتلوهم بين بيوتهم، قاله الفراء، وأبو عبيدة. والثالث: عاثوا وأفسدوا، يقال: جاسوا وحاسوا، فهم يجوسون ويحوسون إِذا فعلوا ذلك، قاله ابن قتيبة. فأما الخلال: فهي جمع خَلَل، وهو الانفراج بين الشيئين. وقرأ أبو رزين، والحسن، وابن جبير، وأبو المتوكل: «خَلَلَ الديار» بفتح الخاء واللام من غير ألفٍ. وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي: لا بد من كونه. قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي: أظفرناكم بهم. والكَرَّة، معناها: الرجعة والدُّولة، وذلك حين قتل داودُ جالوتَ وعاد ملكهم إِليهم. وحكى الفراء أن رجلا دعا على «بختنصر» فقتله الله، وعاد ملكهم إِليهم. وقيل: غزَوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال والأسرى. قوله تعالى: وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي: أكثر عدداً وأنصاراً منهم. قال ابن قتيبة: النَّفير والنافر واحد، كما يقال: قدير وقادر، وأصله: مَنْ يَنْفِرُ مع الرجل من عشيرته وأهل بيته. [سورة الإسراء (17) : الآيات 7 الى 8] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) قوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أي: وقلنا لكم إِن أحسنتم فأطعتُم الله أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي: عاقبةُ الطاعة لكم وَإِنْ أَسَأْتُمْ بالفساد والمعاصي فَلَها وفيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى: فاِليها. والثاني: فعليها. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جواب «فاذا» محذوف، تقديرُه: فاذا جاء وعد عقوبة المرّة الآخرة من إفسادكم، بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، وهذا الفساد الثاني، هو قتلهم يحيى بن زكريا، وقصدهم قتل «عيسى» فرُفِع، وسلَّط الله عليهم ملوك فارس والروم فقتلوهم وسبَوْهم، فذلك قوله تعالى: لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «ليسوؤوا» بالياء على الجميع والهمز بين الواوين، والإِشارة إِلى المبعوثين. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: «ليسوءَ وجوهكم» على التوحيد قال أبو علي: فيه وجهان. أحدهما: ليسوء الله عزّ وجلّ. والثاني: ليسوء البَعْثُ. وقرأ الكسائي: «لنسوءَ» بالنون، وذلك راجع إِلى الله تعالى. وفيمن بَعث عليهم في المرة الثانية قولان: أحدهما: بختنصر، قاله مجاهد، وقتادة. وكثير من الرواة يأبى هذا القول، ويقولون: كان بين تخريب «بختنصر» بيت المقدس، وبين مولد يحيى بن زكريا زمان طويل. والثاني: انطياخوس الرومي، قاله مقاتل. ومعنى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي: ليُدخِلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسبيكم، وخصّت المساءة بالوجوه، والمراد: أصحاب الوجوه، لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 إلى 10]

قوله تعالى: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعني: بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ في المرة الأولى وَلِيُتَبِّرُوا أي: ليدمِّروا ويخرِّبوا. قال الزجاج: يقال لكل شيء ينكسر من الزجاج والحديد والذهب: تِبر. ومعنى ما عَلَوْا أي: ليدمِّروا في حال علوِّهم عليكم. قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ هذا مما وُعِدوا به في التوراة، و «عسى» من الله واجبة، فرحمهم الله بعد انتقامه منهم، وعمر بلادهم، وأعاد نعمهم بعد سبعين سنة. وَإِنْ عُدْتُمْ إِلى معصيتنا عُدْنا إِلى عقوبتكم. قال المفسرون: ثم إِنهم عادوا إِلى المعصية، فبعث الله عليهم ملوكاً من ملوك فارس والروم. قال قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلّم، فهم في عذاب إِلى يوم القيامة، فيعطُون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. قوله تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً فيه قولان: أحدهما: سجناً، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة. وقال مجاهد: يحصرون فيها. وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة: محبساً، وقال الزجاج: «حصيراً» : حبساً، أخذ من قولك: حصرت الرجل، إِذا حبسته، فهو محصور، وهذا حصيره، أي: محبسه، والحصير: المنسوج. سمي حصيراً، لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض، ويقال للجَنْب: حصير، لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض. وقال ابن الأنباري: حصيراً: بمعنى: حاصرة، فصرف من حاصرة إِلى حصير، كما صرف «مؤلم» إِلى أليم. والثاني: فراشاً ومهاداً، قاله الحسن. قال أبو عبيدة: ويجوز أن تكون جهنم لهم مهاداً بمنزلة الحصير، والحصير: البساط الصغير. [سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 10] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ قال ابن الأنباري: «التي» وصف للجمع، والمعنى: يهدي إِلى الخصال التي هي أقوم الخصال. قال المفسرون: وهي توحيد الله والإِيمان به وبرسله والعمل بطاعته، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أي: بأن لهم أَجْراً وهو الجنة، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي: ويبشرهم بالعذاب، لأعدائهم، وذلك أن المؤمنين كانوا في أذىً من المشركين، فعجَّل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين. [سورة الإسراء (17) : آية 11] وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) قوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ وذلك أن الإِنسان يدعو في حال الضجر والغضب على نفسه وأهله بما لا يحب أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير. وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يعجِّل بالدعاء بالشر عند الغضب والضجر عَجَلَته بالدعاء بالخير. وفي المراد بالإِنسان هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم جنس يراد به الناس، قاله الزجاج وغيره. والثاني: آدم، فاكتفى بذكره من ذكر ولده، ذكره ابن الأنباري. والثالث: أنه النَّضْر بن الحارث حين قال: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» ، قاله مقاتل. وقال سلمان الفارسي: أول ما خلق

_ (1) سورة الأنفال: 32.

[سورة الإسراء (17) : آية 12]

الله من آدم رأسه، فجعل ينظر إِلى جسده كيف يخلق، قال: فبقيت رجلاه، فقال: يا رب عجِّل، فذلك قوله: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «1» . [سورة الإسراء (17) : آية 12] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي: علامتين يدلان على قدرة خالقهما. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فيه قولان: أحدهما: أن آية الليل: القمر، ومحوها: ما في بعض القمر من الاسوداد. وإلى هذا المعنى ذهب عليّ رضي الله عنه، وابن عباس في آخرين. والثاني: آية الليل محيت بالظلمة التي جعلت ملازمةً لليل فنسب المحو إِلى الظلمة إِذْ كانت تمحو الأنوارَ وتبطلُها، ذكره ابن الأنباري. ويُروى أن الشمس والقمر كانا في النور والضوء سواءً، فأرسل الله جبريل فأمرَّ جناحه على وجه القمر وطمس عنه الضوء. قوله تعالى: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ يعني: الشمس مُبْصِرَةً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: منيرة، قاله قتادة. قال ابن الأنباري: وإِنما صلح وصف الآية بالإِبصار على جهة المجاز، كما يقال: لعب الدهر ببني فلان. والثاني: أن معنى مُبْصِرَةً: مبصراً بها، قاله ابن قتيبة. والثالث: أن معنى مُبْصِرَةً مُبَصِّرَةً، فجرى «مُفْعِلْ» ، مجرى «مُفَعِّل» ، والمعنى: أنها تُبَصِّر الناس، أي: تُريهم الأشياء، قاله ابن الأنباري. ومعاني الأقوال تتقارب. قوله تعالى: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي: لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وتطلبون رزقكم بالنهار وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ بمحو آية الليل، ولولا ذلك، لم يعرف الليل من النهار، ولم يُتبين العدد. وَكُلَّ شَيْءٍ أي: ما يُحتاج إِليه، فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بيّنّاه تبيينا لا يلتبس معه بغيره. [سورة الإسراء (17) : الآيات 13 الى 14] وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ وقرأ ابن أبي عبلة «وكلّ» برفع وقرأ ابن مسعود، وأُبَيٌّ، والحسن «ألزمناه طَيْره» بياء ساكنة من غير ألف. وفي الطائر أربعة أقوال: أحدها: شقاوته وسعادته، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال مجاهد: ما من مولود يولد إِلاَّ وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي، أو سعيد. والثاني: عمله، قاله الفراء، وعن الحسن كالقولين. والثالث: أنه ما يصيبه، قاله خصيف. وقال أبو عبيدة: حظُّه. قال ابن قتيبة: والمعنى فيما أرى- والله أعلم-: أن لكل امرئٍ حظاً من الخير والشر قد قضاه الله عليه، فهو لازم عنقه، والعرب تقول لكل ما لزم الإِنسان: قد لزم عنقه، وهذا لك عليَّ وفي عنقي حتى أخرج منه، وإِنما قيل للحظ من الخير والشر: «طائر» ، لقول العرب: جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له الطائر بكذا من الشر، على طريق الفأل والطّيرة، فخاطبهم الله بما يستعملون،

_ (1) منكر. أخرجه الطبري 22116 عن سلمان الفارسي موقوفا، وإسناده ضعيف، إبراهيم النخعي عن سلمان منقطع، والمتن منكر، والأشبه أنه متلقى عن كتب الأقدمين. [.....]

[سورة الإسراء (17) : آية 15]

وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطّائر، هو الذي يُلزمه أعناقهم. وقال الأزهري: الأصل في هذا أن الله تعالى لما خلق آدم، علم المطيع من ذريته، والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى سعادةَ من علمه مطيعاً، وشقاوة مَن علمه عاصياً، فصار لكل منهم ما هو صائر إِليه عند خلقه وإِنشائه، فذلك قوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. والرابع: أنه ما يَتطيَّر من مثله من شيء عمله، وذِكْرُ العنق عبارة عن اللزوم له، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس، هذا قول الزجاج. وقال ابن الأنباري: الأصل في تسميتهم العمل طائراً، أنهم كانوا يتطيَّرون من بعض الأعمال. قوله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ قرأ أبو جعفر: «ويُخْرَج» بياء مضمومة وفتح الراء. وقرأ يعقوب. وعبد الوارث: بالياء مفتوحة وضم الراء. وقرأ قتادة، وأبو المتوكل: «ويُخرِج» بياء مرفوعة وكسر الراء. وقرأ أبو الجوزاء، والأعرج: «وتَخرُجُ» بتاء مفتوحة ورفع الراء، يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والضحاك: «كتاب» بالرفع، يلقاه وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر «يُلقَّاه» بضم الياء وتشديد القاف. وأمال حمزة، والكسائي القاف. قال المفسرون: هذا كتابه الذي فيه ما عمل. وكان أبو السّوّار العَدَوي إِذا قرأ هذه الآية قال: نشرتان وطيَّة، أمَّا ما حييتَ يا ابن آدم، فصحيفتك منشورة، فأمل فيها شئت، فاذا مُتَّ، طُويت، ثم إذا بُعثت، نُشرت. قوله تعالى: اقْرَأْ كِتابَكَ، وقرأ أبو جعفر: «اقرا» بتخفيف الهمزة وفيه إِضمار تقديره، فيقال له إِقرأ كتابك. قال الحسن: يقرؤه أُمِّياً كان أو غير أُميٍّ، ولقد عدل عليك مَن جعلك حسيب نفسك. وفي معنى حَسِيباً ثلاثة أقوال: أحدها: محاسِباً. والثاني: شاهداً. والثالث: كافياً، والمعنى: أن الإِنسان يفوَّض إِليه حسابه، ليعلم عدل الله بين العباد، ويرى وجوب حجة الله عليه، واستحقاقه العقوبة، ويعلم أنه إِن دخل الجنة، فبفضل الله، لا بعمله، وإِن دخل النار، فبذنبه. قال ابن الأنباري: وإِنما قال: حَسِيباً والنفس مؤنثة، لأنه يعني بالنفس: الشخص، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس، فشبِّهت بالسماء والأرض، قال الله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «1» ، قال الشاعر: ولا أرض أبقل إبقالها «2» [سورة الإسراء (17) : آية 15] مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) قوله تعالى: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي: له ثواب اهتدائه، وعليه عقاب ضلاله. قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي: نفس وازرة وِزْرَ أُخْرى قال ابن عباس: إِن الوليد بن المغيرة قال: اتبَّعوني وأنا أحمل أوزاركم، فقال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، قال أبو عبيدة: والمعنى: ولا تَأثَمْ آثمة إِثم أخرى. قال الزجاج: يقال: وزَر، يَزِرُ، فهو وازِر، وَزراً، ووِزراً، ووِزْرةً، ومعناه: أثِم إِثماً. وفي تأويل هذه الآية وجهان: أحدهما: أن الآثم لا يؤخذ بذنب غيره. والثاني: أنه

_ (1) سورة المزمل: 18. (2) هو عجز بيت لعامر بن جوين وصدره: «فلا مزنة ودقت ودقها» . كما في «الكتاب» 1/ 205. وفي «اللسان» المزنة: السحابة، والودق: المطر.

فصل:

لا ينبغي أن يعمل الإِنسان بالإِثم، لأن غيرَه عَمِلَه، كما قال الكفار: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «1» ومعنى حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي: حتى نُبيّنَ ما به نعذِّب، وما من أجله نُدخلُ الجنة. فصل: قال القاضي أبو يعلى: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإِنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإِنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار «2» . قال: وقيل معناه: أنه لا يعذِّب في ما طريقه السمع إِلاَّ بقيام حجة السمع من جهة الرسول، ولهذا قالوا: لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها، لم يلزمه قضاء شيء منها، لأنها لم تلزمه إِلاَّ بعد قيام حجة السمع، والأصل فيه قصة أهل قُباء حين استداروا إِلى الكعبة ولم يستأنفوا «3» ، ولو أسلم في دار الإِسلام ولم يعلم بفرض الصلاة، فالواجب عليه القضاء، لأنه قد رأى الناس يصلُّون في المساجد بأذان وإِقامة، وذلك دعاء إِليها. [سورة الإسراء (17) : الآيات 16 الى 17] وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)

_ (1) سورة الزخرف: 22. (2) قال القرطبي رحمه الله 10/ 203: قوله تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي: لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر، والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا الملك: 8. قال ابن عطية: والذي يعطيه النظر أنّ بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار. وهذه الآية يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات. فمن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل. وأما ما روي أن الله يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال، فحديث لم يصح، ولا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. وقد احتج من قال ذلك بحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول- ثم تلا- وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا، ويقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها- قال- فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول الله تبارك وتعالى: «إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم» . قلت: ضعيف. أخرجه الطبري 24466 من حديث أبي سعيد وفيه عطية العوفي ضعيف ولو صح مثل هذا لارتفع الخلاف في المولود وأهل الفترة ونحوهم. وروي عن أبي سعيد موقوفا، وفيه نظر. والله أعلم. (3) حديث أهل قباء تقدّم في سورة البقرة: 142. وقد خرّج البخاري 7252 و 399 و 4492 ومسلم 525 والترمذي 340 و 2962 والنسائي 2/ 60 وابن ماجة 1010 وابن حبان 1716 كلهم من حديث البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلّاها العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلّم فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلّم قبل البيت، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 إلى 19]

قوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً في سبب إِرادته لذلك قولان: أحدهما: ما سبق لهم في قضائه من الشقاء. والثاني: عنادهم الأنبياء وتكذيبهم إِياهم. قوله تعالى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها قرأ الأكثرون: «أَمرْنَا» مخففة، على وزن «فَعَلْنا» ، وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من الأمر، وفي الكلام إِضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا، هذا مذهب سعيد بن جبير. قال الزجاج: ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر. والثاني: كثَّرنا، يقال: أمرت الشيء وآمرته، أي: كثَّرته، ومنه قولهم: مُهرَةٌ مأمورةٌ، أي: كثيرة النِّتاج، يقال: أَمِر بنو فلان يأمَرون أمراً: إِذا كثروا، هذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة. والثالث: أن معنى «أَمَرْنَا» : أمَّرْنا، يقال: أَمرت الرجل، بمعنى: أمَّرته، والمعنى: سلَّطنا مترفيها بالإِمارة، ذكره ابن الأنباري. وروى خارجة عن نافع: «آمرنا» ممدودة، مثل «آمنّا» ، وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير، وهي قراءة ابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي رزين، والحسن، والضحاك، ويعقوب. قال ابن قتيبة: وهي اللغة العالية المشهورة، ومعناه: كثَّرنا، أيضاً. وروى ابن مجاهد أن أبا عمرو قرأ: «أمَّرْنَا» مشددة الميم، وهي رواية أبان عن عاصم، وهي قراءة أبي العالية، والنخعي، والجحدري. قال ابن قتيبة: المعنى: جعلناهم أُمراءَ، وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر: «أَمِرْنا» بفتح الهمزة مكسورة الميم مخففة. فأما المترَفون، فهم المتنعّمون الذين أبطرتهم النعمة وسَعة العيش، والمفسرون يقولون: هم الجبَّارون والمسلَّطون والملوك، وإِنما خص المترَفين بالذكر، لأنهم الرؤساء، ومَن عداهم تبع لهم. قوله تعالى: فَفَسَقُوا فِيها أي: تمردوا في كفرهم، لأن الفسق في الكفر: الخروج إِلى أفحشه. وقد شرحنا معنى «الفسق» في البقرة «1» . قوله تعالى: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ قال مقاتل: وجب عليها العذاب. وقد ذكرنا معنى «التدمير» في الأعراف «2» . قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ وهو جمع قَرن. وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه في الأنعام «3» وشرحنا معنى الخبير والبصير في سورة البقرة «4» قال مقاتل: وهذه الآية تخويف لكفّار مكّة. [سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 19] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ يعني: من كان يريد بعمله الدنيا، فعبَّر بالنعت عن الاسم، عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ من عَرَض الدنيا، وقيل: من البسط والتقتير، لِمَنْ نُرِيدُ فيه قولان: أحدهما: لمن نريد هَلَكته، قاله أبو إِسحاق الفزاري. والثاني: لمن نريد أن نعجل له شيئاً وفي هذا ذم لمن أراد بعمله الدنيا، وبيان أنه لا ينال ما يقصده منها إِلاَّ ما قُدِّرَ له، ثم يدخل النار في الآخرة. وقال ابن جرير:

_ (1) سورة البقرة: 26، 197. (2) سورة الأعراف: 137. (3) سورة الأنعام: 6. (4) سورة البقرة: 234 وعند الآية: 96.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 20 إلى 22]

هذه الآية لمن لا يوقن بالمعاد. وقد ذكرنا معنى «جهنّم» في سورة البقرة «1» ، ومعنى يَصْلاها في سورة النساء «2» ، ومعنى مَذْمُوماً مَدْحُوراً في الأعراف «3» . قوله تعالى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ يعني: الجنة وَسَعى لَها سَعْيَها أي: عمل لها العمل الذي يصلح لها، وإِنما قال: وَهُوَ مُؤْمِنٌ لأن الإِيمان شرط في صحة الأعمال، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً أي: مقبولا. وشكر الله عزَّ وجل لهم: ثوابه إيّاهم، وثناؤه عليهم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 20 الى 22] كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) قوله تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ قال الزجاج: «كلاٍّ» منصوب ب «نمِدُّ» ، «هؤلاء» بدل من «كل» والمعنى: نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، قال المفسرون: كُلاًّ نعطي من الدنيا، البرّ والفاجر، والعطاء ها هنا: الرزق، والمحظور: الممنوع، والمعنى: أن الرزق يعم المؤمن والكافر، والآخرة للمتقين خاصة. انْظُرْ يا محمد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وفيما فضِّلوا فيه قولان: أحدهما: الرزق، منهم مقلٌّ، ومنهم مُكثر. والثاني: الرزق والعمل، فمنهم موفَّق لعمل صالح، ومنهم ممنوع من ذلك. قوله تعالى: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم، والمعنى عام لجميع المكلفين. والمخذول: الذي لا ناصر له، والخذلان: ترك العون. قال مقاتل: نزلت حين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى ملّة آبائه. [سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 25] وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمَر ربك. ونقل عنه الضحاك أنه قال: إِنما هي «ووصى ربك» فالتصقت إِحدى الواوين ب «الصاد» ، وكذلك قرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وسعيد بن جبير: «ووصى» ، وهذا على خلاف ما انعقد عليه الإِجماع، فلا يلتفت إِليه. وقرأ أبو عمران، وعاصم الجحدريّ، ومعاذ القارئ: «وقضاءُ ربك» بقاف وضاد بالمد والهمز والرفع وخفض اسم الرب. قال ابن الأنباري: هذا القضاء ليس من باب الحتم والوجوب، لكنه من باب الأمر والفرض، وأصل القضاء في اللغة: قطع الشيء باحكام وإِتقان، قال الشاعر يرثي عمر: قَضَيْتُ أُمُوْراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ... بوائق في أكمامها لم تفتّق «4»

_ (1) سورة البقرة: 206. (2) سورة النساء: عند الآية 10. (3) سورة الأعراف: 18. (4) البيت للشمّاخ كما في «حماسة أبي تمام» 3/ 109. ويروى أيضا للمزرد بن ضرار كما في «البيان والتبيين» 3/ 364. وقيل إن هذا الشعر للجنّ قالته قبل أن يقتل عمر بثلاث، فكان ذلك نعيا قبل أن يقتل. وفي «اللسان» : البوائق: جمع بائقة وهي الداهية والبلية.

أراد: قطعتَها محكِماً لها. قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: وأمر بالوالدين إِحسانا وهو البِرُّ والإِكرام، وقد ذكرنا هذا في البقرة «1» . قوله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو وعاصم، وابن عامر: «يبلغنَّ» على التوحيد. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «يبلغانِّ» على التثنية. قال الفراء: جعلت «يبلغن» فعلاً لأحدهما وكرَّت عليهما «كلاهما» ومن قرأ «يبلغانِّ» فإنه ثنَّى لأن الوالدين قد ذُكرا قبل هذا، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما على الاستئناف، كقوله تعالى: فَعَمُوا وَصَمُّوا «2» ثم استأنف فقال: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ. قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «أُفٍ» بالكسر من غير تنوين، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، والمفضل: «أُفَّ» بالفتح من غير تنوين. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: أُفٍّ بالكسر والتنوين. وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر: «أُفٌّ» بالرفع والتنوين وتشديد الفاء. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم، الجحدري، وحميد بن قيس: «أَفّاً» مثل «تعسا» . وقرأ أبو عمران الجوني، وأبو السّمّال العدوي: «أُفُّ» بالرفع من غير تنوين مع تشديد الفاء، وهي رواية الأصمعي عن أبي عمرو. وقال عكرمة، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «أُفْ» باسكان الفاء وتخفيفها قال الأخفش: وهذا لأن بعض العرب يقول: أفْ لك، على الحكاية، والرّفع قبيح، لأنه لم يجئ بعده بلام. وقرأ أبو العالية، وأبو حصين الأسدي: «أُفِّي» بتشديد الفاء وبياء وروى ابن الأنباري أن بعضهم قرأها: «إِفِ» بكسر الهمزة. وقال الزجاج: فيها سبع لغات: الكسر بلا تنوين، وبتنوين والضم بلا تنوين، وبتنوين، والفتح بلا تنوين، وبتنوين، واللغة السابعة لا تجوز في القراءة: «أُفي» بالياء، هكذا قال الزجاج. وقال ابن الأنباري: في «أفّ» عشرة أوجه: «أفّ» بفتح الفاء، و «أفّ» بكسرها، و «أفّ» ، و «أُفَّا» لك بالنصب والتنوين على مذهب الدعاء كما تقول: «وَيْلاً» للكافرين، و «أُفٌّ» لك، بالرفع والتنوين، وهو رفع باللام، كقوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «3» و «أفهٍ» لك، بالخفض والتنوين، تشبيهاً بالأصوات، كقولك: «صهٍ» و «مهٍ» ، و «أفهاً» لك، على مذهب الدعاء أيضاً، و «أُفّي» لك، على الإِضافة إِلى النفس، و «أُفْ» لك، بسكون الفاء تشبيهاً بالأدوات، مثل: «كم» و «هل» و «بل» ، و «إِفْ» لك، بكسر الألف، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: وتقول: «أُفِ» منه، و «أُفَ» ، و «أُفُ» ، و «أُفٍ» ، و «أُفاً» ، و «أفٌ» ، و «أُفّي» مضاف، و «أفهاً» و «أفاً» بالألف، ولا تقل: «أُفي» بالياء فانه خطأٌ. فأما معنى أُفٍّ ففيه خمسة أقوال: أحدها: أنه وسخ الظفر، قاله الخليل. والثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعي. والثالث: قلامة الظفر، قاله ثعلب. والرابع: أن «الأف» الاحتقار والاستصغار، من «الأَفف» ، والأَفف عند العرب: القِلَّة، ذكره ابن الأنباري. والخامس: أن «الأُفَّ» ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس اللغوي. وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: معنى «الأف» : النَّتَن، والتضجر، وأصلها: نفخك الشيء يسقط عليك من تراب ورماد، وللمكان تريد إِماطة الأذى عنه، فقيلت لكل مستثقَل، قلت: وأما قولهم: «تُف» ، فقد جعلها قوم بمعنى «أف» ، فروي عن

_ (1) سورة البقرة عند الآية: 83. [.....] (2) سورة المائدة: 71. (3) سورة المطففين: 1.

أبي عبيد أنه قال: أصل «الأُفِّ» و «التُفِّ» : الوسخ على الأصابع إِذا فتلته. وحكى ابن الأنباري فرقاً، فقال: قال اللغويون: أصل «الأُفِّ» في اللغة: وسخ الأذن، و «التُّفّ» : وسخ الأظفار، فاستعملتهما العرب فيما يكره ويستقذرُ ويُضجر منه. وحكى الزجاج فرقاً آخر، فقال: قد قيل: إِن «أف» : وسخ الأظفار، و «التفّ» : الشيء الحقير، ونحو وسخ الأذن، أو الشظية تؤخذ من الأرض، ومعنى «أُف» : النَّتْنُ، ومعنى الآية: لا تقل لهما كلاماً تتبرَّم فيه بهما إِذا كَبِرَا وأسَنَّا، فينبغي أن تتولَّى من خدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وخدمتك، وَلا تَنْهَرْهُما أي: لا تكلمهما ضَجِراً صائحاً في وجوههما. وقال عطاء بن أبي رباح: لا تنقض يدك عليهما، يقال: نَهَرْتُهُ أنْهَرهُ نَهْراً، وانتهَرْتُه انتهاراً، بمعنى واحد، وقال ابن فارس: نهرتُ الرجُل وانتهرتُه مثل: زجرتُه. قال المفسرون: وإِنما نهى عن أذاهما في الكِبَر، وإِن كان منهيا عنه على كلّ حال، لأن حالة الكِبَر يظهر فيها منهما ما يُضجِر ويؤذي، وتكثر خدمتهما. قوله تعالى: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي: ليِّناً لطيفاً أحسن ما تجد. وقال سعيد بن المسيّب: قولَ العبد المذنِب للسَّيد الفظّ. قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي: ألِنْ لهما جانبك متذللاً لهما من رحمتك إِياهما. وخفضُ الجَناح قد شرحناه في الحجر «1» . قال عطاء: جناحك: يداك، فلا ترفعهما على والديك. والجمهور يضمون الذال من «الذُّلّ» وقرأ أبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: بكسر الذال. قال الفراء: الذِّل: أن تتذلَّلَ لهما، من الذِّل، والذُّل: أن تتذلل ولست بذليل في الخدمة «2» والُّذل والذلة: مصدر الذليل، والذِّل بالكسر: مصدر الذَّلول، مثل الدابة والأرض. قال ابن الأنباري: من قرأ «الذّل» ، بكسر الذال، جعله بمعنى الذُّل، بضم الذال، والذي عليه كُبَراء أهل اللغة أن الذُّل من الرجل الذليل، والذِّل من الدابة الذَّلول. قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي: مثل رحمتها إِياي في صغري حتى ربياني، وقد ذهب قوم إِلى أن هذا الدعاء المطلق نُسخ منه الدعاء لأهل الشرك بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ «3» ، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومقاتل. قال المصنف: ولا أرى هذا نسخاً عند الفقهاء، لأنه عامّ دخله التخصيص، وقد ذَكَرَ قريباً مما قلتُه ابن جرير. قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي: بما تُضمرون من اْلبِرِّ والعقوق، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يُضمِر العقوق، غفر له ذلك، وهو قوله تعالى: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي: طائعين لله، وقيل بارِّين، وقيل: توَّابين، فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً في الأوّاب عشرة أقوال «4» : أحدها: أنه المسلِم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه التواب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وأبو عبيدة، وقال ابن قتيبة: هو التائبُ مَرَّة بعد مَرَّة. وقال الزجاج: هو التوَّاب المُقْلِع عن جميع ما نهاه الله عنه، يقال: قد آب يؤوب أَوْباً: إِذا رجع.

_ (1) الحجر عند الآية: 88. (2) في نسخة «الخلق» . (3) سورة التوبة: 113. (4) قال الإمام الطبري رحمه الله 8/ 66: وأولى الأقوال بالصواب: قول من قال: الأوّاب: هو التائب من الذنب الراجع عن معصية الله إلى طاعته، ومما يكرهه إلى ما يرضاه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 إلى 28]

والثالث: أنه المسبِّح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: أنه المطيع لله تعالى، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والخامس: أنه الذي يَذْكر ذَنْبه في الخلاء، فيستغفر اللهَ منه، قاله عُبيد بن عُمير. والسادس: أنه المُقْبل إلى الله تعالى بقلبه وعمله، قاله الحسن. والسابع: المصلِّي، قاله قتادة. والثامن: هو الذي يصلِّي بين المغرب والعشاء، قاله ابن المنكدِر. والتاسع: الذي يصلّي صلاة الضُّحى، قاله عَون العُقيلي. والعاشر: أنه الذي يُذْنِب سِرّاً ويتوب سِرّاً، قاله السّديّ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 28] وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) قوله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ فيه قولان «1» : أحدهما: أنه قرابة الرجل من قبَل أبيه وأُمِّه، قاله ابن عباس، والحسن، فعلى هذا في حقهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد به: بِرُّهم وصِلَتهم. والثاني: النَّفقة الواجبة لهم وقت الحاجة. والثالث: الوصيَّة لهم عند الوفاة. والثاني: أنهم قرابة الرسول، قاله علي بن الحسين عليهما السلام والسدي. فعلى هذا، يكون حقهم: إِعطاؤهم من الخُمس، ويكون الخطاب للوُلاة. قوله تعالى: وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يكون المراد: الصدقات الواجبة، يعني، الزكاة، ويجوز أن يكون الحقّ الذي يلزمه إعطاؤه عند الضرورة إِليه. وقيل: حق المسكين، من الصدقة، وابن السبيل، من الضيافة. قوله تعالى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً في التبذير قولان: أحدهما: أنه إِنفاق المال في غير حق، قاله ابن مسعود، وابن عباس. وقال مجاهد: لو أنفق الرجل ماله كلَّه في حقٍّ، ما كان مبذِّراً، وأنفق مُدّاً في غير حق، كان مبذِّراً. قال الزجاج: التبذير: النفقة في غير طاعة الله، وكانت الجاهلية تنحر الإِبل وتبذِّر الأموال تطلب بذلك الفخر والسّمعة، فأمر الله عزّ وجلّ بالنفقة في وجهها فيما يقرِّب منه. والثاني: أنه الإِسراف المتلفِ للمال، ذكره الماوردي. وقال أبو عبيدة: المبذِّر: هو المُسرف المُفسد العائث. قوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إِليه، ويشاكلونهم في معصية الله تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي: جاحداً لنِعَمه. وهذا يتضمن أن المسرف كفور للنِّعم. قوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ في المشار إِليهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين تقدَّم ذِكْرُهم من الأقارب والمساكين وأبناء السبيل، قاله الأكثرون، فعلى هذا في علَّة هذا الإِعراض قولان: أحدهما: الإِعسار، قاله الجمهور. والثاني: خوف إِنفاقهم ذلك في معصية الله، قاله ابن زيد. وعلى هذا في الرحمة قولان: أحدهما: الرزق، قاله الأكثرون. والثاني: أنه الصلاح والتوبة. هذا على قول ابن زيد. والثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وإِما تعرضَنَّ عنهم لتكذيبهم، قاله سعيد بن جبير. فتحتمل إذاً الرحمة وجهين: أحدهما: انتظار النّصر عليهم. والثاني: الهداية لهم.

_ (1) قال الإمام الطبري رحمه الله 8/ 67: وأولى التأولين عندي بالصواب تأويل من تأوّل ذلك أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة قرابات أنفسهم وأرحامهم من قبل آبائهم وأمهاتهم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 29 إلى 31]

(892) والثالث: أنهم ناس من مزينة جاءوا يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» ، فبكَوا، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء الخراساني. (893) والرابع: أنها نزلت في خبَّاب، وبلال، وعمَّار، ومِهجَع، من الفقراء، كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلا يجد ما يعطيهم، فيُعرض عنهم ويسكت، قاله مقاتل، فعلى هذا القول والذي قبله تكون الرحمة بمعنى الرِّزق. قوله تعالى: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً قال أبو عبيدة: ليِّناً هيِّناً، وهو من اليُسْر. وللمفسرين فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه العِدَة الحسنة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثاني: أنه القول الجميل، مثل أن يقول: رزقنا الله وإِياك، قاله ابن زيد وهذا على ما تقدّم من قوله. والثالث: أنه المداراة لهم باللسان، على قول مَن قال: هم المشركون، قاله أبو سليمان الدمشقي، وعلى هذا القول، تحتمل الآية النّسخ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 29 الى 31] وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ. (894) سبب نزولها: أن غلاماً جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال، إِن أُمِّي تسألك كذا وكذا، قال: «ما عندنا اليوم شيء» ، قال: فتقول لك: اكْسُني قميصك، قال: فخلع قميصه فدفعه إِليه، وجلس في البيت حاسراً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود. وروى جابر بن عبد الله نحو هذا، فزاد فيه، فأذَّن بلال للصلاة، وانتظروه فلم يخرج، فشغل قلوب الصحابة، فدخل عليه بعضهم، فرأوه عُرياناً، فنزلت هذه الآية. والمعنى: لا تمسك يدك عن البذل كلَّ الإِمساك حتى كأنها مقبوضة إِلى عنقك، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ في الإِعطاء والنفقة فَتَقْعُدَ مَلُوماً تلوم نفسك ويلومك الناس، مَحْسُوراً قال ابن قتيبة: تَحْسِرُكَ العطيةُ وتقطعك كما يَحْسِرُ السفر البعيرَ فيبقى منقطعاً به. قال الزجّاج: المحسور: الذي قد بلغ الغاية في التعب والإعياء، فالمعنى: فتقعد وقد بالغت في الحَمْل على نفسك وحالك حتى صِرتَ بمنزلة من قد حَسَر. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الخطاب أُريدَ به غيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأنه لم يكن يدّخر شيئا

_ واه بمرة. فهو مرسل ومع إرساله. عطاء بن عبد الله الخراساني ضعفه البخاري وابن حبان، وغيرهما. والمتن منكر جدا، فإن خير مزينة كان في غزوة تبوك، وهذه السورة مكية أو في أول العهد المدني. باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم، والمتن منكر، فهو باطل، وذكره البغوي في «تفسيره» 3/ 112 بدون سند ولا عزو لأحد. ضعيف جدا. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 575 من حديث ابن مسعود، وإسناده ضعيف جدا. فيه سليمان بن سفيان الجهني متروك، والخبر لا شيء، شبه موضوع. وذكره الواحدي في «أسبابه» 576 عن جابر بدون إسناد.

لغدٍ «1» ، وكان يجوع حتى يشُدَّ الحجَر على بطنه «2» ، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون، فلم ينههم الله، لصحة يقينهم، وإِنما نهى من خِيف عليه التحسُّر على ما خرج من يده، فأما من وثق بوعد الله تعالى، فهو غير مراد بالآية. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي: يوسع على من يشاء ويضيِّق، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً حيث أجرى أرزاقهم على ما علم فيه صلاحهم. قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ قد فسّرناه في سورة الأنعام «3» . قوله تعالى: كانَ خِطْأً كَبِيراً قرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «خِطْءاً» مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموزة مقصورة. وقرأ ابن كثير،: «خِطاءً» مكسورة الخاء ممدودة مهموزة. وقرأ ابن عامر: «خَطَأً» بنصب الخاء والطاء وبالهمز من غير مدٍّ. وقرأ أبو رزين كذلك، إِلاَّ أنه مَدَّ وقرأ الحسن، وقتادة: «خَطْءاً» بفتح الخاء وسكون الطاء مهموزا مقصورا، وقرأ الزهري، وحميد بن قيس: «خِطاً» بكسر الخاء وتنوين الطاء من غير همز ولا مَدّ. قال الفراء: الخِطء: الإِثم، وقد يكون في معنى «خَطَأ» كما قالوا: «قِتْبٌ» و «قَتَبٌ» و «حِذْرٌ» و «حَذَرٌ» و «نِجْسٌ» و «نَجَسٌ» ، والخِطء، والخِطاء، والخَطَاء، ممدود: لغات. وقال أبو عبيدة: خَطِئْتُ وأَخْطَأْتُ، لغتان. وقال أبو علي: قراءة ابن كثير «خِطاءً» ، يجوز أن تكون مصدرَ «خاطأ» وإِن لم يسمع «خاطأَ» ولكن قد جاء ما يدل عليه، أنشد أبو عبيدة: تخاطأت إليك أحشاؤه وقال الأخفش: خَطِئ يَخْطَأُ بمعنى «أَذْنَبَ» وليس بمعنى «أَخطأَ» ، لأن «أخطأ» : فيما لم يصنعه عمدا. وتقول فيما أتيتَه عمداً، «خَطِئْتُ» ، وفيما لم تتعمده: «أخطأتُ» . وقال ابن الأنباري: «الخِطء» : الإِثم، يقال: قد خَطِئَ يَخْطَأُ: إذا أثم، وأَخْطَأ يُخْطِئُ: إِذا فارق الصواب. وقد شرحنا هذا في سورة يوسف عند قوله: وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ «4» .

_ (1) حديث ضعيف. مداره على جعفر بن سليمان، وهو غير قوي بل أدرجه البخاري وغيره في «الضعفاء» راجع «الميزان» 1/ 408- 410 وهذا الحديث رواه عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان لا يدّخر شيئا لغد. أخرجه الترمذي 2362 وابن عدي في «الكامل» 2/ 572 والخطيب في «تاريخه» 7/ 98 وابن حبان 6356. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد روي هذا الحديث عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلّم مرسلا. وقال الحافظ ابن كثير في «الشمائل» 98- 99: المراد أنه كان لا يدّخر شيئا لغد مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها لما ثبت في «الصحيحين» عن عمر أنه قال: إن أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلّم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت له خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته، وما بقي جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله. الكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح. حديث صحيح، أخرجه البخاري 2904 و 4885 ومسلم 1757 وأبو داود 2965 والنسائي 8/ 102. (2) حسن. أخرجه أحمد 3/ 300 بإسناد حسن من حديث جابر وأخرجه أبو يعلى 2004 من وجه آخر بسند فيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلس. وله شاهد من حديث أبي طلحة، أخرجه الترمذي في «الشمائل» 2/ 232 وإسناده ضعيف لضعف سيار بن حاتم، لكن يصلح حديثه شاهدا لما قبله. (3) الأنعام: عند الآية 151. (4) سورة يوسف: 91.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 32 إلى 33]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 32 الى 33] وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، والحسن: بالمد. وقال أبو عبيدة: وقد يمدّ «الزنى» في كلام أهل نجد، قال الفرزدق: أبا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤه ... ومَنْ يَشْرَبِ الخُرْطُوْمَ يُصْبِحْ مُسَكَّرا وقال أيضاً «1» : أخضبتَ فِعْلَك للزِّنَاءِ ولم تَكُنْ ... يَوْمَ اللِّقَاءِ لتَخْضِبَ الأبْطَالا وقال آخر: كانت فريضةُ ما تقول كَمَا ... كَانَ الزناءُ فَرِيْضَةَ الرَّجْمِ «2» قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قد ذكرناه في سورة الأنعام «3» . قوله تعالى: فَقَدْ جَعَلْنا قال الزجاج: الأجود إِدغام الدال مع الجيم، والإِظهار جيد بالغ، إِلاَّ أنَّ الجيم من وسط اللسان، والدال من طرف اللسان، والإِدغام جائز، لأن حروف وسط اللسان تقرب من حروف طرف اللسان. ووليُّه: الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه، فإن لم يكن له وليٌّ، فالسُّلطان وليُّه. وللمفسرين في السُّلطان قولان: أحدهما: أنه الحُجَّة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الوالي، والمعنى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ينصره ويُنْصِفه في حَقِّه، قاله ابن زيد. قوله تعالى: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: فَلا يُسْرِفْ بالياء. وقرأ ابن عامر، وحمزة والكسائي: بالتاء. وفي المشار إِليه في الآية قولان: أحدهما: أنه وليُّ المقتول. وفي المراد بإسرافه خمسة أقوال: أحدها: أن يَقتُل غير القاتل، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أن يقتُل اثنين بواحد، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أن يقتُل أشرف مِن الذي قُتل، قاله ابن زيد. والرابع: أن يمثِّل، قاله قتادة. والخامس: أن يتولى هو قتل القاتل دون السلطان، ذكره الزجّاج. والثاني: أن الإِشارة إِلى القاتل الأول، والمعنى: فلا يسرف القاتل بالقتل تعدّياً وظلماً، قاله مجاهد. قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أي: مُعاناً عليه. وفي هاء الكناية أربعة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الولي، فالمعنى: إِنه كان منصوراً بتمكينه من القَوَد، قاله قتادة، والجمهور. والثاني: أنها ترجع إِلى المقتول، فالمعنى: إِنه كان منصوراً بقتل قاتله، قاله مجاهد. والثالث: أنها ترجع إِلى الدم، فالمعنى: إِن دم المقتول كان منصوراً، أي: مطلوباً به. والرابع: أنها ترجع إِلى القتل، ذكر القولين الفرّاء.

_ (1) وقع في النسخ «آخر» والصواب ما أثبتناه كما في «مجاز القرآن» 1/ 377. (2) البيت للنابغة الجعدي كما في «اللسان» مادة- زنى- وقوله: «كان الزناء فريضة الرجم» مقلوب والأصل: كان الرجم فريضة الزنا. (3) سورة الأنعام: 151. [.....]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 34 إلى 36]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 34 الى 36] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ قد شرحناه في سورة الأنعام «1» . قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ وهو عامّ فيما بين العبد وبين ربه، وفيما بينه وبين الناس. قال الزجاج: كلُّ ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد. قوله تعالى: كانَ مَسْؤُلًا قال ابن قتيبة: أي: مسؤولاً عنه. قوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي: أَتِمُّوه ولا تَبْخَسوا منه. قوله تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ فيه خمس لغات: إحداها: «قُسطاس» ، بضم القاف وسينين، وهذه قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن عامر، وأبي بكر عن عاصم ها هنا وفي سورة الشعراء «2» . والثانية: كذلك إِلاَّ أن القاف مكسورة، وهذه قراءة حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم. قال الفراء: هما لغتان والثالثة: «قصطاص» ، بصادين. والرابعة: «قصطاس» ، بصاد قبل الطاء وسين بعدها، وهاتان مرويتان عن حمزة. والخامسة: «قِسطان» ، بالنون. قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال: القسطاس: الميزان، روميٌّ معرَّب، «قُسطاس» و «قِسطاس» . قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ أي: ذلك الوفاء خير عند الله وأقرب إِليه، وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي: عاقبة في الجزاء. قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال الفراء: أصل «تَقْفُ» من القيافة، وهي: تتَبُّع الأثر، وفيه لغتان: قَفَا يقْفُو، وقاف يقوف وأكثر القراء يجعلونها مِنْ «قفوتُ» فيحرك الفاء إِلى الواو ويجزم القاف كما تقول: لا تدع، وقرأ معاذ القارئ: «لا تقُفْ» ، مثل: تَقُل والعرب تقول: قُفْتُ أَثَره، وقَفَوت، ومثله: عاث وعثا، وقاعَ الجملُ الناقة، وقعاها: إذا ركبها. قال الزجاج: من قرأ باسكان الفاء وضم القاف مِنْ: قاف يقوف، فكأنه مقلوب مِنْ قفا يقفو، والمعنى واحد: تقول: قفوتُ الشيءَ أقفُوه قفواً: إذا تبعت أثره. وقال ابن قتيبة: «لا تقف» ، أي: لا تُتْبِعه الظنُّون والحَدْسَ، وهو من القفاء مأخوذ، كأنك تقفو الأمور، أي: تكون في أقفائها وأواخرها تتعقَّبها، والقائف: الذي يعرف الآثار ويتبعها فكأنه مقلوب عن القافي. وللمفسرين في المراد به أربعة أقوال: أحدها: لا ترمِ أحداً بما ليس لك به علم، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: لا تقل: رأيتُ، ولم تَرَ، ولا سمعتُ، ولم تَسمع. رواه عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثالث: لا تُشرك بالله شيئاً، رواه عطاء أيضاً عن ابن عباس. والرابع: لا تشهد بالزور، قاله محمد بن الحنفية. قوله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ قال الزجاج: إِنما قال: كُلُّ، ثم قال: كانَ، لأن كلاًّ في لفظ الواحد، وإِنما قال: أُولئِكَ لغير الناس، لأن كلَّ جمع أشرت إليه من

_ (1) سورة الأنعام: 152. (2) سورة الشعراء: 182.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 37 إلى 39]

الناس وغيرهم من الموات، تشير إِليه بلفظ «أولئك» قال جرير: الآية ذُمَّ المَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيَّامِ قال المفسرون: الإِشارة إِلى الجوارح المذكورة، يُسأل العبد يوم القيامة فيما إِذا استعملها، وفي هذا زجر عن النظر إِلى ما لا يَحِلُّ، والاستماع إِلى ما يحرم، والعزم على ما لا يجوز. [سورة الإسراء (17) : الآيات 37 الى 39] وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً وقرأ الضحاك، وابن يعمر: «مَرِحاً» بكسر الراء، قال الأخفش: والكسر أجود، لأن «مَرِحاً» اسم الفاعل قال الزّجّاج: كلاهما في الجودة سواء، غير أن المصدر أوكد في الاستعمال، تقول: جاء زيد رَكْضاً، وجاء زيد راكِضاً، ف «ركضاً» أوكد في الاستعمال، لأنه يدل على توكيد الفعل، وتأويل الآية: لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، والمرح: الأشر والبطر. وقال ابن فارس: المرح: شدة الفرح. قوله تعالى: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ فيه قولان: أحدهما: لن تقطعها إِلى آخرها. والثاني: لن تنفذها وتنقُبها. قال ابن عباس: لن تَخرق الأرضَ بِكِبْرِك، ولن تبلغ الجبال طولاً بعظَمتك. قال ابن قتيبة: والمعنى: لا ينبغي للعاجز أن يَبْذَخَ ويستكبر. قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «سَيِّئَةً» منوناً غير مضاف، على معنى: كان خطيئةً، فعلى هذا يكون قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ إِشارة إِلى المنهيّ عنه من المذكور فقط. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «سَيِّئُهُ» مضافاً مذكَّراً، فتكون لفظة «كلّ» يُشار بها إِلى سائر ما تقدم ذِكْره. وكان أبو عمرو لا يرى هذه القراءة. قال الزجاج: وهذا غلط من أبي عمرو، لأن في هذه الأقاصيص سَيِّئاً وحَسَناً، وذلك أن فيها الأمر بِبِرِّ الوالدين، وإِيتاء ذي القربى، والوفاء بالعهد، ونحو ذلك، فهذه القراءة أحسن من قراءة مَنْ نصب السَّيِئة، وكذلك قال أبو عبيدة: تدبرت الآيات من قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) فوجدت فيها أموراً حسنة. وقال أبو علي: من قرأ «سَيِّئَةً» رأى أن الكلام انقطع عند قوله تعالى: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وأن قوله: وَلا تَقْفُ لا حُسْنَ فيه. قوله تعالى: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ يشير إلى ما تقدم من الفرائض والسنن، مِنَ الْحِكْمَةِ، أي: من الأمور المُحْكَمة والأدب الجامع لِكُل خير. وقد سبق معنى «المدحور» «1» . [سورة الإسراء (17) : آية 40] أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)

_ (1) سورة الأعراف: 18.

[سورة الإسراء (17) : آية 41]

قوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ قال مقاتل: نزلت في مشركي العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الرحمن. وقال أبو عبيدة: ومعنى أَفَأَصْفاكُمْ: اختصكم. وقال المفضل: أخلصكم. وقال الزجاج: اختار لكم صفوة الشيء، وهذا توبيخ للكفار، والمعنى: اختار لكم البنين دونه، وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه، فاختصكم بالأعلى وجعل لنفسه الأدون؟! [سورة الإسراء (17) : آية 41] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا معنى التّصريف ها هنا: التبيين، وذلك أنه إِنما يصرِّف القول ليبيِّن. وقال ابن قتيبة: «صرّفنا» بمعنى: وجَّهنا، وهو من قولك: صرفت إِليك كذا، أي: عدلت به إِليك، وشُدِّدَ للتكثير، كما تقول: فَتَّحْتُ الأبواب. قوله تعالى: لِيَذَّكَّرُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر: «لِيَذَّكَّروا» مشدّدا. وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف: «ليذكروا» مخفّفا، وكذلك قرءوا في الفرقان «1» : والتذكُّر: الاتعاظ والتدبر. وَما يَزِيدُهُمْ تصريفنا وتذكيرنا إِلَّا نُفُوراً قال ابن عباس: ينفرون من الحقّ، ويتّبعون الباطل. [سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 44] قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تقولون» بالتاء. وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: «يقولون» بالياء. قوله تعالى: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فيه قولان: أحدهما: لابتَغَوا سبيلاً إِلى ممانعته وإِزالة ملكه، قاله الحسن، وسعيد بن جبير. والثاني: لابتَغَوا سبيلاً إِلى رضاه، لأنهم دونه، قاله قتادة. قوله تعالى: عَمَّا يَقُولُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر، وحفص عن عاصم: «يقولون» بالياء. وقرأ حمزة، والكسائي: بالتاء.. قوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «تسبِّح» بالتاء. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «يسبِّح» بالياء. قال الفراء: وإِنما حَسُنَت «الياء» ها هنا، لأنه عدد قليل، وإِذا قلَّ العدد من المؤنَّث والمذكَّر، كانت الياء فيه أحسن من التاء، قال عزّ وجلّ في المؤنّث القليل: وَقالَ نِسْوَةٌ «2» وقال في المذكَّر: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ «3» . قال العلماء: والمراد بهذا التسبيح: الدلالة على أنه الخالق القادر. قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَإِنْ بمعنى «ما» . وهل هذا على إِطلاقه، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه على إِطلاقه، فكلُّ شيء يسبِّحُهُ حتى الثوب والطعام وصرير الباب، قاله إِبراهيم النخعي. والثاني: أنه عامّ يراد به الخاصّ. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كل شيء فيه الروح، قاله الحسن، وقتادة والضحاك. والثاني: أنه كُلُّ ذي روح، وكل نامٍ من شجرٍ أو نبات، قال عكرمة: الشّجرة تسبّح، والأسطوانة لا

_ (1) سورة الفرقان: 50. (2) سورة يوسف: 30. (3) سورة التوبة: 5.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 إلى 52]

تسبِّح وجلس الحسن على طعام فقدَّموا اُلخِوان، فقيل له: أيسبِّح هذا اُلِخوان؟، فقال: قد كان يسبِّح مرة. والثالث: أنه كل شيء لم يغيَّر عن حاله، فإذا تغيَّر انقطع تسبيحه، روى خالد بن معدان عن المقدام بن معديكرب قال: إِنَّ التراب ليسبِّح ما لم يبتلّ، فاذا ابتلّ ترك التسبيح، وإِن الورقة تسبِّح ما دامت على الشجرة، فاذا سقطت تركت التسبيح، وإِن الثوب ليسبِّحُ ما دام جديداً، فاذا توسخ ترك التسبيح. فأما تسبيح الحيوان الناطق، فمعلوم، وتسبيح الحيوان غير الناطق، فجائز أن يكون بصوته، وجائز أن يكون بدلالته على صانعه. وفي تسبيح الجمادات ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تسبيح لا يعلمه إِلاَّ الله. والثاني: أنه خضوعه وخشوعه لله. والثالث: دلالته على صانعه، فيوجب ذلك تسبيح مُبْصِره. فإن قلنا: إِنه تسبيح حقيقة، كان قوله تعالى: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ لجميع الخلق وإِن قلنا: إِنه دلالته على صانعه، كان الخطاب للكفار، لأنهم لا يستدلُّون، ولا يعتبرون. وقد شرحنا معنى «الحليم» و «الغفور» في سورة البقرة. [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 52] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) قوله تعالى: حِجاباً مَسْتُوراً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحجاب: هو الأكنَّة على قلوبهم، قاله قتادة. والثاني: أنه حجابٌ يستره فلا يرونه وقيل: إِنها نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا قرأ القرآن. (895) قال الكلبي: وهم أبو سفيان والنضر بن الحارث وأبو جهل وأم جميل امرأة أبي لهب،

_ باطل بهذا اللفظ، والكلبي كذاب يضع الحديث. وقد ورد في كتب الحديث. عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما نزلت سورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول : مذمما أبينا ... ودينه قلينا وأمره عصينا. والنبي جالس في المسجد ومعه أبو بكر فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله أقبلت وأنا أخاف أن تراك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال وقرأ وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني فقال: لا وربّ هذا البيت ما هجاك فولّت، وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها. حديث حسن بشواهده. أخرجه الحميدي 323 والحاكم 2/ 361 والواحدي في «الوسيط» 3/ 110 من حديث أسماء، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! مع أن ابن تدريس مجهول، - وله شاهد- أخرجه أبو يعلى 25 وابن حبان 6511 والبزار 2294 من حديث ابن عباس. وذكره الهيثمي في «المجمع» 11529 وقال: قال البزار: إسناده حسن. مع أن فيه عطاء بن السائب وقد اختلط اهـ. وأخرجه الحاكم 2/ 526 من حديث زيد بن أرقم، وأعلّه الحاكم بالإرسال، ووافقه الذهبي. وللحديث شواهد ضعيفة، لكن تتأيد بمجموعها، ويعلم أن للحديث أصلا، والله أعلم وقد صححه الشيخ شعيب في «الإحسان» . انظر «تفسير القرطبي» 4027.

فحجب الله رسولَه عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرُّون به ولا يرونه. والثالث: أنه منع الله عزّ وجلّ إِياهم عن أذاه، حكاه الزجاج. وفي معنى مَسْتُوراً قولان: أحدهما: أنه بمعنى ساتر قال الزجاج: وهذا قول أهل اللغة. قال الأخفش: وقد يكون الفاعل في لفظ المفعول، كما تقول: إِنك مشؤوم علينا، وميمون علينا، وإِنما هو شائم ويامن، لأنه مِن «شَأمَهَمُ» و «يَمَنَهُم» . والثاني: أن المعنى: حجاباً مستوراً عنكم لا ترونه، ذكره الماوردي. وقال ابن الأنباري: إِذا قيل: الحجاب هو الطبع على قلوبهم، فهو مستور عن الأبصار، فيكون «مستوراً» باقياً على لفظه. قوله تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ قد شرحناه في سورة الأنعام «1» . قوله تعالى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ يعني: قلتَ: لا إِله إِلا الله، وأنت تتلو القرآن وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ قال أبو عبيدة: أي على أعقابهم، نُفُوراً وهو: جمع نافر، بمنزلة قاعد وقُعود، وجالس وجُلوس. وقال الزجاج: تحتمل مذهبين: أحدهما: المصدر، فيكون المعنى: ولَّوا نافرين نفوراً. والثاني: أن يكون «نفوراً» جمع نافر. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم الشياطين، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم المشركون، وهذا مذهب ابن زيد. قوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ. (896) قال المفسّرون: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليّا رضي الله عنه أن يتخذ طعاماً ويدعو إِليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك، ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إِلى التوحيد، وكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم: هو ساحر، هو مسحور، فنزلت هذه الآية: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ، أي: يستمعونه، والباء زائدة. إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى قال أبو عبيدة: هي مصدر مِنْ «ناجَيْتُ» واسم منها، فوصف القوم بها، والعرب تفعل ذلك، كقولهم: إِنما هو عذاب، وأنتم غَمٌّ، فجاءت في موضع «متناجين» . وقال الزجاج: والمعنى: وإِذ هم ذوو نجوى، وكانوا يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويقولون بينهم: هو ساحر، وهو مسحور، وما أشبه ذلك من القول. قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ يعني: أولئك المشركون إِنْ تَتَّبِعُونَ أي: ما تتَّبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذي سُحر فذُهب بعقله، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: مخدوعاً مغروراً، قاله مجاهد. والثالث: له سَحْر، أي: رئة وكلُّ دابَّة أو طائر أو بَشَر يأكل فهو: مسحور ومسحَّر، لأن له سحرا، قال لبيد:

_ ورد هذا الخبر من وجوه متعددة واهية، وستأتي. ولم أجد من ذكر أن سبب نزول هذه الآية هو هذا الخبر. وانظر «تفسير القرطبي» 10/ 237 بتخريجنا.

فانْ تَسْأَلِينا فِيمَ نَحْنُ فانَّنا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ المَسَحَّر وقال امرؤ القيس: أُرانا مُرْصَدِيْن لأَمْرِ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرَابِ أي: نُغذَّى، لأن أهل السماء لا يأكلون، فأراد أن يكون مَلَكاً. فعلى هذا يكون المعنى: إن تتّبعون إلّا رجلا به سَحْر، خلقه الله كخلقكم، وليس بملَكٍ، وهذا قول أبي عبيدة. قال ابن قتيبة: والقول قول مجاهد، أي مخدوعاً، لأن السِّحر حيلة وخديعة ومعنى قول لبيد «المسحَّر» : المعلَّل، وقول امرئ القيس: «ونُسْحَر» أي: نُعلَّل، وكأنا نُخدَع، والناس يقولون: سحرتَني بكلامكَ، أي: خدعتَني، ويدل عليه قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، لأنهم لو أرادوا رجلاً ذا رِئَةٍ، لم يكن في ذلك مَثَلٌ ضربوه، فلما أرادوا مخدوعاً- كأنه بالخديعة سُحر- كان مَثَلاً ضربوه، وكأنهم ذهبوا إِلى أن قوماً يعلِّمونه ويخدعونه. قال المفسرون: ومعنى ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بيَّنوا لك الأشباه، حتى شبَّهوك بالساحر والشاعر والمجنون فَضَلُّوا عن الحق، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يجدون سبيلاً إِلى تصحيح ما يعيبونك به. والثاني: لا يستطيعون سبيلاً إِلى الهُدى، لأنا طبعنا على قلوبهم. والثالث: لا يأتون سبيل الحق، لثقله عليهم ومثله قولهم: لا أستطيع أن أنظر إِلى فلان، يعنون أنا مبغِض له، فنظري إِليه يثقل، ذكرهن ابن الأنباري. قوله تعالى: أَإِذا كُنَّا عِظاماً قرأ ابن كثير: «أَيْذا» بهمزة ثم يأتي بياء ساكنة من غير مَدّ، «أَينا» ، مثله وكذلك في كل القرآن. وكذلك روى قالون عن نافع، إِلا أن نافعاً كان لا يستفهم في «أَيْنا» ، كان يجعل الثاني خبراً في كل القرآن، وكذلك مذهب الكسائي، غير أنه يهمز الأُولى همزتين. وقرأ عاصم، وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعاً. وقرأ ابن عامر: «إِذا كُنّا» بغير استفهام بهمزة واحدة «ءاءنا» بهمزتين يمد بينهما مدة. قوله تعالى: وَرُفاتاً فيه قولان: أحدهما: أنه التراب ولا واحد له، فهو بمنزلة الدُّقاق والحُطام، قاله الفراء، وهو مذهب مجاهد. والثاني: أنه العظام ما لم تتحطم، والرُّفات: الحُطام، قاله أبو عبيدة. وقال الزجاج: الرُّفات: التراب. والرُّفات: كل شيء حُطِمَ وكسر، وخَلْقاً جَدِيداً في معنى مجدداً. قوله تعالى: أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه الموت، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، والأكثرون. والثاني: أنه السماء والأرض والجبال، قاله مجاهد. والثالث: أنه ما يكبر في صدوركم، من كل ما استعظموه من خلق الله تعالى، قاله قتادة. فان قيل: كيف قيل لهم: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً وهم لا يقدرون على ذلك؟ فعنه جوابان: أحدهما: إِن قدرتم على تغيُّر حالاتكم، فكونوا حجارة أو أشدَّ منها، فانا نميتكم، وننفِّذ أحكامنا فيكم، ومثل هذا قولك للرجل: اصعد إلى السماء فإني لا حقك. والثاني: تصوَّروا أنفسكم حجارة أو أصلب منها، فإنا سنبيدكم، قال الأحوص:

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 8/ 91: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال كل ما في صدور بني آدم، فجائز أن يكون عني به الموت أو السماء والأرض أو غير ذلك لأن الله جل ثناؤه لم يخصص منه شيئا دون شيء.

[سورة الإسراء (17) : آية 53]

إذا كنت عزهاة عن اللهو والصّبا ... فكن حجرا من يابس الصّخر جامدا «1» معناه: فتصوَّر نفسك حَجَراً، وهؤلاء قوم اعترفوا أن الله خالقهم، وجحدوا البعث، فأُعلموا أن الذي ابتدأ خلقهم هو الذي يحييهم. قوله تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ قال قتادة: يحرِّكونها تكذيباً واستهزاءً. قال الفراء: يقال: أنغض رأسه: إِذا حركه إِلى فوق وإِلى أسفل. وقال ابن قتيبة: المعنى يحرِّكونها كما يحرِّك الآيس من الشيء والمستبعدُ له رأسه، يقال: نغضت سِنُّه: إِذا تحركت. قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ يعنون البعث قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي: هو قريب. ثم بيَّن متى يكون فقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ يعني: من القبور بالنداء الذي يُسمعكم، وهو النفخة الأخيرة فَتَسْتَجِيبُونَ أي: تجيبون. قال مقاتل: يقوم إِسرافيل على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن. فيقول: أيتها العظام البالية، وأيتها اللحوم المتمزقة، وأيتها الشعور المتفرقة، وأيتها العروق المتقطعة، اخرجوا إِلى فصل القضاء لتُجزَوا بأعمالكم، فيسمعون الصوت، فيسعَون إِليه. وفي معنى بِحَمْدِهِ أربعة أقوال «2» : أحدها: بأمره، قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد. والثاني: يخرجون من القبور وهم يقولون: سبحانك وبحمدك، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أن معنى بِحَمْدِهِ: بمعرفته وطاعته، قاله قتادة، قال الزجاج: تستجيبون مُقرِّين أنه خالِقكم. والرابع: تجيبون بحمد الله لا بحمد أنفسكم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا في هذا الظن قولان: أحدهما: أنه بمعنى اليقين. والثاني: أنه على أصله. وأين يظنون أنهم لبثوا قليلاً؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بين النفختين ومقداره أربعون سنة، ينقطع في ذلك العذاب عنهم، فيرون لبثهم في زمان الراحة قليلاً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في الدنيا، لعلمهم بطول اللبث في الآخرة، قاله الحسن. والثالث: في القبور، قاله مقاتل. فعلى هذا إِنما قصر اللبث في القبور عندهم، لأنهم خرجوا إِلى ما هو أعظم عذاباً من عذاب القبور. وقد ذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، لأنهم يجيبون المنادي يحمدون الله على إِحسانه إِليهم، ويستقلُّون مدة اللبث في القبور، لأنهم كانوا غير معذَّبين. [سورة الإسراء (17) : آية 53] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) قوله تعالى: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ في سبب نزولها قولان: (897) أحدهما: أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكّة، بالقول والفعل،

_ باطل. ذكره الواحدي 578 في «أسباب النزول» عن الكلبي بدون إسناد مختصرا، والكلبي يضع الحديث. وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو باطل، فقد أقر الكلبي وأبو صالح بالكذب على ابن عباس.

[سورة الإسراء (17) : آية 54]

فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. قاله أبو صالح عن ابن عباس. (898) والثاني: أن رجلاً من الكفار شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ به عمر رضي الله عنه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل، والمعنى: وقل لعبادي المؤمنين يقولوا الكلمة التي هي أحسن. واختلفوا فيمن تقال له هذه الكلمة على قولين: أحدهما: أنهم المشركون، قال الحسن: تقول له: يَهديك الله، وما ذكرنا من سبب نزول الآية يؤيد هذا القول. وذهب بعضهم إِلى أنهم أُمروا بهذه الآية بتحسين خطاب المشركين قبل الأمر بقتالهم، ثم نُسخت هذه الآية بآية السيف. والثاني: أنهم المسلمون، قاله ابن جرير. المعنى: وقل لعبادي يقول بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة. وقد روى مبارك عن الحسن قال: «التي هي أحسن» أن يقول له مثل قوله، ولكن يقول له: يرحمك الله، يغفر الله لك. قال الأخفش: وقوله يَقُولُوا مثل قوله: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وقد شرحنا ذلك في سورة ابراهيم «1» . قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي: يُفسد ما بينهم، والعدوّ المُبَين: الظاهر العداوة. [سورة الإسراء (17) : آية 54] رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ فيمن خوطب بهذا قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ فينجيكم من أهل مكّة أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فيسلطهم عليكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: إِن يشأ يرحمكم بالتوبة، أو يعذبكم بالإِقامة على الذنوب، قاله الحسن. والثاني: أنهم المشركون. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: إِن يشأ يرحمكم، فيهديكم للإيمان، أو إِن يشأ يعذِّبكم، فيميتكم على الكفر، قاله مقاتل. والثاني: أنه لما نزل القحط بالمشركين فقالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) «2» ، قال الله تعال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ مَنْ الذي يؤمن، ومن الذي لا يؤمن إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ فيكشف القحط عنكم أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فيتركه عليكم، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال ابن الأنباري: و «أو» ها هنا دخلت لسَعة الأمرين عند الله تعالى، وأنه لا يردّ عنهما، فكانت ملحقة ب «أو» المبيحة في قولهم: جالس الحسن، أو ابن سيرين، يعنون: قد وسَّعنا لك الأمر. قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كفيلاً تُؤخذ بهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: حافظاً وربّاً، قاله الفراء. والثالث: كفيلاً بهدايتهم وقادراً على إِصلاح قلوبهم، ذكره ابن الأنباري. وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذا منسوخ بآية السيف. [سورة الإسراء (17) : آية 55] وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)

_ باطل. ذكره الثعلبي كما في «تفسير القرطبي» 10/ 241 والمارودي والواحدي في «أسبابه» 577 بدون نسبة لأحد. وعزاه المصنف لمقاتل، وهو كذاب يضع الحديث، ولذا لم يسمه الثعلبي والواحدي والماوردي.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 إلى 57]

قوله تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه خالِقُهم، فهدى من شاء، وأضلَّ من شاء، وكذلك فضَّل بعض النبيين على بعض، وذلك عن حكمة منه وعِلم، فخلق آدم بيده، ورفع إِدريس، وجعل الذرِّية لنوح، واتخذ ابراهيم خليلاً، وموسى كليماً، وجعل عيسى روحاً، وأعطى سليمان مُلْكاً جسيماً، ورفع محمداً صلى الله عليه وسلّم فوق السموات، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. يجوز أن يكون المفضَّلون أصحابَ الكتب، لأنه ختم الكلام بقوله تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. وقد شرحنا معنى «الزبور» في سورة النّساء «1» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 57] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ في سبب نزولها قولان: (899) أحدهما: أن نفراً من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجن والنفر من العرب لا يشعرون، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، روي عن ابن مسعود. (900) والثاني: أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون: هي تشفع لنا عند الله، فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين، قيل لهم: «ادعوا الذين زعمتم» ، قاله مقاتل، والمعنى: قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة، فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا له إِلى غيركم. قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ في المشار إِليهم ب أُولئِكَ ثلاثة أقوال» : أحدها: أنهم الجن الذين أسلموا. والثاني: الملائكة، وقد سبق بيان القولين. والثالث: أنهم المسيحُ، وعزيرٌ، والملائكةُ! والشمسُ والقمرُ، قاله ابن عباس. وفي معنى «يدعون» قولان: أحدهما: يعبدون، أي: يدعونهم آلهة، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أنه بمعنى يتضرعون إِلى الله في طلب الوسيلة. وعلى هذا يكون قوله تعالى: «يدعون» راجعاً إِلى «أولئك» ، ويكون قوله: «يبتغون» تماماً للكلام. وعلى القول الأول: يكون «يدعون» راجعاً إِلى المشركين، ويكون قوله: «يبتغون» وصفاً ل «أولئك» مستأنَفاً. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن: «تدعون» بالتاء. قال ابن الأنباري: فعلى هذا، الفعل مردود إلى قوله تعالى: فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ومن قرأ «يدعون» بالياء، قال: العرب تنصرف من الخطاب إِلى الغَيبة إِذا أُمن اللَّبْس. ومعنى «يدعون» :

_ موقوف صحيح. أخرجه البخاري 4715 ومسلم 3030 والنسائي في «التفسير» 307 و 308 و 309 والطبري 22376 و 22380 عن ابن مسعود موقوفا. وانظر «تفسير القرطبي» 4031 بتخريجنا. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره باطل. وحيثما أطلق مقاتل، فهو ابن سليمان.

[سورة الإسراء (17) : آية 58]

يدعونهم آلهة. وقد فسرنا معنى «الوسيلة» في المائدة «1» . وفي قوله تعالى: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ قولان: ذكرهما الزجاج. أحدهما: أن يكون «أيهم» مرفوعاً بالابتداء، وخبره أقرب ويكون المعنى: يطلبون الوسيلة إِلى ربهم ينظرون أيُّهم أقرب إِليه فيتوسَّلون إِلى الله به. والثاني: أن يكون «أيهم أقرب» بدلاً من الواو في «يبتغون» ، فيكون المعنى: يبتغي أيُّهم هو أقرب الوسيلةَ إِلى الله، أي: يتقرَّب إِليه بالعمل الصّالح. [سورة الإسراء (17) : آية 58] وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها «إِن» بمعنى «ما» ، والقرية الصالحة هلاكها بالموت، والعاصية بالعذاب، والكتاب: اللوح المحفوظ، والمسطور: المكتوب. [سورة الإسراء (17) : آية 59] وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ في سبب نزولها قولان: (901) أحدهما: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحِّي عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له: إِن شئتَ أن تستأني بهم لعلَّنا نجتبي منهم، وإِن شئتَ نؤتيهم الذي سألوا، فان كفروا أُهلكوا كما أُهلك من كان قبلهم، قال: «لا، بل أستأني» ، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: قد ذكرناه عن الزّبير في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «2» ، ومعنى الآية: وما منَعَنا إِرسالَ الآياتِ التي سألوها إِلا تكذيبُ الأوّلين، يعني أن هؤلاء سألوا الآيات التي استوجب بتكذيبها الأولونَ العذابَ، فلم يرسلها لئلا يكذِّب بها هؤلاء، فيهلكوا كما هلك أولئك، وسنَّة الله في الأمم أنهم إِذا سألوا الآيات ثم كذَّبوا بها عذَّبهم. قوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً قال ابن قتيبة: أي: بَيِّنَةً، يريد: مُبْصَراً بها. قال ابن الأنباري: ويجوز أن تكون مبصِّرة، ويصلح أن يكون المعنى: مُبصِر مشاهدوها، فنسب إِليها فعل غيرها تجوُّزاً، كما يقال: لا أرينّك ها هنا، فأدخل حرف النهي على غير المنهي عنه، إذ المعنى: لا تحضر

_ أخرجه النسائي في «التفسير» 310 وأحمد 1/ 258 والطبري 22398 والحاكم 2/ 362 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 371 والواحدي في «أسباب النزول» 579 من طرق عن جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به، وإسناده صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأخرجه البزار 2224 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 272 من حديث سلمة بن كهيل عن عمران السلمي عن ابن عباس به. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 50 وقال: ورجال الروايتين رجال الصحيح. وصححه أحمد شاكر في «المسند» 2333.

[سورة الإسراء (17) : آية 60]

ها هنا، حتى إِذا جئتُ لم أركَ فيه. ومن قرأ «مَبْصَرة» بفتح الميم والصاد، فمعناه: المبالغة في وصف الناقة بالتبيان، كقولهم: «الولد مَجْبَنة» . قوله تعالى: فَظَلَمُوا بِها قال ابن عباس: فجحدوا بها. وقال الأخفش: بها كان ظُلمهم. قوله تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي: نخوِّف العباد ليتَّعظوا. وللمفسرين في المراد بهذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنها الموت الذَّريع، قاله الحسن. والثاني: معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفاً للمكذبين. والثالث: آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي. والرابع: تقلُّب أحوال الإِنسان من صِغَرٍ إِلى شبابٍ، ثم إِلى كهولة، ثم إِلى مشيب، ليعتبر بتقلُّب أحواله فيخاف عاقبة أمره، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي، ونسب الأخير منها إلى إمامنا أحمد رضي الله عنه. [سورة الإسراء (17) : آية 60] وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أحاط عِلمه بالناس، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الربيع بن أنس. وقال مقاتل: أحاط علمه بالناس، يعني: أهل مكة، أن يفتحها لرسوله صلى الله عليه وسلّم. والثاني: أحاطت قدرته بالناس، فهم في قبضته، قاله مجاهد. والثالث: حال بينك وبين الناس أن يقتلوك، لتبلِّغ رسالته، قاله الحسن، وقتادة. قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ في هذه الرؤيا قولان «1» : أحدهما: أنها رؤيا عين، وهي ما أري ليلة أُسري به من العجائب والآيات. روى عكرمة عن ابن عباس قال: هي رؤيا عين رآها ليلة أُسري به، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، ومسروق، والنخعي، وقتادة، وأبو مالك، وأبو صالح، وابن جريج، وابن زيد في آخرين. فعلى هذا يكون معنى الفتنة: الاختبار، فإن قوماً آمنوا بما قال، وقوماً كفروا. قال ابن الأنباري: المختار في هذه الرؤية أن تكون يقظة، ولا فرق بين أن يقول القائل: رأيت فلاناً رؤية، ورأيته رؤيا، إِلا أن الرؤية يقلُّ استعمالها في المنام، والرؤيا يكثر استعمالها في المنام، ويجوز كل واحد منهما في المعنيين. والثاني: أنها رؤيا منام. ثم فيها قولان: (902) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان قد أُرِيَ أنه يدخل مكة، هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة، فعَجل قبل الأجل، فردَّه المشركون، فقال أناس: قد رُدَّ، وكان حدَّثَنَا أنه سيدخلها، فكان رجوعهم فتنتهم، رواه العوفي عن ابن عباس. وهذا لا ينافي حديث المعراج، لأن هذا كان بالمدينة، والمعراج كان بمكة: قال أبو سليمان الدمشقي: وإِنما ذكره ابن عباس على وجه الزيادة في الإِخبار لنا أن المشركين بمكة افتتنوا برؤيا عينه، والمنافقين بالمدينة افتتنوا برؤيا نومه.

_ أخرجه الطبري 22432 من طريق عطية العوفي عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لضعف عطية.

(903) والثاني: أنه أُري بني أمية على المنابر، فساءه ذلك، فقيل له: إنها الدنيا يُعْطَوْنَها، فسرّي عنه. فالفتنة ها هنا: البلاء، رواه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب، وإِن كان مثل هذا لا يصح، ولكن قد ذكره عامة المفسرين. وروى ابن الأنباري أن سعيد بن المسيّب قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قوماً على منابر، فشَقَّ ذلك عليه، وفيه نزل: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، قال: ومعنى قوله: إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ: إِلا بلاءً للناس «1» . قال ابن الأنباري: فمن ذهب إِلى أن الشجرة رجال رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم في منامه يصعدون المنابر، احتج بأن الشجرة يكنى بها عن المرأة لتأنيثها، وعن الجماعة لاجتماع أغصانها. قالوا: ووقعت اللعنة بهؤلاء الذين كنى عنهم بالشجرة. قال المفسرون: وفي الآية تقديم وتأخير، تقديره: وما جعلنا الرؤيا والشجرة إِلا فتنة للناس. وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها شجرة الزَّقُّوم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومسروق، والنخعي، والجمهور. (904) وقال مقاتل: لما ذكر الله تعالى شجرة الزَّقُّوم، قال أبو جهل: يا معشر قريش إِن محمداً يخوِّفكم بشجرة الزَّقُّوم، ألستم تعلمون أن النار تحرق الشجر، ومحمد يزعم أن النار تنبت الشجر، فهل تدرون ما الزقوم، فقال عبد الله بن الزِّبَعْرَى: إِن الزَّقُّوم بلسان بَرْبَر: التمر والزُّبْد، فقال أبو جهل: يا جارية ابغينا تمراً وزُبداً، فجاءته به، فقال لمن حوله: تَزَقَّمُوا من هذا الذي يخوِّفكم به محمدٌ، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً: قال ابن قتيبة: كانت فتنتهم بالرؤيا قولهم: كيف يذهب إِلى بيت المقدس، ويرجع في ليلة؟! وبالشجرة قولهم: كيف يكون في النار شجرة؟! وللعلماء في معنى «الملعونة» ثلاثة اقوال: أحدها: المذمومة، قاله ابن عباس. والثاني: الملعون آكلُها، ذكره الزجاج، وقال: إِن لم يكن في القرآن ذِكْر لعنها، ففيه لعن آكليها قال: والعرب تقول لكل طعام مكروه وضارٍّ: ملعون فأمّا قوله تعالى: فِي الْقُرْآنِ فالمعنى: التي ذكرت في القرآن، وهي

_ ضعيف جدا. أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم كما في «الدر» 3/ 346 على علي بن زيد عن سعيد بن المسيّب مرسلا، وهذا إسناد واه، فهو مرسل، وعلي بن زيد ضعيف. وأخرجه الطبري 22433 عن ابن عباس، وأعله ابن كثير بمحمد بن الحسن بن زبالة وأنه ضعيف جدا، قال: وشيخه- عبد المهيمن بن عباس ضعيف بالكلية. قلت: والمتن منكر، لا يصح في هذا الباب شيء. قال الحافظ في «الفتح» 8/ 398: روي عن جماعة من الصحابة، وأسانيد الكل ضعيفة اه. وانظر «تفسير الشوكاني» 1435 بتخريجنا. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية. وأخرجه الطبري 22452 و 22453 بنحوه عن قتادة. مرسلا. وورد من مرسل الحسن، أخرجه برقم 22439.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 إلى 65]

مذكورة في قوله: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) «1» . والثالث: أن معنى «الملعونة» : المُبعَدة عن منازل أهل الفضل، ذكره ابن الانباري. والقول الثاني: أن الشجرة الملعونة هي التي تلتوي على الشجر، يعني: الكَشُوثى «2» ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. والثالث: أن الشجرة كناية عن الرجال على ما ذكرنا عن سعيد بن المسيّب. قوله تعالى: وَنُخَوِّفُهُمْ قال ابن الأنباري: مفعول «نخوِّفهم» محذوف، تقديره: ونخوِّفهم العذاب، فَما يَزِيدُهُمْ أي: فما يزيدهم التخويف إِلَّا طُغْياناً وقد ذكرنا معنى الطّغيان في سورة البقرة «3» ، وذكرنا هناك تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا «4» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) قوله تعالى: «آسْجُدُ» قرأه الكوفيون: بهمزتين. وقرأه الباقون: بهمزة مطوَّلة وهذا استفهام إِنكار، يعني به: لم أكن لأفعل. قوله تعالى: لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قال الزجاج: «طيناً» منصوب على وجهين: أحدهما: التمييز، المعنى: لمن خلقتَه من طين. والثاني: على الحال، المعنى: أنشأتَه في حال كونه من طين. ولفظ قالَ أَرَأَيْتَكَ جاء ها هنا بغير حرف عطف، لأن المعنى: قال آسجد لمن خلقت طينا، وأ رأيتك، وهي في معنى: أخبرني، والكاف ذُكرت في المخاطبة توكيداً، والجواب محذوف، والمعنى: أَخبِرني عن هذا الذي كرَّمت عليَّ، لم كرَّمتَهُ عليَّ وقد خلقتَني من نار وخلقتَه من طين؟! فحذف هذا، لأن في الكلام دليلاً عليه. قوله تعالى: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر: «أخرتني» بياء في الوصل. ووقف ابن كثير بالياء. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في وصل ولا في وقف. قوله تعالى: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لأَستولِيَنَّ عليهم، قاله ابن عباس، والفراء. والثاني: لأُضِلَّنَّهم، قاله ابن زيد. والثالث: لأَستأصلنَّهم يقال: احْتَنَكَ الجرادُ ما على الأرض: إِذا أكله واحْتَنَكَ فلانٌ ما عند فلان من العلم: إذا استقصاه، فالمعنى: لأقودنّهم كيف شئت،

_ (1) سورة الدخان: 43- 44. (2) في «اللسان» : الكشوث: نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض. والكشوثى: نبات مجتث مقطوع الأصل، وقيل: لا أصل له، وهو أصفر يتعلق بأطراف الشوك. (3) سورة البقرة: 15. (4) سورة البقرة: 34.

هذا قول ابن قتيبة. فإن قيل: من أين عَلِمَ الغيب. فقد أجبنا عنه في سورة النساء «1» . قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس: هم أولياء الله الذي عصمهم. قوله تعالى: قالَ اذْهَبْ هذا اللفظ يتضمن إِنظاره فَمَنْ تَبِعَكَ، أي: تبع أمرك منهم، يعني: ذرية آدم. والموفور: الموفَّر. قال ابن قتيبة: يقال: وفَّرْتُ ماله عليه، ووَفَرْتُه، بالتخفيف والتشديد. قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ قال ابن قتيبة: اسْتَخِفَّ، ومنه تقول: استَفَزَّني فلان. وفي المراد بصوته قولان «2» : أحدهما: أنه كل داعٍ دعا إِلى معصية الله، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الغناء والمزامير، قاله مجاهد. قوله تعالى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي: صِح بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ واحثثهم عليهم بالإِغراء يقال: أجلبَ القوم وجلَّبوا: إِذا صاحوا. وقال الزجاج: المعنى: اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك فعلى هذا تكون الباء زائدة. قال ابن قتيبة: والرَّجْلُ: الرَّجَّالة يقال: رَاجِلٌ ورَجْل، مثل تاجر وتَجْر، وصاحِب وصَحْب. قال ابن عباس: كلّ خيل تسير في معصية الله، وكلّ رَجُل يسير في معصية الله. وقال قتادة: إِن له خيلاً ورَجْلاً من الجن والإِنس. وروى حفص عن عاصم: «بخيلك ورَجِلِكَ» بكسر الجيم، وهي قراءة ابن عباس، وابي رزين، وأبي عبد الرحمن السُّلَمي. قال أبو زيد: يقال: رجل رجل: للرجّال، ويقال: جاءنا حافياً رجِلاً. وقرأ ابن السميفع، والجحدري: «بخيلك ورُجَّالك» برفع الراء وتشديد الجيم مفتوحة وبألف بعدها. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعكرمة: «ورِجَالك» بكسر الراء وتخفيف الجيم مع ألف. قوله تعالى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنها ما كانوا يحرِّمونه من أنعامهم، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: الأموال التي أصيبت من حرام، قاله مجاهد. والثالث: التي أنفقوها في معاصي الله، قاله الحسن. والرابع: ما كانوا يذبحون لآلهتهم، قاله الضحاك. فأما مشاركته إِياهم في الأولاد، ففيها أربعة أقوال «3» : أحدها: أنهم أولاد الزنا، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك. والثاني: الموءودة من أولادهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه تسمية أولادهم عبيداً لأوثانهم، كعبد شمس، وعبد العزى، وعبد مناف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: ما مَجَّسُوا وهوَّدُوا ونصَّرُوا، وصبغُوا من أولادهم غير صبغة الإِسلام، قاله الحسن، وقتادة. قوله تعالى: وَعِدْهُمْ قد ذكرناه في قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ «4» إلى آخر الآية. وهذه

_ (1) سورة النساء: 119. (2) قال الطبري 8/ 108: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله تبارك وتعالى قال لإبليس: واستفزز من ذرية آدم من استطعت أن تستفزه بصوتك، ولم يخصص من ذلك صوتا دون صوت، فكل صوت كان دعاء إليه وإلى عمله وطاعته، وخلافا للدعاء إلى طاعة الله، فهو داخل في معنى صوته. (3) قال الطبري رحمه الله 8/ 111: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: كل ولد ولدته أنثى عصي الله بتسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو قتله ووأده، أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بها به أو فيه، وأطيع به الشيطان أو فيه. (4) سورة النساء: 120.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 إلى 70]

الآية لفظها لفظ الأمر، ومعناها التهديد، ومثلها في الكلام أن تقول للانسان: اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك. قال الزجاج: إذا تقدم الأمرَ نهيٌ عما يؤمر به، فمعناه التهديد والوعيد، تقول للرجل: لا تدخُلَنْ هذه الدار فاذا حاول أن يدخلها قلت: ادخُلها وأنت رجل، فلستَ تأمره بدخولها، ولكنك تُوعِده وتهدّده، ومثله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1» وقد نُهُوا أن يعملوا بالمعاصي. وقال ابن الانباري: هذا أمر معناه التهديد، تقديره: إِن فعلت هذا عاقبناك وعذَّبناك، فنقل إِلى لفظ الأمر عن الشّرط، كقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «2» . قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قد شرحناه في الحجر «3» . قوله تعالى: وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا قال الزجاج: كفى به وكيلاً لأوليائه يعصمهم من القبول من إِبليس. [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) قوله تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ أي: يسيِّرها. قال الزجاج: يقال: زجيت الشيء، أي قدمته. قوله تعالى: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: في طلب التجارة. وفي «من» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها زائدة. والثاني: أنها للتبعيض. والثالث: أن المفعول محذوف، والتقدير: لتبتغوا من فضله الرزق والخير، ذكرهنَّ ابن الأنباري. قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً هذا الخطاب خاصّ للمؤمنين، ثم خاطب المشركين فقال: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ يعني: خوفَ الغَرَقِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي: يَضِلُّ من يدعون من الآلهة، إِلا الله تعالى. ويقال: ضَلَّ بمعنى غاب، يقال: ضَلَّ الماء في اللَّبَن: إِذا غاب، والمعنى: أنكم أخلصتم الدعاء لله، ونسيتم الأنداد. وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل: «ضَلَّ مَنْ يَدْعُون» بالياء. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الإِيمان والإِخلاص وَكانَ الْإِنْسانُ يعني الكافر كَفُوراً بنعمة ربِّه. أَفَأَمِنْتُمْ إِذا خرجتم من البحر أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «نخسف بكم» «أو نرسل» «أن نعيدكم» «فنرسل» «فنغرقكم» بالنون في الكل. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بالياء في الكل. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بالياء في الكلّ. ومعنى يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ، أي: نغيبكم ونذهبكم في ناحية البر، والمعنى: إِن حكمي نافذ في البرّ نفوذه في البحر، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحاصب: حجارة من السماء، قاله قتادة. والثاني: أنه الريح العاصف تحصب، قاله أبو عبيدة، وأنشد للفرزدق:

_ (1) سورة فصلت: 40. [.....] (2) سورة الكهف: 29. (3) سورة الحجر: 42.

مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الريح تَضْرِبُهُم ... بِحَاصِبٍ كنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ وقال ابن قتيبة: الحاصب: الريح، سميت بذلك لأنها تَحْصِبُ، أي: ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصغار. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الحاصب الريح التي فيها الحصى. وإِنما قال في الريح: حاصِباً ولم يقل: «حاصبة» لأنه وصْفٌ لزم الريح ولم يكن لها مذكَّر تنتقل إِليه في حال، فكان بمنزلة قولهم: «حائض» للمرأة، حين لم يُقَلْ: رجل حائض. قال: وفيه جواب آخر، وهو أن نعت الريح عُريٌ من علامة التأنيث، فأشبهت بذلك أسماء المذكَّر، كما قالوا: السماء أمطر، والأرض أنبت. والثالث: أن الحاصب: التراب الذي فيه حصباء، قاله الزّجّاج. قوله تعالى: ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي: مانعاً وناصراً. قوله تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي: في البحر تارَةً أُخْرى أي: مَرَّة أُخرى، والجمع: تارات. فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ قال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شيء. قال ابن قتيبة: القاصف: الريح التي تقصف الشجر، أي: تكسره. قوله تعالى: فَيُغْرِقَكُمْ وقرأ أبو المتوكّل، وأبو جعفر، وشيبة، ورويس: «فتغرقكم» بالتاء، وسكون الغين، وتخفيف الراء. وقرأ أبو الجوزاء، وأيوب: «فيغرِّقكم» بالياء، وفتح الغين، وتشديدها. وقرأ أبو رجاء مثله، إِلا أنه بالتاء بِما كَفَرْتُمْ أي: بكفركم حيث نجوتم في المرة الأولى، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً قال ابن قتيبة: أي: من يتبع بدمائكم، أي: يطالبنا. قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ريح العذاب أربع، اثنتان في البر، واثنتان في البحر، فاللَّتان في البَرِّ: الصَّرْصَر، والعَقِيم، واللتان في البحر: العاصف، والقاصف. قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي: فضَّلناهم. قال أبو عبيدة: و «كرَّمنا» أشد مبالغة من «أكرمنا» . وللمفسرين فيما فُضِّلوا به أحد عشر قولاً: أحدها: أنهم فضِّلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإِسرافيل، ومَلَك الموت، وأشباههم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المراد: المؤمنين منهم، ويكون تفضيلهم بالإِيمان. والثاني: أن سائر الحيوان يأكل بفيه، إِلا ابن آدم فإنه يأكل بيده، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس. وقال بعض المفسرين: المراد بهذا التفضيل: أكلهم بأيديهم، ونظافة ما يقتاتونه، إِذ الجن يقتاتون العظام والرَّوث. والثالث: فُضِّلوا بالعقل، روي عن ابن عباس. والرابع: بالنطق والتمييز، قاله الضحاك. والخامس: بتعديل القامة وامتدادها، قاله عطاء. والسادس: بأن جعل محمّدا صلى الله عليه وسلّم منهم، قاله محمد بن كعب. والسابع: فضِّلوا بالمطاعم واللَّذات في الدنيا، قاله زيد بن أسلم. والثامن: بحسن الصورة، قاله يمان. والتاسع: بتسليطهم على غيرهم من الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم، قاله محمد بن جرير. والعاشر: بالأمر والنهي، ذكره الماوردي. والحادي عشر: بأن جعلت اللِّحى للرجال، والذوائب للنساء، ذكره الثعلبي. فإن قيل: كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل، وفيهم الكافر المُهان؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه عامل الكل معاملة المكرَم بالنعم الوافرة. والثاني: أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة، أجرى الصِّفة على جماعتهم، كقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «1» .

_ (1) سورة آل عمران: 110.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 إلى 72]

قوله تعالى: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ على أكباد رطبة، وهي: الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، وفي الْبَحْرِ على أعواد يابسة، وهي: السفن. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فيه قولان: أحدهما: الحلال. والثاني: المستطاب في الذوق. قوله تعالى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا فيه قولان: أحدهما: أنه على لفظه، وأنهم لم يفضَّلوا على سائر المخلوقات. وقد ذكرنا عن ابن عباس أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة. وقال غيره: بل الملائكة أفضل. والثاني: أن معناه: وفضَّلناهم على جميع مَنْ خلقنا. والعرب تضع الأكثر والكثير في موضع الجمع، كقوله تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ «1» . (905) وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «المؤمن أكرم على الله عزّ وجلّ من الملائكة الذين عنده» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 72] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال الزجاج: هو منصوب على معنى: «اذكر يوم ندعو كل أُناس بإمامهم» . والمراد به: يوم القيامة. وقرأ الحسن البصري: «يوم يدعو» بالياء (كلَّ) بالنصب. وقرأ أبو عمران الجوني: «يوم يُدعى» بياء مرفوعة، وفتح العين، وبعدها ألف، «كلُّ» بالرفع. وفي المراد بإمامهم أربعة أقوال «2» : أحدها: أنه رئيسهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه سعيد بن جبير أنه قال: إِمام هدى، أو إِمام ضلالة. والثاني: عملُهم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه

_ ضعيف جدا، أخرجه ابن ماجة 3947 من طريق الوليد بن مسلم عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم يزيد بن سفيان قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «المؤمن أكرم على الله عز وجل، من بعض ملائكته» . وقال البوصيري في «الزوائد» : إسناده ضعيف لضعف يزيد بن سفيان، أبي المهزّم. وأخرجه البيهقي في «الشعب» 152 عن أبي هريرة موقوفا. وقال: كذا رواه أبو المهزّم عن أبي هريرة موقوفا، وأبو المهزّم متروك. وله شاهد أخرجه البيهقي في «الشعب» 153 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وإسناده ضعيف جدا لأجل عبيد الله بن تمام. وقال البيهقي: تفرّد به ابن تمام، وقال البخاري: عنده عجائب ورواه غيره موقوفا، وهو الصحيح اه. ومن طريق عبيد الله بن تمام أخرجه الخطيب 4/ 45 والطبراني كما في «المجمع» 266 وأعله الهيثمي بابن تمام. وأخرجه الطبراني كما في «المجمع» 265 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال الهيثمي: فيه إبراهيم بن عبد الله المصيصي، وهو متروك، ورواه في «الأوسط» وفيه طلحة بن زيد وهو كذاب اه. وورد من حديث جابر أخرجه البيهقي في «الشعب» 149 وقال البيهقي: في ثبوته نظر اه وفيه عبد ربه بن صالح العرشي لم أجد له ترجمة، والحديث غير صحيح بكل حال. والأشبه كونه من كلام عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد أخذه من الزاملتين اللتين وقعتا له يوم اليرموك والله أعلم. والحديث استغربه ابن كثير جدا. انظر «تفسيره» 3/ 68.

قال الحسن، وأبو العالية. والثالث: نبيُّهم، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد في رواية. والرابع: كتابُهم، قاله عكرمة، ومجاهد في رواية. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه كتابهم الذي فيه أعمالهم، قاله قتادة، ومقاتل. والثاني: كتابهم الذي أُنزل عليهم، قاله الضحاك، وابن زيد. فعلى القول الأول يقال: يا متَّبعي موسى، يا متَّبعي عيسى، يا متَّبعي محمَّدٍ ويقال: يا متَّبعي رؤساء الضلالة. وعلى الثاني: يا من عمل كذا وكذا. وعلى الثالث: يا أُمَّة موسى، يا أُمَّة عيسى، يا أُمَّة محمد. وعلى الرابع: يا أهل التوراة، يا أهل الإِنجيل، يا أهل القرآن. أو يا صاحب الكتاب الذي فيه عمل كذا وكذا. قوله تعالى: فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ معناه: يقرءون حسابهم، لأنهم أخذوا كتبهم بأيْمانهم. قوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي: لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل، وقد بيَّنَّاه في سورة النساء «1» . قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى مفتوحتي الميم، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين، وقرأ أبو عمرو: «في هذه أعمى» بكسر الميم، «فهو في الآخرة أعمى» بفتحها. وفي المشار إِليها ب هذِهِ قولان «2» : أحدهما: أنها الدنيا، قاله مجاهد. ثم في معنى الكلام خمسة أقوال: أحدها: من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خَلْق الأشياء، فهو عمّا وُصِف له في الآخرة أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: من كان في الدنيا أعمى بالكفر، فهو في الآخرة أعمى، لأنه في الدنيا تُقبَل توبته، وفي الآخرة لا تُقبَل، قاله الحسن. والثالث: من عمي عن آيات الله في الدنيا، فهو عن الذي غيِّب عنه من أمور الآخرة أشدّ عمىً. والرابع: من عمي عن نِعَم الله التي بيَّنها في قوله تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إِلى قوله: تَفْضِيلًا فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه، ذكرهما ابن الأنباري. والخامس: من كان فيها أعمى عن الحُجَّة، فهو في الآخرة أعمى عن الجنة، قاله أبو بكر الورّاق. والثاني: أنها النِّعم. ثم في الكلام قولان: أحدهما: من كان أعمى عن النِّعم التي تُرى وتُشاهَد، فهو في الآخرة التي لم تُر أعمى، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: من كان أعمى عن معرفة حق الله في هذه النّعم المذكورة في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ولم يؤدِّ شكرها، فهو فيما بينه وبين الله مما يُتقرَّب به إِليه أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، قاله السدي. قال أبو علي الفارسي: ومعنى قوله: فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أي: أشدُّ عمىً، لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عَمَاهُ بالاستدلال، ولا سبيل له في الآخرة إِلى الخروج من عماه. وقيل: معنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إِلى طريق الثواب، وهذا كلُّه من عمى القلب. فإن قيل: لم قال: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ولم يقل: أشدُّ عمىً، لأن العمى خِلْقة بمنزلة الحُمرة، والزُّرقة، والعرب تقول: ما أشدَّ سواد زيد، وما أبْيَنَ زرقة عمرو، وقلَّما يقولون: ما أسود زيداً، وما أزرق عمراً؟ فالجواب: أن

_ (1) سورة النساء: 49. (2) قال الطبري رحمه الله 8/ 118: وأولى الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها، وتصريف ما فيها، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها، ولم يعاينها، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلا. يقول: وأضل منه في أمر الدنيا التي عاينها ورآها.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 إلى 77]

المراد بهذا العمى عمى القلب، وذلك يتزايد ويحدث منه شيء بعد شيء، فيخالف الخِلَقَ اللاّزِمة التي لا تزيد، نحو عمى العين، والبياض، والحمرة، ذكره ابن الأنباري. [سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 77] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ في سبب نزولها أربعة أقوال «1» : (906) أحدها: أن وفد ثَقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: متِّعنا باللات سَنة، وحرِّمْ وادينا كما حرَّمْتَ مكة، فأبى ذلك، فأقبلوا يُكثرون مسألتهم، وقالوا: إِنا نحب أن تعرِّف العرب فضلنا عليهم، فإن خشيتَ أن يقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا، فقل: الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنهم ودخلهم الطمع، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وروى عطية عن ابن عباس أنهم قالوا: أجِّلنا سنة، ثم نُسلم ونكسر أصنامنا، فهمَّ أن يؤجِّلهم، فنزلت هذه الآية. (907) والثاني: أنّ المشركين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلّم: لا نكفُّ عنك إِلا بأن تُلِمَّ بآلهتنا، ولو بأطراف أصابعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما علَيَّ لو فعلت والله يعلم إِني لَكاره» ؟ فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، وهذا باطل لا يجوز أن يُظَنَّ برسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه همَّ أن يُنْظِرهم سنة، وكل ذلك مُحال في حَقِّه وفي حق الصحابة أنهم رَوَواْ عنه. (908) والثالث: أن قريشاً خَلَواْ برسول الله ليلةً إِلى الصباح يكلِّمونه ويفخِّمونه، ويقولون: أنت سيدنا وابن سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، ونزلت هذه الآية، قاله قتادة.

_ واه بمرة. أخرجه الطبري 22540 عن عطية العوفي عن ابن عباس مختصرا بإسناد فيه مجاهيل، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 581 بدون إسناد عن عطاء عن ابن عباس، فالخبر واه جدا فالسورة مكية، وتحريم مكة كان في حجة الوداع، والحديث ليس بشيء لخلوه عن الإسناد. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 22536 عن سعيد بن جبير مرسلا، ومع إرساله فيه يعقوب القمي، وشيخه جعفر بن أبي المغيرة، وكلاهما غير قوي. باطل. أخرجه الطبري 33537 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف، والمتن باطل بهذا اللفظ فإن قريشا لم تقل للنبي صلى الله عليه وسلّم أنت سيدنا.

(909) والرابع: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: اطرد عنك سُقَاط الناس، ومواليهم، وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضأن، وذلك أنهم كانوا يلبَسون الصوف، حتى نجالسَك ونسمعَ منك، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يفعل ما يستدعي به إِسلامهم، فنزلت هذه الآيات. حكاه الزجاج قال: ومعنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت «إِن» واللام للتوكيد. قال المفسرون: وإِنما قال: لَيَفْتِنُونَكَ، لأن في إِعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن. قوله تعالى: لِتَفْتَرِيَ أي: لتختلقَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك، وَإِذاً لو فعلت ذلك لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي: والَوْكَ وصافَوْكَ. قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ على الحق، لِعِصمتنا إِياك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ أي: هممتَ وقاربتَ أن تَميل إِلى مرادهم شَيْئاً قَلِيلًا قال ابن عباس: وذلك حين سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيَّته. وقال ابن الأنباري: الفعل في الظاهر للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم، وفي الباطن للمشركين، وتقديره: لقد كادوا يُركنونك إِليهم، وينسبون إِليك ما يشتهونه مما تكرهه، فنسب الفعل إِلى غير فاعله عند أمن اللَّبْس، كما يقول الرجل للرجل: كدت تقتل نفسَك اليوم، يريد: كدت تفعل فعلاً يقتلك غيرك من أجله فهذا المجاز والاتساع وشبيه بهذا قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1» ، وقول القائل: لا أرينّكَ في هذا الموضع. قوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْناكَ المعنى: لو فعلت ذلك الشيء القليل لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ أي: ضِعف عذاب الحياة وَضِعْفَ عذاب الْمَماتِ، ومثله قول الشاعر: واستبَّ بَعْدَكَ يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ «2» أي: أهل المجلس. وقال ابن عباس: ضِعْفَ عذاب الدنيا والآخرة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم معصوماً، ولكنه تخويف لأُمَّته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إِلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه. قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ في سبب نزولها قولان «3» : (910) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما قَدِم المدينة، حسدته اليهود على مُقامه بالمدينة، وكرهوا

_ ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير كما في «الدر» 3/ 352 وهذا مرسل، فهو ضعيف، ولا يصح في هذا الباب شيء. باطل. ذكره الواحدي عن ابن عباس في «أسباب النزول» 584 بدون إسناد وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وهذا القول ضعيف، لأن الآية مكية. اه والصواب أنه باطل، فالسورة مكية، وكيد اليهود وحسدهم كان في المدينة، وانظر «تفسير القرطبي» 10/ 261 بتخريجنا.

قربه، فقالوا: يا محمد أنبيٌ أنت؟ قال: نعم، قالوا: فو الله لقد علمتَ ما هذه بأرض الأنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، فان كنتَ نبياً فائت الشام، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: همّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشخص عن المدينة، فنزلت هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن غَنْم: لمّا قالت له اليهود هذا، صدَّق ما قالوا، وغزا غزوة تبوك لا يريد إِلا الشام، فلما بلغ تبوكَ، نزلت هذه الآية «1» . (911) والثاني: أنهم المشركون أهل مكة هَمُّوا باخراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مكة، فأمره الله بالخروج، وأنزل هذه الآية إِخباراً عما هَمُّوا به، قاله الحسن، ومجاهد. وقال قتادة: هم أهل مكة باخراجه من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نُوظِروا، ولكنَّ الله كفَّهم عن إِخراجه حتى أمره بالخروج. وقيل: ما لبثوا بعد ذلك حتى بعث الله عليهم القتل ببدر. فعلى القول الأول، المشار إِليهم: اليهود، والأرض: المدينة. وعلى الثاني: هم المشركون، والأرض: مكة، وقد ذكرنا معنى «الاستفزاز» آنفا «2» ، وقيل: المراد به ها هنا: القتل، ليخرجوه من الأرض كلِّها، روي عن الحسن. قوله تعالى: وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «خلفك» . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «خلافك» . قال الأخفش «خلافك» في معنى خلفك، والمعنى: لا يلبثون بعد خروجك إِلَّا قَلِيلًا أي: لو أخرجوك لا ستأصلناهم بعد خروجك بقليل، وقد جازاهم الله على ما همُّوا به، فقتل صناديد المشركين ببدر، وقتل من اليهود بني قريظة، وأجلى النضير. وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا يَلْبَثون على خِلافك ومخالفتك، فسقط حرف الخفض. وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل: «خُلاَّفُكَ» بضم الخاء، وتشديد اللام، ورفع الفاء. قوله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قال الفراء: نصب السُّنَّة على العذاب المُضْمَر، أي: يعذَّبوَن كسُنَّتنا فيمن أَرسلْنا. وقال الأخفش: المعنى: سَنّها سُنَّةً. وقال الزّجّاج: انتصب بمعنى

_ عزاه الواحدي في «الأسباب» 586 لمجاهد وقتادة والحسن. وأخرجه الطبري 22550 و 22551 عن قتادة مرسلا بنحوه. وأثر مجاهد لم أره بهذا اللفظ مسندا وكذا أثر الحسن، وإنما أخرجهما الطبري 22552 و 22553 عنهما بلفظ: «لو أخرجت قريش محمدا لعذبوا بذلك» .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 إلى 81]

«لا يلبثون» وتأويله: إِنّا سَنَنَّا هذه السُنَّة فيمن أَرسَلْنا قبلك أنهم إِذا أَخرجوا نبيَّهم أو قتلوه، لم يلبث العذاب أن ينزل بهم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 81] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ أي: أَدِّها لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي: عند دُلوكها. وذكر ابن الأنباري في «اللام» قولين: أحدهما: أنها بمعنى «في» . والثاني: أنها مؤكّدة، كقوله تعالى: رَدِفَ لَكُمْ «1» . وقال أبو عبيدة: دُلوكها: من عند زوالها إِلى أن تغيب. وقال الزجاج: مَيْلها وقتَ الظهيرة دُلوك، ومَيْلها للغروب دُلوك. وقال الأزهري: معنى «الدُّلوك» في كلام العرب: الزوال، ولذلك قيل للشمس إِذا زالت نصف النهار: دالكة، وإِذا أفلت: دالكة، لأنها في الحالين زائلة. وللمفسّرين في المراد بالدّلوك ها هنا قولان «2» : أحدهما: أنه زوالها نصف النهار. (912) روى جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن شاء من أصحابه، فطعِموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» وهذا قول ابن عمر، وأبي برزة، وأبي هريرة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وهو اختيار الأزهري. قال الأزهري: لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، فيكون المعنى: أقم «3» الصلاة من وقت زوال الشمس

_ حسن. أخرجه الطبري 22583 عن جابر به، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وفيه راو لم يسمّ. وكرره برقم 22584 عن جابر بسند ليّن لأجل نبيح العنزي فإنه مقبول كما في «التقريب» فهذا يقوي ما قبله، وقد ورد تفسير الدلوك بالزوال عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهو الصحيح، والله أعلم.

إِلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، فهذه خمس صلوات. والثاني: أنه غروبها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وابن زيد، وعن ابن عباس كالقولين، قال الفراء: ورأيت العرب تذهب في الدُّلوك إِلى غيبوبة الشمس، وهذا اختيار ابن قتيبة، قال: لأن العرب تقول: دَلَكَ النجم: إِذا غاب قال ذو الرمة: مَصَابِيْحُ لَيْسَتْ باللّواتي تَقُوْدُهَا ... نُجُومٌ وَلاَ بالآفلاتِ الدَّوالِكِ «1» وتقول في الشمس: دلكتْ بَرَاحِ «2» ، يريدون: غربت، والناظر قد وضع كفَّه على حاجبه ينظر إِليها، قال الشاعر: والشَّمْسُ قَدْ كادَتْ تَكُونُ دَنَفَا ... أدْفَعُها بالرَّاحِ كَيْ تَزَحْلَفَا «3» فشبّهها بالمريض الدَّنَف، لأنها قد همَّت بالغروب كما قارب الدَّنِف الموت، وإِنما ينظر إِليها من تحت الكف ليعلم كم بقي لها إِلى أن تغيب، ويتوقى الشعاع بكفِّه. فعلى هذا، المراد بهذه الصلاة: المغرب. فأما غسق الليل فظلامُه. وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال: أحدها: العشاء، قاله ابن مسعود. والثاني: المغرب، قاله ابن عباس. قال القاضي أبو يعلى: فيحتمل أن يكون المراد بيانَ وقت المغرب، أنه من غروب الشمس إِلى غسق الليل. والثالث: المغرب والعشاء، قاله الحسن. قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ المعنى: وأقم قراءة الفجر. قال المفسرون: المراد به: صلاة الفجر. قال الزجاج: وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إِلا بقراءة، حين سمِّيت الصلاة قرآناً. قوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. (913) روى أَبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار» . قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ قال ابن عباس: فَصَلَِّ بالقرآن. قال مجاهد، وعلقمة، والأسود: التهجُّد بعد النوم. قال ابن قتيبة: تهجَّدت: سهرت، وهجدت: نمت. وقال ابن الأنباري:

_ صحيح. أخرجه الترمذي 3135 والنسائي 1/ 241 وفي «التفسير» 313 وابن ماجة 670 وأحمد 2/ 474 والطبري 22594 من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم 1/ 211 على شرطهما، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وهو في الصحيحين عنه مرفوعا بلفظ: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح» يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. أخرجه البخاري 648 و 4717 ومسلم 849 والنسائي في «التفسير» 313 وابن حبان 2051 من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 1454 و 1455 بتخريجنا.

التّهجّد ها هنا بمعنى: التيقُّظ والسَّهَر، واللغويون يقولون: هو من حروف الأضداد يقال للنائم: هاجِد ومتهجِّد، وكذلك للساهر، قال النابغة: وَلَو انَّها عَرَضَتْ لأشْمَطَ رَاهِبٍ ... عَبَد الإِلهَ صَرُوْرَةٍ مُتَهَجِّدِ لَرَنَا لِبَهْجَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيْثِهَا ... وَلَخَالَهُ رَشَداً وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ «1» يعني بالمتهجد: الساهر، وقال لبيد: قَال هَجِدْنَا فقد طال السّرى «2» أي: نَوِّمْنا. وقال الأزهري: المتهجِّد: القائم إِلى الصلاة من النَّوم: وقيل له: متهجد، لإِلقائه الهُجُود عن نفسه، كما يقال: تَحَرَّج وتأثَّم. قوله تعالى: نافِلَةً لَكَ النافلة في اللغة: ما كان زائداً على الأصل. وفي معنى هذه الزيادة في حقه قولان «3» : أحدهما: أنها زائدة فيما فُرِض عليه، فيكون المعنى: فريضة عليك، وكان قد فرض عليه قيام الليل، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: أنها زائدة على الفرض، وليست فرضاً فالمعنى: تطوعاً وفضيلة. قال أبو أُمامة، والحسن، ومجاهد: إنما النّافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم خاصة. قال مجاهد: وذلك أنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة، وهو لغيره كفارة. وذكر بعض أهل العلم: أن صلاة الليل كانت فرضاً عليه في الابتداء، ثم رخِّص له في تركها، فصارت نافلة. وذكر ابن الأنباري في هذا قولين: أحدهما: يقارب ما قاله مجاهد، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا تنفَّل لا يقدر له أن يكون بذلك ماحياً للذنوب، لأنه قد غُفر له ما تقدم من ذَنْبه وما تأخَّر، وغيره إِذا تنفَّل كان راجياً، ومقدّراً محو السيئات عنه بالتّنفّل، فالنّافلة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم زيادة على الحاجة، وهي لغيره مفتقَر إِليها، ومأمول بها دفع المكروه. والثاني: أن النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم وأمته، والمعنى: ومن الليل فتهجدوا به نافله لكم، فخوطب النبيّ صلى الله عليه وسلّم بخطاب أمته. قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «عسى» من الله واجبه، ومعنى «يبعثك» يقيمك مَقاماً مَحْمُوداً وهو الذي يحمَده لأجله جميع أهل الموقف. وفيه قولان: أحدهما: أنه الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، والحسن، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني: يجلسه على العرش يوم القيامة. روى أبو وائل عن عبد الله أنه قرأ هذه الآية، وقال:

_ (1) في «اللسان» : الشمط في الشعر: اختلافه بلونين من سواد وبياض. والصّرورة: الذي لم يأت النساء كأنه أصرّ على تركهن. (2) هو صدر بيت وعجزه: «وقدرنا إن خنا الدهر غفل» . (3) قال الطبري رحمه الله 8/ 130: وأولى القولين بالصواب في ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان الله تعالى قد خصّه بما فرض عليه من قيام الليل، دون سائر أمته وهو قول ابن عباس. وأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك، فقول لا معنى له، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما ذكر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عز وجل عليه لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ.

يُقعده على العرش، وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس، وليث عن مجاهد. قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وقرأ الحسن، وعكرمة، والضحاك، وحميد بن قيس، وقتادة، وابن أبي عبلة بفتح الميم في «مَدخل» و «مَخرج» . قال الزجاج: المدخل، بضم الميم: مصدر أدخلته مُدخلاً، ومن قال: مَدخل صدق، فهو على أدخلته، فدخل مَدخل صدق، وكذلك شرح «مَخرج» مثله. وللمفسرين في المراد بهذا المدخل والمخرج أحد عشر قولاً «1» : أحدها: أدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق. (914) روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية. وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن في رواية سعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد. والثاني: أدخلني القبر مُدخل صدق، وأخرجني منه مُخرج صدق، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أدخلني المدينة، وأخرجني إِلى مكة، يعني: لفتحها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أدخلني مكة مدخل صدق، وأخرجني منها مخرج صدق، فخرج منها آمناً من المشركين، ودخلها ظاهراً عليها يوم الفتح، قاله الضحاك. والخامس: أدخلني مُدخل صدقٍ الجنةَ، وأخرجني مخرج صدق من مكة إِلى المدينة، رواه قتادة عن الحسن. والسادس: أدخِلني في النبوَّة والرسالة، وأخرجني منها مخرج صدق، قاله مجاهد، يعني: أخرجني مما يجب عليَّ فيها. والسابع: أدخِلني في الإِسلام، وأخرجني منه، قاله أبو صالح يعني: من أداء ما وجب عليَّ فيه إِذا جاء الموت. والثامن: أدخِلني في طاعتك، وأخرجني منها، أي: سالماً غير مقصِّر في أدائها، قاله عطاء. والتاسع: أدخِلني الغار، وأخرجني منه، قاله محمد بن المنكدر. والعاشر: أدخلني في الدِّين، وأخرجني من الدنيا وأنا على الحق، ذكره الزجاج. والحادي عشر: أدخلني مكة، وأخرجني إِلى حُنَين، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وأما إِضافة الصدق إِلى المُدخل والمُخرج، فهو مدح لهما. وقد شرحنا هذا المعنى في سورة يونس «2» . قوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي: من عندك سُلْطاناً وفيه ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنه التسلُّط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين باقامة الحدود، قاله الحسن. والثاني: أنه الحُجة البيِّنة، قاله مجاهد. والثالث: المُلك العزيز الذي يُقهَر به العصاة، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: وقوله تعالى: نَصِيراً يجوز أن يكون بمعنى مُنْصَراً، ويصلح أن يكون تأويله ناصرا.

_ حسن. أخرجه الترمذي 3139 وأحمد 1948 والحاكم 3/ 3 والطبري 22644 من حديث ابن عباس وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: حسن صحيح! مع أن مداره على قابوس بن أبي ظبيان، وهو لين الحديث، لكن ورد معناه من مرسل الحسن، أخرجه الطبري 22645 ومن مرسل قتادة 22647.

[سورة الإسراء (17) : آية 82]

قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أن الحق: الإِسلام، والباطل: الشرك، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن الحق: القرآن، والباطل: الشيطان، قاله قتادة. والثالث: أن الحق: الجهاد، والباطل: الشرك، قاله ابن جريج. والرابع: الحق: عبادة الله، والباطل: عبادة الأصنام، قاله مقاتل. ومعنى «زهق» : بَطَل واضمحلَّ. وكلُّ شيء هلك وبَطَل فقد زَهَق، وزَهَقت نفسُه: تلفت. (915) وروى ابن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها ويقول: «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» . فإن قيل: كيف قلتم: إنّ وَزَهَقَ بمعنى بَطَل، والباطل موجود معمول عليه عند أهله؟ فالجواب: أن المراد من بطلانه وهلكته: وضوح عيبه، فيكون هالكاً عند المتدبِّر الناظر. [سورة الإسراء (17) : آية 82] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ «من» ها هنا لبيان الجنس، فجميع القرآن شفاء. وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال: أحدها: شفاء من الضلال، لما فيه من الهدى. والثاني: شفاء من السَّقم، لما فيه من البركة. والثالث: شفاء من البيان للفرائض والأحكام. وفي «الرحمة» قولان: أحدهما: النعمة. والثاني: سبب الرحمة. قوله تعالى: وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ يعني المشركين إِلَّا خَساراً لأنهم يكفرون به، ولا ينتفعون بمواعظه، فيزيد خسرانهم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 83 الى 84] وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) قوله تعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ قال ابن عباس: الإنسان ها هنا: الكافر، والمراد به الوليد بن المغيرة. قال المفسرون: وهذا الإِنعام: سَعة الرزق، وكشف البلاء. وَنَأى بِجانِبِهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «ونأى» على وزن «نعى» بفتح النون والهمزة. وقرأ ابن عامر: «ناء» مثل «باع» . وقرأ الكسائي، وخلف عن سليم عن حمزة: «وناء» بامالة النون والهمزة. وروى خلاَّد عن سليم: «نئي» بفتح النون، وكسر الهمزة، والمعنى: تباعد عن القيام بحقوق النّعم،

_ صحيح. أخرجه البخاري 2478 و 4287 و 4720 ومسلم 1781 والترمذي 3138 والنسائي في «التفسير» 317 وابن حبان 5862 والطبراني 10427 والبيهقي 6/ 101 من حديث ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» 1463 بتخريجنا.

[سورة الإسراء (17) : آية 85]

وقيل: تعظَّم وتكبَّر. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي: نزل به البلاء والفقر كانَ يَؤُساً أي: قَنوطاً شديد اليأس، لا يرجو فضل الله. قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فيها ثلاثة أقوال: أحدها: على ناحيته، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. قال الفراء: الشاكلة: الناحية، والجديلة، والطريقة، سمعت بعض العرب يقول: وعبد الملك إِذ ذاك على جديلته، وابن الزبير على جديلته، يريد: على ناحيته. وقال أبو عبيدة: على ناحيته وخليقته. وقال ابن قتيبة: على خليقته وطبيعته، وهو من الشكل. يقال: لستَ على شكلي، ولا شاكلتي. وقال الزجاج: على طريقته، وعلى مذهبه. والثاني: على نِيَّته قاله الحسن، ومعاوية بن قُرَّة. وقال الليث: الشاكلة من الأمور: ما وافق فاعله. والثالث: على دينه، قاله ابن زيد. وتحرير المعنى: أن كل واحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإِعراض عند النِّعم واليأس عند الشدة، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، والله يجازي الفريقين. وذكر أبو صالح عن ابن عباس: ان هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» ، وليس بشيء. [سورة الإسراء (17) : آية 85] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ في سبب نزولها قولان: (916) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مَرَّ بناس من اليهود، فقالوا: سَلُوهُ عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه، فيستقبلكُم بما تكرهون. فأتاه نفر منهم، فقالوا: يا أبا القاسم: ما تقول في الروح؟ فسكت، ونزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود. (917) والثاني: أن اليهود قالت لقريش: سلوا محمداً عن ثلاث، فإن أخبركم عن اثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي سلوه عن فِتيةٍ فُقدوا، وسلوه عن ذي القرنين، وسلوه عن الرُّوح. فسألوه عنها، ففسَّر لهم أمر الفتية في الكهف، وفسر لهم قصة ذي القرنين، وأمسك عن قصة الروح، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وفي المراد بالرّوح ها هنا ستة أقوال: أحدها: أنه الروح الذي يحيا به البدن، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. وقد اختلف الناس في ماهيَّة الروح، ثم اختلفوا هل الروح النَّفْسُ، أم هما شيئان فلا يحتاج إِلى ذكر اختلافهم لأنه لا برهان على شيء من ذلك وإنما هو شيء أخذوه عن الطّبّ

_ صحيح. أخرجه البخاري 125 و 4721 و 7297 و 7456 و 7462 ومسلم 4/ 2152 والترمذي 3141 والنسائي في «التفسير» 319 وأبو يعلى 2501 والطبري 22675 و 22676 والواحدي في «الوسيط» 3/ 124 من حديث ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» 1464 و «أحكام القرآن» 1448 بتخريجنا. ضعيف. أخرجه البيهقي في «الدلائل» 2/ 269- 271 من طريق ابن إسحاق قال: حدثني رجل من أهل مكة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مطولا، وفيه راو لم يسم. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 590 نقلا عن المفسرين بنحوه. وفي «الوسيط» 3/ 125 عن ابن عباس بدون إسناد. وهو بهذا اللفظ ضعيف. أما السؤال عن الروح فقد صح من حديث ابن مسعود الحديث المتقدم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 إلى 87]

والفلاسفة؟ فأما السلف، فانهم أمسكوا عن ذلك، لقوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، فلما رأَوا أن القوم سألوا عن الروح فلم يجابوا، والوحي ينزل، والرسول حيّ، علموا أن السكوت عما لم يُحَطْ بحقيقة عِلمه أولى. والثاني: أن المراد بهذا الروح ملك من الملائكة على خِلْقة هائلة، روي عن عليٍّ عليه السلام، وابن عباس، ومقاتل. والثالث: أن الروح: خَلْق من خلق الله عزّ وجلّ صوَّرهم على صُوَر بني آدم، رواه مجاهد عن ابن عباس. والرابع: أنه جبريل عليه السلام، قاله الحسن، وقتادة. والخامس: أنه القرآن، روي عن الحسن أيضاً. والسادس: أنه عيسى ابن مريم، حكاه الماوردي. قال أبو سليمان الدمشقي: قد ذكر الله تعالى الروح في مواضع من القرآن، فغالب ظني أن الناقلين نقلوا تفسيره من موضعه إِلى موضع لا يليق به، وظنوه مثله، وإِنما هو الروح الذي يحيى به ابن آدم. وقوله تعالى: مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي: من عِلمه الذي منع أن يعرفه أحد. قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا في المخاطبين بهذا قولان «1» : أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون. والثاني: أنهم جميع الخلق، عِلمهم قليل بالإِضافة إلى علم الله عزّ وجلّ، ذكره الماوردي. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «2» ؟ فالجواب: أن ما أوتيه الناس من العلم، وإِن كان كثيراً، فهو بالإِضافة إِلى عِلم الله قليل. [سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 87] وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال الزجاج: المعنى: لو شئنا لمحوناه من القلوب والكتب، حتى لا يوجد له أثر، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا أي: لا تجدَ من يتوكل علينا في ردّ شيء منه، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين. وقال ابن الأنباري: المعنى: لكن رحمة من ربك تمنع من أن تُسْلَبَ القرآن، وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرجوع إِلى دين آبائهم، فهدَّدهم الله عزّ وجلّ بسلب النِّعمة، فكان ظاهر الخطاب للرسول، ومعنى التهدُّدِ للأمة. وقال أبو سليمان: «ثم لا تجد لك به» أي: بما نفعله بك، من إِذهاب ما عندك «وكيلاً» يدفعنا عما نريده بك. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يسرى على القرآن في ليلة واحدة، فيجيء جبريل من جوف الليل، فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم، فيصبحون لا يقرءون آية، ولا يحسنونها «3» . وردّ أبو سليمان الدمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصّلاة والسلام:

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 8/ 144: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: خرج الكلام خطابا لمن خوطب به، والمراد به جميع الخلق، لأن علم كلّ أحد سوى الله، وإن كثر هو في علم الله قليل. [.....] (2) سورة البقرة: 269. (3) هذا الأثر أخرجه الطبراني في «الكبير» 8700 عن ابن مسعود، ورجاله رجال الصحيح، غير شداد بن معقل، وهو ثقة قاله الهيثمي في «المجمع» 7/ 329- 12465. ولبعضه شواهد في المرفوع. عند أبي يعلى 6634 من حديث أبي هريرة «أول ما يرفع من هذه الأمة الحياء والأمانة وآخر ما يبقى منها الصلاة ... » وفيه أشعث بن براز، وهو متروك قاله الهيثمي 7/ 321. وعند الطبراني في «الصغير» 387 من حديث عمر بنحو حديث أبي هريرة وفيه حكيم بن نافع وثقه ابن معين، وضعفه أبو زرعة وبقية رجاله ثقات اه قاله الهيثمي.

[سورة الإسراء (17) : آية 88]

(918) «إِن الله لا يقبض العلم انتزاعاً» ، وحديث ابن مسعود مروي من طُرُقٍ حِسان، فيحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلّم أراد بالعلم ما سوى القرآن، فإن العلم ما يزال ينقرض حتى يكون رفع القرآن آخر الأمر «1» . [سورة الإسراء (17) : آية 88] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ قال المفسرون: هذا تكذيب للنَّضْر بن الحارث حين قال: «لو شئنا لقلنا مثل هذا» . والمِثْل الذي طُلِبَ منهم: كلام له نظم كنظم القرآن، في أعلى طبقات البلاغة. والظهير: المعين. [سورة الإسراء (17) : الآيات 89 الى 93] وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ قد فسّرناه في هذه السّورة «2» ، والمعنى: من كلّ

_ صحيح. أخرجه البخاري 100 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهّالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» . وأخرجه البخاري 7307 ومسلم 2673 والترمذي 2652 وابن ماجة 52 وأحمد 2/ 162 و 2/ 203 والطيالسي وابن حبان 4571 من طرق عن عبد الله بن عمرو بن العاص به.

مَثَل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ يعني أهل مكة إِلَّا كُفُوراً أي: جحوداً للحق وإِنكاراً. قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. (919) سبب نزول هذه الآية وما يتبعها، أن رؤساء قريش، كعُتبة، وشيبة، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أُمية، والنضر بن الحارث في آخرين، اجتمعوا عند الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إِلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذَروا فيه، فبعثوا إِليه: إِن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلِّموك، فجاءهم سريعاً، وكان حريصاً على رشدهم، فقالوا: يا محمد، إِنا والله لا نَعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفَّهت الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فإن كنتَ إِنما جئتَ بهذا لتطلب مالاً، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثر مالاً، وإِن كنتَ إِنما تطلب الشرف فينا، سوَّدناك علينا، وإِن كان هذا الرَّئِيُّ الذي يأتيك قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطِّب لك حتى نُبْرِئك منه، أو نعذر فيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِن تقبلوا مِنِّي ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإِن تردُّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» . قالوا: يا محمد، فإن كنتَ غير قابل مِنّا ما عرضنا، فقد علمتَ أنه ليس من الناس أحد أضيقَ بلاداً ولا أشد عيشاً منا، سل لنا ربك يُسيِّر لنا هذه الجبال التي ضيِّقت علينا، ويُجري لنا أنهاراً، ويبعث من مضى من آبائنا، ولْيكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول: أحق هو؟ فإن فعلتَ صدَّقناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما بهذا بُعثتُ، وقد أبلغتكم ما أُرسلتُ به» قالوا: فَسَلْ ربَّك أن يبعثَ مَلَكاً يصدِّقك، وسله أن يجعل لك جِناناً، وكنوزاً، وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك قال: «ما أنا بالذي يسأل ربه هذا» قالوا: فأسقط السماء علينا كما زعمت بأن ربَّك إِن شاء فعل فقال: «ذلك إلى الله عزّ وجلّ» فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً، وقال عبد الله بن أبي أُمية: لا أؤمن لك حتى تتخذ إِلى السماء سُلَّماً، وترقى فيه وأنا أنظر، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفرٍ من الملائكة يشهدون لك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم حزيناً لِمَا رأى من مباعدتهم إِياه، فأنزل الله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ... الآيات، رواه عكرمة عن ابن عباس. قوله تعالى: حَتَّى تَفْجُرَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «حتى تُفَجِّرَ» بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مع الكسرة. وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي: «حتى تَفْجُرَ» بفتح التاء، وتسكين الفاء، وضم الجيم مع التخفيف. فمن ثقَّل، أراد كثرة الانفجار من الينبوع، ومن خفَّف، فلأن الينبوع واحد. فأما الينبوع: فهو عين ينبع الماء منها قال أبو عبيدة: وهو يَفعول، من نبع الماء، أي: ظهر وفار. قوله تعالى: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أي: بستان فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أي: تفتحها وتجريها خِلالَها أي: وسط تلك الجنة. قوله تعالى: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد، والجحدري: «أو تَسقُط» بفتح التاء، ورفع القاف «السماء» بالرّفع.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 22719 عن ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف، فيه راو لم يسمّ، وكرره الطبري 22720 عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد وإسناده ضعيف لجهالة محمد هذا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 إلى 96]

قوله تعالى: كِسَفاً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «كِسْفاً» بتسكين السين في جميع القرآن إِلا في الروم «1» فإنهم حرَّكوا السين. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتّسكين. وقرأ ابن عامر ها هنا بفتح السين، وفي باقي القرآن بتسكينها. قال الزجاج: من قرأ «كِسَفاً» بفتح السين، جعلها جمع كِسفة، وهي: القطعة، ومن قرأ «كِسْفاً» بتسكين السين، فكأنهم قالوا: أَسْقِطها طبقاً علينا واشتقاقه من كسفتُ الشيء: إِذا غطيَّته، يعنون: أسقطها علينا قطعة واحدة. وقال ابن الأنباري: من سكَّن قال: تأويله: ستراً وتغطية، من قولهم: قد انكسفت الشمس: إِذا غطاها ما يحول بين الناظرين إِليها وبين أنوارها. قوله تعالى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عياناً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل. وقال أبو عبيدة: معناه: مقابلة، أي: معاينة، وأنشد الأعشى: نصالحكم حتّى تبوءوا بِمِثْلِهَا ... كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْهَا قَبِيلُهَا أي: قابِلَتُها. ويروى: وجَّهتْها، يعني: بدل يسرتها. والثاني: كفيلاً أنك رسول الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، قال: القبيل، والكفيل، والزعيم، سواء تقول: قبلت، وكفلت، وزعمت. والثالث: قبيلةً قبيلةً، كل قبيلة على حِدَتها، قاله الحسن، ومجاهد. فأما الزخرف، فالمراد به الذهب، وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في سورة يونس «2» ، وتَرْقى: بمعنى «تصعد» يقال: رَقِيتُ أرقَى رُقِيَّاً. قوله تعالى: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً قال ابن عباس: كتاباً من رب العالمين إِلى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه. قوله تعالى: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «قل» . وقرأ ابن كثير، وابن عامر: «قال» ، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا، أي: أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر. فإن قيل: لِم اقتصر على حكاية «قالوا» من غير إِيضاح الرد؟ فالجواب: أنه لما خصهم بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ فلم يكن في وسعهم، عجَّزهم، فكأنه يقول: قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على نبوَّتي، ومن ذلك التحدِّي بمثل هذا القرآن، فأما عَنَتُكم فليس في وسعي، ولأنهم ألحُّوا عليه في هذه الأشياء، ولم يسألوه أن يسألَ ربه، فردَّ قولهم بكونه بشراً، فكفى ذلك في الرّدّ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 96] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)

_ (1) سورة الروم: 48. (2) سورة يونس: 24.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 97 إلى 100]

قوله تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا قال ابن عباس: يريد أهل مكة. قال المفسرون: ومعنى الآية: وما منعهم من الإِيمان إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وهو البيان والإِرشاد في القرآن إِلَّا أَنْ قالُوا قولهم في التعجب والإِنكار: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟ وفي الآية اختصار، تقديره: هلا بعث الله مَلَكاً رسولاً، فأُجيبوا على ذلك بقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي: مستوطنين الأرض. ومعنى الطمأنينة: السكون والمراد من الكلام أن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم. قوله تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً قد فسرناه في الرعد «1» إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً قال مقاتل: حين اختصّ الله محمّدا بالرّسالة. [سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 100] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) قوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي قرأ نافع، وأبو عمرو بالياء في الوصل، وحَذَفاها في الوقف. وأثبتها يعقوب في الوقف، وحذفها الأكثرون في الحالتين. قال ابن عباس: من يرد الله هداه فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ يَهدونهم. قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يمشِّيهم على وجوههم، وشاهِده ما روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث أنس بن مالك أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: (920) «إِن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» . والثاني: أن المعنى: ونحشرهم مسحوبين على وجوههم، قاله ابن عباس. والثالث: نحشرهم مسرعين مبادرين، فعبّر بقوله تعالى: «على وجوههم» عن الإِسراع، كما تقول العرب: قد مَرَّ القوم على وجوههم: إِذا أسرعوا، قاله ابن الأنباري. قوله تعالى: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا فيه قولان: أحدهما: عمياً لا يرون شيئاً يَسرُّهم، وبكماً لا ينطقون بحجَّة، وصماً لا يسمعون شيئاً يسرُّهم، قاله ابن عباس. وقال في رواية: عمياً عن النظر إِلى ما جعل الله تعالى لأوليائه، وبكما عن مخاطبة الله تعالى، وصماً عما مدح به أولياءه، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول. قال مقاتل: هذا يكون حين يقال لهم: اخْسَؤُا فِيها «2» فيصيرون عمياً بكماً صماً لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك.

_ صحيح. أخرجه البخاري 4760 و 6523 ومسلم 2806 والنسائي في «الكبرى» 11367 وأحمد 3/ 229 وأبو يعلى 3046 وأبو نعيم في «الحلية» 2/ 343 وابن حبان 7323 من طرق عن أنس بن مالك، به.

قوله تعالى: كُلَّما خَبَتْ قال ابن عباس: أي: سكنت. قال المفسّرون: وذلك أنهم تأكلهم، فإذا لم تُبق منهم شيئاً وصاروا فحما ولم تجد شيئا تأكله، سكن، فيُعادُون خلقاً جديداً، فتعود لهم. وقال ابن قتيبة: يقال: خبت النار: إِذا سكن لهبها. فالَّلهب يسكن، والجمر يعمل، فإن سكن الَّلهب، ولم يُطفَأ الجمر، قيل: خَمَدت تَخْمُدُ خُمُوداً، فإن طُفئت ولم يبق منها شيء، قيل: هَمَدت تَهْمُد هُمُوداً. ومعنى زِدْناهُمْ سَعِيراً: ناراً تتسعر، أي تتلهَّب. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «1» إلى قوله تعالى: قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي: على أن يخلقهم مرة ثانية، وأراد ب «مثلهم» إِياهم، وذلك أن مِثْل الشيءِ مساوٍ له، فجاز أن يعبّر به عن نفس الشيء، يقال: مِثْلُك لا يفعل هذا، أي: أنت، ومثله قوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ «2» وقد تمّ الكلام عند قوله تعالى: مِثْلَهُمْ، ثم قال: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ يعني: أجل البعث فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أي: جحوداً بذلك الأجل. قوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي قال الزجاج: المعنى: لو تملكون أنتم، قال المتلمِّس: وَلَوْ غيرُ أَخْوَالِي أَرَادُوا نَقِيصَتِي ... نَصبْتُ لهم فَوْقَ العرانينِ مِيسَما «3» المعنى: لو أراد غير أخوالي. وفي هذه الخزائن قولان: أحدهما: خزائن الأرزاق. والثاني: خزائن النِّعم. فيخرج في الرحمة قولان: أحدهما: الرِّزق. والثاني: النِّعمة. وتحرير الكلام: لو ملكتم ما يملكه الله عزّ وجلّ لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة. وَكانَ الْإِنْسانُ يعني: الكافر قَتُوراً أي: بخيلاً مُمْسِكاً يقال: قَتَر يَقْتُرُ، وقَتَر يَقْتِرُ: إِذا قصَّر في الإِنفاق. وقال الماوردي: لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى، لما جاد كجود الله تعالى، لأمرين: أحدهما: أنه لا بد أن يُمسِك منه لنفقته ومنفعته. والثاني: أنه يخاف الفقر، والله تعالى منزَّه في جُوده عن الحالين. ثم إِن الله تعالى ذكر إِنكار فرعون آيات موسى، تشبيهاً بحال هؤلاء المشركين، فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ وفيها قولان: أحدهما: أنها بمعنى المعجزات والدلالات، ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات منها، وهي: يده، والعصا، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال: أحدها: أنهما لسانه والبحر الذي فلق له، رواه العوفي عن ابن عباس يعني بلسانه: أنه كان فيه عقدة فحلَّها الله تعالى له. والثاني: البحر والجبل الذي نُتق فوقهم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: السّنون ونقص الثمرات، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، وقتادة. وقال الحسن: السِّنون ونقص الثمرات آية واحدة. والرابع: البحر والموت أُرسل عليهم، قاله الحسن، ووهب. والخامس: الحَجَر والبحر، قاله سعيد بن جبير. والسادس: لسانه وإِلقاء العصا مرتين عند فرعون، قاله الضحاك. والسابع: البحر والسِّنون، قاله محمد بن كعب. والثامن: ذكره محمد بن إِسحاق عن محمد بن كعب أيضاً، فذكر السبع الآيات الأولى، إِلا أنه جعل مكان يده البحر، وزاد الطمسة والحجر، يعني قوله تعالى: اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ.

_ (1) الإسراء: 49. (2) سورة البقرة: 137. (3) في «اللسان» : نقيصتي: ظلمي- العرانين: الأنوف- والميسم: آلة الوسم بالنار.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 إلى 104]

والثاني: أنها آيات الكتاب. (921) روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسّال، أن يهودياً قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبيّ، فقال الآخر: لا تقل: إِنه نبيٌّ، فإنه لو سمع ذلك، صارت له أربعة أعين، فأتَيَاه فسألاه عن تسع آيات بيِّنات، فقال: «لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إِلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تَسرقوا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تمشوا بالبريء إِلى السلطان ليقتلَه، ولا تَسْحَروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تَفِرُّوا من الزَّحف، وعليكم خاصّةً يهودُ ألاّ تَعْدُوا في السبتِ» ، قال: فقبَّلا يده، وقالا: نشهد أنك نبيّ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) قوله تعالى: فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ قرأ الجمهور: «فاسأل» على معنى الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. وإِنما أُمر أن يسأل من آمن منهم عما أخبر به عنهم، ليكون حُجَّة على من لم يؤمن منهم. وقرأ ابن عباس: «فَسَأَلَ بني إِسرائيل» ، على معنى الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني إِسرائيل. فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ أي: لأحسِبك يا مُوسى مَسْحُوراً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: مخدوعاً، قاله ابن عباس. والثاني: مسحوراً قد سُحِرْتَ، قاله ابن السائب. والثالث: ساحراً، فوضع مفعولاً في موضعِ فاعلٍ، هذا مروي عن الفراء، وأبي عبيدة. فقال موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ قرأ الجمهور بفتح التاء. وقرأ علي عليه السلام بضمها، وقال: والله ما علم عدوّ الله، ولكنّ موسى هو الذي عَلِم، فبلغ ذلك ابنَ عباس، فاحتج بقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1» . واختار الكسائي وثعلب قراءة علي عليه السلام، وقد رُويت عن ابن عباس، وأبي رزين، وسعيد بن جبير، وابن يعمر. واحتج من نصرها بأنه لما نَسَبَ موسى إِلى أنه مسحور، أعلمه بصحّة عقله بقوله تعالى: «لقد علمتُ» ، والقراءة الأولى أصح، لاختيار الجمهور، ولأنه قد أبان موسى من المعجزات ما أوجب علم فرعون بصدقه، فلم يردّ عليه إِلا بالتعلل والمدافعة، فكأنه قال: لقد علمتَ بالدليل والحجة «ما أنزل هؤلاء» يعني الآيات. وقد شرحنا معنى «البصائر» في سورة الأعراف «2» .

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 2733 و 3144 والنسائي 3541 و 8656 في «الكبرى» وابن ماجة 1705 والحاكم 1/ 9 من حديث صفوان بن عسال، وإسناده ضعيف، مداره على عبد الله بن سلمة، قال شعبة عن عمر بن مرة سمعت عبد الله بن سلمة حدثنا، وإنا لنعرف وننكر وكان قد كبر، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه- وقال أبو حاتم والنسائي: يعرف وينكر اه «الميزان» 4360. وفي الحديث بعض الألفاظ المنكرة وقد نبه عليها الحافظ ابن كثير، عند هذه الآية.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 إلى 109]

قوله تعالى: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ قال أكثر المفسرين: الظّنّ ها هنا بمعنى العِلم، على خلاف ظن فرعون في موسى، وسوّى بينهما بعضهم، فجعل الأول بمعنى العِلم أيضاً. وفي المثبور ستة أقوال: أحدها: أنه الملعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثاني: المغلوب، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: الناقص العقل، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس. والرابع: المُهْلَك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة، وابن قتيبة. قال الزجاج: يقال: ثُبر الرجل، فهو مثبور، إِذا أُهلك. والخامس: الهالك، قاله مجاهد. والسادس: الممنوع من الخير تقول العرب: ما ثبرك عن هذا، أي: ما منعك، قاله الفراء. قوله تعالى: فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني: فرعون أراد أن يستفزَّ بني إِسرائيل من أرض مصر. وفي معنى يَسْتَفِزَّهُمْ قولان: أحدهما: يستأصلهم، قاله ابن عباس. والثاني: يستخفّهم حتى يخرجوا، قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: جائز أن يكون استفزازُهم إِخراجَهم منها بالقتل أو بالتنحية. قال العلماء: وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنه لما خرج موسى فطلبه فرعون، هلك فرعون وملك موسى، فكذلك أظهر الله نبيَّه بعد خروجه من مكة حتى رجع إِليها ظاهراً عليها. قوله تعالى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد هلاك فرعون لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: فلسطين والأردنّ، قاله ابن عباس. والثاني: أرضٌ وراء الصِّين، قاله مقاتل. والثالث: أرض مصر والشام. قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني: القيامة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي: جميعاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن قتيبة. وقال الفرّاء: لفيفا، أي: من ها هنا ومن ها هنا. وقال الزجاج: اللفيف: الجماعات من قبائل شتى. [سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 109] وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قوله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ الهاء كناية عن القرآن، والمعنى: أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدِّين المستقيم، فهو حَقٌّ، ونزوله حق، وما تضمنه حق. وقال أبو سليمان الدمشقي: «وبالحق أنزلناه» أي: بالتوحيد، «وبالحق نزل» يعني: بالوعد والوعيد، والأمر والنهي. قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ قرأ علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وأُبيّ بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن محيصن: «فرَّقناه» بالتشديد. وقرأ الجمهور بالتخفيف. فأما قراءة التخفيف، ففي معناها ثلاثة أقوال: أحدها: بيَّنَّا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: فرقنا فيه بين الحق والباطل، قاله الحسن. والثالث: أحكمناه، وفصَّلناه، كقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «1» ، قاله الفراء. وأما المشددة، فمعناها: أنه أُنزل متفرِّقاً، ولم ينزل جملة واحدة. وقد بيَّنَّا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها.

_ (1) سورة الدخان: 4. [.....]

قوله تعالى: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ قرأ أنس، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاءٍ، وأبان عن عاصم، وابن محيصن: بفتح الميم والمعنى: على تُؤدة وترسُّل ليتدبَّروا معناه. قوله تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا هذا تهديد لكفّار مكة، والهاء كناية عن القرآن. إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ناس من أهل الكتاب، قاله مجاهد. والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله ابن زيد. والثالث: طلاب الدِّين، كأبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، قاله الواحدي. وفي هاء الكناية في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى القرآن، والمعنى: من قبل نزوله. والثاني: ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن زيد. فعلى الأول إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن. وعلى قول ابن زيد إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ما أُنزل إِليهم من عند الله. قوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ اللام ها هنا بمعنى «على» . قال ابن عباس: قوله «للأذقان» أي: للوجوه. قال الزجاج: الذي يَخِرُّ وهو قائم، إِنما يَخِرُّ لوجهه، والذَّقْن: مُجْتَمع الَّلحيَين. وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يَخِرُّ، فأقرب الأشياء من وجهه إِلى الأرض الذقن. وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يَخِرُّ، فأقرب الأشياء من وجهه إِلى الأرض الذقن. وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرضَ من الذي يَخِرُّ قبل أن يصوِّب جبهته ذقنُه، فلذلك قال: «للأذقان» ويجوز أن يكون المعنى: يَخِرُّون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يُكتفى بالبعض من الكُلِّ، وبالنوع من الجنس. قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا نزَّهوا الله تعالى عن تكذيب المكذِّبين بالقرآن، وقالوا: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا بإنزال القرآن وبعثِ محمّد صلى الله عليه وسلّم لَمَفْعُولًا واللام دخلت للتوكيد. وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أن الله باعثٌ نبيّاً من العرب، ومُنزِلٌ عليه كتاباً، فلما عاينوا ذلك، حمدوا الله تعالى على إِنجاز الوعد، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ كرَّر القول ليدل على تكرار الفعل منهم. وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي: يزيدهم القرآن تواضعاً. وكان عبد الأعلى التيمي يقول: من أوتي من العلم ما لا يُبكيه، لَخليق أن لا يكون أوتيَ علماً ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً إلى قوله تعالى: يَبْكُونَ «1» .

_ (1) فائدة: قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 2/ 453: فصل: فأما البكاء والتأوه والأنين الذي ينتظم منه حرفان، فما كان مغلوبا عليه لم يفسد الصلاة، وما كان من غير غلبة، فإن كان لغير خوف الله أفسد صلاته، قال أبو عبد الله بن بطة، في الرجل يتأوه في الصلاة: إن تأوه من النار فلا بأس. والتأوه ذكر مدح الله تعالى الباكين بقوله تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ. وروي عن عبد الله بن الشّخير، عن أبيه، أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. ولم أر عن أحمد في التأوه شيئا، ولا في الأنين والأشبه بأصوله: أنه متى فعله مختارا أفسد صلاته. وقال في البكاء الذي لا يفسد الصلاة: ما كان من غلبة. والنصوص عامة تمنع من الكلام كله، ولم يرد في التأوه والأنين ما يخصّهما، والمدح على التأوه لا يوجب تخصيصه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 إلى 111]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية. هذه الآية نزلت على سببين، نزل أوّلها إلى قوله تعالى: الْحُسْنى على سبب، وفيه ثلاثة أقوال «1» : (922) أحدها: أن رسول الله تهجَّد ذات ليلة بمكة، فجعل يقول في سجوده: «يا رحمن، يا رحيم» ، فقال المشركون: كان محمدٌ يدعو إِلهاً واحداً، فهو الآن يدعو إِلهين اثنين: الله، والرحمن، ما نعرف الرحمن إِلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة، فأنزل اللهُ تعالى هذه الآية، قاله ابن عباس. (923) والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يكتب في أول ما أوحي إِليه: باسمك اللهم، حتى نزل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «2» فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن؟ فنزلت هذه الآية، قاله ميمون بن مهران. (924) والثالث: أنّ أهل الكتاب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنك لَتُقِلُّ ذِكْر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فنزلت هذه الآية، قاله الضّحّاك. فأما قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ. فنزل على سبب، وفيه ثلاثة أقوال: (925) أحدها: أن رسول الله كان يرفع صوته بالقرآن بمكة فيسُبُّ المشركون القرآن ومن أتى به

_ ضعيف. أخرجه الطبري 22801 وابن مردويه كما في «أسباب النزول» 705 للسيوطي واللفظ بدون ذكر مسيلمة كلاهما عن ابن عباس، وفي إسناده الحسين بن داود «سنيد» وهو ضعيف. وأخرجه الطبري 22802 عن مكحول مرسلا. وفيه ذكر مسيلمة وهو باطل فالسورة مكية، وأمر مسيلمة كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم بقليل. وانظر «تفسير ابن كثير» 3/ 89 و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 4083 و 4084 وكلاهما بتخريجنا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 594 عن ميمون بن مهران مرسلا هكذا بلا سند، وهو باطل، لأن السورة مكية. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 4085 بتخريجنا. باطل. عزاه المصنف رحمه الله للضحاك، وهو بدون إسناد، ومع ذلك مراسيل الضحاك واهية، وراويته جويبر بن سعيد ذاك المتروك. والسورة مكية، وأخبار يهود مدنية. صحيح. أخرجه البخاري 4722 و 7490 و 7525 و 2547 ومسلم 446، 1451 والترمذي 3141 والنسائي في «التفسير» 320 وأحمد 1/ 23 عن ابن عباس، في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مختف بمكة كان إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي: بقراءتك فيسمع المشركون فيسبُّوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا لفظ البخاري. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1451 بتخريجنا.

بخفض رسول الله صوته بعد ذلك حتى لم يسمع أصحابه، فأنزل الله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ. أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبُّوا القرآن، وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك، فلا يسمعون، قاله ابن عباس. (926) والثاني: أن الأعرابيّ كان يجهر في التشهُّد ويرفع صوته، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة. (927) والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلِّي بمكة عند الصفا، فجهر بالقرآن في صلاة الغداة، فقال أبو جهل: لا تفتر على الله، فخفض النبيّ صلى الله عليه وسلّم صوته، فقال أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة؟! رددته عن قراءته، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. فأما التّفسير، فقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ المعنى: إِن شئتم فقولوا: يا ألله، وإِن شئتم فقولوا: يا رحمن، فانهما يرجعان إِلى واحد، أَيًّا ما تَدْعُوا المعنى: أيَّ أسماء الله تدعوا قال الفراء: و «ما» قد تكون صلة، كقوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «1» ، وتكون في معنى: «أيّ» معادَة لمَّا اختلف لفظهما. قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيه قولان: أحدهما: أنها الصلاة الشرعية. ثم في المراد بالكلام ستّة أقوال: أحدها: لا تجهر بقراءتك، ولا تخافت بها، فكأنه نهي عن شدة الجهر بالقراءة وشدة المخافتة، قاله ابن عباس. فعلى هذا في تسمية القراءة بالصلاة قولان: ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أن يكون المعنى: فلا تجهر بقراءة صلاتك. والثاني: أن القراءة بعض الصلاة، فنابت عنها، كما قيل لعيسى: كلمة الله، لأنه بالكلمة كان. والثاني: لا تصلّ مراءاة للناس، ولا تَدَعْها مخافة الناس، قاله ابن عباس أيضاً. والثالث: لا تجهر بالتشهُّد في صلاتك، روي عن عائشة في رواية، وبه قال ابن سيرين. والرابع: لا تجهر بفعل صلاتك ظاهراً ولا تخافت بها شديد الاستتار، قاله عكرمة. والخامس: لا تحسن علانيتها، وتسئ سريرتها، قاله الحسن. والسادس: لا تجهر بصلاتك كلِّها، ولا تُخافت بجميعِها، فاجهر في صلاة الليل، وخافِت في صلاة النهار، على ما أمرناك به، ذكره القاضي أبو يعلى. والقول الثاني: أن المراد بالصلاة: الدعاء، وهو قول عائشة، وأبي هريرة، ومجاهد. قوله تعالى: وَلا تُخافِتْ بِها المخافتة: الإِخفاء، يقال: صوت خفيت. وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا

_ واه بمرة. عزاه المصنف تبعا للواحدي في «الأسباب» 597 بدون إسناد لعائشة. أخرجه الطبري 22821 عن عبد الله بن شداد، وهذا مرسل فهو ضعيف، والمتن منكر جدا، شبه موضوع، ثم إن السورة مكية، والأعراب إنما أسلموا في المدينة. وإنما أخرج البخاري 4723 و 6327 و 7526 والنسائي في «التفسير» 321 والطبري 22839 عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها نزلت في الدعاء. ولم يذكر فيه الأعرابي. وانظر «أحكام القرآن» 3/ 217 بتخريجنا. باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، والمتن منكر جدا بهذا اللفظ، فهو باطل.

أي: اسلك بين الجهر والمخافتة طريقاً. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نُسخت هذه الآية بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ «1» ، وقال ابن السّائب: نسخت بقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «2» وعلى التّحقيق، وجود النّسخ ها هنا بعيد. قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وطلحة بن مصرِّف: «في المِلك» بكسر الميم. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ قال مجاهد: لم يحالف أحداً، ولم يبتغ نصر أحد والمعنى: أنه لا يحتاج إِلى موالاة أحد لِذُلٍّ يلحقه، فهو مستغن عن الولي والنصير. وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي: عظِّمه تعظيماً تامّاً. والله أعلم بالصّواب.

_ (1) سورة الأعراف: 205. (2) سورة الحجر: 94.

سورة الكهف

سورة الكهف فصل في نزولها: روى أبو صالح عن ابن عباس أن سورة الكهف مكّيّة، وكذلك قال الحسن، ومجاهد وقتادة. وهذا إجماع المفسرين من غير خلاف نعلمه، إلّا أنه قد روي عن ابن عباس، وقتادة أنّ فيها آية مدنيّة وهي قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ» . وقال مقاتل: من أوّلها إلى قوله تعالى: صَعِيداً جُرُزاً «2» مدنيّ، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «3» الآيتان مدنيّة، وباقيها مكيّ. (928) وروى أبو الدّرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف ثم أدرك الدّجّال لم يضرّه، ومن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ قد شرحناه في أوّل «الفاتحة» . والمراد بعبده ها هنا: محمّد صلى الله عليه وسلّم، وبالكتاب: القرآن، تمدَّح بانزاله، لأنه إِنعام على الرسول خاصة، وعلى الناس عامَّة. قال العلماء باللغة والتفسير: في هذه الآية تقديم وتأخير، تقديرها: أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً أي: مستقيماً عدلاً. وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، والنخعي، والأعمش: «قِيَماً» بكسر القاف، وفتح الياء، وقد فسرناه في الأنعام «4» .

_ صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» 7/ 38/ 132 من حديث أبي الدرداء، وإسناده على شرط مسلم. وأخرج مسلم 809 وأبو داود 4323 والنسائي في «اليوم والليلة» 951 وأحمد 6/ 449 وابن حبان 785 و 786 من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجّال» . وانظر «تفسير الشوكاني» 1479 بتخريجنا.

قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي: لم يجعل فيه اختلافا، وقد سبق بيان العوج في سورة آل عمران «1» . قوله تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً أي: عذاباً شديداً، مِنْ لَدُنْهُ أي: من عنده، ومن قِبَلِه، والمعنى: لينذر الكافرين وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ أي: بأن لهم أَجْراً حَسَناً وهو الجنة. ماكِثِينَ أي: مقيمين، وهو منصوب على الحال. وَيُنْذِرَ بعذاب الله الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وهم اليهود حين قالوا: عزيرٌ ابن الله، والنصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون حين قالوا: الملائكة بنات الله، ما لَهُمْ بِهِ أي: بذلك القول مِنْ عِلْمٍ لأنهم قالوا افتراء على الله، وَلا لِآبائِهِمْ الذين قالوا ذلك، كَبُرَتْ أي: عَظُمَتْ كَلِمَةً الجمهور على النصب. وقرأ ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وأبو رزين، وأبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: «كلمةٌ» بالرفع. قال الفراء: من نصب، أضمر: كُبْرتْ تلك الكلمةُ كلمةً، ومن رفع، لم يضمر شيئاً، كما تقول: عَظُم قولك. وقال الزجاج: من نصب، فالمعنى: كبرت مقالتهم: اتخذ الله ولداً كلمة، و «كلمةً» منصوب على التمييز. ومن رفع، فالمعنى: عظمت كلمة هي قولهم: اتخذ الله ولداً. قوله تعالى: تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي: إِنها قول بالفم لا صحة لها، ولا دليل عليها، إِنْ يَقُولُونَ أي: ما يقولون إِلَّا كَذِباً ثم «2» عاتبه على حُزْنِهِ لفوت ما كان يرجو من إِسلامهم، فقال: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وقتادة: «باخعُ نفسِك» بكسر السين، على الإِضافة. قال المفسرون واللغويون: فلعلك مهلك نفسك، وقاتل نفسك، وأنشد أبو عبيدة لذي الرمَّة: ألا أيُّهَذَا الباخِعُ الوجْد نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المقَادِرُ أي: نحَّتْه. فإن قيل: كيف قال: فَلَعَلَّكَ والغالب عليها الشك، والله عالم بالأشياء قبل كونها؟ فالجواب: أنها ليست بشكّ، إِنما هي مقدَّرة تقدير الاستفهام الذي يعنى به التقرير، فالمعنى: هل أنت قاتل نفسك؟! لا ينبغي أن يطول أساك على إِعراضهم، فإن من حَكَمْنَا عليه بالشِّقْوَةِ لا تجدي عليه الحسرة ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: عَلى آثارِهِمْ أي: من بعد تولِّيهم عنك إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن أَسَفاً وفيه أربعة أقوال: أحدها: حَزَناً، قاله ابن عباس، وابن قتيبة. والثاني: جَزَعاً، قاله مجاهد. والثالث: غَضَباً، قاله قتادة. والرابع: نَدَماً، قاله السدي. وقال أبو عبيدة: نَدَماً وتَلهُّفاً وأَسىً. قال الزجاج: الأسف: المبالغة في الحزن، أو الغضب، يقال: قد أسف الرجل، فهو أَسيف، قال الشاعر: أَرَى رَجُلاً مِنْهُمْ أَسِيفاً كأنّما ... يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضبا «3»

_ (1) سورة آل عمران: 99. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 93: يقول تعالى مسليا رسوله صلى الله عليه وسلّم في حزنه على المشركين، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ وقال: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. ولهذا قال فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً أي: لم يؤمنوا بالقرآن، يقول: لا تهلك نفسك أسفا، أي لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. (3) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس كما في «ديوانه» : 115 و «اللسان» مادة- أسف- يقول: كأن يده قطعت فاختضبت بدمها، والأسف هو الغضبان وقد يكون الأسيف: الغضبان مع الحزن.

[سورة الكهف (18) : الآيات 7 إلى 8]

وهذه الآية يشير بها إِلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدّي ذلك إلى هلاك نفسه بالأسف. [سورة الكهف (18) : الآيات 7 الى 8] إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم الرجال، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: العلماء، رواه مجاهد عن ابن عباس. فعلى هذين القولين تكون «ما» في موضع «مَنْ» لأنها في موضع إِبهام، قاله ابن الانباري. والثالث: أنَّه ما عليها من شيء، قاله مجاهد. والرابع: النبات والشجر، قاله مقاتل. وقول مجاهد أعمُّ، يدخل فيه النبات، والماء، والمعادن، وغير ذلك. فإن قيل: قد نرى بعض ما على الأرض سَمِجاً وليس بزينة. فالجواب: أنا إِن قلنا: إِن المراد به شيء مخصوص، فالمعنى: إِنا جعلنا بعض ما على الأرض زينةً لها، فخرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص. فإن قلنا: هم الرجال أو العلماء، فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم. وإِن قلنا: النبات والشجر، فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة والحلية. وإِن قلنا: إِنه عامّ في كل ما عليها، فلكونه دالاًّ على خالقه، فكأنَّه زينة الأرض من هذه الجهة. قوله تعالى: لِنَبْلُوَهُمْ أي: لنختبر الخلق، والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلى. قال ابن الأنباري: من قال إِن ما على الأرض يعني به النبات، قال: الهاء والميم ترجع إِلى سكان الأرض المشاهِدين للزينة، ومن قال: «ما على الأرض» الرجال، ردَّ الهاء والميم على «ما على» لأنها بتأويل الجميع، ومعنى الآية: لنبلوهم فنرى أيُّهم أحسن عملاً، هذا، أم هذا. قال الحسن: أيُّهم أزهد في الدنيا. وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة هود «1» . ثم أعلم الخلقَ أنه يفني جميع ذلك، فقال تعالى: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً قال الزجاج: الصعيد: الطريق الذي لا نبات فيه. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الصعيد: التراب، ووجه الأرض. فأما الجُرُز، فقال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: أرض «جرز» ، وأسد تقول: «جَرَز» وجُرُز، وتميم تقول: أرض «جُرْز» وجَرْز بالتخفيف، وقال أبو عبيدة: الصعيد الجُرُز: الغليظ الذي لا يُنْبِتُ شيئاً. ويقال للسَّنَةِ المُجْدِبة: جُرُز، «وسِنُون أجراز» لجدوبتها، وقلَّة مطرها، وأنشد: قَدْ جَرّفَتْهُنَّ السِّنُون الأجْرَازْ «2» وقال الزجاج: الجرز: الأرض التي لا ينبت فيها شيء، كأنها تأكل النبت أكلاً. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الجرز: الأرض التي لا يبقى بها نبات، تحرق كل نبات يكون بها. قال المفسرون: وهذا يكون يوم القيامة، يجعل الله الأرض مستويةً لا نبات فيها ولا ماء.

_ (1) سورة هود: 7. [.....] (2) هو في «اللسان» : مادة جرز و «مجاز القرآن» 1/ 394 والطبري 8/ 179 بلا نسبة.

[سورة الكهف (18) : الآيات 9 إلى 12]

[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 12] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ نزلت على سبب قد ذكرناه عند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «1» قال ابن قتيبة: ومعنى «أم حسبت» : أحسبت. فأما «الكهف» فقال المفسرون: هو المغارة في الجبل، إِلا أنه واسع، فاذا صغر، فهو غار. قال ابن الأنباري: قال اللغويون: الكهف بمنزلة الغار في الجبل. فأما الرقيم، ففيه ستة أقوال «2» : أحدها: أنه لوح من رصاص كانت فيه أسماء الفتية مكتوبة ليعلم من اطّلَع عليهم يوماً من الدهر ما قصتهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبِّه، وسعيد بن جبير في رواية. وقال السدي: الرقيم: صخرة كُتب فيها أسماء الفتية، وجُعلت في سُور المدينة. وقال مقاتل: الرقيم: كتاب كتبه رجلان صالحان، وكانا يكتمان إِيمانَهما من الملك الذي فرَّ منه الفتية، كتبا أمر الفتية في لوح من رصاص، ثم جعلاه في تابوت من نحاس، ثم جعلاه في البناء الذي سَدُّوا به باب الكهف، فقالا: لعل الله أن يُطْلِعَ على هؤلاء الفتية أحداً فيعلمون أمرهم إِذا قرءوا الكتاب. وقال الفراء: كُتب في اللوح أسماؤهم، وأنسابهم، ودينهم، وممن كانوا، قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: الرقيم: الكتاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، ومنه: كتاب مرقوم، أي: مكتوب. والثاني: أنه اسم القرية التي خرجوا منها، قاله كعب. والثالث: اسم الجبل، قاله الحسن، وعطية. والرابع: أن الرقيم: الدواة، بلسان الروم، قاله عكرمة ومجاهد في رواية. والخامس: اسم الكلب، قاله سعيد بن جبير. والسادس: اسم الوادي الذي فيه الكهف، قاله قتادة: والضحاك. قوله تعالى: كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً قال المفسرون: ومعنى الكلام: أحسبتَ أنهم كانوا أعجبَ آياتنا؟! قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم، فإن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم. وقال ابن عباس: الذي آتيتك من الكتاب والسنَّة والعلم، أفضل من شأنهم. قوله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ قال الزجاج: معنى: أوَوْا إِليه: صاروا إِليه، وجعلوه مأواهم. والفتية: جمع فتى، مثل غُلام وغِلمة، وصبي وصبية. و «فِعلة» من أسماء الجمع، وليس ببناء يقاس عليه لا يجوز غُراب وَغِرْبة، ولا غنيّ وغنية، قال بعض المفسرين: الفتية: بمعنى الشبان. وقد ذكرنا عن القتيبي أن الفتى: بمعنى الكامل من الرجال، وبيَّنَّاه في قوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ «3» . قوله تعالى: فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ أي: من عندك رَحْمَةً أي: رزقا وَهَيِّئْ لَنا أي: أصلح لنا

_ (1) سورة الإسراء: 85. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 8/ 182: وأولى هذه الأقوال بالصواب في الرقيم أن يكون معنيا به: لوح، أو حجر أو شيء كتب فيه كتاب. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 95 بقوله: وهذا هو الظاهر من الآية، وهو اختيار ابن جرير. (3) سورة النساء: 25.

تلخيص قصة أصحاب الكهف

مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي: أرشدنا إِلى ما يقرّبنا منك. والمعنى: هيّئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد. والرّشد والرّشد، والرّشاد: نقيض الضّلالة. تلخيص قصة أصحاب الكهف اختلف العلماء في بُدُوِّ أمرهم، وسبب مصيرهم إِلى الكهف، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم هربوا ليلاً من ملكهم حين دعاهم إِلى عبادة الأصنام، فمروا براعٍ له كلب، فتبعهم على دينهم، فأوَوا إِلى الكهف يتعبَّدون، ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة، إِلى أن جاءهم يوماً فأخبرهم أنهم قد ذُكِروا، فبَكوا وتعَّوذوا بالله تعالى من الفتنة، فضرب الله تعالى على آذانهم، وأمر الملك فسدَّ عليهم الكهف، وهو يظنهم أيقاظاً، وقد توفَّى الله أرواحهم وفاة النَّوم، وكلبُهم قد غشيه ما غشيهم. ثم إِن رجلين مؤمنَيْن يكتمان إِيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان، وقالا: لعل الله يُطْلع عليهم قوماً مؤمنين، فيعلمون خبرهم، هذا قول ابن عباس. وقال عبيد بن عمير: فَقَدهم قومهم فطلبوهم، فعمَّى الله عليهم أمرهم، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا فَقَدْنَاهم في شهر كذا، في سنة كذا، في مملكة فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك، وقالوا: لَيَكُونَنَّ لهذا شأن. والثاني: أن أحد الحواريِّين جاء إِلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إِن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إِلا سجد له، فكره أن يدخلها، فأتى حمَّاماً قريباً من المدينة، فكان يعمل فيه بالأجْر، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض، وخبر الآخرة، فآمنوا به وصدَّقوه، حتى جاء ابن الملك يوماً بامرأة، فدخل معها الحمَّام، فأنكر عليه الحواريُّ ذلك، فسبَّه ودخل، فمات وماتت المرأة في الحمام، فأتى الملك، فقيل له: إِن صاحب الحمام قتل ابنك، فالْتُمِس فهرب، فقال: من كان يصحبه؟ فسُمي له الفتيةُ، فالْتُمِسوا فخرجوا من المدينة، فمروا على صاحب لهم في زرع، وهو على مثل أمرهم، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت ها هنا، ثم نصبح إِن شاء الله فتَرَون رأيكم، فضرب الله على آذانهم فناموا وخرج الملك، وأصحابه يتبعونهم، فوجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل الكهف أُرعب، فقال قائل للملك: أليس قلتَ: إِن قدرتُ عليهم قتلتُهم؟ قال: بلى، قال: فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعاً وعطشاً، ففعل، هذا قول وهب بن منبِّه. والثالث: أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم، خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم: هو أسنهم: إِني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده، فقالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي ربُّ السموات والأرض، فقاموا جميعاً فقالوا: ربُّنا ربُّ السموات والأرض. فأجمعوا أن يدخلوا الكهف، فدخلوا، فلبثوا ما شاء الله، هذا قول مجاهد. وقال قتادة: كانوا أبناء ملوك الروم، فتفرَّدوا بدينهم في الكهف، فضرب الله على آذانهم. فصل: فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم، فقال عكرمة: جاءت أمّةٌ مسلمةٌ، وكان ملكهم مسلماً، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: يُبعث الروح والجسد. وقال قائل: يبعث الروح وحده، والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئاً، فشق اختلافهم على الملك، فانطلق فلبس المسوخ، وقعد على الرماد، ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف. قال

وهب بن منبه: جاء راعٍ قد أدركه المطر إِلى الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف، وأدخلته غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، ورد الله إِليهم أرواحهم حين أصبحوا من الغد. وقال ابن السائب: احتاج صاحب الأرض التي فيها الكهف أن يبني حظيرة لغنمه، فهدم ذلك السدَّ، فبنى به، فانفتح باب الكهف. وقال ابن إِسحاق: ألقى الله في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة، فنزعاها، وفتحا باب الكهف، فجلسوا فرحين، فسلَّم بعضهم على بعض لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئا يكرهونه، إنما هم كهيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن ملكهم في طلبهم، فصلّوا، وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم: انطلق فاستمع، ما نُذكَر به، وابتغ لنا طعاماً، فوضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وخرج فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف، فعجب، ثم مَرَّ مستخفياً متخوِّفاً أن يراه أحد فيذهب به إِلى الملك، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإيمان، فعجب، فخيّل إِليه أنها ليست بالمدينة التي يعرف، ورأى ناساً لا يعرفهم، فجعل يتعجب ويقول: لعلِّي نائم فلما دخلها رأى قوماً يحلفون باسم عيسى، فقام مسنداً ظهره إِلى جدار، وقال في نفسه: والله ما أدري ما هذا، عشية أمس لم يكن على وجه الأرض من يذكر عيسى إِلا قُتل، واليوم أسمعهم يذكرونه، لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران، وأخرج ورقا فأعطاه رجلا فقال: بعني طعاماً، فنظر الرجل إِلى نقشه فعجب، ثم ألقاه إِلى آخر، فجعلوا يتطارحونه بينهم، ويتعجبون، ويتشاورون، وقالوا: إِن هذا قد أصاب كنزاً، فَفَرق منهم، وظنَّهم قد عرفوه، فقال: أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إِليه، فقالوا له: من أنت يا فتى؟ والله لقد وجدتَ كنزاً وأنت تريد أن تخفيه، شاركنا فيه وإِلا أتينا بك إِلى السلطان فيقتلك. فلم يدر ما يقول، فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول: فُرِّقَ بيني وبين إِخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيتُ. فأتَوا به إلى رجلين كانا يديران أمر المدينة، فقالا: أين الكنز الذي وجدتَ؟ قال: ما وجدتُ كنزاً، ولكن هذه وَرِق آبائي، ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، ولا ما أقول لكم. قال مجاهد: كان وَرِق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإِبل، فقالوا: من أنت، وما اسم أبيك؟ فأخبرهم، فلم يجدوا من يعرفه، فقال له أحدهما: أتظن أنك تسخر مِنّا وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟! إني سآمر بك فتعذَّب عذاباً شديداً، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز، فقال يمليخا: أنبئوني عن شيء أسالكم عنه، فإن فعلتم صَدَقتكم، قالوا: سل، قال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالوا: لا نعرف اليوم على وجه الأرض مَلِكاً يسمى دقيانوس، وإِنما هذا ملك كان منذ زمان طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة، فقال: والله ما يصدِّقني أحد بما أقوله، لقد كُنّا فتيةً، وأكرهنا الملكُ على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمسِ فنمنا، فلما انتبهنا خرجتُ أشتري لأصحابي طعاماً، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إِلى الكهف أُريكم أصحابي. فانطلقوا معه وسائر أهل المدينة، وكان أصحابه قد ظنوا لإِبطائه عليهم أنه قد أُخذ، فبينما هم يتخوّفون ذلك، إِذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل، فظنوا أنهم رُسُل دقيانوس، فقاموا إِلى الصلاة، وسلَّم بعضهم على بعض، فسبق يمليخا إِليهم وهو يبكي، فبكَوا معه، وسألوه عن شأنه، فأخبرهم خبره، وقصّ عليهم النبأَ كلَّه، فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله تعالى، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقا للبعث، ونظر الناس إلى المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم، فعجبوا، وأرسلوا إِلى ملكهم فجاء،

[سورة الكهف (18) : الآيات 13 إلى 15]

واعتنق القومَ، وبكى، فقالوا له: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام، حفظك الله، وحفظ ملكك. فبينا الملك قائم رجعوا إِلى مضاجعهم، وتوفَّى الله عزَّ وجلَّ أنفسهم، فأمر الملك أن يُجعل لكل واحد منهم تابوت من ذهب، فلما أَمْسَواْ رآهم في المنام، فقالوا: إِنا لم نُخلَق من ذهب وفضة، ولكن خُلقنا من تراب، فاتركنا كما كُنّا في الكهف على التّراب حتى يبعثنا الله عزّ وجلّ منه، وحجبهم الله عزّ وجلّ حين خرجوا من عندهم بالرُّعْب، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم، وأمر المَلِك فجُعِل على باب الكهف مسجدٌ يصلَّى فيه، وجعل لهم عيداً عظيماً يؤتَى كلَّ سنة، وقيل: إِنه لما جاء يمليخا ومعه الناس، قال: دعوني أدخل على أصحابي فأبشِّرهم، فانهم إِن رأَوْكم معي أرعبتموهم، فدخل فبشّرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، فدخل الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئاً، غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آيةٌ بعثها الله لكم. قوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ قال الزجاج: المعنى: أنمناهم ومنعناهم السمع، لأن النائم إِذا سمع انتبه. وعَدَداً منصوب على ضربين: أحدهما: على المصدر، المعنى: تُعَدُّ عدداً. والثاني: أن يكون نعتاً للسنين، المعنى: سنين ذات عدد، والفائدة في ذِكْر العدد في الشيء المعدود، توكيد كثرة الشيء، لأنه إِذا قَلَّ فُهِم مقداره، وإِذا كَثُر احتيج إِلى أن يُعَدَّ العدد الكثير. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ من نومهم، يقال لكُلِّ مَنْ خرج من الموت إِلى الحياة، أو من النوم إِلى الانتباه: مبعوث، لأنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرِّف والانبعاث. وقيل: معنى سِنِينَ عَدَداً: أنه لم يكن فيها شهور ولا أيام، إِنما هي كاملة، ذكره الماوردي. قوله تعالى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ قال المفسرون: أي: لنرى. وقال بعضهم: المعنى: لتعلموا أنتم أيّ الحزبين. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والنخعي: «ليُعلَم» بضم الياء، على ما لم يُسمَّ فاعله ويعني بالحزبين: المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف. أَحْصى لِما لَبِثُوا أي: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أو هؤلاء، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر. قال قتادة: لم يكن للفريقين عِلم بلبثهم، لا لمؤمنيهم، ولا لكافريهم، قال مقاتل: لما بُعثوا زال الشك وعُرفت حقيقة اللبث. وقال القاضي أبو يعلى: معنى الكلام: بعثناهم ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم، لما في ذلك من العبرة. [سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 15] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ أي: خبر الفتية بِالْحَقِّ أي: بالصدق. قوله تعالى: وَزِدْناهُمْ هُدىً أي: ثبَّتناهم على الإِيمان، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي: ألهمناها الصبر إِذْ قامُوا بين يدي ملكهم دقيانوس فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وذلك أنه كان يدعو الناس إِلى عبادة الأصنام، فعصم الله هؤلاء حتى عصَواْ ملِكهم. وقال الحسن: قاموا في قومهم

[سورة الكهف (18) : الآيات 16 إلى 17]

فدعَوْهم إِلى التوحيد. وقيل: هذا قولهم بينهم لما اجتمعوا خارج المدينة على ما ذكرنا في أول القصة. فأما الشطط، فهو الجَوْر. قال الزّجّاج: يقال: شطّ الرجل، وأشطّ: إذ جار. ثم قال الفتية: هؤُلاءِ قَوْمُنَا يعنون الذين كانوا في زمن دقيانوس اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي: عبدوا الأصنام لَوْلا أي: هلاّ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي: على عبادة الأصنام بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أي: بِحُجَّةٍ وإِنما قال: عليهم والأصنام مؤنَّثة، لأن الكفار نحلوها العقل والتمييز، فجرت مجرى المذكَّرين من الناس. قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم أنّ له شريكا؟! [سورة الكهف (18) : الآيات 16 الى 17] وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ قال ابن عباس: هذا قول يمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم: وإِذ اعتزلتموهم، أي: فارقتموهم، يريد: عبدة الأصنام، وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فيه قولان: أحدهما: واعتزلتم ما يعبدون، إِلا الله، فإن القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة، فاعتزل الفتية عبادة الآلهة، ولم يعتزلوا عبادة الله، هذا قول عطاءٍ الخراساني، والفراء. والثاني: وما يعبدون غير الله قال قتادة: هي في مصحف، عبد الله: «وما يعبدون من دون الله» ، وهذا تفسيرها. قوله تعالى: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي: اجعلوه مأواكم، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي: يبسط عليكم من رزقه، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «مِرفَقا» بكسر الميم، وفتح الفاء، وقرأ نافع، وابن عامر: «مَرفِقا» بفتح الميم وكسر الفاء، قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: «مَرفِقاً» بفتح الميم وكسر الفاء في كل مرفق ارتفقت به، ويكسرون مِرفق الإِنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعاً. قال ابن الأنباري: معنى الآية: ويهيّئ لكم من أمركم الصَّعب مرفقاً، قال الشاعر: فليتَ لنا مِنْ ماءِ زَمْزَمَ شَربَةً ... مُبرّدةً باتت على طَهَيانِ «1» معناه: فلَيت لنا بدلاً من ماء زمزم. قال ابن عباس: «ويهيّئ لكم» : يسهِّلْ عليكم ما تخافون من الملِك وظلمه ويأتِكم باليُسر والرِّفق واللُّطف. قوله تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ المعنى: لو رأيتَها لرأيت ما وصفنا. تَتَزاوَرُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «تَزَّاوَرُ» بتشديد الزاي. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «تَزَاور» خفيفة. وقرأ ابن عامر: «تَزْوَرُّ» مثل: «تَحْمَرُّ» . وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو مجلز، وأبو رجاء، والجحدري: «تَزْوَارُّ» باسكان الزاي، وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة، مشددة الراء. وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل، وابن السميفع: «تَزْوَئِرُّ» بهمزة قبل الراء، مثل: «تَزْوَعِرُّ» . وقرأ أبو الجوزاء، وأبو السّمّال:

_ (1) البيت للأحول الكندي في «اللسان» - طها- و «البحر المحيط» 6/ 103.

[سورة الكهف (18) : آية 18]

«تَزَوَّرُ» بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة خفيفة الرّاء، مثل: «تكوّر» والمعنى: تميل أو تعدل. قال الزّجّاج: «تزاور» : تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي، و (تقرضهم) أي: تعدل عنهم وتتركهم، وقال ذو الرمة: إِلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أجْوَازَ مُشْرِفٍ ... شِمالاً وعَنْ أيْمانِهِنَّ الفَوَارِسُ «1» يقرضن: يتركن. وأصل القرض: القطع والتّفرقة بين الأشياء، ومنه: أقرِضني درهماً، أي: اقطع لي من مالك درهماً. قال المفسرون: كان كهفهم بازاء بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعةً وغاربةً لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرِّها وتغير ألوانهم. ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح، ونسيم الهواء، فقال: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ قال أبو عبيدة: أي: في مُتَّسَع، والجميع: فَجَوات، وفِجاء، بكسر الفاء. وقال الزجاج: إِنما صَرْفُ الشمس عنهم آيةٌ من الآيات، ولم يرض قول من قال: كان كهفهم بازاء بنات نعش. قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ يشير إِلى ما صنعه بهم من اللطف في هدايتهم، وصرف أذى الشمس عنهم، والرعب الذي ألقى عليهم حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على أذاهم. «من آيات الله» أي: من دلائله على قدرته ولطفه. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ هذا بيان أنه هو الذي تولَّى هداية القوم، ولولا ذلك لم يهتدوا. [سورة الكهف (18) : آية 18] وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) قوله تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً أي: لو رأيتَهم لحسِبتَهم أيقاظاً. قال الزجاج: الأيقاظ: المنتبهون، واحدهم: يقظ، ويقظان، والجميع: أيقاظ والرّقود: النّيام. وقال الفراء: واحد الأيقاظ: يَقُظ، ويَقِظ. قال ابن السائب: وإِنما يُحسَبون أيقاظاً، لأن أعينهم مفتَّحة وهم نيام. وقيل: لتقلُّبهم يميناً وشمالاً. وذكر بعض أهل العلم: أن وجه الحكمة في فتح أعينهم، أنه لو دام طَبْقها لذابت. قوله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ وقرأ الحسن وأبو رجاء: «وتَقْلِبُهم» بتاء مفتوحة، وسكون القاف، وتخفيف اللام المكسورة. وقرأ أبو الجوزاء، وعكرمة: «ونَقْلِبُهم» مثلها، إِلا أنه بالنون. ذاتَ الْيَمِينِ أي: على أيْمانهم وعلى شمائلهم. قال ابن عباس: كانوا يُقلَّبون في كل عام مرتين، ستة أشهر على هذا الجنب، وستة أشهر على هذا الجنب، لئلا تأكل الأرض لحومهم. وقال مجاهد: كانوا ثلاثمائة عام على شِقّ واحد، ثم قُلِّبوا تسع سنين. قوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ أخبر أن الكلب كان على مثل حالهم في النوم، وهو في رأي العين منتبه. وفي الوصيد أربعة أقوال «2» : أحدها: أنه الفِناء فِناء الكهف، رواه ابن أبي

_ (1) هو في «ديوانه» 403 و «مجاز القرآن» 1/ 396 ومشرف والفوارس: موضعان بنجد كما في «معجم من استعجم» . (2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 8/ 195: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الوصيد: الباب، أو فناء الباب حيث يغلق الباب، وذلك أن الباب يوصد وإيصاده: إطباقه وإغلاقه من قوله تعالى: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ الهمزة: 8.

[سورة الكهف (18) : الآيات 19 إلى 20]

طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والفراء. قال الفرّاء: يقال: الوصيد والأصيد لغتان، مثل الإكاف والوكاف. وأرَّخت الكتاب وورَّخت، ووكدت الأمر وأكَّدت وأهل الحجاز يقولون: الوَصيد، وأهل نجد يقولون: الأَصِيد، وهو: الحظيرة والفِناء. والثاني: أنه الباب، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السّديّ، قال ابن قتيبة: فيكون المعنى: وكلبهم باسط ذراعيه بالباب، قال الشاعر: بِأرْضِ فَضَاءٍ لا يُسَدُّ وَصِيدُها ... عليَّ ومَعْرُوفي بها غيرُ مُنْكَرِ «1» والثالث: أنه الصعيد، وهو التراب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد في رواية عنهما. والرابع: أنه عتبة الباب، قاله عطاء. قال ابن قتيبة: وهذا أعجب إليَّ، لأنهم يقولون: أَوصِد بابك، أي: أغلقه، ومنه قوله تعالى: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ «2» ، أي: مطبقة مغلقة، وأصله أن يلصق الباب بالعتبة، إِذا أغلقته، ومما يوضح هذا أنك إِذا جعلت الكلب بالفِناء، كان خارجاً من الكهف، وإِن جعلته بعتبة الباب، أمكن أن يكون داخل الكهف، والكهفُ وإِن لم يكن له باب وعتبة، فانما أراد أن الكلب بموضع العتبة من البيت، فاستُعير. قوله تعالى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ وقرأ الأعمش وأبو حصين: «لوُ اطّلعت» بضمّ الواو، أي لو أشرفت عليهم لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً رهبة لهم وَلَمُلِئْتَ قرأ عاصم وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي: «ولَمُلِئْتَ» خفيفة مهموزة. وقرأ ابن كثير ونافع: «ولَمُلِّئْتَ» مشددة مهموزة، رُعْباً أي فزعاً وخوفاً، وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يدخل إِليهم أحد. وقيل: إِنهم طالت شعورهم وأظفارهم جداً فلذلك كان الرائي لهم لو رآهم هرب مرعوبا، حكاه الزّجّاج. [سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 20] وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) قوله تعالى: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي: وكما فعلنا بهم ما ذكرنا، بعثناهم من تلك النومة لِيَتَسائَلُوا أي: ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم، فيفيد تساؤلهم اعتبار المعتبِرين بحالهم. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ أي: كم مَرَّ علينا منذ دخلنا هذا الكهف؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وذلك أنهم دخلوا غُدوةً، وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا: «يوماً» ، فلما رأوا الشمس قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ قال ابن عباس: القائل لهذا يمليخا رئيسهم، ردَّ عِلْم ذلك إِلى الله تعالى. وقال في رواية أخرى: إِنما قاله مكسلمينا، وهو أكبرهم. قال أبو سليمان:

_ (1) البيت لعبيد بن وهب العبسي، وهو في «غريب القرآن» 265 و «تفسير القرطبي» 10/ 324. (2) سورة الهمزة: 8.

[سورة الكهف (18) : آية 21]

وهذا يوجب أن تكون نفوسهم قد حدَّثتْهم أنهم قد لبثوا أكثر مما ذكروا. وقيل: إِنما قالوا ذلك، لأنهم رأوا أظفارهم وأشعارهم قد طالت جداً. قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ قال ابن الأنباري: إِنما قال: «أحدَكم» ، ولم يقل: واحدَكم، لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظَّم، فان العرب تقول: رأيت أحد القوم، ولا يقولون: رأيت واحد القوم، إِلا إِذا أرادوا المعظَّم، فأراد بأحدهم: بعضَهم، ولم يُرِد شريفهم. قوله تعالى: بِوَرِقِكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: «بِوَرِقِكُم» الراء مكسورة خفيفة. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم ساكنة الراء. وعن أبي عمرو: «بورقكم» مدغمة يُشِمُّها شيئاً من التثقيل قال الزجاج: تصير كافاً خالصة. قال الفراء: الوَرِق لغة أهل الحجاز، وتميم يقولون: الوَرْق، وبعض العرب يكسرون الواو، فيقولون: الوِرْق. قال ابن قتيبة. الوَرِق: الفضة، دراهم كانت أو غير دراهم، يدلك على ذلك حديث عَرْفَجَة أنه اتخذ أنفاً من وَرِق. قوله تعالى: إِلَى الْمَدِينَةِ يعنون التي خرجوا منها، واسمها دقسوس، ويقال: هي اليوم طرسوس. قوله تعالى: فَلْيَنْظُرْ أَيُّها قال الزجاج: المعنى: أيُّ أهلها أَزْكى طَعاماً، وللمفسرين في معناه ستة أقوال: أحدها: أَحَلُّ ذبيحة، قاله ابن عباس، وعطاء، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفاراً، فكانوا يذبحون للطواغيت، وكان فيهم قوم يُخفون إِيمانهم. والثاني: أَحَلُّ طعاماً، قاله سعيد بن جبير قال الضّحّاك: وكان أكثر أموالهم غصوباً. وقال مجاهد: قالوا لصاحبهم: لا تبتعْ طعاماً فيه ظلم ولا غصب. والثالث: أكثر، قاله عكرمة. والرابع: خير، أي: أجود، قاله قتادة. والخامس: أطيب، قاله ابن السائب، ومقاتل. والسادس: أرخص، قاله يمان بن رئاب. قال ابن قتيبة: وأصل الزكاء: النماء والزيادة. قوله تعالى: فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي: بما تأكلونه. وَلْيَتَلَطَّفْ أي: ليدقِّق النظر فيه، وليحتلْ لئلا يُطَّلَع عليه. وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أي: ولا يُخْبِرَنَّ أحداً بمكانكم. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا أي: يطَّلعوا ويُشرفوا عليكم، يَرْجُمُوكُمْ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: يقتلوكم، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: يقتلوكم بالرجم. والثاني: يرجموكم بأيديهم، استنكاراً لكم، قاله الحسن. والثالث: بألسنتهم شتماً لكم، قاله مجاهد، وابن جريج. قوله تعالى: أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي: يردُّوكم في دينهم، وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي: إِن رجعتم في دينهم، لم تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة. [سورة الكهف (18) : آية 21] وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي: وكما أنمناهم وبعثناهم، أطلعنا وأظهرنا عليهم. قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن من عَثَر بشيء وهو غافل، نظر إِليه حتى يعرفه، فاستعير العِثار مكان التبيين والظهور، ومنه قول الناس: ما عثرت على فلان بسوءٍ قط، أي: ما ظهرت على ذلك منه. قوله تعالى: لِيَعْلَمُوا في المشار إِليهم بهذا العلم قولان: أحدهما: أنهم أهل بلدهم حين اختصموا في البعث،

[سورة الكهف (18) : الآيات 22 إلى 24]

فبعث الله أهل الكهف ليعلموا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والجزاء حَقٌّ وأن القيامة لا شك فيها، هذا قول الأكثرين. والثاني: أنهم أهل الكهف، بعثناهم ليرَوْا بعد علمهم أن وعد الله حق، ذكره الماوردي. قوله تعالى: إِذْ يَتَنازَعُونَ يعني: أهل ذلك الزمان. قال ابن الأنباري: المعنى: إِذ كانوا يتنازعون، ويجوز أن يكون المعنى: إِذ تنازعوا. وفي ما تنازعوا فيه خمسة أقوال: أحدها: أنهم تنازعوا في البنيان، والمسجد. فقال المسلمون: نبني عليهم مسجداً، لأنهم على ديننا وقال المشركون: نبني عليهم بنياناً، لأنهم من أهل سُنَّتنا، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم تنازعوا في البعث، فقال المسلمون: تُبعث الأجساد والأرواح، وقال بعضهم: تُبعث الأرواح دون الأجساد، فأراهم الله تعالى بعث الأرواح والأجساد ببعثه أهل الكهف، قاله عكرمة. والثالث: أنهم تنازعوا ما يصنعون بالفتية، قاله مقاتل. والرابع: أنهم تنازعوا في قدْر مكثهم. والخامس: تنازعوا في عددهم، ذكرهما الثعلبي. قوله تعالى: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي: استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان. وفي القائلين لَهذا قولان: أحدهما: أنهم مشركو ذلك الزمان، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: أنهم الذين أسلموا حين رأوا أهل الكهف، قاله ابن السائب. قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ قال ابن قتيبة: يعني المُطاعين والرؤساء، قال المفسرون: وهم الملك وأصحابه المؤمنين اتخذوا عليهم مسجداً. قال سعيد بن جبير: بنى عليهم الملك بيعة. [سورة الكهف (18) : الآيات 22 الى 24] سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ قال الزجاج: ثَلاثَةٌ مرفوع بخبر الابتداء، المعنى: سيقول الذين يتنازعون في أمرهم هم ثلاثةٌ. وفي هؤلاء القائلين قولان: (929) أحدهما: أنهم نصارى نجران، ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عِدَّة أهل الكهف، فقالت الملكيَّة: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، فنزلت هذه الآية: رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنهم أهل مدينتهم قبل ظهورهم عليهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: رَجْماً بِالْغَيْبِ أي: ظنّاً غير يقين، قال زهير: ومَا الحَرْبُ إِلاَّ ما علمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَدِيثِ المُرَجَّمِ فأما دخول الواو في قوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم تدخل فيما قبل هذا، ففيه أربعة أقوال: أحدها: أن دخولها وخروجها واحد، قاله الزجاج. والثاني: أن ظهور الواو في الجملة الثامنة دلالة على

_ باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، ثم إن الراوي عن الضحاك على الدوام إنما هو جويبر ذاك المتروك.

أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين، فأعلم بذكرها ها هنا أنها مرادة فيما قبل، وإِنما حذفت تخفيفاً، ذكره أبو نصر في «شرح اللمع» . والثالث: أن دخولها يدل على انقطاع القصة، وأن الكلام قد تمَّ، ذكره الزجاج أيضاً، وهو مذهب مقاتل بن سليمان، وإن الواو تدل على تمام الكلام قبلها، واستئناف ما بعدها قال الثعلبي: فهذه واو الحكم والتحقيق، كأن الله تعالى حكى اختلافهم، فتم الكلام عند قوله: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ، ثم حكم أن ثامنهم كلبهم. وجاء في بعض التفسير أن المسلمين قالوا عند اختلاف النصارى: هم سبعة، فحقَّق الله قول المسلمين. والرابع: أن العرب تعطف بالواو على السبعة، فيقولون: ستة، سبعة، وثمانية، لأن العقد عندهم سبعة، كقوله: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ... إِلى أن قال في الصفة الثامنة: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ «1» ، وقوله في صفة الجنّة: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وفي صفة النّار: فُتِحَتْ أَبْوابُها «2» ، لأن أبواب النار سبعة، وأبواب الجنة ثمانية، ذكر هذا المعنى أبو إِسحاق الثعلبي. وقد اختلف العلماء في عددهم على قولين: أحدهما: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن عباس. والثاني: ثمانية، قاله ابن جريج، وابن إِسحاق. وقال ابن الأنباري: وقيل: معنى قوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ: صاحب كلبهم، كما يقال: السخاء حاتم، والشِّعر زهير، أي: السخاء سخاء حاتم، والشِّعر شِعر زهير. فأمّا أسماؤهم «3» ، فقال هُشَيْم: مكسلمينا، ويمليخا، وطَرينوس، وسَدينوس، وسَرينوس، ونَواسس، ويرانوس، وفي التفسير خلاف في أسمائهم فلم أُطل به. واختلفوا في كلبهم لمن كان على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان لراع مَرّوا به فتبعهم الراعي والكلب، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كان لهم يتصيدون عليه، قاله عبيد بن عمير. والثالث: أنهم مَرّوا بكلب فتبعهم، فطردوه، فعاد، ففعلوا ذلك به مراراً، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني؟! لا تخشوا جانبي أنا أُحِبُّ أحبّاء الله تعالى، فناموا حتى أحرسَكم. قاله كعب الأحبار. وفي اسم كلبهم أربعة أقوال: أحدها: قطمير، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: إن اسمه الرقيم، وقد ذكرناه عن سعيد بن جبير. والثالث: قطمور، قاله عبد الله بن كثير. والرابع: حُمران، قاله شعيب الجبائي «4» . وفي صفته ثلاثة أقوال: أحدها: أحمر، حكاه الثوري. والثاني: أصفر، حكاه ابن إِسحاق. والثالث: أحمر الرأس، أسود الظهر، أبيض البطن، أبلق الذنب، ذكره ابن السائب. قوله تعالى: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ حرك الياء ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأسكنها الباقون. قوله تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أي: ما يعلم عددهم إِلا قليل من الناس. قال عطاء يعني بالقليل: هم سبعة، إِن الله عدَّهم حتى انتهى إِلى السبعة. قوله تعالى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً قال ابن عباس، وقتادة: لا تُمارِ أحداً، حسبك ما قصصتُ عليكَ من أمرهم. وقال ابن زيد: لا تُمارِ في عِدَّتهم إِلا مراءً ظاهراً أن تقول لهم: ليس كما

_ (1) سورة التوبة: 112. (2) سورة الزمر: 71- 73. (3) الوقوف على أسمائهم، والكشف عن صفاتهم وأحوالهم زيادة على ما ذكر القرآن إنما هو مجرد تخمين وكهانة، وليس فيه كبير فائدة. (4) قال في «الميزان» 2/ 278: شعيب الجبائي، أخباري متروك، قاله الأزدي، وجبأ من أعمال الجند باليمن.

تقولون، ليس كما تعلمون. وقيل: «إِلا مراءً ظاهراً» بحجة واضحة، حكاه الماوردي. والمراء في اللغة: الجدال يقال: مارى يُماري مُماراة ومِراءً، أي: جادَل. قال ابن الأنباري: معنى الآية: لا تجادل إِلا جدال متيقِّنٍ عالِم بحقيقة الخبر، إذ الله تعالى ألقى إليك ما لا يشوبه باطل. وتفسير المراء في اللغة: استخراج غصب المجادل، من قولهم: مَرَيْتُ الشاة: إِذا استخرجت لبنها. قوله تعالى: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ أي: في أصحاب الكهف، (منهم) قال ابن عباس: يعني: من أهل الكتاب. قال الفراء: أتاه فريقان من النصارى، نسطوري، ويعقوبي، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلّم عن عددهم، فنُهي عن ذلك. قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ. (930) سبب نزولها أن قريشا سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلّم عن ذي القرنين، وعن الرُّوح، وعن أصحاب الكهف، فقال: غداً أخبركم بذلك، ولم يقل: إِن شاء الله، فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوماً لتركه الاستثناء، فشقَّ ذلك عليه، ثم نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الكلام: ولا تقولن لشيء إِني فاعل ذلك غداً، إِلا أن تقول: إِن شاء الله، فحذف القول. قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قال ابن الأنباري: معناه: واذكر ربَّكَ بعد تقضِّي النسيان، كما تقول: اذكر لعبد الله- إِذا صلّى- حاجتك، أي: بعد انقضاء الصلاة. وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أن المعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت،

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فالخبر من هذا الوجه ليس بشيء. وذكره الواحدي في «الوسيط» 3/ 143 نقلا عن المفسرين. وذكره ابن هشام في «السيرة» 1/ 235- 238- 244 عن ابن إسحاق مطوّلا، وهذا معضل، فهو ضعيف. وأخرجه الطبري 22861 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 269- 271 كلاهما عن ابن إسحاق حدثني رجل من أهل مكة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فذكره بنحو ما ذكره ابن هشام، وإسناده ضعيف لجهالة شيخ ابن إسحاق وليس فيه سبب نزول هذه الآية. ولبعضه شواهد، وبعضه الآخر غريب. وأما سؤال قريش النبيّ صلى الله عليه وسلّم فأخرجه الترمذي 3140 وأحمد 1/ 255 وابن حبان 99 والحاكم 2/ 531 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 269 وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب اه. عن عكرمة عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، قال: فسألوه عن الروح، فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالوا: أوتينا علما كثيرا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فأنزلت قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ إلى آخر الآية. لفظ الترمذي. وليس في الحديث سبب نزول هذه الآية. انظر «أحكام القرآن» 1460 و 1461 بتخريجنا.

فصل:

فقل: إِن شاء الله، ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة، قاله سعيد بن جبير، والجمهور. والثاني: أن معنى «إِذا نسيتَ» : إِذا غضبتَ، قاله عكرمة، قال ابن الأنباري: وليس ببعيد، لأن الغضب يُنتج النسيان. والثالث: إِذا نسيتَ الشيء فاذكر الله ليذكِّرك إِياه، حكاه الماوردي. فصل: وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إِذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله تعالى في قصة موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً «1» ، ولم يصبر، فسَلِم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه. ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وأنه إِذا قال: أنتِ طالق إِن شاء الله، وأنتَ حُرٌّ إِن شاء الله، أن ذلك يقع، وهو قول مالك وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقع شيء من ذلك. وأما اليمين بالله تعالى، فإن الاستثناء فيها يصح، بخلاف الطلاق، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفِّر، كالظهار، والنذر، لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إِيقاع، وإِذا علَّق به المشيئة، علمنا وجودها، لوجود لفظ الإِيقاع من جهته، بخلاف سائر الأيمان، لأنها ليست بموجبات للحكم، وإِنما تتعلق بأفعال مستقبلة. وقد اختُلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يصح الاستثناء إِلا موصولاً بالكلام، وقد روي عن أحمد نحو هذا، وبه قال أكثر الفقهاء. والثاني: أنه يصح ما دام في المجلس قاله الحسن وطاوس، وعن أحمد نحوه. والثالث: أنه لو استثنى بعد سنة، جاز، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، وقال ابن جرير الطبري: الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه، فيقول: إِن شاء الله، ليخرج بذلك مما ألزمه اللهُ في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفَّارة فلا تسقط عنه بحال، إِلا أن يكون الاستثناء موصولاً بيمينه، ومن قال: له ثُنْياه ولو بعد سنة، أراد سقوطَ الحرج الذي يلزمه بترك الاستثناء دون الكفَّارة. قوله تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي قرأ نافع، وأبو عمرو: «يهديَني ربِّي» بياء في الوصل دون الوقف. وقرأ ابن كثير بياء في الحالين. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في الحالين. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: عسى أن يعطيني ربِّي من الآيات والدلالات على النبوَّه ما يكون أقرب في الرّشد وأدلَّ من قصّة أصحاب الكهف، ففعل الله له ذلك، وآتاه من عِلْم غيوب المرسَلين ما هو أوضح في الحُجَّة وأقرب إِلى الرَّشد من خبر أصحاب الكهف هذا قول الزجاج. والثاني: أنّ قريشا لمّا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يخبرهم خبر أصحاب الكهف، قال: «غداً أُخبركم» «2» كما شرحنا في سبب نزول الآية، فقال الله تعالى له: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي أي: عسى أن يعرِّفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حدَّدتُه لكم، ويعجِّل لي من جهته الرشاد، هذا قول ابن الأنباري. [سورة الكهف (18) : الآيات 25 الى 26] وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر: «ثلاثمائةٍ سنين» منوَّناً وقرأ حمزة والكسائي: «ثلاثمائةِ سنين» مضافاً غير منوَّن. قال أبو

_ (1) سورة الكهف: 69. (2) انظر الحديث المتقدم 949.

[سورة الكهف (18) : الآيات 27 إلى 28]

علي: العدد المضاف إِلى الآحاد قد جاء مضافاً إِلى الجميع، قال الشاعر: ومَا زَوَّدُوني غير سحق عمامة ... وخمسمئ منها قَسِيٌّ وزائفُ «1» وفي هذا الكلام قولان «2» : أحدهما: أنه حكاية عما قال الناس في حقهم، وليس بمقدار لبثهم، قاله ابن عباس، واستدل عليه فقال: لو كانوا لبثوا ذلك لما قال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وكذلك قال قتادة، هذا قول أهل الكتاب. والثاني: أنه مقدار ما لبثوا، قاله عبيد بن عمير ومجاهد والضحاك وابن زيد والمعنى: لبثوا هذا القدر من يوم دخلوه إِلى أن بعثهم الله وأطلع الخلق عليهم. قوله تعالى: سِنِينَ قال الفراء وأبو عبيدة والكسائي والزجاج: التقدير: سنين ثلاثمائة. قال ابن قتيبة: المعنى: أنها لم تكن شهوراً ولا أيّاما، إنما كانت سنين. وقال أبو علي الفارسي: «سنين» بدل من قوله: «ثلاثمائة» . قال الضحاك: نزلت وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ فقالوا: أياماً أو شهوراً أو سنين؟ فنزلت: «سنين» فلذلك قال: «سنين» ، ولم يقل: سنة. قوله تعالى: وَازْدَادُوا تِسْعاً يعني: تسع سنين، فاستغنى عن ذِكْر السنين بما تقدَّم من ذِكْرها. ثم أعلمَ أنه أعلمُ بقدْر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فيها، فقال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا قال ابن السائب: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة، فقد عرفناها، وأما التسع، فلا عِلْم لنا بها «3» ، فنزل قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وقيل: إِن أهل الكتاب قالوا: إِن للفتية منذ دخلوا الكهف إِلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فردّ عليهم ذلك، وقال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا بعد أن قبض أرواحهم إِلى يومكم هذا، لا يعلم بذلك غيرُ الله. وقيل: إِنما زاد التسع، لأنه تفاوت ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية، حكاه الماوردي. قوله تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ فيه قولان: أحدهما: أنه على مذهب التعجب، فالمعنى: ما أسمع الله وأبصره، أي: هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم، هذا قول الزجاج، وذكر أنه إِجماع العلماء. والثاني: أنه في معنى الأمر، فالمعنى: أَبصِر بدين الله وأسمع، أي: أبصر بهدى الله واسمع، فترجع الهاء إِما على الهدى، وإِما على الله عزّ وجلّ، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ أي: ليس لأهل السموات والأرض من دون الله من ناصر، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ولا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم به، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه فيكون شريكاً لله عزّ وجلّ في حكمه. وقرأ ابن عامر: «ولا تُشرِكْ» جزماً بالتاء، والمعنى: لا تشرك أيها الإِنسان. [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 28] وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)

_ (1) البيت لمزرّد كما في «اللسان» مادة- مأي- سحق. والسّحق: الثوب الخلق البالي. ودرهم قسيّ: رديء. (2) قال الطبري رحمه الله 8/ 211: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عز ذكره: ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودا إلى أن بعثهم الله، ليتساءلوا بينهم وإلى أن أعثر عليهم من أعثر ثلاث مائة سنين وتسع سنين ثم قال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلّم: قل يا محمد: الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض الله أرواحهم، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلى يومهم هذا، لا يعلم بذلك غير الله، وغير من أعلمه الله ذلك. وهو اختيار ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 103. (3) عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وهو ساقط الرواية.

قوله تعالى: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ في هذه التلاوة قولان: أحدهما: أنها بمعنى القراءة. والثاني: بمعنى الاتِّباع. فيكون المعنى على الأول: اقرأ القرآن، وعلى الثاني: اتَّبِعْه واعمل به. وقد شرحنا في سورة الأنعام معنى لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ «1» . قوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً قال مجاهد، والفراء: مَلجَأً. وقال الزجاج: مَعْدِلاً عن أمره ونهيه. وقال غيرهم: موضعاً تميل إِليه في الالتجاء. قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ سبب نزولها: (931) أنّ المؤلّفة قلوبهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وذووهم، فقالوا: يا رسول الله: لو أنك جلست في صدر المجلس، ونحَّيت هؤلاء عنّا، - يعنون سليمان وأبا ذَرٍّ وفقراءَ المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف- جلسنا إِليك، وأخذنا عنك، فنزلت هذه الآية إِلى قوله: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلتمسهم، حتى إِذا أصابهم في مؤخَّر المسجد يذكرون الله، قال: «الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمَّتي، معكم المحيا ومعكم الممات» . هذا قول سلمان الفارسي. ومعنى قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي: احبسها معهم على أداء الصلوات بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ. وقد فسّرنا هذه الآية في سورة الأنعام «2» إِلى قوله تعالى: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي: لا تصرف بصرك إِلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف وكان عليه السلام حريصاً على إِيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم، ولم يكن مريداً لزينة الدنيا قطُّ، فأُمر أن يجعل إِقباله على فقراء المؤمنين. قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا سبب نزولها أن أُمية بن خلف الجمحي، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى طرد الفقراء عنه، وتقريبِ صناديد أهل مكة، فنزلت هذه الآية «3» ، رواه الضحاك عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه أنه قال: هو عيينة وأشباهه. ومعنى «أغفلنا قلبه» : جعلناه غافلا. وقرأ أبو مجلز: «ومن أغفلَنا» بفتح اللام، ورفع باء القلب. «عن ذكرنا» : أي عن التّوحيد والقرآن والإسلام، وَاتَّبَعَ هَواهُ

_ باطل. أخرجه الطبري 23022 وأبو نعيم 1/ 345 والواحدي وفي «أسباب النزول» 600 والبيهقي في «الشعب» 10494 من حديث سلمان الفارسي وإسناده ضعيف جدا، فيه سليمان بن عطاء، قال البخاري: منكر الحديث. والمتن باطل، فإن السورة مكية، وإسلام سلمان مدني، وكذا عيينة بن حصن وفد في المدينة. والمرفوع منه لا بأس به. أخرجه الطبري 23020 عن قتادة مرسلا فهو ضعيف وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 1/ 351- 352 من حديث أبي سعيد الخدري وإسناده ضعيف، فيه العلاء بن بشير، وهو مجهول، ومع ذلك ليس فيه ذكر سلمان وعيينة ولا نزول الآية. عن أبي سعيد الخدري، قال: كنت في عصابة من المهاجرين جالسا معهم، وإن بعضهم يستتر ببعض من العري، وقارئ لنا يقرأ علينا، فكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم نفسي» كما في «الدلائل» .

[سورة الكهف (18) : آية 29]

في الشّرك. وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها أفرط في قوله، لأنه قال: إِنّا رؤوس مضر، وإِن نُسلِم يُسلم الناس بعدنا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: ضيَاعاً، قاله مجاهد. وقال أبو عبيدة: سَرَفاً وتضييعاً. والثالث: نَدَماً، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة. والرابع: كان أمره التفريط، والتفريط: تقديم العجز، قاله الزّجّاج. [سورة الكهف (18) : آية 29] وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ قال الزجاج: المعنى: وقل الذي أتيتكم به، الحقُّ من ربِّكم. قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ فيه ثلاثة أقوال» : أحدها: فمن شاء الله فليؤمن، روي عن ابن عباس. والثاني: أنه وعيد وإِنذار، وليس بأمر، قاله الزجاج. والثالث: أن معناه: لا تنفعون الله بإيمانكم، ولا تضرُونه بكفركم، قاله الماوردي. وقال بعضهم: هذا إِظهار للغنى، لا إِطلاق في الكفر. قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا أي: هيَّأنا وأعددنا، وقد شرحناه في قوله: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «3» فأمّا الظالمون، فقال المفسّرون: هم الكافرون. فأمّا السُّرادِق، فقال الزجاج: السُّرادِق: كلُّ ما أحاط بشيء، نحو الشُّقَّة في المِضْرَب، أو الحائط المشتمل على الشيء. وقال ابن قتيبة: السُّرادِق: الحُجرة التي تكون حول الفسطاط. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السُّرادق فارسي معرَّب، وأصله بالفارسية سَرَادَارْ، وهو الدِّهليز، قال الفرزدق: تَمَنَّيْتَهُمْ حتى إِذا ما لَقِيتَهم ... تَركتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرَادِقا «4» وفي المراد بهذا السُّرادق قولان: أحدهما: أنه سُرادق من نار، قاله ابن عباس. (932) روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لِسُرادِق النار أربعةُ جُدُرٍ كُثُفٌ، كلُّ جدار منها مسيرة أربعين سنة» . وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس، قال: السرادق: لسان من النار، يخرج من النار فيحيط بهم حتى يفرغ من حسابهم.

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 2584 والطبري 23037 من طريق ابن المبارك به. وأخرجه الحاكم 4/ 600 و 601 والطبري 23038 من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث به، وصححه! وسكت عنه الذهبي! مع أنه من رواية دراج عن أبي الهيثم، لكن قال الذهبي في مواضع كثيرة: دراج ذو مناكير. وأخرجه أحمد 3/ 29 وأبو يعلى 1389 والواحدي في «الوسيط» 3/ 146 من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن درّاج به. فالإسناد ضعيف.

[سورة الكهف (18) : الآيات 30 إلى 31]

والثاني: أنه دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الظِّل ذو ثلاث شعب الذي ذكره الله تعالى في المرسلات «1» ، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا أي: مما هم فيه من العذاب وشدة العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وفيه سبعة أقوال: أحدها: أنه ماءٌ غليظٌ كدُرْدِيِّ الزيت، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه كل شيء أذيب حتى انماع، قاله ابن مسعود، وقال أبو عبيدة، والزجّاج: كل شيء أذبته من نحاس أو رصاص أو نحو ذلك، فهو مُهل. والثالث: قيح ودم أسود كعكر الزيت، قاله مجاهد. والرابع: أنه الفضة والرصاص يذابان، روي عن مجاهد أيضاً. والخامس: أنه الذي قد انتهى حَرُّه، قاله سعيد بن جبير. والسادس: أنه الصَّديد، ذكره ابن الأنباري. قال مُغيث بن سُمي: هذا الماء هو ما يسيل من عَرَق أهل الموقف في الآخرة وبكائهم، وما يجري منهم من دم وقيح، يسيل ذلك إِلى وادٍ في جهنم، فتطبخه جهنم، فيكون أول ما يُغاث به أهل النار. والسابع: أنّه الرّماد الذي ينفذ عن الخُبزة إِذا خرجت من التَّنُّور، حكاه ابن الأنباري. قوله تعالى: يَشْوِي الْوُجُوهَ قال المفسرون: إِذا قرَّبه إِليه سقطت فروة وجهه فيه «2» . ثم ذمَّه، فقال بئس الشراب وساءت النار مُرْتَفَقاً وفيه خمسة أقوال: أحدها: منزلاً، قاله ابن عباس. والثاني: مجتمعاً، قاله مجاهد. والثالث: متَّكأً، قاله أبو عبيدة، وأنشد لأبي ذؤيب: إِني أرِقْت فبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقاً ... كأنَّ عَيْنِيَ فِيها الصَّابُ مَذْبُوحُ «3» وذبحه: انفجاره قال الزّجّاج: «مرتفقا» منصوب على التّمييز. أي متَّكأً على المِرفق. والرابع: ساءت مجلساً قاله ابن قتيبة. والخامس: ساءت مطلباً للرفق، لأن من طلب رِفقاً من جهتها، عَدِمه، ذكره ابن الأنباري. ومعاني هذه الأقوال تتقارب. وأصل المرفق في اللغة: ما يرتفق به. [سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «4» قال الزّجّاج: خبر «إن» ها هنا على ثلاثة

_ (1) سورة المرسلات: 30. (2) حديث ضعيف، وورد مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: بِماءٍ كَالْمُهْلِ قال: «كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه» . أخرجه الترمذي 2581 و 3322 والطبري 23039 والحاكم 2/ 501 وابن حبان 7473 والبيهقي في «البعث» 550 من طرق عن أبي سعيد الخدري. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي! مع أن مداره على دراج، وهو ضعيف الحديث، وأخرجه أحمد 3/ 70- 71 وأبو يعلى 375 والواحدي 3/ 146 من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج به. [.....] (3) البيت في ديوان «الهذليين» 1/ 104 و «اللسان» - صوب-. والصّاب: عصارة شجر مرّ، إذا وقعت قطرة في العين كأنها شهاب نار، وربما أضعف البصر. (4) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 106: لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء ثنّى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين فيما جاءوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة فلهم جَنَّاتُ عَدْنٍ، والعدن: الإقامة. ونعمت الجنّة ثوابا على أعمالهم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 32 إلى 36]

أوجه: أحدها: أن يكون على إِضمار: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا منهم، ولم يحتج إِلى ذكر «منهم» لأن الله تعالى قد أعلَمنا أنه محبطٌ عملَ غير المؤمنين. والثاني: أن يكون خبر «إِن» : أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، ويكون قوله: إِنَّا لا نُضِيعُ قد فصل به بين الاسم وخبره، لأنه يحتوي على معنى الكلام الأول، لأن من أحسن عملاً بمنزلة الذين آمنوا. والثالث: أن يكون الخبر: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، بمعنى: إِنّا لا نُضيع أجرهم. قال المفسرون: ومعنى لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي: لا نترك أعماله تذهب ضَياعاً، بل نُجازيه عليها بالثواب. فأما الأَساور، فقال الفراء: في الواحد منها ثلاث لغات: إِسوار، وسِوار، وسُوار فمن قال: إِسوار، جمعَه أساور، ومن قال: سِوار أو سُوار، جمعَه أسْوِرة، وقد يجوز أن يكون واحد أَساورة وأَساور: سِوار وقال الزجاج: الأَساور جمع أَسْوِرَة، وأَسْوِرَة جمع سِوَار، يقال: سوار اليد، بالكسرة، وقد حكي: سُوار. قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبَس في الدنيا الأساور في اليد والتّيجان على الرّؤوس، جعل الله تعالى ذلك لأهل الجنة. قال سعيد بن جبير: يُحلَّى كلُّ واحد منهم بثلاثة من الأساور، واحدٍ من فضة، وواحدٍ من ذهب، وواحدٍ من لؤلؤ ويواقيت. فأما «السُّنْدُسُ» و «الإِستبرق» ، فقال ابن قتيبة: السُّندس: رقيق الديباج، والإِستبرق ثخينه. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السندس: رقيق الديباج، لم يختلف أهل اللغة في أنه معرَّب، قال الراجز: وليلة من الليالي جندس ... لون حواشيها كلون السندس والاستبرق: غليظ الديباج، فارسي معرَّب، وأصله إِسْتفْرَهْ. وقال ابن دريد: استروه، ونقل من العجميّة إلى العربية، فلو حُقِّر «إِستبرق» ، أو كُسِّر، لكان في التحقير «أُبَيْرِق» ، وفي التكسير «أبارق» بحذف السين، والتاء جميعاً. قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيها الاتّكاء: التحامل على الشيء. قال أبو عبيدة: والأرائك: الفُرُش في الحِجَال، ولا تكون الأريكة إِلا بحَجَلة وسرير. وقال ابن قتيبة: الأرائك: السُّرُر في الحِجال، واحدها: أريكة. وقال ثعلب: لا تكون الأريكة إِلا سريراً في قُبَّة عليه شَواره ومتاعه قال ابن قتيبة: الشَّوار، مفتوح الشين، وهو متاع البيت. وقال الزجاج: الأرائك: الفُرُش في الحِجال. قال: وقيل: إِنها الفُرُش، وقيل إنها الأسِرَّة، وهي على الحقيقة: الفُرُش كانت في حجال لهم. [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 36] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ روى عطاء عن ابن عباس، قال: هما ابنا ملك كان في بني إِسرائيل توفِّي وتركهما، فاتخذ أحدهما الجِنان والقصور، وكان الآخر زاهداً في الدنيا، فكان إِذا عمل أخوه شيئاً من زينة الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدَّمه لآخرته، حتى نفد ماله، فضربهما الله عزّ وجلّ مثلا

للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن المسلم لما احتاج، تعرَّض لأخيه الكافر، فقال الكافر: أين ما ورثتَ عن أبيك؟ فقال: أنفقتُه في سبيل الله، فقال الكافر: لكنّي ابتعت منه جِناناً وغنماً، وبقراً، والله لا أعطيتك شيئاً أبداً حتى تتبع ديني، ثم أخذ بيد المسلِم فأدخله جِنانه يطوف به فيها، ويرغِّبه في دينه. وقال مقاتل: اسم المؤمن يمليخا، واسم الكافر فرطس، وقيل: فطرس، وقيل: هذا المَثَل ضُرِبَ لعيينة بن حصن وأصحابه، ولسلمان وأصحابه «1» . قوله تعالى: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ الحفّ: الإحاطة بالشيء، ومنه قوله تعالى: حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «2» والمعنى: جعلنا النّخل مطيفا. وقوله تعالى: وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً إِعلام أن عمارتهما كاملة. قوله تعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها قال الفرّاء: لم يقل تعالى: آتتا، لأن «كلتا» ثنتان لا تُفرد واحدتُهما، وأصله: «كُلٌّ» ، كما تقول للثلاثة: «كُلٌّ» ، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب «كُلّ» ، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في «كلتا» ، وكذلك فافعل ب «كلا» و «كلتا» و «كُلّ» ، إِذا أضفتَهُنَّ إِلى مَعْرِفة وجاء الفعل بعدهن فوحِّد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «3» ، ومن الجمع: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «4» ، والعرب قد تفعل ذلك أيضاً في «أي» فيؤنّثون ويذكِّرون، قال الله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ «5» ، ويجوز في الكلام «بأية أرض» ، وكذلك فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ «6» ، ويجوز في الكلام «في أيّة» ، قال الشاعر: بأي بلاءٍ أم بأيَّة نعمةٍ ... تقدَّم قبلي مسلمٌ والمهلَّب قال ابن الأنباري: «كلتا» وإِن كان واقعاً في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقةً بمعرفة المخاطَب به ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ، فيقول: «كلتا الجنتين آتتا أُكُلَها» ، ويقول آخرون: «كلتا الجنتين آتى أُكُلَه» ، لأن «كلتا» تفيد معنى «كُلّ» ، قال الشاعر: وكلتاهما قد خطَّ لي في صَحيفتي ... فلا الموت أهواه ولا العيش أروح يعني: وكلُّهما قد خط لي، وقد قالت العرب: كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون. فوحَّدوا لِلَفظ «كُلّ» وجمعوا لتأويلها. وقال الزّجّاج: إنّما لم يقل: «آتتا» ، لأن لفظ «كلتا» لفظ واحدة، والمعنى: كل واحدة منهما آتت أكلها وَلَمْ تَظْلِمْ أي: لم تنقص مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً فأعلمَنَا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب. وقال الفراء: إِنما قال: «فجَّرنا» بالتشديد، وهو نَهَر واحد، لأن النهر يمتد، فكان التفجُّر فيه كلِّه. قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: «وفَجَرْنا» بالتخفيف. وقرأ أبو مجلز، وأبو المتوكل: «خلِلهما» . وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: «نهْراً» بسكون الهاء. قوله تعالى: وَكانَ لَهُ يعني: للأخ الكافر (ثَمَر) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «وكان له ثُمُر» ، «وأُحيط بثُمُره» بضمتين. وقرأ عاصم: «وكان له ثمر» ، «وأحيط بثمره»

_ (1) تقدّم أنه لا يصح في عيينة ولا سلمان، فإن السورة مكية. (2) سورة الزمر: 75. (3) سورة مريم: 95. (4) سورة النمل: 87. (5) سورة لقمان: 34. (6) سورة الانفطار: 8.

[سورة الكهف (18) : الآيات 37 إلى 41]

بفتح التاء والميم فيهما. وقرأ أبو عمرو: «ثُمْر» و «بثُمْره» بضمة واحدة وسكون الميم. قال الفراء: الثَّمَر، بفتح الثاء والميم: المأكول، وبضمها: المال وقال ابن الأنباري: الثَّمر، بالفتح: الجمع الأول، والثُّمُر، بالضم: جمع الثَّمَر، يقال: ثَمَر، وثُمُر، كما يقال: أسَد، وأُسُد، ويصلح أن يكون الثُّمُر جمع الثِّمار، كما يقال: حِمار وحُمُر، وكِتاب وكُتُب، فمن ضَمَّ، قال: الثُّمُر أعم، لأنها تحتمل الثمار المأكولة، والأموال المجموعة. قال أبو علي الفارسي: وقراءة أبي عمرو: «ثُمُر» يجوز أن تكون جمع ثمار، ككتاب، وكُتُب، فتخفف، فيقال: كُتْب، ويجوز أن يكون «ثُمْر» جمع ثَمَرة، كبَدَنة وبُدْن، وخَشَبة، وخُشْب. ويجوز أن يكون (ثُمُر) واحداً، كعُنُق، وطُنُب. وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الذهب، والفضة، قاله مجاهد. والثالث: أنه جمع ثمرة، قال الزجاج: يقال: ثَمَرة، وثِمار، وثمر. فإن قيل: ما الفائدة في ذِكْر الثّمر بعد ذِكْر الجنَّتين، وقد عُلم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه لم يكن أصل الأرض ملكاً له، وإِنما كانت له الثمار، قاله ابن عباس. والثاني: أن ذِكْر الثّمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنّتين وغيرهما، ذكره ابن الأنباري. والثالث: قد ذكرنا أن المراد بالثمر الأموال من الأنواع وذكرنا أنها الذهب، والفضّة، وذلك يخالف الثمر المأكول قال أبو علي الفارسي: من قال: هو الذهب، والوَرِق، فإنما قيل لذلك: ثُمُر على التفاؤل، لأن الثمر نماء في ذي الثّمر، وكونه ها هنا بالجنى أشبه بالذّهب والفضة. ويقوي ذلك: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها والإِنفاق من الوَرِق، لا من الشجر. قوله تعالى: فَقالَ يعني الكافر لِصاحِبِهِ المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي: يراجعه الكلام ويجاوبه. وفيما تحاورا فيه قولان: أحدهما: أنه الإِيمان والكفر. والثاني: طلب الدنيا، وطلب الآخرة. فأما «النفر» فهم الجماعة، ومثلهم: القوم والرهط ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها. وقال ابن فارس اللغوي: النفر: عدة رجال من ثلاثة إِلى العشرة. وفيمن أراد بنَفَره ثلاثة أقوال: أحدها: عبيده، قاله ابن عباس. والثاني: ولده، قاله مقاتل. والثالث: عشيرته ورهطه، قاله أبو سليمان. قوله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ يعني: الكافر وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه: قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً أنكر فتاء الدنيا، وفَناء جنته، وأنكر البعث والجزاء بقوله تعالى: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وهذا شك منه في البعث، ثم قال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي أي: كما تزعُم أنت. قال ابن عباس: يقول إِن كان البعث حقاً لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «خيراً منها» ، وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «خيراً منهما» بزيادة ميم على التّثنية، وكذلك هي في مصاحب أهل مكة والمدينة والشام. قال أبو علي: الإِفراد أولى، لأنه أقرب إِلى الجَنَّة المفردة في قوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ، والتثنية لا تمتنع، لتقدم ذِكْر الجَنَّتين. قوله تعالى: مُنْقَلَباً أي: كما أعطاني هذا في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه. [سورة الكهف (18) : الآيات 37 الى 41] قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)

قوله تعالى: قالَ لَهُ صاحِبُهُ يعني: المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ يعني: خلق أباك آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني: ما أنشئ هو منه، فلما شَكَّ في البعث كان كافراً. قوله تعالى: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، وقالون عن نافع: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، باسقاط الألف في الوصل، وإِثباتها في الوقف. وقرأ نافع في رواية المُسَيّبي بإثبات الألف وصلاً ووقفاً. وأثبت الألف ابن عامر في الحالين. وقرأ أبو رجاء: «لكنْ» بإسكان النون خفيفة من غير ألف في الحالين. وقرأ ابن يعمر «لكنَّ» بتشديد النون من غير ألف في الحالين. وقرأ الحسن: «لكنْ أنا هو اللهُ ربِّي» باسكان نون «لكنْ» وإِثبات «أنا» . قال الفراء: فيها ثلاث لغات: لكنّا، ولكنّ، ولكنَّه بالهاء، أنشدني أبو ثروان: وترْمينني بالطَّرْف أي أنت مذنب ... وتَقْلِيَننِي لكنّ إِيّاكِ لاَ أَقْلِي وقال أبو عبيدة: مجازه: لكن أنا هو الله ربي، ثم حُذفت الألف الأولى، وأُدغمت إِحدى النونين في الأخرى فشدِّدت. قال الزجاج: وهذه الألفُ تُحذف في الوصل، وتُثبت في الوقف، فأما من أثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف، فهو على لغة من يقول: أنا قمتُ، فأثبت الألف، قال الشاعر: أنا سَيْفُ العشيرة فاعرفوني «1» وهذه القراءة جيدة، لأن الهمزة قد حذفت من «أنا» ، فصار إِثبات الألف عوضاً من الهمزة. قوله تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ أي: وهلاّ ومعنى الكلام التوبيخ. قال الفراء: ما شاءَ اللَّهُ في موضع رفع، إِن شئت رفعته بإضمار هو، يريد: هو ما شاء الله وإن شئتَ أضمرتَ فيه: ما شاء الله كان وجاز طرح جواب الجزاء، كما جاز في قوله: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ «2» ليس له جواب، لأنه معروف، قال الزجاج: وقوله: لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الاختيار النصب بغير تنوين على النفي، كقوله: لا رَيْبَ فِيها «3» ويجوز: «لا قوة إِلا بالله» على الرفع بالابتداء، والخبر «بالله» المعنى: لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إِلا الله تعالى، ولا يكون له إِلا ما شاء الله. قوله تعالى: إِنْ تَرَنِ قرأ ابن كثير: «إِن ترني أنا» و «يؤتيني خيراً» بياء في الوصل والوقف. وقرأ نافع، وأبو عمرو بياء في الوصل. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بحذف الياء فيهما وصلاً ووقفاً. أَنَا أَقَلَّ وقرأ ابن أبي عبلة: «أنا أقلّ» برفع اللام. قال الفرّاء: «أنا» ها هنا عماد إِن نصبتَ «أقلَّ» ، واسم إِذا رفعت «أقلُّ» ، والقراءة بهما جائز. قوله تعالى: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ أي: في الآخرة، وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً وفيه

_ (1) هو صدر بيت وعجزه: «حميدا قد تذرّيت السّناما» . كما في القرطبي 10/ 351 والطبري 8/ 225. (2) سورة الأنعام: 135. (3) سورة الكهف: 21.

[سورة الكهف (18) : الآيات 42 إلى 44]

أربعة أقوال: أحدها: أنه العذاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، وقال أبو صالح عن ابن عباس: ناراً من السماء. والثاني: قضاءً من الله يقضيه، قاله ابن زيد. والثالث: مراميَ من السماء، واحدها: حسبانة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. قال النّضر بن شُمَيل: الحُسبان: سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تُنزع في القوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة، فعلى هذا القول يكون المعنى: ويرسل عليها مراميَ من عذابه، إِما حجارة أو بَرَداً أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب. والرابع: أن الحسبان: الحساب، كقوله: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ «1» أي: بحساب، فيكون المعنى: ويرسل عليها عذابَ حسابِ ما كسبت يداه، هذا قول الزجاج. قوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً قال ابن قتيبة: الصعيد: الأملس المستوي، والزَّلَق: الذي تَزِلُّ عنه الأقدام، والغَور: الغائر، فجعل المصدر صفة، يقال: ماءٌ غَوْر، ومياه غَوْرٌ، ولا يثنَّى، ولا يجمع، ولا يؤنَّث، كما يقال: رجلٌ نَوْمٌ، ورجلٌ صَوْمٌ، ورجلٌ فِطْر، ورجالٌ نَوْمُ، ونساءٌ نَوْمٌ، ونساءٌ صَوْمٌ. ويقال للنساء إِذا نُحْنَ: نَوْح، والمعنى: يذهب ماؤها غائراً في الأرض، أي: ذاهبا فيها. فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً فلا يبقى له أثر تطلبه به، ولا تناله الأيدي ولا الأَرْشية. وقال ابن الأنباري: «غَوْراً» إِذا غوَّر، فسقط المضاف، وخلفه المضاف إليه، والمراد بالطّلب ها هنا: الوصول، فقام الطلب مقامه لأنه سببه. وقرأ أبو المتوكّل وأبو الجوزاء: «غُؤُورَاً» برفع الغين والواو الأولى جميعاً وواو بعدها. [سورة الكهف (18) : الآيات 42 الى 44] وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي: أحاط اللهُ العذابَ بثمره، وقد سبق معنى الثمر. فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أي: يضرب بيد على يد، وهذا فعل النادم، عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي: في جنّته، و «في» ها هنا بمعنى «على» . وَهِيَ خاوِيَةٌ أي: خالية ساقطة عَلى عُرُوشِها والعُروش: السقوف والمعنى: أن حيطانها قائمة والسقوف قد تهدَّمت فصارت في قرارها، فصارت الحيطان كأنها على السقوف. وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً فأخبر الله تعالى أنه لما سلبه ما أنعم به عليه، وحقق ما أنذره به أخوه في الدنيا، ندم على شِركه حين لا تنفعة الندامة. وقيل: إِنما يقول هذا في القيامة. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: «ولم تكن» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ولم يكن» بالياء. والفئة: الجماعة يَنْصُرُونَهُ أي: يمنعونه من عذاب الله. قوله تعالى: هُنالِكَ الْوَلايَةُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم: «الوَلاية» بفتح الواو، و «لله الحقِّ» بكسر القاف أيضاً. وقرأ حمزة «الولاية» بكسر الواو، و «الحقِّ» بكسر القاف أيضاً. وقرأ أبو عمرو بفتح واو الولاية، ورفع «الحقُّ» ، ووافقه الكسائيُّ في رفع القاف، لكنه كسر «الوِلاية» ، قال الزجاج: معنى الولاية في مثل تلك الحال: تبيين نصرة وليِّ الله. وقال غيره: هذا الكلام عائد إِلى ما

_ (1) سورة الرحمن: 5.

[سورة الكهف (18) : آية 45]

قبل قصة الرجلين. فأما من فتح واو «الوَلاية» فإنه أراد الموالاة والنصرة، ومن كسر، أراد السلطان والملك على ما شرحنا في آخر الأنفال «1» . فعلى قراءة الفتح، في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنهم يتوَلَّون الله تعالى في القيامة، ويؤمنون به، ويتبرَّؤون مما كانوا يعبدون، قاله ابن قتيبة. والثاني: هنالك يتولَّى اللهُ أمرَ الخلائق، فينصر المؤمنين ويخذل الكافرين. وعلى قراءة الكسر، يكون المعنى: هنالك السُّلطان لله. قال أبو علي: من كسر قاف «الحقِّ» ، جعله من وصف الله عزَّ وجلَّ، ومن رفعه جعله صفة للولاية. فإن قيل: لم نُعتت الولاية وهي مؤنثة بالحقِّ وهو مصدر؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أن تأنيثها ليس حقيقياً، فحُملت على معنى النصر والتقدير: هنالك النصر لله الحقُّ، كما حُملت الصيحة على معنى الصياح في قوله: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «2» . والثاني: أن الحقَّ مصدر يستوي في لفظه المذكَّر والمؤنث والاثنان والجمع، فيقال: قولك حق، وكلمتك حق، وأقوالكم حق. ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية، وعلى المدح لله تعالى بإضمار «هو» . قوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً أي: هو أفضل ثواباً ممن يُرجى ثوابه، وهذا على تقدير أنه لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل. قوله تعالى: وَخَيْرٌ عُقْباً قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «عُقُباً» مضمومة القاف. وقرأ عاصم وحمزة: «عُقْباً» ساكنة القاف. قال أبو علي: ما كان على «فُعُل» جاز تخفيفه، كالعُنُق والطُّنُب. قال أبو عبيدة: العُقُب والعُقْب والعُقْبى والعاقبة، بمعنى: وهي الآخرة، والمعنى عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره. [سورة الكهف (18) : آية 45] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: في سرعة نفادها وذهابها، وقيل: في تصرُّف أحوالها، إِذ مع كلِّ فرحة تَرْحة، وهذا مفسر في سورة يونس «3» إِلى قوله: فَأَصْبَحَ هَشِيماً. قال الفراء: الهشيم: كل شيء كان رطباً فيبس. وقال الزجاج: الهشيم: النبات الجافّ. وقال ابن قتيبة: الهشيم من النبت: المتفتِّت، وأصله من هشمتُ الشيء: إِذا كسرتَه، ومنه سمّي الرجل هاشما. وتَذْرُوهُ الرِّياحُ تنسفه. وقرأ أُبيّ وابن عباس وابن أبي عبلة: «تُذْرِيْهِ» برفع التاء وكسر الراء بعدها ياء ساكنة وهاء مكسورة. وقرأ ابن مسعود كذلك، إِلا أنه فتح التاء. والمقْتَدِر: مُفْتَعِل، من قَدَرْتُ. قال المفسرون: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإِنشاء والإِفناء مُقْتَدِراً. [سورة الكهف (18) : آية 46] الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) قوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا هذا ردٌّ على المشركين الذين كانوا يفتخرون بالأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يُتزيَّن به في الدنيا، لا مما ينفع في الآخرة. قوله تعالى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ فيها خمسة أقوال «4» : أحدها: أنها «سبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إِلا

_ (1) سورة الأنفال: 72. (2) سورة هود: 67. [.....] (3) سورة يونس: 24. (4) قال الطبري رحمه الله 8/ 232: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب كالذي روي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هن جميع أعمال الخير.

[سورة الكهف (18) : الآيات 47 إلى 51]

الله، والله أكبر» . (933) روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِن عجزتم عن الليل، أن تكابدوه، وعن العدوِّ أن تجاهدوه، فلا تعجِزوا عن قول: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إِلا الله، والله أكبر، فقولوها، فإنَّهن الباقيات الصالحات» ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضّحّاك. وسئل عثمان بن عفّان عن الباقيات الصالحات، فقال هذه الكلمات، وزاد فيها: «ولا حول ولا قوَّة إِلا بالله» . وقال سعيد بن المسيب، ومحمد بن كعب القرظي مثله سواء. (934) والثاني: أنها «لا إِله إِلا الله، والله أكبر، والحمد لله ولا قوة إِلا بالله» رواه علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والثالث: الصلوات الخمس، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم. والرابع: الكلام الطيِّب، رواه العوفي عن ابن عباس. والخامس: هي جميع أعمال الحسنات، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن زيد. قوله تعالى: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي: أفضل جزاءً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي: خير مما تؤمِّلون، لأن آمالكم كواذب، وهذا أمل لا يكذب. [سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 51] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) قوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «ويوم تُسَيَّر» بالتاء «الجبالُ» رفعاً. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «نُسَيِّرُ» بالنون «الجبالَ» نصباً. وقرأ ابن محيصن: «ويوم تَسِيْرُ» بفتح التاء وكسر السين وتسكين الياء «الجبالُ» بالرفع. قال الزجاج: «ويوم» منصوب على معنى اذكر، ويجوز أن يكون منصوباً على: والباقيات الصالحات خير يومَ تَسِيرُ الجبال. قال ابن عباس: تُسيَّر الجبال عن وجه الأرض، كما يُسيَّر السحاب في الدنيا، ثم تكسّر فتكون في

_ حسن. أخرجه النسائي في «اليوم والليلة» 854 والطبري 3100 والحاكم 1/ 541 والطبراني في «الصغير» 1/ 145 وفيه محمد بن عجلان، وهو وإن روى له مسلم، فقد اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة. وحسّنه الشيخ شعيب في «الإحسان» 840 وذكره الألباني في «صحيح الجامع» 3214 وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسبه أن يكون حسنا. وانظر «تفسير الشوكاني» 1506 و «أحكام القرآن» 1469 بتخريجنا. أخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 4/ 409 من حديث علي، ولم أقف على إسناده، لكن للحديث شواهد كثيرة، وهي وإن كانت ضعيفة لكن تتأيد بمجموعها، انظر المصادر المتقدمة.

الأرض كما خرجت منها. قوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وقرأ عمرو بن العاص، وابن السّميفع، وأبو العالية: «وترى الأرض» برفع التاء والضاد. وقرأ أبو رجاء العطاردي كذلك، إِلا أنه فتح ضاد «الأرضَ» . وفي معنى «بارزة» قولان: أحدهما: ظاهرة فليس عليها شيء من جبل أو شجر أو بناءٍ، قاله الأكثرون. والثاني: بارزاً أهلها من بطنها، قاله الفراء. قوله تعالى: وَحَشَرْناهُمْ يعني المؤمنين والكافرين فَلَمْ نُغادِرْ قال ابن قتيبة: أي: فلم نُخَلِّف، يقال: غادرتُ كذا: إِذا خلّفته، ومنه سمي الغَدِير، لأنه ماءٌ تُخَلِّفُه السيول. وروى أبان: «فلم تغادر» بالتاء. قوله تعالى: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا إِن قيل: هذا أمر مستقبل، فكيف عُبِّر عنه بالماضي؟ فالجواب: أن ما قد علم الله وقوعه، يجري مجرى المعاين، كقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1» . وفي معنى قوله: فًّا أربعة أقوال: أحدها: أنه بمعنى جميعاً، كقوله: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا «2» قاله مقاتل. والثاني: أن المعنى: وعُرضوا على ربِّك مصفوفين، هذا مذهب البَصريين. والثالث: أن المعنى: وعُرضوا على ربِّك صفوفاً، فناب الواحد عن الجميع، كقوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «3» . والرابع: أنه لم يَغِبْ عن الله منهم أحد، فكانوا كالصف الذي تسهل الإِحاطة بجملته، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري، وقد قيل: إِن كلَّ أمة وزمرة صفٌّ. قوله تعالى: قَدْ جِئْتُمُونا ، فيه إضمار «فقال لهم» . وفي المخاطبين بهذا قولان: أحدهما: أنهم الكُلّ. والثاني: الكُفار، فيكون اللفظ عامّاً، والمعنى خاصّا. وقوله: ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مفسر في الأنعام «4» . وقوله: لْ زَعَمْتُمْ خطاب للكفّار خاصّة، والمعنى: زعمتم في الدنيالَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً للبعث، والجزاء. قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكتاب الذي سُطِر فيه ما تعمل الخلائق قبل وجودهم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الحساب، قاله ابن السائب. والثالث: كتاب الأعمال، قاله مقاتل. وقال ابن جرير: وُضع كتاب أعمال العباد في أيديهم، فعلى هذا، الكتاب اسم جنس. قوله تعالى: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ قال مجاهد: هم الكافرون، وذكر بعض أهل العلم أن كل مجرم ذُكر في القرآن، فالمراد به: الكافر. قوله تعالى: مُشْفِقِينَ أي: خائفين مِمَّا فِيهِ من الأعمال السيئة وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا هذا قول كل واقع في هَلَكة. وقد شرحنا هذا المعنى في قوله: يا حَسْرَتَنا «5» . قوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها هذا على ظاهره في صغير الأمور وكبيرها وقد روى عكرمة عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة، وقد يُتوهَّم أن المراد بذلك صغائر الذنوب وكبائرها، وليس كذلك، إذ ليس الضّحك والتّبسّم، بمجرّدهما من الذنوب، وإِنما المراد أن التبسم من صغار الأفعال، والضحك فعل كبير، وقد روى الضحاك عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم والاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة: القهقهة بذلك فعلى هذا يكون ذنباً من الذنوب لمقصود فاعله، لا لنفسه. ومعنى «أحصاها» : عدَّها وأثبتها، والمعنى: وُجدتْ محصاة. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً

_ (1) سورة الأعراف: 43. (2) سورة طه: 64. (3) سورة الحج: 5. (4) سورة الأنعام: 94. (5) سورة الأنعام: 31.

أي: مكتوباً مُثْبَتاً في الكتاب، وقيل: رأوا جزاءه حاضراً. وقال أبو سليمان: الصحيح عند المحققين أن صغائر المؤمنين الذين وُعدوا العفو عنها إِذا اجتنبوا الكبائر، إِنما يعفى عنها في الآخرة بعد أن يراها صاحبها. قوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً قال أبو سليمان: لا تنقص حسنات المؤمن، ولا يزاد في سيئات الكافر. وقيل: إِن كان للكافر فِعل خير، كعتق رقبة، وصدقة، خُفِّف عنه به من عذابه، وإِن ظلمه مسلم، أخذ الله من المسلم، فصار الحق لله. ثم إنّ الله تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وسلّم أن يذكِّر هؤلاء المتكبِّرين عن مجالسة الفقراء قصةَ إِبليس وما أورثه الكِبْر، فقال: وَإِذْ قُلْنا أي: اذكر ذلك. وفي قوله: كانَ مِنَ الْجِنِّ قولان: أحدهما: أنه من الجن حقيقة، لهذا النص واحتج قائلو هذا بأن له ذريةً- وليس للملائكة ذريةٌ- وأنه كَفَرَ، والملائكة رسل الله، فهم معصومون من الكفر. والثاني: أنه كان من الملائكة، وإِنما قيل: «من الجن» ، لأنه كان من قَبِيلٍ من الملائكة يقال لهم: الجن، قاله ابن عباس وقد شرحنا هذا في سورة البقرة «1» . قوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: خرج عن طاعة ربه، تقول العرب: فسَقت الرُّطَبة من قشرها: إِذا خرجت منه، قاله الفراء، وابن قتيبة. والثاني: أتاه الفسق لما أُمر فعصى، فكان سبب فسقه عن أمر ربه، قال الزجاج: وهذا مذهب الخليل وسيبويه، وهو الحق عندنا. والثالث: ففسق عن ردِّ أمر ربِّه، حكاه الزجاج عن قطرب. قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي أي: توالونهم بالاستجابة لهم؟! قال الحسن، وقتادة: ذريته: أولاده، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. قال مجاهد: ذريته الشياطين، ومن ذريته زَلَنْبُور صاحب راية إِبليس بكل سوق، وثبْر، وهو صاحب المصائب، والأعور صاحب الرياء، ومِسْوَط صاحب الأخبار يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس، فلا يوجد لها أصل، وداسم صاحب الإِنسان إِذا دخل بيته ولم يسلِّم ولم يذكر اسم الله، فهو يأكل معه إِذا أكل. قال بعض أهل العلم: إِذا كانت خطيئة الإِنسان في كِبْر فلا تَرْجُه، وإِن كانت في شهوة فارجه، فإن معصية إِبليس كانت بالكِبْر، ومعصية آدم بالشهوة. قوله تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بئس الاتخاذ للظالمين بدلاً. والثاني: بئس الشيطان. والثالث: بئس الشيطان والذرِّيَّة، ذكرهنَّ ابن الأنباري. قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقرأ أبو جعفر، وشيبة: «ما أشهدناهم» بالنون والألف. وفي المشار إِليهم أربعة أقوال: أحدها: إِبليس وذريته. والثاني: الملائكة. والثالث: جميع الكفار. والرابع: جميع الخلق والمعنى: إِني لم أشاورهم في خلقهن وفي هذا بيان للغَناء عن الأعوان، وإِظهار كمال القدرة. قوله تعالى: وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي: ما أشهدت بعضَهم خَلْقَ بعض، ولا استعنت ببعضهم على إِيجاد بعض.

_ (1) عند الآية: 34.

[سورة الكهف (18) : الآيات 52 إلى 53]

قوله تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ يعني: الشياطين عَضُداً أي: أنصاراً وأعواناً. والعَضُد يستعمل كثيراً في معنى العون، لأنه قِوام اليد، قال الزجاج: والاعتضاد: التقوِّي وطلب المعونة، يقال: اعتضدت بفلان، أي: استعنت به. وفي ما نفى اتخاذهم عضداً فيه قولان: أحدهما: أنه الولايات، فالمعنى: ما كنت الولي المضلِّين، قاله مجاهد. والثاني: أنه خَلْق السموات والأرض، قاله مقاتل. وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر: «وما كنت» بفتح التاء. [سورة الكهف (18) : الآيات 52 الى 53] وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ وقرأ حمزة: «نقول» بالنون، يعني: يوم القيامة نادُوا شُرَكائِيَ أضاف الشركاء إِليه على زعمهم، والمراد: نادوهم لدفع العذاب عنكم، أو الشفاعة لكم، الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي: زعمتموهم شركاء فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي: لم يجيبوهم، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون والشركاء. والثاني: أهل الهدى وأهل الضلالة. وفي معنى مَوْبِقاً ستة أقوال «1» : أحدها: مَهْلِكاً، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وقال ابن قتيبة: مَهْلِكاً بينهم وبين آلهتهم في جهنم، ومنه يقال: أَوبَقتْه ذنوبه، أي أهلكته، وقال الزجاج: المعنى: جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم، أي: يهلكهم، فالمَوْبق: المهلك، يقال: وَبِق، يَيْبَقُ ويابَق، وبَقاً، ووَبَق، يَبِق، وُبُوقاً، فهو وابق وقال الفراء: جعلنا تواصُلهم في الدنيا مَوْبِقاً، أي: مَهْلِكاً لهم في الآخرة، فالبَيْن، على هذا القول بمعنى التواصل، كقوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «2» على قراءة من ضمّ النون. والثاني: أن المَوْبِق: وادٍ عميق يُفرَّق به بين أهل الضلالة وأهل الهدى، قاله عبد الله بن عمرو. والثالث: أنه وادٍ في جهنم، قاله أنس بن مالك ومجاهد. والرابع: أنّ معنى الموبق: العداوة، قاله الحسن. والخامس: أنه المَحْبِس، قاله الربيع بن أنس. والسادس: أنه المَوْعِد، قاله أبو عبيدة. قال ابن الأنباري: إِن قيل: لم قال: «مَوْبِقاً» ولم يقل: «مُوبِقاً» ، بضم الميم، إِذ كان معناه عذاباً مُوبقاً؟ فالجواب: أنه اسم موضوع لمَحْبِس في النار، والأسماء لا تؤخذ بالقياس، فيُعلم أن «مَوْبِقاً» : مَفْعِل، من أوبقه الله: إذا أهلكه، فتنفتح ميمه كما تنفتح في موعد ومولد ومحتد إذ سمّيت الشخوص بهنَّ. قوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ أي: عاينوها وهي تتغيَّظ حنقاً عليهم. والمراد بالمجرمين: الكفار. فَظَنُّوا أي: أيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي: داخلوها. ومعنى المواقعة: ملابسة الشيء بشدَّة وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي: مَعْدِلاً والمَصْرِف: الموضع الذي يُصْرَف إِليه، وذلك أنها أحاطت بهم من كل جانب، فلم يقدروا على الهرب. [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 55] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55)

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 8/ 240: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول عن ابن عباس ومن وافقه في تأويل الموبق، أنه المهلك، وذلك أن العرب تقول في كلامها: قد أوبقت فلانا: إذا أهلكته. (2) سورة الأنعام: 94.

[سورة الكهف (18) : الآيات 56 إلى 59]

قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ قد فسّرناه في سورة بني إِسرائيل «1» . قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا فيمن نزلت قولان: أحدهما: أنه النَّضْر بن الحارث، وكان جِداله في القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: أُبيّ بن خلف، وكان جِداله في البعث حين أتى بعظم قد رَمَّ، فقال: أيقدر الله على إِعادة هذا؟! قاله ابن السائب «2» . قال الزجاج: كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل، والإِنسان أكثر هذه الأشياء جدلاً. قوله تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا قال المفسرون: يعني: أهل مكة إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وهو محمد صلى الله عليه وسلّم، والقرآن، والإِسلام إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وهو أنهم إِذا لم يؤمنوا عذِّبوا. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: ما منعهم من الإيمان إِلا طلب أن تأتيهم سُنَّة الأولين، قاله الزجاج. والثاني: وما منع الشيطانُ الناس أن يؤمنوا إِلا لأَن تأتيهم سُنَّة الأولين، أي: منعهم رُشْدَهُم لكي يقع العذاب بهم، ذكره ابن الأنباري. والثالث: ما منعهم إِلا أنِّي قد قدَّرت عليهم العذاب. وهذه الآية فيمن قُتل ببدر وأُحُد من المشركين، قاله الواحدي «3» . قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ ذكر ابن الأنباري في أَوْ ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى الواو. والثاني: أنها لوقوع أحد الشيئين، إِذ لا فائدة في بيانه. والثالث: أنها دخلت للتبعيض، أي: أنّ بعضهم يقع به هذا وبعضهم يقع به هذا وهذه الأقوال الثلاثة قد أسلفنا بيانها في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ. قوله تعالى: قُبُلًا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «قِبَلاً» بكسر القاف وفتح الباء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «قُبُلاً» بضم القاف والباء. وقد بيَّنّا عِلَّة القراءتين في سورة الأنعام «4» . وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسْعود. «قَبِيلاً» بوزن فَعِيل. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو المتوكل «قَبَلاً» بفتح القاف من غير ياء، قال ابن قتيبة: أراد استئنافاً. فإن قيل: إِذا كان المراد بسُنَّة الأولين العذاب، فما فائدة التكرار بقوله: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ؟ فالجواب: أن سُنَّة الأولين أفادت عذابا مبهما يمكن أن يتراخى وقته، وتخلّف أنواعه، وإِتيان العذاب قُبُلاً أفاد القتل يوم بدر. قال مقاتل: «سُنَّة الأولين» : عذاب الأمم السالفة، «أو يأتيَهم العذاب قِبَلاً» ، أي: عِياناً قتلا بالسيف يوم بدر. [سورة الكهف (18) : الآيات 56 الى 59] وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

_ (1) سورة الإسراء: 41. (2) باطل. عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وتقدم أنه يضع الحديث، فخبره باطل، لا شيء، ويأتي شيء من هذا في أواخر سورة يس. (3) في «الوسيط» 3/ 154. (4) سورة الأنعام: 111. [.....]

قوله تعالى: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس: يريد: المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم. وجدالُهم بالباطل: أنهم ألزموه أن يأتيَ بالآيات على أهوائهم لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي: ليُبْطِلوا ما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلّم وقيل: جدالُهم: قولُهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً «1» أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «2» ، ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذِكْر البعث والجزاء. قال أبو عبيدة: ومعنى «ليُدْحِضوا» : ليُزِيلوا ويذهبوا، يقال: مكان دَحْض، أي: مَزَلٌّ لا يثبت فيه قدم ولا حافر. قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا آياتِي يعني القرآن. وَما أُنْذِرُوا أي: خُوِّفوا به من النار والقيامة هُزُواً أي: مهزوءاً به. قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ قد شرحنا هذه الكلمة في البقرة «3» وذُكِّرَ بمعنى: وُعِظ. وآياتُ ربِّه: القرآن، وإِعراضُه عنها: تهاونُه بها. وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي: ما سلف من ذنوبه وقد شرحنا ما بعد هذا في الأنعام «4» إِلى قوله: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى وهو: الإِيمان والقرآن فَلَنْ يَهْتَدُوا هذا إِخبار عن عِلْمه فيهم. قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ إِذ لم يعاجلهم بالعقوبة. بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ للبعث والجزاء لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا قال الفراء: الموئل: المنجى، وهو الملجأ في المعنى، لأن المنجى ملجأٌ، والعرب تقول: إِنه لَيُوائل إِلى موضعه، أي: يذهب إِلى موضعه، قال الشاعر: لا واءلت نَفْسُكَ خَلَّيْتَها ... للعامِرِيّيْن، وَلمْ تُكْلَمِ يريد: لا نجت نفسك، وأنشد أبو عبيدة للأعشى: وَقَدْ أُخالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتَهُ ... وقَدْ يُحاذِرُ مِنِّي ثمّ ما يئل أي: ما ينجو. وقال ابن قتيبة: الموئل: الملجِأ. يقال: وأل فلان إِلى كذا: إِذا لجأ. فإن قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله، ومعلوم أنه لا نصيب لهم في رحمته «5» . فعنه جوابان: أحدهما: أنّ الرّحمة ها هنا بمعنى النعمة، ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر. فأما الرحمة التي هي الغفران والرضى، فليس للكافر فيها نصيب. والثاني: أن رحمة الله محظورة على الكفار يوم القيامة، فأما في الدنيا، فإنهم ينالون منها العافية والرزق. قوله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرى يريد: التي قصصنا عليكَ ذِكْرها، والمراد: أهلها، ولذلك قال: أَهْلَكْناهُمْ والمراد: قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب. قال الفرّاء: وقوله: لَمَّا ظَلَمُوا معناه: بعد ما ظَلَموا. قوله تعالى: وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام قال الزجاج: وفيه

_ (1) سورة الإسراء: 49. (2) سورة السجدة: 10. (3) سورة البقرة: 114. (4) سورة الأنعام: 21. (5) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 117: وقوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ أي: ربّك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة والآيات في هذا كثيرة، ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد، وتضع كل ذات حمل حملها. ولهذا قال: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا.

[سورة الكهف (18) : الآيات 60 إلى 65]

وجهان: أحدهما: أن يكون مصدراً، فيكون المعنى: وجعلنا لإِهلاكهم. والثاني: أن يكون وقتاً، فالمعنى: لوقت هلاكهم. وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك. وقرأ حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام، ومعناه: لوقت إهلاكهم. [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 65] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ ... الآية. (935) سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر، ما روى ابن عباس عن أُبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إِن موسى قام خطيباً في بني إِسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله تعالى عليه إِذ لم يَرُدَّ العِلْم إِليه، فأوحى الله إِليه أن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مِكتل، فحيثما فقَدتَ الحوت فهو ثَمَّ. فانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصّخرة، وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب أي الحوت في المِكْتَل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سَرَباً، وأمسك الله عن الحوت جِرْيَةَ الماء، فصار عليه مثل الطاق «1» . فلما استيقظ نسي صاحبُه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إِذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نَصَباً، قال: ولم يجد موسى النَّصَب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلى قوله: عَجَباً، قال: فكان للحوت سَرَباً، ولموسى ولفتاه عجباً، فقال موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قال: رجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إِلى الصخرة، فاذا هو مسجَّىً بثوب، فسلَّم عليه موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام! مَنْ أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إِسرائيل؟ قال: نعم أتيتك لتعلِّمني مما علِّمت رُشْداً، قال: إِنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى، إِني على عِلْم مِنْ عِلْم الله لا تعلمُه علَّمَنِيه، وأنت على عِلْم من عِلْم الله علَّمَكهُ لا أعلمه فقال موسى: ستجدني إِن شاء الله صابرا

_ صحيح. أخرجه البخاري 122 و 3278 و 3401 و 4727 و 6672 ومسلم 2380 وأبو داود 4707 والترمذي 3149 والحميدي 371 وأحمد 5/ 117 و 118 وابن حبان 6220 والطبري 23208 من طريق عن سفيان به. مطوّلا ومختصرا. وأخرجه البخاري 4725 عن الحميدي به. وأخرجه البخاري 4726 وأحمد 5/ 119 و 120 من طريق ابن جريج عن يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار به. وأخرجه البخاري 74 و 78 و 3400 ومسلم 2380 ح 174 وأحمد 5/ 116 وابن حبان 102 والطبري 23213 و 23214 من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس مختصرا.

ولا أعصي لك أمراً فقال له الخضر: فإن اتَّبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أُحْدِث لك منه ذِكْراً فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرَّت سفينة فكلَّموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نَوْلٍ «1» فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إِلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقَدوم، فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نَوْل عمدتَ إِلى سفينتهم فخرقتها لتُغْرِقَ أهلها ... إِلى قوله: عُسْراً؟! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كانت الأولى من موسى نسيانا» قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله عزّ وجلّ إِلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إِذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً إِلى قوله: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فقال الخضر بيده «2» هكذا، فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيِّفونا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً! قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ الآية» . هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» ، وقد ذكرنا إِسناده في كتاب «الحدائق» فآثرنا الاختصار ها هنا. فأما التفسير، فقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى المعنى: واذكر ذلك. وفي موسى قولان: أحدهما: أنه موسى بن عمران، قاله الأكثرون. ويدل عليه. ما روي في «الصحيحين» من حديث سعيد بن جبير قال: (936) قلت لابن عباس: إِن نَوْفاً البِكاليّ يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر، قال: كذب عدو الله، أخبرني أُبيّ بن كعب.. فذكر الحديث الذي قدمناه آنفاً. والثاني: أنه موسى بن ميشا، قاله ابن إِسحاق، وليس بشيء، للحديث الصحيح الذي ذكرناه فأما فتاه فهو يوشع بن نون من غير خلاف. وإِنما سمي فتاه، لأنه كان يلازمه، ويأخذ عنه العلم، ويخدمه. ومعنى لا أَبْرَحُ: لا أزال. وليس المراد به: لا أزول، لأنه إِذا لم يُزل لم يقطع أرضاً، فهو مثل قولك: ما برحت أناظر عبد الله أي: ما زلت، قال الشاعر: إِذا أنتَ لم تبرحْ تؤدِّي أمانَةً ... وتحملُ أخرى أفرحتْك الودائعُ «3» أي: أثقلتك، والمعنى: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، أي: ملتقاهما، وهو الموضع الذي وعده الله بلقاء الخَضِر فيه، قال قتادة: بحر فارس، وبحر الروم، فبحر الروم نحو المغرب، وبحر فارس نحو المشرق. وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان: أحدهما: أنه إِفريقية، قاله أُبيّ بن كعب. والثاني: طنجة، قاله محمد بن كعب القرظي. قوله تعالى: أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً وقرأ أبو رزين، والحسن، وأبو مجلز، وقتادة، والجحدريّ،

_ هو المتقدم برقم. 935

وابن يعمر: «حُقْباً» بإسكان الكاف. قال ابن قتيبة: الحُقُب: الدَّهر، والحِقَب: السِّنون، واحدتها حِقْبة، ويقال: حُقْبٌ وحُقُب كما يقال: قُفْل وقُفُل، وهزو وهُزُؤ، وكُفْؤ وكُفُؤ، وأُكْل وأُكُل، وسُحْت وسُحُت، ورُعْب ورُعُب، ونُكْر ونُكُر، وأُذْن وأُذُن، وسُحْق وسُحُق، وبُعْد وبُعُد، وشُغْل وشُغُل، وثُلْث وثُلُث، وعُذْر وعُذُر، ونُذْر ونُذُر، وعُمْر وعُمُرُ. وللمفسرين في المراد بالحقب ها هنا ثمانية أقوال: أحدها: أنه الدَّهر، قاله ابن عباس. والثاني: ثمانون سنة، قاله عبد الله بن عمرو وأبو هريرة. والثالث: سبعون ألف سنة، قاله الحسن. والرابع: سبعون سنة، قاله مجاهد. والخامس: سبعة عشر ألف سنة، قاله مقاتل بن حيّان. والسادس: أنه ثمانون سنة، كل يوم ألف سنة من عدد الدنيا. والسابع: أنه سنة بلغة قيس، ذكرهما الفراء. والثامن: الحُقُب عند العرب وقت غير محدود، قاله أبو عبيدة. ومعنى الكلام: لا أزال أَسيرُ، ولو احتجت أن أسير حُقُباً. قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغا يعني: موسى وفتاه مَجْمَعَ بَيْنِهِما يعني: البحرين نَسِيا حُوتَهُما وكانا قد تزوَّدا حوتاً مالحاً في زَبيل «1» فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء، فلما انتهيا إِلى الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه المكتلَ، فأصاب الحوتَ بللُ البحر. وقيل: توضأ يوشع من عين الحياة فانتضح على الحوت الماءُ، فعاش، فتحرك في المِكْتَل، فانسرب في البحر، وقد كان قيل لموسى: تزوَّدْ حوتاً مالحاً، فاذا فقَدته وجدتَ الرجل. وكان موسى حين ذهب الحوت في البحر قد مضى لحاجة فعزم فتاه أن يخبره بما جرى فنسي. وإِنما قيل: «نسيا حوتهما» توسعاً في الكلام، لأنهما جميعاً تزوَّداه، كما يقال: نسي القوم زادهم، وإِنما نسيه أحدهم. قال الفراء: ومثله قوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «2» وإنما يخرج ذلك من المالح، لا من العذب. وقيل: نسي يوشع أن يحمل الحوت، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء، فلذلك أُضيف النسيان، إِليهما. قوله تعالى: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي: مسلكاً ومذهباً. قال ابن عباس: جعل الحوت لا يمسُّ شيئاً من البحر إِلا يبس حتى يكون صخرة. وقال قتادة: جعل لا يسلك طريقاً إِلا صار الماء جامداً. وقد ذكرنا في حديث أُبيّ بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت. قوله تعالى: فَلَمَّا جاوَزا ذلك المكان الذي ذهب فيه الحوت، أصابهما ما يصيب المسافر من النَّصَب، فدعا موسى بالطعام، فقال: آتِنا غَداءَنا وهو الطعام الذي يؤكل بالغداة. والنَّصَب: الإِعياءِ. وهذا يدل على إِباحة إِظهار مثل هذا القول عند ما يلحق الإِنسانَ من الأذى والتعب، ولا يكون ذلك شكوى. قالَ يوشع لموسى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي: حين نزلنا هناك فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فيه قولان: أحدهما: نسيتُ أن أخبرك خبر الحوت. والثاني: نسيت حمل الحوت. قوله تعالى: وَما أَنْسانِيهُ قرأ الكسائي: «أنسانيه» باماله السين مع كسر الهاء. وقرأ ابن كثير: «أنسانيهي» بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء وروى حفص عن عاصم: «أنسانيهُ إِلا» بضم الهاء في الوصل. قوله تعالى: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً الهاء في السبيل ترجع إِلى الحوت. وفي المُتَّخِذ قولان: أحدهما: أنه الحوت، ثم في المخبر عنه قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ، ثم في معنى

_ (1) في «اللسان» الزبيل: الوعاء يحمل فيه. (2) سورة الرحمن: 22.

الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: فاتخذ سبيله في البحر يُري عجباً، ويُحدث عجباً. والثاني: أنه لما قال الله تعالى: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ، قال: اعجبوا لذلك عجباً، وتنَّبهوا لهذه الآية. والثالث: أن إِخبار الله تعالى انقطع عند قوله: «في البحر» فقال موسى: عجباً، لِما شوهد من الحوت. ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري. والثاني: أن المُخْبِر عن الحوت يوشع، وصف لموسى ما فعل الحوت. والقول الثاني: أن المتخِذ موسى، اتخذ سبيل الحوت في البحر عجباً، فدخل في المكان الذي مَرَّ فيه الحوت، فرأى الخَضِر. وروى عطية عن ابن عباس قال: رجع موسى إِلى الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر، ويتبعه موسى، حتى انتهى به إِلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر. قوله تعالى: قالَ يعني: موسى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي: ذلك الذي نطلب من العلامة الدَّالة على مطلوبنا. قرأ ابن كثير «نبغي» بياء في الوصل والوقف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، والكسائيّ، بياء في الوقف. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بحذف الياء في الحالين. قوله تعالى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قال الزجاج: أي: رجعا في الطريق الذي سلكاه، يقصَّان الأثر. والقَصَص: اتِّباع الأثر. قوله تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا يعني: الخضر. وفي اسمه أربعة أقوال: أحدها: اليسع، قاله وهب، ومقاتل. والثاني: الخَضِر بن عاميا. والثالث: أرميا بن حلقيا، ذكرهما ابن المنادي. والرابع: يلياء بن ملكان، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. فأما تسميته بالخضر، ففيه قولان: (937) أحدهما: أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرَّت، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والفروة: الأرض اليابسة. والثاني: أنه كان إِذا جلس اخضرَّ ما حوله، قاله عكرمة. وقال مجاهد: كان إِذا صلى اخضرَّ ما حوله. وهل كان الخضر نبياً، أم لا؟ فيه قولان: ذكرهما أبو بكر بن الأنباري، وقال: كثير من الناس يذهب إِلى أنه كان نبيّاً، وبعضهم يقول: كان عبداً صالحاً. واختلف العلماء هل هو باقٍ إِلى يومنا هذا، على قولين حكاهما الماوردي، وكان الحسن يذهب إِلى أنه مات، وكذلك كان ابن المنادي من أصحابنا يقول، ويقبِّح قول من يرى بقاءه، ويقول: لا يثبت حديث في بقائه. وروى أبو بكر النقاش أن محمد بن إِسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإِلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون ذلك. وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: (938) «لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» ؟! قوله تعالى: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا في هذه الرحمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها النبوَّة، قاله

_ صحيح. أخرجه البخاري 3402 من طريق ابن المبارك عن معمر به. وأخرجه الترمذي 3151 وأحمد 2/ 312 و 318 وابن حبان 6222 من طرق عن عبد الرزاق به، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنما سمي الخضر أنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» . صحيح. أخرجه البخاري 116 و 564 و 601 ومسلم 2537 وأحمد 2/ 88 وأبو داود 4348 والترمذي 2251 وابن حبان 2989 من حديث ابن عمر قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلّم العشاء في آخر حياته، فلما سلّم قام: فقال: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممّن هو على ظهر الأرض أحد» .

[سورة الكهف (18) : الآيات 66 إلى 69]

مقاتل. والثاني: الرِّقة والحُنُوُّ على من يستحقه، ذكره ابن الأنباري. والثالث: النِّعمة، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا أي: من عندنا عِلْماً قال ابن عباس: أعطاه علما من علم الغيب. [سورة الكهف (18) : الآيات 66 الى 69] قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قوله تعالى: أَنْ تُعَلِّمَنِ قرأ ابن كثير: «تعلمني مما» بإثبات الياء في الوصل والوقف. وقرأ نافع، وأبو عمرو بياء في الوصل. وقرأ ابن عامر، وعاصم بحذف الياء في الحالين. قوله تعالى: مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «رُشداً» بضم الراء، وَإسكان الشين خفيفة. وقرأ أبو عمرو: «رَشَداً» بفتح الراء والشين. وعن ابن عامر بضمهما. والرُّشْد، والرَّشَد: لغتان، كالبخل والبخل، والعُجْم والعَجَم، والعُرْب والعَرَب، والمعنى: أن تعلمني عِلْماً ذا رشد. وهذه القصة قد حرَّضت على الرحلة في طلب العلم، واتِّباع المفضول للفاضل طلباً للفضل، وحثَّت على الأدب والتواضع للمصحوب. قوله تعالى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال ابن عباس: لن تصبر على صنعي، لأني علمت من غيب علم ربي. وفي هذا الصّبر وجهان: أحدهما: عن الإِنكار. والثاني: عن السؤال. قوله تعالى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً الخُبْر: عِلْمك بالشيء والمعنى: كيف تصبر على أمر ظاهره مُنْكر، وأنت لا تعلم باطنه؟! قوله تعالى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قال ابن الأنباري: نفي العصيان منسوق على الصبر. والمعنى: ستجدني صابرا ولا أعصي إن شاء الله. [سورة الكهف (18) : الآيات 70 الى 78] قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) قوله تعالى: فَلا تَسْئَلْنِي قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «فلا تسألْني» ساكنة اللام. وقرأ نافع: «تسأَلَنِّي» مفتوحة اللام مشددة النون. وقرأ ابن عامر في رواية الداجوني: «فلا تسألَنِّ عن شيء» بتحريك اللام من غير ياء، والنون مكسورة. والمعنى: لا تسألني عن شيء مما أفعله حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي: حتى أكون أنا الذي أُبيِّنه لك، لأن عِلْمه قد غاب عنك.

قوله تعالى: خَرَقَها أي: شقَّها. قال المفسرون: قلع منها لوحاً، وقيل: لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه وأنكر عليه ما فعل بقوله: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: لتُغرِق بالتاء أهلَها بالنصب. وقرأ حمزة، والكسائي: «ليغرق» بالياء، أهلها برفع اللام. قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: منكراً، قاله مجاهد. وقال الزجاج: عظيماً من المنكر. والثاني: عجباً، قاله قتادة، وابن قتيبة. والثالث: داهية، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ في هذا النسيان ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه على حقيقته، وأنه نسي. (939) روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أن الأولى كانت نسياناً من موسى» . والثاني: أنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، قاله أُبيّ بن كعب، وابن عباس. والثالث: أنه بمعنى التَّرك. فالمعنى: لا تؤاخذني بما تركته مما عاهدتك عليه، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: وَلا تُرْهِقْنِي قال الفراء: لا تُعجلني. وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج: لا تُغْشِني. قال أبو زيد: يقال: أرهقتُه عسراً: إِذا كلفتَه ذلك. قال الزجاج: والمعنى: عاملني باليُسْرِ، لا بالعُسْرِ. قوله تعالى: فَانْطَلَقا يعني: موسى والخضر. قال الماوردي: يحتمل أن يوشع تأخر عنهما، لأن الإِخبار عن اثنين، ويحتمل أن يكون معهما ولم يذكر لأنه تَبَعٌ لموسى، فاقتصر على حكم المتبوع. قوله تعالى: حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً اختلفوا في هذا الغلام هل كان بالغاً، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لم يكن بالغاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، والأكثرون. والثاني: أنه كان شابّاً قد قبض على لحيته، حكاه الماوردي عن ابن عباس أيضاً، واحتج بأن غير البالغ لم يجر عليه قلم، فلا يستحق القتل. وقد يُسمَّى الرجلُ غلاماً، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج: شَفَاها من الدَّاءِ العضال الذي بها «2» وفي صفة قتله له ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اقتلع رأسه، وقد ذكرناه في حديث أبيّ. والثاني: كسر عنقه، قاله ابن باس. والثالث: أضجعة وذبحه بالسكين، قاله سعيد بن جبير. قوله تعالى: «أقتلت نفساً زاكية» قرأ الكوفيون، وابن عامر: «زكيَّة» بغير ألف، والياء مشددة. وقرأ الباقون بالألف من غير تشديد. قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وهما بمنزلة القاسية، والقَسيّة. وللمفسرين فيها ستة أقوال: أحدها: أنها التائبة، روي عن ابن عباس أنه قال: الزكية: التائبة، وبه قال الضحاك. والثاني: أنها المسلمة، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنها الزكية التي لم تبلغ الخطايا، قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنها الزكية النامية، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: القويمة في تزكيتها. والخامس: أن الزكية: المطهرة، قاله أبو عبيدة. والسادس: أن الزكية: البريئة التي لم يظهر ما

_ هو بعض الحديث المتقدم برقم 935.

يوجب قتلها، قاله الزجاج. وقد فَرَّق بعضهم بين الزاكية، والزكيَّة، فروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: الزاكية: التي لم تذنب قطُّ، والزكية: التي أذنبت ثم تابت. وروي عن أبي عبيدة أنه قال: الزاكية في البدن، والزكية في الدِّين. قوله تعالى: بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير قتل نفس لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: نكْراً خفيفة في كل القرآن، إلّا قوله: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ «1» وخفف ابن كثير أيضاً «إِلى شيء نُكْر» . وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «نُكُراً» و «إِلى شيء نُكْر» . مثقل. والمخفف إِنما هو من المثقل، كالعُنْق، والعُنُق، والنُكْر، والنُكُر. قال الزجاج: والمعنى: لقد أتيت شيئاً نكراً. ويجوز أن يكون معناه: جئت بشيء نكر، فلما حذف الباء، أفضى الفعل فنصب نكرا، ونكرا أقل منكراً من قوله: «إِمراً» لأن تغريق مَنْ في السفينة كان عنده أنكر من قتل نفس واحدة. قوله تعالى: قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ. إِن قيل: لم ذكر لَكَ ها هنا، واختزله من الموضع الذي قبله؟ فالجواب: أن إثباته للتّوكيد، واختزاله له لوضوح المعنى، وكلاهما معروف عند الفصحاء. تقول العرب: قد قلت لك: اتق الله. وقد قلت لك: يا فلان اتق الله، وأنشد ثعلب: قد كنتُ حَذَّرْتُكَ آلَ المصْطَلِقْ ... وقلتُ: يا هَذا أَطِعْنِي وَانْطَلِقْ فقوله: يا هذا، توكيد لا يختل الكلام بسقوطه. وسمعت الشيخ أبا محمد الخشاب يقول: وقَّره في الأول، فلم يواجهه بكاف الخطاب، فلما خالف في الثاني، واجهه بها. قوله تعالى: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ أي: سؤال توبيخ وإِنكار بَعْدَها أي: بعد هذه المسألة فَلا تُصاحِبْنِي وقرأ كذلك معاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو المتوكل، والأعرج، إِلا أنهم شدَّدوا النون. قال الزجاج: ومعناه: إِن طلبتُ صحبتك فلا تُتَابعني على ذلك. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «فلا تَصحبني» بفتح التاء من غير ألف. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والأعمش كذلك، إِلا أنهم شددوا النون. وقرأ أبو رجاء، وأبو عثمان النهدي، والنخعي، والجحدري: «تُصْحِبْني» بضم التاء، وكسر الحاء، وسكون الصاد والباء. قال الزجاج: فيهما وجهان: أحدهما: لا تتابعني في شيء ألتمسه منك. يقال: قد أصحب المهر: إِذا انقاد. والثاني: لا تصحبني علماً من علمك. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: مِنْ لَدُنِّي مثقل. وقرأ نافع: «من لدُني» بضم الدال مع تخفيف النون. وروى أبو بكر عن عاصم: «من لَدْني» بفتح اللام مع تسكين الدال. وفي رواية أخرى عن عاصم: «لُدْني» بضم اللام وتسكين الدال. قال الزجاج: وأجودها تشديد النون، لأن أصل «لدن» الإِسكان، فاذا أضفتها إِلى نفسك زدت نوناً، ليسلم سكون النون الأولى، تقول: من لدن زيد، فتسكِّن النون ثم تضيف إِلى نفسك، فتقول: من لدنِّي، كما تقول: عن زيد وعنِّي. فأما إِسكان دال «لَدْني» فإنهم أسكنوها، كما تقول في عضُد: عَضْد، فيحذفون الضم. قال ابن عباس: يريد: إِنك قد أُعذرت فيما بيني وبينك، يعني: أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبراً. قوله تعالى: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أنطاكيّة، قاله ابن

_ (1) سورة القمر: 6. [.....]

عباس. والثاني: الأُبُلَّة، قاله ابن سيرين. والثالث: باجروان، قاله مقاتل. قوله تعالى: اسْتَطْعَما أَهْلَها أي: سألاهم الضيافة فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما روى المفضل عن عاصم: «يُضيفوهما» بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية. وقرأ أبو الجوزاء كذلك، إِلا أنه فتح الياء الأولى وقرأ الباقون: «يضيِّفوهما» بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها. قال أبو عبيدة: ومعنى يضيِّفوهما: ينزلوهما منزل الأضياف، يقال: ضِفت أنا، وأضافني الذي يُنزلني. وقال الزجاج: يقال: ضِفتُ الرجل: إِذا نزلت عليه، وأضفته: إذا أنزلته وقريته. قال ابن قتيبة: يقال: ضيفت الرجل: إِذا أنزلتَه منزلة الأضياف، ومنه هذه الآية، وأضفته: أنزلته، وضِفته: نزلت عليه. (940) وروى أُبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «كانوا أهل قرية لئاماً» . قوله تعالى: فَوَجَدا فِيها جِداراً أي: حائطاً. قال ابن فارس: وجمعه جُدُر، والجَدْر: أصل الحائط. ومنه حديث الزبير: «ثم دع الماء يرجع إِلى الجَدْر» «1» ، والجيدر: القصير. قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء: «ينقاض» بألف ممدودة، وضاد معجمة، وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: «ينقاص» بألف ومدة وصاد غير معجمة، وكلُّه بلا تشديد. قال الزجاج: فمعنى: ينقضَّ: يسقط بسرعة، وينقاص، غير معجمة: ينشق طولاً، يقال: انقاصت سنّه: إذا انشقّت. قال ابن مقسم: يقال انقاصت سِنُّه، وانقاضت- بالصاد، والضاد- على معنى واحد. فإن قيل: كيف نسبت الإِرادة إِلى ما لا يعقل؟ فالجواب: أن هذا على وجه المجاز تشبيهاً بمن يعقل، ويريد: لأن هيأته في التهيؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين، فوصفت بالإِرادة إِذ كانت الصورتان واحدة، وقد أضافت العرب الأفعال إلى ما لا يعقل تجوّزا، قال الله عزّ وجلّ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى «2» والغضب لا يسكت، وإِنما يسكت صاحبه، وقال: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «3» . وأنشدوا من ذلك: إِنَّ دهْراً يَلُفُّ شَمْلِي بجمل ... لزمان يهمّ بالإحسان «4» وقال آخر: ضحكوا والدهرُ عنهم سَاكتٌ ... ثم أبكاهم دما لمّا نطق وقال آخر: يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ ... ويرغب عن دماء بني عقيل «5»

_ صحيح. أخرجه مسلم 2380 ح 172 وقد تقدم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 79 إلى 82]

وقال آخر: يشْكُو إِليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى «1» وهذا كثير في أشعارهم. قوله تعالى: فَأَقامَهُ أي: سوّاه، لأنه وجده مائلاً. وفي كيفية ما فعل قولان: أحدهما: أنه دفعه بيده فقام. والثاني: هدمه ثم قعد يبنيه، روي القولان عن ابن عباس. قوله تعالى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «لتخذت» بكسر الخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، وابن كثير يظهرها. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لاتَّخَذْتَ» وكلُّهم أدغموا، إِلا حفصاً عن عاصم، فإنه لم يدغم مثل ابن كثير. قال الزجاج: يقال: تَخِذ يَتْخَذُ في معنى: اتَّخَذَ يتَّخِذُ. وإنما قال له هذا، لأنهم لم يضيِّفوهما. قوله تعالى: قالَ يعني الخضر هذا يعني الإِنكار عَلَيَّ فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أي: هو المفرِّق بيننا. قال الزجاج: المعنى: هذا فراقُ بينِنا، أي: فراق اتصالنا، وكرر «بين» توكيداً، ومثله في الكلام: أخزى اللهُ الكاذب مني ومنك. وقرأ أبو رزين، وابن السميفع، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: «هذا فِراقٌ» بالتنوين «بيني وبينَك» بنصب النون. قال ابن عباس: كان قول موسى في السفينة والغلام، لربِّه، وكان قوله في الجدار، لنفسه لطلب شيء من الدنيا. [سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) قوله تعالى: فَكانَتْ لِمَساكِينَ في المراد بمسكنتهم قولان: أحدهما: أنهم كانوا ضعفاءَ في أكسابهم. والثاني: في أبدانهم. وقال كعب: كانت لعشرة إِخوة، خمسةٍ زمْنى، وخمسةٍ يعملون في البحر. قوله تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أي: أجعلها ذات عيب، يعني بخرقها، وَكانَ وَراءَهُمْ فيه قولان: أحدهما: أمامهم، قاله ابن عباس، وقتادة، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن مسعود: «وكان أمامَهم مَلِك» . والثاني: خلفهم قال الزجاج: وهو أجود الوجهين. فيجوز أن يكون رجوعهم في طريقهم كان عليه، ولم يعلموا بخبره، فأعلم الله تعالى الخضرَ خَبَرَه. قوله تعالى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أي: كل سفينة صالحة. وفي قراءة أُبيِّ بن كعب: «كلَّ سفينة صحيحة» قال الخضر: إِنما خرقتها، لأن الملك إِذا رآها منخرقة تركها ورقعها أهلُها فانتفعوا بها. قوله تعالى: وَأَمَّا الْغُلامُ روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: «وأما الغلام فكان كافرا» .

_ (1) هو صدر بيت وعجزه: «صبرا جميلا فكلانا مبتلى» . وهو في «اللسان» - شكا- بلا نسبة لأحد.

(941) وروى أُبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» . قال الربيع بن أنس: كان الغلام على الطريق لا يمرُّ به أحدٌ إِلا قتلَه أو غصبه، فيدعو ذلك عليه وعلى أبويه. وقال ابن السائب: كان الغلام لصّاً، فإذا جاء من يطلبه حلف أبواه أنه لم يفعل. قوله تعالى: فَخَشِينا في القائل لهذا قولان: أحدهما: الله عزّ وجلّ. ثم في معنى الخشية المضافة إِليه قولان: أحدهما: أنها بمعنى: العلم. قال الفراء: معناه: فعلمنا. والثاني: الكراهة، قاله الأخفش، والزّجّاج، وقال ابن عقيل: المعنى: فعلنا فعل الخاشي. والثاني: أنه الخضر، فتكون الخشية بمعنى الخوف للأمر المتوهم، قاله ابن الأنباري. وقد استدل بعضهم على أنه من كلام الخضر بقوله: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما. قال الزجاج: المعنى: فأراد الله، لأن لفظ الخبر عن الله تعالى هكذا أكثر من أن يحصى. ومعنى يُرْهِقَهُما: يحملهما على الرَّهَق، وهو الجهل. قال أبو عبيدة: «يُرْهِقَهُما» : يغشِيَهما. قال سعيد بن جبير: خشينا أن يحملَهما حُبُّه على أن يدخلا في دينه. وقال الزجاج: فرحا به حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فرضي امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره، خير له من قضائه فيما يحب. قوله تعالى: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: «أن يُبْدِلَهُما» بالتخفيف. وقرأ نافع، وأبو عمرو بالتشديد. قوله تعالى: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ديناً، قاله ابن عباس. والثاني: عملاً، قاله مقاتل. والثالث: صلاحاً، قاله الفراء. قوله تعالى: وَأَقْرَبَ رُحْماً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «رُحْماً» ساكنة الحاء، وقرأ ابن عامر: «رُحُماً» مثقلة. وعن أبي عمرو كالقراءتين. وقرأ ابن عباس، وابن جبير، وأبو رجاء: «رَحِماً» بفتح الراء، وكسر الحاء. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أوصل للرحم وأبَرّ للوالدين، قاله ابن عباس، وقتادة. وقال الزجاج: أقرب عطفاً وأمسّ بالقرابة. ومعنى الرُّحْم والرُّحُم في اللغة: العطف والرحمة، قال الشاعر: وكيف بظلم جَاريةٍ ... ومنها اللِّينُ والرُّحُم «1» والثاني أقرب أن يُرحَما به، قاله الفراء، وفيما بُدِّلا به قولان: أحدهما: جارية، قاله الأكثرون. وروى عطاء عن ابن عباس، قال: أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيّاً. والثاني: غلام مسلم، قاله ابن جريج. قوله تعالى: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ يعني: القرية المذكورة في قوله تعالى: أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ، قال مقاتل: واسمهما: أصرم، وصريم. قوله تعالى: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما فيه ثلاثة أقوال «2» :

_ صحيح. أخرجه مسلم 2380 ح 172 عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر به مطولا. وأخرجه أبو داود 4705، وأحمد 5/ 121، وابن حبان 6221 من طرق عن معتمر به. وأخرجه أبو داود 4706 والترمذي 3150 من طريقين عن أبي إسحاق به. وكلهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب به.

[سورة الكهف (18) : الآيات 83 إلى 88]

(942) أحدها: أنه كان ذهباً وفضة، رواه أبو الدّرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقال الحسن، وعكرمة، وقتادة: كان مالاً. والثاني: أنه كان لوحاً من ذهب، فيه مكتوب: عجباً لمن أيقن بالقدر ثم هو يَنْصَب، عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجباً لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجباً لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، عجباً لمن يؤمن بالحساب كيف يغفُل، عجباً لمن رأى الدنيا وتقلُّبَها بأهلها كيف يطمئن إِليها، أنا الله الذي لا إِله إِلا أنا، محمد عبدي ورسولي وفي الشِّق الآخر: أنا الله لا إِله إِلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقتُ الخير والشَّر، فطوبى لمن خلقتُه للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته لمن خلقتُه للشر وأجريتُه على يديه، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن الأنباري: فسُمِّي كنزاً من جهة الذَّهب، وجعل اسمه هو المغلَّب. والثالث: كنز علم، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: صُحُف فيها عِلْم وبه قال سعيد بن جبير، والسدي. قال ابن الأنباري: فيكون المعنى على هذا القول: كان تحته مثل الكنز، لأنه يُتعجَّل من نفعه أفضل مما يُنال من الأموال. قال الزجاج: والمعروف في اللغة: أن الكنز إِذا أُفرد، فمعناه: المال المدفون المدَّخَر، فاذا لم يكن المال، قيل: عنده كنز علم، وله كنز فهم، والكنز ها هنا بالمال أشبه، وجائز أن يكون الكنز كان مالاً، مكتوب فيه علم، على ما روي، فهو مال وعِلْم عظيم. قوله تعالى: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قال ابن عباس: حُفِظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاحاً. وقال جعفر بن محمّد: كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء. وقال مقاتل: كان أبوهما ذا أمانة. قوله تعالى: فَأَرادَ رَبُّكَ قال ابن الأنباري: لمّا كان قوله: «فأردت» «فأردنا» كل واحد منهما يصلح أن يكون خبراً عن الله عزّ وجلّ، وعن الخضر، أتبعهما بما يحصر الإِرادة عليه، ويزيلها عن غيره، ويكشف البُغية من اللفظتين الأولَيين. وإِنما قال: «فأردتُ» «فأردنا» «فأراد ربُّك» ، لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتِّفاقه مع تساوي المعاني، لأنه أعذب على الألسن، وأحسن موقعاً في الأسماع، فيقول الرجل: قال لي فلان كذا، وأنبأني بما كان، وخبَّرني بما نال. فأما «الأَشُدُّ» فقد سبق ذكره في مواضع «1» . ولو أن الخضر لم يُقِم الحائط لنُقض وأُخِذ ذلك الكنز قبل بلوغهما. قوله تعالى: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي: رحمهما الله بذلك. وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي قال قتادة: كان عبداً مأموراً. فأما قوله: تَسْطِعْ فإن «استطاع» و «اسطاع» بمعنى واحد. [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 88] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88)

_ ضعيف جدا. أخرجه الترمذي 3152 والحاكم 2/ 369 والواحدي في «الوسيط» 3/ 162 وابن عدي في «الكامل» 7/ 268 من حديث أبي الدرداء. وضعفه الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 742 وفي إسناده يزيد بن يوسف الصنعاني، وهو متروك. قلت: وهذا الخبر وإن لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم، فمعناه صحيح وهو أن الكنز إنما هو مال أو ذهب أو فضة.

قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «1» . واختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال «2» : أحدها: عبد الله، قاله عليّ رضي الله عنه، وروي عن ابن عباس أنه عبد الله بن الضحاك. والثاني: الاسكندر، قاله وهب. والثالث: عيِّاش، قاله محمد بن علي بن الحسين. والرابع: الصعب بن جابر بن القلمس، ذكره ابن أبي خيثمة. وفي علَّة تسميته بذي القرنين عشرة أقوال: أحدها: أنه دعا قومه إِلى الله تعالى، فضربوه على قرنه فهلك، فغبر زماناً، ثم بعثه الله، فدعاهم إِلى الله فضربوه على قرنه الآخر فهلك، فذانك قرناه، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أنه سمي بذي القرنين، لأنه سار إِلى مغرب الشمس وإِلى مطلعها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس. والرابع: لأنه رأى في المنام كأنه امتد من السماء إِلى الأرض وأخذ بقرني الشمس، فقصَّ ذلك على قومه، فسمِّي بذي القرنين. والخامس: لأنه مَلَك الروم وفارس. والسادس: لأنه كان في رأسه شبه القرنين، رويت هذه الأقوال الأربعة عن وهب بن منبِّه. والسابع: لأنه كانت له غديرتان من شعر، قاله الحسن. قال ابن الأنباري: والعرب تسمي الضفيرتين من الشعر غديرتين، وجميرتين، وقرنين قال: ومن قال: سمي بذلك لأنه ملك فارس والروم، قال: لأنهما عاليان على جانبين من الأرض يقال لهما: قرنان. والثامن: لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت ذوي شرف. والتاسع: لأنه انقرض في زمانه قرنان من الناس، وهو حيّ. والعاشر: لأنه سلك الظلمة والنور، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو إِسحاق الثعلبي. واختلفوا هل كان نبيّاً، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه كان نبيّاً، قاله عبد الله بن عمرو، والضحاك بن مزاحم. والثاني: أنه كان عبداً صالحاً، ولم يكن نبيّاً، ولا مَلكاً، قاله عليّ رضي الله تعالى عنه. وقال وهب: كان ملكاً، ولم يوح إِليه.

_ (1) سورة الإسراء: 85. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 128: ذكر الأزرقي وغيره أن الإسكندر الأول المذكور في القرآن هو الذي طاف بالبيت مع إبراهيم عليه السلام أول ما بناه وآمن به واتبعه. وكان معه الخضر عليه السلام. وقرّب إلى الله قربانا وقد ذكرنا طرفا صالحا من أخباره في كتاب «البداية والنهاية» بما فيه الكفاية ولله الحمد. وأما الإسكندر الثاني الذي كان من الروم بن فيليبس المقدوني اليوناني الذي تؤرخ به الروم وقد كان قبل المسيح عليه السلام بنحو من ثلاثمائة سنة. والحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم لما سئل عن ذي القرنين: «أنه شاب من الروم، وأنه بنى الإسكندرية ... » فيه طول ونكارة ورفعه لا يصح وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل اه. قلت: هذا الحديث ضعيف جدا، وهو مرسل، ولو صح هذا مرفوعا لما اختلف الناس في سبب تسميته بذلك، والأشبه كونه من كلام بعض أئمة التفسير. وقد أخرجه الطبري 23275. وله ثلاث علل ضعف ابن لهيعة وشيخه عبد الرحمن بن غنم، وجهالة رواته، فهو شبه موضوع. وانظر «تفسير القرطبي» 4192 و «تفسير الشوكاني» 1524 بتخريجنا.

وفي زمان كونه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من القرون الأُوَل من ولد يافث بن نوح، قاله عليّ رضي الله تعالى عنه. والثاني: أنه كان بعد ثمود، قاله الحسن. ويقال: كان عمره ألفاً وستمائة سنة. والثالث: أنه كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، قاله وهب. قوله تعالى: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أي: خبراً يتضمن ذِكْره. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي: سهَّلْنا عليه السَّير فيها. قال علي رضي الله عنه: إِنه أطاع الله، فسخَّر له السحاب فحمله عليه، ومَدَّ له في الأسباب، وبسط له النُّور، فكان الليل والنهار عليه سواء، وقال مجاهد: ملك الأرض أربعة: مؤمنان، وكافران سليمان بن داود، وذو القرنين والكافران: النّمرود، وبخت نصّر. قوله تعالى: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً قال ابن عباس: عِلْماً يتسبب به إِلى ما يريد. وقيل: هو العِلْم بالطُّرق والمسالك. قوله تعالى: فَأَتْبَعَ سَبَباً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «فاتَّبع سبباً» «ثم اتَّبع سبباً» «ثم اتَّبع سبباً» مشددات التاء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «فأتبع سبباً» «ثم أتبع سبباً» «ثم أتبع سبباً» مقطوعات. قال ابن الأنباري: من قرأ «فاتَّبع سبباً» فمعناه: قفا الأثر، ومن قرأ «فأتبع» فمعناه: لحق يقال: اتَّبَعَني فلان، أي تَبِعَني، كما يقال: الحقني، بمعنى: لَحِقَني. وقال أبو علي: «أتبع» تقديره: أتبع سبباً سبباً، فأتبع ما هو عليه سبباً، والسبب: الطريق، والمعنى: تبع طريقاً يؤدِّيه إِلى مَغْرِب الشمس. وكان إِذا ظهر على قوم أخذ منهم جيشاً فسار بهم إِلى غيرهم. قوله تعالى: وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «حمئة» ، وهي قراءة ابن عباس. وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «حامية» ، وهي قراءة عمرو، وعلي، وابن مسعود، وابن الزّبير، ومعاوية، وأبي عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والنخعي، وقتادة، وأبي جعفر، وشيبة، وابن محيصن، والأعمش، كلُّهم لم يهمز. قال الزجاج: فمن قرأ: «حمئة» أراد في عَيْنٍ ذاتِ حَمْأَة. يقال: حَمَأْتُ البئر: إِذا أخرجتَ حَمْأتَها وأَحْمَأْتُها: إِذا ألقيتَ فيها الحَمْأَة. وحمئت فهي حمئة: إِذا صارت فيها الحَمْأَة. ومن قرأ: «حامية» بغير همز أراد: حارّة. وقد تكون حارَّة ذاتَ حَمْأَة. وروى قتادة عن الحسن، قال: وجدها تَغْرُب في ماءٍ يغلي كغليان القدور وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً لباسهم جلود السِّباع، وليس لهم طعام إِلا ما أحرقت الشمس من الدوابّ إِذا غربت نحوها، وما لفظت العين من الحيتان إِذا وقعت فيها الشمس. وقال ابن السائب: وجد عندها قوماً مؤمنين وكافرين، يعني عند العين. وربما توهَّم متوهِّم أن هذه الشمس على عِظَم قدْرها تغوص بذاتها في عين ماءٍ، وليس كذلك. فإنها أكبر من الدنيا مرارا، فكيف يسعها عين ماء، وقيل: إِن الشمس بقدر الدنيا مائة وخمسين مَرَّة، وقيل: بقدر الدنيا مائة وعشرين مَرَّة، والقمر بقدر الدنيا ثمانين مرة وإِنما وجدها تغرب في العين كما يرى راكب البحر الذي لا يرى طَرَفه أن الشمس تغيب في الماء، وذلك لأن ذا القرنين انتهى إلى آخر البنيان فوجد عيناً حَمِئة ليس بعدها أحد. قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ فمن قال: إِنه نبيّ، قال: هذا القول وحي ومن قال: ليس بنبي، قال: هذا إِلهام. قوله تعالى: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ قال المفسرون: إِما أن تقتلَهم إن أبوا ما تدعوهم إليهم، وإِما أن تأسرهم، فتبصِّرهم الرشد. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ أي: أشرك فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل إِذا لم يرجع عن الشرك. وقال الحسن: كان يطبخهم في القدور، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ بعد العذاب فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً بالنار.

[سورة الكهف (18) : الآيات 89 إلى 91]

قوله تعالى: فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «جزاءُ الحسنى» برفع مضاف. قال الفراء: «الحسنى» : الجنة، وأضيف الجزاءُ إِليها، وهي الجزاء، كقوله: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) «1» دِينُ الْقَيِّمَةِ «2» وَلَدارُ الْآخِرَةِ «3» قال أبو علي الفارسي: المعنى: فله جزاء الخلال الحسنى، لأن الإِيمان والعمل الصالح خِلال. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، ويعقوب: «جزاءً» بالنصب والتنوين قال الزجاج: وهو مصدر منصوب على الحال، المعنى: فله الحسنى مجزيّا بها جزاء. قال ابن الأنباري: وقد يكون الجزاء غير الحسنى إِذا تأوَّل الجزاء بأنه الثواب والحسنى: الحسنة المكتسبة في الدنيا، فيكون المعنى: فله ثواب ما قدَّم من الحسنات. قوله تعالى: وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي: نقول له قولا جميلا. [سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 91] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) قوله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي: طريقا آخر يوصله إِلى المَشْرِق. قال قتادة: مضى يفتح المدائن ويجمع الكنوز ويقتل الرجال إِلا من آمن حتى أتى مطلع الشمس فأصاب قوماً في أسرابٍ عراةً، ليس لهم طعام إِلا ما أحرقت الشمس إِذا طلعت، فإذا توسطت السماء خرجوا من أسرابهم في طلب معايشهم مما أحرقته الشمس. وبلغَنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان، فيقال: إنهم الزّنج. وقال الحسن: إِذا غربت الشمس خرجوا يتراعَون كما يتراعى الوحش. وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محيصن: «مَطْلَع الشمس» بفتح اللام. قال ابن الأنباري: ولا خلاف بين أهل العربية في أن المَطْلِع، والمَطْلَع كلاهما يعنى بهما المكانُ الذي تطلع منه الشمس. ويقولون: ما كان على فَعَل يَفْعُل، فالمصدر واسم الموضع يأتيان على المَفْعَل، كقولهم: المَدْخَل، للدخول، والموضِع الذي يُدخَل منه، إِلا أحد عشر حرفاً جاءت مكسورة إِذا أريد بها المواضع، وهي: المَطْلِع، والمَسْكِن، والمَنْسِك، والمَشْرِق، والمَغرِب، والمَسْجِد، والمَنْبِت، والمَجْزِر، والمَفْرِق، والمَسْقِط، والمَهْبِل، الموضع الذي تضع فيه الناقة وخمسة من هؤلاء الأحد عشر حرفاً سُمع فيهن الكسر والفتح: المَطْلِع، والمَطْلَع. والمَنْسِك، والمَنْسَك. والمَجْزِر، والمَجْزَر. والمَسْكِن، والمَسْكَن. والمَنْبِت، والمَنْبَت فقرأ الحسن على الأصل من احتمال المَفْعل الوجهين الموصوفين، بفتح العين وكسرها وقراءة العامة على اختيار العرب وما كثر على ألسنتها، وخصت المَوْضِع بالكسر، وآثرت المصدر بالفتح. قال أبو عمرو: المطلِع، بالكسر: الموضع الذي تطلع فيه والمطلَع، بالفتح: الطُّلوع قال ابن الأنباري: هذا هو الأصل، ثم إِن العرب تتسع فتجعل الاسم نائباً عن المصدر، فيقرؤون: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ «4» بالكسر وهم يعنون الطُّلوع ويقرأ من قرأ مَطْلِعَ الشَّمْسِ بالفتح على أنه موضع بمنزلة المدخل الذي هو اسم للموضع الذي يدخل منه.

_ (1) سورة الحاقة: 51. (2) سورة البينة: 5. (3) سورة النحل: 30. [.....] (4) سورة القدر: 5.

[سورة الكهف (18) : الآيات 92 إلى 98]

قوله تعالى: كَذلِكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: كما بلغ مَغْرِب الشمس بلغ مطلعها. والثاني: أتبع سبباً كما أتبع سبباً. والثالث: كما وجد أولئك عند مَغْرِب الشمس وحكم فيهم، كذلك وجد هؤلاء عند مطلعها وحكم فيهم. والرابع: أن المعنى: كذلك أمْرُهم كما قصصنا عليك ثم استأنف فقال: وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ أي: بما عنده ومعه من الجيوش والعدد. وحكى أبو سليمان الدمشقي: «بما لديه» أي: بما عند مطلع الشمس. وقد سبق معنى الخبر «1» . [سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 98] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) قوله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي: طريقا ثالثاً بين المَشْرِق والمَغْرِب حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قال وهب بن منبه: هما جبلان منيفان في السماء، من ورائهما البحر، ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطَع أرض التُّرك مما يلي بلاد أرمينية. وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: الجبلان من قِبَل أرمينية وأذربيجان. واختلف القراء في «السدّين» فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم بفتح السين. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بضمها. وهل المعنى واحد، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه واحد. قال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فسَدَّ ما وراءه، فهو سَدٌّ، وسُدٌّ، نحو: الضَّعف والضُّعف، والفَقر والفُقر. قال الكسائي، وثعلب: السَّد والسُّد لغتان بمعنى واحد، وهذا مذهب الزجاج. والثاني: أنهما يختلفان. وفي الفرق بينهما قولان: أحدهما: أن ما هو من فعل الله تعالى فهو مضموم، وما هو من فعل الآدميين فهو مفتوح، قاله ابن عباس، وعكرمة، وأبو عبيدة. قال الفراء: وعلى هذا رأيت المشيخة وأهل العلم من النحويين. والثاني: أن السَّد، بفتح السين: الحاجز بين الشيئين، والسُدُّ، بضمها: الغشاوة في العَيْن، قاله أبو عمرو بن العلاء. قوله تعالى: وَجَدَ مِنْ دُونِهِما يعني: أمام السّدّ قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «يفقهون» بفتح الياء، أي: لا يكادون يفهمونه. قال ابن الأنباري: كقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «2» قال المفسّرون: وإن كانوا كذلك لأنهم لا يعرفون غير لغتهم. وقرأ حمزة، والكسائي: «يُفْقِهُون» بضم الياء، أراد: يُفْهِمُون غيرهم. وقيل: كلَّم ذا القرنين عنهم مترجِمون ترجموا. قوله تعالى: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هما: اسمان أعجميان، وقد همزهما عاصم. قال الليث: الهمز لغة رديئة. قال ابن عباس: يأجوج رجل، وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام، فيأجوج ومأجوج عشرة

_ (1) سورة الكهف: 68. (2) سورة البقرة: 71.

أجزاء، وولد آدم كلُّهم جزء، وهم شِبْر وشبران وثلاثة أشبار. وقال عليّ رضي الله عنه: منهم مَنْ طوله شِبْر، ومنهم من هو مُفْرِط في الطُّول، ولهم من الشَّعر ما يواريهم من الحَرِّ والبَرْد. وقال الضحاك: هم جيل من التُّرك. وقال السدي: التُرك سريّة من يأجوج ومأجوج خرجت تُغِير، فجاء ذو القرنين فضرب السَّد، فبقيت خارجه. (943) وروى شقيق عن حذيفة، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن يأجوج ومأجوج، فقال: «يأجوج أُمَّة، ومأجوج أُمَّة، كل أُمَّة أربعمائة ألف أُمَّة، لا يموت الرجُل منهم حتى ينظر إِلى ألف ذَكَر بين يديه من صُلْبه كُلٌّ قد حمل السلاح» قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا، قال: «هم ثلاثة أصناف، صنف منهم أمثال الأرز» قلت: يا رسول الله: وما الأرز؟ قال: «شجر بالشام، طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء وصنف منهم عرضه وطوله سواء، عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه، ويلتحف بالأخرى ولا يمرُّون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إِلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدّمتهم بالشّام، وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية» . قوله تعالى: مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ في هذا الفساد أربعة أقوال: أحدها: أنهم كانوا يفعلون فِعْل قوم لوط، قاله وهب بن منبِّه. والثاني: أنهم كانوا يأكلون الناس، قاله سعيد بن عبد العزيز. والثالث: يُخرِجون إِلى الأرض الذين شَكَوْا منهم أيام الربيع، فلا يَدَعون شيئاً أخضر إِلا أكلوه، ولا يابساً إِلا احتملوه إِلى أرضهم، قاله ابن السائب. والرابع: كانوا يقتلون الناس، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: «خَرجاً» بغير ألف. وقرأ حمزة، والكسائي: «خراجاً» بألف. وهل بينهما فرق؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد، قاله أبو عبيدة، والليث. والثاني: أن الخَرْجَ: ما تبرعت به، والخراج: ما لزمك أداؤه، قاله أبو عمرو بن العلاء. قال المفسرون: المعنى: هل نُخرج إِليك من أموالنا شيئاً كالجُعل لك؟ قوله تعالى: ما مَكَّنِّي وقرأ ابن كثير: «مكَّنَني» بنونين، وكذلك هي في مصاحف مكة. قال الزجاج: من قرأ: «مكَّنِّي» بالتشديد، أدغم النون في النون لاجتماع النونى. ومن قرأ: «مكَّنني» أظهر النونين، لأنهما من كلمتين، الأولى من الفعل، والثانية تدخل مع الاسم المضمر. وفي الذي أراد بتمكينه منه قولان: أحدهما: أنه العِلْم بالله، وطلب ثوابه. والثاني: ما ملك من الدنيا. والمعنى: الذي أعطاني الله خير مما تبذلون لي. قوله تعالى: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ فيها قولان: أحدهما: أنها الرجال، قاله مجاهد، ومقاتل. والثاني: الآلة، قاله ابن السائب. فأما الرَّدْم، فهو: الحاجز قال الزجاج: والرَّدْم في اللغة أكبر من السدِّ، لأن الرَّدْم: ما جُعل بعضه على بعض، يقال: ثوب مُرَدَّم: إِذا كان قد رقِّع رقعة فوق رقعة. قوله تعالى:

_ موضوع. أخرجه ابن عدي 6/ 169 وابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 206 من حديث حذيفة، وأعله ابن عدي بمحمد بن إسحاق العكاشي، وأنه يضع الحديث، وحكم هو وابن الجوزي بوضعه. وانظر «تفسير القرطبي» 4197 بتخريجنا.

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ قرأ الجمهور: «ردماً آتوني» أي: أعطوني. وروى أبو بكر عن عاصم: «ردم ائتوني» بكسر التنوين، أي: جيئوني بها. قال ابن عباس: احملوها إِليَّ. وقال مقاتل: أعطوني. وقال الفرّار: المعنى: ائتوني بها، فلما ألقيت الياء زيدت ألف. فأما الزُّبُر، فهي: القِطَع، واحدتها: زُبْرَة والمعنى: فأَتَوه بها فبناه، حَتَّى إِذا ساوى وروى أبان «إِذا سوَّى» بتشديد الواو من غير ألف. قال الفراء: ساوى وسوَّى سواء. واختلف القراء في الصَّدَفَيْنِ فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «الصُّدُفَين» بضم الصاد والدال، وهي: لغة حِمْيَر. وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم: «الصُّدْفين» بضم الصاد وتسكين الدال. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، بفتح الصاد والدال جميعاً، وهي لغة تميم، واختارها ثعلب. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء وابن يعمر: «الصَّدُفين» بفتح الصاد ورفع الدال. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والزهري، والجحدري برفع الصاد وفتح الدال. قال ابن الأنباري: ويقال: صُدَف، على مثال نُغَر، وكل هذه لغات في الكلمة. قال أبو عبيدة: الصَّدَفان: جَنْبا الجبل. قال الأزهري يقال لجانبي الجبل: صَدَفان، إِذا تحاذيا، لتصادفهما، أي: لتلاقيهما. قال المفسرون: حشا ما بين الجبلين بالحديد، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم، ووضع عليها المنافيخ، ثم قالَ انْفُخُوا فنفخوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ يعني: الحديد، وقيل: الهاء ترجع إِلى ما بين الصدفين ناراً أي: كالنار، لأن الحديد إِذا أحمي بالفحم والمنافيخ صار كالنار، قالَ آتُونِي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: «آتوني» ممدودة، والمعنى: أعطوني، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: «ائتوني» مقصورة والمعنى: جيئوني به أُفرغه عليه. وفي القِطْر أربعة أقوال: أحدها: أنه النحاس، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، والزجاج. والثاني: أنه الحديد الذائب، قاله أبو عبيدة. والثالث: الصُّفْر المُذاب، قاله مقاتل. والرابع: الرصاص، حكاه ابن الأنباري. قال المفسرون: أذاب القِطْر ثم صبَّه عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلاً صلداً من حديد وقِطْر. قال قتادة: فهو كالبرد المحبر، طريقة سوداء وطريقة حمراء. قوله تعالى: فَمَا اسْطاعُوا أصله: فما «استطاعوا» فلما كانت التاء والطاء من مخرج واحد أحبُّوا التخفيف فحذفوا. قال ابن الأنباري: إِنما تقول العرب: اسطاع، تخفيفاً، كما قالوا: سوف يقوم، أو سو يقوم، فأسقطوا الفاء. قوله تعالى: أَنْ يَظْهَرُوهُ أي: يعلوه يقال: ظهر فلان فوق البيت: إِذا علاه، والمعنى: ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وامِّلاسه وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً من أسفله، لشدته وصلابته. (944) وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إِن يأجوج ومأجوج ليَحفرون السدَّ كل يوم،

_ أخرجه ابن ماجة 4199 والحاكم 4/ 448 والواحدي في «الوسيط» 3/ 168 من طريق قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة به. وصححه الحاكم على شرطهما، وسكت الذهبي! وقال البوصيري: إسناده صحيح، رجاله ثقات. وقال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 110: إسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا نقبه، لإحكام بنائه وصلابته ثم ذكر ابن كثير أحاديث صحيحة مثل «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وهذا متفق عليه، وفيه أن ما فتح من الردم شيء يسير، فهو يخالف ما ذكره المصنف من الحديث، وأنه يظهر لهم شعاع الشمس، والله أعلم، وانظر بقية كلام ابن كثير عند هذه الآية بتخريجي، وانظر «تفسير الشوكاني» 1530. بتخريجنا.

[سورة الكهف (18) : الآيات 99 إلى 101]

حتى إِذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا، فستحفرونه غداً، فيعودون إِليه، فيرونه كأشد ما كان، حتى إِذا بلغت مدّتهم، وأراد الله عزّ وجلّ أن يبعثهم على الناس، حفروا، حتى إِذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم: ارجعوا، فستحفرونه غداً إِن شاء الله، ويستثني، فيعودون إِليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس» وذكر باقي الحديث وقد ذكرت هذا الحديث بطوله وأشباهه في كتاب «الحدائق» فكرهت التّطويل ها هنا. قوله تعالى: قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي لمّا فرغ ذو القرنين من بنيانه قال هذا. وفيما أشار إِليه قولان: أحدهما: أنه الرَّدم، قاله مقاتل قال: فالمعنى: هذا نِعْمة من ربِّي على المسلمين لئلا يخرجوا إِليهم. والثاني: أنه التمكين الذي أدرك به عمل السد، قاله الزجاج. قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي فيه قولان: أحدهما: القيامة. والثاني: وعده لخروج يأجوج ومأجوج. قوله تعالى: جَعَلَهُ دَكَّاءَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «دكّاً» منوناً غير مهموز ولا ممدود. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ: دكّاء مهموزة بلا تنوين. وقد شرحنا معنى الكلمة في سورة الأعراف «1» . قوله تعالى: وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي: بالثواب والعقاب. [سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 101] وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) قوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ في المشار إِليهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يأجوج ومأجوج. ثم في المراد ب «يومئذ» قولان: أحدهما: أنه يوم انقضى أمر السدِّ، تُركوا يموج بعضهم في بعض من ورائه مختلطين لكثرتهم وقيل: ماجوا متعجبين من السدِّ. والثاني: أنه يوم يخرجون من السدِّ تُركوا يموج بعضهم في بعض. والثاني: أنهم الكفار. والثالث: أنهم جميع الخلائق: الجن والإِنس يموجون حيارى. فعلى هذين القولين، المراد باليوم المذكور يوم القيامة. قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ هذه نفخة البعث. وقد شرحنا معنى «الصّور» في سورة الأنعام «2» . قوله تعالى: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أي: أظهرناها لهم حتى شاهدوها. قوله تعالى: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ يعني: أعين قلوبهم فِي غِطاءٍ أي: في غفلةٍ عَنْ ذِكْرِي أي: عن توحيدي والإِيمان بي وبكتابي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً هذا لعداوتهم وعنادهم وكراهتهم ما يُنْذَرون به، كما تقول لمن يكره قولك: ما تقدر أن تسمع كلامي. [سورة الكهف (18) : آية 102] أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قوله تعالى: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: أفَظَنَّ المشركون أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي في هؤلاء العباد ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الشياطين، قاله ابن عباس. والثاني: الأصنام، قاله مقاتل. والثالث: الملائكة والمسيح وعزير وسائر المعبودات من دونه، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: مِنْ دُونِي فتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو. وجواب الاستفهام في هذه الآية محذوف، وفي تقديره قولان: أحدهما:

_ (1) سورة الأعراف: 143. (2) سورة الأنعام: 73.

[سورة الكهف (18) : الآيات 103 إلى 106]

أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء، كلا بل هم أعداءٌ لهم يتبرؤون منهم. والثاني: أن يتخذوهم أولياء ولا أغضبُ ولا أعاقُبهم. وروى أبان عن عاصم، وزيد عن يعقوب: «أَفَحَسْبُ» بتسكين السين وضمّ الباء، وهي قراءة عليّ، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن يعمر، وابن محيصن ومعناها: أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء؟ فأما النُّزُل ففيه قولان: أحدهما: أنه ما يُهيَّأَ للضيف والعسكر، قاله ابن قتيبة. والثاني: أنه المنزل، قاله الزّجّاج. [سورة الكهف (18) : الآيات 103 الى 106] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا فيهم قولان: أحدهما: أنهم القسِّيسون والرهبان، قاله عليّ، والضحاك. والثاني: اليهود والنصارى، قاله سعد بن أبي وقاص. قوله تعالى: أَعْمالًا منصوب على التمييز، لأنه لما قال: بِالْأَخْسَرِينَ كان ذلك مبهماً لا يدل على ما خسروه، فبيَّن ذلك في أي نوع وقع. قوله تعالى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أي: بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم. فرؤساؤهم يعلمون الصحيح، ويؤثرون الباطل لبقاء رئاستهم، وأتباعُهم مقلِّدون بغير دليل. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ جحدوا دلائل توحيده، وكفروا بالبعث والجزاء، وذلك أنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم والقرآن، صاروا كافرين بهذه الأشياء فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي: بطل اجتهادهم، لأنه خلا عن الإِيمان فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً وقرأ ابن مسعود، والجحدري: «فلا يُقيم» بالياء. وفي معناه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إِنما يثقل الميزان بالطاعة، وإِنما توزن الحسنات والسيئات، والكافر لا طاعة له. والثاني: أن المعنى: لا نُقيم لهم قَدْراً. قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية: يقال: ما لفلان عندنا وزن، أي: قَدْر، لخسَّته. فالمعنى: أنهم لا يُعتدُّ بهم، ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة. (945) روى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة، اقرءوا إِن شئتم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» . والثالث: أنه قال: «فلا نقيم لهم» لأن الوزن عليهم لا لهم، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ أي: الأمر ذلك الذي ذكرت من بطلان عملهم وخِسَّة قدرهم، ثم ابتدأ فقال: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ، وقيل: المعنى: ذلك التصغير لهم، وجزاؤهم جهنم، فأضمرت واو الحال. قوله تعالى: بِما كَفَرُوا أي: بكفرهم واتخاذهم آياتِي التي أنزلتها وَرُسُلِي هُزُواً أي: مهزوءا به. [سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 108] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)

_ صحيح. أخرجه البخاري 4729 ومسلم 2785 والواحدي في الوسيط 3/ 170 والبيهقي في «الشعب» 5670 كلهم عن أبي هريرة مرفوعا.

قوله تعالى: كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ قال ابن الأنباري: كانت لهم في علم الله قبل أن يُخلَقوا. وروى البخاري ومسلم في (الصحيحين) من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: (946) «جِنانُ الفردوس أربع، ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيها، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم إِلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» . (947) وروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها، ومنها تفجَّر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس» . قال أبو أمامة: الفردوس سرّة الجنة. قال مجاهد: الفردوس: البستان بالرومية. وقال كعب، والضحاك: «جنات الفردوس» : جنات الأعناب. قال الكلبي، والفراء: الفردوس: البستان الذي فيه الكرم. وقال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر الملتفّ، والأغلب عليه العنب. وقال ثعلب: كل بستان يحوّط عليه فهو فردوس، قال عبد الله بن رواحة: في جنان الفردوس ليس يخافون ... خروجاً عنها ولا تحويلا وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قال الزجاج: الفردوس أصله رومي أعرب، وهو البستان، كذلك جاء في التفسير، وقد قيل: الفردوس تعرفه العرب، وتسمي الموضع الذي فيه كرم: فردوساً. وقال أهل اللغة: الفردوس مذكَّر، وإِنما أنث في قوله تعالى: يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ «1» . لأنه عنى به الجنة. وقال الزجاج: وقيل: الفردوس: الأودية التي تنبت ضروباً من النبت، وقيل: هو بالرومية منقول إِلى لفظ العربية، قال: والفردوس أيضاً بالسريانية كذا لفظه: فردوس، قال: ولم نجده في أشعار العرب إِلا في شعر حسان، وحقيقته أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين، لأنه عند أهل كل لغة كذلك، وبيت حسان: فَإِنِّ ثَوَابَ اللهِ كلَّ مُوَحِّدٍ ... جِنَانٌ مِنَ الفردوس فيها يخلّد «2»

_ صحيح. أخرجه البخاري 4878 و 4880 و 7444 ومسلم 180 والترمذي 2528 وابن ماجة 186 وابن أبي عاصم في «السنة» 613 وأحمد 4/ 411 والدولابي في «الكنى» 2/ 71 وابن أبي داود في «البعث» 59 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 16 وابن حبان 7386 والبيهقي في «الاعتقاد» ص 130 والبغوي في «شرح السنة» 4275 والذهبي في «تذكرة الحفاظ» 1/ 270 من طرق عن أبي موسى الأشعري. وأخرجه أحمد 4/ 416 وابن أبي شيبة 13/ 148 والدارمي 2/ 333 والطيالسي 529 وابن مندة في «التوحيد» 781 من طريق أبي قدامة الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني به وأتم منه وكلهم عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن» . صحيح. أخرجه الترمذي 2531 وأحمد 5/ 316 والطبري 23406 و 23407 والحاكم 1/ 80 والبيهقي في «البعث» 248 من حديث عبادة بن الصامت، وإسناده صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وله شواهد كثيرة عند الطبري والبيهقي. وانظر «تفسير الشوكاني» 1536 بتخريجنا.

[سورة الكهف (18) : آية 109]

وقال ابن الكلبي باسناده: الفردوس: البستان بلغة الروم، وقال الفراء: وهو عربي أيضاً، والعرب تسمي البستان الذي فيه الكرم فردوساً. وقال السدي: الفردوس أصله بالنبطية «فرداسَا» . وقال عبد الله بن الحارث: الفردوس: الأعناب. وقد شرحنا معنى قوله: «نُزُلاً» «1» آنفاً. قوله تعالى: لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا قال الزجاج: لا يريدون عنها تحوُّلاً، يقال: قد حال من مكانه حِوَلاً، كما قالوا في المصادر: صَغُر صِغرَاً، وعَظُم عِظَماً، وعادَني حُبُّها عِوَداً قال: وقد قيل أيضاً: إِن الحِوَل: الحِيلة، فيكون المعنى: لا يحتالون مَنْزِلاً غيرها. فإن قيل: قد عُلم أن الجنة كثيرة الخير، فما وجه مدحها بأنهم لا يبغون عنها حِوَلاً؟ فالجواب: أن الإِنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه، فيحب أن ينتقل إِلى دار أخرى، وقد يملّ، والجنّة على خلاف ذلك. [سورة الكهف (18) : آية 109] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2» قالت اليهود: كيف وقد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس «3» . ومعنى الآية: لو كان ماء البحر مددا يُكتَب به. قال مجاهد: والمعنى: لو كان البحر مداداً للقلم، والقلم يكتب. وقال ابن الأنباري: سمي المداد مداداً لإِمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء. وقرأ الحسن، والأعمش: «مدداً لكلمات ربِّي» بغير ألف. قوله تعالى: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: «تنفد» بالتاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «ينفد» بالياء. قال أبو علي: التأنيث أحسن، لأن المُسنَد إِليه الفعلُ مؤنث، والتذكير حسن، لأن التأنيث ليس بحقيقي، وإِنما لم تنفد كلمات الله، لأن كلامه صفة من صفات ذاته، ولا يتطرق على صفاته النفاد، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ أي: بمثل البحر مَدَداً أي: زيادة والمدد: كل شيء زاد في شيء. فإن قيل: لم قال في أول الآية: «مددا» وفي آخرها: «مدداً» وكلاهما بمعنى واحد، واشتقاقهما غير مختلف؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: لما كان الثاني آخر آية، وأواخر الآيات ها هنا أتت على الفعل، والفعل، كقوله تعالى: «نُزُلاً» «هُزُواً» «حِوَلاً» كان قوله: «مَدَداً» أشبه بهؤلاء الألفاظ من المداد، واتفاقُ المقاطع عند أواخر الآي، وانقضاء الآيات، وتمام السجع والنثر، أخف على الألسن، وأحلى موقعاً في الأسماع، فاختلفت اللفظتان لهذه العلة. وقد قرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة، وابن محيصن: «ولو جئنا بمثله مددا» فحملوها على الأولى، ولم ينظروا إِلى المقاطع. وقراءة الأوّلين أبين حجّة، وأوضح منهاجا. [سورة الكهف (18) : آية 110] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قال ابن عباس: علَّم الله تعالى رسوله التّواضع لئلّا يزهى

_ (1) سورة الكهف: 102. (2) سورة الإسراء: 85. (3) تقدم.

على خلقه، فأمره أن يُقِرَّ على نفسه بأنه آدمي كغيره، إِلا أنه أُكرم بالوحي. قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ سبب نزولها أن جندب بن زهير العامريّ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: (948) إِني أعمل العمل لله تعالى فاذا اطُّلع عليه سرّني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِن الله طَيِّب لا يقبل إِلا الطيِّب، ولا يقبل ما روئي فيه» فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن عباس. (949) وقال طاوس: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: إِني أُحب الجهاد في سبيل الله وأُحب أن يُرى مكاني، فنزلت هذه الآية. (950) وقال مجاهد: جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: إِني أتصدق، وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إِلا لله تعالى، فيُذكَر ذلك مِنِّي وأُحمَد عليه فيسرُّني ذلك وأُعجَب به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. وفي قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا قولان: أحدهما: يخاف، قاله ابن قتيبة. والثاني: يأمل، وهو اختيار الزّجّاج. قال ابن الأنباري: المعنى: فمن كان يرجو لقاء ثواب ربِّه. قال المفسرون. وذلك يوم البعث والجزاء. فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً لا يرائي به وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً قال سعيد بن جبير: لا يرائي. قال معاوية بن أبي سفيان: هذه آخر آية نزلت من القرآن.

_ واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 604 عن ابن عباس بدون سند. وأخرجه ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة وابن عساكر عن طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس كما في «الدر» 4/ 459. وهذا إسناد ضعيف جدا، فيه السدي، وهو محمد بن مروان، متروك متهم، والكلبي هو محمد بن السائب متروك متهم بالكذب أيضا. وانظر «تفسير الشوكاني» 1538 بتخريجنا. ضعيف. أخرجه الطبري 23427 وعبد الرزاق في «تفسيره» 1728 عن طاوس مرسلا. هذا مرسل. ثم إن السورة مكية والخبر مدني، فهو واه، ولا يصح في سبب نزول هذه الآية شيء.

سورة مريم

سورة مريم وهي مكّيّة بإجماعهم من غير خلاف علمناه. وقال مقاتل: هي مكّيّة غير سجدتها، فإنها مدنيّة. وقال هبة الله المفسّر: هي مكّيّة غير آيتين منها، قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ والتي تليها «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) قوله تعالى: كهيعص قرأ ابن كثير: كهيعص (1) ذِكْرُ بفتح الهاء والياء وتبيين الدال التي في هجاء «صاد» . وقرأ أبو عمرو: «كهيعص» بكسر الهاء وفتح الياء ويدغم الدال في الذال، وكان نافع يلفظ بالهاء والياء بين الكسر والفتح، ولا يدغم الدال التي في هجاء «صاد» في الذال من «ذِكْر» . وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي، بكسر الهاء والياء. إِلا أن الكسائي لا يبيِّن الدال، وعاصم يُبيِّنها. وقرأ ابن عامر، وحمزة، بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان. وقرأ أُبيّ بن كعب: «كهيعص» برفع الهاء وفتح الياء. وقد ذكرنا في أول «البقرة» ما يشتمل على بيان هذا الجنس. وقد خصَّ المفسرون هذه الحروف المذكورة ها هنا بأربعة أقوال «2» : أحدها: أنها حروف من أسماء الله عزّ وجلّ، قاله الأكثرون. ثم اختلف هؤلاء في الكاف من أي اسم هو، على أربعة أقوال. أحدها: أنه من اسم الله الكبير. والثاني: من الكريم. والثالث: من الكافي، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: أنه من الملك، قاله محمد بن كعب. فأما الهاء، فكلُّهم قالوا: هي من اسمه الهادي، إِلا القرظي فإنه قال: من اسمه الله. وأما الياء، ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من حكيم. والثاني: من رحيم. والثالث: من أمين، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس. فأما العين، ففيها أربعة أقوال: أحدها: أنها من عليم. والثاني:

_ (1) سورة مريم: 59، 60. (2) تقدم الكلام على الحروف المقطّعة في أول سورة البقرة.

من عالم. والثالث: من عزيز، رواها أيضاً سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: أنها من عدل، قاله الضحاك. وأما الصاد، ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من صادق. والثاني: من صدوق، رواهما سعيد أيضا عن ابن عباس. والثالث: أنها من الصمد، قاله محمد بن كعب. والقول الثاني: أنّ «كهيعص» قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسمائه، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: هو اسم من اسماء الله تعالى. وروي عنه أنه كان يقول: يا كهيعص اغفر لي. قال الزجاج: والقَسَم بهذا والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد، لأن الداعي إِذا علم أن الدعاء بهذه الحروف يدلّ على صفات الله تعالى فدعا بها، فكأنه قال: يا كافي، يا هادي، يا عالم، يا صادق، وإِذا أقسم بها، فكأنه قال: والكافي الهادي العالم الصادق، وأُسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهجٍّ، النيَّة فيها الوقف. والثالث: أنه اسم للسورة، قاله الحسن، ومجاهد. والرابع: اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. فإن قيل: لم قالوا: هايا، ولم يقولوا في الكاف: كا، وفي العين: عا، وفي الصّاد: صا، لتتفق المباني كما اتفقت العلل؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة والخطبة، فيستقبحون فيها اتفاق الألفاظ واستواء الأوزان، كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم، فيغيِّرون بعض الكِلَم ليختلف الوزن وتتغيَّر المباني، فيكون ذلك أعذب على الألسن وأحلى في الأسماع. قوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ قال الزجاج: الذِّكر مرفوع بالمُضمَر، المعنى: هذا الذي نتلو عليك ذِكْر رحمة ربِّك عبدَه. قال الفراء: وفي الكلام تقديم وتأخير المعنى: ذِكْر ربِّك عبده بالرحمة، و «زكريا» في موضع نصب. قوله تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ النداء ها هنا بمعنى الدعاء. وفي علة إِخفائه لذلك ثلاثة أقوال: أحدها: ليبعد عن الرياء، قاله ابن جريج. والثاني: لئلا يقول الناس: انظروا إِلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكِبَر، قاله مقاتل. والثالث: لئلا يعاديه بنو عمه، ويظنوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وهذه القصة تدل على أن المستحب إِسرار الدعاء، ومنه الحديث: «إِنكم لا تدعون أصمّ» . قوله تعالى: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وقرأ معاذ القارئ، والضحاك: «وَهُن» بضم الهاء، أي: ضَعُف. قال الفراء وغيره: وَهَن العظم، ووَهِن، بفتح الهاء وكسرها والمستقبل على الحالين كليهما: يَهِن. وأراد أن قوَّة عظامه قد ذهبت لِكبَره وإِنما خصّ العظم، لأنه الأصل في التركيب. وقال قتادة: شكا ذهاب أضراسه. قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً يعني: انتشر الشيب فيه، كما ينتشر شعاع النار في الحطب، وهذا من أحسن الاستعارات. وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ أي: بدعائي إيّاك رَبِّ شَقِيًّا أي: لم أكن لأتعب بالدعاء ثم أُخيَّب، لأنك قد عودتَني الإِجابة يقال: شقي فلان بكذا: إِذا تعب بسببه، ولم ينل مراده. قوله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ يعني: الذين يلونه في النسب، وهم بنو العم والعَصبة مِنْ وَرائِي أي: من بعد موتي. وفي ما خافهم عليه قولان: أحدهما: أنه خاف أن يَرِثوه، قاله ابن عباس. فإن اعترض عليه معترض، فقال: كيف يجوز لنبيّ

أن يَنْفَس على قراباته بالحقوق المفروضة لهم بعد موته؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه لما كان نبيّاً، والنبيّ لا يورث، خاف أن يرِثوا ماله فيأخذوا ما لا يجوز لهم. والثاني: أنه غلب عليه طبع البشر، فأحبَّ أن يتولَّى مالَه ولدُه، ذكرهما ابن الأنباري. قلت: وبيان هذا أنه لا بد أن يتولّى ماله وإن لم يكن ميراثاً، فأحبَّ أن يتولاه ولده. والقول الثاني: أنه خاف تضييعهم للدِّين ونبذهم إِيّاه، ذكره جماعة من المفسرين. وقرأ عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وابن جبير، ومجاهد، وابن أبي سرح. عن الكسائي: «خَفَّت» بفتح الخاء وتشديد الفاء على معنى «قلَّت» فعلى هذا يكون إِنما خاف على عِلْمه ونبوَّته ألاَّ يُورَثا فيموت العِلْم. وأسكن ابن شهاب الزهري ياء «المواليْ» . قوله تعالى: مِنْ وَرائِي أسكن الجمهور هذه الياء، وفتحها ابن كثير في رواية قنبل. وروى عنه شبل: «ورايْ» مثل «عصايْ» . قوله تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي: من عندك وَلِيًّا أي: ولداً صالحاً يتولاَّني. قوله تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: «يَرِثُني ويَرِثُ» برفعهما. وقرا أبو عمرو، والكسائي: «يَرِثْني ويَرِثْ» بالجزم فيهما. قال أبو عبيدة: من قرأ بالرفع، فهو على الصفة للوليّ فالمعنى: هب لي وليّاً وارثاً، ومن جزم، فعلى الشرط والجزاء، كقولك: إِن وهبتَه لي ورثني. وفي المراد بهذا الميراث أربعة أقوال «1» : أحدها: يَرِثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوَّة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال أبو صالح. والثاني: يَرِثني العِلْم، ويَرِث من آل يعقوب المُلْكَ، فأجابه الله تعالى إِلى وراثة العِلْم دون المُلْك، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. والثالث: يَرِثني نبوَّتي وعِلْمي، ويَرِث من آل يعقوب النبوَّة أيضاً، قاله الحسن. والرابع: يَرِثني النبوَّة، ويرث من آل يعقوب الأخلاق، قاله عطاء، قال مجاهد: كان زكريا من ذرية يعقوب. وزعم الكلبي أن آل يعقوب كانوا أخواله، وأنه ليس بيعقوب أبي يوسف. وقال مقاتل: هو يعقوب بن ماثان، وكان يعقوب هذا وعمران- أبو مريم- أخوين. والصحيح: أنه لم يُرِد ميراثَ المال لوجوه: أحدها: أنه قد صحّ. عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: (951) «نحن معاشر الأنبياء لا نورَث، ما تركناه صدقة» .

_ أخرجه النسائي في «الكبرى» 6309 من طريق أحمد بن منصور عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن الزهري عن مالك بن أوس من حديث عمر. وقد تفرد النسائي من بين الأئمة الستة بهذا اللفظ، ورواية الأئمة لهذا الحديث هي بدون لفظ «معشر الأنبياء» ولم ينفرد أحمد بن منصور عن ابن عيينة بهذا اللفظ، بل تابعه-

_ الحميدي كما في «الفتح» 12/ 8. وأخرجه ابن عبد البر 8/ 175 من طريق مالك عن الزهري عن مالك بن أوس عن عمر عن أبي بكر مرفوعا، ومالك فمن فوقه رجال البخاري ومسلم، لكن الوهم ممن دون مالك فقد رواه الثقات عن مالك دون هذه اللفظة. وأخرجه باللفظ المذكور الهيثم بن كليب كما في «الفتح» 12/ 8 من حديث أبي بكر. وأخرجه الدارقطني في «العلل» كما في «الفتح» 12/ 8 من حديث أم هانئ عن فاطمة، عن أبي بكر مرفوعا، وسكت عليه الحافظ، وهو غريب جدا من هذا الوجه. وورد من حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد 2/ 463/ 9655 من طريق الثوري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا به. وأخرجه ابن عبد البر 8/ 175 من طريق الحميدي عن ابن عيينة عن أبي الزناد به. فهذه أشهر الكتب التي أوردت هذه اللفظة عن هؤلاء الأئمة. والحديث ورد عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما بدون هذه اللفظة وإنما هو بلفظ «لا نورث، ما تركنا صدقة» وفي رواية زيد في أوله «إنا» . أخرجه البخاري 4035 و 4036 و 4240 و 2241 و 6725 و 6726 ومسلم 1759 وأبو داود 2969 و 2970 وأحمد 1/ 9- 10 وابن حبان 4823 من حديث عائشة عن أبي بكر مرفوعا، وله قصة. وورد من مسند أبي بكر وعمر، أخرجه البخاري 2904 و 3094 ومسلم 1757 وأبو داود 2963 والترمذي 1610 والحميدي 22 وعبد الرزاق 9772 وأحمد 1/ 25 وأبو يعلى 2 و 3 و 4 وابن حبان 6608 مطولا. وورد من مسند عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري 4034 و 6730 ومسلم 1758 وأبو داود 2976 و 2977 وأحمد 6/ 145 وابن سعد 2/ 314 وابن حبان 6611 والبيهقي 6/ 302. - وورد من مسند أبي هريرة، بلفظ «لا يقتسم ورثتي بعدي دينارا، ما تركت بعد نفقة عيالي ومؤونة عاملي صدقة» . أخرجه البخاري 2776 و 3096 و 6729 ومسلم 1760 وأبو داود 2974 ومالك 20/ 993 وابن سعد 2/ 314 والحميدي 1134 وابن حبان 6609 و 6610 و 6612 والبيهقي 6/ 302 من طرق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وهذا هو اللفظ المشهور في حديث أبي هريرة، وهكذا رواه مالك في «الموطأ» وأصحاب الصحيح والكتب المشهورة. وهو عند مسلم هكذا من طريق ابن عيينة، وهذا هو الصحيح في هذا المتن. وللحديث شواهد أخرى، تبلغ به حد الصحة. دون لفظ «معاشر الأنبياء» . - وقال الحافظ في «الفتح» 12/ 8 ما ملخصه: وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» فقد أنكره جماعة من الأئمة، لكن أخرجه النسائي ... فذكر الطرق التي ذكرتها في أول هذا البحث، وقد نقلت عن الحافظ بعض ذلك، والله أعلم. قال ابن عبد البر في «التمهيد» 8/ 174- 175 ما ملخصه بعد أن ذكر حديث الباب: وفي حديثنا المذكور تفسير لقول الله عز وجل وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وفَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ... وتخصيص للعموم في ذلك، وإن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده، وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب وعلى هذا جماعة أهل العلم وسائر المسلمين إلا الروافض، وكذلك قولهم في يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لا يختلفون في ذلك، إلا ما روي عن الحسن قال: يرثني: مالي، ويرث من آل يعقوب: النبوة والحكمة، والدليل على صحة ما قال علماء المسلمين ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم «إنا معاشر الأنبياء ... » اه ... باختصار. وقال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» 12/ 81: ثم إن جمهور العلماء على أن جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لا يورثون، وحكى القاضي- عياض- عن الحسن أنه قال: عدم الإرث بينهم مختص بنبينا صلى الله عليه وسلّم لقوله تعالى عن زكريا ويَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وزعم أن المراد وراثة المال، وقال: لو أراد

[سورة مريم (19) : الآيات 7 إلى 11]

والثاني: أنه لا يجوز أن يتأسَّف نبيّ الله على مصير ماله بعد موته إِذا وصل إِلى وارثه المستحق له شرعاً. والثالث: أنه لم يكن ذا مال. (952) وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن زكريا كان نجاراً. قوله تعالى: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا قال اللغويون: أي: مرضيّاً، فصُرِف عن مفعول إِلى فَعيل، كما قالوا: مقتول وقتيل. [سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 11] يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) قوله تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ في الكلام إِضمار، تقديره: فاستجاب الله له فقال: «يا زكريّا إِنا نبشِّرك» . وقرأ حمزة: «نَبْشُرك» بالتّخفيف. وقد شرحنا هذا في سورة آل عمران «1» . قوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: لم يُسمَّ يحيى قبله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، وابن زيد، والأكثرون. فإن اعترض معترض، فقال: ما وجه المِدْحَة باسم لم يُسمَّ به أحد قبله، ونرى كثيراً من الأسماء لم يُسبَق إِليها؟ فالجواب: أن وجه الفضيلة أن الله تعالى تولَّى تسميته، ولم يَكِل ذلك إِلى أبويه، فسماه باسم لم يُسبَق إِليه. والثاني: لم تلد العواقر مثله ولداً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى: لم نجعل له نظيراً. والثالث: لم نجعل له من قبل مِثْلاً وشِبْهاً، قاله مجاهد. فعلى هذا يكون عدم الشَّبَه من حيث أنه لم يعص ولم يهمّ

_ وراثة النبوة، لم يقل وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي إذ لا يخاف الموالي على النبوة، ولقوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ، والصواب ما حكيناه عن الجمهور، أن جميع الأنبياء لا يورثون، والمراد بقصة زكريا وداود، وراثة النبوة، والله أعلم. وذكر الحافظ في «الفتح» 12/ 8- 6 بعض كلام ابن عبد البر الذي تقدم آنفا، ثم ذكر ما ذهب إليه الحسن، وأنه قول إبراهيم بن إسماعيل بن علية من الفقهاء. قال: وأخرج الطبري عن أبي صالح في الآية، حكاية عن زكريا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ قال: العصبة، ومن قوله يَرِثُنِي يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وأخرج من طريق قتادة عن الحسن نحوه، لكن لم يذكر المال، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن رفعه «رحم الله أخي زكريا: ما كان عليه من يرث ماله» . صحيح. أخرجه مسلم 2379 وأحمد 2/ 296- 405 وابن ماجة 2150 والطحاوي في «المشكل» 1/ 429 وابن حبان 5142، واستدركه الحاكم 2/ 590 كلهم من حديث أبي هريرة.

[سورة مريم (19) : الآيات 12 إلى 15]

بمعصية. وما بعد هذا مفسر في آل عمران «1» إِلى قوله: وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً. وفي معنى «كانت» قولان: أحدهما: انه توكيد للكلام، فالمعنى: وهي عاقر، كقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «2» أي: أنتم. والثاني: أنها كانت منذ كانت عاقراً، لم يحدُث ذلك بها، ذكرهما ابن الأنباري، واختار الأول. قوله تعالى: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «عتيّا» و «بكيّا» «3» و «صليّا» «4» بضم أوائلها. وقرأ حمزة، والكسائي، بكسر أوائلها، وافقهما حفص عن عاصم، إِلا في قوله: «بُكيّاً» فإنه ضم أوله. وقرأ ابن عباس، ومجاهد: «عُسِيّاً» بالسين قال مجاهد: «عتيّاً» هو قُحُول العظم. وقال ابن قتيبة: أي: يُبْساً يقال: عَتَا وعَسَا بمعنى واحد. قال الزجاج: كل شيء انتهى، فقد عَتَا يَعْتُو عِتِيّاً، وعُتُوّاً، وعُسُوّاً، وعُسِيّاً. قوله تعالى: قالَ كَذلِكَ أي: الأمر كما قيل لك من هبة الولد على الكِبَر قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي: خَلْقُ يحيى عليَّ سَهْل. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري: «هَيْن» باسكان الياء. وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ أي: أوجدتُك. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «خَلَقْتُكَ» . وقرأ حمزة، والكسائيُّ: «خَلَقْنَاكَ» بالنون والألف. وَلَمْ تَكُ شَيْئاً المعنى: فخلْقُ الولد، كخلقك. وما بعد هذا مفسّر في سورة آل عمران «5» إِلى قوله: ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا قال الزجاج: «سَوِيّاً» منصوب على الحال، والمعنى: تُمْنَع عن الكلام وأنت سَوِيّ. قال ابن قتيبة: أي: سليماً غير أخرس. قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ وهذا في صبيحة الليلة التي حملت فيها أمرأته مِنَ الْمِحْرابِ أي: من مصلّاه، وقد ذكرناه في سورة آل عمران «6» . قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ فيه قولان: أحدهما: أنه كتب إِليهم في كتاب، قاله ابن عباس. والثاني: أومأَ برأسه ويديه، قاله مجاهد. قوله تعالى: أَنْ سَبِّحُوا أي: صلُّوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا قد شرحناه في آل عمران «7» ، والمعنى: أنه كان يخرج إِلى قومه فيأمرهم بالصلاة بُكْرة وعَشِيّاً، فلما حملت امرأته أمرهم بالصّلاة إشارة. [سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15] يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) قوله تعالى: يا يَحْيى قال الزجاج: المعنى: فوهبنا له يحيى، وقلنا له: يا يحيى خُذِ الْكِتابَ يعني التوراة، وكان مأموراً بالتمسك بها. وقال ابن الأنباري: المعنى: اقبل كُتُبَ الله كلَّها إِيماناً بها واستعمالاً لأحكامها. وقد شرحنا في سورة البقرة «8» : معنى قوله: بِقُوَّةٍ. قوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الفهم، قاله مجاهد. والثاني: اللُّب، قاله الحسن، وعكرمة. والثالث: العِلْم، قاله ابن السائب. والرابع: حفظ التوراة وعلْمها، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد زدنا هذا شرحاً في سورة يوسف «9» . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن من قبل أن يحتلم، فهو ممن أُوتيَ الحُكم صبيّاً. فأما قوله: صَبِيًّا ففي سنّه يوم أوتي

_ (1) سورة آل عمران: 39. (2) سورة آل عمران: 110. (3) سورة مريم: 58. (4) سورة مريم: 70. (5) سورة آل عمران: 39. (6) سورة آل عمران: 39. (7) سورة آل عمران: 39. (8) سورة البقرة: 63. (9) سورة يوسف: 23.

الحُكم قولان: (953) أحدهما: أنه سبع سنين، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والثاني: ابن ثلاث سنين. قاله قتادة، ومقاتل. قوله تعالى: وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا قال الزجاج: أي وآتيناه حناناً. وقال ابن الأنباري: المعنى وجعلناه حناناً لأهل زمانه. وفي الحنان ستة أقوال: أحدها: أنه الرحمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والفراء، وأبو عبيدة، وأنشد: تَحَنَّنْ عليَّ هَدَاكَ الملِيك ... فإنّ لكلِّ مقامٍ مَقَالاَ «1» قال: وعامة ما يُستعمَل في المنطق على لفظ الاثنين، قال طرفة: أبا مُنْذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بَعضَنَا ... حَنَانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهونُ مِنْ بَعْضِ «2» قال ابن قتيبة: ومنه يقال: تحنَّن عليَّ، وأصله من حنين الناقة على ولدها. وقال ابن الأنباري: لم يختلف اللغويون أن الحنان: الرحمة، والمعنى: فعلنا ذلك رحمةً لأبويه، وتزكيةً له. والثاني: أنه التعطف من ربِّه عليه، قاله مجاهد. والثالث: أنه اللِّين، قاله سعيد بن جبير. والرابع: البَرَكة، وروي عن ابن جبير أيضاً. والخامس: المَحبَّة، قاله عكرمة، وابن زيد. والسادس: التعظيم، قاله عطاء بن أبي رباح. وفي قوله: وَزَكاةً أربعة أقوال: أحدها: أنها العمل الصالح، قاله الضحاك، وقتادة. والثاني: أن معنى الزكاة: الصدقة، فالتقدير: إِن الله تعالى جعله صدقة تصدّق بها على أبويه، قاله ابن السائب. والثالث: أن الزكاة: التطهير، قاله الزجاج. والرابع: أن الزكاة: الزيادة، فالمعنى: وآتيناه زيادة في الخير على ما وُصف وذُكِر، قاله ابن الأنباري. قوله تعالى: وَكانَ تَقِيًّا قال ابن عباس: جعلته يتَّقيني، ولا يعدل بي غيري. قوله تعالى: وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ أي: وجعلناه بَرّاً بوالديه، والبَرُّ بمعنى: البارّ والمعنى: لطيفاً بهما، محسناً إِليهما. والعَصِيَّ بمعنى: العاصي. وقد شرحنا معنى الجبّار في سورة هود «3» . قوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ فيه قولان: أحدهما: أنه السلام المعروف من الله تعالى، قال عطاء: سلام عليه مِنِّي في هذه الأيام وهذا اختيار أبي سليمان. والثاني: أنه بمعنى: السلامة، قاله ابن السائب. فإن قيل: كيف خَصَّ التسليم عليه بالأيام وقد يجوز أن يولد ليلاً ويموت ليلاً؟ فالجواب: أن المراد باليوم الحِين والوقت، على ما بيّنا في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «4» . قال ابن عباس:

_ واه بمرة. أخرجه ابن الديلمي في «زهر الفردوس» 4/ 163 من طريق أبي نعيم عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ضعيف جدا. فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو واه، وفيه محمد بن يونس الكديمي متروك الحديث وكذبه بعضهم. والأشبه في هذا كونه من كلام ابن عباس، غير مرفوع، والله أعلم.

[سورة مريم (19) : الآيات 16 إلى 21]

وسلام عليه حين وُلد. وقال الحسن البصري: التقى يحيى وعيسى، فقال يحيى لعيسى: أنتَ خير مني، فقال عيسى ليحيى: بل أنت خير مني، سلَّم الله عليك، وأنا سلَّمتُ على نفسي. وقال سعيد بن جبير مثله، إِلا أنه قال: أثنى الله عليك، وأنا أثنيت على نفسي. وقال سفيان بن عيينه: أوحش ما يكون الإِنسان في ثلاثة مواطن، يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فخص الله تعالى يحيى فيها بالكرامة والسّلامة في المواطن الثلاثة. [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 21] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ يعني: القرآن مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ قال أبو عبيدة: تنحَّت واعتزلت مَكاناً شَرْقِيًّا مما يلي المشرق، وهو عند العرب خير من الغربيّ. قوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ يعني أهلها حِجاباً أي: ستراً وحاجزاً، وفيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها ضربت ستراً، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن الشمس أظلَّتْها، فلم يرها أحد منهم، وذلك مما سترها الله به، وروي هذا المعنى عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنها اتخذت حجاباً من الجدران، قاله السدي عن أشياخه وفي سبب انفرادها عنهم قولان: أحدهما: أنها انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط، قاله ابن عباس. والثاني: لتفلّي رأسها، قاله عطاء. قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا وهو جبريل في قول الجمهور. وقال ابن الأنباري: صاحب روحنا، وهو جبريل. والرُّوح بمعنى: الرَّوْح والفرح، ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم، وإِبطال طريق المصدر، ويجوز أن يُراد بالرُّوح ها هنا: الوحي وجبريل صاحب الوحي. وفي وقت مجيئه إِليها ثلاثة أقوال: أحدها: وهي تغتسل. والثاني: بعد فراغها، ولبسها الثياب. والثالث: بعد دخولها بيتها. وقد قيل: المراد بالرّوح ها هنا: الروح الذي خُلق منه عيسى، حكاه الزجاج، والماوردي، وهو مضمون كلام أُبيّ بن كعب فيما سنذكره عند قوله: فَحَمَلَتْهُ قال ابن الأنباري: وفيه بُعد، لقوله: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ، والمعنى: تصوَّر لها في صورة البَشَر التّامّ

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 146: وقوله انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا أي: اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس. وقوله فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً أي: استترت منهم وتوارت، فأرسل الله إليها جبريل عليه السلام فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا أي: على صورة إنسان تام كامل. وهو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي: لما تبدى لها الملك في صورة بشر، وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب، خافته وظنت أنه يريدها على نفسه فقالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي: إن كنت تخاف الله، تذكيرا له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فخوفته أولا بالله عزّ وجل.

[سورة مريم (19) : الآيات 22 إلى 26]

الخِلْقة. وقال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعد قطط حين طرَّ شاربه. وقرأ أبو نهيك وأبو حيوة: «فأرسلنا إليها روحنا» بفتح الراء. قوله تعالى: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا المعنى: إِن كنتَ تتَّقي الله، فستنتهي بتعوُّذي منك، هذا هو القول عند المحققين، وحكي عن ابن عباس أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي، وكان فاجراً، فظنتْه إِياه، ذكره ابن الأنباري، والماوردي. وفي قراءة عليّ رضي الله عنه، وابن مسعود، وأبي رجاء: «إِلا أن تكون تقيّاً» . قوله تعالى: قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ أي: فلا تخافي لِأَهَبَ لَكِ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لأهب لك» بالهمز. وقرأ أبو عمرو، وورش عن نافع: «ليهب لك» بغير همز. قال الزجاج: من قرأ «ليهب» فالمعنى: أرسَلني ليهب ومن قرأ «لأهب» فالمعنى أُرسلتُ إِليكِ لأهب لكِ، وقال ابن الأنباري المعنى: أرسلني يقول لك: أرسلتُ رسولي إِليكِ لأهبَ لكِ. قوله تعالى: غُلاماً زَكِيًّا أي: طاهرا من الذنوب. والبغيّ: الفاجرة والزّانية. قال ابن الأنباري: وإِنما لم يقل: «بغيَّة» لأنه وصف يغلب على النساء، فقلَّما تقول العرب: رجل بغيّ، فيجري مجرى حائض، وعاقر. وقال غيره: إِنما لم يقل: «بغيَّة» لأنه مصروف عن وجهه، فهو «فعيل» بمعنى: «فاعل» . ومعنى الآية: ليس لي زوج، ولستُ بزانية، وإِنما يكون الولد من هاتين الجهتين. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ قد شرحناه في قصة زكريا، والمعنى: أنه يسيرٌ عليّ أن أهب لكِ غلاماً من غير أب. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أي: دلالة على قدرتنا كونه من غير أب. قال ابن الأنباري: إِنما دخلت الواو في قوله: وَلِنَجْعَلَهُ لأنها عاطفة لِما بعدها على كلام مضمر محذوف، تقديره: قال ربُّكِ خَلْقُه عليّ هيِّن لننفعكِ به، ولنجعلَه عبرة. قوله تعالى: وَرَحْمَةً مِنَّا أي: لمن تبعه وآمن به وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي: وكان خَلْقُه أمراً محكوماً به، مفروغاً عنه، سابقا في علم الله تعالى كونه. [سورة مريم (19) : الآيات 22 الى 26] فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ يعني: عيسى. وفي كيفية حملها له قولان: أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب دِرعها، فاستمرَّ بها حملها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال السدي: نفخ في جيب درعها وكان مشقوقاً من قُدَّامها، فدخلت النفخة في صدرها فحملت من وقتها. والثاني: أنّ الذي خاطبها هو الذي حملته، ودخل مِنْ فيها، قاله أبيّ بن كعب «1» .

_ (1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 146 بعد أن ذكر الحديث عن أبي بن كعب: وهذا في غاية الغرابة والنكارة، وكأنه إسرائيلي.

وفي مقدار حَمْلها سبعة أقوال: أحدها: أنها حين حملت وضعت، قاله ابن عباس، والمعنى: أنه ما طال حملها، وليس المراد أنها وضعته في الحال، لأن الله تعالى يقول: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ، وهذا يدل على أن بين الحمل والوضع وقتاً يحتمل الانتباذ به. والثاني: أنها حملته تسع ساعات، ووضعت من يومها، قاله الحسن. والثالث: تسعة أشهر قاله سعيد بن جبير، وابن السائب. والرابع: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصوِّر في ساعة، ووضعته في ساعة، قاله مقاتل بن سليمان. والخامس: ثمانية أشهر، فعاش، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر، فكان في هذا آية، حكاه الزجاج. والسادس: في ستة أشهر، حكاه الماوردي. والسابع: في ساعة واحدة، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: فَانْتَبَذَتْ بِهِ يعني بالحَمْل مَكاناً قَصِيًّا أي: بعيداً. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «قاصياً» . قال ابن إِسحاق: مشت ستة أميال. قال الفراء: القصيّ والقاصي بمعنى واحد. وقال غير الفراء: القصيّ والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد. وإِنما بَعُدت، فراراً من قومها أن يعيِّروها بولادتها من غير زوج. قوله تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ وقرأ عكرمة، وإِبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري: «المِخاض» بكسر الميم. قال الفراء: المعنى: فجاء بها المخاض، فلما أُلقيت الباء، جُعلت في الفعل ألفاً، ومثله: آتِنا غَداءَنا «1» أي: ومثله: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ «2» أي: بزبر الحديد. قال أبو عبيدة: أفعلها من جاءت هي فأجاءها غيرها. وقال ابن قتيبة: المعنى: جاء بها، وألجأها، وهو من حيث يقال: جاءت بي الحاجة إِليك، وأجاءَتني الحاجة إِليك، والمَخاض: الحمل. وقال غيره: المخاض: وجع الولادة. إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وهو ساق النخلة، وكانت نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا سعف. قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا اليوم، أو هذا الأمر، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: «مِتُّ» بكسر الميم. وفي سبب قولها هذا قولان: أحدهما: أنها قالته حياءً من الناس. والثاني: لئلا يأثموا بقذفها. قوله تعالى: وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، بكسر النون، وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «نَسياً» بفتح النون، قال الفرّاء: وأصحاب عبد الله يقرءون: «نسيا» بفتح النون وسائر العرب بكسرها، وهما لغتان، مثل الجَسر والجِسر، والوَتر والوِتر، والفتح أحب إِليَّ، قال أبو علي الفارسي: الكسر على اللغتين. وقال ابن الأنباري: من كسر النون قال: النِسي: اسم لما يُنسى، بمنزلة البِغض اسم لما يُبْغَض، والسِّب اسم لما يُسَب. والنَسي بفتح النون: اسم لما يُنسى أيضاً على أنه مصدر ناب عن الاسم، كما يقال: الرجل دَنِف، ودَنَف، فالمكسور: هو الوصف الصحيح، والمفتوح: مصدر سدَّ مسدَّ الوصف. ويمكن أن يكون النِسي والنَسي اسمين لمعنىً، كما يقال: الرِّطل والرَّطل. وللمفسرين في قوله تعالى: نَسْياً مَنْسِيًّا خمسة أقوال: أحدها: يا ليتني لم أكن شيئاً، قاله الضحاك عن ابن عباس وبه قال عطاء وابن زيد. والثاني: «وكنت نسيا منسيّا» أي دم حيضة ملقاة «3» ،

_ (1) سورة الكهف: 62. (2) سورة الكهف: 96. (3) هذا قول باطل، وهو من بدع التأويل، فيه التنقص من مقام السيدة مريم عليها السلام. والصواب قول ابن عباس وغيره المتقدم، وكذا قول قتادة الآتي.

قاله مجاهد، وعيد بن جبير، وكرمة. قال الفراء: النّسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها. وقال ابن الأنباري: هي خرق الحيض تلقيها المرأة فلا تطلبها ولا تذكرها. والثالث: أنه السقط، قاله أبو العالية والربيع. والرابع: أن المعنى: ليتني لا يُدرى من أنا، قاله قتادة. والخامس: أنه الشيء التافه يرتحل عنه القوم، فيهون عليهم فلا يرجعون إِليه، قاله ابن السائب، وقال أبو عبيدة: النِسي والمنسي: ما ينسى من إِداوة وعصا. يعني أنه ينسى في المنزل فلا يرجع إِليه لاحتقار صاحبه إِياه. وقال الكسائي: معنى الآية ليتني كنت ما إِذا ذُكر لم يُطلب. قوله تعالى: فَناداها مِنْ تَحْتِها قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: «مَن تحتها» بفتح الميم، والتاء. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «مِن تحتها» بكسر الميم والتاء، فمن قرأ بكسر الميم، ففيه وجهان «1» : أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة. وقيل: كانت على نَشَز، فناداها الملك أسفل منها. والثاني: ناداها عيسى لما خرج من بطنها. قال ابن عباس: كلُّ ما رفعت إِليه طرفك، فهو فوقك، وكلُّ ما خفضت إِليه طرفك، فهو تحتك. ومن قرأ مِنْ تَحْتِها بفتح الميم، ففيه الوجهان المذكوران، وكان الفراء يقول: ما خاطبها إِلا الملك على القراءتين جميعاً. قوله تعالى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا فيه قولان» : أحدهما: أنه النهر الصغير، قاله جمهور المفسرين، واللغويون، قال أبو صالح، وابن جريج: هو الجدول بالسريانية. والثاني: أنه عيسى كان سرياً من الرجال، قاله الحسن، وعكرمة، وابن زيد، قال ابن الأنباري: وقد رجع الحسن عن هذا القول إِلى القول الأول، ولو كان وصفاً لعيسى، كان غلاماً سريّا أو سريّا من الغلمان، وقلَّما تقول العرب: رأيت عندك نبيلاً، حتى يقولوا: رجلاً نبيلاً. فإن قيل: كيف ناسب تسليتها أن قيل: لا تحزني، فهذا نهر يجري؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنها حزنت لجدب مكانها الذي ولدت فيه، وعدم الطعام والشراب والماء الذي يتطهّر به، فقيل: لا تحزني قد أجرينا لك نهراً، وأطلعنا لك رطباً، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها حزنت لِما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج، فأجرى الله تعالى لها نهراً، فجاءها من الأردنِّ، وأخرج لها الرَّطب من الشجرة اليابسة، فكان ذلك آية تدل على قدرة الله عزّ وجلّ في إِيجاد عيسى، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ الهزُّ: التحريك. والباء في قوله تعالى: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ فيها ثلاثة أقوال: أحدهما: أنها زائدة، كقوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ قال الفراء: معناه: فليمدد سبباً. والعرب تقول: هزَّه، وهزَّ به، وخذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلّق زيدا وتعلّق به. والثاني: أنها مؤكدة، كقول الشاعر: نَضْرِبُ بالسَّيفِ ونرجو بالفرَج «3»

_ (1) الراجح أنه جبريل عليه السلام، وعيسى إنما تكلم أمام القوم، وكان أول ما نطق به هو العبودية لله تعالى. (2) القول الأول هو الصواب، وهو الذي اختاره الطبري في «تفسيره» 8/ 330. (3) هو شطر من الرجز لراجز من بني جعدة، وهو في «الخزانة» 4/ 159.

هذا مذهب أبي عبيدة. والثالث: أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهزِّ، فهي مفيدة للالصاق، قاله ابن الأنباري. قوله تعالى: تُساقِطْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تَسَّاقط» بالتاء مشددة السين، وقرأ حمزة، وعبد الوارث: «تَسَاقط» بالتاء مفتوحة مخففة السين، وقرأ حفص عن عاصم: «تُساقِط» بضم التاء وكسر القاف مخففة السين، وقرأ يعقوب، وأبو زيد عن المفضّل: «يسّاقط» بالياء مفتوحة وتشديد السين وفتح القاف. فهذه القراءات المشاهير. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو حيوة: «يسقط» بفتح الياء وسكون السين ورفع القاف. وقرأ عبد الله بن عمرو، وعائشة، والحسن: «يُساقِط» بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف. وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار: «يُسْقِط» برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني مثله، إِلا أنه بالتاء. وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر مثله، إِلا أنه بالنون. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة: «تسقط» بالتاء مفتوحة مع سكون السين ورفع القاف. وقرأ أبو السّمّال العدويّ، وابن حذلم: «تتساقط» بتاءين مفتوحين وبألف. وقال الزجاج: من قرأ «يسَّاقط» فالمعنى: يتساقط، فأدغمت التاء في السين. ومن قرأ «تسَّاقط» فكذلك أيضاً، وأنث لأنّ لفظ النّخلة مؤنّث. ومن قرأ «تساقط» بالتاء والتخفيف، فإنه حذف من «تتساقط» اجتماع التاءين. ومن قرأ «يُساقط» ذهب إِلى معنى: يُساقط الجذع عليك. ومن قرأ «نُساقط» بالنون، فالمعنى: نحن نُساقط عليك، فنجعله لك آية، والنحويون يقولون: إِن «رطباً» منصوب على التمييز إِذا قلت: يسَّاقط أو يتساقط، المعنى: يتساقط الجزع رطباً. وإِذا قلت: تسَّاقط بالتاء، فالمعنى: تتساقط النخلة رطباً. قوله تعالى: جَنِيًّا قال الفراء: الجَنِيّ: المجتنى، وقال ابن الأنباري: هو الطريُّ، والأصل: مجنوٌّ، صُرف من مفعول إِلى فعيل، كما يقال: قديد، وطبيخ، وقال غيره: هو الطريّ بغباره ولم يكن لتلك النخلة رأس، فأنبته الله تعالى، فلما وضعت يدها عليه، سقط الرطب رَطْباً وكان السلف يستحبُّون للنفساء الرطب من أجل مريم عليها السلام. قوله تعالى: فَكُلِي أي: من الرطب وَاشْرَبِي من النهر وَقَرِّي عَيْناً بولادة عيسى عليه السلام. قال الزجاج: يقال: قَرِرت به عيناً أقَر، بفتح القاف في المستقبل وقَرِرت في المكان أقر بكسر القاف، «وعينا» : منصوب على التمييز. وروى ابن الأنباري عن الأصمعي أنه قال: معنى «وقرِّي عيناً» ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارَّة. واشتقاق «قرِّي» من القَرور، وهو الماء البارد. وقال لنا أحمد بن يحيى: تفسير «قرِّي عيناً» بلغتِ غاية أملك حتى تقرَّ عينك من الاستشراف إِلى غيره. واحتج بقول عمرو بن كلثوم: بيوم كريهةٍ ضرباً وطعناً ... أقرَّ به مواليك العيونا «1» أي ظفروا وبلغوا منتهى أمنيتهم، فقرّت أعينهم من تطلّع إِلى غيره. قوله تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن السّميفع، والضّحّاك، وأبو العالية،

_ (1) البيت في «مختار الشعر الجاهلي» 2/ 362 و «اللسان» - قرر-.

[سورة مريم (19) : الآيات 27 إلى 33]

وعاصم الجحدري: «ترئِنَّ» بهمزة مكسورة من غير ياء. أي: إِن رأيتِ من البشر أحداً فقولي وفيه إِضمار تقديره: فسألك عن أمر ولدك. فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فيه قولان: أحدهما: صمتاً، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، والضحاك. وكذلك قرأ أُبيّ بن كعب وأبو رزين العقيلي: «صمتاً» مكان قوله: «صوماً» وقرأ ابن عباس: صياماً. والثاني: صوماً عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان المجتهد من بني إِسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام، إِلا من ذكر الله عزّ وجلّ. قاله السدي: فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت. قال ابن مسعود: أُمِرتْ بالصمت، لأنها لم تكن لها حُجَّة عند الناس، فأُمرتْ بالكفِّ عن الكلام ليكفيَها الكلامَ ولدُها بما يبرئ به ساحتها. وقيل: كانت تُكلِّم الملائكة ولا تكلِّم الإِنس. قال ابن الأنباري: الصوم في لغة العرب على أربعة معانٍ، يقال: صوم لترك الطعام الشراب وصوم للصمت، وصوم لضرب من الشجر، وصوم لذَرْق النعام. واختلف العلماء في مقدار سنِّ مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها وَلَدت وهي بنت خمس عشرة سنة، قاله وهب بن منبِّه. والثاني: بنت اثنتي عشرة، قاله زيد بن أسلم. والثالث: بنت ثلاث عشرة سنة، قاله مقاتل. [سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 33] فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) قوله تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أتتهم به بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها. وقال في رواية الضحاك: انطلق قومها يطلبونها، فلما رأتْهم حملت عيسى فتلقَّتْهم به، فلذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ. فإن قيل: «أتت به» يغني عن «تحمله» فما فائدة التّكرير؟ فالجواب: أنه لما ظهرت منه آيات، جاز أن يتوهَّم السامع «فأتت به» أن يكون ساعياً على قدميه، فيكون سعية آيةً كنطقه، فقطع ذلك التوهُّمَ، وأعلم أنه كسائر الأطفال، وهذا مِثْل قول العرب: نظرت إِلى فلان بعيني، فنفَوْا بذلك نظر العطف والرحمة، وأثبتوا أنه نظرُ عَيْنٍ. وقال ابن السائب: لما دخلت على قومها بَكَوْا، وكانوا قوماً صالحين وقالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: شيئاً عظيماً، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، قال الفراء: الفريُّ: العظيم، والعرب تقول: تركته يفري الفريَّ، إِذا عمل فأجاد العمل فَفَضَلَ الناس، قيل هذا فيه. (954) قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «فما رأيت عبقريّا يفري فري عمر» .

_ صحيح. وهو بعض حديث عبد الله بن عمر أخرجه البخاري 3633 و 3682 ومسلم 2393 والترمذي 2290 وأحمد 2/ 27- 28 و 89 و 604 وأبو يعلى 5514. وصدره «رأيت الناس مجتمعين في صعيد فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي بعض نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها عمر فاستحالت بيده عزبا. فلم أر عبقريا في الناس يفري فريه، حتى ضرب الناس بعطن» .

والثاني: عَجباً فائقاً، قاله أبو عبيدة. والثالث: شيئاً مصنوعاً، ومنه يقال: فريت الكذب، وافتريته، قاله اليزيدي. قوله تعالى: يا أُخْتَ هارُونَ في المراد بهارون هذا خمسة أقوال: أحدها: أنه أخ لها من أُمِّها، وكان من أمثل فتى في بني إِسرائيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال الضحاك: كان من أبيها وأُمِّها. والثاني: أنها كانت من بني هارون، قاله الضحاك عن ابن عباس. وقال السدي: كانت من بني هارون أخي موسى عليهما السلام، فنُسبت إِليه، لأنها من ولده. والثالث: أنه رجل صالح كان من بني إِسرائيل، فشبَّهوها به في الصلاح، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وقتادة، ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة قال: (955) بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى أهل نجران، فقالوا: ألستم تقرؤون: «يا أخت هارون» وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ فلم أدرِ ما أُجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرتُه، فقال: «ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلَهم» . والرابع: أن قوم هارون كان فيهم فُسَّاق وزُنَاةٌ، فنسبوها إِليهم، قاله سعيد بن جبير. والخامس: أنه رجل من فُسَّاق بني إِسرائيل شبَّهوها به، قاله وهب بن منبِّه. فعلى هذا يخرج في معنى «الأخت» قولان: أحدهما: أنها الأخت حقيقة. والثاني: المشابهة، لا المناسبة، كقوله تعالى: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها «1» . قوله تعالى: ما كانَ أَبُوكِ يعنون: عِمران امْرَأَ سَوْءٍ أي: زانياً وَما كانَتْ أُمُّكِ حنّة بَغِيًّا زانية، فمن أين لكِ هذا الولد؟! قوله تعالى: فَأَشارَتْ أي: أومأت إِلَيْهِ أي: إِلى عيسى فتكلَّم، وقيل المعنى: أشارت إِليه أنْ كلِّموه. وكان عيسى قد كلَّمها حين أتت به قومها وقال: يا أُماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما أشارت أن كلِّموه، تعجَّبوا من ذلك، وقالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها زائدة، فالمعنى: كيف نكلِّم صبياً في المهد؟! والثاني: أنها في معنى: وقع، وحدث. والثالث: أنها في معنى الشرط والجزاء، فالمعنى: من يكن في المهد صبياً، فكيف نكلِّمه؟! حكاها الزجاج واختار الأخير منها، قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي؟! أي: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء. والرابع: أن «كان» بمعنى صار، قاله قطرب. وفي المراد بالمهد قولان: أحدهما: حجرها، قال نوف، وقتادة، والكلبيّ. والثاني: سرير الصّبي

_ صحيح. أخرجه مسلم 2135 والترمذي 3155 والنسائي في «التفسير» 335 والواحدي في «الوسيط» 3/ 182 والطبري 23692 من طرق عن المغيرة بن شعبة به.

[سورة مريم (19) : الآيات 34 إلى 36]

المعروف، حكاه الكلبي أيضاً. قال السدي: فلما سمع عيسى كلامهم، لم يزد على أن ترك الرَّضاع، وأقبل عليهم بوجهه، فقال: إِني عبد الله، قال المفسرون: إِنما قدَّم ذِكر العبودية، ليُبطلَ قول من ادَّعى فيه الربوبية. وفي قوله: آتانِيَ الْكِتابَ أسكن هذه الياء حمزة. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أُمه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: علم التوراة والإِنجيل وهو في بطن أُمه. والثاني: قضى أن يؤتيني الكتاب، قاله عكرمة. وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه التوراة. والثاني: الإِنجيل. قوله تعالى: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا هذا وما بعده إِخبار عما قضى الله له وحكم له به ومنحه إِيَّاه مما سيظهر ويكون. وقيل: المعنى: يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيّاً إِذا بلغتُ فحلَّ الماضي محلَّ المستقبل، كقوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى «1» . وفي وقت تكليمه لهم قولان: أحدهما: أنه كلَّمهم بعد أربعين يوماً. والثاني: في يومه. وهو مبنيٌّ على ما ذكرنا من الزمان الذي غابت عنهم فيه مريم. قوله تعالى: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ. (956) روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية قال: «نفّاعاً حيثما توجهت» . وقال مجاهد: معلِّماً للخير. وفي المراد «بالزكاة» قولان: أحدهما: زكاة الأموال، قاله ابن السائب. والثاني: الطهارة: قاله الزجاج. قوله تعالى: وَبَرًّا بِوالِدَتِي قال ابن عباس: لمَّا قال هذا، ولم يقل: «بوالديّ» علموا أنه وُلد من غير بَشَر. قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً أي: متعظِّماً شَقِيًّا عاصياً لربه وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ قال المفسرون: السلامة عليَّ من الله يوم وُلدتُ حتى لم يضرَّني شيطان. وقد سبق تفسير الآية. فإن قيل: لم ذكر ها هنا «السلام» بألف ولام، وذكره في قصة يحيى بلا ألف ولام؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه لمّا جرى ذِكر السلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام، كان الأحسن أن يَرِد ثانية بألف ولام، هذا قول الزجاج. وقد اعتُرِض على هذا القول، فقيل: كيف يجوز أن يعطف هذا وهو قول عيسى، على الأوّل وهو قول الله عزّ وجلّ؟! وقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: عيسى إِنما يتعلَّم من ربِّه، فيجوز أن يكون سمع قول الله في يحيى، فبنى عليه وألصقه بنفسه، ويجوز أن يكون الله عزّ وجلّ عرَّف السلام الثاني لأنه أتى بعد سلام قد ذكره، وأجراه عليه غير قاصدٍ به إِتباع اللفظ المحكيّ، لأن المتكلِّم، له أن يغيِّر بعض الكلام الذي يحكيه، فيقول: قال عبد الله: أنا رَجُل منصف، يريد: قال لي عبد الله: أنتَ رَجُل منصِف. والجواب الثاني: أن سلاماً والسلام لغتان بمعنى واحد، ذكره ابن الأنباري. [سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 36] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)

_ ضعيف. أخرجه أبو نعيم 3/ 25 من حديث الحسن عن أبي هريرة مرفوعا، وهذا منقطع الحسن لم يسمع من أبي هريرة، والأشبه كونه من كلام الحسن أو أبي هريرة، والله أعلم.

[سورة مريم (19) : الآيات 37 إلى 40]

قوله تعالى: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قال الزجاج: أي، ذلك الذي قال: إِني عبد الله، هو ابن مريم، لا ما تقول النصارى: إِنه ابن الله، وإِنه إِله. قوله تعالى: قَوْلَ الْحَقِّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي: «قولُ الحق» برفع اللام. وقرأ عاصم، وابن عامر، ويعقوب بنصب اللام. قال الزجاج: من رفع «قولُ الحق» فالمعنى: هو قولُ الحق، يعني هذا الكلام ومن نصب، فالمعنى: أقول قول الحقّ. وذكر ابن الأنباري في الآية وجهين: أحدهما: أنه لما وُصف بالكلمة جاز أن يُنعت بالقول. والثاني: أن في الكلام إِضماراً، تقديره: ذلك نبأُ عيسى، ذلك النبأ قول الحق. قوله تعالى: الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي: يشكُّون. قال قتادة: امترت اليهود فيه والنصارى، فزعم اليهود أنه ساحر، وزعم النصارى أنه ابن الله وثالث ثلاثة. قرأ أبو مجلز، ومعاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو رجاء: «تمترون» بالتاء. قوله تعالى: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ قال الزجاج: المعنى: أن يتخذ ولداً. و «مِنْ» مؤكِّدة تدل على نفي الواحد والجماعة، لأن للقائل أن يقول: ما اتخذت فرساً، يريد: اتخذت أكثر من ذلك، وله أن يقول: ما اتخذت فرسين ولا أكثر، يريد: اتخذت فرساً واحداً فإذا قال: ما اتخذت من فرس، فقد دلَّ على نفي الواحد والجميع. قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: «فيكونَ» بالنّصب، وقد ذكرنا وجهه في سورة البقرة «1» . قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو: «وأن الله» بنصب الألف، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «وإِن الله» بكسر الألف. وهذا من قول عيسى فمن فتح، عطفه على قوله: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وبأن الله ربّي ومن كسر، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفاً على قوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ. والثاني: أن يكون مستأنفا. [سورة مريم (19) : الآيات 37 الى 40] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) قوله تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال المفسرون: «مِنْ» زائدة، والمعنى: اختلفوا بينهم. وقال ابن الأنباري: لما تمسَّك المؤمنون بالحق، كان اختلاف الأحزاب بين المؤمنين مقصوراً عليهم. وفي الأحزاب قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، فكانت اليهود تقول: إِنه لغير رِشْدَةٍ، والنصارى تدَّعي فيه ما لا يليق به. والثاني: أنهم فرق النّصارى، قال بعضهم، يعني اليعقوبيّة: هو الله، وقال بعضهم، يعني النّسطوريّة: ابن الله، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة. قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بقولهم في المسيح مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: من حضورهم ذلك اليوم للجزاء. قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ فيه قولان: أحدهما: أن لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر

_ (1) سورة البقرة: 117.

فالمعنى: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة، سمعوا وأبصروا حين لم ينفعهم ذلك لأنهم شاهدوا من أمر الله ما لا يحتاجون معه إلى نظر وفكر فعلموا الهدى وأطاعوا، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أَسْمِع بحديثهم اليوم، وأبصِرْ كيف يُصنَع بهم يَوْمَ يَأْتُونَنا، قاله أبو العالية. قوله تعالى: لكِنِ الظَّالِمُونَ يعني المشركين والكفار الْيَوْمَ يعني في الدنيا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ أي: خوِّف كفَّار مكة يَوْمَ الْحَسْرَةِ يعني: يوم القيامة يتحسَّر المسيء إذا لم يُحْسِن، والمقصِّر إِذ لم يَزْدَدْ من الخير. وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرةٌ، فمن ذلك ما روى أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: (957) «إِذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قيل: يا أهل الجنة، فيشرئِبُّون وينظرون، وقيل: يا أهل النار فيشرئبُّون وينظرون فيُجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: هذا الموت، فيُذبَح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) .» قال المفسرون: فهذه هي الحسرة إِذا ذُبِح الموت، فلو مات أحد فرحاً مات أهل الجنة، ولو مات أحد حزناً مات أهل النار. ومن موجبات الحسرة ما روى عديُّ بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: (958) «يؤتى يوم القيامة بناسٍ إِلى الجنة، حتى إِذا دَنَوْا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إِلى قصورها، نودوا: أن اصرفوهم عنها، لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرةٍ مَا رَجَعَ الأوَّلُون بمثلها. فيقولون: يا ربنا لو أدخلْتَنا النار قبل أن تُرِيَنا ما أريتَنا كان أهون علينا قال: ذلك أردتُ بكم، كنتم إِذا خَلَوْتُمْ بارزتموني بالعظائم، وإِذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين «1» ، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هِبْتم «2» الناس ولم تهابوني، وأجللتم «3» الناس ولم تُجِلُّوني، تركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أُذيقكم العذاب مع ما حرمتكم من الثواب» . ومن موجبات الحسرة ما روي عن ابن مسعود قال: ليس من نفس يوم القيامة إِلا وهي تنظر إِلى بيت في الجنة، وبيت في النار، ثم يقال: يعني لهؤلاء: لو عملتم، ولأهل الجنة: لولا أن منّ الله

_ صحيح. أخرجه البخاري 4730 ومسلم 2849 وأحمد 3/ 9 والترمذي 2558 وأبو يعلى 1175 وابن حبان عقب حديث 7474 من حديث أبي سعيد. وورد من حديث ابن عمر أخرجه البخاري 6548 ومسلم 2850. وفي الباب أحاديث كثيرة. وانظر «تفسير الشوكاني» 1560 بتخريجنا. ضعيف جدا. أخرجه ابن حبان في «المجروحين» 3/ 155- 156 وأبو نعيم 4/ 125 والطبراني 17/ 85- 86 والبيهقي في «الشعب» 6809 من حديث عدي بن حاتم، ومداره على أبي جنادة حصين بن مخارق، وهو متروك، واتهمه الدارقطني بالوضع. وقال ابن حبان: لا يجوز الرواية عنه. ومع ذلك قال الهيثمي في «المجمع» 10/ 220/ 17649: أبو جنادة ضعيف!!؟. والصواب أنه ضعيف جدا، والخبر شبه موضوع.

[سورة مريم (19) : الآيات 41 إلى 50]

عليكم. ومن موجبات الحسرة: قطع الرجاءِ عند إِطباق النار على أهلها. قوله تعالى: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن الأنباري: «قُضي» في اللغة بمعنى: أُتقن وأُحكم، وإِنما سمِّي الحاكم قاضياً، لإِتقانه وإِحكامه ما ينفِّذ. وفي الآية اختصار، والمعنى: إِذ قضي الأمر الذي فيه هلاكهم. وللمفسرين في الأمر قولان: أحدهما: أنه ذبح الموت، قاله ابن جريج، والسدي. والثاني: أن المعنى: قُضي العذاب لهم، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ هم في الدنيا في غفلة عما يُصنَع بهم ذلك اليوم وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بما يكون في الآخرة. قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ أي: نُميت سكَّانها فنرثها وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ بعد الموت. فإن قيل: ما الفائدة في «نحن» وقد كفت عنها «إنّا» ؟. فالجواب: أنه لما جاز في قول المعظّم: «إنّا نفعل» أن يتوهّم أنّ أتباعه فعلوا، وأبانت «نحن» بأن الفعل مضاف إِليه حقيقة. فإن قيل: فلم قال: «ومَنْ عليها» وهو يرث الآدميين وغيرهم؟! فالجواب: أن «مَنْ» تختص أهل التمييز، وغيرُ المميِّزين يدخلون في معنى الأرض ويجرون مجراها، ذكر الجوابين عن السؤالين ابن الأنباري. [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ أي: اذكر لقومك قصته. وقد سبق معنى الصِّدِّيق «1» . قوله تعالى: وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً أي: لا يدفع عنكَ ضرّاً. قوله تعالى: إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ بالله والمعرفة ما لَمْ يَأْتِكَ. قوله تعالى: لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ أي: لا تُطعه فيما يأمر به من الكفر والمعاصي. وقد شرحنا معنى «كان» آنفا. وعَصِيًّا أي: عاصياً، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل» . قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ قال مقاتل: في الآخرة وقال غيره: في الدنيا، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي: قريبا في عذاب الله، فجرت المقارنة مجرى الموالاة. وقيل: إِنما طمع إِبراهيم في إِيمان أبيه، لأنه حين خرج من النار قال له: نِعْمَ الإِله إِلهك يا إِبراهيم، فحينئذ أقبل يعظه، فأجابه أبوه: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ! أي: أتارك عبادتها انت؟! لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن

_ (1) سورة النساء: 69.

[سورة مريم (19) : الآيات 51 إلى 53]

عيبها وشتمها لَأَرْجُمَنَّكَ وفيه قولان: أحدهما: بالشتم والقول، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: بالحجارة حتى تتباعدَ عني، قاله الحسن. قوله تعالى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا فيه قولان: أحدهما: اهجرني طويلاً، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والفرَّاء، والأكثرون. قال ابن قتيبة: اهجرني حيناً طويلاً، ومنه يقال: تَمَليّت حبيبك. والثاني: اجتنبني سالماً قبل أن تصيبَك عقوبتي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك فعلى هذا يكون من قولهم: فلان ملهيّ بكذا وكذا: إِذا كان مضطلعاً به، فالمعنى: اهجرني وعرضك وافر، وأنت سليم من أذايَ، قاله ابن جرير. قوله تعالى: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ أي: سَلِمتَ من أن أُصيبَك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمَر بقتاله على كفره، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: سأسأل الله لك توبةً تنال بها مغفرته. والثاني: أنه وعده الاستغفار وهو لا يعلم أن ذلك محظور في حقّ المُصرّين على الكفر، ذكرهما ابن الأنباري. قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لطيفاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، والزجاج. والثاني: رحيماً، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: بارّاً عوّدني منه الإِجابة إِذا دعوتُه، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ أي: وأتنحّى عنكم، وَأعتزل ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام. وفي معنى «تَدْعُون» قولان: أحدهما: تَعْبُدون. والثاني: أنّ المعنى: وما تدعونه ربّا، وَأَدْعُوا رَبِّي أي: وأعبُده عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي: أرجو أن لا أشقى بعبادته كما شَقِيتُم أنتم بعبادة الأصنام، لأنها لا تنفعهم ولا تُجيب دعاءَهم فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ قال المفسرون: هاجر عنهم إِلى أرض الشام، فوهب الله له إِسحاق ويعقوب، فآنس الله وحشته عن فراق قومه بأولادٍ كرامٍ. قال أبو سليمان: وإِنما وهب له إِسحاق ويعقوب بعد إِسماعيل. قوله تعالى: وَكُلًّا أي: وكلاًّ من هذين. وقال مقاتل: وَكُلًّا يعني إِبراهيم وإسحاق ويعقوب جَعَلْنا نَبِيًّا. قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا قال المفسرون: المال والولد والعِلْم والعمل، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا أي: ذِكْراً حَسَناً في النّاس مرتفعاً، فجميع أهل الأديان يتولَّون إِبراهيم وذريَّته ويُثنون عليهم، فوضع اللسان مكان القول، لأن القول يكون باللسان. [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 53] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والمفضل عن عاصم: «مُخْلِصاً» بكسر اللام. وقرأ حمزة، والكسائى، وحفص عن عاصم بفتح اللام. قال الزجاج: المُخْلِص، بكسر اللام: الذي وحَّد الله، وجعل نفسه خالصة في طاعة الله غيرَ دَنِسة، والمُخْلَص، بفتح اللام: الذي أخلصه الله، وجعله مختاراً خالصاً من الدَّنَس.

[سورة مريم (19) : الآيات 54 إلى 57]

قوله تعالى: وَكانَ رَسُولًا قال ابن الأنباري: إِنما أعاد «كان» لتفخيم شأن النبيّ المذكور. قوله تعالى: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ أي: من ناحية الطُّور، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زَبِير. قال ابن الأنباري: إِنما خاطب الله العرب بما يستعملون في لغتهم، ومن كلامهم: عن يمين القِبلة وشمالها، يعنون: مما يلي يمين المستقبِل لها وشماله، فنقلوا الوصف إِلى ذلك اتِّساعاً عند انكشاف المعنى، لأن الوادي لا يَدَ لَهُ فيكون له يمين. وقال المفسرون: جاء النداء عن يمين موسى، فلهذا قال: «الأيمنِ» ولم يُرِد به يمين الجبل. قوله تعالى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا قال ابن الأنباري: معناه: مناجياً، فعبَّر «فَعيل» عن مُفَاعِل، كما قالوا: فلان خليطي وعشيري: يعنون: مخالطي ومُعاشري. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: «وقرَّبناه» قال: حتى سمع صريف القلم حين كتب له في الألواح. قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أي: من نعمتنا عليه إِذ أجبنا دعاءه حين سأل أن نجعل معه أخاه وزيراً له. [سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 57] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ هذا عامّ فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس. وقال مجاهد: لم يَعِد ربَّه بوعدٍ قطُّ إِلا وفى له به. فإن قيل: كيف خُصَّ بصدق الوعد إِسماعيل، وليس في الأنبياء من ليس كذلك؟ فالجواب: أن إِسماعيل عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فأُثني عليه بذلك. وذكر المفسرون: أنه كان بينه وبين رجل ميعاد، فأقام ينتظره مدة فيها لهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أقام حَوْلاً، قاله ابن عباس. والثاني: اثنين وعشرين يوماً، قاله الرقاشي. والثالث: ثلاثة أيام، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَكانَ رَسُولًا إِلى قومه، وهم جُرْهُم. وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ قال مقاتل: يعني: قومه. وقال الزجاج: أهله جميعُ أُمَّته. فأما الصلاة والزكاة، فهما العبادتان المعروفتان. قوله تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه في السماء الرابعة. (959) روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث المعراج: أنه رأى إِدريس في السماء الرابعة، وبهذا قال أبو سعيد الخدريّ، ومجاهد، وأبو العالية. والثاني: أنه في السماء السادسة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: أنه في الجنة، قاله زيد بن أسلم، وهذا يرجع إِلى الأول، لأنه قد روي أن الجنة في السماء الرابعة. والرابع: أنه في السماء السابعة، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وفي سبب صعوده إِلى السماء ثلاثة أقوال: (960) أحدها: أنه كان يصعد له من العمل مِثْلُ ما يصعد لجميع بني آدم فأحبّه ملك الموت،

_ تقدّم في سورة الإسراء، وهو متفق عليه. لم أره بهذا اللفظ مسندا. وعزاه المصنف لزيد بن أسلم بمعناه، وهذا مرسل، زيد تابعي، ولم أقف على إسناده إليه، ولا يصح، والأشبه في هذا كونه متلقى عن أهل الكتاب، والله أعلم.

فاستأذن اللهَ في خُلَّته، فأذن له، فهبط إِليه في صورة آدمي، وكان يصحبه، فلما عرفه، قال: إِنِّي أسألك حاجة، قال: ما هي؟ قال: تذيقني الموت، فلعلِّي أعلم ما شدَّته فأكون له أشدّ استعداداً فأوحى الله إِليه أن اقبض روحه ساعةً ثم أَرْسِله، ففعل، ثم قال: كيف رأيتَ؟ قال: كان أشدَّ مما بلغني عنه، وإِني أُحب أن تريَني النار، قال: فحمله، فأراه إِيّاها قال: إِني أُحِبُّ أن تريَني الجنة، فأراه إِياها، فلما دخلها وطاف فيها، قال له ملك الموت: اخرج، فقال: والله لا أخرج حتى يكون الله تعالى يُخرجني فبعث الله مَلَكاً فحكم بينهما، فقال: ما تقول يا مَلَك الموت؟ فقصَّ عليه ما جرى فقال: ما تقول يا إِدريس؟ قال: إِن الله تعالى قال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «1» وقد ذُقْتُه، وقال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «2» ، وقد وردتُها، وقال لأهل الجنة: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «3» ، فو الله لا أخرج حتى يكون الله يُخرجني فسمع هاتفاً من فوقه يقول: باذني دخل وبأمري فعل فخلِّ سبيله هذا معنى ما رواه زيد بن أسلم مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم. فإن سأل سائل فقال: من أين لإِدريس هذه الآيات، وهي في كتابنا؟! فقد ذكر ابن الأنباري عن بعض العلماء، قال: كان الله تعالى قد أعلم إِدريس بما ذكر في القرآن من وجوب الورود، وامتناع الخروج من الجنة، وغير ذلك فقال ما قاله بعلم. والثاني: أن ملَكاً من الملائكة استأذن ربه أن يهبط إِلى إِدريس، فأذن له، فلما عرفه إِدريس، قال: هل بينك وبين ملك الموت قرابة؟ قال: ذاك أخي من الملائكة، قال: هل تستطيع أن تنفعني عند ملك الموت؟ قال: سأكلِّمه فيك، فيرفق بك، اركب بين جناحيّ، فركب إِدريس، فصعد به إِلى السماء، فلقي ملك الموت، فقال: إِن لي إِليك حاجة، قال أعلم ما حاجتك، تكلِّمني في إِدريس وقد محي اسمه من الصحيفة ولم يبق من أَجَله إِلا نصف طرفة عين؟! فمات إدريس بين جناحي ملك، رواه عكرمة عن ابن عباس «4» وقال أبو صالح عن ابن عباس: فقبض ملك الموت روح إِدريس في السماء السادسة. والثالث: أن إِدريس مشى يوماً في الشمس، فأصابه وهجها، فقال: اللهم خفِّف ثقلها عمَّن يحملها، يعني به الملك الموكَّل بالشمس، فلما أصبح الملك وجد من خفّة الشمس وحرّها ما لا يعرف، فسأل الله تعالى عن ذلك، فقال: إِن عبدي إِدريس سألني أن أُخفِّف عنكَ حِملها وحرَّها، فأجبْتُه، فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيننا خلّة، فأذن له، فأتاه، فكان مما قاله إِدريس: اشفع لي إِلى ملك الموت ليؤخِّر أجَلي، فقال: إِن الله لا يؤخِّر نفساً إِذا جاء أَجَلُها، ولكن أُكلِّمه فيك، فما كان مستطيعاً أن يفعل بأحد من بني آدم فعل بك ثم حمله الملك على جناحه، فرفعه إِلى السماء، فوضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملكَ الموت فقال: إِن لي إِليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفَّعَ بي إِليك لتؤخِّر أجَلَه، قال: ليس ذاك إِليَّ، ولكن إِن أحببتَ أعلمتُه متى يموت، فنظر في ديوانه،

_ (1) سورة آل عمران: 185. (2) سورة مريم: 71. (3) سورة الحجر: 48. (4) هذه الآثار مصدرها كتب الأقدمين، لا حجة في شيء منها.

[سورة مريم (19) : الآيات 58 إلى 65]

فقال: إِنك كلمتني في إِنسان ما أراه يموت أبداً، ولا أجده يموت إِلا عند مطلع الشمس، قال: إِني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق، فما أراك تجده إلّا ميتا، فو الله ما بقي من أجله شيء، فرجع الملك فرآه ميتاً «1» . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وكعب في آخرين. فهذا القول والذي قبله يدلاّن على أنه ميت، والقول الأول يدلّ على أنه حيّ. [سورة مريم (19) : الآيات 58 الى 65] أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) قوله تعالى: أُولئِكَ يعني الذين ذكرهم من الأنبياء في هذه السورة مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ يعني إِدريس وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ يعني إِبراهيم، لأنه من ولد سام بن نوح وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ يريد: إِسماعيل وإِسحاق ويعقوب وَإِسْرائِيلَ يعني ومن ذرية إِسرائيل وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى. قوله تعالى: وَمِمَّنْ هَدَيْنا أي: وهؤلاء كانوا ممن أرشَدْنا، وَاجْتَبَيْنا أي: واصطَفَيْنا. قوله تعالى: خَرُّوا سُجَّداً قال الزجاج: «سُجَّداً» حال مقدَّرة، المعنى: خرُّوا مقدِّرين السجود، لأن الإِنسان في حال خروره لا يكون ساجداً، ف «سُجَّداً» منصوب على الحال، وهو جمع ساجد وَبُكِيًّا معطوف عليه، وهو جمع باكٍ فقد بيَّن الله تعالى أن الأنبياء كانوا إِذا سمعوا آيات الله سجدوا وبَكَوْا من خشية الله. قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قد شرحناه في سورة الأعراف «2» . وفي المراد بهذا الخَلْف ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي. والثالث: أنهم من هذه الأُمَّة، يأتون عند ذهاب صالحي أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم يتبارون بالزّنا، وينزو بعضهم على بعض في الأزقّة زناة، قاله مجاهد، وقتادة. قوله تعالى: أَضاعُوا الصَّلاةَ وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين العقيلي، والحسن البصري: «الصلوات» على الجمع. وفي المراد باضاعتهم إِياها قولان «3» : أحدهما: أنهم أخَّروها عن وقتها، قاله ابن مسعود، والنّخعيّ، وعمرو بن عبد العزيز،

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 160: هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة، والله أعلم. (2) سورة الأعراف: 169. (3) قال الطبري رحمه الله 8/ 355: وأولى التأولين في ذلك عندي بالصواب بتأويل الآية، قول من قال: إضاعتها تركهم إياها، لدلالة قوله تعالى ذكره بعده على ذلك كذلك، وذلك قوله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فلو كان الذين وصفهم بأنهم ضيعوها مؤمنين لم يستثن منهم من آمن وهم مؤمنون، ولكنهم كانوا كفارا لا يصلون لله ولا يؤدون له فريضة. وقد قيل: هم قوم من هذه الأمة يكونون في آخر الزمان.

والقاسم بن مخيمرة. والثاني: تركوها، قاله القرظي، واختاره الزجاج. قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ قال أبو سليمان الدمشقى: وذلك مثل استماع الغناء، وشرب الخمر، والزنا، واللهو، وما شاكل ذلك مما يقطع عن أداء فرائض الله عزّ وجلّ. قوله تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ليس معنى هذا اللقاء مجرد الرؤية، وإِنما المراد به الاجتماع والملابسة مع الرؤية. وفي المراد بهذا الغيّ ستة أقوال «1» : (961) أحدها: أنه وادٍ في جهنّم، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبه قال كعب. والثاني: أنه نهر في جهنم، قاله ابن مسعود. والثالث: أنه الخسران، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنه العذاب، قاله مجاهد. والخامس: أنه الشرُّ، قاله ابن زيد، وابن السائب. والسادس: أن المعنى: فسوف يلقون مجازاة الغي، كقوله: يَلْقَ أَثاماً «2» أي: مجازاة الآثام، قاله الزجاج. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فيه قولان: أحدهما: تاب من الشّرك، وآمن بمحمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. والثاني: تاب من التقصير في الصلاة، وآمن من اليهود والنصارى. قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ وقرأ أبو رزين العقيلي، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: «جناتُ» برفع التاء. وقرأ الحسن البصري، والشعبي، وابن السميفع: «جنةُ عدن» على التوحيد مع رفع التاء. وقرأ أبو مجلز، وأبو المتوكل الناجي: «جنةَ عدن» على التوحيد مع نصب التاء. وقوله: الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ أي: وعدهم بها، ولم يَروْها، فهي غائبة عنهم. قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا فيه قولان: أحدهما: آتياً، قال ابن قتيبة: وهو «مفعول» في معنى «فاعل» ، وهو قليل أن يأتي الفاعل على لفظ المفعول به. وقال الفراء: إِنما لم يقل: آتياً، لأن كل ما أتاك، فأنت تأتيه ألا ترى أنك تقول: أتيت على خمسين سنة، وأتت عليَّ خمسون سنة. والثاني: مبلوغاً إِليه، قاله ابن الأنباري. وقال ابن جريج: «وعده» ها هنا: موعوده، وهو الجنة، و «مأتيّاً» : يأتيه أولياؤه. قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فيه قولان: أحدهما: أنه التخالف عند شرب الخمر، قاله مقاتل. والثاني: ما يلغى من الكلام ويؤثَم فيه، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: اللغو في العربية: الفاسد المطَّرَح. قوله تعالى: إِلَّا سَلاماً قال أبو عبيدة: السلام ليس من اللغو، والعرب تستثني الشيء بعد الشيء وليس منه، وذلك أنها تضمر فيه، فالمعنى: إِلا أنهم يسمعون فيها سلاماً. وقال ابن

_ باطل. عزاه السيوطي في «الدر» 4/ 500 لابن مردويه من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا ونهشل متروك متهم، والضحاك لم يلق ابن عباس.

الأنباري: استثنى السلام من غير جنسه، وفي ذلك توكيد للمعنى المقصود، لأنهم إِذا لم يسمعوا من اللغو إِلا السلام، فليس يسمعون لغواً البتَّة، وكذلك قوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ «1» . إِذا لم يخرج من عداوتهم لي غير رب العالمين، فكلُّهم عدو. وفي معنى هذا السلام قولان: أحدهما: أنه تسليم الملائكة عليهم، قاله مقاتل. والثاني: أنهم لا يسمعون إِلا ما يسلِّمهم، ولا يسمعون ما يؤثمهم، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال المفسرون: ليس في الجنة بُكْرة ولا عشيَّة، ولكنَّهم يُؤتَوْن برزقهم- على مقدار ما كانوا يعرفون- في الغداة والعشي. قال الحسن: كانت العرب لا تعرف شيئاً من العيش أفضل من الغداة والعشاء، فذكر الله لهم ذلك. وقال قتادة: كانت العرب إِذا أصاب أحدُهم الغداءَ والعشاء أُعجب به، فأخبر الله أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيّاً على قدر ذلك الوقت، وليس ثَمَّ ليل ولا نهار، وإِنما هو ضوء ونُور. وروى الوليد بن مسلم، قال: سألت زهير بن محمد عن قوله تعالى: بُكْرَةً وَعَشِيًّا فقال: ليس في الجنة ليل ولا نهار، هم في نور أبداً، ولهم مقدار الليل والنهار، يعرفون مقدار الليل بارخاء الحُجُب وإِغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب. قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الإِشارة إِلى قوله: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. قوله تعالى: نُورِثُ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وقتادة، وابن أبي عبلة: بفتح الواو وتشديد الراء. قال المفسرون: ومعنى «نورث» : نعطي المساكن التي كانت لأهل النار- لو آمنوا- للمؤمنين. ويجوز أن يكون معنى «نورث» : نعطي، فيكون كالميراث لهم من جهة أنها تمليك مستأنف. وقد شرحنا هذا في سورة الأعراف «2» . قوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر: «وما يَتنزَّل» بياء مفتوحة. وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال: (962) أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا» ، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. (963) والثاني: أن الملَك أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أتاه، فقال: لعلِّي أبطأتُ، قال: «قد فعلتَ» ، قال: وما لي لا أفعل، وأنتم لا تتسوَّكون، ولا تقصُّون أظفاركم، ولا تُنَقُّون براجمكم، فنزلت الآية، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري: البراجم عند العرب: الفصوص التي في ظهور الأصابع، تبدو إِذا جُمعت، وتغمض إِذا بُسطت. والرواجب: ما بين البراجم، بين كل برجمتين راجبة.

_ صحيح. أخرجه البخاري 3218 و 4731 و 7455 والترمذي 3158 والطبري 23805 والواحدي في «الوسيط» 3/ 189 و «أسباب النزول» 606 من طرق عن ابن عباس. ضعيف جدا. ذكره الواحدي 607 عن مجاهد مرسلا. وبدون إسناد! ومع ذلك هو منكر، يخالف ما رواه البخاري وغيره وقد تقدم. وانظر «تفسير القرطبي» 4253.

(964) والثالث: أنّ جبريل احتبس عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح، فلم يدر ما يجيبهم، ورجا أن يأتيَه جبريل بجواب، فأبطأ عليه، فشقّ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم مشقّة شديدة، فلمّا نزل جبريل قاله له: «أبطأتَ عليَّ حتى ساء ظني، واشتقتُ إِليك» فقال جبريل: إِنِّي كنتُ أَشْوَق، ولكنِّي عبدٌ مأمور، إِذا بُعثتُ نزلتُ، وإِذا حُبستُ احتبستُ، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة، وقتادة، والضحاك. وفي سبب احتباس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قولان: أحدهما: لامتناع أصحابه من كمال النظافة، كما ذكرنا في حديث مجاهد. والثاني: لأنهم سألوه عن قصة أصحاب الكهف، فقال: «غداً أُخبركم» ، ولم يقل: إِن شاء الله وقد سبق هذا في سورة الكهف. وفي مقدار احتباسه عنه خمسة أقوال: أحدها: خمسة عشر يوماً وقد ذكرناه في الكهف عن ابن عباس. والثاني: أربعون يوماً، قاله عكرمة، ومقاتل. والثالث: اثنتا عشرة ليلة، قاله مجاهد. والرابع: ثلاثة أيام، حكاه مقاتل. والخامس: خمسة وعشرون يوماً، حكاه الثعلبي. وقيل: إِن سورة الضحى نزلت في هذا السبب. والمفسرون على أن قوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ قول جبريل. وحكى الماوردي: أنه قول أهل الجنة إِذا دخلوها، فالمعنى: ما ننزل هذه الجنان إِلا بأمر الله. وقيل: ما ننزل موضعاً من الجنة إِلا بأمر الله. وفي قوله ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا قولان «1» : أحدهما: ما بين أيدينا: الآخرة، وما خلفنا: الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل. والثاني: ما بين أيدينا: ما مضى من الدنيا، وما خلفنا من الآخرة، فهو عكس الأول، قاله مجاهد: وقال الأخفش: ما بين أيدينا: قبل أن نُخلَق، وما خلفنا بعد الفناء. وفي قوله تعالى: وَما بَيْنَ ذلِكَ ثلاثة أقوال: أحدها: ما بين الدنيا والآخرة، قاله سعيد بن جبير. والثاني: ما بين النفختين، قاله مجاهد، وعكرمة، وأبو العالية. والثالث: حين كوَّنَنا، قاله الأخفش. قال ابن الأنباري: وإِنما وحَّد ذلك، والإِشارة إِلى شيئين: أحدهما: «ما بين أيدينا» . والثاني: «ما خلفنا» ، لأن العرب توقع ذلك على الاثنين والجمع. قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا النَّسِيُّ، بمعنى الناسي. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: ما كان تاركاً لك منذ أبطأ الوحي عنك، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: ما نسيك عند انقطاع الوحي عنك. والثاني: أنه عالم بما كان ويكون، لا ينسى شيئا، قاله الزّجّاج.

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 608 عنهم بدون إسناد. وأثر الضحاك، أخرجه الطبري 23812. وأثر قتادة. أخرجه الطبري 23809. ويشهد لأصله خبر ابن عباس المتقدم.

[سورة مريم (19) : الآيات 66 إلى 72]

قوله تعالى: فَاعْبُدْهُ أي: وحّده، لأن عبادته بالشِّرك ليست عبادة، وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي: اصبر على توحيده وقيل: على أمره ونهيه. قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يُدغم «هل تعلم» ، ووجهه أن سيبويه يجيز إِدغام اللام في التاء والثاء والدال والزاي والسين والصاد والطاء، لأنّ آخر مخرج من اللام قريب من مخارجهن، قال أبو عبيدة: إِذا كان بعد «هل» تاء، ففيه لغتان وبعضهم يُبين لام «هل» ، وبعضهم يدغمها. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: مِثْلاً وشبهاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة. والثاني: هل تعلم أحداً يسمّى «اللهَ» غيرُه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: هل تعلم أحداً يستحق أن يقال له: خالق وقادر، إلّا هو، قاله الزّجّاج. [سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) قوله تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ. (965) سبب نزولها أن أُبيَّ بن خلف أخذ عظماً بالياً، فجعل يفتّه بيده ويذريه في الريح ويقول: زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وروى عطاء عن ابن عباس: أنه الوليد بن المغيرة. قوله تعالى: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا إِن قيل: ظاهره ظاهر سؤال، فأين جوابه؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري: أحدها: أن ظاهر الكلام استفهام، ومعناه معنى جحد وإِنكار، تلخيصه: لستُ مبعوثاً بعد الموت. والثاني: أنه لمّا استفهم بهذا الكلام عن البعث، أجابه الله عزّ وجلّ بقوله: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ، فهو مشتمل على معنى: نعم، وأنت مبعوث. والثالث: أن جواب سؤال هذا الكافر في يس عند قوله عزّ وجلّ: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا «1» ، ولا يُنكَر بُعْد الجواب، لأن القرآن كلَّه بمنزلة الرسالة الواحدة، والسورتان مكيَّتان. قوله تعالى: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بفتح الذال مشددة الكاف. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر: «يَذْكُرُ» ساكنة الذال خفيفة. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو المتوكّل النّاجي أو لا يتذكَّر الإِنسان: بياء وتاء. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن: «يذْكُر» بياء من غير تاء ساكنة الذال مخففة مرفوعة الكاف، والمعنى: أولا يتذكّر

_ باطل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 609 عن الكلبي بدون إسناد. والصواب عموم الآية.

هذا الجاحد أوَّل خلقه، فيستدل بالابتداء على الإعادة؟! فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ يعني: المكذِّبين بالبعث وَالشَّياطِينَ أي: مع الشياطين، وذلك أن كل كافر يُحشَر مع شيطانه في سلسلة، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ قال مقاتل: أي: في جهنم، وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون داخلَه، تقول: جلس القوم حول البيت: إِذا جلسوا داخله مطيفين به. وقيل: يجثون حولها قبل أن يدخلوها. فأما قوله: جِثِيًّا فقال الزجاج: هو جمع جاثٍ، مثل قاعدٍ وقعودٍ، وهو منصوب على الحال، والأصل ضم الجيم، وجاء كسرها إِتباعاً لكسرة الثاء. وللمفسرين في معناه خمسة أقوال: أحدها: قعوداً، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: جماعات جماعات، وروي عن ابن عباس أيضاً. فعلى هذا هو جمع جثْوة وهي المجموع من التراب والحجارة. والثالث: جثيّاً على الرُّكَب، قاله الحسن، ومجاهد والزجاج. والرابع: قياماً، قاله أبو مالك. والخامس: قياماً على رُكَبهم، قاله السدي، وذلك لضيق المكان بهم. قوله تعالى: لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي: لنأخذنّ من كل فِرقة وأُمَّة وأهل دين أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي: أعظمهم له معصية، والمعنى: أنه يُبدَأ بتعذيب الأعتى فالأعتى، وبالأكابر جُرْماً، والرؤوس القادة في الشرِّ. قال الزجاج: وفي رفع «أَيُّهم» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه على الاستئناف، ولم تعمل «لننزعنّ» شيئا، وهذا قول يونس. والثاني: أنه على معنى الذي يقال لهم: أيُّهم أشدُّ على الرحمن عِتِيّاً؟ قاله الخليل، واختاره الزجاج، وقال: التأويل: لننزعنّ الذي من أجل عُتُوِّه يقال: أيُّ هؤلاء أَشَدُّ عِتِيّاً؟ وأنشد: وَلَقَدْ أَبِيتُ عن الفَتَاةِ بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم أي: أبيت بمنزلة الذي يقال له: لا هو حرج ولا محرم. والثالث: أنّ «أيّهم» مبنية على الضمّ، لأنها خالفت أخواتها، فالمعنى: أيُّهم هو أفضل. وبيان خلافها لأخواتها أنك تقول: اضرب أيُّهم أفضل. ولا يَحْسُن: اضرب مَنْ أفْضل، حتى تقول: من هو أفضل، ولا يَحْسُن: كُلْ ما أطيب، حتى تقول: ما هو أطيب، ولا خُذْ ما أفضل، حتى تقول: الذي هو أفضل، فلما خالفت «ما» و «مَنْ» و «الذي» بُنيت على الضم، قاله سيبويه. قوله تعالى: هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا يعني: أن الأَوْلى بها صِلِيّاً الذين هم أشدُّ عِتِيّاً فيُبْتَدَأُ بهم قبل أتباعهم. و «صِلِيّاً» : منصوب على التفسير، يقال: صَلي النار يصلاها: إِذا دخلها وقاسى حَرَّها. قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها في الكلام إِضمار تقديره: وما منكم أحد إِلا وهو واردها. وفيمن عُني بهذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه عامّ في حق المؤمن والكافر، هذا قول الأكثرين. وروي عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية للكفار. وأكثر الروايات عنه كالقول الأول. قال ابن الأنباري: ووجه هذا أنه لما قال: لَنُحْضِرَنَّهُمْ وقال: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا كان التقدير وإِن منهم، فأبدلت الكاف من الهاء، كما فعل في قوله: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً «1» المعنى: كان لهم، لأنه مردود على قوله: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ «2» ، وقال الشاعر: شطّت مزار العاشقين وأصبحت ... عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم

_ (1) سورة الإنسان: 22. (2) سورة الإنسان: 21.

أراد: طلابها. وفي هذا الورود خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه الدخول. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: (966) «الورود: الدخول لا يبقى بَرّ ولا فاجر إِلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إِبراهيم، حتى إِن للنار- أو قال: لجهنم- ضجيجاً من بردهم» . وروي عن ابن عباس أنه سأله نافع بن الأزرق عن هذه الآية، فقال له: «أمّا أنا وأنت فسندخلها، فانظر أيُخرجنا الله عزّ وجلّ منها، أم لا؟ فاحتج بقوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ «2» وبقوله تعالى: أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «3» . وكان عبد الله بن رواحة يبكي ويقول: أُنبئت أني وارد، ولم أُنبَّأ أني صادر. وحكى الحسن البصري: أن رجلاً قال لأخيه: يا أخي هل أتاك أنك واردٌ النار؟ قال: نعم قال: فهل أتاك أنك خارجٌ منها؟ قال: لا قال: ففيم الضحك؟! وقال خالد بن معدان: إِذا دخل أهل الجنة الجنة، قالوا: ألم يَعِدْنا رَبُّنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: بلى، ولكن مررتم بها وهي خامدة. وممن ذهب إِلى أنه الدخول: الحسن في رواية، وأبو مالك. وقد اعتُرِض على أرباب هذا القول بأشياء. فقال الزجاج: العرب تقول: وردت بلد كذا، ووردت ماء كذا: إِذا أشرفوا عليه وإِن لم يدخلوا، ومنه قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «4» والحجة القاطعة في هذا القول قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «5» ، وقال زهير: فَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمَامُهُ ... وَضَعْنَ عِصيَّ الحاضِرِ المُتَخيِّم «6» أي: لما بلغن الماء قمن عليه. قلت: وقد أجاب بعضهم عن هذه الحجج، فقال: أما الآية الأولى، فإن موسى لما أقام حتى استقى الماء وسقى الغنم، كان بلبثه ومباشرته كأنه دخل، وأما الآية الأخرى فإنها تضمنت الإِخبار عن أهل الجنة حين كونهم فيها، وحينئذ لا يسمعون حسيسها. وقد روينا آنفاً عن خالد بن معدان أنهم يمرُّون بها، ولا يعلمون. والثاني: أن الورود: الممرُّ عليها، قاله عبد الله بن مسعود، وقتادة. وقال ابن مسعود: يَرِد الناس النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولُهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحُضْر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشدِّ الرحل، ثم كمشيه. والثالث: أن ورودها: حضورها، قاله عبيد بن عمير. والرابع: أن ورود المسلمين: المرور على الجسر، وورود المشركين: دخولها. قاله ابن زيد. والخامس: أن ورود المؤمن إِليها: ما يصيبه من الحمَّى في الدنيا، روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال: الحمّى

_ حسن. أخرجه أحمد 3/ 329 والحاكم 4/ 587 ح 8744 والبيهقي في «الشعب» 370 من حديث جابر. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي 7/ 55: رجال أحمد ثقات اه. وهو حديث حسن.

[سورة مريم (19) : الآيات 73 إلى 74]

حظّ كل مؤمن من النار، ثم قرأ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فعلى هذا مَن حُمَّ من المسلمين، فقد وردها. قوله تعالى: كانَ عَلى رَبِّكَ يعني: الورد حتماً والحتم: ايجاب القضاء، والقطع بالأمر. والمقضيُّ: الذي قضاه الله تعالى، والمعنى: إِنه حتم ذلك وقضاه على الخلق. قوله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن يعمر، وابن أبي ليلى، وعاصم الجحدري: «ثَمَّ» بفتح الثاء. وقرأ الكسائي، ويعقوب: «نُنْجي» مخففة. وقرأت عائشة، وأبو بحرية، وأبو الجوزاء الربعي: «ثم يُنجي» بياء مرفوعة قبل النون خفيفة الجيم مكسورة. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو مجلز، وابن السميفع، وأبو رجاء: «ننحِّي» بحاء غير معجمة مشددة. وهذه الآية يحتج بها القائلون بدخول جميع الخلق، لأن النجاة: تخليص الواقع في الشيء، ويؤكِّده قوله تعالى: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ولم يقل: ونُدخلهم وإِنما يقال: نذَر ونترك لمن قد حصل في مكانه. ومن قال: إِن الورود للكفار خاصة، قال: معنى هذا الكلام: نخرج المتَّقين من جملة من يدخل النار. والمراد بالمتقين: الذين اتَّقَوْا الشرك، وبالظالمين: الكفار، وقد سبق معنى قوله عزّ وجلّ: جِثِيًّا. [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 74] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ يعني: المشركين آياتُنا يعني: القرآن قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: مشركي قريش لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: لفقراء المؤمنين أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، وحفص عن عاصم مَقاماً بفتح الميم وقرأ ابن كثير بضم الميم. قال أبو علي الفارسي: المقام: اسم المثوى، إِن فُتحت الميم أو ضُمَّتْ. قوله تعالى: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا والنديُّ والنادي: مجلس القوم ومجتمَعهم. وقال الفراء: النديُّ والنادي، لغتان. ومعنى الكلام: أنحن خير، أم أنتم؟ فافتخروا عليهم بالمساكن والمجالس، فأجابهم الله تعالى فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ وقد بينا معنى القرن في الأنعام «1» وشرحنا الأثاث في النّحل «2» . فأمّا قوله تعالى: وَرِءْياً فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «ورئياً» بهمزة بين الراء والياء في وزن: «رِعيا» قال الزجاج: ومعناها: منظراً، من «رأيت» . وقرأ نافع، وابن عامر: «رِيّاً» بياء مشددة من غير همز، قال الزجاج: لها تفسيران. أحدهما: أنها بمعنى الأولى. والثاني: أنها من الرِّيّ، فالمعنى: منظرهم مرتوٍ من النعمة، كأن النعيم بَيِّنٌ فيهم. وقرأ ابن عباس، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن أبي سريج عن الكسائي: «زيّاً» بالزاي المعجمة مع تشديد الياء من غير همز. قال الزجاج: ومعناها: حسن هيئتهم. [سورة مريم (19) : الآيات 75 الى 76] قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)

_ (1) سورة الأنعام: 6. (2) سورة النحل: 80.

[سورة مريم (19) : الآيات 77 إلى 80]

قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ أي: في الكفر والعمى عن التوحيد فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ قال الزجاج: وهذا لفظ أمر، ومعناه الخبر، والمعنى: أن الله تعالى جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها. قال ابن الأنباري: خاطب الله العرب بلسانها، وهي تقصد التوكيد للخبر بذكر الأمر، يقول أحدهم: إِن زارنا عبد الله فلنكرمه، يقصد التّوكيد ع، وينبِّه على أني أُلزم نفسي إِكرامه ويجوز أن تكون اللام لام الدعاء على معنى: قل يا محمد: مَنْ كان في الضلالة فاللهم مدّ له في العمر مَدّاً. قال المفسرون: ومعنى مدِّ اللهِ تعالى له: إِمهالُه في الغَيِّ. حَتَّى إِذا رَأَوْا يعني الذين مَدَّهم في الضلالة. وإِنما أخبر عن الجماعة، لأنّ لفظ «من» يصحّ للجماعة. ثم ذكر ما يوعدون فقال: إِمَّا الْعَذابَ يعني: القتل، والأسر وَإِمَّا السَّاعَةَ يعني: القيامة وما وُعدوا فيها من الخلود في النار فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً في الآخرة، أهم، أم المؤمنون؟ لأن مكان هؤلاء الجنّة، ومكان هؤلاء النار، وَيعلمون بالنصر والقتل من أَضْعَفُ جُنْداً جندهم، أم جند رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وهذا ردٌّ عليهم في قولهم: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا. قوله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً فيه خمسة أقوال: أحدها: ويزيد الله الذين اهتدَوا بالتوحيد إِيماناً. والثاني: يزيدهم بصيرةً في دينهم. والثالث: يزيدهم بزيادة الوحي إِيماناً، فكلما نزلت سورة زاد إِيمانهم. والرابع: يزيدهم إِيماناً بالناسخ والمنسوخ. والخامس: يزيد الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ. قال الزجاج: المعنى: إِن الله تعالى يجعل جزاءهم أن يزيدهم يقيناً، كما جعل جزاء الكافر أن يمدَّه في ضلالته. قوله تعالى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قد ذكرناها في سورة الكهف «1» . قوله تعالى: وَخَيْرٌ مَرَدًّا المردّ ها هنا مصدر مثل الردّ، والمعنى: وخيرٌ ردّاً للثواب على عامليها، فليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت. [سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا في سبب نزولها قولان: (967) أحدها: ما روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث مسروق عن خبَّاب بن الأرتِّ قال: كنت رجلاً قَيْنَاً، أي حداداً، وكان لي على العاص بن وائل دَيْن، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلّم حتى تموت، ثم تبعث. قال:

_ صحيح. أخرجه البخاري 2275 و 4732 و 4733 ومسلم 2795 ح 36 والترمذي 3162 وأحمد 5/ 110 وابن حبان 5010 من طرق عن سفيان عن الأعمش به. وأخرجه البخاري 2091 و 2425 و 4734 و 4735 ومسلم 2795 والنسائي في «التفسير» 342 وأحمد 1/ 111 وابن حبان 4885 والواحدي في «أسباب النزول» 610 و 611 والطبراني 3651 و 3652 و 3654.

[سورة مريم (19) : الآيات 81 إلى 84]

فإني إِذا مِتُّ ثم بُعثت جئتني ولي ثَمَّ مال وولد، فأعطيتك، فنزلت فيه هذه الآية، إلى قوله عزّ وجلّ: فَرْداً. والثاني: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، وهذا مروي عن الحسن. والمفسرون على الأول. قوله تعالى: لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر: بفتح الواو. وقرأ حمزة، والكسائي: بضم الواو. وقال الفرّاء: وهم لغتان، كالعُدم، والعَدم، وليس يجمع، وقيس تجعل الوُلد جمعاً، والوَلد، بفتح الواو، واحداً. وأين زعم هذا الكافر أن يؤتى المال والولد؟ فيه قولان: أحدهما: أنه أراد في الجنة على زعمكم. والثاني: في الدنيا. قال ابن الأنباري: وتقدير الآية: أرأيته مصيباً؟! قوله تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ قال ابن عباس في رواية: أَعَلِمَ ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو، أم لا؟! وقال في رواية أخرى: أَنَظَر في اللوح المحفوظ؟! قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أم قال: لا إِله إِلا الله، فأرحمه بها؟! قاله ابن عباس. والثاني: أم قدَّم عملاً صالحاً، فهو يرجوه؟! قاله قتادة. والثالث: أم عهد إِليه أنه يدخله الجنة؟! قاله ابن السائب. قوله تعالى: كَلَّا أي: ليس الأمر على ما قال من أن يؤتَى المال والولد. ويجوز أن يكون معنى «كلاَّ» أي: إِنه لم يطَّلع الغيبَ، ولم يتخذ عند الله عهداً. سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي: سنأمر الحفظة بإثبات قوله لنجازيَه به، وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أي: نجعل بعض العذاب على إِثر بعض. وقرأ أبو العالية الرياحي، وأبو رجاء العطاردي: «سيكتب» «ويرثه» بياء مفتوحة. قوله تعالى: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ فيه قولان: أحدهما: نرثه ما يقول أنه له في الجنة، فنجعله لغيره من المسلمين، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء. والثاني: نرث ما عنده من المال، والولد، باهلاكنا إِياه، وإِبطال ملكه، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال قتادة. قال الزجاج: المعنى: سنسلبه المال والولد، ونجعله لغيره. قوله تعالى: وَيَأْتِينا فَرْداً أي: بلا مال ولا ولد. [سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 84] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يعني: المشركين عابدي الأصنام لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا قال الفراء: ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة. قوله تعالى: كَلَّا أي: ليس الأمر كما قدَّروا، سَيَكْفُرُونَ يعني الأصنام بجحد عبادة المشركين، كقوله عزّ وجلّ: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ لأنها كانت جماداً لا تعقل العبادة، وَيَكُونُونَ يعني: الأصنام عَلَيْهِمْ يعني: المشركين ضِدًّا أي: أعواناً عليهم في القيامة، يكذِّبونهم ويلعنونهم. قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ قال الزجاج: في معنى هذا الإِرسال وجهان: أحدهما: خلّينا بين الشياطين وبني الكافرين فلم نعصمهم من القبول منهم. والثاني: وهو المختار: سَلَّطناهم عليهم، وقيَّضْناهم لهم بكفرهم. تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي: تزعجهم إزعاجاً حتى يركبوا

[سورة مريم (19) : الآيات 85 إلى 87]

المعاصي. وقال الفراء: تزعجهم إِلى المعاصي، وتغريهم بها. قال ابن فارس: يقال: أزَّه على كذا: إِذا أغراه به، وأزَّتْ القِدْر: غَلَتْ. قوله تعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أي: لا تعجل بطلب عذابهم. وزعم بعضهم أن هذا منسوخ بآية السيف، وليس بصحيح، إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا في هذا المعدود ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أنفاسهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال طاوس، ومقاتل. والثاني: الأيام، والليالي، والشهور، والسنون، والساعات، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنها أعمالهم، قاله قطرب. [سورة مريم (19) : الآيات 85 الى 87] يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ قال بعضهم: هذا متعلّق بقوله تعالى: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ وقال بعضهم: تقديره: اذكر لهم يوم نحشر المتقين، وهم الذين اتَّقَوْا الله بطاعته واجتناب معصيته. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «يَوم يحشُر» بياء مفتوحة ورفع الشين «ويَسُوق» بياء مفتوحة ورفع السين. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن البصريّ، ومعاذ القارئ، وأبو المتوكل الناجي: «يوم يُحشَر» بياء مرفوعة وفتح الشين «المتقون» رفعاً «ويُسَاق» بألف وياء مرفوعة «المجرمون» بالواو على الرفع. والوفد: جمع وافد، مثل: ركَبْ، ورَاكِب، وصَحْب، وصاحِب. قال ابن عباس، وعكرمة، والفراء: الوفد: الركبان. قال ابن الأنباري: الركبان عند العرب: ركَّاب الإِبل. وفي زمان هذا الحشر قولان: أحدهما: أنه من قبورهم إِلى الرحمن، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثاني: أنه بعد الحساب، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ يعني: الكافرين إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً قال ابن عباس، وأبو هريرة، والحسن: عِطَاشاً. قال أبو عبيدة: الوِرد: مصدر الورود. وقال ابن قتيبة: الوِرد: جماعة يَرِدون الماء، يعني: أنهم عطاش، لأنه لا يَرِد الماءَ إِلا العطشان. وقال ابن الأنباري: معنى قوله: «وِرْداً» : واردين. قوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ أي: لا يشفعون، ولا يُشفَع لهم. قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قال الزجاج: جائز أن يكون «مَن» في موضع رفع على البدل من الواو والنون، فيكون المعنى: لا يملك الشفاعة إِلا من اتخذ عند الرحمن عهداً وجائز أن يكون في موضع نصب على استثناءٍ ليس من الأول، فالمعنى: لا يملك الشفاعة المجرمون، ثم قال: «إِلا» على معنى «لكن» مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً فإنه يملك الشفاعة. والعهد ها هنا: توحيد الله والإِيمان به. وقال ابن الأنباري: تفسير العهد في اللغة: تقدمة أمر يُعْلَم ويُحْفَظ، من قولك: عهدت فلاناً في المكان، أي: عرفته، وشهدته. [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)

[سورة مريم (19) : الآيات 96 إلى 98]

قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً يعني: اليهود، والنصارى، ومن زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي: شيئاً عظيماً من الكفر. قال أبو عبيدة: الإِدُّ، والنُّكْر: الأمر المتناهي العِظَم. قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: «تكاد» بالتاء. وقرأ نافع، والكسائي: «يكاد» بالياء. وقرءا جميعا: «يتفطرن» بالياء والتاء مشدّدة الطّاء، ووافقهما ابن كثير، وحفص عن عاصم في «يتفطَّرن» وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «ينفطرن» ، بالنون وهذا خلافهم في عسق. وقرأ حمزة، وابن عامر في سورة مريم مثل أبي عمرو، وفي «عسق» «1» مثل ابن كثير. ومعنى «يتفطَّرن منه» : يقاربن الانشقاق من قولكم. قال ابن قتيبة: وقوله تعالى: هَدًّا أي: سقوطاً. قوله تعالى: أَنْ دَعَوْا قال الفراء: من أن دعوا، وَلأَن دعوا. وقال أبو عبيدة: معناه: أن جعلوا، وليس هو من دعاء الصوت، وأنشد: أَلا رُبَّ مَنْ تَدْعُو نَصِيحاً وَإِن تَغِب ... تَجِدْهُ بغَيْبٍ غيرَ مُنْتَصِح الصَّدْرِ «2» قوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي: ما يصلح له، ولا يليق به اتخاذ الولد، لأن الولد يقتضي مجانسة، وكل متخذ ولداً يتخذه من جنسه، والله تعالى منزَّهٌ عن أن يجانس شيئاً، أو يجانسه، فمحال في حقه اتخاذ الولد، إِنْ كُلُّ أي: ما كل مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ يوم القيامة عَبْداً ذليلاً خاضعاً. والمعنى: أن عيسى وعزيراً والملائكة عبيد له. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذا دلالة على أن الوالد إِذا اشترى ولده، لم يبق ملكه عليه، وإِنما يعتق بنفس الشراء، لأن الله تعالى نفى البُنُوَّة لأجل العبودية، فدل على أنه لا يجتمع بنوَّةٌ وَرِقٌ. قوله تعالى: لَقَدْ أَحْصاهُمْ أي: علم عددهم وَعَدَّهُمْ عَدًّا فلا يخفى عليه مبلغ جميعهم مع كثرتهم وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً بلا مال، ولا نصير يمنعه. فإن قيل: لأيَّة علَّة وحَّد في «الرحمن» و «آتيه» وجمع في العائد في «أحصاهم، وعدّهم» . فالجواب: أنّ لكلّ لفظ توحيدا، وتأويل جمع، فالتوحيد محمول على اللفظ، والجمع مصروف إلى التأويل. [سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) قوله تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا قال ابن عباس: نزلت في عليّ رضي الله عنه، وقال معناها: يحبُّهم، ويُحبِّبُهم إِلى المؤمنين. قال قتادة: يجعل لهم وُدّاً في قلوب المؤمنين. ومن هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال:

_ (1) سورة الشورى: 2. (2) في «اللسان» : النّصح: نقيض الغش. [.....]

(968) «إِذا أحب الله عبداً قال: يا جبريل، إِني أُحب فلاناً فأحبُّوه، فينادي جبريل في السموات إِن الله يحب فلاناً فأحبّوه فيلقى حبُّه على أهل الأرض فيُحَبُّ» ، وذكر في البغض مثل ذلك. وقال هرم بن حيان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عزّ وجلّ، إلّا أقبل الله عزّ وجلّ بقلوب أهل الإِيمان إِليه، حتى يرزقَه مودَّتهم ورحمتهم. قوله تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ يعني: القرآن. قال ابن قتيبة: أي، سهَّلناه، وأنزلناه بلغتك واللُّدُّ: جمع أَلَدٍّ، وهو الخَصِمُ الجَدِل. قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ هذا تخويف لكفّار مكّة هَلْ تُحِسُّ قال الزجاج: أي: هل ترى يقال: هل أحسستَ صاحبَك، أي: هل رأيتَه؟ والرِّكز: الصوت الخفيُّ وقال ابن قتيبة: الصوتُ الذي لا يُفْهَم، وقال أبو صالح: حركة، والله تعالى أعلم.

_ صحيح. أخرجه البخاري 3209 و 7485 ومسلم 3637 ومالك 2/ 953 والطيالسي 2436 وأحمد 2/ 267 وابن حبان 365 والواحدي في «الوسيط» 3/ 197 كلهم من حديث أبي هريرة. وانظر «أحكام القرآن» 1479 بتخريجنا.

سورة طه

سورة طه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وهي مكية كلُّها باجماعهم. وفي سبب نزول طه ثلاثة أقوال: (969) أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يراوح بين قدميه، يقوم على رِجْل، حتى نزلت هذه الآية، قاله عليّ رضي الله عنه. (970) والثاني: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا نزل عليه القرآن صلَّى هو وأصحابه فأطال القيام، فقالت قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إِلا ليشقى، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك. والثالث: أن أبا جهل، والنضر بن الحارث، والمطعم بن عدي، قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنك لتشقى بترك ديننا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «1» . وفي «طه» قراءات. قرأ ابن كثير، وابن عامر: «طَهَ» بفتح الطاء والهاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر الطاء والهاء. وقرأ نافع: «طه» بين الفتح والكسر، وهو إِلى الفتح أقرب كذلك قال خلف عن المسيّبي. وقرأ أبو عمرو: بفتح الطاء وكسر الهاء وروى عنه عباس مثل حمزة. وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين العقيلي، وسعيد بن المسيب، وأبو العالية: بكسر الطاء وفتح الهاء. وقرأ الحسن «طَهْ» بفتح الطاء وسكون الهاء، وقرأ الضّحّاك، ومورّق العجلي: «طِهْ» بكسر الطاء وسكون الهاء. واختلفوا في معناها على أربعة أقوال «2» : أحدها: أن معناها: يا رجل، رواه العوفيّ عن ابن

_ أخرجه البزار 2232 «كشف» وقال الهيثمي في «المجمع» 11165: فيه يزيد بن بلال. قال البخاري: فيه نظر. وكيسان بن عمرو، وثقه ابن حبان، وضعفه ابن معين، وبقية رجاله رجال الصحيح اه. فالخبر غير قوي، وهو إلى الضعف أقرب. وانظر «تفسير الشوكاني» 1591 بتخريجنا. واه بمرة. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 614 عن الضحاك مرسلا، ومع إرساله مراسيل الضحاك واهية، والراوي عنه جويبر بن سعيد، وهو متروك الحديث، فالخبر لا شيء.

عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة واختلف هؤلاء بأيِّ لغة هي، على أربعة أقوال: أحدها: بالنبطيّة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير في رواية، والضحاك. والثاني: بلسان عكّ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: بالسريانية، قاله عكرمة في رواية، وسعيد بن جبير في رواية، وقتادة. والرابع: بالحبشية، قاله عكرمة في رواية. قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت هذه اللغة في المعنى. والثاني: أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان: أحدهما: أنها من أسماء الله تعالى. ثم فيها قولان: أحدهما: أن الطاء من اللطيف، والهاء من الهادي، قاله ابن مسعود، وأبو العالية، والثاني: أن الطاء افتتاح اسمه «طاهر» و «طيِّب» والهاء افتتاح اسمه «هادي» قاله سعيد بن جبير. والقول الثاني: أنها من غير أسماء الله تعالى. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الطاء من طابة وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والهاء من مكة، حكاه أبو سليمان الدمشقي. والثاني: أن الطاء: طرب أهل الجنة، والهاء: هوان أهل النار. والثالث: أن الطاء في حساب الجُمل تسعة، والهاء خمسة، فتكون أربعة عشر. فالمعنى: يا أيها البدر ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، حكى القولين الثعلبي. والثالث: أنه قَسَم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد شرحنا معنى كونه اسماً في فاتحة (مريم) . وقال القرظي: أقسم الله بطوله وهدايته وهذا القول قريب المعنى من الذي قبله. والرابع: أن معناه: طأِ الأرض بقدميك، قاله مقاتل بن حيّان. ومعنى قوله تعالى لِتَشْقى: لتتعب وتبلغ من الجهد ما قد بلغتَ، وذلك أنه اجتهد في العبادة وبالغ، حتى إنه كان يرواح بين قدميه لطول القيام، فأُمر بالتخفيف. قوله تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً قال الأخفش: هو بدل من قوله تعالى: لِتَشْقى ما أنزلناه إِلا تذكرةً، أي: عظةً. قوله تعالى: تَنْزِيلًا قال الزجاج: المعنى: أنزلناه تنزيلا، والْعُلى جمع العُلَيا، تقول: سماء عُلْيا، وسماوات عُلَى، مثل الكُبرى، والكُبَر، فأما «الثرى» فهو التراب النديّ، والمفسرون يقولون: أراد الثرى الذي تحت الأرض السابعة. قوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أي: ترفع صوتك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ والمعنى: لا تجهد نفسك برفع الصوت، فإن الله يعلم السرّ. وفي المراد ب «السِّرَّ وأخفى» خمسة أقوال «1» : أحدها: أن السرّ: ما أسره الإِنسان في نفسه، وأخفى: ما لم يكن بَعْدُ وسيكون، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثاني: أن السرّ: ما حدَّثتَ به نفسك، وأخفى: ما لم تلفظ به، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أن السرّ: العمل الذي يُسِرُّه الإِنسان من الناس، وأخفى منه: الوسوسةُ، قاله مجاهد. والرابع: أن معنى الكلام: يعلم إِسرار عباده وقد أخفى سرَّه عنهم فلا يُعْلَم، قاله زيد بن أسلم، وابنه. والخامس: يعلم ما أسرَّه الإِنسان إِلى غيره، وما أخفاه في نفسه، قاله الفراء. قوله تعالى: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قد شرحناه في سورة الأعراف «2» .

_ (1) قال الطبري رحمه الله 8/ 394: والصواب من القول في ذلك، معناه: يعلم السرّ وأخفى من السر، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام. فإنه يعلم السر وأخفى من السر وهو ما علم الله مما أخفى عن عباده ولم يعلموه مما هو كائن ولم يكن. (2) سورة الأعراف: 180.

[سورة طه (20) : الآيات 9 إلى 16]

[سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) هذا استفهام تقرير، ومعناه: قد أتاك. قال ابن الأنباري: وهذا معروف عند اللغويين أن تأتي «هل» معبرة عن «قد» . (971) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو أفصح العرب: «اللهم هل بلَّغتُ» ، يريد: قد بلَّغت. قال وهب بن منبِّه: استأذن موسى شعيباً عليهما السلام في الرجوع إِلى والدته، فأذن له، فخرج بأهله، فوُلد له في الطريق في ليلة شاتية، فقدح فلم يور الزّناد، فبينا هو في مزاولته ذلك، أبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق وقد ذكرنا هذا الحديث بطوله في كتاب «الحدائق» فكرهنا إِطالة التفسير بالقصص، لأن غرضنا الاقتصار على التفسير ليسهل حفظه، قال المفسرون: رأى نوراً، ولكن أخبر بما كان في ظن موسى. فَقالَ لِأَهْلِهِ يعنى: امرأته امْكُثُوا اي: أقيموا مكانكم وقرأ حمزة: «لأَهْلِهُ امكثوا» بضمّ الهاء ها هنا وفي القصص «1» إِنِّي آنَسْتُ ناراً قال الفراء: إِني وجدت، يقال: هل آنستَ أحداً، أي: وجدتَ؟ وقال ابن قتيبة: «آنستُ» بمعنى أبصرتُ. فأما القَبَس، فقال الزجاج: هو ما أخذته من النار في رأس عود أو في رأس فتيلة. قوله تعالى: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً قال الفراء: أراد: هادياً، فذكره بلفظ المصدر، قال ابن الأنباري: يجوز أن تكون «على» ها هنا بمعنى «عند» ، وبمعنى «مع» ، وبمعنى الباء. وذكر أهل التّفسير أنه كان قد ضلّ عن الطريق، فعلم أن النار لا تخلو من مُوقِد. وحكى الزجاج: أنه ضل عن الماء، فرجا أن يجد من يهديه الطريق أو يدلّه على الماء. قوله تعالى: فَلَمَّا أَتاها يعني: النار نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إنما كرّر الكناية، لتوكيد

_ صحيح. أخرجه البخاري 925 و 2597 و 6636 و 7174 ومسلم 1832 وأبو داود 2946 والحميدي 840 وأحمد 5/ 423- 424 من طرق عن الزهري عن عروة عن أبي حميد وهو بعض حديث. وأخرجه البخاري 6979 و 7197 ومسلم 1832 ح 27 و 28 والحميدي 840 والشافعي 1/ 247 من طرق عن هشام بن عروة، عن عروة به، وأتم. وأخرجه البغوي 1562 والشافعي 1/ 246- 247 والبيهقي 7/ 16 و 10/ 138 عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلّم رجلا من الأزد يقال له ابن الأتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. قال: «فهلا جلس في بيت أبيه- أو بيت أمه- فينظر يهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت» ثلاثا.

الدلالة وتحقيق المعرفة وإِزالة الشبهة، ومثله: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ «1» . قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر: «أَنِّيَ» بفتح الألف والياء. وقرأ نافع وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «إِنِّي» بكسر الألف، إِلا أن نافعاً فتح الياء، قال الزجاج: من قرأ: «أَنِّي أنا» بالفتح، فالمعنى: نودي بأني أنا ربك، ومن قرأ بالكسر، فالمعنى: نودي يا موسى، فقال الله: إِنِّي أنا ربُّك. قوله تعالى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ في سبب أمره بخلعهما قولان: (972) أحدهما: أنهما كانا من جلدِ حمارٍ ميت، رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبه قال عليّ بن أبي طالب، وعكرمة. والثاني: أنهما كانا من جلد بقرة ذُكِّيتْ، ولكنه أُمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدسة، فتناله بركتها، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة. قوله تعالى: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ فيه قولان قد ذكرناهما في سورة المائدة «2» عند قوله تعالى: الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. قوله تعالى: طُوىً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «طُوى، وأنا» غير مُجْراة. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «طُوىً» مُجْراة وكلُّهم ضم الطاء، وقرأ الحسن وأبو حيوة: «طِوىً» بكسر الطاء مع التنوين، وقرأ عليّ بن نصر عن أبي عمرو: «طِوى» بكسر الطاء من غير تنوين. قال الزجاج: في «طُوى» أربعة أوجه. طُوى، بضم أوَّله من غير تنوين وبتنوين. فمن نوَّنه، فهو اسم للوادي. وهو مذكَّر سمي بمذكَّر على فُعَلٍ نحو حُطَمٍ وصُرَدٍ، ومن لم ينوِّنه ترك صرفه من جهتين: إِحداهما: أن يكون معدولاً عن طاوٍ، فيصير مثل «عُمَرَ» المعدول عن عامر، فلا ينصرف كما لا ينصرف «عُمَر» . والجهة الثانية: أن يكون اسماً للبقعة، كقوله: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ «3» ، وإِذا كُسِر ونوِّن فهو مثل مِعىً. والمعنى: المقدَّس مَرَّة بعد مَرَّة كما قال عدي بن زيد: أَعاذِلَ، إِنَّ اللَّومَ في غَيْرِ كُنْهِهِ ... عليَّ طوىً مِن غَيِّك المُتَردِّد أي: اللوم المكرَّر عليَّ ومن لم ينوِّن جعله اسماً للبقعة. وللمفسرين في معنى «طوىً» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم الوادي، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أن معنى «طوى» : طأِ الوادي، رواه عكرمة عن ابن عباس، وعن مجاهد كالقولين. والثالث: أنه قدِّس مرتين، قاله الحسن وقتادة. قوله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ أي: اصطفيتُك، وقرأ حمزة، والمفضل: «وأنّا» بالنون المشدّدة

_ ضعيف جدا. أخرجه الترمذي 1734 والطبري 24038 والحاكم 2/ 379 والذهبي في «الميزان» 1/ 615 من طرق عن حميد بن عبد الله الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود مرفوعا. صححه الحاكم على شرط البخاري! وتعقبه الذهبي بقوله: بل ليس على شرط البخاري وإنما غرّه أن في الإسناد حميد بن قيس كذا، وهو خطأ. إنما هو حميد الأعرج الكوفي ابن علي أو ابن عمارة، أحد المتروكين. فظنه المكي الصادق. وقال الترمذي: غريب، وحميد هو ابن علي، سمعت محمدا- البخاري- يقول: منكر الحديث. ونقل الذهبي في «الميزان» 1/ 615 عن ابن حبان قوله: روى عن ابن مسعود نسخة كأنها موضوعة.

«اخترناكَ» بألف. فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى أي: للذي يوحى، قال ابن الأنباري: الاستماع ها هنا محمول على الإِنصات. المعنى: فأنصت لوحيي، والوحي ها هنا قوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي أي: وحِّدني، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي فيه قولان: أحدهما: أقم الصلاة متى ذكرتَ أن عليكَ صلاةً، سواء كنتَ في وقتها أو لم تكن، هذا قول الأكثرين. (973) وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من نسي صلاة فليصلها إِذا ذكرها، لا كفارة لها غير ذلك، وقرأ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» . والثاني: أقم الصلاة لتَذْكُرَني فيها، قاله مجاهد: وقيل: إِن الكلام مردود على قوله: فَاسْتَمِعْ، فيكون المعنى: فاستمع لما يوحى، واستمع لذِكْري. وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن السميفع: «وأقم الصلاة للذِّكْرى» بلامين وتشديد الذال. قوله تعالى: أَكادُ أُخْفِيها أكثر القراء على ضم الألف. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أكاد أخفيها من نفسي، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد في آخرين. وقرأ ابن مسعود وأُبيّ بن كعب، ومحمد بن عليّ: أكاد أخفيها من نفسي، قال الفراء: المعنى: فكيف أُظهركم عليها؟ قال المبرِّد: وهذا على عادة العرب، فإنهم يقولون إِذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمتُه حتى مِنْ نَفْسي، أي: لم أُطلع عليه أحداً. والثاني: أن الكلام تم عند قوله: «أكاد» ، وبعده مضمر تقديره: أكاد آتي بها والابتداء: أخفيها، قال ضابئ البرجمي: هممت ولم أفعل وكدت «2» أراد: كدتُ أفعل. والثالث: أن معنى «أكاد» : أريد، قال الشاعر: كادَتْ وكِدْتُ وَتِلْكَ خَيْرُ إِرَادَةٍ ... لَوْ عَادَ مِنْ لَهْو الصَّبابَة مَا مَضَى «3» معناه: أرادت وأردتُ، ذكرهما ابن الأنباري. فإن قيل: فما فائدة هذا الإِخفاء الشديد؟ فالجواب: أنه للتحذير والتخويف، ومن لم يعلم متى يهجم عليه عدوُّه كان أشد حذراً. وقرأ سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبو رجاء العطاردي، وحميد بن قيس: «أَخفيها» بفتح الألف، قال الزجاج: ومعناه: أكاد أظهرها، قال امرؤ القيس: وإن تَدفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِهِ ... وإِنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نقعد «4»

_ صحيح. أخرجه البخاري 597 و 847 ومسلم 684 وأبو داود 442 والترمذي 178 والنسائي 614 وابن ماجة 696 وأحمد 3/ 243 وأبو يعلى 2854 كلهم من حديث أنس.

[سورة طه (20) : الآيات 17 إلى 23]

أي: إِن تدفنوا الداء لا نُظهره. قال: وهذه القراءة أَبْيَن في المعنى، لأن معنى «أكاد أُظهرها» قد أخفيتُها وكدت أُظهرها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي: بما تعمل. ولِتُجْزى متعلق بقوله: «إِن الساعة آتية» لتجزى، ويجوز أن يكون على «أقم الصلاة لذكري» لتجزى. قوله تعالى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أي: عن الإِيمان بها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها أي: من لا يؤمن بكونها والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلّم خطاب لجميع أُمَّته، وَاتَّبَعَ هَواهُ أي: مُراده وخالف أمر الله عزّ وجلّ، فَتَرْدى أي: فتَهلِك قال الزجاج: يقال: رَدِي يردى ردى: إذا هلك. [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 23] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ قال الزجاج: «تلك» اسم مبهم يجري مجرى «التي» ، والمعنى: ما التي بيمينك؟ قوله تعالى: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها التّوكّؤ: التّحامل على الشيء اليابس وَأَهُشُّ بِها قال الفراء: أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي، قال الزجاج: واشتقاقه من أنّي أُحيل الشيء إِلى الهشاشة والإِمكان. والمآرب: الحاجات، واحدها: مَأْرُبَة، ومَأْرَبَة، وروى قتيبة، وورش: «مآرب» بامالة الهمزة. فإن قيل: ما الفائدة في سؤال الله تعالى له: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وهو يعلم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن لفظه لفظ الاستفهام، ومجراه مجرى السؤال، يجيب المخاطَب بالإِقرار به، فتثبت عليه الحجة باعترافه فلا يمكنه الجحد، ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعندك ماء: ما هذا؟ فيقول: ماءٌ، فتضع عليه شيئاً من الصبغ، فإن قال: لم يزل هكذا، قلت له: ألست قد اعترفت بأنه ماء؟ فتثبت عليه الحجة، هذا قول الزجاج. فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرَّر موسى أنها عصاً لمّا أراد أن يريَه من قدرته في انقلابها حيَّة، فوقع المُعْجِز بها بعد التثبت في أمرها. والثاني: أنه لما اطَّلع الله تعالى على ما في قلب موسى من الهيبة والإِجلال حين التكليم، أراد أن يؤانسه ويخفف عنه ثِقَل ما كان فيه من الخوف، فأجرى هذا الكلام للاستئناس، حكاه أبو سليمان الدمشقي. فإن قيل: قد كان يكفي في الجواب أن يقول: «هي عصاي» فما الفائدة في قوله: «أتوكَّأُ عليها» إِلى آخر الكلام، وإِنما يُشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه أجاب بقوله: «هي عصاي» فقيل له: ما تصنع بها؟ فذكر باقي الكلام جواباً عن سؤال ثانٍ، قاله ابن عباس، ووهب. والثاني: أنه إِنما أظهر فوائدها، وبيَّن حاجته إِليها، خوفاً من أن يأمره بإلقائها كالنّعلين، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أنه بيَّن منافعها لئلا يكون عابثاً بحملها، قاله الماوردي. فإن قيل: فلم اقتصر على ذِكْر بعض منافعها ولم يُطِل الشرح؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه كره أن يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها. والثاني: أنه استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التعداد. والثالث: أنه اقتصر على اللازم دون العارض. وقيل: كانت تضيء له بالليل، وتدفع عنه الهوام، وتثمر له إِذا اشتهى الثمار. وفي جنسها قولان: أحدهما: أنها كانت من آس الجنة، قاله ابن عباس. والثاني: أنها كانت من عوسج.

[سورة طه (20) : الآيات 24 إلى 35]

فإن قيل: المآرب جمع، فكيف قال: «أُخرى» ولم يقل: «أُخَر» ؟ فالجواب: أن المآرب في معنى جماعة، فكأنه قال: جماعة من الحاجات أُخرى، قاله الزجاج. قوله تعالى: قالَ أَلْقِها يا مُوسى قال المفسرون: ألقاها، ظنّاً منه أنه قد أُمر برفضها، فسمع حِسّاً فالتفتَ فإذا هي كأعظم ثعبان تمر بالصخرة العظيمة فتبتلعها، فهرب منها. وفي وجه الفائدة في إظهار هذه الآية ليلة المخاطبة قولان: أحدهما: لئلا يخاف منها إِذا ألقاها بين يدي فرعون. والثاني: ليريَه أن الذي أبعثك إِليه دون ما أريتك، فكما ذلَّلْتُ لك الأعظم وهو الحية، أُذلّلُ لكَ الأدنى. ثم إِن الله تعالى أمره بأخذها وهي على حالها حيَّة، فوضع يده عَليها فعادت عصاً، فذلك قوله: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قال الفرّاء: طريقتها، يقول: تردّها عصا كما كانت، قال الزّجّاج: «وسيرتها» منصوبة على إِسقاط الخافض وإِفضاء الفعل إِليها، المعنى: سنُعيدها إِلى سيرتها. فإن قيل: إِنما كانت العصا واحدة، وكان إِلقاؤها مَرَّة، فما وجه اختلاف الأخبار عنها، فإنه يقول في الأعراف: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «1» ، وها هنا: «حية» وفي مكان آخر: كَأَنَّها جَانٌّ «2» ليست بالعظيمة، والثعبان أعظم الحيات؟ فالجواب: أن صفتها بالجان عبارة عن ابتداء حالها، وبالثعبان إِخبار عن انتهاء حالها، والحيّة اسم يقع على الصغير والكبير والذكر والأنثى. وقال الزجاج: خَلْقُها خَلْق الثعبان العظيم، واهتزازها وحركتها وخِفَّتها كاهتزاز الجانِّ وخِفَّته. قوله تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ قال الفراء: الجناح من أسفل العَضُد إِلى الإِبط. وقال أبو عبيدة: الجناح ناحية الجَنْب، وأنشد: أَضُمُّهُ للصَّدْر والجَنَاحِ قوله تعالى: تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي: من غير بَرَص آيَةً أُخْرى أي: دلالة على صدقك سوى العصا. قال الزجاج: ونصب «آيةً» على معنى: آتيناك آية، أو نؤتيك. قوله تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى. إِن قيل: لِمَ لم يقل: «الكُبَر» ؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه كقوله: مَآرِبُ أُخْرى وقد شرحناه، هذا قول الفراء. والثاني: أن فيه إِضماراً تقديره: لنريك من آياتنا الآية الكبرى. وقال أبو عبيدة: فيه تقديم وتأخير، تقديره: لنريك الكبرى من آياتنا. والثالث: أنه إنما كان ذلك لوفاق الآي، حكى القولين الثّعلبيّ. [سورة طه (20) : الآيات 24 الى 35] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قوله تعالى: إِنَّهُ طَغى أي: جاوز الحدَّ في العصيان. قوله تعالى: اشْرَحْ لِي صَدْرِي قال المفسرون: ضاق موسى صدراً بما كلِّف من مقاومة فرعون

_ (1) سورة الأعراف: 107. (2) سورة النمل: 20. [.....]

[سورة طه (20) : الآيات 36 إلى 42]

وجنوده، فسأل الله تعالى أن يُوسِّع قلبه للحق حتى لا يخاف فرعونَ وجنوده. ومعنى قوله: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي: سهِّل عليَّ ما بعثتَني له. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي قال ابن قتيبة: كانت فيه رُتَّة «1» قال المفسرون: كان فرعون قد وضع موسى في حِجره وهو صغير، فجرَّ لحية فرعون بيده، فهمَّ بقتله، فقالت له آسية: إِنه لا يعقل، وسأُريك بيان ذلك، قدِّم إِليه جمرتين ولؤلؤتين، فإن اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، فأخذ موسى جمرة فوضعها في فيه فأحرقت لسانه وصار فيه عقدة، فسأل حَلَّها ليفهموا كلامه. وأما الوزير، فقال ابن قتيبة: أصل الوِزَارة من الوِزْر وهو الحِمْلِ، كأن الوزير قد حمل عن السلطان الثِّقْل. وقال الزجاج. اشتقاقه من الوَزَر، والوَزَر: الجبل الذي يُعتصم به ليُنجى من الهلكة، وكذلك وزير الخليفة، معناه: الذي يعتمد عليه في أموره ويلتجئ إِلى رأيه. ونصب «هارون» من جهتين. إِحداهما: أن تكون «اجعل» تتعدى إِلى مفعولين، فيكون المعنى: اجعل هارون أخي وزيري، فينتصب «وزيراً» على أنه مفعولٌ ثانٍ. ويجوز أن يكون «هارون» بدلاً من قوله: وَزِيراً، فيكون المعنى: اجعل لي وزيراً من أهلي، ثم أبدل هارون من وزير والأول أجود. قال الماوردي: وإِنما سأل الله تعالى أن يجعل له وزيراً، لأنه لم يُرِد أن يكون مقصوراً على الوزارة حتى يكون شريكاً في النبوَّة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزر من غير مسألة. وحرّك ابن كثير، وأبو عمرو بفتح ياء «أخيَ» . قوله تعالى: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي قال الفراء: هذا دعاء من موسى، والمعنى: اشْدُد به يا ربِّ أزري، وأَشْرِكه يا ربِّ في أمري. وقرأ ابن عامر: «أَشدد» بالألف مقطوعة مفتوحة، «وأشركه» بضمّ الألف، وكذلك يبتدئ بالأَلفين. قال أبو علي: هذه القراءة على الجواب والمجازاة، والوجه الدعاء دون الإِخبار، لأن ما قَبْله دعاء، ولأن الإِشراك في النبوَّة لا يكون إلّا من الله عزّ وجلّ. قال ابن قتيبة: والأَزْر: الظهر، يقال: آزرت فلاناً على الأمر، أي: قوَّيته عليه وكنت له فيه ظَهْراً. قوله تعالى: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي: في النبوَّة معي كَيْ نُسَبِّحَكَ أي: نصلّي لكَ وَنَذْكُرَكَ بألسنتنا حامدين لك على ما أوليتنا أي من نِعَمِكَ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أي: عالما إذ خصصتنا بهذه النّعم، [سورة طه (20) : الآيات 36 الى 42] قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) قوله تعالى: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ قال ابن قتيبة: أي: طَلِبَتَكَ، وهو «فُعْل» من «سَأَلْت» ، أي: أُعطيتَ ما سألتَ. قوله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ أي: أنعمنا عليكَ مَرَّةً أُخْرى قبل هذه المَرَّة. ثم بيَّن متى كانت بقوله: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أي: ألهمناها ما يُلهم مما كان سببا لنجاتك، ثم فسّر

_ (1) في «اللسان» : الرّتّة بالضم: عجلة في الكلام، وقلة أناة، وقيل: هو أن يقلب اللام ياء.

ذلك بقوله: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ وقذف الشيء: الرمي به. فإن قيل: ما فائدة قوله: لِما يُوحى وقد علم ذلك؟ فقد ذكر عنه ابن الأنباري جوابين: أحدهما: أن المعنى: أوحينا إِليها الشيء الذي يجوز أن يوحى إِليها، إِذ ليس كل الأمور يصلح وحيه إِليها، لأنها ليست بنبيّ، وذلك أنها أُلهمت. والثاني: أنّ لِما يُوحى أفاد توكيداً، كقوله: فَغَشَّاها ما غَشَّى «1» . قوله تعالى: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ قال ابن الأنباري: ظاهر هذا الأمرُ، ومعناه معنى الخبر، تأويله: يلقيه اليمُّ، ويجوز أن يكون البحر مأموراً بآلة ركَّبها الله تعالى فيه، فسمع وعقل، كما فعل ذلك بالحجارة والأشجار. فأما الساحل، فهو: شط البحر. يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ يعني: فرعون. قال المفسرون: اتخذت أُمُّه تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً، ووضعت فيه موسى وأَحكمت بالقار شقوق التابوت، ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية، إِذا بالتابوت، فأمر الغلمان والجواري بأخذه، فلما فتحوه رأَوا صبياً من أصبح الناس وجهاً فلما رآه فرعون أحبَّه حُبّاً شديداً، فذلك قوله: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، قال أبو عبيدة: ومعنى «ألقيتُ عليكَ» أي: جعلتُ لكَ مَحَبَّة مِنّي. قال ابن عباس: أَحَبَّه وحبَّبَه إِلى خَلْقه، فلا يلقاه أحد إِلا أحبَّه من مؤمن وكافر. وقال قتادة: كانت في عينيه مَلاحة، فما رآه أحد إلّا أحبّه. قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي وقرأ أبو جعفر: «ولْتُصنعْ» بسكون اللام والعين والإِدغام. قال قتادة: لتُغذى على محبتي وإِرادتي. قال أبو عبيدة: على ما أُريد وأُحِبّ. قال ابن الأنباري: هو من قول العرب: غُذي فلان على عيني، أي: على المَحَبَّة مِنّي. وقال غيره: لتُرَبَّى وتغذى بمرأىً مني، يقال: صنع الرَّجل جاريته: إِذا ربَّاها وصنع فرسه: إِذا داوم على علفه ومراعاته، والمعنى: ولِتُصْنَعَ على عيني، قدَّرنا مشي أختك وقولها: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ لأن هذا كان من أسباب تربيته على ما أراد الله تعالى. فأما أُخته، فقال مقاتل: اسمها مريم. قال الفراء: وإِنما اقتصر على ذِكْر المشي، ولم يذكر أنها مشت حتى دخلت على آل فرعون فدلّتهم على الظّئر، لأنّ العرب تجتزئ بحذف كثير من الكلام، وبقليله، إِذا كان المعنى معروفاً، ومثله قوله: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ «2» ، ولم يقل: فأُرسل حتى دخل على يوسف. قال المفسرون: سبب مشي أُخته أن أُمَّه قالت لها: قُصِّيه، فاتَّبعت موسى على أثر الماء، فلما التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة، فقالت لهم أُخته: «هل أدُلُّكم على من يَكْفُلُه» أي: يُرْضِعه ويضمه إِليه، فقيل لها: ومن هي؟ فقالت: أُمي، قالوا: وهل لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون، وكان هارون أسنَّ من موسى بثلاث سنين، فأرسلوها، فجاءت بالأم فقبل ثديها، فذلك قوله تعالى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ أي: رددناك إِليها كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بك وبرؤيتك. وَقَتَلْتَ نَفْساً يعني: القبطي الذي وكره فقضى عليه، وسيأتي ذِكْره إِن شاء الله تعالى فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وكان مغموماً مخافةَ أن يُقْتَل به، فنجّاه الله بأن هرب إِلى مَدْيَن، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: اختبرناك اختباراً، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أخلصناك إِخلاصاً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: ابتليناك ابتلاءً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال الفراء: ابتليناك بغمّ

_ (1) سورة النجم: 54. (2) سورة يوسف: 45.

[سورة طه (20) : الآيات 43 إلى 48]

القتل ابتلاءً. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الفتون: وقوعُه في محنة بعد محنة خلَّصه الله منها، أولها أن أُمَّه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إِلقاؤه في البحر، ثم منعه الرضاع إِلا من ثدي أمه، ثم جرُّه لحية فرعون حتى همَّ بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الدُّرَّة، ثم قتله القبطيّ، ثم خروجه إِلى مَدْيَن خائفاً وكان ابن عباس يقصُّ هذه القصص على سعيد بن جبير، ويقول له عند كلّ بليّة: وهذا من الفُتون يا ابن جبير فعلى هذا يكون معنى «فتنَّاكَ» خلَّصناكَ من تلك المحن كما يُفْتَن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث. والفتون: مصدر. قوله تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ تقدير الكلام: فخرجتَ إِلى أهل مدين. ومدين: بلد شعيب، وكان على ثماني مراحل من مصر، فهرب إِليه موسى. وقيل: مدين: اسم رجل، وقد سبق هذا «1» . وفي قدر لبثه هناك قولان: أحدهما: عشر سنين، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: ثمان وعشرون سنة، عشر منهنَّ مهر امرأته، وثمان عشرة أقام حتى وُلد له، قاله وهب. قوله تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ أي: جئتَ لميقاتٍ قدَّرتُه لمجيئكَ قبل خَلْقِك، وكان ذلك على رأس أربعين سنة، وهو الوقت الذي يوحى فيه إِلى الأنبياء، هذا قول الأكثرين. وقال الفراء: «على قَدَرٍ» أي: على ما أراد الله به من تكليمه. قوله تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي: اصطفيتُك واختصصتك، والاصطناع: اتخاذ الصنيعة، وهو الخير تسديه إِلى إِنسان. وقال ابن عباس: اصطفيتك لرسالتي ووحيي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها العصا واليد. وقد يُذْكَر الاثنان بلفظ الجمع. والثاني: العصا واليد وحَلُّ العُقدة التي ما زال فرعون وقومه يعرفونها، ذكرهما ابن الأنباري. والثالث: الآيات التسع. والأول أصح. قوله تعالى: وَلا تَنِيا قال ابن قتيبة: لا تَضْعُفا ولا تفْتُرا يقال: ونَى يني في الأمر وفيه لغة أخرى: وَنَيَ، يونى. وفي المراد بالذّكر ها هنا قولان «2» : أحدهما: أنه الرسالة إِلى فرعون. والثاني: أنه القيام بالفرائض والتّسبيح والتّهليل. [سورة طه (20) : الآيات 43 الى 48] اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قوله تعالى: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ فائدة تكرار الأمر بالذهاب، التوكيد. وقد فسرنا قوله إِنَّهُ طَغى «3» . قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «ليْنا» باسكان

_ (1) في سورة الأعراف: 86. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 194: والمراد أنهما لا يفتران عن ذكر الله، بل يذكر ان الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه، وقوّة لهما وسلطانا كاسرا له، كما جاء في الحديث: «إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه» . (3) في سورة طه: 24.

الياء، أي: لطيفا رفيقاً. وللمفسرين فيه خمسة أقوال: أحدها: قولا له: قل: «لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له» ، رواه خالد بن معدان عن معاذ، والضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه قوله: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى «1» ، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثالث: كنِّيَاه، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي. فأما اسمه، فقد ذكرناه في البقرة «2» . وفي كنيته أربعة أقوال. أحدها: أبو مُرَّة، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أبو مصعب، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والثالث: أبو العباس. والرابع: أبو الوليد، حكاهما الثعلبي. والقول الرابع: قولا له: إِن لكَ ربّاً، وإِن لكَ مَعَاداً، وإِن بين يديكَ جَنَّة وناراً، قاله الحسن. والخامس: أن القول اللين: أن موسى أتاه، فقال له: تؤمن بما جئتُ به وتعبد ربَّ العالمين، على أن لكَ شبابك فلا تهرم، وتكون مَلِكاً لا يُنزع منك حتى تموت، فإذا متَّ دخلتَ الجنة، فأعجبه ذلك فلما جاء هامان، أخبره بما قال موسى، فقال: قد كنتُ أرى أن لكَ رأياً، أنت ربٌّ أردتَ أن تكون مربوباً؟! فقلبه عن رأيه، قاله السدي. وحكي عن يحيى بن معاذ أنه قرأ هذه الآية، فقال: إِلهي هذا رِفقك بمن يقول: أنا إله، فكيف رِفقك بمن يقول: أنت إِله. قوله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قال الزجاج: «لَعَلَّ» في اللغة: ترجٍّ وطمع، تقول: لَعَلِّي أصير إلى خير، فخاطب الله تعالى العباد بما يعقلون. والمعنى عند سيبويه: اذهبا على رجائكما وطمعكما. والعلم من الله تعالى من وراء ما يكون، وقد عَلِم أنه لا يتذكر ولا يخشى، إِلا أن الحُجَّة إِنما تجب عليه بالآية والبرهان، وإِنما تُبعث الرسل وهي لا تعلم الغيب ولا تدري أيُقبل منها، أم لا، وهم يرجون ويطمعون أن يُقبل منهم، ومعنى «لعلَّ» متصوَّر في أنفسهم، وعلى تصوُّر ذلك تقوم الحُجَّة. قال ابن الأنباري: ومذهب الفراء في هذا: كي يتذكَّر. وروى خالد بن معدان عن معاذ قال: والله ما كان فرعون ليخرج من الدنيا حتى يتذكَّر أو يَخْشى، لهذه الآية، وإِنَّه تذكَّر وخشي لمَّا أدركه الغرق. وقال كعب: والذي يحلِفُ به كعب، إِنه لمكتوب في التوراة: فقولا له قولاً ليِّناً، وسأقسِّي قلبه فلا يؤمن. قال المفسرون: كان هارون يومئذ غائباً بمصر، فأوحى الله تعالى إِلى هارون أن يتلقَّى موسى، فتلقَّاه على مرحلة، فقال له موسى: إِن الله تعالى أمرني أن آتيَ فرعون، فسألتُه أن يجعلكَ معي فعلى هذا يحتمل أن يكونا حين التقيا قالا: ربَّنا إِننا نخاف. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون القائل لذلك موسى وحده، واخبر الله عنه بالتثنية لمَّا ضم إِليه هارون، فإن العرب قد تُوقع التثنية على الواحد، فتقول: يا زيد قوما، يا حرسيُّ اضربا عنقه. قوله تعالى: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن السميفع، وابن يعمر، وأبو العالية: «أن يُفْرِط» برفع الياء وكسر الراء. وقرأ عكرمة، وإِبراهيم النخعي: «أن يَفْرَط» بفتح الياء والراء. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن محيصن: «أن يفرط» بضمّ الياء وفتح الراء. قال الزجاج: المعنى، أن يبادر بعقوبتنا، يقال: قد فَرَط منه أمر، أي: قد بَدَر وقد أفرط في الشيء: إِذا اشتطَّ فيه وفرَّط في الشيء: إِذا قصَّر ومعناه كلُّه: التقدم في الشيء، لأن الفرط في اللغة: المتقدّم.

_ (1) سورة النازعات: 18 و 19. (2) سورة البقرة: 49.

[سورة طه (20) : الآيات 49 إلى 55]

(974) ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا فَرَطُكم على الحوض» . قوله تعالى: أَوْ أَنْ يَطْغى فيه قولان: أحدهما: يستعصي، قاله مقاتل. والثاني: يجاوز الحدَّ في الإِساءة إِلينا. قال ابن زيد: نخاف أن يعجِّل علينا قبل أن نبلِّغه كلامك وأمرك. قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أي: بالنصرة والعون أَسْمَعُ أقوالكم وَأَرى أفعالكم. قال الكلبي: أسمعُ جوابَه لكما، وأرى ما يفعل بكما. قوله تعالى: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: خلِّ عنهم (ولا تعذِّبهم) وكان يستعملهم في الأعمال الشاقَّة، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ قال ابن عباس: هي العصا. قال مقاتل: أظهر اليد في مقام، والعصا في مقام. قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى قال مقاتل: على مَنْ آمن بالله. قال الزجاج: وليس يعني به التحيَّة، وإِنما معناه: أن مَن اتَّبع الهُدى، سَلِم من عذاب الله وسخطه، والدليل على أنه ليس بسلام، أنه ليس بابتداء لقاءٍ وخطاب. قوله تعالى: عَلى مَنْ كَذَّبَ أي: بما جئنا به وأعرض عنه. [سورة طه (20) : الآيات 49 الى 55] قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) قوله تعالى: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما في الكلام محذوف معناه معلوم، وتقديره: فأتَياه فأَدَّيا الرسالة. قال الزجاج: وإِنما لم يقل: فأتَياه، لأن في الكلام دليلاً على ذلك، لأن قوله: «فمن ربُّكما» يدل على أنهما أتياه وقالا له. قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أعطى كُلَّ شيء صورته، فخلق كُلَّ جنس من الحيوان على غير صورة جنسه، فصورة ابن آدم لا كصورة البهائم، وصورة البعير لا كصورة الفرس، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير. والثاني: أعطى كلّ ذكر زوجة مثله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال السدي، فيكون المعنى: أعطى كُلَّ حيوان ما يشاكله. والثالث: أعطى كل شيء ما يُصْلِحه، قاله قتادة. وفي قوله: ثُمَّ هَدى ثلاثة أقوال: أحدها: هدى كيف يأتي الذَّكَرُ الأنثى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير. والثاني: هدى للمنكح والمطعم والمسكن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: هدى كل شيء إِلى معيشته، قاله مجاهد. وقرأ عمر بن الخطاب، وابن عباس، والأعمش، وابن السميفع، ونصير عن الكسائي: «أعطى كُلَّ شيء خَلَقَهُ» بفتح اللام.

_ صحيح. أخرجه البخاري 6589 ومسلم 2289 والحميدي 787 وابن أبي شيبة 11/ 440 وأحمد 4/ 313 والطبراني 1688 و 1689 و 1691 وابن حبان 6445 و 6446 من طرق عن جندب بن سفيان البجليّ. وفي الباب أحاديث كثيرة.

[سورة طه (20) : الآيات 56 إلى 64]

فإن قيل: ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا؟ فالجواب: أنه قد ثبت وجود خَلْق وهداية، فلا بد من خالقٍ وهادٍ. قوله تعالى: قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها، ولم يكن له بذلك عِلْم، إِذ التوراة إِنما نزلت عليه بعد هلاك فرعون، فقال: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، هذا مذهب مقاتل. وقال غيره: أراد: إِنِّي رسول، وأخبار الأمم علم غيب، فلا علم له بالغيب. والثاني: أن مراده من السؤال عنها: لم عُبدت الأصنامُ، ولِم لم يُعبدِ اللهُ إِن كان الحقُّ ما وصفتَ؟! والثالث: أن مراده: ما لها لا تُبعث ولا تُحاسَب ولا تجازى؟! فقال: عِلْمها عند الله، أي: عِلْم أعمالها. وقيل: الهاء في «عِلْمُها» كناية عن القيامة، لأنه سأله عن بعث الأمم، فأجابه بذلك. وقوله: فِي كِتابٍ أراد: اللوح المحفوظ. قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى وقرأ عبد الله بن عمرو، وعاصم الجحدري، وقتادة، وابن محيصن: «لا يُضِلُّ» بضم الياء وكسر الضاد، أي: لا يضيِّعه وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «لا يُضَل» بضم الياء وفتح الضاد. وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال، والمعنى: لا يخطئ ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم. وقيل: أراد: لم يجعل ذلك في كتاب لأنه يضل وينسى. قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «مهاداً» . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «مهداً» بغير ألف. والمهاد: الفراش، والمهد: الفرش. وَسَلَكَ لَكُمْ أي: أدخل لأجْلكم في الأرض طُرُقاً تسلكونها، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر. وهذا آخر الإِخبار عن موسى. ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ يعني: بالماء أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي: أصنافاً مختلفة في الألوان والطُّعوم، كل صنف منها زوج. و «شتى» لا واحد له من لفظه. كُلُوا أي: مما أخرجنا لكم من الثمار وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ يقال: رعى الماشية، يرعاها: إِذا سرَّحها في المرعى. ومعنى هذا الأمر: التذكير بالنِّعم، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي: لَعِبَراً في اختلاف الألوان والطعوم لِأُولِي النُّهى قال الفراء: لذوي العقول، يقال للرجل: إِنه لذو نُهْيَةٍ: إِذا كان ذا عقل. قال الزجاج: واحد النُّهى: نُهْيَة، يقال: فلان ذو نُهْيَة، أي: ذو عقل ينتهي به عن المقابح، ويدخل به في المحاسن قال: وقال بعض أهل اللغة: ذو النُّهية: الذي يُنتهى ِإِلى رأيه وعقله، وهذا حسن أيضاً. قوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ يعني: الأرض المذكورة في قوله: «جعل لكم الأرض مهاداً» . والإِشارة بقوله: «خلقناكم» إِلى آدم، والبشر كلُّهم منه. وَفِيها نُعِيدُكُمْ بعد الموت وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أي: مَرَّة أُخْرى بعد البعث، يعني: كما أخرجناكم منها أولاً عند خلق آدم من الأرض. [سورة طه (20) : الآيات 56 الى 64] وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)

قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ يعني: فرعون آياتِنا كُلَّها يعني: التسع الآيات، ولم ير كلَّ آية لله، لأنها لا تحصى، فَكَذَّبَ إذ نسب الآيات إِلى الكذب، وقال: هذا سِحْر وَأَبى أن يؤمن قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا يعني: مصر بِسِحْرِكَ أي: تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك فتملكها وتخرجنا منها فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي: فلنقابلنَّ ما جئتَ به من السِّحر بمثله فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي: اضرب بيننا وبينكَ أجَلاً وميقاتاً لا نُخْلِفُهُ أي: لا نجاوزه نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً وقيل: اجعل بيننا وبينكَ موعداً مكاناً نتواعد لحضورنا ذلك المكان، ولا يقع مِنَّا خلاف في حضوره. سُوىً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي بكسر السين. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وخلف، ويعقوب: «سُوىً» بضمها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وابن أبي عبلة: «مكاناً سَواءً» بالمد والهمز والنصب والتنوين وفتح السين. وقرأ ابن مسعود مثله، إِلا أنه كسر السين. قال أبو عبيدة: هو اسم للمكان النصف فيما بين الفريقين، والمعنى: مكاناً تستوي مسافته على الفريقين، فتكون مسافة كل فريق إِليه كمسافة الفريق الآخر. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ قرأ الجمهور برفع الميم. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن أبي عبلة، وهبيرة عن حفص بنصب الميم. وفي هذا «اليوم» أربعة أقوال: أحدها: يوم عيد لهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه، وبه قال مجاهد، وقتادة، وابن زيد. والثاني: يوم عاشوراء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: يوم النيروز، ووافق ذلك يوم السبت أول يوم من السنة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: يوم سوق لهم، قاله سعيد بن جبير. وأما رفع اليوم، فقال البصريون: التقدير: وقتُ موعدكم يومُ الزينة، فناب الموعد عن الوقت، وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إِذا ظهر. فأما نصبه، فقال الزجاج: المعنى: موعدُكم يقع يوم الزينة، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ موضع «أن» رفع، المعنى: موعدكم حشر الناس ضُحًى أي: إِذا رأيتم الناس قد حُشروا ضحى. ويجوز أن تكون «أن» في موضع خفض عطفاً على الزينة، المعنى: موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحىً. وقرأ ابن مسعود: وابن يعمر، وعاصم الجحدري: «وأن تَحْشُر» بتاء مفتوحة ورفع الشين ونصب «الناسَ» . وعن ابن مسعود، والنخعي: «وأن يَحشُر» بالياء المفتوحة ورفع الشين ونصب «الناسَ» . قال المفسرون: أراد بالناس: أهلَ مصر، وبالضحى: ضحى اليوم، وإِنما علَّقه بالضحى، ليتكامل ضوء الشمس واجتماع الناس، فيكون أبلغ في الحجّة وأبعد من الرّيبة. قوله تعالى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: تولَّى عن الحق الذي أُمِر به. والثاني: أنه انصرف إِلى منزله لاستعداد ما يلقى به موسى، أي: مكره وحيلته ثُمَّ أَتى أي: حضر الموعد. قال لهم موسى: أي للسحرة وقد ذكرنا عددهم في الأعراف «1» .

_ (1) سورة الأعراف: 114.

قوله تعالى: وَيْلَكُمْ قال الزجاج: هو منصوب على «ألزمكم الله ويلاً» ويجوز أن يكون على النداء، كقوله تعالى: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «1» . قوله تعالى: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً قال ابن عباس: لا تشركوا معه أحداً. قوله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «فيَسحَتَكم» بفتح الياء، من «سحت» . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «فيُسحِتكم» بضم الياء، من «أسحت» . قال الفراء: ويُسحت أكثر، وهو الاستئصال، والعرب تقول: سحته الله، وأسحته، قال الفرزدق: وعضّ زمان يا بن مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ «2» هكذا أنشد البيت الفراء، والزجاج، ورواه أبو عبيدة: «إلا مسحت أبو مُجلَّفُ» بالرفع. قوله تعالى: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعني: السحرة تناظروا فيما بينهم في أمر موسى، وتشاوروا وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي: أَخْفَوْا كلامهم من فرعون وقومه. وقيل: من موسى وهارون. وقيل: «أسرّوا» ها هنا بمعنى «أظهروا» . وفي ذلك الكلام الذي جرى بينهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا إِن كان هذا ساحراً، فإنا سنغلبه، وإِن يكن من السماء كما زعمتم، فله أمره، قاله قتادة. والثاني: أنهم لما سمعوا كلام موسى قالوا: ما هذا بقول ساحر، ولكن هذا كلام الرب الأعلى، فعرفوا الحقَّ، ثم نظروا إِلى فرعون وسلطانه، وإِلى موسى وعصاه، فنُكسوا على رؤوسهم، وقالوا إِن هذان لساحران، قاله الضحاك، ومقاتل. والثالث: أنهم قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ... الآيات، قاله السدي. واختلف القراء في قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ فقرأ أبو عمرو بن العلاء: «إِنَّ هذين» على إِعمال «إِنَّ» وقال: إِني لأستحيي من الله أن أقرأ «إِنْ هذان» . وقرأ ابن كثير: «إِنْ» خفيفه «هذانّ» بتشديد النون. وقرأ عاصم في رواية حفص: «إِنْ» خفيفة «هذان» خفيفة أيضاً. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «إِنّ» بالتشديد «هاذان» بألف ونون خفيفة. فأما قراءة أبي عمرو، فاحتجاجه في مخالفة المصحف بما روى عن عثمان وعائشة، أن هذا من غلط الكاتب على ما حكيناه في قوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «3» في سورة النساء. وأما قراءة عاصم، فمعناها: ما هذان إِلا ساحران، كقوله تعالى: وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ «4» أي: ما نظنك إِلا من الكاذبين، وأنشدوا في ذلك: ثكلتْك أمُّك إِن قتلتَ لَمُسْلِماً ... حَلّت عَليه عُقوبة المُتَعمِّدِ أي: ما قتلت إِلا مسلماً. قال الزجاج: ويشهد لهذه القراءة، ما روي عن أبيّ بن كعبٍ أنه قرأ «ما هذان إِلا ساحران» ، وروي عنه، «إن هذان لساحران» بالتخفيف، ورويت عن الخليل «إِنْ هذان» بالتخفيف والإِجماع على أنه لم يكن أحدٌ أعلمَ بالنحو من الخليل. فأما قراءة الأكثرين بتشديد «إِنَّ»

_ (1) سورة يس: 52. (2) البيت في ديوانه 556 و «اللسان» - جلف-. والمجلّف: الذي أتى عليه الدهر فأذهب ماله. والجلف: أشد استئصالا من الجرف وأجفى. (3) سورة النساء: 162. (4) سورة الشعراء: 186.

وإِثبات الألف في قوله: «هاذان» فروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: هي لغة بلحارث بن كعب وقال ابن الأنباري: هي لغة لنبي الحارث بن كعب، وافقتها لغة قريش. قال الزجاج: وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب، وهو رأس من رؤوس الرواة: أنها لغة لكنانة، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون: أتاني الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، وأنشدوا: فأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأىَ ... مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا» ويقول هؤلاء: ضربته بين أُذناه وقال النحويون القدماء: ها هنا هاء مضمرة، المعنى: إِنه هذان لساحران. وقالوا أيضاً: إِن معنى «إِنَّ» : نعم «هذان لساحران» ، وينشدون: ويقلن شيب قد علاك ... وقد كَبِرتَ فقلتُ إِنَّهْ «2» قال الزجاج: والذي عندي، وكنتُ عرضتُه على عالمنا محمد بن يزيد، وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد، فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا، وهو أن «إِنَّ» قد وقعت موقع «نعم» ، والمعنى: نعم هذان لهما الساحران، ويلي هذا في الجودة مذهب بني كنانة. وأستحسن هذه القراءة، لأنها مذهب أكثر القراء، وبها يُقرأ. وأستحسن قراءة عاصم، والخليل، لأنهما إِمامان، ولأنهما وافقا أُبَيَّ بن كعب في المعنى. ولا أجيز قراءة أبي عمرو لخلاف المصحف. وحكى ابن الأنباري عن الفراء قال: «ألف» «هذان» هي ألف «هذا» والنون فرَّقتْ بين الواحد والتثنية، كما فرقت نون «الذين» بين الواحد والجمع. قوله تعالى: وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ وقرأ أبان عن عاصم: «ويُذهِبا» بضم الياء وكسر الهاء. وقرأ ابن مسعود، وأُبَيُّ بن كعب، وعبد الله بن عمرو، وأبو رجاء العطاردي: «ويذهبا بالطريقة» بألف ولام، مع حذف الكاف والميم. وفي الطريقة قولان: أحدهما: بدينكم المستقيم، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: بسُنَّتِكم ودِينِكم وما أنتم عليه، يقال: فلان حسن الطريقة. والثاني: بأمثلكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: بأُولي العقل، والأشراف، والأسنان. وقال الشعبي: يصرفان وجوه الناس إِليهما. قال الفراء: الطريقة: الرجال الأشراف، تقول العرب للقوم الأشراف: هؤلاء طريقة قومهم، وطرائق قومهم. فأما «المثلى» فقال أبو عبيدة: هي تأنيث الأمثل. تقول في الإناث: خذ المثلى منها، وفي الذكور: خذ الأمثل. وقال الزجاج: ومعنى المثلى والأمثل: ذو الفضل الذي به يستحق أن يقال هذا أمثل قومه قال: والذي عندي أن في الكلام محذوفاً، والمعنى: يذهبا بأهل طريقتكم المثلى، وقول العرب: هذا طريقة قومه، أي: صاحب طريقتهم. قوله تعالى: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ قرأ الأكثرون: «فأجمِعوا» بقطع الألف من «أجمعت» . والمعنى: ليكن عزمكم مجمعاً عليه، لا تختلفوا فيختلَّ أمرُكم. قال الفراء: والإِجماع: الإِحكام والعزيمة على

_ (1) البيت للمتلمس. وهو في «اللسان» - صمم-. والشجاع: ضرب من الحيات، وقيل الحية الذكر. والمساغ: المدخل، وفي حديث أبي أيوب: إذا شئت فاركب ثم سغ في الأرض ما وجدت مساغا. [.....] (2) البيت لعبد الله بن قيس الرقيات، وهو في «اللسان» - أنن-. أي: إنّه كما تقلن.

[سورة طه (20) : الآيات 65 إلى 73]

الشيء، تقول: أجمعت على الخروج، وأجمعت الخروج، تريد: أزمعت، قال الشاعر: يا لَيْتَ شِعْرِي والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوما وأمري مُجْمَع «1» يريد: قد أُحكم وعُزم عليه. وقرأ أبو عمرو: «فاجمَعوا» بفتح الميم من «جمعت» ، يريد: لا تَدَعوا من كيدكم شيئاً إِلا جئتم به. فأما كيدهم، فالمراد به: سحرهم، ومكرهم. قوله تعالى: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي: مُصْطَفِّين مجتمعين، ليكون أنظم لأموركم، وأشدَّ لهيبتكم. قال أبو عبيدة: «صفاً» أي: صفوفاً. وقال ابن قتيبة: «صفاً» بمعنى: جمعاً. قال الحسن: كانوا خمسة وعشرين صفاً، كلُّ ألف ساحر صفٌّ. قوله تعالى: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى قال ابن عباس: فاز من غلب. [سورة طه (20) : الآيات 65 الى 73] قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) قوله تعالى: بَلْ أَلْقُوا قال ابن الأنباري: دخلت بَلْ لمعنى: جحد في الآية الأولى، لأن الآية إِذا تُؤمِّلتْ وُجِدتْ مشتملة على: إِما أن تلقي، وإِما أن لا تلقي. قوله تعالى: وعصيتهم قرأ الحسن، وأبو رجاء العطاردي، وأبو عمران الجوني، وأبو الجوزاء: «وعُصيُّهم» برفع العين. قوله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، والحسن، وقتادة، والزهري، وابن أبي عبلة: «تُخيَّلُ» بالتاء، «إِليه» أي: إِلى موسى. يقال: خُيِّل إِليه: إِذا شُبِّه له. وقد استدل قوم بهذه الآية على أنّ السّحر ليس بشيء. قالوا إنما خيّل إلى موسى، والجواب: أنا لا ننكر أن يكون ما رآه موسى تخيّلا، وليس بحقيقة، فإنه من الجائز أن يكونوا تركوا الزئبق في سلوخ الحيات حتى جرت، وليس ذلك بحيَّات. فأما السحر، فإنه يؤثِّر، وهو أنواع. (975) وقد سحر رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أثر فيه،

_ صحيح. أخرجه البخاري 6391 و 3175 و 5765 و 5763 و 6063 ومسلم 2189 وابن ماجة 3545 والنسائي في «الكبرى» 7615 وأحمد 6/ 57 و 63 و 96 وابن أبي شيبة 8/ 30- 31 وابن سعد 2/ 196 وأبو يعلى 4882 والحميدي 259 والطحاوي في «المشكل» 5934 وابن حبان 6583 والبيهقي 8/ 135 من طرق عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخيّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا، ثم قال: «يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ناس من أصحابه فجاء، فقال: «يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحنّاء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين» قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: «قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا» فأمر بها فدفنت. لفظ البخاري.

(976) ولعن العاضهة، وهي الساحرة. قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً قال ابن قتيبة: أضمر في نفسه خوفاً. وقال الزجاج: أصلها «خِوفة» ولكن الواو قلبت ياءً لانكسار ما قبلها. وفي خوفه قولان: أحدهما: أنه خوف الطبع البشري. والثاني: أنه لما رأى سحرهم من جنس ما أراهم في العصى، خاف أن يلتبس على الناس أمره، ولا يؤمنوا، فقيل له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى عليهم بالظَّفَر والغَلَبة. وهذا أصح من الأول. قوله تعالى: وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ يعني: العصا تَلْقَفْ وقرأ ابن عامر: «تلقَّفُ ما» برفع الفاء وتشديد القاف. وروى حفص عن عاصم: «تلقف» خفيفة. وكان ابن كثير يشدِّد التاء من «تلقف» يريد: «تتلقف» . وقرأ ابن مسعود، وأُبَيُّ بن كعب، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء: «تلقم» بالميم. وقد شرحنا هذا في سورة الأعراف «1» ، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ قرأ حمزة، والكسائى وخلف «كيد سحر» وقرأ الباقون «كيد ساحر» بألف والمعنى إِن الذي صنعوا كيد ساحر» ، أي: عمل ساحر. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «إِنما صنعوا كيدَ» بنصب الدال. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ قال ابن عباس: لا يسعد حيثما كان «2» . وقيل: لا يفوز. (977) وروى جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا أخذتم الساحر فاقتلوه، ثم قرأ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى، قال: «لا يأمن حيث وجد» . قوله تعالى: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع: «آمنتم له» على لفظ الخبر. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، «آمنتم له» بهمزة ممدودة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «أآمنتم له» بهمزتين الثانية ممدودة. قوله تعالى: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ قال ابن عباس: معلِّمكم. قال الكسائي: الصبي بالحجاز إِذا جاء عند معلِّمه، قال: جئت من عند كبيري. قوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «في» بمعنى «على» ، ومثله: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ «3» . وَلَتَعْلَمُنَّ أيّها

_ ضعيف. أخرجه ابن عدي في «الكامل» 3/ 339 من حديث ابن عباس، وفي إسناده زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، وكلاهما ضعيف. وقال الحافظ ابن حجر 2/ 590 في «تخريجه» : وله شاهد عند عبد الرزاق من رواية ابن جريج عن عطاء اه. وهذا مرسل، فهو ضعيف. ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 200 عن الحسن البصري عن جندب البجلي مرفوعا، وإسناده ضعيف، الحسن لم يسمع من جندب كما في «المراسيل» لابن أبي حاتم ص 42.

[سورة طه (20) : الآيات 74 إلى 76]

السحرة أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً لكم وَأَبْقى أي: أدوَم، أنا على إِيمانكم، أو ربُّ موسى على ترككم الإِيمان به؟ قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ أي: لن نختارك عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ يعنون اليد والعصا. فإن قيل: لم نسبوا الآيات إِلى أنفسهم بقولهم: «جاءنا» وإِنما جاءت عامة لهم ولغيرهم. فالجواب: أنهم لما كانوا بأبواب السحر ومذاهب الاحتيال أعرف من غيرهم، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر، كان ذلك في حق غيرهم أبْيَن وأوضح، وكانوا هم لمعرفته أخص. وفي قوله تعالى: وَالَّذِي فَطَرَنا وجهان ذكرهما الفراء، والزجاج: أحدهما: أن المعنى: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، وعلى الذي فطرنا. والثاني: أنه قسم، تقديره: وحقِّ الذي فطرنا. قوله تعالى: فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي: فاصنع ما أنت صانع. وأصل القضاء: عمل باحكام إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا قال الفراء: «إِنما» حرف واحد، فلهذا نصب: الحياة الدنيا» . ولو قرأ قارئ برفع «الحياة» لجاز، على أن يجعل «ما» في مذهب «الذي» ، كقولك: إِن الذي تقضي هذه الحياة الدنيا. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو المتوكل: «إِنما تُقضى» بضم التاء على ما لم يُسمَّ فاعله، «الحياةُ» برفع التاء. قال المفسرون: والمعنى إِنما سلطانك وملكك في هذه الدنيا، لا في الآخرة. قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَنا يعنون الشرك وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ أي: والذي أكرهتنا عليه، أي: ويغفر لنا إِكراهك إِيَّانا على السحر. فإن قيل: كيف قالوا: أكرهتنا، وقد قالوا: إِنَّ لَنا لَأَجْراً وفي هذا دليل على أنهم فعلوا السحر غير مكرهين؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن فرعون كان يكره الناس على تعلّم السِّحر، قاله ابن عباس. قال ابن الأنباري: كان يطالب بعض أهل مملكته بأن يعلِّموا أولادهم السحر وهم لذلك كارهون، وذلك لشغفه بالسحر، ولما خامر قلبه من خوف موسى، فالإِكراه على السحر، هو الإِكراه على تعلُّمه في أول الأمر. والثاني: أن السحرة لما شاهدوا موسى بعد قولهم: «أئن لنا لأجراً» ورأوا ذكرَه الله تعالى وسلوكه منهاج المتقين، جزعوا من ملاقاته بالسحر، وحذروا أن يظهر عليهم فيطَّلع على ضعف صناعتهم، فتفسد معيشتهم، فلم يقنع فرعون منهم إِلا بمعارضة موسى، فكان هذا هو الإِكراه على السحر. والثالث: أنهم خافوا أن يُغلَبوا في ذلك الجمع، فيقدح ذلك في صنعتهم عند الملوك والسُّوَق وأكرههم فرعون على فعل السحر. والرابع: أن فرعون أكرههم على مفارقة أوطانهم، وكان سبب ذلك السّحر، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري. قوله تعالى: وَاللَّهُ خَيْرٌ أي: خير منك ثواباً إِذا أُطيع وَأَبْقى عقاباً إِذا عُصي، وهذا جواب قوله: «ولتعلمُنَّ أيُّنا أشد عذاباً وأبقى» وهذا آخر الإخبار عن السّحرة. [سورة طه (20) : الآيات 74 الى 76] إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً يعني: مشركاً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى حياة تنفعه «1» . أنشد ابن الأنباري في مثل هذا المعنى قوله:

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 202: الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة فرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلّد، قالوا إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً أي: يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم فَإِنَّ لَهُ نار جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وروى الإمام مسلم وأحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحبون، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة في حميل السيل، فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان في البادية.

[سورة طه (20) : الآيات 77 إلى 82]

أَلاَ مَنْ لِنَفْسٍ لاَ تَمُوتُ فَيَنْقَضي ... شَقَاهَا ولا تحيا حياة لهم طَعْمُ قوله تعالى: قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ قال ابن عباس: قد أدَّى الفرائض، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى يعني: درجات الجنة، وبعضها أعلى من بعض. والعلى، جمع العليا، وهو تأنيث الأعلى. قال ابن الأنباري: وإِنما قال: «فأولئك» ، لأن «مَن» تقع بلفظ التوحيد على تأويل الجمع. فإذا غلب لفظها، وُحِّد الراجع إِليها، وإِذا بُيِّن تأويلها، جُمع المصروف إِليها. قوله تعالى: وَذلِكَ يعني الثواب جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي: تطهّر من الكفر والمعاصي. [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) قوله تعالى: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أي: سِرْ بهم ليلاً من أرض مصر فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً أي: اجعل لهم طريقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً قرأ أبو المتوكل والحسن والنخعي: «يَبْساً» باسكان الباء. وقرأ الشعبي وأبو رجاء وابن السميفع: «يابساً» بألف. قال أبو عبيدة: اليبس، متحرك الحروف، بمعنى اليابس، يقال: شاة يبس، أي يابسة ليس لها لبن. وقال ابن قتيبة: يقال لليابس: يَبَس، ويَبْس. قوله تعالى: لا تَخَفْ قرأ الأكثرون بألف. وقرأ أبان وحمزة عن عاصم: «لا تخفْ» قال الزجاج: من قرأ «لا تخاف» فالمعنى: لست تخاف، ومن قرأ «لا تخفْ» فهو نهي عن الخوف. قال الفراء: قرأ حمزة: «لا تخفْ» بالجزم، ورفع «ولا تخشى» على الاستئناف، كقوله تعالى: يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ استأنف ب «ثم» فهذا مثله، ولو نوى حمزة بقوله: «ولا تخش» الجزم وإِن كانت فيه الياء، كان صواباً، قال ابن قتيبة: ومعنى دَرَكاً لحاقاً. قال المفسرون: قال أصحاب موسى: هذا فرعون قد أدركنَا، وهذا البحر بين أيدينا، فأنزل الله على موسى لا تَخافُ دَرَكاً أي: من فرعون، ولا تخشى غرقاً في البحر. قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ قال ابن قتيبة: لحقهم. وروى هارون عن أبي عمرو: «فاتَّبعهم» بالتشديد. وقال الزجاج: تبع الرجل الشيء، وأتبعه، بمعنى واحد، ومن قرأ «فاتّبعهم» بالتشديد، ففيه دليل على أنه اتبعهم ومعه الجنود. ومن قرأ «فأتبعهم» فمعناه: ألحق جنوده بهم، وجائز أن يكون معهم على هذا اللفظ، وجائز أن لا يكون إِلا أنه قد كان معهم، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي: فغشيهم من

[سورة طه (20) : الآيات 83 إلى 89]

ماء البحر ما غرَّقهم، وقال ابن الأنباري: ويعني بقوله: «ما غشيهم» البعض الذي غشيهم، لأنه لم يغشَهم كل مائِهِ. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وأبو رجاء، والأعمش: «فغشَّاهم من اليم ما غشَّاهم» بألف فيهما مع تشديد الشين وحذف الياء. قوله تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي: دعاهم إِلى عبادته وَما هَدى أي: ما أرشدهم حين أوردهم موارد الهلكة. وهذا تكذيب له في قوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ «1» . قوله تعالى: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ لأخذ التوراة. وقد ذكرنا في مريم «2» معنى «الأيمن» وذكرنا في البقرة «3» «المن والسلوى» . قوله تعالى: كُلُوا أي: وقلنا لهم: كلوا. قوله تعالى: وَلا تَطْغَوْا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تبطروا في نعمي فتظلموا. والثاني: لا تجحدوا نعمي فتكونوا طاغين. والثالث: لا تدَّخروا منه لأكثر من يوم وليلة. قوله تعالى: فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي: فتجب لكم عقوبتي. والجمهور قرءوا «فيحِل» بكسر الحاء وَمَنْ يَحْلِلْ بكسر اللام. وقرأ الكسائي: «فيحُل» بضم الحاء «ومن يحلُل» بضم اللام. قال الفراء: والكسر أحب إِليَّ، لأن الضم من الحلول، ومعناه: الوقوع، و «يحل» بالكسر، يجب، وجاء التفسير بالوجوب، لا بالوقوع. قوله تعالى: فَقَدْ هَوى أي: هلك. قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ الغفار: الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أُخرى، فكلما تكررت ذنوبهم تكررت مغفرته، وأصل الغفر: الستر، وبه سمي زِئْبَر الثوب: غفراً، لأنه يستر سداه. فالغفار: الستار لذنوب عباده، المسبل عليهم ثوب عطفه. قوله تعالى: لِمَنْ تابَ قال ابن عباس: لمن تاب من الشرك وَآمَنَ أي: وحَّد الله وصدَّقه وَعَمِلَ صالِحاً أدَّى الفرائض. وفي قوله تعالى: ثُمَّ اهْتَدى ثمانية أقوال «4» : أحدها: علم أن لعمله هذا ثواباً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لم يشكّك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: علم أن ذلك توفيق من الله له، رواه عطاء عن ابن عباس. والرابع: لزم السنة والجماعة، قاله سعيد بن جبير. والخامس: استقام، قاله الضحاك. والسادس: لزم الإِسلام حتى يموت عليه، قاله قتادة. والسابع: اهتدى كيف يعمل، قاله زيد بن أسلم. والثامن: اهتدى إلى ولاية بيت النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قاله ثابت البنانيّ. [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 89] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)

_ (1) سورة غافر: 29. (2) سورة مريم: 52. (3) سورة البقرة: 57. (4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 8/ 442: الاهتداء هو الاستقامة على هدى، ولا معنى للاستقامة عليه إلا وقد جمعه الإيمان والعمل الصالح فمن فعل ذلك وثبت عليه، فلا شك في اهتدائه.

قوله تعالى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قال المفسرون: لما نجَّى الله تعالى بني إِسرائيل وأغرق فرعون، قالوا: يا موسى، لو أتيتنا بكتاب من عند الله، فيه الحلال والحرام والفرائض، فأوحى الله تعالى إِليه يَعِدُهُ أنه ينزل عليه ذلك في الموضع الذي كلَّمه فيه، فاختار سبعين، فذهبوا معه إِلى الطور لأخذ التوراة، فعَجِل موسى من بينهم شوقاً إِلى ربه، وأمرهم بلحاقه، فقال الله تعالى له: ما الذي حملك على العجلة عن قومك، قالَ هُمْ أُولاءِ أي: هؤلاء عَلى أَثَرِي، وقرأ أبو رزين العقيلي، وعاصم الجحدري: «على إِثْري» بكسر الهمزة وسكون الثاء. وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وابن يعمر، برفع الهمزة وسكون الثاء. وقرأ أبو رجاء، وأبو العالية: بفتح الهمزة وسكون الثاء. والمعنى: هم بالقرب مني يأتون بعدي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي: لتزداد رضىً، قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ قال الزجاج: ألقيناهم في فتنة ومحنة، واختبرناهم. قوله تعالى: مِنْ بَعْدِكَ أي: من بعد انطلاقك من بينهم وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي: كان سبباً لإِضلالهم، وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «وأضلُّهم» برفع اللام. وقد شرحنا في البقرة «1» سبب اتّخاذ السّامريّ العجل، وشرحنا في سورة الأعراف «2» معنى قوله تعالى: غَضْبانَ أَسِفاً. قوله تعالى: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أي: صدقاً، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: إِعطاء التوراة. والثاني: قوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ إِلى قوله: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ... الآية في المائدة «3» ، وقوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ «4» . والثالث: النصر والظَّفَر. قوله تعالى: أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي: مدة مفارقتي إِياكم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ أن تصنعوا صنيعاً يكون سبباً لغضب ربكم فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي: عهدي، وكانوا قد عاهدوه أنه إِن فكَّهم الله من مَلَكَة آل فرعون، أن يعبدوا الله ولا يشركوا به، ويقيموا الصلاة، وينصروا الله ورسله. قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: بكسر الميم، وقرأ نافع، وعاصم: بفتح الميم. وقرأ حمزة، والكسائي: بضم الميم. قال أبو علي: وهذه لغات. وقال الزجاج: المُلْك بالضم: السلطان والقدرة. والمِلْك، بالكسر: ما حوته اليد. والمَلْك، بالفتح: المصدر، يقال: ملكت الشيء أملكه ملكاً. وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال: أحدها: ما كنا نملك الذي اتُّخذ منه العجلُ ولكنها كانت زينة آل فرعون، فقذفناها، قاله ابن عباس. والثاني: بطاقتِنا قاله قتادة، والسدي. والثالث: لم نملك أنفسنا عند الوقوع في البليَّة، قاله ابن زيد. والرابع: لم يملك مؤمنونا سفهاءنا، ذكره الماوردي. فيخرَّج فيمن قال هذا لموسى قولان: أحدهما: أنهم الذين لم يعبُدوا العجل. والثاني: عابدوه. قوله تعالى: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم: «حُمِّلْنا» بضم الحاء وتشديد الميم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «حملنا» خفيفة. والأوزار: الاثقال. والمراد بها: حلي آل فرعون الذي كانوا استعاروه منهم قبل خروجهم من مصر. فمن قرأ «حُمِّلنا» بالتشديد فالمعنى: حمّلناها موسى، أمَرَنا باستعارتها من آل فرعون فَقَذَفْناها أي

_ (1) سورة البقرة: 52. (2) سورة الأعراف: 150. (3) سورة المائدة: 13. (4) سورة طه: 82. [.....]

[سورة طه (20) : الآيات 90 إلى 94]

طرحناها في الحفيرة. وقد ذكرنا سبب قذفهم إِياها في سورة البقرة «1» . قوله تعالى: فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فيه قولان: أحدهما: أنه ألقى حلياً كما ألقَوْا. والثاني: ألقى ما كان من تراب حافر فرس جبريل. وقد سبق شرح القصة في البقرة «2» وذكرنا في الأعراف «3» معنى قوله تعالى: عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ. قوله تعالى: فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ هذا قول السامري ومن وافقه من الذين افتُتنوا. قوله تعالى: فَنَسِيَ في المشار إِليه بالنسيان قولان: أحدهما: أنه موسى. ثم في المعنى ثلاثة أقوال: أحدها: هذا إِلهكم وإِله موسى فنسي موسى أن يخبركم أن هذا إِلهه، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: فنسي موسى الطريق إِلى ربه، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: فنسي موسى إِلهه عندكم، وخالفه في طريق آخر، قاله قتادة. والثاني: أنه السامري، والمعنى: فنسي السامريُّ إِيمانه وإِسلامه، قاله ابن عباس. وقال مكحول: فنسي، أي: فترك السامريُّ ما كان عليه من الدين. وقيل: فنسي أن العجل لا يرجع إِليهم قولاً، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. فعلى هذا القول، يكون قوله تعالى: فَنَسِيَ من إخبار الله عزّ وجلّ عن السامري. وعلى ما قبله، فيمن قاله قولان: أحدهما: أنه السامريُّ. والثاني: بنو إِسرائيل. قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ قال الزجاج: المعنى: أفلا يرون أنه لا يرجع إِلَيْهِمْ قَوْلًا. [سورة طه (20) : الآيات 90 الى 94] وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قوله تعالى: وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل أن يأتي موسى يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي: ابتليتم وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ لا العجل، قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ أي: لن نزال مقيمين على عبادة العجل حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فلما رجع موسى قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل أَلَّا تَتَّبِعَنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «ألا تتبعني» بياء في الوصل ساكنة، ويقف ابن كثير بالياء، وأبو عمرو بغير ياء. وروى إِسماعيل بن جعفر عن نافع: «ألا تتبعنيَ أفعصيت» بياء منصوبة. وروى قالون عن نافع مثل أبي عمرو سواء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة والكسائي: بغير ياء في الوصل، والوقف. والمعنى: ما منعك من اتباعي و «لا» كلمة زائدة. وفي المعنى ثلاثة أقوال: أحدها: تسير ورائي بمن معك من المؤمنين، وتفارقهم. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن تناجزهم القتال، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: في الإِنكار عليهم، قاله مقاتل. قوله تعالى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي وهو قوله في وصيته إِياه «اخلفني في قومي وأصلح» . قال المفسرون: ثم أخذ برأس أخيه ولحيته غضباً منه عليه «4» . وهذا وإِن لم يذكر ها هنا، فقد ذكر في

_ (1) سورة البقرة: 52. (2) في الآية 52 من سورة البقرة. (3) سورة الأعراف: 148. (4) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 7/ 255: وكان هارون أكبر من موسى- صلوات الله وسلامه عليهما بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان ليّن الغضب. وللعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربعة تأويلات: الأول- أن ذلك كان متعارفا عندهم، من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكراما وتعظيما، فلم يكن على طريق الإذلال. والثاني: أن ذلك إنما كان ليسرّ إليه نزول الألواح عليه لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوراة. فقال له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله. والثالث: إنما فعل ذلك لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل. ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء. والرابع: ضمّ إليه أخاه ليعلم ما لديه، فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه، فبين له أخوه أنهم استضعفوه، يعني عبدة العجل، وكادوا يقتلونه أي قاربوا. وقد دلت هذه الآية على أنه لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يسكت. وقال ابن العربي: وفيها دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام كما زعم بعض الناس، فإن موسى لم يغير غضبه شيئا من أفعاله، بل اطردت على مجراها، وقال المهدوي: لأن غضبه كان لله عز وجل وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا ويتفرقوا.

[سورة طه (20) : الآيات 95 إلى 98]

الأعراف «1» فاكتُفي بذلك، وقد شرحنا هناك معنى «يا ابن أم» واختلاف القراء فيها. قوله تعالى: لا بِرَأْسِي أي: بشعر رأسي. وهذا الغضب كان لله عزّ وجلّ لا لنفسه، لأنه وقع في نفسه، أن هارون عصى الله بترك اتِّباع موسى. قوله تعالى: نِّي خَشِيتُ أي: إن فارقتهم واتّبعتك نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وفيه قولان: أحدهما: باتباعي إِياك ومن معي من المؤمنين. والثاني: بقتالي لبعضهم ببعض. وفي قوله تعالى: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قولان: أحدهما: لم ترقب قولي لك: «اخلفني في قومي وأصلح» . والثاني: لم تنتظر أمري فيهم. [سورة طه (20) : الآيات 95 الى 98] قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) قوله تعالى: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي: ما أمرك وشأنك الذي دعاك إِلى ما صنعت؟ قال ابن الأنباري: وبعض اللغويين يقول: الخطب مشتق من الخطاب. المعنى: ما أمرُك الذي تخاطب فيه؟! واختلفوا في اسم السامري على قولين «2» : أحدهما: موسى أيضاً، قاله وهب بن منبه، وقال: كان ابن عم موسى بن عمران. والثاني: ميخا، قاله ابن السائب. وهل كان من بني إِسرائيل، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لم يكن منهم، قاله ابن عباس. والثاني: كان من عظمائهم، وكان من قبيلة تسمى «سامرة» ، قاله قتادة. وفي بلده قولان: أحدهما: كرمان، قاله سعيد بن جبير. والثاني: باجرما، قاله وهب.

_ (1) سورة الأعراف: 150. (2) ليس في تسميته كبير فائدة، ولو تعلقت بذلك فائدة لذكره الله عز وجل.

قوله تعالى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ وقرأ حمزة والكسائي: «تَبصروا» بالتاء، فعلى قراءة الجمهور أشار إِلى بني إِسرائيل، وعلى هذه القراءة خاطب الجميع. قال أبو عبيدة: علمت ما لم يعلموا. قال: وقوم يقولون: بصرت، وأبصرت سواء، بمنزلة أسرعت، وسَرُعت. وقال الزجاج: يقال: بصُر الرجل يبصُر: إِذا صار عليماً بالشيء، وأبصر يبصر: إِذا نظر. قال المفسرون: فقال له موسى: وما ذاك؟ قال: رأيت جبريل على فرس، فأُلقي في نفسي: أن اقبض من أثرها فَقَبَضْتُ قَبْضَةً، وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، ومعاذ القارئ: «قبصة» بالصاد. قال الفراء: والقبضة بالكفِّ كلِّها. والقبصة- بالصاد- بأطراف الأصابع. قال ابن قتيبه: ومثل هذا: الخضم بالفم كله، والقضم بأطراف الأسنان. والنضخ أكثر من النضح، والرجز: العذاب والرجس: النتن، والهُلاس في البدن، والسُّلاس في العقل، والغلط في الكلام، والغلت في الحساب، والخصر: الذي يجد البرد، والخرص: الذي يجد البرد والجوع، والنار الخامدة: التي قد سكن لَهَبها ولم يطفأ جمرها، والهامدة: التي طفئت فذهبت البتَّة، والشُّكْد: العطاء ابتداءً، فإن كان جزاءً فهو شُكْم، والمائح: الذي يدخل البئر فيملأ الدلو، والماتح: الذي ينزعها. قوله تعالى: فَنَبَذْتُها أي: فقذفتها في العجل. وقرأ أبو عمرو وحمزة، والكسائي، وخلف: «فنبذتها» بالإِدغام وَكَذلِكَ أي: وكما حدثتك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي: زيَّنتْ لي قالَ موسى فَاذْهَبْ أي: من بيننا فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أي: ما دمت حياً أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ أي: لا أَمسُّ ولا أُمَسُّ، فصار السامريُّ يهيم في البرِّيَّة مع الوحش والسباع، لا يمسَّ أحداً، ولاَ يمَسُّه أحدٌ، عاقبه الله بذلك، وألهمه أن يقول: «لا مساس» ، فكان إِذا لقيَ أحداً يقول: لا مساس، أي: لا تقربني، ولا تمسّني، وصار بذلك عقوبة لولده، حتى بقاياهم اليوم، فيما ذكر أهل التفسير، بأرض الشام يقولون ذلك. وحكي أنه إِن مس واحدٌ من غيرهم واحداً منهم، أخذتهما الحمَّى في الحال. قوله تعالى: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً أي: لعذابك يوم القيامة لَنْ تُخْلَفَهُ أي: لن يتأخر عنك ومن كسر لام «تخلف» أراد: لن تغيب عنه. قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ يعني: العجل الَّذِي ظَلْتَ قال ابن عباس: معناه: أقمت عليه، وقال الفراء: معنى «ظلت» : فعلته نهاراً. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وابن يعمر: «ظُلت» برفع الظاء. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، والأعمش، وابن أبي عبلة: «ظِلت» بكسر الظاء. وقال الزجاج: «ظَلت» و «ظلت» بفتح الظاء وكسرها، فمن فتح، فالأصل فيه: «ظللت» ولكن اللام حذفت لثقل التضعيف والكسر، وبقيت الظاء على فتحها، ومن قرأ: «ظِلت» بالكسر، حوَّل كسرة اللام على الظاء. ومعنى عاكِفاً مقيماً، لَنُحَرِّقَنَّهُ قرأ الجمهور لَنُحَرِّقَنَّهُ بضم النون وفتح الحاء وتشديد الراء، وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو زرين، وابن يعمر: «لنَحْرقنه» بفتح النون وسكون الحاء ورفع الراء مخففة. وقرأ أبو هريرة، والحسن، وقتادة: «لنحرقنه» برفع النون وإِسكان الحاء وكسر الراء مخففة. قال الزجاج: إِذا شدد فالمعنى: نحرقه مرة بعد مرة وتأويل «لنحرقنَّه» : لنبردنَّه، يقال: حرقت أحرُق وأحْرِق: إِذا بردت الشيء، والنسف: التذرية. وجاء في التفسير: أن موسى أخذ العجل فذبحه، فسال منه دم، لأنه كان قد صار لحماً ودماً، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه في البحر، ثم أخبرهم موسى عن إِلههم، فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: هو الذي يستحق العبادة، لا العجل،

[سورة طه (20) : الآيات 99 إلى 104]

وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: وسع علمه كلّ شيء. [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) قوله تعالى: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ أي: كما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه، نقص عليك مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي: من أخبار من مضى، والذِّكْر ها هنا: القرآن مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وقرأ عكرمة وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري: «يُحَمَّل» برفع الياء وفتح الحاء وتشديد الميم، وِزْراً أي: إِثماً خالِدِينَ فِيهِ أي: في عذاب ذلك الوزر وَساءَ لَهُمْ قال الزجاج: المعنى: وساء الوزر لهم يوم القيامة حِمْلًا و «حملاً» منصوب على التمييز. قوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قرأ أبو عمرو: «ننفخ» بالنون. وقرأ الباقون من السبعة: «ينفخ» بالياء، على ما لم يسم فاعله. وقرأ أبو عمران الجوني: «يوم ينفخ» بياء مفتوحة ورفع الفاء وقد سبق ذكر الصّور. وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ وقرأ أُبيُّ بن كعب وأبو الجوزاء وطلحة بن مصرِّف: «ويحشر» بياء مفتوحة ورفع الشين. وقرأ ابن مسعود والحسن وأبو عمران: «ويحشر» بياء مرفوعة وفتح الشين، «المجرمون» بالواو. قال المفسرون: والمراد بالمجرمين: المشركون يَوْمَئِذٍ زُرْقاً وفيه قولان: أحدهما: عُمياً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن قتيبة: بيض العيون من العمى، قد ذهب السواد والناظر. والثاني: زُرق العيون من شدة العطش، قاله الزهري. والمراد: أنه يشوِّه خَلْقَهم بسواد الوجوه وزرق العيون. قوله تعالى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي: يسارّ بعضهم بعضاً إِنْ لَبِثْتُمْ أي: ما لبثتم إِلا عشر ليال. وهذا على طريق التقليل، لا على وجه التحديد. وفي مرادهم بمكان هذا اللبث قولان: أحدهما: القبور. ثم فيه قولان. أحدهما: أنهم عَنَوا طول ما لبثوا فيها، روى أبو صالح عن ابن عباس: إِن لبثتم بعد الموت إِلا عشراً. والثاني: ما بين النفختين، وهو أربعون سنة، فإنه يخفف عنهم العذاب حينئذ، فيستقلُّون مدة لبثهم لهول ما يعاينون، حكاه علي بن أحمد النيسابوري. والقول الثاني: أنهم عَنَوا لبثهم في الدنيا، قاله الحسن: وقتادة. قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي: أعقلهم، وأعدلهم قولاً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً فنسي القوم مقدار لبثهم لهول ما عاينوا. [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 114] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)

قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ. (978) سبب نزولها أن رجالاً من ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالوا يا محمد: كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً قال المفسرون: النسف: التذرية. والمعنى: يصيِّرها رِمالاً تسيل سيلاً، ثم يصيِّرها كالصوف المنفوش، تطيِّرها الرياح فتستأصلها فَيَذَرُها أي: يدَع أماكنها من الأرض إِذا نسفها قاعاً قال ابن قتيبة القاع من الأرض: المستوي الذي يعلوه الماء، والصفصف: المستوي أيضاً، يريد: أنه لا نبت فيها. قوله تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بالعِوَج: الأودية، وبالأمَتْ: الرَّوابي، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: العِوَج: الانخفاض، والأمَتْ: الارتفاع، وهذا مذهب الحسن. وقال ابن قتيبة: الأمَتْ: النَّبَك. والثاني: أن العِوَج: المَيْل، والأَمْت: الأثَرَ مثل الشِّراك، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن العِوَج: الصدع، والأَمْت: الأَكَمة. قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ قال الفراء: أي يتَّبعون صوت الداعي للحشر، لا عِوَج لهم عن دعائه: لا يقدرون أن لا يتَّبِعوا. قوله تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ أي: سكنت وخفيت فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً وفيه ثلاثة أقوال: أَحدها: وطْء الأقدام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة ومجاهد في رواية، واختاره الفراء، والزجاج. والثاني: تحريك الشفاه بغير نطق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: الكلام الخفيّ، روي عن مجاهد. وقال أبو عبيدة: الصوت الخفيّ. قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ يعني لا تنفع أحداً إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ أي: إِلا شفاعة من أَذِن له الرحمن، أي: أَذِن أن يُشْفَع له وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي: ورضي للمشفوع فيه قولاً، وهو الذي كان في الدنيا من أهل «لا إِله إِلا الله» . يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ الكناية راجعة إِلى الذين يتَّبعون الداعي. وقد شرحنا هذه الآية في سورة البقرة «1» وفي هاء «به» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله مقاتل. والثاني: إِلى «ما بين أيديهم وما خلفهم» ، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ قال الزجاج: «عَنَتْ» في اللغة: خضعت، يقال: عنا يعنو: إذا

_ باطل، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي وهذا إسناد ساقط، وتفرد به المصنف عند هذه الآية دون سائر أهل التفسير، ولم أجده عند غيره، فهو شبه موضوع، بل هو باطل.

خضع، ومنه قيل: أُخِذتْ البلاد عَنْوَةً: إِذا أُخذتْ غَلَبة، وأُخذتْ بخضوع من أهلها. والمفسرون: على أن هذا في يوم القيامة، إِلا ما روي عن طلق بن حبيب: هو وضع الجبهة والأنف والكفّين والرُّكبتين وأطراف القدمين على الأرض للسّجود. وقد شرحنا في آية الكرسيّ معنى «الحيّ القيّوم» «1» . قوله تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً قال ابن عباس: خَسِر من أشرك بالله. قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ «من» ها هنا للجنس. وإِنما شرط الإِيمان، لأن غير المؤمن لا يُقبَل عملُه، ولا يكون صالحاً فَلا يَخافُ أي: فهو لا يخاف. وقرأ ابن كثير: «فلا يَخَفْ» على النهي. قوله تعالى: ظُلْماً وَلا هَضْماً فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يخاف أن يُظلَم فيُزاد في سيِّئاته، ولا أن يُهضَم من حسناته، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: لا يخاف أن يُظلَم فيزاد من ذَنْب غيره، ولا أن يُهضم من حسناته، قاله قتادة. والثالث: لا يخاف أن يؤاخَذ بما لم يعمل، ولا يُنتقص من عمله الصالح، قاله الضحاك. والرابع: لا يخاف أن لا يُجزَى بعمله، ولا أن يُنقَص من حَقِّه، قاله ابن زيد. قال اللغويون: الهَضْم: النَّقْص، تقول العرب: هضمتُ لك من حَقِّي، أي: حَطَطْتُ، ومنه: فلان هضيم الكَشْحَيْن، أي: ضامر الجنبين، ويقال: هذا شيء يهضم الطعام، أي: ينقص ثِقْله. وفرق بعض المفسرين بين الظُّلم والهَضْم، فقال: الظُّلم: منع الحق كلِّه، والهضم: منع البعض، وإِن كان ظُلْماً أيضاً. قوله تعالى وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي: وكما بيَّنَّا في هذه السورة، أنزلناه، أي: أنزلنا هذا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي: بيَّنَّا فيه ضروب الوعيد. قال قتادة: يعني: وقائعه في الأمم المكذِّبة. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: ليكون سبباً لاتِّقائهم الشرك بالاتِّعاظ بِمَنْ قبلهم أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ أي: يجدِّد لهم القرآن، وقيل: الوعيد ذِكْراً أي: اعتباراً، فيتذكَّروا به عِقاب الأمم، فيعتبروا. وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري: «أو نُحْدِثُ» بنون مرفوعة. قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ أي: جَلَّ عن إِلحاد الملحِدين وقول المشركين في صفاته، الْمَلِكُ الذي بيده كلّ شيء، الْحَقُّ وقد ذكرناه في سورة يونس «2» . قوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ في سبب نزولها قولان: (979) أحدهما: أن جبريل كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلّم بالسورة والآي فيتلوها عليه، فلا يفرغ جبريل من

_ أصل الحديث محفوظ، وذكر سبب النزول لهذه الآية باطل. تفرد به أبو صالح عن ابن عباس، وعن أبي صالح الكلبيّ، وهو يضع الحديث. والذي صح في هذا الباب هو ما أخرجه البخاري 5 و 4929 و 5044 و 7524 ومسلم 448 والنسائي 2/ 149 والترمذي 3329 وأحمد 1/ 343 وابن سعد 1/ 198 والحميدي 527 وابن حبان 39 والطبراني 12297 والطيالسي 2628 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 198 كلهم عن ابن عباس في قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه. فقال ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحركهما. فأنزل الله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ قال: جمعه في صدرك، ثم تقرؤه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قال: فاستمع له وأنصت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ثم إن علينا أن تقرأه. قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه جبريل، استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه النبي صلى الله عليه وسلّم كما كان أقرأه» . وليس في الحديث سبب نزول هذه الآية وإنما الآيات التي نزلت من سورة القيامة.

[سورة طه (20) : الآيات 115 إلى 127]

آخرها حتى يتكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (980) والثاني: أن رجلاً لطم امرأته، فجاءت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم تطلب القصاص، فعجّل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهما القصاص، فنزلت هذه الآية، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نزل قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «1» ، قاله الحسن البصري. قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وقرأ ابن مسعود، والحسن، ويعقوب، «نَقْضِيَ» بالنون وكسر الضاد وفتح الياء «وَحْيَه» بنصب الياء. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته تخاف نسيانه، هذا على القول الأول. والثاني: لا تقرئ أصحابك حتى نبيِّن لك معانيه، قاله مجاهد، وقتادة. والثالث: لا تسأل إِنزاله قبل أن يأتيك الوحي، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: زِدْني قرآناً، قاله مقاتل. والثاني: فهماً. والثالث: حفظا، ذكرهما الثّعلبيّ. [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) قوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ أي: أمرناه وأوصيناه أن لا يأكل من الشجرة مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا الإِيمان بي، وهم الذين ذكرهم في قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ،

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبري 9308 عن الحسن مرسلا، ومراسيل الحسن واهية والمتن منكر جدا، فإن السورة مكيّة.

والمعنى: أنهم إِن نقضوا العهد، فإن آدم قد عَهِدنا إِليه فَنَسِيَ. وفي هذا النسيان قولان: أحدهما: أنه التَّرك، قاله ابن عباس، ومجاهد، والمعنى: ترك ما أُمِر به. والثاني: أنه من النسيان الذي يخالف الذِّكْر، حكاه الماوردي. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «فَنُسّيَ» برفع النون وتشديد السين. قوله تعالى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً العَزْمُ في اللغة: توطينُ النفس على الفعل. وفي المعنى أربعة أقوال «1» : أحدها: لم نجد له حفظاً، رواه العوفي عن ابن عباس، والمعنى: لم يحفظ ما أُمِر به. والثاني: صبراً، قاله قتادة، ومقاتل، والمعنى: لم يصبر عمَّا نُهي عنه. والثالث: حزماً، قاله ابن السائب. قال ابن الأنباري: وهذا لا يُخرج آدم من أُولي العزم، وإِنما لم يكن له عزم في الأكل فحسب. والرابع: عزماً في العَوْد إِلى الذَّنْب، ذكره الماوردي. وما بعده هذا قد تقدّم تفسيره «2» إِلى قوله تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى قال المفسرون: المراد به نَصَب الدُّنيا وتعبها من تكلُّف الحرث والزرع والعجن والخَبزْ وغير ذلك. قال سعيد بن جبير: أُهبط إِلى آدم ثور أحمر، فكان يعتمل عليه ويمسح العرق عن جبينه، فذلك شقاؤه. قال العلماء: والمعنى: فتشقَيا وإِنما لم يقل فتشقيا، لوجهين: أحدهما: أن آدم هو المخاطَب، فاكتفى به، ومثله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ «3» ، قاله الفراء. والثاني: أنه لما كان آدم هو الكاسب، كان التعب في حَقِّه أكثر، ذكره الماوردي. قوله تعالى: أَلَّا تَجُوعَ فِيها قرأ أُبيّ بن كعب: «لا تُجاع ولا تعرى» بالتاء المضمومة والألف. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «وأَنَّكَ» مفتوحة الألف. وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: «وإِنَّكَ» بكسر الألف. قال أبو علي: من فتح حمله على أن لك أن لا تجوع وأن لك أن لا تظمأ، ومن كسر استأنف. قوله تعالى: لا تَظْمَؤُا فِيها أي: لا تعطش. يقال: ظمئ الرجل يظمأ ظمأ، فهو ظمآن، أي: عطشان. ومعنى وَلا تَضْحى لا تبرز للشمس فيصيبك حَرُّها، لأنه ليس في الجنة شمس. قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي: على شجرةٍ مَنْ أكل منها لم يَمُتْ وَمُلْكٍ لا يَبْلى جديده ولا يفنى، وما بعد هذا مفسر في الأعراف «4» . وفي قوله تعالى: فَغَوى قولان: أحدهما: ضلَّ طريق الخلود حيث أراده من قِبَل المعصية. والثاني: فسد عليه عيشه، لأن معنى الغيّ: الفساد. قال ابن الأنباري: وقد غلط بعض المفسرين، فقال: معنى «غوى» : أكثر مما أكل من الشجرة حتى بشم «5» ، كما يقال: غوى الفصيل إِذا أكثر من لبن أمّه فبشم وكاد يهلك، وهذا خطأٌ من وجهين: أحدهما: أنه لا يقال من البشم: غَوَى يَغْوِي، وإِنما يقال: غَوِي يَغْوَى. والثاني: أن قوله تعالى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ «6» يدل على أنهما لم يُكثِرا، ولم تتأخر عنهما العقوبة حتى يصلا إِلى الإِكثار. قال ابن قتيبة: فنحن نقول

_ (1) قال الطبري رحمه الله 8/ 466: وأصل العزم: اعتقاد القلب على الشيء، ومن اعتقاد القلب: حفظ الشيء ومنه الصبر على الشيء، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه، فيكون تأويله ولم نجد له عزم قلب، على الوفاء لله بعهده، ولا على حفظ ما عهد إليه. (2) سورة البقرة: 34. (3) سورة ق: 17. (4) سورة الأعراف: 22. [.....] (5) في «اللسان» : البشم: التخمة عن الدسم. (6) سورة الأعراف: 22.

في حق آدم: عصى وغوى كما قال الله عزّ وجلّ، ولا نقول: آدم عاصٍ وغاوٍ، كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه: قد قطعه وخاطه، ولا تقول: هذا خياط، حتى يكون معاوداً لذلك الفعل، معروفاً به. قوله تعالى: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ قد بيَّنَّا الاجتباء في الأنعام «1» . فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى أي: هداه للتوبة. قالَ اهْبِطا في المشار إِليهما قولان: أحدهما: آدم وإِبليس، قاله مقاتل. والثاني: آدم وحواء، قاله أبو سليمان الدّمشقي. ومعنى قوله عزّ وجلّ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ آدم وذريته، وإِبليس وذريته، والحية أيضاً وقد شرحنا هذا في البقرة «2» . قوله تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ أي: رسولي وكتابي فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتَّبَع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه سوء الحساب، ولقد ضمن الله لمن اتَّبع القرآن أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية. قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي قال عطاء: عن موعظتي. وقال ابن السائب: عن القرآن ولم يؤمن به ولم يتَّبعه. قوله تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قال أبو عبيدة: معناه: معيشة ضيِّقة، والضَّنك يوصَف به الأنثى والذكر بغير هاءٍ، وكل عيش أو مكان أو منزل ضيِّق، فهو ضَنك، وأنشد: وإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فانْزلِ «3» وقال الزجاج: الضَّنْك أصله في اللغة: الضِّيق والشدَّة. وللمفسرين في المراد بهذه المعيشة خمسة أقوال: أحدها: أنها عذاب القبر. (981) رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إِنه ليسلَّط عليه تسعة وتسعون تِنِّيناً ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إِلى يوم القيامة» . وممن ذهب إِلى أنه عذاب القبر ابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، والسدي.

_ ضعيف. أخرجه ابن حبان 3122 والطبري 24426 والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» 68 من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف، وقال الشيخ شعيب في «الإحسان» : إسناده حسن. فإن أبا السمح أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، وهو هاهنا عن ابن حجيرة وقد روى له مسلم اه. وفيما قاله نظر. جاء في «الميزان» 2667 في ترجمة درّاج أبي السّمح ما ملخصه: قال أحمد: أحاديثه مناكير، ولينه. وقال الدوري عن يحيى: ليس به بأس، وقال الدارمي عن يحيى: ثقة. وقال فضلك الرازي: ما هو ثقة ولا كرامة وقال النسائي: منكر الحديث، وفي رواية: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: ضعيف. وساق له ابن عدي أحاديث، وقال: عامتها لا يتابع عليها. وقال الدارقطني: ضعيف. ورواية: متروك اه. فتلخص من هذا، أن الرجل ضعفه الجمهور، وهو الصواب. وحديثه هذا منكر، فمثله لا يحسن حديثه خلافا للشيخ شعيب. والله الموفق. وقال ابن كثير عقب هذا الحديث: رفعه منكر جدا. راجع «تفسيره» 3/ 213 و «تفسير الشوكاني» 1610 و 1611 بتخريجي، والله الموفق.

[سورة طه (20) : الآيات 128 إلى 130]

والثاني: أنه ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: شِدَّة عيشه في النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد. قال ابن السائب: وتلك المعيشة من الضريع والزقُّوم. والرابع: أن المعيشة الضَّنْك: كسب الحرام، روى الضحاك عن ابن عباس قال: المعيشة الضَّنْك: أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدى لشيء منها، وله معيشة حرام يركض فيها. قال الضحاك: فهذه المعيشة هي الكسب الخبيث، وبه قال عكرمة. والخامس: أن المعيشة الضَّنْك: المال الذي لا يتَّقي اللهَ صاحبُه فيه، رواه العوفي عن ابن عباس. فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال: أحدها: القبر. والثاني: الدنيا. والثالث: جهنم. وفي قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «أعمى» «حشرتَني أعمى» بفتح الميمين، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسرهما. وقرأ نافع بين الكسر والفتح. ثم في هذا المعنى للمفسرين قولان: أحدهما: أعمى البصر، روى أبو صالح عن ابن عباس قال: إِذا أُخرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إِلى المحشر عمي. والثاني: أعمى عن الحُجَّة، قاله مجاهد، وأبو صالح. قال الزجاج: معناه: فلا حُجَّة له يهتدي بها، لأنه ليس للناس على الله حُجَّة بعد الرسل. قوله تعالى: كَذلِكَ أي: الأمر كذلك كما ترى أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها أي: فتركتَها ولم تؤمن بها، وكما تركتَها في الدنيا تُترَك اليوم في النار وَكَذلِكَ أي: وكما ذكرناه نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ أي: أشرك وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر وَأَبْقى لأنه يدوم. [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 130] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) قوله تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي: أفلم يتبيَّن لكفار مكة إِذا نظروا آثار مَنْ أهلكْنا مِنَ الأمم وكانت قريش تتَّجر وترى مساكن عاد وثمود وفيها علامات الهلاك، فذلك قوله تعالى: يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ. وروى زيد عن يعقوب: «أفلم نَهْدِ» بالنون. قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إِلى يوم القيامة، وقيل: إِلى يوم بدر، وقيل: إِلى انقضاء آجالهم لَكانَ لِزاماً أي: لكان العذاب لزاماً، أي: لازماً لهم. واللِّزام: مصدر وُصف به العذاب. قال الفراء وابن قتيبة: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى: ولولا كلمة وأَجَل مسمّىً لكان لزاماً. قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أمر الله تعالى نبيَّه بالصبر على ما يسمع من أذاهم إِلى أن يحكم الله فيهم، ثم حكم فيهم بالقتل، ونسخ بآية السيف إِطلاق الصّبر. قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: صلِّ له بالحمد له والثناء عليه قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يريد الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها يعني: العصر وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ الآناء: الساعات، وقد بيَّنَّاها في آل عمران «1» ،

_ (1) سورة آل عمران: 113.

[سورة طه (20) : الآيات 131 إلى 132]

فَسَبِّحْ أي: فصلِّ. وفي المراد بهذه الصلاة أربعة أقوال: أحدها: المغرب والعشاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: جوف الليل، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: العشاء، قاله مجاهد، وابن زيد. والرابع: أول الليل وأوسطه وآخره، قاله الحسن. قوله تعالى: وَأَطْرافَ النَّهارِ المعنى: وسبِّح أطرافَ النهاء. قال الفرّاء: إنّما هما طَرَفان، فخرجا مخرج الجمع، كقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» . وللمفسرين في المراد بهذه الصلاة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الظُّهر، قاله قتادة فعلى هذا، إِنما قيل لصلاة الظهر: أطراف النهار، لأن وقتها عند الزوال، فهو طَرَف النِّصف الأول النِّصف الثاني. والثاني: أنها صلاة المغرب وصلاة الصبح، قاله ابن زيد وهذا على أن الفجر في ابتداء الطّرف الأوّل، والمغرب عند انتهاء الطَّرف الثاني. والثالث: أنها الفجر والظهر والعصر فعلى هذا يكون الفجر من الطرف الأول، والظهر والعصر من الطرف الثاني، حكاه الفراء. قوله تعالى: لَعَلَّكَ تَرْضى قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: «ترضى» بفتح التاء. وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم بضمها. فمن فتح، فالمعنى: لعلَّك ترضى ثواب الله الذي يُعطيك. ومَنْ ضمَّها، ففيه وجهان: أحدهما: لعلَّكَ ترضى بما تُعطى. والثاني: لعلَّ الله أن يرضاك. [سورة طه (20) : الآيات 131 الى 132] وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. (982) سبب نزولها، ما روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدعاني فأرسلني إِلى رجل من اليهود يبيع طعاماً، فقال: قل له: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «بعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إِلى هلال رجب» فأتيته فقلت له ذلك، فقال اليهودي: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلّا برهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرتُه، فقال: «والله لو باعني أو أسلفني لقضيته، وإِني لأمين في السماء أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إِليه» ، فنزلت هذه الآية تعزية له في الدنيا. قال أُبيّ بن كعب: من لم يتعزَّ بعزاء الله تقطَّعت نفسه حسراتٍ على الدنيا. وقد مضى تفسير هذه الآية في آخر سورة الحجر «2» .

_ إسناده ضعيف، والمتن منكر. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 615 من طريق روح عن موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد عن عبد الله بن قسيط عن أبي رافع به. وفيه موسى بن عبيدة الربذي، ضعيف ليس بشيء. وأخرجه الطبري 24455 من طريق موسى بن عبيدة بالإسناد السابق مختصرا. وأخرجه الطبري 24456 من وجه آخر من حديث أبي رافع، وفيه الحسين بن داود، وهو ضعيف. ثم إن السورة مكية كما تقدم في مطلعها، وأما الخبر فمدني. وانظر «فتح القدير» 1616.

[سورة طه (20) : الآيات 133 إلى 135]

قوله تعالى: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وقرأ ابن مسعود، والحسن، والزهري، ويعقوب: «زَهَرة» بفتح الهاء. قال الزجاج: وهو منصوب بمعنى «متَّعنا» ، لأن معنى «متَّعنا» : جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنجعل ذلك فتنة لهم. وقال ابن قتيبة: لنختبرهم. قال المفسرون: زهرة الدنيا: بهجتها وغضارتها وما يروق الناظر منها عند رؤيته، وهو من زهرة النبات وحسنه. قوله تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى فيه قولان: أحدهما: أنه ثوابه في الآخرة. والثاني: القناعة. قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ قال المفسرون: المراد بأهله: قومه ومن كان على دينه، ويدخل في هذا أهل بيته «1» . قوله تعالى: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي: واصبر على الصلاة لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي: لا نكلِّفك رزقاً لنفسك ولا لِخَلقنا، إِنما نأمرك بالعبادة ورزقُكَ علينا، وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي: وحُسن العاقبة لأهل التقوى. وكان بكر بن عبد الله المزني إِذا أصاب أهلَه خصاصةٌ قال: قوموا فصلُّوا، ثم يقول: بهذا أمر الله تعالى ورسوله، ويتلو هذه الآية. [سورة طه (20) : الآيات 133 الى 135] وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) قوله تعالى: وَقالُوا يعني: المشركين لَوْلا أي: هلاّ يَأْتِينا محمد بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي كآيات الأنبياء، نحو النّاقة والعصا أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ قرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: «تأتهم» بالتاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «يأتهم» بالياء. قوله تعالى: بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي: أولم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب من أخبار الأمم التي أهلكناها لمَّا سألوا الآيات ثم كفروا بها، فما يؤمِّنهم أن تكون حالُهم في سؤال الآيات كحال أولئك؟! وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ يعني: مشركي مكة بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ في الهاء قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الكتاب، قاله مقاتل. والثاني: إِلى الرسول، قاله الفراء. قوله تعالى: لَقالُوا يوم القيامة رَبَّنا لَوْلا أي: هلاّ أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا إِلى طاعتك فَنَتَّبِعَ آياتِكَ أي: نعمل بمقتضاها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بالعذاب وَنَخْزى في جهنم. وقرأ ابن عباس، وابن السميفع، وأبو حاتم عن يعقوب: «نُذَلَّ» «ونُخْزَى» برفع النون فيهما، وفتح الذال. قُلْ لهم يا محمد: كُلٌّ منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ أي: نحن نتربَّص بكم العذاب في الدنيا، وأنتم تتربصون بنا الدوائر فَتَرَبَّصُوا أي: فانتظروا فَسَتَعْلَمُونَ إِذا جاء أمر الله مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي: الدِّين المستقيم وَمَنِ اهْتَدى من الضلالة، أنحن، أم أنتم؟ وقيل: هذه منسوخة بآية السيف، وليس بشيء.

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 2/ 350: ويؤدب الغلام على الطهارة والصلاة إذا تمت له عشر سنين. وهذا الأمر والتأديب في حق الصبي لتمرينه على الصلاة، كي يألفها ويعتادها والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «علّموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين واضربوه عليها ابن عشر» .

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وهي مكية باجماعهم من غير خلاف نعلمه. قوله عز وجل: اقْتَرَبَ افتعل، من القُرْب، يقال: قَرُبَ الشيء، واقترب. وهذه الآية نزلت في كفار مكة. وقال الزّجّاج: اقترب للناس وقت حسابهم. قيل: اللام في قوله لِلنَّاسِ بمعنى: «مِنْ» . والمراد بالحساب: محاسبة الله لهم على أعمالهم. وفي معنى قُرْبِهِ قولان: أحدهما: أنه آتٍ، وكلُّ آتٍ قريبٌ. والثاني: لأن الزمان- لِكثرة ما مضى وقِلَّة ما بقي- قريبٌ. قوله تعالى: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أي: عمَّا يفعل الله بهم ذلك اليوم مُعْرِضُونَ عن التأهُّب له. وقيل: «اقترب للناس» عامٌّ، والغفلة والإِعراض خاص في الكفار، بدلالة قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، وفي هذا الذِّكْر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن عباس فعلى هذا تكون الإِشارة بقوله: مُحْدَثٍ إِلى إِنزاله له، لأنه أُنْزِل شيئاً بعد شيء. والثاني: أنه ذِكْر من الأذكار، وليس بالقرآن، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وقال النقاش: هو ذِكْر من رسول الله، وليس بالقرآن. والثالث: أنه رسول الله، بدليل قوله في سياق الآية: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، قاله الحسن بن الفضل. قوله تعالى: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ قال ابن عباس: يستمعون القرآن مستهزئين.

قوله تعالى: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي: غافلةً عما يراد بهم. قال الزّجّاج: المعنى: إلّا استمعون لاعبين لاهيةً قلوبهم ويجوز أن يكون منصوباً بقوله: «يلعبون» . وقرأ عكرمة، وسعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: «لاهيةٌ» بالرفع. قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى أي: تناجَوا فيما بينهم، يعني المشركين. ثم بيَّن مَنْ هم فقال: الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أَشْرَكوا بالله. و «الذين» في موضع رفع على البدل من الضمير في «وأَسَرُّوا» ثم بيَّن سِرَّهم الذي تناجَوْا به فقال: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي: آدميٌّ، فليس بملك، وهذا إِنكار لنبوَّته. وبعضهم يقول: «أسرّوا» ها هنا بمعنى: أظهروا، لأنه من الأضداد. قوله تعالى: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ أي: أفتقبلون السحر وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أنه سحر؟! يعنون أنّ متابعة محمّد صلى الله عليه وسلّم متابعة السّحر. قالَ رَبِّي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «قل ربي» . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «قال ربِّي» ، وكذلك هي في مصاحف الكوفيين، وهذا على الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: يعلم القول، أي: لا يخفى عليه شيء يقال في السماء والأرض، فهو عالم بما أسررتم. بَلْ قالُوا، قال الفراء: رَدَّ ب بَلْ على معنى تكذيبهم، وإِن لم يظهر قبله الكلام بجحودهم، لأن معناه الإِخبار عن الجاحدين، وأعلمَ أن المشركين كانوا قد تحيّروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فاختلفت أقوالهم فيه، فبعضهم يقول: هذا الذي يأتي به سِحْر، وبعضهم يقول: أضغاث أحلام، وهي الأشياء المختلطة تُرى في المنام وقد شرحناها في يوسف «1» ، وبعضهم يقول: افتراه، أي: اختلقه، وبعضهم يقول: هو شاعر فليأتنا بآية كالناقة والعصا، فاقترحوا الآيات التي لا إِمهال بعدها. قوله تعالى: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ يعني: مشركي مكة مِنْ قَرْيَةٍ وصف القرية، والمراد أهلها، والمعنى: أن الأمم التي أهلكت بتكذيب الآيات، لم يؤمنوا بالآيات لمَّا أتتهم، فكيف يؤمن هؤلاء؟! وهذه إِشارة إِلى أن الآية لا تكون سبباً للإِيمان، إِلا أن يشاء الله. قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا هذا جواب قولهم: «هل هذا إِلاّ بَشَر مِثْلُكم» . قوله تعالى: نُوحِي إِلَيْهِمْ قرأ الأكثرون: «يوحَى» بالياء. وروى حفص عن عاصم: «نُوحي» بالنون. وقد شرحنا هذه الآية في النحل «2» . قوله تعالى وَما جَعَلْناهُمْ يعني الرسل جَسَداً قال الفراء: لم يقل: أجساداً، لأنه اسم الجنس. قال مجاهد: وما جعلناهم جسداً ليس فيهم روح. قال ابن قتيبة: ما جعلنا الانبياء قبله أجساداً لا تأكل الطعام ولا تموت فنجعله كذلك. قال المبرد وثعلب جميعاً: العرب إِذا جاءت بين الكلام بجحدين، كان الكلام إِخباراً، فمعنى الآية: إِنما جعلناهم جسداً ليأكلوا الطعام. قال قتادة: المعنى: وما جعلناهم جسداً إِلا ليأكلوا الطعام. قوله تعالى: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ يعني: الأنبياء أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك مكذِّبيهم فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وهم الذين صدَّقوهم وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ يعني: أهل الشّرك وهذا

_ (1) سورة يوسف: 44. (2) سورة النحل: 43.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 إلى 15]

تخويف لأهل مكة. ثم ذكر منَّته عليهم بالقرآن فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ، وفي ثلاثة أقوال «1» : أحدها: فيه شرفكم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: فيه دِينكم، قاله الحسن، يعني: فيه ما تحتاجون إِليه من أمر دينكم. والثالث: فيه تذكرة لكم لِمَا تلقَونه من رَجعة أو عذاب، قاله الزجاج. قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ ما فضَّلْتُكم به على غيركم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) ثم خوَّفهم فقال: وَكَمْ قَصَمْنا قال المفسرون واللغويون: معناه: وكم أهلكنا، وأصل القصم: الكسر. قوله تعالى: كانَتْ ظالِمَةً أي: كافرة، والمراد: أهلها. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي: رأَوا عذابنا بحاسَّة البصر إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ أي: يَعْدُون، وأصل الرَّكْض: تحريكُ الرِّجلين، يقال: رَكَضْتُ الفَرَس: إِذا أَعْدَيته بتحريك رِجليكَ فعدا. قوله تعالى: لا تَرْكُضُوا قال المفسرون: هذا قول الملائكة لهم: وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ، أي: إِلى نعَمكم التي أترفتْكم، وهذا توبيخ لهم. وفي قوله: لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قولان: أحدهما: تُسألون من دنياكم شيئاً، استهزاءً بهم، قاله قتادة. والثاني: تُسأَلون عن قتل نبيِّكم، قاله ابن السائب. فلما أيقنوا بالعذاب قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بكفرنا، فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي: ما زالت تلك الكلمة التي هي «يا ويلنا إِنَّا كنَّا ظالمين» قولهم يردِّدونها. حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً بالعذاب، وقيل: بالسيوف خامِدِينَ، أي: ميتين كخمود النار إذا طفئت. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 الى 24] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي: لم نخلق ذلك عبثاً، إِنما خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيَّتِنا ليعتبر الناس بخَلْقه، فيعلموا أن العبادة لا تصلح إِلا لخالقه، لنجازيَ أولياءنا، ونعذِّبَ أعداءنا. قوله تعالى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن المشركين لما قالوا:

_ (1) قال الطبري 9/ 8: عنى بالذكر في هذا الموضع الشرف، وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه.

الملائكة بنات الله والآلهة بناته، نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس «1» . والثاني: أن نصارى نجران قالوا: إِن عيسى ابن الله، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «2» . وفي المراد باللهو ثلاثة أقوال «3» : أحدها: الولد، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال السدي. قال الزجاج: المعنى: لو أردنا أن نتخذ ولداً ذا لهوٍ نُلْهَى به. والثاني: المرأة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة. والثالث: اللعب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله تعالى: لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا قال ابن جريج: لاتّخذنا نساء وولدا من أهل السماء، لا من أهل الأرض. قال ابن قتيبة: وأصل اللهو: الجماع، فكُنِّي عنه باللهو، كما كُنِّيَ عنه بالسِّرِّ، والمعنى: لو فعلنا ذلك لاتَّخذناه من عندنا، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده، لا عند غيره. وفي قوله تعالى: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ قولان: أحدهما: أن أَنْ بمعنى «ما» ، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة. والثاني: أنها بمعنى الشرط. قال الزجاج: والمعنى: إِن كنا نفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله قال: والقول الأول قول المفسرين، والثاني: قول النحويين، وهم يستجيدون القول الأول أيضاً، لأن «إِنْ» تكون في موضع النفي، إِلا أنَّ أكثر ما تأتي مع اللام، تقول: إِن كنت لَصالحاً، معناه: ما كنت إِلاَّ صالحاً. قوله تعالى: بَلْ أي: دع ذاك الذي قالوا، فإنه باطل نَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي: نسلّط الحق وهو القرآن عَلَى الْباطِلِ وهو كذبهم فَيَدْمَغُهُ قال ابن قتيبة: أي: يكسره، وأصل هذا إِصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي: زائل ذاهب. قال المفسرون: والمعنى: إِنا نبطل كذبهم بما نبيِّن من الحق حتى يضمحلَّ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي: من وصفكم الله بما لا يجوز وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: هم عبيده ومُلْكه وَمَنْ عِنْدَهُ يعني: الملائكة. وفي قوله: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يرجعون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: لا ينقطعون، قاله مجاهد. وقال ابن قتيبة: لا يعيَون، والحَسِر: المنقطع الواقف إِعياءً وكلالاً. والثالث: لا يملُّون، قاله ابن زيد. قوله تعالى: لا يَفْتُرُونَ قال قتادة: لا يسأَمون. وسئل كعب: أما يَشْغَلُهم شأن؟ أما تَشْغَلُهم حاجة؟ فقال للسائل: يا ابن أخي، جُعل لهم التسبيحُ كما جُعل لكم النَّفَسُ، ألستَ تأكل وتشرب وتقوم وتجلس وتجيء وتذهب وتتكلم وأنت تتنفس؟! فكذلك جُعل لهم التسبيح. ثم إِن الله تعالى عاد إِلى توبيخ المشركين فقال: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ لأن أصنامهم من الأرض هي، سواء كانت من ذهب أو فضة أو خشب أو حجارة هُمْ يعني: الآلهة يُنْشِرُونَ أي: يُحْيُون الموتى. وقرأ الحسن:

_ (1) لا يصح عن ابن عباس، أبو صالح ضعيف، وراويته الكلبي، وهو ممن يضع الحديث. (2) باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والسورة مكية، وإنما قدم نصارى نجران في المدينة. [.....] (3) قال الطبري رحمه الله 9/ 11: لو أردنا أن نتخذ زوجة وولدا لاتخذنا ذلك من عندنا، ولكنا لا نفعل ذلك، ولا يصلح لنا فعله، ولا ينبغي، لأنه لا يكون لله ولد ولا صاحبة. وقال ابن كثير رحمه الله 3/ 221: فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقا، لا سيما عما يقولون من الإفك والباطل، من اتخاذ عيسى، أو عزير، أو الملائكة سبحان الله عما يقولون علوا كبيرا.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 25 إلى 29]

«يَنشُرون» بفتح الياء وضم الشين. وهذا استفهام بمعنى الجحد، والمعنى: ما اتخذوا آلهة تَنْشُر ميتاً. لَوْ كانَ فِيهِما يعني: السماء والأرض آلِهَةٌ يعني: معبودين إِلَّا اللَّهُ قال الفراء: سوى الله. وقال الزجاج: غير الله. قوله تعالى: لَفَسَدَتا أي: لخربتا وبطلتا وهلكَ من فيهما، لوجود التمانع بين الآلهة، فلا يجري أمر العالَم على النظام، لأن كل أمر صدر عن اثنين فصاعداً لم يَسْلَم من الخلاف. قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي: عمَّا يَحْكُم في عباده من هدي وإِضلال، وإِعزاز وإِذلال، لأنه المالك للخلق، والخلق يُسأَلون عن أعمالهم لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم. ولمَّا أبطل عزّ وجلّ أن يكون إِله سواه من حيث العقل بقوله: لَفَسَدَتا، أبطل ذلك من حيث الأمر فقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وهذا استفهام إِنكار وتوبيخ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما تقولون، هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ يعني: القرآن خبر مَن معي على ديني ممن يتّبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يعني: الكتب المنزلة، والمعنى: هذا القرآن، وهذه الكتب التي أُنزلت قبله، فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إِله سواه؟ فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود غيره من حيث الأمر به، قال الزجاج: قيل لهم: هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل أخبر أُمَّته بأن لهم إلهاً غير الله!. قوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ يعني: كفار مكة لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وفيه قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: التوحيد، قاله مقاتل فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن التفكُّر والتأمُّل وما يجب عليهم من الإيمان. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 25 الى 29] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) قوله تعالى: مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إِلا نوحي» بالنون والباقون بالياء. قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً في القائلين لهذا قولان: أحدهما: أنهم مشركو قريش، قاله ابن عباس. وقال ابن إِسحاق: القائل لهذا النضر بن الحارث. والثاني: أنهم اليهود قالوا: إِن الله صاهر الجن فكانت منهم الملائكة، قاله قتادة. فعلى القولين، المراد بالولد: الملائكة، وكذلك المراد بقوله: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، والمعنى: بل عباد أكرمهم الله واصطفاهم، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، أي: لا يتكلَّمون إِلا بما يأمرهم به. وقال ابن قتيبة: لا يقولون حتى يقول، ثم يقولون عنه، ولا يعملون حتى يأمرهم. قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي: ما قدَّموا من الأعمال وَما خَلْفَهُمْ ما هم عاملون، ولا يشفعون يوم القيامة، وقيل: لا يستغفرون في الدنيا إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي: لِمَن رضي عنه، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ أي: من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إِلى المفعول، مُشْفِقُونَ أي: خائفون. وقال الحسن: يرتعدون. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ أي: من الملائكة. قال الضحاك

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 إلى 33]

في آخرين: هذه خاصة لإِبليس، لم يَدْعُ أحد من الملائكة إِلى عبادة نفسه سواه قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا قول من قال: إِنه من الملائكة، فإن إِبليس قال ذلك للملائكة الذين هبطوا معه إِلى الأرض، ومن قال: إِنه ليس من الملائكة، قال: هذا على وجه التهديد، وما قال أحد من الملائكة ذلك. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: أولم يعلموا. وقرأ ابن كثير: «ألم ير الذين كفروا» بغير واو بين الألف واللام، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة، أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما قال أبو عبيدة: السموات جمع والأرض واحدة، فخرجت صفة لفظ الجمع على لفظ صفة الواحد والعرب تفعل هذا إذا أشركوا بين الجمع وبين واحد والرَّتْق مصدر يوصف به الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث سواء، ومعنى الرَّتْق: الذي ليس فيه ثقب. قال الزجاج: المعنى: كانتا ذواتي رتق، فجعلناهما ذوات فتق، وإِنما لم يقل: «رَتْقَيْنِ» لأن الرَّتق مصدر. وللمفسرين في المراد به ثلاثة أقوال: أحدها: أن السموات كانت رَتْقاً لا تُمْطِر، وكانت الأرض رَتْقاً لا تُنْبِت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة، ومجاهد في رواية، والضحاك في آخرين. والثاني: أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين، ففتقهما الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة. والثالث: أنَّه فَتق من الأرض ست أرضين فصارت سبعاً، ومن السماء ست سموات فصارت سبعاً، رواه السدي عن أشياخه، وابن أبي نجيح عن مجاهد. قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وقرأ معاذ القارئ وابن أبي عبلة وحميد بن قيس: «كلَّ شيء حيّاً» بالنصب. وفي هذا الماء قولان: أحدهما: أنه الماء المعروف، والمعنى: جعلنا الماء سبباً لحياة كل حيٍّ، قاله الأكثرون. والثاني: أنه النُّطفة، قاله أبو العالية. قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ قد فسرناه في سورة النحل «1» . قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها أي: في الرواسي فِجاجاً، قال أبو عبيدة: هي المسالك. قال الزجاج: الفِجَاج جمع فَجّ، وهو كل منخَرق بين جبلين، ومعنى سُبُلًا طرقاً. قال ابن عباس: جعلنا من الجبال طُرُقاً كي تهتدوا إِلى مقاصدكم في الأسفار. قال المفسرون. وقوله: سُبُلًا تفسير للفِجَاج، وبيان أن تلك الفِجَاج نافذة مسلوكة، فقد يكون الفَجُّ غير نافذ. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً أي: هي للأرض كالسقف. وفي معنى مَحْفُوظاً قولان: أحدهما: بالنجوم من الشياطين، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: محفوظاً من الوقوع إِلا باذن الله، قاله الزّجّاج.

_ (1) سورة النحل: 15.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 إلى 36]

قوله تعالى: وَهُمْ يعني: كفار مكة عَنْ آياتِها أي: شمسها وقمرها ونجومها، قال الفراء: وقرأ مجاهد: «عن آيتها» فوحّد، فجعل السماء بما فيها آية وكلٌّ صوابٌ. قوله تعالى: كُلٌّ يعني: الطوالع فِي فَلَكٍ قال ابن قتيبة: الفَلَك: مدار النجوم الذي يضمُّها، وسمَّاه فَلَكاً، لاستدارته، ومنه قيل: فَلْكَة المِغْزَل، وقد فَلكَ ثَدْيُ المرأة. قال أبو سليمان: وقيل: إِن الفَلَك- كهيئة الساقية من ماء- مستديرة دون السماء وتحت الأرض، فالأرض وسطها والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار يجرون في الفَلَك، وليس الفَلَك يُديرها. ومعنى «يَسْبَحون» : يَجْرُون. قال الفراء: لمَّا كانت السِّباحة من أفعال الآدميين، ذُكِرَتْ بالنون، كقوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1» لأنّ السّجود من أفعال الآدميين. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 36] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ سبب نزولها أن ناساً قالوا: إِن محمداً لا يموت، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية ما خلَّدنا قبلكَ أحداً من بني آدم والخُلْد: البقاء الدائم. أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ يعني مشركي مكة، لأنهم قالوا: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «2» . قوله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ قال ابن زيد: نختبركم بما تحبُّون لننظر كيف شكركم، وبما تكرهون لننظر كيف صبركم. قوله تعالى: وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ قرأ ابن عامر: «تَرجعون» بتاء مفتوحة. وروى ابن عباس عن أبي عمرو: «يرجعون» بياء مضمومة. وقرأ الباقون ترجعون بتاء مضمومة. قوله تعالى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال ابن عباس: يعني المستهزئين، وقال السدي: نزلت في أبي جهل، مَرَّ به رسول الله، فضحك وقال: هذا نَبيُّ بني عبد مناف. وإِنْ بمعنى «ما» ، ومعنى هُزُواً مهزوءاً به أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي: يعيب أصنامكم، وفيه إِضمار «يقولون» ، وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ وذلك أنهم قالوا: ما نعرف الرحمن، فكفروا بالرّحمن. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 37 الى 41] خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وقرأ أبو رزين العُقيلي، ومجاهد، والضحاك «خَلَقَ الإنسانَ» بفتح الخاء واللام ونصب النون. وهذه الآية نزلت حين استعجلت قريش بالعذاب. وفي المراد بالإنسان ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: النضر بن الحارث، وهو الذي قال:

_ (1) سورة يوسف: 4. (2) سورة الطور: 40.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 إلى 46]

اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: آدم عليه السلام، قاله سعيد بن جبير، والسدي في آخرين. والثالث: أنه اسم جنس، قاله علي بن أحمد النيسابوري فعلى هذا يدخل النّضر بن الحارث وغيره في هذا وإِن كانت الآية نزلت فيه. فأمَّا من قال: أُرِيدَ به آدم، ففي معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه خُلق عجولاً، قاله الأكثرون. فعلى هذا يقول: لما طُبع آدم على هذا المعنى، وُجد في أولاده، وأورثهم العَجَل. والثاني: خُلق بعَجَل، استَعجل بخَلْقه قبل غروب الشمس من يوم الجمعة، وهو آخر الأيام الستة، قاله مجاهد. فأما من قال: هو اسم جنس، ففي معنى الكلام قولان: أحدهما: خُلِقَ عَجُولاً قال الزجاج: خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر منه اللعب: إِنما خُلقتَ من لَعِب، يريدون المبالغة في وصفه بذلك. والثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: خُلقتِ العجلة في الإِنسان، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فيه قولان: أحدهما: ما أصاب الأمم المتقدِّمة والمعنى: إِنكم تسافرون فترون آثار الهلاك في الماضين، قاله ابن السائب. والثاني: أنها القتل ببدر، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أثبت الياء في الحالتين يعقوب. قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون: القيامة. لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا جوابه محذوف، والمعنى: لو علموا صدق الوعد ما استعجلوا، حِينَ لا يَكُفُّونَ أي: لا يدفعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ إِذا دخلوا وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ لإِحاطتها بهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي: يُمنَعون مما نزل بهم، بَلْ تَأْتِيهِمْ يعني: الساعة بَغْتَةً فجأَةً فَتَبْهَتُهُمْ تحيِّرهم وقد شرحنا هذا عند قوله: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ «2» فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي: صرفها عنهم، ولا هم يُمْهَلون لتوبة أو معذرة. ثم عزّى نبيّه، فقال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي: كما فعل بك قومك فَحاقَ أي: نزل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي: من الرّسل ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني: العذاب الذي كانوا استهزءوا به. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 46] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ المعنى: قل لهؤلاء المستعجِلين بالعذاب: من يحفظكم من بأس الرحمن إِن أراد إِنزاله بكم؟ وهذا استفهام إِنكار، أي: لا أحد يفعل ذلك، بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي: عن كلامه ومواعظِهِ مُعْرِضُونَ لا يتفكَّرون ولا يعتبرون. أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ

_ (1) سورة الأنفال: 32. (2) سورة البقرة: 258.

[سورة الأنبياء (21) : آية 47]

دُونِنا فيه تقديم وتأخير، وتقديره: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم؟ وها هنا تم الكلام. ثم وصف آلهتهم بالضعف، فقال: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ والمعنى: من لا يقدر على نصر نفسه عمّا يُراد به، فكيف ينصُر غيره؟! قوله تعالى: وَلا هُمْ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار، وهو قول ابن عباس. والثاني: أنهم الأصنام، قاله قتادة. وفي معنى يُصْحَبُونَ أربعة أقوال: أحدها: يُجارُون، رواه العوفي عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: والمعنى: لا يجيرهم منَّا أحدٌ، لأن المجير صاحب لجاره. والثاني: يُمنعون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: يُنصرون، قاله مجاهد. والرابع: لا يُصحبون بخير، قاله قتادة. ثم بيّن اغترارهم بالإهمال، فقال: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ يعني أهل مكة حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فاغترُّوا بذلك، أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قد شرحناه في الرعد «1» أَفَهُمُ الْغالِبُونَ أي: مع هذه الحال، وهو نقص الأرض، والمعنى: ليسوا بغالبين، ولكنَّهم المغلوبون. قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ أي: أُخَوِّفكم بِالْوَحْيِ أي: بالقرآن، والمعنى: إنني ما جئتُ به من تلقاء نفسي، إنِما أُمِرْتُ فبلَّغتُ. وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ وقرأ ابن عامر: «ولا تُسْمِعُ» بالتاء مضمومة «الصُّمَّ» نصباً. وقرأ ابن يعمر، والحسن: «ولا يُسْمَعُ» بضم الياء وفتح الميم «الصُّمُّ» بضم الميم. شبَّه الكفار بالصُمّ الذين لا يسمعون نداء مناديهم ووجه التشبيه أن هؤلاء لم ينتفعوا بما سمعوا، كالصُمِّ لا يفيدهم صوت مناديهم. وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ أي: أصابتهم نَفْحَةٌ قال ابن عباس: طرف. وقال الزجاج: المراد أدنى شيء من العذاب، لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا والويل ينادي به كلُّ من وقع في هلكة. [سورة الأنبياء (21) : آية 47] وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ قال الزجاج: المعنى: ونضع الموازين ذوات القسط، والقسط: العدل، وهو مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. قال الفراء: القسط من صفة الموازين وإِن كان موحَّداً، كما تقول: أنتم عدل، وأنتم رضى. وقوله تعالى: لِيَوْمِ الْقِيامَةِ و «في يوم القيامة» سواء. وقد ذكرنا الكلام في الميزان في أول الأعراف «2» . فإن قيل: إِذا كان الميزان واحداً، فما المعنى بذكر الموازين؟ فالجواب: أنه لما كانت أعمال الخلائق توزن وزنةً بعد وزنة، سمِّيت موازين. قوله تعالى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي: لا يُنْقَص محسن من إِحسانه، ولا يُزاد مسيء على إِساءته وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ أي: وزن حبة. وقرأ نافع: «مثقالُ» برفع اللام. قال الزجاج: ونصب «مثقالَ» على معنى: وإِن كان العمل مثقال حبة. وقال أبو علي الفارسي: وإِن كان الظُّلامة مثقال حبة، لقوله تعالى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» . قال: ومن رفع، أسند الفعل إِلى المثقال، كما أسند في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ «3» .

_ (1) سورة الرعد: 41. (2) سورة الأعراف: 8. (3) سورة البقرة: 280.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 إلى 50]

قوله تعالى: أَتَيْنا بِها أي: جئنا بها، وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد: «آتينا بها» ممدودة، أي: جازينا بها. قوله تعالى: وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قال الزجاج: هو منصوب على وجهين أحدهما: التّمييز والثاني: الحال. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ فيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: التّوراة التي فرَّق بها بين الحلال والحرام، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون، قاله ابن زيد. والثالث: النصر والنجاة لموسى، وإِهلاك فرعون، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَضِياءً روى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يرى الواو زائدة قال الزجاج: وكذلك قال بعض النّحويين أنّ المعنى: الفرقان ضياء، وعند البصريّين: أن الواو لا تُزاد ولا تأتي إِلا بمعنى العطف، فهي ها هنا مثل قوله تعالى: فِيها هُدىً وَنُورٌ «2» قال المفسّرون: والمعنى أنهم استضاءوا بالتوراة حتى اهتدَوا بها في دينهم. ومعنى قوله تعالى: وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أنهم يذكرونه ويعملون بما فيه. الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فيه أربعة أقوال: أحدها: يخافونه ولم يرَوه، قاله الجمهور. والثاني: يخشَون عذابه ولم يروه، قاله مقاتل. والثالث: يخافونه من حيث لا يراهم أحد، قاله الزجاج. والرابع: يخافونه إِذا غابوا عن أعين الناس كخوفهم له إِذا كانوا بين الناس، قاله أبو سليمان الدمشقي. ثم عاد إِلى ذِكْر القرآن، فقال: وَهذا يعني: القرآن ذِكْرٌ لمن تذكَّر به، وعظة لمن اتَّعظ مُبارَكٌ أي: كثير الخير أَفَأَنْتُمْ يا أهل مكة لَهُ مُنْكِرُونَ أي: جاحدون؟! وهذا استفهام توبيخ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 58] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي: هداه مِنْ قَبْلُ وفيه ثلاثة أقوال «3» :

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 229: وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية تشتمل على التفرقة بين الحق والباطل، والهدي والضلال، والغيّ والرشاد، والحلال والحرام وعلى ما يحصل نورا في القلوب، وهداية وخوفا وإنابة وخشية ولهذا قال: الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أي: تذكيرا لهم وعظة. (2) سورة المائدة: 44. (3) قال القرطبي في «تفسيره» 7/ 27: قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: نُورٌ عَلى نُورٍ قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه ازداد نورا على نور، وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربا وخالقا. وقال ابن كثير رحمه الله 3/ 229: يخبر الله تعالى عن خليله إبراهيم أنه آتاه رشده من قبل أي: من صغره ألهمه الحق والحجّة على قومه، كما قال وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وقوله: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي: وكان أهلا لذلك. والرشد الذي أوتيه من صغره، الإنكار على قومه عبادة الأصنام من دون الله عز وجل. قال الزمخشري في «الكشاف» 3/ 122: ومعنى علمه به: أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وأحمدها، حتى أهله لمخالّته ومخالصته. وفي قوله: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان، فما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل، وهم معتقدون أنهم على شيء، وجادّون في نصرة مذهبهم، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم، وكفى أهل التقليد سبة أن عبدة الأصنام منهم.

أحدها: من قبل بلوغه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: آتيناه ذلك في العِلْم السابق، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: مِنْ قَبْل موسى وهارون، قاله الضحاك. وقد أشرنا إِلى قصة إِبراهيم في الأنعام «1» . قوله تعالى: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي: علمنا أنه موضع لإِيتاء الرُّشد. ثم بيَّن متى آتاه فقال: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ يعني: الأصنام، والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبَّهاً بِخَلْق من خَلْق الله تعالى، وأصله من مثَّلث الشيء بالشيء: إِذا شبَّهته به، وفي قوله تعالى: الَّتِي أَنْتُمْ لَها أي: على عبادتها عاكِفُونَ أي: مقيمون، فأجابوه أنهم رأوا آباءهم يعبدونها فاقتدَوا بهم فأجابهم بأنهم فيما فعلوا وآباءَهم في ضلال مبين، قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ. ينون: أجادٌّ أنتَ، أم لاعب؟! قوله تعالى: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ الكيد: احتيال الكائد في ضرّ المكيد. والمفسرون يقولون: لأكيدنها بالكسر بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا أي: تذهبوا عنها، وكان لهم عيد في كل سنة يخرجون إِليه ولا يخلِّفون بالمدينة أحداً، فقالوا لإِبراهيم: لو خرجتَ معنا إِلى عيدنا أعجبكَ دِيننا، فخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق، قال: إِني سقيم، وألقى نفسه، وقال سِرّاً منهم: «وتالله لأكيدنَّ أصنامكم» ، فسمعه رجل منهم، فأفشاه عليه، فرجع إِلى بيت الأصنام، وكانت- فيما ذكره مقاتل بن سليمان- اثنين وسبعين صنماً من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب، فكسرها، ثم وضع الفأس في عنق الصنم الكبير، فذلك قوله: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قرأ الأكثرون: «جُذاذاً» بضم الجيم. وقرأ أبو بكر الصدّيق، وابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، والأعمش، والكسائي: «جِذاذاً» بكسر الجيم. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وأيوب السختياني، وعاصم الجحدري: «جَذاذاً» بفتح الجيم. وقرأ الضحاك، وابن يعمر: «جذاذا» بفتح الجيم من غير ألف. وقرأ معاذ القارئ، وأبو حيوة، وابن وثَّاب: «جُذذاً» بضم الجيم منن غير ألف. قال أبو عبيدة: أي: مستأصَلين، قال جرير: بَني المهلَّب جَذَّ اللهُ دَابِرَهُم ... أَمْسَوْا رَمَاداً فلا أصلٌ ولا طَرَفُ «2» أي: لم يَبْقَ منهم شيء، ولفظ «جُذاذ» يقع على الواحد والاثنين والجميع من المذكَّر والمؤنَّث. وقال ابن قتيبة: «جُذاذاً» أي: فُتاتاً، وكلُّ شيء كسرتَه فقد جَذَذْتَه، ومنه قيل للسَّويق: الجذيذ. وقرأ الكسائي: «جِذاذاً» بكسر الجيم على أنه جمع جَذيذ، مثل ثَقيل وثِقال، وخَفيف وخِفاف. والجذيذ بمعنى: المجذوذ، وهو المكسور. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي: كسر الأصنامَ إِلا أكبرها. قال الزّجّاج:

_ (1) سورة الأنعام: 75. (2) البيت في ديوانه: 390 و «الكامل» : 510. وفي «اللسان» : طرف القوم: رئيسهم. [.....]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 إلى 63]

جائز أن يكون أكبرها في ذاته، وجائز أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم إِياه، لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الصنم، ثم فيه قولان: أحدهما: لعلهم يرجعون إِليه فيشاهدونه، هذا قول مقاتل. والثاني: لعلهم يرجعون إِليه بالتهمة، حكاه أبو سليمان الدمشقي. والثاني: أنها ترجع إِلى إِبراهيم. والمعنى: لعلهم يرجعون إِلى دين إبراهيم بوجوب الحجّة عليهم، قاله الزّجّاج. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 الى 63] قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إِلى آلهتهم قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي: قد فعل ما لم يكن له فِعْلُه، فقال الذي سمع إِبراهيم يقول: «لأكيدن أصنامكم» : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ قال الفراء: أي يعيبهم تقول للرجل: لئن ذكرتَني لتندمنَّ، تريد: بسوء. قوله تعالى: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي: بمرأىً منهم «1» ، لا تأتُوا به خفْيةً. قال أبو عبيدة: تقول العرب إِذا أُظهر الأمر وشُهر: كان ذلك على أعين الناس. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة. والثاني: يشهدون أنه فعل ذلك، قاله السدي. والثالث: يشهدون عقابه وما يُصنَع به، قاله محمد بن إِسحاق. قال المفسرون: فانطلَقوا به إِلى نمرود، فقال له: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب أن تُعبَد معه الصّغار، فكسرها، فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ من فَعَلَه بهم؟! وهذا إِلزام للحُجَّة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النُّطق. واختلف العلماء في وجه هذا القول من إِبراهيم عليه السلام على قولين: أحدهما: أنه وإِن كان في صورة الكذب، إِلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له، لا يصلح أن يكون إِلهاً، ومثله قول الملَكين لداود: إِنَّ هذا أَخِي ولم يكن أخاه لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً «3» ، ولم يكن له شيء، فجرى هذا مجرى التّنبيه لداود على ما فعل، أنه هو المراد بالفعل والمَثَل المضروب ومِثْل هذا لا تسمِّيه العرب كذباً. والثاني: أنه من معاريض الكلام فروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله تعالى: بَلْ فَعَلَهُ ويقول: معناه: فعله من فعله، ثم يبتدئ كَبِيرُهُمْ هذا. قال الفراء: وقرأ بعضهم: «بل فعله»

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله 3/ 231: وقوله: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي: على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلهم، وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقولهم في عبادة هذه الأصنام، التي لا تدفع عن نفسها ضرا. (2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 11/ 262: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ طعنه على آلهتهم ليعلموا أنه يستحق العقاب. قلت: وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد. (3) سورة ص: 23.

بتشديد اللام، يريد: بل فلعلَّه كبيرهم هذا. وقال ابن قتيبة: هذا من المعاريض، ومعناه: إِن كانوا ينطقون، فقد فعله كبيرهم، وكذلك قوله: إِنِّي سَقِيمٌ «1» أي سأسقم، ومثله: إِنَّكَ مَيِّتٌ «2» أي: ستموت، وقوله: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ «3» قال ابن عباس: لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، والمعنى: لا تؤاخذني بنسياني، ومن هذا قصة الخصمين إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ» ، ومثله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً «5» ، والعرب تستعمل التعريض في كلامها كثيراً، فتبلغ إِرادتها بوجهٍ هو ألطف من الكشف وأحسن من التصريح. وروي أن قوماً من الأعراب خرجوا يمتارون، فلما صدروا، خالف رجل في بعض الليل إِلى عكْم «6» صاحبه، فأخذ منه بُرّاً وجعله في عِكْمه، فلما أراد الرحلة وقاما يتعاكمان، رأى عِكْمه يشول، وعِكْم صاحبه يثقل، فأنشأ يقول: عِكْم تغشَّى بعضَ أعكام القوم ... لَمْ أَرَ عِكْماً سَارقاً قبل اليوم فخوَّن صاحبه بوجهٍ هو ألطف من التصريح. قال ابن الأنباري: كلام إِبراهيم كان صدقاً عند البحث، ومعنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم: (983) «كذب إِبراهيم ثلاث كذبات» : قال قولاً يشبه الكذب في الظاهر، وليس بكذب، قال المصنف: وقد ذهب جماعة من العلماء إِلى هذا الوجه، وأنه من المعاريض، والمعاريض لا تُذم، خصوصاً إِذا احتيج إِليها. (984) روى عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ في المعاريض لمندوحة عن

_ صحيح. أخرجه البخاري 3357 ومسلم 2371 وأبو داود 2212 وأحمد 2/ 403- 404 والترمذي 3166 وابن حبان 5737 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات. ثنتين في ذات الله. قوله: إني سقيم. وقوله: بل فعله كبيرهم هذا. وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة. وكانت أحسن الناس. فقال لها: إن هذا الجبار، إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي. فإنك أختي في الإسلام. فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار. فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها فأتي بها. فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة. فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها. فقبضت يده قبضة شديدة. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرّك. ففعلت. فعاد. فقبضت أشد من القبضة الأولى. فقال لها مثل ذلك. ففعلت. فعاد. فقبضت أشدّ من القبضتين الأوليين. فقال: ادعي الله أن يطلق يدي. فلك الله أن لا أضرك. ففعلت. وأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان. ولم تأتني بإنسان. فأخرجها من أرضي. وأعطها هاجر. قال: فأقبلت تمشي. فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف. فقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا. كفّ الله يد الفاجر. وأخدم خادما. قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء. لفظ مسلم. وأخرجه البخاري 3358 و 5084 والبيهقي 7/ 366 عن أبي هريرة موقوفا. أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» 1011 وأبو الشيخ في «الأمثال» 230 والحافظ في «الفتح» 10/ 594 وابن عدي في «الكامل» 3/ 96 والديلمي من حديث عمران بن حصين، وفيه داود بن الزبرقان قال عنه ابن عدي: هو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، وقال في موضع آخر: لا أعلم أحدا رفعه غير داود اه وقال الذهبي في «المغني» : هو متروك. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» 884 عن عمران موقوفا، وعن عمر مثله، فالمرفوع وإن كان ضعيفا إلا أنه يتقوى بالموقوف، والله أعلم، وانظر «المقاصد الحسنة» 227. و «تفسير القرطبي» 3699.

الكذب» ، وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: ما يسرُّني أنّ لي بما أعلم من معاريض القول مِثْل أهلي ومالي، وقال النخعي، لهم كلام يتكلَّمون به إِذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم. وقال ابن سيرين: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف. (985) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعجوز: «إنّ الجنّة لا يدخلها العجائز» ، أراد قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً «1» . (986) وروي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه كان يمازح بلالاً، فيقول: «ما أُخت خالك منك» ؟ (987) وقال لامرأة: «مَنْ زوجُك» ؟ فسمَّته له، فقال: «الذي في عينيه بياض» ؟ (988) وقال لرجل: «إِنا حاملوك على ولد ناقة» . (989) وقال العباس: ما ترجو لأبي طالب؟ فقال: «كل خير أرجوه من ربّي» .

_ ضعيف. بهذا اللفظ وذكر الآية. ورد من مرسل الحسن. وله ثلاث علل: الأولى: الإرسال، والثانية: المبارك بن فضالة غير قوي، والثالثة: مراسيل الحسن واهية لأنه كان يحدث عن كل أحد. أخرجه الترمذي في «الشمائل» 240 والبغوي في «الأنوار» 320 والبيهقي في «البعث» 382 عن ابن فضالة عن الحسن. - وله شاهد من حديث عائشة: أخرجه الطبراني في «الأوسط» 5541 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 391. من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن ابن طارق عن مسعدة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة. واسم طارق عند الطبراني «أحمد» أما عند أبي نعيم «محمد» . قال الهيثمي في «المجمع» 10/ 419 وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف. قلت: بل هو ضعيف جدا. قال الذهبي في «الميزان» 4/ 98: هالك، كذبه أبو داود، وقال أحمد: خرقنا حديثه منذ دهر. وأخرجه أبو نعيم في «أخبار أصبهان» 2/ 142 والبيهقي في «379» وأبو الشيخ في «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلّم» 186 من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة. وليث ضعيف. وذكر ابن حجر في «تخريج الكشاف» 4/ 462 هذه الطرق وقال: كلها ضعيفة. وله شاهد من حديث أنس. أخرجه ابن الجوزي في «الوفاء» كما في «تخريج الإحياء» 3/ 129. قال العراقي: وأسنده ابن الجوزي من حديث أنس بسند ضعيف. الخلاصة: لا يصح هذا الحديث بهذا اللفظ مع ذكر الآية الكريمة على أنه مرفوع، والله أعلم. لم أره مسندا بعد، فلينظر. ضعيف، عزاه الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» 3/ 129 للزبير بن بكر في كتاب «الفكاهة والمزاح» عن زيد بن أسلم به، وهذا مرسل، فهو ضعيف. صحيح، أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» 268 وأبو داود 4998 والترمذي 1992 والبغوي في «الأنوار» 316 من حديث أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يستحمله. فقال: «إنا حاملوك على ولد الناقة» قال: يا رسول الله! وما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وهل تلد الإبل إلا النوق» . وإسناده صحيح. ضعيف. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 1/ 100 بسند حسن عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث به مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.

(990) وكان أبو بكر حين خرج من الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا سأله أحد: مَنْ هذا بين يديك؟ يقول: هادٍ يهديني. (991) وكانت امرأة ابن رواحة قد رأته مع جارية له، فقالت له: وعلى فراشي أيضا؟! فجحد، فقالت له: فاقرأ القرآن، فقال: وفينا رَسُولُ الله يَتْلُو كتابَه ... إِذا انشقَّ مشهورٌ مِنَ الصُّبْح طالِع يَبِيتُ يُجَافي جنْبَهُ عن فِراشه ... إِذا استثقلتْ بالكافرين المَضاجعُ فقالت: آمنتُ بالله وكذبت بصري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره، فضحك وأعجبه ما صنع. وعرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري: كيف لبنها؟ قال: احلبْ في أيِّ إِناءٍ شئتَ، قال: كيف الوِطاء؟ قال: افرش ونم، قال: كيف نجاؤها «1» ؟ قال: إِذا رأيتَها في الإِبل عرفتَ مكانها، علّق سوطك وسر، قال: كيف قوّتها؟ قال: احمل على الحائط ما شئت فاشتراها فلم يَرَ شيئاً مما وصف، فرجع إِليه، فقال: لم أرَ فيها شيئاً مما وصفتَها به، قال: ما كذبتك، قال: أَقِلْني، قال: نعم. وخرج شريح من عند زياد وهو مريض، فقيل له: كيف وجدت الأمير؟ قال: تركتُه يأمر ويَنهى، فقيل له: ما معنى يأمر وينهى؟ قال: يأمر بالوصية، وينهى عن النّوح. وأخذ محمد بن يوسف حجرا المداريّ فقال: العن علياً، فقال: إِن الأمير أمرني أن ألعن علياً محمد بن يوسف، فالعنوه، لعنه الله. وأمر بعض الأمراء صعصعة بن صوحان بلعن عليّ، فقال: لعن اللهُ من لعن اللهُ ولعن عليٌّ، ثم قال: إِن هذا الأمير قد أبى إِلا أن ألعن علياً، فالعنوه، لعنه الله. وامتحنت الخوارج رجلاً من الشيعة، فجعل يقول: أنا مِنْ عليّ ومِنْ عثمان بريء. وخطب رجل امرأةً وتحته أخرى، فقالوا: لا نزوِّجك حتى تطلِّق امرأتك! فقال: اشهدوا أني قد طلقت ثلاثاً، فزوَّجوه، فأقام مع المرأة الأولى، فادَّعوا أنه قد طلّق، فقال: أما تعلمون أنه كان تحتي فلانة فطلَّقتُها، ثم فلانة فطلَّقتُها. ثم فلانة فطلَّقتُها؟ قالوا: بلى، قال: فقد طلَّقتُ ثلاثاً «2» . وحكي أن رجلاً عثر به الطائف ليلة، فقال له: من أنت؟ فقال:

_ ضعيف. أخرجه البيهقي في «الدلائل» 2/ 489 من طريق أبي معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة به مرفوعا، وهو طرف حديث. وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر، واسمه نجيح السندي. لم أره مسندا بهذا اللفظ.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 64 إلى 67]

أنا ابنُ الذي لا يُنْزَل الدهرَ قِدرُه ... وإِن نزلتْ يوماً فسَوف تعود ترى الناسَ أفواجاً إِلى ضوءِ ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود فظنّ الطّائف أنه ابن بعض أشراف البصرة، فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو ابن باقلّائي. ومثل هذا كثير. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 64 الى 67] فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قوله تعالى: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فيه قولان: أحدهما: رجع بعضهم إِلى بعض. والثاني: رجع كلٌّ منهم إِلى نفسه متفكِّراً. قوله تعالى: فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ فيه خمسة أقوال: أحدها: حين عبدتم من لا يتكلم، قاله ابن عباس. والثاني: حين تتركون آلهتكم وحدها، وتذهبون، قاله وهب بن منبه. والثالث: في عبادة هذه الأصاغر مع هذا الكبير، روي عن وهب أيضاً. والرابع: لإِبراهيم حين اتهمتموه والفأس في يد كبير الأصنام، قاله ابن إِسحاق، ومقاتل. والخامس: أنتم ظالمون لإِبراهيم حين سألتموه، وهذه أصنامكم حاضرة، فاسألوها، ذكره ابن جرير. قوله تعالى: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة: «نُكِّسوا» برفع النون وكسر الكاف مشددة. وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: «نَكَسوا» بفتح النون والكاف مخفَّفة. قال أبو عبيدة: «نُكِسوا» : قُلِبوا، تقول: نكستُ فلاناً على رأسه إِذا قهرته وعلوته. ثم في المراد بهذا الانقلاب ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أدركتْهم حيرةٌ، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، قاله قتادة. والثاني: رجعوا إِلى أول ما كانوا يعرفونها به من أنها لا تنطق، قاله ابن قتيبة. والثالث: انقلبوا على إبراهيم يحتجّون عليه بعد أن أقرّوا به ولاموا أنفسهم في تهمته، قاله أبو سليمان. وفي قوله: لَقَدْ عَلِمْتَ إِضمار «قالوا» ، وفي هذا إِقرار منهم بعجز ما يعبدونه عن النُّطق، فحينئذ توجهت لإِبراهيم الحُجَّة، فقال موبّخاً لهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ أي: لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئاً وَلا يَضُرُّكُمْ إِذا لم تعبدوه، وفي هذا حثٌّ لهم على عبادة من يملك النفع والضُّر، أُفٍّ لَكُمْ قال الزجاج: معناه: النتن لكم فلمّا لزمتهم الحجة غضبوا، فقالوا: حَرِّقُوهُ. وذُكر في التفسير أن نمرود استشارهم، بأيِّ عذاب أعذِّبه، فقال رجل: حرِّقوه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

_ (1) قال الطبري رحمه الله 9/ 41: وقال بعض أهل العربية: معنى ذلك: ثم رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. وإنما اخترنا القول الذي قلنا في معنى ذلك، لأن نكس الشيء على رأسه: قلبه على رأسه، وتصير أعلاه أسفله، ومعلوم أن القوم لم يقلبوا على رؤوسهم، وأنهم إنما نكست حجتهم، فأقيم الخبر عنهم، مقام الخبر عن حجتهم. فنكس الحجة لا شك، إنما هو احتجاج المحتجّ على خصمه بما هو حجة لخصمه.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 68 إلى 73]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 68 الى 73] قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) قوله تعالى: وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ أي: بتحريقه، لأنه يَعيبها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي: ناصريها. الإِشارة إِلى القصة ذكر أهل التفسير أنهم حبسوا إِبراهيم عليه السلام في بيت ثم بنَوا له حَيْراً طول جداره ستون ذراعاً إِلى سفح جبل منيف، ونادى منادي الملك: أيها الناس احتطبوا لإِبراهيم، ولا يتخلفنَّ عن ذلك صغير ولا كبير، فمن تخلَّف أُلقي في تلك النار، ففعلوا ذلك أربعين ليلة، حتى إِن كانت المرأة لتقول: إِن ظفرتُ بكذا لأحتطبنّ لنار إبراهيم، حتى إذا كاد الحطب يساوي رأس الجدار سدوا أبواب الحَيْر وقذفوا فيه النار، فارتفع لهبا، حتى إن الطائر ليمرُّ بها فيحترق من شدة حرِّها، ثم بنَوا بنياناً شامخاً، وبنَوا فوقه منجنيقاً، ثم رفعوا إِبراهيم على رأس البنيان، فرفع إِبراهيم رأسه إِلى السماء، فقال: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربَّنا إِبراهيمُ يُحرَق فيكَ، فائذن لنا في نصرته فقال: أنا أعلمُ به، وإِن دعاكم فأغيثوه فقذفوه في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وقيل: ست وعشرين، فقال: «حسبي الله ونعم الوكيل» . فاستقبله جبريل، فقال: يا إِبراهيم ألكَ حاجة؟ قال: أمّا إِليك، فلا، قال جبريل: فسل ربَّك، فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» «1» ، فقال الله عزّ وجلّ: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، فلم تبق نار على وجه الأرض يومئذ إِلا طُفئت وظنَّت أنها عُنيت. وزعم السدي أن جبريل هو الذي ناداها. وقال ابن عباس: لو لم يُتبع بردها سلاماً لمات إِبراهيم من بردها، قال السدي: فأخذت الملائكة بضَبْعَي «2» إِبراهيم فأجلسوه على الأرض، فإذا عين من ماءٍ عذْب، وورد أحمر، ونرجس، قال كعب ووهب: فما أحرقت النار من إِبراهيم إِلا وَثاقه، وأقام في ذلك الموضع سبعة أيام، وقال غيرهما: أربعين أو خمسين يوماً، فنزل جبريل بقميص من الجنة وطنفسة «3» من الجنة، فألبسه القميص، وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه. وإِن آزر أتى نمرود فقال: أئذن لي أن أُخرِج عظام إِبراهيم فأدفنها، فانطلق نمرود ومعه الناس، فأمر بالحائط فنُقب، فإذا إبراهيم في روضة يهتزّ وثيابه تندى، وعليه القميص وتحته الطنفسة والملَك إِلى جنبه، فناداه نمرود: يا إِبراهيم إِن إلهك الذي بلغتْ قُدرته هذا لكبيرٌ، هل تستطيع أن تخرج؟ قال: نعم، فقام إِبراهيم يمشي حتى خرج، فقال: مَن الذي رأيتُ معك؟ قال: ملَك أرسله إِليَّ ربِّي ليؤنسني، فقال نمرود: إِني مقرِّب لإِلهك قرباناً لِما رأيت من

_ (1) هذا من الإسرائيليات، وهو معارض بكتاب الله فإن الله أمر عباده أن يسألوه في السراء والضراء. [.....] (2) في «اللسان» : الضّبع: وسط العضد بلحمه يكون للإنسان وغيره. (3) في «اللسان» الطّنفسة: النّمرقة فوق الرجل، وقيل: البساط الذي له خمل رقيق.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 إلى 75]

قدرته، فقال: إِذن لا يقبل الله منكَ ما كنتَ على دينك، فقال: يا إِبراهيم، لا أستطيع ترك ملكي، ولكن سوف أذبح له، فذبح القربان وكفَّ عن إِبراهيم. قال المفسرون: ومعنى: «كُوني بَرْداً» أى: ذات برد، «وسلاماً» أي: سلامة. وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً وهو التحريق بالنار فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وهو أن الله تعالى سلَّط البعوض عليهم حتى أكل لحومهم وشرب دماءهم، ودخلت واحدة في دماغ نمرود حتى أهلكته، والمعنى: أنهم كادوه بسوء. فانقلب السوء عليهم. قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ أي: من نمرود وكيده وَلُوطاً وهو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وكان قد آمن به، فهاجرا من أرض العراق إِلى الشام. وكانت سارة مع ابراهيم في قول وهب. وقال السدي: إِنما هي إبنة ملك حرَّان، لقيها إِبراهيم فتزوجها على أن لا يغيرها، وكانت قد طعنت على قومها في دينهم. فأما قوله تعالى: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها، ففيها قولان: أحدهما: أنها أرض الشام، وهذا قول الأكثرين. وبَرَكتها: أنّ الله تعالى بعث أكثر الأنبياء منها، وأكثر فيها الخصب والثمار والأنهار. والثاني: أنها مكة، رواه العوفي عن ابن عباس. والأول أصح. قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ يعني: إِبراهيم إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً. وفي معنى النافلة قولان: أحدهما: أنها بمعنى الزيادة، والمراد بها: يعقوب خاصة، فكأنه سأل واحداً، فأُعطي اثنين، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والفراء. والثاني: أن النافلة بمعنى العطية، والمراد بها: إِسحاق ويعقوب، وهذا مذهب مجاهد، وعطاء. قوله تعالى: وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ يعني: إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب، قال أبو عبيدة: «كُلٌّ» يقع خبره على لفظ الواحد، لأن لفظه لفظ الواحد، ويقع خبره على لفظ الجميع، لأن معناه معنى الجميع. قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً أي: رؤوساً يُقتدى بهم في الخير يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي: يَدْعون الناس إِلى ديننا بأمرنا إِيَّاهم بذلك وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ قال ابن عباس: شرائع النبوَّة. وقال مقاتل: الأعمال الصالحة، وَإِقامَ الصَّلاةِ قال الزجاج: حذفُ الهاء من إِقامة الصلاة قليلٌ في اللغة، تقول: أقام إِقامة، والحذف جائز، لأنّ الإضافة عوض من الهاء. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 75] وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) قوله تعالى: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً قال الزجاج: انتصب «لوط» بفعل مضمر، لأن قبله فعلاً، فالمعنى: وأوحينا إِليهم وآتينا لوطاً. وذكر بعض النحويين أنه منصوب على «واذكر لوطاً» ، وهذا جائز لأن ذِكْر إِبراهيم قد جرى، فحُمل لوط على معنى: واذكر. قال المفسرون: لمَّا هاجر لوط مع إِبراهيم، نزل إِبراهيم أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة أو نحو ذلك من إِبراهيم، فبعثه الله نبيّاً. فأما «الحُكم» ففيه قولان: أحدهما: أنه النبوَّة، قاله ابن عباس. والثاني: الفهم والعقل، قاله مقاتل، وقد ذكرنا فيه أقوالاً في سورة يوسف «1» . وأمّا «القرية» ها هنا، فهي سدوم، والمراد أهلها،

_ (1) سورة يوسف: 22.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 إلى 77]

والخبائث: أفعالهم المنكَرة، فمنها إِتيان الذكور، وقطع السبيل، إِلى غير ذلك مما قد ذكره الله عزّ وجلّ عنهم في مواضع «1» . قوله تعالى: وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي: بانجائه من بينهم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77] وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) قوله تعالى: وَنُوحاً المعنى: واذكر نوحاً، وكذلك ما يأتيك من ذِكْر الأنبياء إِذْ نادى أي: دعا على قومه مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قبل إِبراهيمَ ولوطٍ. فأما الكرب العظيم! فقال ابن عباس: هو الغرق وتكذيب قومه. قوله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ أي: منعناه منهم أن يصلوا إِليه بسوءٍ، وقيل: «من» بمعنى «على» . [سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) قوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ وفيه قولان: أحدهما: أنه كان عنباً، قاله ابن مسعود، ومسروق، وشريح. والثاني: كان زرعاً، قاله قتادة. إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ قال ابن قتيبة: أي: رَعَتْ ليلاً، يقال: نَفَشَت الغنمُ بالليل، وهي إِبل نَفَشٌ ونُفَّاشٌ ونِفَاشٌ، والواحد: نَافِشٌ، وَسَرَحَتْ وسَرَبَتْ بالنهار. قال قتادة: النَّفَش بالليل، والهَمَل بالنهار. وقال ابن السكِّيت: النَّفَش: أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راعٍ. الإِشارة إِلى القصة ذكر أهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فتفلَّتت الغنم فوقعت في الحرث فلم تُبق منه شيئاً، فاختصما إِلى داود، فقال لصاحب الحرث: لك رقاب الغنم، فقال سليمان: أوَ غير ذلك؟ قال: ما هو؟ قال: ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها، ويُقبل أصحاب الغَنَم على الكَرْم، حتى إِذا كان كليلة نفشت فيه الغَنَم، دفع هؤلاء إِلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إِلى هؤلاء كَرْمهم، فقال داود: قد أصبتَ القضاءَ، ثم حكم بذلك، فذلك قوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: داود وسليمان، فذكرهما بلفظ الجمع، لأن الاثنين جمع، هذا قول الفراء. والثاني: أنهم داود وسليمان والخصوم، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن أبي عبلة: «وكنا لحكمهما» على التثنية. ومعنى «شاهدِين» : أنه لم يَغِب عنّا من أمرهم شيء. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ يعني: القضيّة والحكومة.

_ (1) في سورة هود: 78، والحجر: 69.

فصل:

وإِنما كنى عنها، لأنه قد سبق ما يدل عليها من ذِكْر الحُكم، وَكُلًّا منهما آتَيْنا حُكْماً وقد سبق بيانه. قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه، وعَذَر داود باجتهاده. فصل: قال أبو سليمان الدمشقي: كان قضاء داود وسليمان جميعاً من طريق الاجتهاد، ولم يكن نصّاً، إِذ لو كان نصاً ما اختلفا. قال القاضي أبو يعلى: وقد اختلف الناس في الغنم إِذا نفشت ليلاً في زرع رجل فأفسدتْه، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان «1» ، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ضمان عليه ليلاً ونهاراً، إِلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها، فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا، لأن داود حكم بالضمان، وشرع مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لنا ما لم يَثْبُت نَسْخُه. فإن قيل: فقد ثبت نسخ هذا الحكم، لأن داود حكم بدفع الغَنَم إِلى صاحب الحرث، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشتْ غنمه في حرث رجل شيءٌ من ذلك قيل: الآية تضمنت أحكاماً، منها وجوب الضمان وكيفيته، فالنسخ حصل على كيفيَّته، ولم يحصل على أصله، فوجب التعلُّق به. (992) وقد روى حرام بن محيِّصة عن أبيه: أن ناقةً للبراء دخلت حائط رجل فأفسدتْ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.

_ صحيح. أخرجه أحمد 5/ 436 وابن أبي شيبة 9/ 435- 436 وابن الجارود 796 والبيهقي 8/ 342 من طريق ابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب وحرام بن محيصة به. وأخرجه مالك 2/ 747 والشافعي 2/ 107 والطحاوي 3/ 203 والدارقطني 3/ 156 وابن ماجة 2332 كلهم عن الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة به. وهو مرسل صحيح. وأخرجه الشافعي 2/ 107 وأحمد 4/ 295 وأبو داود 3570 والطحاوي 3/ 203 والحاكم 2/ 47 والدارقطني 3/ 155 والبيهقي 8/ 341 من طرق عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء، وفيه إرسال لكن يشهد لمرسل ابن المسيب المتقدم، ويرقى به إلى درجة الحسن. وورد موصولا، أخرجه عبد الرزاق 18437 وأحمد 5/ 436 وأبو داود 3569 والدارقطني 3/ 154 والبيهقي 8/ 342 كلهم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه به. ورجاله ثقات، لكن أعله ابن عبد البر كما نقل ابن التركماني في «الجوهر النقي» 8/ 342 بأنه أنكر على عبد الرزاق ذكره- عن أبيه- ونقل ابن عبد البر عن أبي داود قوله: لم يتابع عبد الرزاق على قوله: عن أبيه. والصحيح أنه توبع، فقد أخرجه الدارقطني 3/ 155 من طريق الشافعي عن أيوب بن سويد عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام عن أبيه. الخلاصة: ورد موصولا ومرسلا، ومرسل ابن المسيب وحده يحتج به الأئمة الأربعة. كيف وقد توبع، تابعه حرام بن محيصة، وورد أيضا موصولا، فهو صحيح إن شاء الله تعالى، وقد صححه ابن العربي. - وانظر ما ذكره الشيخ شعيب في «الإحسان» 13/ 354- 357. وانظر «أحكام القرآن» 1497 بتخريجنا.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 إلى 86]

قوله تعالى: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ تقدير الكلام: وسخَّرْنا الجبال يسبِّحن مع داود. قال أبو هريرة: كان إِذا سبَّح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذِّكْر، وقال غيره: كان إِذا وجد فترةً، أمر الجبال فسبَّحت حتى يشتاق هو فيسبِّح. قوله تعالى: وَكُنَّا فاعِلِينَ أي: لذلك. قال الزجاج: المعنى: وكنّا نقدر على ما نريده. قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ في المراد باللَّبوس قولان: أحدهما: الدُّروع، وكانت قبل ذلك صفائح، وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد، قاله قتادة. والثاني: أن اللَّبوس: السلاح كلُّه من درع إِلى رمح، قاله أبو عبيدة. وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «لُبوس» بضم اللام. قوله تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «لِيُحْصِنَكُمْ» بالياء. وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: «لِتُحْصِنَكُمْ» بالتاء. وروى أبو بكر عن عاصم: «لِنُحْصِنَكُمْ» بالنون خفيفة. وقرأ أبو الدرداء، وأبو عمران الجوني، وأبو حيوة: «لِتُحَصِّنَكُمْ» بتاء مرفوعة وفتح الحاء وتشديد الصاد. وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس: «لِتَحَصُّنِكُمْ» بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو المتوكل، ومجاهد: «لِنُحَصِّنَكُمْ» بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها. وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وابن يعمر، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «لِيُحْصِنَّكُمْ» بياء مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون. فمن قرأ بالياء، ففيه أربعة أوجه: قال أبو علي الفارسي: أن يكون الفاعل اسم الله، لتقدُّم معناه ويجوز أن يكون اللباس، لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضرباً منه، ويجوز أن يكون داود، ويجوز أن يكون التعليم، وقد دل عليه «علَّمْناه» . ومن قرأ بالتاء، حمله على المعنى، لأنه الدرع. ومن قرأ بالنون، فلتقدمُّ قوله: «وعلَّمناه» . ومعنى لِتُحْصِنَكُمْ: لِتُحْرِزَكم وتمنعكم (مِنْ بأسكم) يعني: الحرب. قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران الجوني، وأبو حيوة الحضرمي: «الرِّياحُ» بألف مع رفع الحاء. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: بالألف ونصب الحاء، والمعنى: وسخَّرْنا لسليمان الريح عاصِفَةً أي: شديدة الهبوب تَجْرِي بِأَمْرِهِ يعني: بأمر سليمان إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي أرض الشام، وقد مَرَّ بيان بركتها في هذه السّورة «1» والمعنى: أنها كانت تسير به إِلى حيث شاء، ثم تعود به إِلى منزله بالشام. قوله تعالى: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ علمنا أن ما نُعطي سليمان يدعوه إِلى الخضوع لربِّه. قوله تعالى: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ قال أبو عبيدة: «مَنْ» تقع على الواحد والاثنين والجميع من المذكَّر والمؤنَّث. قال المفسرون: كانوا يغوصون في البحر، فيستخرجون الجواهر، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ قال الزجاج: معناه: سوى ذلك: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يُفسدوا ما عملوا. وقال غيره: أن يخرجوا عن أمره. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 86] وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)

_ (1) سورة الأنبياء: 72.

الإشارة إلى قصته

قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أي: دعا ربَّه أَنِّي وقرأ أبو عمران الجوني: «إِني» بكسر الهمزة، مَسَّنِيَ الضُّرُّ وقرأ حمزة: «مَسَّنِيْ» بتسكين الياء، أي: أصابني الجَهْد، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي: أكثرهم رحمة، وهذا تعريض منه بسؤال الرحمة إِذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت. الإِشارة إِلى قصته ذكر أهل التفسير «1» أن أيوب عليه السلام كان أغنى أهل زمانه، وكان كثير الإِحسان. فقال إِبليس: يا رب سلِّطني على ماله وولده- وكان له ثلاثة عشر ولداً- فإن فعلتَ رأيتَه كيف يُطيعني ويَعصيكَ، فقيل له: قد سلَّطْتُكَ على ماله وولده، فرجع إِبليس فجمع شياطينه ومردته، فبعث بعضهم إِلى دوابِّه ورعاته، فاحتملوها حتى قذفوها في البحر، وجاء إِبليس في صورة قيِّمه، فقال: يا أيوب ألا أراك تصلِّي وقد أقبلتْ ريح عاصف فاحتملت دوابَّك ورعاتها حتى قذفَتْها في البحر؟ فلم يردَّ عليه شيئاً حتى فرغ من صلاته، ثم قال: الحمد لله الذي رزقني ثم قبله مِنِّي، فانصرف خائباً، ثم أرسل بعض الشياطين إِلى جنانه وزروعه، فأحرقوها، وجاء فأخبره، فقال مثل ذلك، فأرسل بعض الشياطين فزلزلوا منازل أيوب وفيها ولده وخدمه، فأهلكوهم، وجاء فأخبره، فحمد الله، وقال لإِبليس وهو يظنه قيِّمه في ماله: لو كان فيكَ خير لقبضكَ معهم، فانصرف خائباً، فقيل له: كيف رأيتَ عبدي أيوب؟ قال: يا ربِّ سلِّطني على جسده فسوف ترى، قيل له قد سلَّطْتُكَ على جسده فجاء فنفخ في إِبهام قدميه، فاشتعل فيه مثل النار، ولم يكن في زمانه أكثر بكاءً منه خوفاً من الله تعالى، فلما نزل به البلاء لم يبكِ مخافة الجزع، وبقي لسانُه للذِّكر، وقلبه للمعرفة والشُّكر، وكان يرى أمعاءه وعروقه وعظامه، وكان مرضه أنه خرج في جميع جسده ثآليل كأليات الغنم ووقعت به حكّة لا يملكها، فحكَّ بأظفاره حتى سقطت، ثم بالمسوح، ثم بالحجارة، فأنتن جسمه وتقطَّع، وأخرجه أهل القرية فجعلوا له عريشاً على كُناسة، ورفضه الخلق سوى زوجته، واسمها رحمة بنت إِفراييم بن يوسف بن يعقوب، فكانت تختلف إِليه بما يصلحه. وروى أبو بكر القرشي عن الليث بن سعد، قال: كان ملك يظلم الناس، فكلَّمه في ذلك جماعة من الأنبياء، وسكت عنه أيوب لأجل خيل كانت له في سلطانه، فأوحى الله إِليه: تركتَ كلامَه من أجل خيلك؟! لأطيلنَّ بلاءك. واختلفوا في مدة لبثه في البلاء على أربعة أقوال: (993) أحدها: ثماني عشرة سنة، رواه أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم.

_ غريب. أخرجه البزار 2357 «كشف» وأبو يعلى 3617 وابن حبان 2898 والحاكم 2/ 581 والطبراني «الطوال» 40 وأبو نعيم 3/ 374- 375 من حديث أنس، ورجاله رجال البخاري ومسلم، وقال الحاكم على شرطهما!، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي 13800: رجال البزار رجال الصحيح اه. وقال أبو نعيم: غريب من حديث الزهري لم يروه إلا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم. ومع ذلك استغربه ابن كثير في «تفسيره» 3/ 239. وانظر «البداية والنهاية» 1/ 222- 223 و «الإحسان» 2898. وانظر «تفسير الشوكاني» 1636 بتخريجنا، والراجح وقفه، والله أعلم.

والثاني: سبع سنين، قاله ابن عباس، وكعب، ويحيى بن أبي كثير. والثالث: سبع سنين وأشهر، قاله الحسن. والرابع: ثلاث سنين، قاله وهب. وفي سبب سؤاله العافية ستة أقوال: أحدها: أنه اشتهى إِداماً، فلم تُصبه امرأته حتى باعت قرونا من شعرها، فلما علم ذلك قال: «مسَّني الضُّر» ، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أن الله تعالى أنساه الدعاء مع كثرة ذكره الله، فلما انتهى أجل البلاء، يسّر الله له الدعاء، فاستجاب له، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن نفراً من بني إِسرائيل مرُّوا به، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه هذا إِلا بذنْب عظيم، فعند ذلك قال: «مسّني الضّر» ، قاله نوف البكاليّ. فقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان له أخوان، فأتياه يوماً فوجدا ريحاً «1» ، فقالا: لو كان الله علم منه خيراً ما بلغ به كلّ هذا، فما سمع شيئاً أشدَّ عليه من ذلك، فقال: اللهم إِن كنتَ تعلم أنِّي لم أَبِت ليلةً شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدِّقني، فصُدِّق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إِن كنتَ تعلم أنِّي لم ألبس قميصاً وأنا أعلم مكان عارٍ فصدِّقني، فصُدِّق وهما يسمعان، فخرَّ ساجداً، ثم قال: اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي، فكشف الله عزّ وجلّ ما به. والرابع: أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة، فقال: ليذبح أيوب هذه لي وقد برأ، فجاءت فأخبرته، فقال: لئن شفاني الله لأجلدنَّك مائة جلدة، أمرتني أن أذبح لغير الله؟! ثم طردها عنه، فذهبتْ، فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا صديق، خرَّ ساجداً وقال: «مسَّني الضُّر» ، قاله الحسن. والخامس: أن الله تعالى أوحى إِليه وهو في عنفوان شبابه: إِني مبتليك، قال: يا رب، وأين يكون قلبي؟ قال: عندي، فصبَّ عليه من البلاء ما سمعتم، حتى إِذا بلغ البلاء منتهاه، أوحى إِليه أني معافيكَ، قال: يا رب، وأين يكون قلبي؟ قال: عندك، قال: «مسَّني الضُّر» ، قاله إِبراهيم بن شيبان القرميسي فيما حدّثنا به عنه. والسادس: أن الوحي انقطع عنه أربعين يوماً، فخاف هجران ربِّه، فقال: «مسَّني الضُّر» ، ذكره الماوردي. فإن قيل: أين الصبر، وهذا لفظ الشكوى؟ فالجواب: أن الشكوى إِلى الله لا تنافي الصبر، وإِنما المذموم الشكوى إلى الخلق، ألم تسمع قول يعقوب: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ «2» . قال سفيان بن عيينة: وكذلك من شكا إِلى الناس، وهو في شكواه راضٍ بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعاً، ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم لجبريل في مرضه: (994) «أجدني مغموماً» و «أجدني مكروبا» .

_ ضعيف. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 2/ 198- 199 والبيهقي في «الدلائل» 7/ 267- 268 من طريقين عن جعفر بن محمد عن أبيه، وفي إسناد ابن سعد من لم يسمّ، وهو مرسل. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 7/ 210- 211 من طريق الحسن بن علي عن محمد بن علي مرسلا. وأخرجه الطبراني في «الكبير» 2890 من طريق علي بن الحسن عن أبيه. وذكره الهيثمي في «المجمع» 9/ 34 ح 14261 وقال: وفيه عبد الله بن ميمون القداح، وهو ذاهب الحديث.

(995) وقوله: «بل أنا وا رأساه» . قوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ يعني: أولاده وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن الله تعالى أحيا له أهله بأعيانهم، وآتاه مثلهم معهم في الدنيا، قاله ابن مسعود، والحسن، وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: كانت امرأته ولدت له سبعة بنين وسبع بنات، فنُشِروا له، وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات. والثاني: أنهم كانوا قد غُيِّبوا عنه ولم يموتوا، فآتاه إِياهم في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة، رواه هشام عن الحسن. والثالث: آتاه الله أجور أهله في الآخرة، وآتاه مثلهم في الدنيا، قاله نوف، ومجاهد. والرابع: آتاه أهله ومثلهم معهم في الآخرة، حكاه الزجاج. قوله تعالى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي: فعلنا ذلك به رحمةً مِنْ عندنا، وَذِكْرى أي: عِظةً لِلْعابِدِينَ قال محمد بن كعب: من أصابه بلاء فليذكر ما أصاب أيوب، فليقل: إِنه قد أصاب من هو خيرٌ مني. قوله تعالى: وَذَا الْكِفْلِ اختلفوا هل كان نبيّاً، أم لا؟ على قولين «1» : أحدهما: أنه لم يكن نبيّاً، ولكنه كان عبداً صالحاً، قاله أبو موسى الأشعري، ومجاهد. ثم اختلف أرباب هذا القول في علَّه تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال: أحدها: أن رجلاً كان يصلِّي كلَّ يوم مائة صلاة فتوفي، فكفل بصلاته، فسمِّي: ذا الكفل، قاله أبو موسى الأشعري. والثاني: أنه تكفل للنبيّ بقومه أن يكفيه أمرهم ويقيمه ويقضي بينهم بالعدل ففعل، فسمِّي: ذا الكفل، قاله مجاهد. والثالث: أن ملِكاً قَتل في يوم ثلاثمائة نبيٍّ، وفرَّ منه مائة نبيٍّ، فكفلهم ذو الكفل يطعمهم ويسقيهم حتى أُفلتوا، فسمِّي ذا الكفل، قاله ابن السائب. والقول الثاني: أنه كان نبيّاً، قاله الحسن، وعطاء. قال عطاء: أوحى الله تعالى إِلى نبيّ من الأنبياء: إِني أُريد قبض روحك، فاعرض مُلكك على بني إِسرائيل، فمن تكفَّل لك بأنه يصلِّي الليل

_ صحيح. أخرجه البخاري 5666 والبيهقي في «الدلائل» 7/ 168 من حديث عائشة. وأخرجه ابن ماجة 1465 وأحمد 6/ 228 وعبد الرزاق 9754 وابن حبان 6586 والبيهقي 3/ 396 وفي «الدلائل» 7/ 168 من وجه آخر من حديث عائشة أيضا. وقال البوصيري في «الزوائد» إسناده رجال ثقات. وتمامه في البخاري: قال القاسم بن محمد: قالت عائشة وا رأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك» فقالت عائشة: وا ثكلاه والله إني لأظنك تحبّ موتي ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرّسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنا وا رأساه لقد هممت- أو أردت- أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون، أو يتمنّى المتمنّون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون- أو يدفع الله ويأبى المؤمنون-» .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 إلى 88]

لا يفتر، ويصوم النهار لا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب، فادفع مُلككَ إِليه، ففعل ذلك، فقام شابّ فقال: أنا أتكفَّل لك بهذا، فتكفَّل به، فوفى، فشكر اللهُ له ذلك، ونبَّأه، وسمِّي: ذا الكفل. (996) وقد ذكر الثعلبي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الكفل: «أنه كان رجلاً لا ينزع عن ذنب، وأنه خلا بامرأة ليفجر بها، فبكت، وقالت: ما فعلتُ هذا قطّ، فقام عنها تائباً، ومات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: قد غفر الله للكفل» والحديث معروف، وقد ذكرتُه في «الحدائق» ، فجعله الثعلبي أحد الوجوه في بيان ذي الكفل، وهذا غلط، لأن ذلك اسمه الكفل، والمذكور في القرآن: ذو الكفل، ولأن الكفل مات في ليلته التي تاب فيها، فلم يمض عليه زمان طويل يعالج فيه الصبر عن الخطايا، وإِذا قلنا: إِنه نبيّ، فإن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الحال. وذكرت هذا لشيخنا أبي الفضل بن ناصر، فوافقني، وقال: ليس هذا بذاك. قوله تعالى: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي: على طاعة الله وترك معصيته، وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا في هذه الرّحمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الجنة، وقاله ابن عباس. والثاني: النبوَّة، قاله مقاتل. والثالث: النّعمة والموالاة، حكاه أبو سليمان الدّمشقي. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88] وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) قوله تعالى: وَذَا النُّونِ يعني: يونس بن متّى. والنون: السمكة أُضيف إِليها لابتلاعها إِياه. قوله تعالى: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً قال ابن قتيبة: المُغاضَبة: مُفاعَلة، وأكثر المفاعَلة من اثنين، كالمناظرة

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 2496 وأحمد 2/ 23 والحاكم 4/ 254 ح 7651 من حديث ابن عمر. صححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وكذا صححه أحمد شاكر في «المسند» ! مع أن مداره على سعد مولى طلحة، وهو مجهول كما في «التقريب» . وأخرجه ابن حبان 387 عن عبد الله الرازي عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، وهذا إسناد ظاهره الحسن، لكنه معلول. وقال الترمذي عقب روايته: حديث حسن، ورواه غير واحد عن الأعمش فرفعوه. ورواه بعضهم فلم يرفعه، ورواه أبو بكر بن عياش فأخطأ فيه، فقال: عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، وهو غير محفوظ اه. وهو كما قال الترمذي رحمه الله. وهذا الحديث إنما يعرف بسعد مولى طلحة، وهو مجهول. وهناك علة أخرى، وهي الاضطراب في المتن. ففي «مسند أحمد» و «سنن الترمذي» و «المستدرك» ، «كان الكفل» ، وعند ابن حبان «كان ذو الكفل» وعند ابن حبان «سمعته أكثر من عشرين مرة» وعند غيره «سبع مرات» وهذه الرواية تدل على وهنه. فلو كرره النبي صلى الله عليه وسلّم عشرين مرة أو سبع مرات لرواه عدد من الصحابة. ولحمله جماعة من التابعين. كيف ولم يروه سوى رجل مجهول. فالخبر واه، وقد استغربه ابن كثير في «تفسيره» 3/ 241 لكنه ذكر أنه لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة، والصواب أن الترمذي قد رواه كما تقدم. وقال الحافظ ابن كثير في «تاريخه» 1/ 226: غريب جدا. وفي إسناده نظر، فإن سعدا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد. ووثقه ابن حبان ولم يرو عنه سوى عبد الله الرازي اه. وقد ورد نحو هذه القصة في خبر الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار. ومما يدل على وهن هذا الحديث أن الكفل هذا أو «ذا الكفل» مات في الليلة التي تاب فيها، فكيف ذلك والآية وصفت إياه بالصبر؟! فتنبه والله أعلم. وانظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية بتخريجي، وانظر «تفسير الشوكاني» 1637 بتخريجنا. والله الموفق.

والمجادَلة والمخاصَمة، وربما تكون من واحد، كقولك: سافرت، وشارفت الأمر، وهي ها هنا من هذا الباب. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «مُغْضَباً» باسكان الغين وفتح الضاد من غير ألف. واختلفوا في مغاضبته لمن كانت؟ على قولين «1» : أحدهما: أنه غضب على قومه، قاله ابن عباس، والضحاك. وفي سبب غضبه عليهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله تعالى أوحى إِلى نبي يقال له: شعيا: أن ائت فلاناً الملك، فقل له يبعث نبيّاً أميناً إِلى بني إِسرائيل، وكان قد غزا بني إِسرائيل ملك، وسبا منهم الكثير، فأراد النبي والملك أن يبعثا يونس إِلى ذلك الملك ليكلِّمه حتى يرسلَهم، فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله باخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سماني لك؟ قال: لا، قال: فهاهنا غيري من الأنبياء، فألَحُّوا عليه، فخرج مغاضباً للنبيّ والملك ولقومه، هذا مروي عن ابن عباس وقد زدناه شرحا في سورة يونس «2» . والثاني: أنه عانى من قومه أمراً صعباً من الأذى والتكذيب، فخرج عنهم قبل أن يؤمنوا ضجراً، وما ظنَّ أن هذا الفعل يوجب عليه ما جرى من العقوبة، ذكره ابن الأنباري. وقد روي عن وهب بن منبه، قال: لما حُملت عليه أثقالُ النبوَّة، ضاق بها ذرعاً ولم يصبر، فقذفها من يده وخرج هارباً. والثالث: أنه لمَّا أوعدهم العذاب، فتابوا ورُفع عنهم، قيل له: ارجع إِليهم، فقال: كيف أرجع فيجدوني كاذباً؟ فانصرف مغاضباً لقومه، عاتباً على ربِّه. وقد ذكرنا هذا في سورة يونس. والثاني: أنه خرج مغاضباً لربِّه، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، والشعبي، وعروة، وقال: المعنى: مغاضباً من أجل ربِّه، وإِنما غضب لأجل تمرُّدهم وعصيانهم. وقال ابن قتيبة: كان مَغِيظاً عليهم لطول ما عاناه من تكذيبهم، مشتهيا أن ينزل العذاب لهم فعاقبه الله على كراهيته العفو عن قومه. قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وقرأ يعقوب: «يقدّر عليه» بضم الياء وتشديد الدال وفتحها. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وابن أبي ليلى: «يُقْدَرَ» بياء مرفوعة مع سكون القاف وتخفيف الدال وفتحها. وقرأ أبو عمران الجوني: «يَقْدِرَ» بياء مفتوحة وسكون القاف وكسر الدال خفيفة. وقرأ الزهري، وابن يعمر، وحميد بن قيس: «نُقَدِّرَ» بنون مرفوعة وفتح القاف وكسر الدال وتشديدها. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن لن نقضي عليه بالعقوبة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك. قال الفراء: معنى الآية: فظن أن لن نقدر عليه ما قدرنا من العقوبة، والعرب تقول: قَدَر، بمعنى: قَدَّر، قال أبو صخر: ولا عَائداً ذاكَ الزمانُ الذي مضى ... تباركتَ مَا تَقْدِرْ يَكُنْ ولكَ الشُّكرُ «3» أراد: ما تقدّر، وهذا مذهب الزّجّاج.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 76: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي، قول من قال: عني به: فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيّق عليه عقوبة له على مغاضبة ربه وذلك من قولهم قدرت على فلان: إذا ضيقت عليه، كما قال الله جل ثناؤه وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» 3/ 242. (2) سورة يونس: 98. (3) البيت في «شرح أشعار الهذليين» 2/ 958.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 إلى 94]

والثاني: فظن أن لن نضيِّق عليه، قاله عطاء. قال ابن قتيبة: يقال فلان مُقَدَّر عليه، ومُقَتَّر عليه، ومنه قوله تعالى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ «1» أي ضيَّق عليه فيه. قال النقاش: والمعنى فظن أن يضيقه عليه الخروج، فكأنّه ظنّ أنّ الله تعالى قد وسّع عليه إِن شاء أن يقيم وإِن شاء أن يخرج، ولم يؤذّن له في الخروج. والثالث: أنّ المعنى: أفظنّ أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه، رواه عوف عن الحسن. وقال ابن زيد وسليمان التيمي: المعنى أفظنَّ أن لن نَقْدِر عليه فعلى هذا الوجه يكون استفهاماً قد حُذفت ألفه وهذا الوجه يدل على أنه من القدرة، ولا يتصوّر إِلا مع تقدير الاستفهام، ولا أعلم له وجهاً إِلا أن يكون استفهام إِنكار تقديره: ما ظنّ عجزنا فأين يهرب منا؟! قوله تعالى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ فيها ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل، قاله سعيد بن جبير وقتادة والأكثرون. والثاني: أن حوتاً جاء فابتلع الحوت الذي هو في بطنه فنادى في ظلمة حوت ثم في ظلمة حوت ثم في ظلمة البحر، قاله سالم بن أبي الجعد. والثالث: أنها ظلمة الماء وظلمة مِعى السمكة وظلمة بطنها، قاله ابن السائب. (997) وقد روى سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إِلا فرج الله عنه، كلمة أخي يونس: فنادى في الظلمات أن لا إِله إِلا أنتَ، سُبْحانَكَ إِني كُنْتُ من الظالمين» . قال الحسن: وهذا اعتراف من يونس بذنْبه وتوبة من خطيئته. قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي: أجبناه وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي: من الظلمات وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ إِذا دعونا. وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ: «نُجّي المؤمنين» بنون واحدة مشددة الجيم قال الزجاج: وهذا لَحْنٌ لا وجه له، وقال أبو علي الفارسي: غلط الراوي عن عاصم، ويدل على هذا إِسكانه الياء من «نُجّي» ونصب «المؤمنين» ولو كان على ما لم يُسم فاعله ما سكّن الياء، ولرفع «المؤمنين» . [سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 94] وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94)

_ حسن. أخرجه النسائي في «اليوم والليلة» 660 وابن السني 345 بإسناد ضعيف. وأخرجه الترمذي 3505 والحاكم 1/ 505 من حديث سعد بن أبي وقّاص، من وجه آخر، وإسناده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في صحيح سنن الترمذي، وورد من وجه آخر مطولا وله قصة أخرجه أحمد 1464 وقال الهيثمي 11176: رجاله رجال الصحيح سوى إبراهيم بن محمد، وهو ثقة. فهذه الطرق تتأيد بمجموعها. فالحديث حسن إن شاء الله. وانظر «تفسير الشوكاني» 1638 بتخريجنا.

قوله تعالى: لا تَذَرْنِي فَرْداً أي: وحيداً بلا ولد وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أي: أفضل من بقي حياً بعد ميت. قوله تعالى: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ فيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أُصلحت للولد بعد أن كانت عقيماً، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة. والثاني: أنه كان في لسانها طول، وهو: البذاء، فأُصلحت، قاله عطاء وقال السدي: كانت سليطة فكفَّ عنه لسانها. والثالث: أنه كان خُلُقها سيّئا، قاله محمّد بن كعب. قوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي: يبادرون في طاعة الله. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: زكريا، وامرأته، ويحيى. والثاني: جميع الأنبياء المذكورون في هذه السورة. قوله تعالى: وَيَدْعُونَنا وقرأ ابن مسعود، وابن محيصن: «ويدعونا» بنون واحدة. قوله تعالى: رَغَباً وَرَهَباً أي: رغباً فيما عندنا، ورهباً منا وقرأ الأعمش: «رُغْباً ورُهْباً» بضم الراءين وجزم الغين والهاء، وهما لغتان مثل النُّحْل، والنَحَل، والسُّقْم، والسَّقَم وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي: متواضعين. قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فيه قولان: أحدهما: أنه مخرج الولد، والمعنى منعته مما لا يحل. وإِنما وُصِفَتْ بالعفاف لأنها قُذفت بالزنا. والثاني: أنه جيب درعها. ومعنى الفرج في اللغة: كل فرجة بين شيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق، فهو يسمى فرجاً. وهذا أبلغ في الثناء عليها، لأنها إِذا منعت جيب درعها، فهي لنفسها أمنع. قوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيها أي: أمرنا جبريل، فنفخ في درعها، فأجرينا فيها روح عيسى كما تجري الريح بالنفخ. وأضاف الروح إِليه إِضافة الملك، للتشريف والتخصيص وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً قال الزجاج: لما كان شأنهما واحداً، كانت الآية فيهما آية واحدة، وهي ولادة من غير فحل. وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: «آيتين» على التثنية. قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ قال ابن عباس: المراد بالأمّة ها هنا: الدّين، وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم وهو معنى قول مقاتل. والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله أبو سليمان الدمشقي. ثم ذكر أهل الكتاب، فذمَّهم بالاختلاف، فقال تعالى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي: اختلفوا في الدِّين، فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي: شيئاً من الفرائض وأعمال البِرِّ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي: لا نجحد ما عمل، قاله ابن قتيبة، والمعنى: أنه يقبل منه ويثاب عليه

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 79: والصواب أن يقال: إنّ الله أصلح لزكريا زوجه بأن جعلها ولودا حسنة الخلق، لأن كل ذلك من معاني إصلاحه إياها، ولم يخصص الله جل ثناؤه بذلك في كتابه ولا على لسان رسوله، فهو على العموم. واختار ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 244 الأول وقال: وهو الأظهر من السياق.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 95 إلى 100]

وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ ذلك بأمر الحفظة أن يكتبوه ليجازيه به. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 95 الى 100] وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «وحرام» بألف. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «وحِرْم» بكسر الحاء من غير ألف، وهما لغتان. يقال: حِرْم وحرام. وقرأ معاذ القارئ وأبو المتوكّل وأبو عمران الجوني: «وحرم» بفتح الحاء وسكون الراء من غير ألف والميم مرفوعة منوَّنة. وقرأ سعيد بن جبير: «وحَرْمَ» بفتح الحاء وسكون الراء وفتح الميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف. وقرأ سعيد بن المسيب وأبو مجلز وأبو رجاء: «وحَرُمَ» بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف. وفي معنى قوله تعالى: وَحَرامٌ قولان: أحدهما: واجب، قاله ابن عباس، وأنشدوا في معناه: فَإنَّ حَرَاماً لاَ أَرَى الدَّهْرَ بَاكِياً ... عَلَى شَجْوِه إِلاَّ بَكَيْتُ على عَمْرو «1» أي: واجب. والثاني: أنه بمعنى العزم، قاله سعيد بن جبير. وقال عطاء: حتم من الله، والمراد بالقرية: أهلها. ثم في معنى الآية أربعة أقوال «2» : أحدها: واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: واجب عليها أنها إِذا أُهلكت لا ترجع إِلى دنياها، هذا قول قتادة وقد روي عن ابن عباس نحوه. والثالث: أن «لا» زائدة والمعنى: حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون إِلى الدنيا، قاله ابن جريج، وابن قتيبة في آخرين. والرابع: أن الكلام متعلق بما قبله، لأنه لما قال: «فلا كفران لسعيه» أعلمنا أنه قد حرَّم قبول أعمال الكفار فمعنى الآية: وحرام على قرية أهلكناها أن يُتقبَّل منهم عمل، لأنهم لا يتوبون، هذا قول الزجاج. فإن قيل: كيف يصح أن يحرم على الإِنسان ما ليس من فعله، ورجوعهم بعد الموت ليس إليهم؟

_ (1) البيت لعبد الرحمن بن جمانة المحاربي الجاهلي. كما في «اللسان» - حرم-. ونسب للخنساء في «البحر المحيط» 6/ 314 و «تفسير القرطبي» 11/ 297 ولا يوجد البيت في ديوانها. (2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 11/ 298: قال النحاس: والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجلّه ما رواه عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها قال وجب أنهم لا يرجعون قال لا يتوبون. قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بيّن في اللغة وشرحه: أن معنى حرّم الشيء حظر ومنع منه، كما أن معنى أحل أبيح ولم يمنع منه. وقيل: في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منها عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون، قاله الزجاج وأبو علي، وهذا هو معنى قول ابن عباس.

فالجواب: أنّ المعنى: منعوا من ذلك فلا يقدرون عليه كما يُمنع الإِنسان من الحرام وإِن قدر عليه، فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع. قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وقرأ ابن عامر: «فُتِّحت» بالتشديد، والمعنى: فُتح الردم عنهم وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ قال ابن قتيبة: من كل نشَز من الأرض وأكَمة يَنْسِلُونَ من النَّسَلان: وهو مقاربة الخطو مع الإِسراع كمشي الذئب إِذا بادر، والعَسَلان مثله. وقال الزجاج: الحَدَبُ: كل أَكَمَة، و «يَنْسِلون» يُسرعون. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وعاصم الجحدري: «يَنْسُلون» بضم السين. وفي قوله تعالى: وَهُمْ قولان: أحدهما: أنه إِشارة إِلى يأجوج ومأجوج، قاله الجمهور. والثاني: إِلى جميع الناس، فالمعنى: وهم يُحشَرون إِلى الموقف، قاله مجاهد. والأول أصح. فإن قيل: أين جواب «حتى» ؟ ففيه قولان: أحدهما: أنه قوله تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ والواو في قوله تعالى: «واقترب» زائدة، قاله الفراء. قال: ومثله: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «1» وقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ «2» ، المعنى: ناديناه. وقال عبد الله بن مسعود: الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج، كالحامل المتمّ، لا يدري أهلها متى تفجؤُهم بولدها ليلاً أو نهاراً. والثاني: أنه قول محذوف في قوله: يا وَيْلَنا، فالمعنى: حتى إِذا فُتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد، قالوا: يا ويلنا. قال الزجاج: هذا قول البصريين. فأما الْوَعْدُ الْحَقُّ فهو القيامة. قوله تعالى: فَإِذا هِيَ في «هي» أربعة أقوال: أحدها: أن «هي» كناية عن الأبصار، والأبصار تفسير لها، كقول الشاعر: لعمرو أبيها لا تقول ظعينتي ... ألا فرّ عنّي مَالكُ بن أبِي كَعْبِ فذكر الظعينة، وقد كنى عنها في «لعمرو أبيها» . والثاني: أن «هي» ضمير فصل وعماد، ويصلح في موضعها «هو» ، ومثله قوله: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ «3» وقوله: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ «4» ، وأنشدوا: بثوبٍ وَدينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ ... فهَل هو مرفوع بما ها هنا رأْس ذكرهما الفراء. والثالث: أن يكون تمام الكلام عند قوله: «هي» على معنى: فإذا هي بارزة واقفة، يعني: من قربها، كأنها آتية حاضرة، ثم ابتدأ فقال: شاخِصَةٌ، ذكره الثعلبي. والرابع: أن «هي» كناية عن القصة، والمعنى: القصة أن أبصارهم شاخصة في ذلك اليوم، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. قال المفسرون: تشخص أبصار الكفار من هول يوم القيامة، ويقولون: يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا أي: في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي: عن هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أنفسنا بكفرنا ومعاصينا. ثم خاطب أهل مكة، فقال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام حَصَبُ جَهَنَّمَ وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو العالية، وعمر بن عبد العزيز: «حَطَب» بالطاء. وقرأ ابن عباس، وعائشة وابن

_ (1) سورة الزمر: 73. (2) سورة الصافات: 103 و 104. (3) سورة النمل: 9. (4) سورة الحج: 46.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 إلى 107]

السميفع: «حَضَب» بالضاد المعجمة المفتوحة. وقرأ عروة، وعكرمة، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: «حَضْب جهنم» بإسكان الضاد المعجمة. وقرأ أبو المتوكل، وأبو حيوة، ومعاذ القارئ «حِضْب» بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محصين: «حصب» بفتح الحاء ويصاد غير معجمة ساكنة. قال الزجاج: من قرأ «حصَب جهنم» فمعناه: كلُّ ما يرمى به فيها، ومن قرأ «حطب» فمعناه: ما تُوقَد به، ومن قرأ بالضاد المعجمة، فمعناه: ما تهيج به النار وتُذْكى به، قال ابن قتيبة: الحصَب: ما أُلقي فيها، وأصله من الحَصْباء، وهو الحصى، يقال: حصبتُ فلاناً إِذا رميتَه حَصْباً، بتسكين الصاد، وما رَمَيْتَ به فهو حَصَب، بفتح الصاد. قوله تعالى: أَنْتُمْ يعني: العابدين والمعبودين لَها وارِدُونَ أي: داخلون. لَوْ كانَ هؤُلاءِ يعني: الأصنام آلِهَةً على الحقيقة ما وَرَدُوها فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إِشارة إِلى الأصنام، والمعنى: لو كانوا آلهةً ما دخلوا النار. والثاني: أنه إِشارة إِلى عابديها، فالمعنى: لو كانت الأصنام آلهة، منعت عابديها دخول النار. والثالث: أنه إِشارة إِلى الآلهة وعابديها، بدليل قوله تعالى: وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ يعني: العابد والمعبود. قوله تعالى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ قد شرحنا معنى الزفير في سورة هود «1» وفي علَّة كونهم لا يسمعون ثلاثة أقوال: (998) أحدها: أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار، ثم يُقذَفون في توابيت من نار مقفلة عليهم، رواه أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث طويل. وقال ابن مسعود: إِذا بقي في النار مَنْ يخلَّد فيها جُعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحدهم أن في النار أحداً يعذَّب غيرُه. والثاني: أن السماع أُنْسٌ، والله لا يحب أن يؤنسَهم، قاله عون بن عمارة. والثالث: إِنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنّم، قاله أبو سليمان الدّمشقي. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 107] إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)

_ لم أقف عليه، وهو واه، فالمتن منكر، لا يصح مرفوعا. وورد عن سويد بن غفلة موقوفا، أخرجه البيهقي في «البعث» 592. وورد عن ابن مسعود قوله أيضا، وهو اللفظ الآتي. أخرجه الطبري 24829. الخلاصة: المرفوع لا يصح، والصحيح موقوف.

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى (999) سبب نزولها أنه لما نزلت: «إِنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم» شَقَّ ذلك على قريش، وقالوا: شتم آلهتنا، فجاء ابن الزّبعرى، فقال: ما لكم؟ قالوا: شتم آلهتنا، قال: وما قال؟ فأخبروه، فقال: ادعوه لي، فلمّا دعي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: يا محمد، هذا شيء لآلهتنا خاصة، أو لكل من عُبد من دون الله؟ قال: «لا، بل لكل من عُبد من دون الله» ، فقال ابن الزِّبعرى: خُصمْتَ وربِّ هذا البيت، ألستَ تزعم أن الملائكة عباد صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيراً عبد صالح، فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة، وهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً، فضج أهل مكة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال الحسين بن الفضل: إِنما أراد بقوله: وَما تَعْبُدُونَ الأصنام دون غيرها، لأنه لو أراد الملائكة والناس، لقال: «ومَنْ» وقيل: «إِنَّ» بمعنى: «إِلاَّ» ، فتقديره: إِلا الذين سبقت لهم مِنّا الحسنى، وهي قراءة ابن مسعود، وأبي نهيك، فإنهما قرءا: «إِلا الذين» . وروي عن عليّ بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية، فقال: أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن. وفي المراد «بالحسنى» قولان: أحدهما: الجنة، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: السعادة، قاله ابن زيد. قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها أي: عن جهنم، وقد تقدم ذكرها مُبْعَدُونَ والبعد: طول المسافة، والحسيس: الصوت تسمعه من الشيء إِذا مَرَّ قريباً منك، قال ابن عباس: لا يسمع أهل الجنة حسيس أهل النار إِذا نزلوا منازلهم من الجنة. قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وقرأ أبو رزين وقتادة، وابن أبي عبلة، وابن محيصن، وأبو جعفر الشيزري عن الكسائي: «لا يُحْزِنُهُم» بضم الياء وكسر الزاي. وفي الفزع الأكبر أربعة أقوال: أحدها: أنه النفخة الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس وبهذه النفخة يقوم الناس من قبورهم، ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ. والثاني: أنه إِطباق النار على أهلها، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: أنه ذبح الموت بين الجنة والنار، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال ابن جريج. والرابع: أنه حين يؤمر بالعبد إِلى النار، قاله الحسن البصري. وفي مكان تلقّي الملائكة لهم قولان: أحدهما: إِذا قاموا من قبورهم، قاله مقاتل. والثاني: على أبواب الجنة، قاله ابن السائب. قوله تعالى: هذا يَوْمُكُمُ فيه إِضمار: «يقولون» هذا يومكم الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فيه

_ أخرجه الواحدي 616 والطبراني 12/ 153 عن ابن عباس، وفيه عاصم بن بهدلة، وهو صدوق يخطئ. وأخرجه الطبري 24835 مطولا عن ابن إسحاق مرسلا. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 251: وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير، لأن الآية إنما نزلت خطابا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعا وتوبيخا لعابديها، ولهذا قال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ فكيف يورد على المسيح والعزير ونحوهما ممن له عمل صالح، ولم يرض بعبادة من عبده، وعوّل ابن جرير في «تفسيره» في الجواب على أن «ما» لما لا يعقل عند العرب. وقد أسلم ابن الزبعرى بعد ذلك.

الجنة. قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وقرأ أبو العالية، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر: «تُطْوى» بتاء مضمومة «السماءُ» بالرفع وذلك بمحو رسومها، وتكدير نجومها، وتكوير شمسها، كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قرأ الجمهور: «السِّجِلِّ» بكسر السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، ومحبوب عن أبي عمرو: «السِّجْلِ» بكسر السين وإسكان الجيم خفيفة. وقرأ أبو السّمّال كذلك، إِلا أنه فتح الجيم. قوله تعالى: لِلْكُتُبِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «للكتاب» . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «للكتب» على الجمع. وفي السّجل أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه مَلك، قاله علي بن أبي طالب، وابن عمر، والسدي. (1000) والثاني: أنه كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثالث: أن السجل بمعنى: الرجل، روى أبو الجوزاء عن ابن عباس، قال: السجل: هو الرجل. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: وقد قيل: «السجل» بلغة الحبشة: الرجل. والرابع: أنه الصحيفة. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والفراء وابن قتيبة. وقرأت على شيخنا أبي منصور، قال: قال أبو بكر، يعني- ابن دريد-: السجل: الكتاب، والله أعلم ولا ألتفت إِلى قولهم: إِنه فارسي معرب، والمعنى: كما يُطوى السجل على ما فيه من كتاب. و «اللام» بمعنى «على» . وقال بعض العلماء: المراد بالكتاب: المكتوب، فلما كان المكتوب ينطوي بانطواء

_ باطل، أخرجه أبو داود 2935 والنسائي 355 والطبري 24849 والبيهقي 10/ 126 كلهم عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس به. وهذا إسناد ضعيف يزيد بن كعب مجهول، قال الذهبي في «الميزان» لا يدرى من ذا أصلا. وأبو الجوزاء أوس بن عبد الله ثقة لكنه يرسل كثيرا، ولم يصرّح بسماع أو تحديث. وأخرجه ابن عدي 7/ 662 والبيهقي 10/ 126 والطبراني 2/ 170 ح 12790 من طريق يحيى بن عمرو بن مالك عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا. لأجل يحيى بن عمرو، فقد كذبه حماد بن زيد. وأخرجه النسائي 356 عن نوح عن عمر بن مالك به، وهو منقطع بين نوح وعمرو، ولعل نوحا أسقطه عمدا. وبكل حال الخبر واه جدا وليس بشيء. أخرجه الخطيب 8/ 175 من حديث حمدان بن سعيد عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر به. وهذا خير باطل لا أصل له، والحمل فيه على حمدان بن سعيد، فقد اتهمه الذهبي بهذا الحديث، فقال: أتى بخبر كذب اه. ومما يدل على أنه كذب هو كون من فوقه رجال البخاري ومسلم. فلو كان هذا الحديث عن نافع أو عبيد الله لرواه مالك والبخاري وغيرهم من الأئمة. لكنه إسناد مصنوع مركب. وقد حكم بوضع هذا الحديث كل من الإمام المزي والذهبي وابن كثير وسبقهم الطبري. وليس في الصحابة من اسمه «السجل» وإن أورده أبو نعيم وابن مندة فإنهما يرويان الموضوع وكتبهما مشحونة بذلك، وممن حكم بوضعه شيخ الإسلام ابن تيمية، ووافقه الإمام ابن القيم. راجع عون المعبود 8/ 154 وتفسير ابن كثير 3/ 252 و «تفسير الشوكاني» 1647 و 1648 و 1649 بتخريجنا.

الصحيفة، جعل السجل كأنه يطوي الكتاب. ثم استأنف، فقال تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الخلق ها هنا مصدر، وليس بمعنى المخلوق. وفي معنى الكلام أربعة أقوال: أحدها: كما بدأناهم في بطون أُمَّهاتهم حفاةً عُراةً غُرلاً، كذلك نعيدهم يوم القيامة. (1001) روي عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يحشر الناس يوم القيامة عراةً حفاة غرلا كما خلقوا، ثم قال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد. والثاني: أن المعنى: إِنا نُهلك كل شيء كما كان أول مرة، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن السماء تمطر أربعين يوماً كمني الرجال، فينبتون بالمطر في قبورهم، كما ينبتون في بطون أُمَّهاتهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أن المعنى: قُدرتنا على الإِعادة كقُدرتنا على الابتداء، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَعْداً قال الزجاج: هو منصوب على المصدر، لأن قوله تعالى: «نعيده» بمعنى: وعدنا هذا وعداً، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي: قادرين على فعل ما نشاء. وقال غيره: إِنا كنا فاعلين ما وَعَدْنا. قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أن الزَّبور جميع الكتب المنزَلة من السماء، و «الذِّكْر» : أُمُّ الكتاب الذي عند الله، قاله سعيد بن جبير في رواية، ومجاهد، وابن زيد، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية ابن جبير، فإنه قال: الزّبور: التّوراة والإِنجيل والقرآن، والذِّكر: الذي في السماء. والثاني: أن الزبور: الكتب، والذِّكر: التوراة، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن الزبور: القرآن، والذِّكْر: التوراة والإِنجيل، قاله سعيد بن جبير في رواية. والرابع: أن الزبور: زبور داود، والذِّكْر: ذِكْر موسى، قاله الشعبي. وفي الأرض المذكورة ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أرض الجنة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون. والثاني: أرض الدنيا، وهو منقول عن ابن عباس أيضاً. والثالث: الأرض المقدسة، قاله ابن السّائب.

_ صحيح. أخرجه البخاري 3349 و 4625 و 4626 و 4740 ومسلم 2860 ح 58 والترمذي 2425 والنسائي 4/ 114 و 117 وأحمد 1/ 223 و 229 و 235 و 253 والدارمي 2/ 326 وأبو يعلى 2578 من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا» . ثم قرأ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم. وإن أناسا من أصحابي أخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي، أصحابي. فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول لكم كما قال العبد الصالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ إلى قوله الْحَكِيمُ.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 إلى 112]

وفي قوله تعالى: يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية: ترث أُمَّة محمد أرض الدنيا بالفتوح. والثاني: بنو إِسرائيل، قاله ابن السائب. والثالث: أنه عامّ في كل صالح، قاله بعض فقهاء المفسرين. قوله تعالى: إِنَّ فِي هذا يعني: القرآن لَبَلاغاً أي: لَكِفاية والمعنى: أن من اتَّبع القرآن وعمل به، كان القرآن بلاغه إِلى الجنة. وقوله تعالى: لِقَوْمٍ عابِدِينَ قال كعب: هم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم الذين يصلُّون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قال ابن عباس: هذا عامّ للبَرِّ والفاجر، فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به صُرفت عنه العقوبة إِلى الموت والقيامة. وقال ابن زيد: هو رحمة لمن آمن به خاصّة. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 الى 112] قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ قال ابن عباس: فهل أنتم مخلِصون له العبادة؟ قال أهل المعاني: هذا استفهام بمعنى الأمر. قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: أَعْرَضُوا ولم يؤمنوا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ في معنى الكلام قولان: أحدهما: نابذتُكم وعاديتُكم وأعلمتُكم ذلك، فصرتُ أنا وأنتم على سواءٍ قد استوينا في العلم بذلك، وهذا من الكلام المختصر، قاله ابن قتيبة. والثاني: أعلمتكم بالوحي إِليَّ لتستووا في الإِيمان به، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَإِنْ أَدْرِي أي: وما أدري أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ بنزول العذاب بكم. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وهو ما يقولونه للنبيّ صلى الله عليه وسلّم مَتى هذَا الْوَعْدُ «1» ، وما تَكْتُمُونَ إِسرارُهم أن العذاب لا يكون. قوله تعالى: لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ في هاء «لَعَلَّه» قولان «2» : أحدهما: أنها ترجع إِلى ما آذنهم به، قاله الزجاج. والثاني: إِلى العذاب فالمعنى: لعل تأخير العذاب عنكم فتنة، قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدّمشقي. ومعنى الفتنة ها هنا: الاختبار، وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي: تستمتعون إلى انقضاء آجالكم. وقل رَبِّ وروى حفص عن عاصم: قالَ رَبِّ احْكُمْ قرأ أبو جعفر: «ربُّ احكم» بضم الباء.

_ (1) سورة يس: 48. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 255: وقوله: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ، أي: هو واقع لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده، وقوله وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي: وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين. قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم، ومتاع إلى أجل مسمّى. وحكاه عن ابن عباس والله أعلم. قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق وقوله وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ على ما يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك والله المستعان عليكم في ذلك.

وروى زيد عن يعقوب: «ربِّيَ» بفتح الياء «أَحْكَمُ» بقطع الهمزة وفتح الكاف ورفع الميم. ومعنى «احكم بالحق» أي: بعذاب كفار قومي الذي نزوله حقٌّ، فحكَم عليهم بالقتل في يوم بدر وفيما بعده من الأيام والمعنى على هذا: افصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق. ومعنى عَلى ما تَصِفُونَ أي: من كذبكم وباطلكم. وقرأ ابن عامر، والمفضل عن عاصم: «يصفون» بالياء. فإن قيل: فهل يجوز على الله أن يحكُم بغير الحق؟ فالجواب: أن المعنى: احكم بحكمك الحق، كأنه استعجل النّصر عليهم، والله أعلم بالصواب.

سورة الحج

سورة الحجّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) فصل في نزولها «1» : روى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية كلُّها، غير آيتين نزلتا بالمدينة: قوله سبحانه وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، والّتي تليها «2» وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مدنية إِلا أربع آيات نزلت بمكة، وهي قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلى آخر الأربع «3» . وقال عطاء بن السّائب: نزلت بمكة إِلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة: هذانِ خَصْمانِ واللتان بعدها «4» وقال أبو سليمان الدمشقي: أولها مدني إِلى قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ «5» وسائرها مكي. وقال الثعلبي: هي مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ إلى قوله تعالى: الْحَمِيدِ «6» . وقال هبة الله بن سلامة: هي من أعاجيب سور القرآن، لأن فيها مكياً، ومدنياً، وحضرياً، وسفرياً، وحربياً، وسلمياً، وليلياً، ونهارياً، وناسخاً، ومنسوخاً. فأما المكي، فمن رأس الثلاثين منها إِلى آخرها. وأما المدني، فمن رأس خمس وعشرين إِلى رأس ثلاثين. وأما الليليُّ، فمن أولها إِلى آخر خمس آيات. وأما النهاريُّ، فمن رأس خمس آيات. إِلى رأس تسع. وأما السفري، فمن رأس تسع إِلى اثنتي عشرة. وأما الحضريّ، فإلى رأس العشرين، نسب إِلى المدينة، لقرب مدَّته. قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي: احذروا عقابه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ الزلزلة: الحركة على الحالة الهائلة. وفي وقت هذه الزلزلة قولان «7» : أحدهما: أنها يوم القيامة بعد النّشور.

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 12/ 5: وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح، لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن «يا أيها الناس» مكي و «يا أيها الذين آمنوا» مدني. [.....] (2) سورة الحج: 12، 13. (3) سورة الحج: 53- 57. (4) سورة الحج: 20- 22. (5) سورة الحج: 24، 25. (6) سورة الحج: 38. (7) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 105: والصواب من القول في ذلك: ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم- وهو حديث أبي سعيد الخدري-.

(1002) روى عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قرأ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وقال: «تدرون أي يوم ذلك؟ فإنه يوم ينادي الرّبّ عزّ وجلّ آدم عليه السلام: ابعث بعثاً إِلى النار» فذكر الحديث. (1003) وروى أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم: قم، فابعث بعث النار، فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إِلى النار، فحينئذ يشيب المولود، وتضع كل ذات حمل حملها» ، وقرأ الآية. وقال ابن عباس: زَلْزَلَةُ الساعة: قِيَامُها، يعني أنها تُقارِب قيام الساعة، وتكون معها. وقال الحسن، والسدي: هذه الزلزلة تكون يوم القيامة. والثاني: أنها تكون في الدنيا قبل القيامة، وهي من أشراط الساعة، قاله علقمة، والشعبي، وابن جريج. وروى أبو العالية عن أُبَيِّ بن كعب، قال: ست آيات قبل القيامة، بينما الناس في أسواقهم إِذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إِذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إِذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت، واضطربت، ففزع الجن إِلى الإنس، والإنس إلى الجنّ، فاختلطت الدواب، والطير، والوحش، فماج بعضهم في بعض، فقالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إِلى البحور، فإذا هي نار تَأجَّج، فبينما هم كذلك إِذ تصدَّعت الأرض إِلى الأرض السابعة، والسماء إلى

_ حسن، أخرجه الترمذي 3168 من حديث عمران بن حصين، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان. وزاد في هذا الحديث «فأنشأ المؤمنون يبكون ... » و «فإنها لم تكن نبوة قط ... » وأخرجه الطبري 24906 عن الحسن بهذا السياق. وقد رواه غير واحد بدون هذه اللفظة. وأخرجه الترمذي 3169 والنسائي في «الكبرى» 1340 والحاكم 2/ 385 و 4/ 567 والطبري 24904 عن الحسن عن عمران بن حصين، ورجاله ثقات كلهم لكن في سماع الحسن من عمران كلام. وقد أنكره أبو حاتم في «المراسيل» ص 40 ومع ذلك قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم، وقال: أكثر أئمة البصرة على أن الحسن سمع من عمران، ووافقه الذهبي، ولأكثره شواهد ولذا صححه الألباني في صحيح الترمذي. وورد من حديث أنس أخرجه أبو يعلى 3122 وابن حبان 7354 والحاكم 1/ 29 و 4/ 566 من حديث أنس، وصححه الحاكم على شرطهما، لكن أعله بقوله: قال محمد بن يحيى الذهلي: هذا الحديث عندنا غير محفوظ عن أنس، ولكن المحفوظ عندنا عن قتادة عن الحسن عن عمران اه وسكت الذهبي، ولأكثره شواهد ومنها الآتي، فالحديث حسن إن شاء الله. وانظر «تفسير الشوكاني» 1659 و 1660 و «تفسير القرطبي» 4367 و 4368 و 4369 بتخريجنا. ولله الحمد والمنة. صحيح. أخرجه البخاري 3348 و 4741 و 6531 ومسلم 222 وأحمد 3/ 32 و 33 والطبري 24907 و 24908 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 471 والبغوي 4220 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. فيقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد» . قالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك الواحد؟ قال: «أبشروا فإن منكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف» . ثم قال: «والذي نفسي بيده أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. فكبّرنا. فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة. فكبّرنا. فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة. فكبّرنا فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود» . لفظ البخاري.

السماء السابعة، فبينما هم كذلك إِذ جاءتهم الريح فماتوا. وقال مقاتل: هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى، وذلك أن منادياً ينادي من السماء: يا أيها الناس أتى أمر الله فيفزعون فزعاً شديداً فيشيب الصغير، وتضع الحوامل. قوله تعالى: شَيْءٌ عَظِيمٌ أي: لا يوصف لعِظَمه. قوله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها يعني: الزّلزلة تَذْهَلُ فيه قولان: أحدهما: تسلو عن ولدها، وتتركه، قاله ابن قتيبة. والثاني: تُشْغَل عنه، قاله قطرب، ومنه قول ابن رواحة: ويذهل الخليل عن خليله وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: «تُذهِل» برفع التاء وكسر الهاء «كلَّ» بنصب اللام. قال الأخفش: وإِنما قال: «مرضعة» ، لأنه أراد- والله أعلم- الفعل، ولو أراد الصفة فيما نرى، لقال: «مرضع» . قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام، وهو يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا، لأن بعد البعث لا تكون حبلى. قوله تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وقرأ عكرمة، والضحاك، وابن يعمر، «وتُرى» بضم التاء. ومعنى «سكارى» : من شدة الخوف وَما هُمْ بِسُكارى من الشراب، والمعنى: ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم، لشدة ما يمرُّ بهم، يضطربون اضطراب السكران من الشراب. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «سَكْرى وما هم بسَكْرى» وهي قراءة ابن مسعود. قال الفراء: وهو وجه جيد، لأنه بمنزلة الهَلْكى والجَرْحى. وقرأ عكرمة، والضحاك، وابن السميفع: «سَكارى وما هم بسَكارى» بفتح السين والراء وإِثبات الألف، وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فيه دليل على أن سكرهم من خوف عذابه. قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث. وفيما جادل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان كلَّما نزل شيء من القرآن كذَّب به، قاله ابن عباس. والثاني: أنه زعم أن الملائكة بنات الله، قاله مقاتل. والثالث: أنه قال: لا يقدر الله على إِحياء الموتى، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: إِنما يقوله بإغواءِ الشيطان، لا بعلم وَيَتَّبِعُ ما يسوِّل له كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ وقد ذكرنا معنى «المريد» في سورة النساء «1» . قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ «كُتب» بمعنى: قُضي. والهاء في «عليه» وفي «تولاه» كناية عن الشيطان. ومعنى الآية: قضي على الشيطان أَنَّه يُضِلُّ مَن اتَّبعه. وقرأ أبو عمران الجوني: «كَتب» بفتح الكاف «أنه» بفتح الهمزة «فإنه» بكسر الهمزة وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وابن أبي ليلى، والضحاك، وابن يعمر: «إِنه» «فإِنه» بكسر الهمزة فيهما. وقد بيَّنَّا معنى «السّعير» في سورة النّساء «2» .

_ (1) سورة النساء: 117. (2) سورة النساء: 10.

[سورة الحج (22) : الآيات 5 إلى 7]

[سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ يعني: أهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي: في شك من القيامة فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني: خَلْقَ آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني: خَلْقَ ولده، والمعنى: إِن شككتم في بعثكم فتدبَّروا أمر خلقكم وابتدائكم، فإنكم لا تجدون في القدرة فرقاً بين الابتداء والاعادة. فأما النطفة، فهي المني. والعلقة: دم عبيط جامد. وقيل: سميت علقة لرطوبتها وتعلُّقها بما تمرُّ به، فإذا جفَّت فليست علقةً. والمضغة: لحمة صغيرة. قال ابن قتيبة: وسميت بذلك، لأنها بقدر ما يُمضغ، كما قيل: غرفة لقدر ما يُغرَف. قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فيه خمسة أقوال «1» : أحدها: أن المخلَّقة: ما خُلق سويّاً، وغير المخلَّقة: ما ألقته الأرحام من النطف، وهو دم قبل أن يكون خَلْقاً، قاله ابن مسعود. والثاني: أن المخلَّقة: ما أُكمل خَلْقه بنفخ الروح فيه، وهو الذي يولَد حيّاً لتمامٍ، وغير المخلَّقة: ما سقط غير حيّ لم يكمل خلقه بنفخ الروح فيه، هذا معنى قول ابن عباس. والثالث: أن المخلَّقة: المصوَّرة، وغير المخلَّقة: غير مصوَّرة، قاله الحسن. والرابع: أن المخلَّقة وغير المخلَّقة: السقط، تارة يسقط نطفة وعلقة، وتارة قد صُوِّر بعضه، وتارة قد صُوِّر كلُّه، قاله السدي. والخامس: أن المخلَّقة: التامة، وغير المخلَّقة: السقط، قاله الفراء، وابن قتيبة. قوله تعالى: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: خلقناكم لنبيِّن لكم ما تأتون وما تذَرون. والثاني: لنبيِّن لكم في القرآن بُدُوَّ خَلْقِكم، وتنقُّلَ أحوالكم. والثالث: لنبيِّن لكم كمال حكمتنا وقدرتنا في تقليب أحوال خلقكم. والرابع: لنبيِّن لكم أن البعث حق. وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: «ليبيّن لكم» بالياء. قوله تعالى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء: «ويقرّ» بياء مرفوعة وفتح القاف ورفع الراء. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو إِسحاق السَّبيعي: «ويُقِرَّ» بياء مرفوعة وبكسر القاف ونصب الراء. والذي يُقَرُّ في الأرحام، هو الذي لا يكون سقطاً، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أجل الولادة ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا قال أبو عبيدة: هو في موضع أطفال، والعرب قد تضع لفظ الواحد في معنى الجميع، قال الله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «2» أي: ظهراء، وأنشد:

_ (1) قال الطبري رحمه الله 9/ 111: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: المخلّقة: المصورة خلقا تاما، وغير مخلّقة: السقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا التصوير. (2) سورة التحريم: 4.

[سورة الحج (22) : الآيات 8 إلى 10]

فقلنا أسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإحن الصّدور «1» وأنشد أيضا: في خلقكم عظمٌ وقد شَجينا وقال غيره: إِنما قال: «طفلاً» فوحَّد، لأن الميم في قوله تعالى: نُخْرِجُكُمْ قد دلَّت على الجميع، فلم يحتج إِلى أن يقول: أطفالاً. قوله تعالى: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا فيه إِضمار، تقديره: ثم نعمِّركم لتبلغوا أشدّكم، وقد سبق معنى «الأشد» «2» ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى من قبل بلوغ الأشُدِّ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وقد شرحناه في النحل «3» . ثم إِن الله تعالى دلَّهم على إِحيائه الموتى باحيائه الأرض، فقال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً قال ابن قتيبة: أي: ميتة يابسة، ومثله: همدت النار: إِذا طفئت فذهبت. قوله تعالى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ يعني: المطر اهْتَزَّتْ أي: تحرَّكت للنبات، وذلك أنها ترتفع عن النبات إِذا ظهر، فهو معنى قوله تعالى: وَرَبَتْ أي: ارتفعت وزادت. وقال المبرِّد: أراد: اهتزَّ نباتها وربا، فحذف المضاف. قال الفراء: وقرأ أبو جعفر المدني: «وربأَت» بهمزة مفتوحة بعد الباء. فإن كان ذهب إِلى الرَّبيئة الذي يحرس القوم، أي: أنه يرتفع، وإِلا، فهو غلط. قوله تعالى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ قال ابن قتيبة: من كل جنس حَسَنٍ يبهج، أي: يسرُّ، وهو فعيل في معنى فاعل. قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: المعنى: الأَمْرُ ذلك كما وصف لكم. والأجود أن يكون موضع «ذلك» رفعاً، ويجوز أن يكون نصباً على معنى: فعل الله ذلك بأنه هو الحق. قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ أي: ولتعلموا أنّ الساعة آتِيَةٌ. [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ قد سبق بيانه. وهذا مما نزل في النضر أيضاً. والهدى: البيان والبرهان. قوله تعالى: ثانِيَ عِطْفِهِ العِطف: الجانب. وعِطفا الرجل: جانباه عن يمين وشمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإِنسان ويلويه عند إِعراضه عن المشي. قال الزجاج: «ثانيَ» منصوب على الحال، ومعناه: التنوين، معناه: ثانياً عِطفه. وجاء في التفسير: أن معناه: لاوياً عنقه، وهذا يوصف به المتكبِّر، والمعنى: ومن الناس من يجادل بغير علم متكبِّراً. قوله تعالى: لِيُضِلَّ أي: ليصير أمره إِلى الضلال، فكأنَّه وإِن لم يقدَّر أنه يضل، فإن أمره يصير إِلى ذلك، لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وهو ما أصابه يوم بدر، وذلك أنه قُتل. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «4» إِلى قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ وفي سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما: أن ناساً من العرب كان يأتون

_ (1) البيت لعباس بن مرداس، كما في «الخزانة» 1/ 73 و «الأغاني» 1/ 73. (2) سورة الأنعام: 153. (3) سورة النحل: 70. (4) سورة يونس: 70. [.....]

[سورة الحج (22) : الآيات 11 إلى 14]

رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فيقولون: نحن على دينك، فإن أصابوا معيشةً، ونتجت خيلهم، وولدت نساؤهم الغلمان اطمأنّوا وقال: هذا دينُ حقٍّ، وإِنْ لم يَجْرِ الأمر على ذلك قالوا: هذا دين سوءٍ، فينقلبون عن دينهم، فنزلت هذه الآية، هذا معنى قول ابن عباس، وبه قال الأكثرون «1» . (1004) والثاني: أن رجلاً من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإِسلام، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: أقلني، فقال: «إِن الإِسلام لا يقال» . فقال: إِني لم أُصِب في ديني هذا خيراً، أذهب بصري ومالي وولدي، فقال: «يا يهودي: إِن الإِسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب» ، فنزلت هذه الآية، رواه عطية عن أبي سعيد الخدري. [سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 14] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) قوله تعالى: عَلى حَرْفٍ قال مجاهد، وقتادة: «على شكٍّ» ، قال أبو عبيدة: كل شاكٍّ في شيء فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم. وبيان هذا أن القائم على حرف الشيء غير متمكِّن منه فشبِّه به الشاكُّ، لأنه قّلِقٌ في دينه على غير ثبات، ويوضحه قوله تعالى: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي: رخاءٌ وعافية اطْمَأَنَّ بِهِ على عبادة الله وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ اختبار بجدب وقلّة مال انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي: رجع عن دينه إِلى الكفر. والمعنى: انصرف إِلى وجهه الذي توجه منه، وهو الكفر، خَسِرَ الدُّنْيا حيث لم يظفر بما أراد منها، وَخسر الْآخِرَةَ بارتداده عن الدين. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو مجلز، ومجاهد، وطلحة بن مصرف، وابن أبي عبلة، وزيد عن يعقوب: «خاسِرَ الدنيا» بألف قبل السين، وينصب الراء «والآخرة» بخفض التاء. يَدْعُوا هذا المرتدّ، أي: يعبد ما لا يَضُرُّهُ إِن لم يعبده ولا يَنْفَعُهُ إِن أطاعه ذلِكَ الذي فعل هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن الحقّ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ قال بعضهم: اللام صلة، والمعنى: يدعو مَن ضره. وحكى الزجاج عن البصريين والكوفيين أن اللام معناها التأخير، والمعنى: يدعو مَنْ لضرِّه أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، قال: وشرح هذا أنّ اللام لليمين والتّوكيد،

_ ضعيف ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 618 عن عطية العوفي عن أبي سعيد وعطية هو ابن سعد الكوفي، وهو ضعيف واه. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 4/ 624 من طريق عطية عن أبي سعيد به. وله شاهد من حديث جابر، أخرجه العقيلي 3/ 368، وفيه عنبسة بن سعيد، وهو ضعيف متروك. ثم إن السورة مكية في قول الجمهور، وأخبار يهود مدنية. وانظر «تفسير الشوكاني» 1663 بتخريجي.

[سورة الحج (22) : الآيات 15 إلى 17]

فحقُّها أن تكون أول الكلام، فقدِّمت لتجعل في حقِّها. قال السدي: ضره في الآخرة بعبادته إِياه أقربُ من نفعه. فإن قيل: فهل للنفع من عبادة الصنم وجه؟ فالجواب: أنه لا نفع من قِبَلِه أصلاً، غير أنه جاء على لغة العرب، وهم يقولون في الشيء الذي لا يكون: هذا بعيد. قوله تعالى: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ قال ابن قتيبة: المولى: الولي. والعشير: الصاحب، والخليل. [سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 17] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) قوله تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ قال مقاتل: نزلت في نفر من أسد، وغطفان، قالوا: إِنا نخاف أن لا يُنْصَرَ محمدٌ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود، وإِلى نحو هذا ذهب أبو حمزة الثمالي، والسدي «1» . وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الإِشارة بهذه الآية إِلى الذين انصرفوا عن رسول الله لأن أرزاقهم ما اتَّسعت، وقد شرحنا القصة في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «2» . وفي هاء «ينصره» قولان «3» : أحدهما: أنها ترجع على «مَن» ، والنصر: بمعنى الرزق، هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر، فقال: مَنْ ينصرني نصره الله، أي: من يعطيني أعطاه الله، ويقال: نصر المطر أرض كذا، أي: جادها، وأحياها، قال الرّاعي: وانصري أرض عامر «4»

_ (1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فهذا الخبر لا شيء. وذكره الطبري 9/ 20 بدون إسناد، ومن غير عزو لأحد. (2) سورة الحج: 11. (3) قال الطبري رحمه الله 9/ 120: وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال: الهاء من ذكر نبي الله صلى الله عليه وسلّم ودينه، وذكر هذه الآية توبيخا لمن ارتدوا عن دينهم، وشكوا فيه، استبطاء منهم السعة في العيش، أو السبوغ في الرزق، فمن كان يحسب أن لن يرزق الله محمدا صلى الله عليه وسلّم وأمته في الدنيا فيوسع عليهم من فضله فيها، ويرزقهم في الآخرة من سني عطاياه وكرامته، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم فليمدد بحبل إلى سماء فوقه: إما سقف بيت، أو غيره، مما يعلق به السبب من فوقه ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجل قبل حينه. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 264 وقال: وهو الأولى والأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم، فإن المعنى: من ظن أن الله ليس بناصر محمدا صلى الله عليه وسلّم وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه، إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محالة، قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. ولهذا قال: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ. (4) هو جزء من عجز بيت وتمامه: إِذا أدبر الشهر الحرام فودعي ... بلاد تميم وانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ

[سورة الحج (22) : آية 18]

والثاني: أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالمعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً، رواه التميمي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وقتادة. قال ابن قتيبة: وهذه كناية عن غير مذكور، وكان قوم من المسلمين لشدة حنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، وآخرون من المشركين، يريدون اتَّباعه، ويخشَوْن أن لا يتم أمره، فقال هذه الآية للفريقين. ثم في معنى هذا النصر قولان: أحدهما: أنه الغلبة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنه الرزق، حكاه أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ في المراد بالسماء قولان: أحدهما: سقف بيته، والمعنى: فليشدد حبلاً في سقف بيته، فليختنق به ثُمَّ لْيَقْطَعْ الحبل ليموت مختنقاً، هذا قول الأكثرين. ومعنى الآية: ليصور هذا الأمر في نفسه لا أنه يفعله، لأنه إِذا اختنق لا يمكنه النظر والعلم. والثاني: أنها السماء المعروفة، والمعنى: فليقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِن قدر، قاله ابن زيد. قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْطَعْ قرأ أبو عمرو، وابن عامر: «ثم ليقطع» «ثم ليقضوا» «1» بكسر اللام. زاد ابن عامر «وليوفوا» «2» «وليطوفوا» «3» بكسر اللام أيضاً. وكسر ابن كثير لام «ثم لِيقضوا» فحسب. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بسكون هذه اللامات، وكذلك في كل القرآن إِذا كان قبلها واوٌ أو فاءٌ أو ثم، قال الفراء: من سكَّن فقد خفف، وكل لام أمر وصلت بواو أو فاء، فأكثر كلام العرب تسكينها، وقد كسرها بعضهم. قال أبو علي: الأصل الكسر، لأنك إِذا ابتدأت قلت: ليقم زيد. قوله تعالى: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ قال ابن قتيبة: المعنى: هل تُذهبن حيلتُه غيظَه، والمعنى: ليجهد جهده. قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك الذي تقدم من آيات القرآن أَنْزَلْناهُ يعني: القرآن. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي: يقضي يَوْمَ الْقِيامَةِ بينهم بادخال المؤمنين الجنة والآخرين النار إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالهم شَهِيدٌ. [سورة الحج (22) : آية 18] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ أي: ألم تعلم. وقد بيَّنَّا في سورة النحل «4» معنى السجود «5» في حق من يعقل، ومن

_ (1) سورة الحج: 29. (2) سورة الحج: 29. (3) سورة الحج: 29. (4) سورة النحل: 49. (5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 265: يخبر الله تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنّه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها، وسجود كل شيء مما يختص به، كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ فأخبر أن كل ماله ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال أي- بكرة وعشيا- فإنه ساجد بظله لله تعالى وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه. وروى أحمد في حديث الكسوف: «إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله إذا تجلّى لشيء من خلقه خشع له» .

[سورة الحج (22) : الآيات 19 إلى 22]

لا يعقل. قوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يعني: المؤمنين الذين يسجدون لله. وفي قوله تعالى: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ قولان: أحدهما: أنهم الكفار، وهم يسجدون، وسجودهم سجود ظلّهم، قاله مقاتل. والثاني: أنهم لا يسجدون والمعنى: وكثير من الناس أبى السجود، فحق عليه العذاب، لتركه السجود، هذا قول الفراء. قوله تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ أي: من يُشْقِه الله فما له من مُسْعِدٍ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ في خلقه من الكرامة والإهانة. [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 22] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال «1» : (1005) أحدها: أنها نزلت في النفر الذين تبارزوا للقتال يوم بدر، حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنَي ربيعة، والوليد بن عتبة، هذا قول أبي ذر. (1006) والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتاباً، ونبيُّنا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد، وآمنا بنبيِّكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون نبيَّنا ثم كفرتم به حسداً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، وقتادة. والثالث: أنها في جميع المؤمنين والكفار، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن وعطاء، ومجاهد. والرابع: أنها نزلت في اختصام الجنة والنار، فقالت النار: خلقني الله لعقوبته، وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، قاله عكرمة. فأما قوله تعالى: هذانِ وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعكرمة وابن كثير: «هاذانّ» بتشديد النون «خصمان» ، فمعناه: جمعان وليسا برجلين، ولهذا قال تعالى: اخْتَصَمُوا ولم يقل:

_ صحيح. أخرجه البخاري 8/ 396 و 3969 و 3966 ومسلم 3033 والنسائي في «التفسير» 361 وابن ماجة 2835 والطبري 24979 والواحدي في «أسباب النزول» 619 والبغوي 2701 من حديث أبي ذر. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 24984 عن ابن عباس برواية العوفي عنه، وهي رواية واهية، العوفي واسمه عطية بن سعد وهو واه، وعنه مجاهيل.

[سورة الحج (22) : الآيات 23 إلى 24]

اختصما على أنه قرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «اختصما» . وفي خصومتهم ثلاثة أقوال: أحدها: في دين ربِّهم، وهذا على القولين تبقى كما هي. والثاني: في البعث، قاله مجاهد. والثالث: أنه خصام مفاخرة، على قول عكرمة. قوله تعالى: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ أي: سُوِّيت وجُعلت لباساً. قال ابن عباس: قُمُص من نار، وقال سعيد بن جبير: المراد بالنار ها هنا: النحاس. فأما «الحميم» فهو الماء الحارُّ يُصْهَرُ بِهِ قال الفراء: يذاب به، يقال: صهرت الشحم بالنار. قال المفسرون: يذاب بالماء الحارِّ ما فِي بُطُونِهِمْ من شحم أو مِعىً حتى يخرج من أدبارهم، وتنضج الجلود فتتساقط من حرِّه، وَلَهُمْ مَقامِعُ قال الضحاك: هي المطارق. وقال الحسن: إِن النار ترميهم بلهبها، حتى إِذا كانوا في أعلاها، ضُرِبوا بمقامع فَهَوَوْا فيها سبعين خريفاً، فإذا انتهوا إِلى أسفلها، ضربهم زفير لهبها، فلا يستقرُّون ساعة. قال مقاتل: إِذا جاشت جهنم، ألقتهم في أعلاها، فيريدون الخروج، فتتلقَّاهم خزنة جهنم بالمقامع، فيضربونهم، فيهوي أحدهم من تلك الضربة إِلى قعرها. وقال غيره: إِذا دفعتهم النار، ظنوا أنها ستقذفهم خارجاً منها، فتعيدهم الزبانية بمقامع الحديد. [سورة الحج (22) : الآيات 23 الى 24] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) قوله تعالى: وَلُؤْلُؤاً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «ولؤلؤ» بالخفض. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: «ولُؤْلُؤاً» بالنصب. قال أبو عليّ: من خفض، فالمعنى: يحلَّون أساور من ذهب ومن لؤلؤٍ ومن نصب قال: ويحلّون لؤلؤا قال الزّجّاج: واللؤلؤ اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر. قوله تعالى: وَهُدُوا أي: أُرْشِدوا في الدنيا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه «لا إِله إِلا الله، والحمد لله» قاله ابن عباس. وزاد ابن زيد «والله أكبر» . والثاني: القرآن، قاله السدي. والثالث: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حكاه الماوردي. فأما «صراط الحميد» فقال ابن عباس: هو طريق الإسلام. [سورة الحج (22) : آية 25] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) قوله تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: يمنعون الناس من الدخول في الإِسلام. قال الزجاج: ولفظ «يصدون» لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي، لأن معنى «الذين كفروا» : الذين هم كافرون، فكأنه قال: إِن الكافرين والصَّادِّين فأما خبر «إِنَّ» فمحذوف، فيكون المعنى: إِن الذين هذه صفتهم هلكوا. وفي «المسجد الحرام» قولان: أحدهما: جميع الحرم. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كانوا يرون الحرم كلَّه مسجداً. والثاني: نفس المسجد، حكاه الماوردي.

قوله تعالى: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ هذا وقف التمام. وفي معناه قولان: أحدهما: جعلناه للنَّاس كلِّهم، لم نخصَّ به بعضهم دون بعض، هذا على أنه جميع الحرم. والثاني: جعلناه قبلة لصلاتهم، ومنكسا لحجِّهم، وهذا على أنه نفس المسجد. وقرأ ابراهيم النخعي، وابن أبي عبلة، وحفص عن عاصم: «سواءً» بالنصب، فيتوجه الوقف على «سواء» ، وقد وقف بعض القراء كذلك. قال أبو علي الفارسي: أبدل العاكف والبادي من الناس من حيث كانا كالشامل لهم، فصار المعنى: الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء. فأما العاكف: فهو المقيم، والبادي: الذي يأتيه من غير أهله، وهذا من قولهم: بدا القوم: إِذا خرجوا من الحضر إِلى الصحراء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «البادي» بالياء، غير أن ابن كثير، وقف بياء، وأبو عمرو بغير ياء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، والمسيّبي عن نافع بغير ياء في الحالتين. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن العاكف والبادي يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما أحقَّ بالمنزل من الآخر، غير أنه لا يُخرَج أحدٌ من بيته، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة وإِلى نحو هذا ذهب أبو حنيفة، وأحمد ومذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام «1» ، هذا على أن المسجد: الحرم كلّه. والثاني: أنها يستويان في تفضيله وحرمته وإِقامة المناسك به، هذا قول الحسن، ومجاهد. ومنهم من أجاز بيع دور مكة، وإِليه يذهب الشافعي. وعلى هذا يجوز أن يراد بالمسجد الحرام، ويجوز أن يراد نفس المسجد. قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ الإِلحاد في اللغة: العدول عن القصد، والباء زائدة، كقوله

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 6/ 364- 366: واختلفت الرواية في بيع رباع مكة، وإجارة دورها. فروي أن ذلك غير جائز. وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والثوري، وأبي عبيد. وكرهه إسحاق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مكة حرام بيع رباعها، حرام إجارتها» رواه سعيد بن منصور، كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة، ولم يقسموها والدليل على أن مكة فتحت عنوة، قوله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» متفق عليه. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلّم، بقتل أربعة، فقتل منهم ابن خطل، ومقيس بن صبابة، وهذا يدل على أنها فتحت عنوة. والرواية الثانية، أنه يجوز بيع رباعها، وإجارة بيوتها. روي ذلك عن طاوس وعمرو بن دينار وهذا قول الشافعي وابن المنذر. وهو أظهر في الحجة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قيل له: أين ننزل غدا؟ قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع؟» متفق عليه يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب، لأنه ورثه دون إخوته، لكونه كان على دينه دونهما، فلو كانت غير مملوكة، لما أثر بيع عقيل شيئا، ولأن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم كانت لهم دور بمكة لأبي بكر، والزبير، وحكيم، فمنهم من باع ومنهم من ترك داره، فهي في يد أعقابهم ولم يزل أهل مكة يتصرفون في دورهم تصرف الملاك بالبيع وغيره، ولم ينكره منكر، فكان إجماعا. وكونها فتحت عنوة، الصحيح الذي لا يمكن دفعه إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم أقر أهلها فيها على أملاكهم ورباعهم. وعلى القول الأول: إن سكن بأجرة فأمكنه أن لا يدفع إليهم الأجرة، جاز له ذلك وقد روي أن سفيان سكن في بعض رباع مكة، وهرب، ولم يعطهم أجرة فأدركوه فأخذوها منه. وذكر لأحمد فعل سفيان، فتبسم، فظاهر هذا، أنه أعجبه. قال ابن عقيل: والخلاف في غير مواضع المناسك، أما بقاع المناسك كموضع السعي والرمي فحكمه حكم المساجد، بغير خلاف.

تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1» ، وأنشدوا: بِوَادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ صَدْرُهُ ... وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهانِ «2» المعنى: وأسفله ينبت المرخ وقال آخر: هُنَّ الحرائر لا ربَّاتُ أَخْمِرَةٍ ... سودُ المحاجرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ «3» وقال آخر: نحن بَنو جَعْدة أربابُ الفَلَج ... نَضرِب بالسَّيف ونرجو بالفَرَج «4» هذا قول جمهور اللغويين. قال ابن قتيبة: والباء قد تزاد في الكلام، كهذه الآية، وكقوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «5» وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «6» بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) «7» تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ «8» عَيْناً يَشْرَبُ بِها «9» أي: يشربها وقد تزاد «من» ، كقوله تعالى: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ «10» ، وتزاد «اللام» كقوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ «11» ، والكاف، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «12» ، و «عن» ، كقوله تعالى: يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ «13» ، و «إنّ» ، كقوله تعالى فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ «14» و «إِنْ» الخفيفة، كقوله تعالى: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ «15» ، و «ما» ، كقوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «16» ، و «الواو» ، كقوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ «17» . وفي المراد بهذا الإِلحاد خمسة أقوال «18» : أحدها: أنه الظلم، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: هو عمل سيئة فعلى هذا تدخل فيه جميع المعاصي، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا تحتكروا الطعام بمكة، فإن احتكار الطعام بمكة إِلحاد بظلم. والثاني: أنه الشرك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال الحسن، وقتادة. والثالث: الشرك والقتل، قاله عطاء. والرابع: أنه استحلال محظورات الإِحرام، وهذا المعنى محكيٌّ عن عطاء أيضاً. والخامس: استحلال الحرام تعمُّداً، قاله ابن جريج.

_ (1) سورة المؤمنون: 20. (2) البيت: للأحوال اليشكري واسمه يعلى كما في «اللسان» - شث- و «مجاز القرآن» 2/ 48 والشّث: شجر طيب الريح، مرّ الطعم يدبغ به. والمرخ: شجر كثير الوري سريعه، وفي المثل: في كل شجر نار، واستمجدَ المرْخُ والعَفَارُ واستمجد: استفضل، ومنه الزناد الذي يقتدح به. والشبهان: نبت يشبه الثّمام. [.....] (3) البيت في «اللسان» - سور- و «مجاز القرآن» 1/ 4 و «الخزانة» 3/ 668. (4) البيت لراجز من بني جعدة كما في «الخزانة» 4/ 159. (5) سورة العلق: 1. (6) سورة مريم: 24. (7) سورة القلم: 6. (8) سورة الممتحنة: 1. (9) سورة الإنسان: 6. (10) سورة الذاريات: 57. (11) سورة الأعراف: 154. (12) سورة الشورى: 11. (13) سورة النور: 63. (14) سورة الجمعة: 8. (15) سورة الأحقاف: 26. (16) سورة المؤمنون: 40. [.....] (17) سورة الصافات: 103، 104. (18) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 132: وأولى الأقوال بالصواب قول ابن عباس وابن مسعود: من أنه معني بالظلم في هذا الموضع كل معصية لله وذلك أن الله عمّ بقوله وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ولم يخصص، فهو على عمومه.

[سورة الحج (22) : الآيات 26 إلى 29]

فإن قيل: هل يؤاخذ الإِنسان إِن أراد الظلم بمكة، ولم يفعله؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه إِذا همَّ بذلك في الحرم خاصَّة، عوقب، هذا مذهب ابن مسعود، فإنه قال: لو أن رجلاً همَّ بخطيئة، لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أن رجلاً همَّ بقتل مؤمن عند البيت، وهو ب «عَدَنِ أَبْيَن» ، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم. وقال الضحاك: إِن الرجل ليهمُّ بالخطيئة بمكة وهو بأرضٍ أخرى، فتكتب عليه ولم يعملها. وقال مجاهد: تضاعف السيئات بمكة، كما تضاعف الحسنات. وسئل الإِمام أحمد: هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال: لا، إِلا بمكة لتعظيم البلد. وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها وقد جاور جابر بن عبد الله، وكان ابن عمر يقيم بها «1» . والثاني: أن معنى: «ومن يرد» : من يعمل. قال أبو سليمان الدمشقي: هذا قول سائر من حفظنا عنه. [سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 29] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا قال ابن عباس: جعلنا. وقال مقاتل: دللناه عليه، وقال ثعلب: وإِنما أدخل اللام، على أنَّ «بوَّأْنا» في معنى: جعلنا، فيكون بمعنى «ردف لكم» «2» أي: ردفكم. وقد شرحنا كيفية بناء البيت في سورة البقرة «3» . قوله تعالى: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً المعنى: وأوحينا إِليه ذلك وَطَهِّرْ بَيْتِيَ حرَّك هذه الياء، نافع وحفص عن عاصم. وقد شرحنا الآية في البقرة «4» . وفي المراد ب «القائمين» قولان: أحدهما: القائمون في الصلاة، قاله عطاء، والجمهور. والثاني: المقيمون بمكة، حكي عن قتادة. قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قال المفسرون: لما فرغ إِبراهيم من بناء البيت، أمره الله تعالى أن يؤذِّن في الناس بالحج، فقال إِبراهيم: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن، وعليَّ البلاغ، فعلا على جبل أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس: إِن ربكم قد بنى بيتاً، فحجُّوه، فأسمع مَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله أن يحج، فأجابوه: لبيك اللهم لبيك. والأذان بمعنى النداء والإِعلام، والمأمور بهذا الأذان، إِبراهيم في قول الجمهور، إلّا ما روي عن الحسن أنه قال: المأمور به محمد صلى الله عليه وسلّم والناس ها هنا: اسم يعم جميع بني آدم عند الجمهور، إِلا ما روى العوفي عن ابن عباس أنه

_ (1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 5/ 464: قال أحمد: كيف لنا بالجوار بمكة! قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنك لأحب البقاع إلى الله عز وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» . وإنما كره الجوار بمكة لمن هاجر منها، وجابر بن عبد الله جاور بمكة، وجميع أهل البلاد ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر. أي لا بأس به. وكان ابن عمر يقيم بها. قال: والمقام بالمدينة أحب إلي من المقام بمكة لمن قوي عليه، لأنها مهاجر المسلمين. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا يصبر أحد على لأوائها وشدّتها إلا كنت له شفيعا يوم القيامة» . (2) سورة النمل: 72. (3) سورة البقرة: 129. (4) سورة البقرة: 125.

قال: عنى بالناس أهل القبلة. واعلم أن من أتى البيت الذي دعا إِليه إِبراهيم، فكأنه قد أتى إِبراهيم، لأنه أجاب نداءه. وواحد الرجال ها هنا: راجل، مثل صاحب، وصحاب، والمعنى: يأتوك مشاةً. وقد روي أن إِبراهيم وإِسماعيل حجّا ماشيين، وحج الحسن بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً من المدينة إِلى مكة، والنجائب تُقَاد معه. وحج الإِمام أحمد ماشياً مرتين أو ثلاثاً «1» . قوله تعالى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي: ركباناً على ضُمَّر من طول السفر. قال الفرّاء: «ويأتين» فعل للنوق. وقال الزجاج: «يأتين» على معنى الإِبل. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «يأتون» بالواو. قوله تعالى: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي: طريق بعيد. وقد ذكرنا تفسير الفجِّ عند قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً. قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا أي: ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: التجارة، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: منافع الآخرة، قاله سعيد بن المسيب، والزجاج في آخرين. والثالث: منافع الدارين جميعاً، قاله مجاهد. وهو أصح، لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإِنما الأصل قصدُ الحج والتجارة تَبَع. وفي الأيام المعلومات ستة أقوال «2» : أحدها: أنها أيام العشر، رواه مجاهد عن ابن عمر، وسعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة ومجاهد، وقتادة والشافعي. والثاني: تسعة أيام من العشر، قاله أبو موسى الأشعري. والثالث: يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، رواه نافع عن ابن عمر، ومقسم عن ابن عباس. والرابع: أنها أيام التشريق، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء الخراساني، والنخعي، والضحاك. والخامس: أنها خمسة أيام، أولها يوم التروية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والسادس: ثلاثة أيام، أولها يوم عرفة، قاله مالك بن أنس. وقيل: إِنما قال: «معلومات» ، ليحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحجّ في آخرها. قال الزّجّاج: والذّكر ها هنا يدل على التسمية على ما يُنحَر، لقوله تعالى: عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ قال القاضي أبو يعلى: ويحتمل أن يكون الذّكر المذكور ها هنا: هو الذِّكر على الهدايا الواجبة، كالدم الواجب لأجل التمتع والقران، ويحتمل أن يكون الذِّكر المفعول عند رمي الجمار وتكبير التشريق، لأن الآية عامّة في ذلك.

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 12/ 39: لا خلاف في جواز الركوب والمشي. واختلفوا في الأفضل منهما فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. (2) قال أبو جعفر رحمه الله في «تفسيره» 2/ 317: وصف الله جلّ ذكره «المعلومات» بأنها أيام يذكر اسم الله على بهائم الأنعام. فكان معلوما، إذ قال صلى الله عليه وسلّم لأيام التشريق إنها أيام أكل وشرب وذكر الله فأخرج قوله: «وذكر الله» مطلقا بغير شرط، ولا إضافة إلى أنه الذكر على بهائم الأنعام، أنه عنى بذلك الذكر الذي ذكره الله في كتابه، فأوجبه على عباده مطلقا بغير شرط، ولا إضافة إلى معنى في «الأيام المعدودات» . ويعني جل ذكره: اذكروا الله بالتوحيد والتعظيم في أيام محصيات، وهي أيام رمي الجمار. وإنما قلنا إن «الأيام المعدودات» هي أيام منى وأيام رمي الجمار، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان يقول فيها: إنها أيام ذكر الله عز وجل.

قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها يعني: الأنعام التي تُنحر وهذا أمر إِباحة. وكان أهل الجاهلية لا يستحلّون أكل ذبائحهم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن لذلك جائز «1» ، غير أن هذا إِنما يكون في الهدي المتطوَّع به، فأما دم التمتع والقران فعندنا أنه يجوز أن يأكل منه، وقال الشافعي: لا يجوز، وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قال: من كل الهدي يؤكل، إِلا ما كان من فداءٍ أو جزاءٍ أو نذر. فأما «البائس» فهو ذو البؤس، وهو شدة الفقر. قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: حلق الرأس، وأخذ الشارب، ونتف الإِبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والوقوف بعرفة، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: مناسك الحج، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر. والثالث: حلق الرأس، قاله مجاهد. والرابع: الشعر، والظفر، قاله عكرمة. والقول الأول أصح، لأن التفث: الوسخ، والقذارة: من طول الشعر والأظفار والشعث. وقضاؤه: نقضه، وإِذهابه، والحاج مغبَّر شعث لم يدَّهن، ولم يستحدَّ، فإذا قضى نسكه، وخرج من إِحرامه بالحلق، والقلم، وقص الأظفار، ولبس الثياب، ونحو ذلك، فهذا قضاء تفثه. قال الزجاج: وأهل اللغة لا يعرفون التفث إِلا من التفسير، وكأنه الخروج من الإِحرام إِلى الإِحلال. قوله تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وروى أبو بكر عن عاصم: «ولْيوفّوا» بتسكين اللام وتشديد الفاء. وقال ابن عباس: هو نحر ما نذروا من البُدن. وقال غيره: ما نذروا من أعمال البرِّ في أيام الحج، فإن الإِنسان ربما نذر أن يتصدّق إن رزقه رؤية الكعبة، وقد يكون عليه نذور مطلقة، فالأفضل أن يؤدِّيَها بمكة. قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ هذا هو الطواف الواجب، لأنه أُمر به بعد الذبح، والذبح إِنما يكون في يوم النحر، فدل على أنه الطواف المفروض. وفي تسمية البيت عتيقاً أربعة أقوال: أحدها: لأنّ الله تعال أعتقه من الجبابرة. (1007) روى عبد الله بن الزّبير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إِنما سمى الله البيت: العتيق، لأن الله

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 3170 والحاكم 2/ 389/ 3465 والطبري 25117 من حديث عبد الله بن الزبير. صححه الحاكم على شرط البخاري، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد روي عن الزهري مرسلا. ومرسل الزهري أخرجه الطبري 25118 والمرفوع المتصل ضعيف، لأن مداره على عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقع له مناكير بسبب جار له، كان يدس في كتبه. كما قال العلماء، راجع «الميزان» . وذكر ابن كثير الاختلاف فيه، فروي متصلا ومرسلا وموقوفا على ابن الزبير وموقوفا على مجاهد، فالحديث ضعيف، والأشبه أن يكون موقوفا، ولو صح ما اختلفوا في سبب تسميته والله أعلم. وانظر «تفسير القرطبي» 4418 بتخريجنا.

[سورة الحج (22) : الآيات 30 إلى 33]

أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبَّار قط» وهذا قول مجاهد، وقتادة. والثاني: أن معنى العتيق: القديم، قاله الحسن، وابن زيد. والثالث: لأنه لم يملك قط، قاله مجاهد في رواية، وسفيان بن عيينة. والرابع: لأنه أُعتق من الغرق زمان الطوفان، قاله ابن السائب، وقد تكلَّمنا في هذه السورة في «ليقضوا» «وليوفوا» «وليطوفوا» . [سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 33] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك، يعني: ما ذكر من أعمال الحج وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فيجتنب ما حرم الله عليه في الإِحرام تعظيماً لأمر الله. قال الليث: الحرمة: ما لا يحلُّ انتهاكه. وقال الزجاج: الحرمة: ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه. قوله تعالى: فَهُوَ يعني: التعظيم خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ في الآخرة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ وقد سبق بيانها «1» إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ تحريمه، يعني به: ما ذكر في سورة المائدة من المنخنقة وغيرها. وقيل: وأُحلت لكم الأنعام في حال إِحرامكم، إِلا ما يتلى عليكم في الصيد، فإنه حرام. قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ أي: دعوه جانباً، قال الزجاج: و «من» ها هنا، لتخليص جنس من الأجناس، المعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن. وقد شرحنا معنى الرجس في المائدة «2» . وفي المراد بقول الزور أربعة أقوال: أحدها: شهادة الزور، قال ابن مسعود. والثاني: الكذب، قاله مجاهد. والثالث: الشرك، قاله أبو مالك. والرابع: أنه قول المشركين في الأنعام: هذا حلال، وهذا حرام، قاله الزجاج، قال: وقوله تعالى: حُنَفاءَ لِلَّهِ منصوب على الحال، وتأويله: مسلمين لا يُنسَبون إِلى دين غير الإِسلام. ثم ضرب الله مثلاً للمشرك، فقال وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ إِلى قوله تعالى: سَحِيقٍ، والسحيق: البعيد. واختلفوا في قراءة «فتخطَفُه» فقرأ الجمهور: «فتخطَفُه» بسكون الخاء من غير تشديد الطاء. وقرأ نافع: بتشديد الطاء، وقرأ أبو المتوكّل، ومعاذ القارئ: بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء ونصب الفاء. وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني: بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء. وقرأ

_ (1) في سورة المائدة: 1. (2) سورة المائدة: 90.

[سورة الحج (22) : الآيات 34 إلى 35]

الحسن، والأعمش: بفتح التاء وكسر وتشديد الطاء ورفع الفاء. وكلُّهم فتح الطاء. وفي المراد بهذا المثَل قولان: أحدهما: أنه شبَّه المشرك بالله في بعده عن الهدى وهلاكه، بالذي يَخِرُّ من السماء، قاله قتادة. والثاني: أنه شبَّه حال المشرك في أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفع ضر يوم القيامة، بحال الهاوي من السماء، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذكرناه وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ قد شرحنا معنى الشعائر في البقرة «1» . وفي المراد بها ها هنا قولان: أحدهما: أنها البدن. وتعظيمها: استحسانها واستسمانها لَكُمْ فِيها مَنافِعُ قبل أن يُسمِّيَها صاحبها هدياً، أو يشعرها ويوجبها، فإذا فعل ذلك، لم يكن له من منافعها شيء، روى هذا المعنى مقسم عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضّحّاك. وقال عطاء بن أبي رباح: لكم في هذه الهدايا منافع بعد إِيجابها وتسميتها هدايا إِذا احتجتم إِلى شيء من ذلك أو اضطررتم إِلى شرب ألبانها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أن تُنحَر. والثاني: أن الشعائر: المناسك ومشاهد مكة والمعنى: لكم فيها منافع بالتجارة إِلى أجلٍ مسمَّى، وهو الخروج من مكة، رواه أبو رزين عن ابن عباس. وقيل: لكم فيها منافع من الأجر، والثواب في قضاء المناسك إِلى أجل مسمى، وهو انقضاء أيام الحج. قوله تعالى: فَإِنَّها يعني الأفعال المذكورة، من اجتناب الرجس وقول الزور، وتعظيم الشعائر. وقال الفراء: «فإنها» يعني الفعلة مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، وإِنما أضاف التقوى إِلى القلوب، لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب. قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها أي: حيث يَحِلُّ نحرها إِلَى الْبَيْتِ يعني: عند البيت، والمراد به: الحرم كلُّه «2» ، لأنا نعلم أنها لا تذبح عند البيت، ولا في المسجد، هذا على القول الاول، وعلى الثاني، يكون المعنى: ثم مَحِلّ الناس من إِحرامهم إِلى البيت، وهو أن يطوفوا به بعد قضاء المناسك. [سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 35] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قرأ حمزة، والكسائي، وبعض أصحاب أبي عمرو بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها: فمن أراد المصدر، من نَسَكَ يَنْسُكُ، ومن كسر أراد مكان النَّسْك كالمجلِس والمطلِع. ومعنى الآية: لكلِّ جماعة مؤمنة من الأمم السالفة جعلنا ذبح القرابين لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، وإِنما خص بهيمة الأنعام، لأنها المشروعة في القُرَب. والمراد من الآية: أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة، وأن التسمية عليها كانت مشروعة قبل هذه الأمة. قوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ: لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم سواه فَلَهُ أَسْلِمُوا أي: انقادوا واخضعوا. وقد ذكرنا معنى الإخبات في سورة هود «3» . وكذلك ألفاظ الآية التي تلي هذه.

_ (1) سورة البقرة: 158. (2) تقدم الكلام عن محل الذبح في سورة المائدة. (3) سورة هود: 23. [.....]

[سورة الحج (22) : الآيات 36 إلى 37]

[سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) قوله تعالى: وَالْبُدْنَ وقرأ الحسن، وابن يعمر برفع الدال. قال الفراء: يقال: بُدْن وبُدُن، والتخفيف أجود وأكثر، لأن كل جمع كان واحده على «فَعَلة» ثم ضُمَّ أول جمعه، خُفِّف، مثل: أَكَمَة وأُكْم، وأَجَمَة وأُجْم، وخَشَبَة وخشب. وقال الزجاج: «البُدْنَ» منصوبة بفعل مُضمر يفسره الذي ظهر، والمعنى: وجعلنا البُدْنَ وإِن شئتَ رفعتها على الإِستئناف، والنصب أحسن ويقال: بُدْن وبُدُن وبَدَنة، مثل قولك: ثُمْر وثُمُر وَثَمرة وإِنما سمِّيت بَدَنَة، لأنها تَبْدُن، أي: تسمن. وللمفسرين في البُدْن قولان: أحدهما: أنها الإِبل والبقر، قاله عطاء. والثاني: الإِبل خاصة، حكاه الزجاج، وقال: الأول قول أكثر فقهاء الأمصار. قال القاضي أبو يعلى: البدنة: اسم يختص الإِبل في اللغة، والبقرة تقوم مقامها في الحكم. (1008) لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. قوله تعالى: جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي: جعلنا لكم فيها عبادة لله، من سَوْقها إِلى البيت، وتقليدها، وإِشعارها «1» ، ونحرها، والإِطعام منها، لَكُمْ فِيها خَيْرٌ وهو النفع في الدنيا والأجر في الآخرة، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أي: على نحرها، صَوافَّ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة: «صَوافن» بالنون. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو العالية، والضحاك، وابن يعمر: «صوافي» بالياء. وقال الزجاج: «صَوافَّ» منصوبة على الحال، ولكنها لا تنوَّن لأنها لا تنصرف أي: قد صفَّت قوائمها «2» ، والمعنى: اذكروا اسم الله عليها في حال نحرها «3» والبعير يُنحَر قائماً، وهذه الآية تدلّ

_ صحيح. أخرجه مسلم 1318 ح 350 وأبو داود 2809 والترمذي 904 وابن ماجة 3132 والبغوي 1130 وابن حبان 4006 والبيهقي 5/ 168- 169 و 216 و 234 و 9/ 294 من حديث جابر أنه قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحديبية البقرة عن سبعة، والبدنة عن سبعة. لفظ مسلم.

على ذلك. ومن قرأ: «صوافن» فالصافن: التي تقوم على ثلاث، والبعير إِذا أرادوا نحره، تُعقل إِحدى يديه، فهو الصافن، والجميع: صوافن. هذا ومن قرأ: «صوافيَ» بالياء وبالفتح بغير تنوين، فتفسيره: خوالص، أي: خالصة لله لا تشركوا به في التسمية على نحرها أحداً. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي: إِذا سقطت إِلى الأرض، يقال: وَجَبَ الحائط وَجْبَة، إِذا سقط. ووَجَبَ القلب وَجِيباً: إِذا تحرك من فزع. واعلم أن نحرها قياماً سُنَّة، والمراد بوقوعها على جُنوبها: موتها، والأمر بالأكل منها أمر إِباحة، وهذا في الأضاحي. قوله تعالى: وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ وقرأ الحسن: «والمُعْتَرِ» بكسر الراء خفيفة. وفيهما ستة أقوال «1» : أحدها: أن القانع: الذي يسأل، والمعترّ السّائل الذي يتعرَّض ولا يسأل، رواه بكر بن عبد الله

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 159: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال عني بالقانع: السائل، لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال، والمعتر من الاعترار وهو الذي يتعرض لأكل اللحم، فيأتيك معترا بك لتعطيه وتطعمه. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 280.

[سورة الحج (22) : الآيات 38 إلى 41]

عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، واختاره الفراء. والثاني: أن القانع، المتعفّف، والمعترّ: السائل، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والنخعي. وعن الحسن كالقولين. والثالث: أن القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته والمعترّ: الذي يتعرَّض لك ويُلِمُّ بك ولا يسأل، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: القانع: جارك الذي يقنع بما أعطيته، والمعترّ: الذي يتعرَّض ولا يسأل، وهذا مذهب القرظي. فعلى هذا يكون معنى القانع: أن يقنع بما أُعطي. ومن قال: هو المتعفف، قال: هو القانع بما عنده. والرابع: القانع: أهل مكة، والمعترّ: الذي يعترُّ بهم من غير أهل مكة، رواه خصيف عن مجاهد. والخامس: القانع: الجار وإِن كان غنيّاً، والمعترّ الذي يعترُّ بك، رواه ليث عن مجاهد. والسادس: القانع: المسكين السائل، والمعترّ: الصَّديق الزائر، قاله زيد بن أسلم. قال ابن قتيبة: يقال: قَنَع يَقْنَع قُنوعاً: إِذا سأل، وقَنِع يَقْنَع قَنَاعة: إِذا رضي، ويقال في المعتر: اعترَّني واعتراني وعَرَاني. وقال الزجاج: مذهب أهل اللغة أن القانع: السائل، يقال: قَنَع يَقْنَع قُنُوعاً: إِذا سأل، فهو قانع، قال الشماخ. لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفاقِرَهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوع «1» أي: من السؤال ويقال: قَنِعَ قَنَاعة: إِذا رضي، فهو قَنِع، والمعترُّ والمعتري واحد. قوله تعالى: كَذلِكَ أي: مثل ما وصفنا من نحرها قائمة سَخَّرْناها لَكُمْ نِعمة مِنّا عليكم لتتمكَّنوا من نحرها على الوجه المسنون لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: لكي تَشْكُروا. قوله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وقرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «لن تنال اللهَ لحومُها» بالتاء «ولكن تنالُه التقوى» بالتاء أيضاً. سبب نزولها أن المشركين كانوا إِذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء ينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس «2» . قال المفسرون: ومعنى الآية: لن تُرفع إِلى الله لحومُها ولا دماؤها، وإِنما يُرفع إِليه التقوى وهو ما أُرِيدَ به وجهُه منكم، فمن قرأ «تناله» بالتاء فإنه أنث للفظ التقوى ومن قرأ «يناله» بالياء، فلأن التقوى والتُّقى واحد. والإِشارة بهذه الآية إِلى أنه لا يقبل اللحوم والدِّماء إِذا لم تكن صادرة عن تقوى الله، وإِنما يتقبل ما يتقونه به، وهذا تنبيه على امتناع قبول الأعمال إِذا عريت عن نيَّةٍ صحيحة. قوله تعالى: كَذلِكَ سَخَّرَها قد سبق تفسيره لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي: على ما بيَّن لكم وأرشدكم إِلى معالم دينه ومناسك حجّه، فذلك أن تقول: الله أكبر على ما هدانا، وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: يعني: الموحّدين. [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

_ (1) في «اللسان» مفاقره: أي وجوه فقره، ويقال: سد الله مفاقره أي أغناه وسدّ وجوه فقره. (2) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح الكلبيّ، وهو كذاب. وأخرجه ابن المنذر وابن مردويه كما في «الدر» 4/ 654 عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح.

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يدفع» «ولولا دفع الله» بغير ألف وهذا على مصدر «دَفَع» وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «إِن الله يدافع» بألف «ولولا دفع» بغير ألف، وهذا على مصدر «دافعَ» والمعنى: يدفع عن الذين آمنوا غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم. قال الزجاج: والمعنى: إِذا فعلتم هذا وخالفتم الجاهلية فيما يفعلونه من نحرهم وإِشراكهم، فإن الله يدفع عن حزبه، وال «خَوَّان» فَعّال من الخيانة، والمعنى: أنَّ مَنْ ذكر غير اسم الله، وتقرَّب إِلى الأصنام بذبيحته، فهو خوَّان. قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «أَذِنَ» بفتح الألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص عن عاصم: «أُذِنَ» بضمها. قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر التاء. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بفتحها. (1009) قال ابن عباس: كان مشركو أهل مكّة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيقول لهم: «اصبروا، فإني لم أُومر بالقتال» حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأنزل الله هذه الآية، وهي أول آية أنزلت

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 621 وفي الوسيط 3/ 273 نقلا عن المفسرين. ولم أره مرفوعا صريحا. وقال الحافظ في «تخريجه» 3/ 160: لم أجده هكذا، وعزاه الواحدي في الوسيط للمفسرين اه. فالمراد بقول ابن حجر: «لم أجده هكذا» أي مسندا. وقد ورد نحوه من مرسل قتادة أخرجه الطبري 25261. وورد نحوه من مرسل مقاتل بن حيان أخرجه ابن أبي حاتم كما قال الحافظ في «تخريجه» 3/ 160، فهذه الروايات واهية لا يحتج بشيء منها، والصواب أن الآية مدنية. والحديث الصحيح يؤيد ذلك. وهو ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الآية فقال أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون قتال. أخرجه الترمذي 3171 والنسائي في «السنن» 6/ 52 و «التفسير» 365 وأحمد 1/ 216 والحاكم 2/ 66- 946- 390 والطبري 25254 و 25255 والطبراني 17/ 123 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 294 من طرق عن الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به، وهذا إسناد على شرط البخاري ومسلم. وأخرجه الطبري 25256 من طريق قيس بن الربيع عن الأعمش به. وأخرجه الحاكم 3/ 7 من طريق شعبة عن الأعمش به. فهذه ثلاث طرق عن الأعمش فيها وصل الخبر. وورد مرسلا، أخرجه الترمذي 3172 والطبري 25253 عن الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير، وهذا مرسل، لكن القول قول من وصله لأنه زيادة جماعة الثقات. والموصول صححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي. وله شواهد مراسيل تعضده. فقد أخرجه الطبري 25259 و 25260 عن مجاهد مرسلا. وورد من مرسل قتادة، أخرجه برقم 25262، فهذه الروايات تشهد لأصل الموصول المتقدم. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 1679 و «أحكام القرآن» لابن العربي 1513.

في القتال. وقال مجاهد: هم ناس خرجوا من مكة مهاجرين، فأدركهم كفار قريش، فأُذن لهم في قتالهم. قال الزجاج: معنى الآية: أُذن للذين يقاتَلون أن يقاتِلوا. بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي: بسبب ما ظُلموا. ثم وعدهم النصر بقوله: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ولا يجوز أن تقرأ بفتح «إِن» هذه من غير خلاف بين أهل اللغة، لأن «إِنَّ» إِذا كانت معها اللام، لم تُفتح أبداً، وقوله: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ معناه: أُخرِجوا لتوحيدهم. قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ قد فسّرناه في سورة البقرة «1» . قوله تعالى: لَهُدِّمَتْ قرأ ابن كثير، ونافع: «لَهُدِمَتْ» خفيفة، والباقون بتشديد الدال. فأما الصوامع، ففيها قولان «2» : أحدهما: أنها صوامع الرهبان، قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وابن زيد. والثاني: أنها صوامع الصابئين، قاله قتادة، وابن قتيبة. فأما البِيَع، فهي جمع بِيعة، وهي بِيَع النصارى. وفي المراد بالصلوات قولان: أحدهما: مواضع الصلوات. ثم فيها قولان: أحدهما: أنها كنائس اليهود، قاله قتادة، والضحاك، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: قوله تعالى: وَصَلَواتٌ هي كنائس اليهود، وهي بالعبرانية «صلوثا» . والثاني: أنها مساجد الصابئين، قاله أبو العالية. والقول الثاني: أنها الصلوات حقيقة، والمعنى: لولا دفع الله عن المسلمين بالمجاهدين لانقطعت الصلوات في المساجد، قاله ابن زيد. فأما المساجد، فقال ابن عباس: هي مساجد المسلمين. وقال الزجاج: معنى الآية: لولا دفع بعض الناس ببعض لهدّمت في زمان موسى الكنائس، وفي زمان عيسى الصّوامع والبيع، وفي زمان محمّد المساجد. وفي قوله تعالى: يُذْكَرُ فِيهَا قولان: أحدهما: أن الكناية ترجع إِلى جميع الأماكن المذكورات، قاله الضحاك. والثاني: إِلى المساجد خاصة، لأن جميع المواضع المذكورة، الغالب فيها الشِّرك، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي: من ينصر دينه وشرعه. قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ قال الزجاج: هذه صفة ناصِرِيه. قال المفسّرون: التّمكين في الأرض: نصرهم على عدوّهم، والمعروف: لا إِله إِلا الله، والمنكر: الشِّرك. قال الأكثرون: وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال القرظي: هم الولاة. قوله تعالى: وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي: إِليه مرجعها، لأن كلَّ ملك يبطل سوى ملكه.

_ (1) سورة البقرة: 25. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 166: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: معنى ذلك: لهدمت صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وصلوات اليهود وهي كنائسهم ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا. لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 284 وقال: وقال بعض العلماء: هذا ترق من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد، وهي أكثر عمّارا وأكثر عبّادا، وهم ذوو القصد الصحيح.

[سورة الحج (22) : الآيات 42 إلى 45]

[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 45] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) قوله تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي: بالعذاب فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أثبت الياء في «نكير» يعقوب في الحالَيْن، ووافقه ورش في إِثباتها في الوصل، والمعنى: كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالإِهلاك؟! والمعنى: إِني أنكرتُ عليهم أبلغ إِنكار، وهذا استفهام معناه التقرير. قوله تعالى: أَهْلَكْناها قرأ أبو عمرو: «أهلكتُها» بالتاء، والباقون: «أهلكناها» بالنون. قوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عمر، وحمزة، والكسائي: «وبئر» مهموز، وروى ورش عن نافع بغير همز، والمعنى: وكم بئرٍ معطَّلة، أي: متروكة «1» وَقَصْرٍ مَشِيدٍ فيه قولان: أحدهما: مجصَّص، قاله ابن عباس وعكرمة. قال الزجاج: أصل الشِّيد الجصُّ والنُّورة، وكل ما بني بهما أو بأحدهما فهو مَشِيد. والثاني: طويل، قاله الضحاك ومقاتل. وفي الكلام إِضمار، تقديره: وقصر مشيد معطَّل أيضاً ليس فيه ساكن. [سورة الحج (22) : الآيات 46 الى 48] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا قال المفسرون: أفلم يَسِر قومك في أرض اليمن والشام فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها إِذا نظروا آثار من هلك أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أخبار الأمم المكذّبة فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ قال الفراء: الهاء في قوله: «فإنها» عماد، والمعنى: أن أبصارهم لم تعم، وإِنما عميت قلوبهم «2» . فأمّا قوله تعالى: الَّتِي فِي الصُّدُورِ فهو توكيد، لأن القلب لا يكون إِلا في الصدر، ومثله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «3» يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «4» ، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ «5» . قوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 286: وقوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي: لا يستقى منها، ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها. وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قيل المنيف المرتفع وقيل الشديد المنيع الحصين وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها، فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه، ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله به، كما قال تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، النساء: 78. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 286: «وقال ابن أبي الدنيا: قال بعض الحكماء: أحي قلبك بالمواعظ، ونوره بالفكر، وموّته بالزهد، وقوّه باليقين وذلّله بالموت وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر، وفحش تقلب الأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسر في ديارهم وآثارهم وانظر ما فعلوا، وأين حلوا وعمّ انقلبوا» . وقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر. (3) سورة البقرة: 196. (4) سورة الأنعام: 38. (5) سورة آل عمران: 167.

[سورة الحج (22) : الآيات 49 إلى 51]

قال مقاتل: نزلت في النَّضْر بن الحارث القرشي. وقال غيره: هو قولهم له: مَتى هذَا الْوَعْدُ «1» ونحوه من استعجالهم، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ في إِنزال العذاب بهم في الدنيا، فأنزله بهم يوم بدر، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ أي: من أيام الآخرة كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ من أيام الدنيا، قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تَعُدُّون» بالتاء. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: «يَعُدُّون» بالياء. فإن قيل: كيف انصرف الكلام من ذِكْر العذاب إِلى قوله: «وإِن يوماً عند ربِّك» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا، فقيل لهم: لن يخلف الله وعده في إِنزال العذاب بكم في الدنيا. وإِن يوماً من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سنيِّ الدنيا، فكيف تستعجلون بالعذاب؟! فقد تضمنت الآية وعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، هذا قول الفراء. والثاني: وإِن يوماً عند الله وألف سنة سواء في قدرته على عذابهم، فلا فرق بين وقوع ما يستعجلونه وبين تأخيره في القدرة، إِلا أن الله تفضَّل عليهم بالإمهال، هذا قول الزّجّاج. [سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) قوله تعالى: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني به الرزق الحَسَن في الجنة. قوله تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي: عملوا في إِبطالها مُعاجِزِينَ قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «مُعجِزين» بغير ألف. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «مُعاجِزين» بألف قال الزجاج: «مُعاجِزين» أي: ظانِّين أنهم يُعجزوننا، لأنهم ظنوا أنهم لا يُبعثون وأنه لا جنة ولا نار. قال: وقيل في التفسير: مُعاجِزين: معانِدين، وليس هو بخارج عن القول الأول و «معجزين» تأويلها: أنهم كانوا يعجزون من اتّبع النبيّ صلى الله عليه وسلّم ويثبّطونهم عنه. [سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 55] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الآية. (1010) قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه سورة النجم قرأها حتى

_ موضوع مفترى. بأسانيد واهية. ورد عن محمد بن كعب القرظي، أخرجه الطبري 25328 وله علل ثلاث: الأولى الإرسال، والثانية عنعنة ابن إسحاق، والثالثة فيه يزيد بن زياد المدني، قال البخاري: لا يتابع على حديثه. وكرره الطبري 25327 من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب ومحمد بن قيس معا. وهذا مرسل-

_ أيضا، وأبو معشر اسمه نجيح ضعفه النسائي والدارقطني، وقال البخاري: منكر الحديث، وضعفه يحيى بن سعيد جدا. وورد من مرسل أبي العالية، أخرجه الطبري 25330. وورد من مرسل سعيد بن جبير، أخرجه الطبري 25331 و 25332. وورد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 25334. وورد من مرسل عروة بن الزبير، أخرجه الطبراني 5078، ومع إرساله فيه ابن لهيعة. قال الهيثمي في «المجمع» 11186: فيه ابن لهيعة، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة اه. أي لنكارة المتن الذي ساقه، فإن فيه رجوع بعض من هاجر إلى الحبشة إلى المدينة بسبب هذا الخبر. - وورد عن ابن عباس من طرق ثلاث: الأول: أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبى صالح عنه. وهذا إسناد ساقط مصنوع، فقد روى الكلبي وأبو صالح عن ابن عباس تفسيرا موضوعا، وقد أقرّا بالوضع والكذب على ابن عباس. الثاني: أخرجه الطبري 25333 بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي، وهو ضعيف عن ابن عباس، فهذا إسناد ساقط لا يفرح به. الثالث: أخرجه البزار 2263 «كشف» والضياء في «المختارة» 1- 2/ 120 والطبراني 12450 وفيه أمية بن خالد، وهو وإن وثقه غير واحد، فقد نقل الذهبي في «الميزان» 1029 عن أحمد أنه لم يحمده، وذكره العقيلي في «الضعفاء» اه. وقد روى هذا الحديث غير واحد عن ابن جبير ليس فيه ذكر ابن عباس، وللحديث علة أخرى، وهي ما قاله البزار حيث قال عقبه: لا نعلمه يروى بإسناد متصل يجوز ذكره إلا بهذا الإسناد، وأمية بن خالد ثقة مشهور، وإنما يعرف هذا من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس اه. والكلبي متروك متهم، وأبو صالح ساقط، ولم يدرك ابن عباس، فلم يصح هذا الطريق عن ابن عباس أيضا، وعامة روايات هذا الخبر مراسيل لا يحتج بها، والظاهر أن بعضهم أخذه من بعض لغرابته، فحدثوا به واشتهر، وهو خبر باطل مصنوع، ولو صح لرواه واحد من أصحاب الكتب المعتبرة، والمسانيد المشتهرة، ولكن كل ذلك لم يكن وقد اضطربوا في ألفاظه اضطرابا كبيرا، وزادوا فيه ونقصوا، وكل ذلك دليل على بطلانه. وقد ذهب الحافظ ابن حجر في تخريج «الكشاف» 3/ 164- 165 إلى تقوية هذا الحديث، وكذا السيوطي في «الدر» 4/ 661، وليس كما قالا، وقد خالفهما أئمة ثقات أثبات في ذلك. وإليك بيانه: قال الإمام أبو حيان في «البحر» 6/ 352: سئل ابن إسحاق- جامع السيرة النبوية- عن هذه القصة، فقال: هذا من وضع الزنادقة، وصنف في ذلك كتابا. وقال الإمام البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ورواتها مطعون عليهم، وليس في الصحاح ولا التصانيف الحديثية شيء مما ذكروه، فوجب اطّراحه، ولذا نزهت كتابي عن ذكره فيه. اه ملخصا. وقال الحافظ ابن كثير 3/ 288: وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وقال العلامة الآلوسي في «روح البيان» 17/ 182 ما ملخصه: قال أبو منصور الماتريدي: هذا الخبر من إيحاء الشيطان إلى أوليائه الزنادقة، والرسالة بريئة من هذه الرواية. وقال القاضي عياض: يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواة ثقة يسند سليم متصل. وقال العلامة الآلوسي: ويكفي في ردها قول الله تعالى في وصف القرآن لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ اه. وقال الإمام الشوكاني في «فتح القدير» 3/ 546: قال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة. وقال القاضي عياض في «الشفا» : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا. وقد جمع الألباني رسالة في ذلك وسماها «نصب المجانيق في نسف قصة الغرانيق» .

بلغ قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1» فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإِن شفاعتهن لترتجى فلما سمعت قريش بذلك فرحوا، فأتاه جبريل، فقال: ماذا صنعتَ؟ تلوتَ على الناس ما لم آتِكَ به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حزناً شديداً، فنزلت هذه الآية تطييباً لقلبه، وإِعلاماً له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا. قال العلماء المحققون: وهذا لا يصحّ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم معصوم عن مثل هذا، ولو صح، كان المعنى أن بعض شياطين الإِنس قال تلك الكلمات «2» ، فإنهم كانوا إِذا تلا لغطوا، كما قال الله عزّ وجلّ: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «3» . قال: وفي معنى «تمنّى» قولان «4» :

_ وانظر «فتح القدير» 1681 و «أحكام القرآن» 1517 وابن كثير عند هذه الآية. أخيرا: أورد لك الوجه الصحيح في قصة سورة النجم، والسجود فيها. وقد ورد في ذلك حديثان الأول حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سجد في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. وهذا ثابت عن ابن عباس، أخرجه البخاري 1071 و 4862 والترمذي 575 وابن حبان 2763 والدارقطني 1/ 409. وحديث ابن مسعود، أخرجه البخاري 1067 و 1070 و 3853 و 3972 ومسلم 576 وأبو داود 1406 والنسائي 2/ 160 والدارمي 1/ 342 وابن حبان 2764 وحديث ابن مسعود أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ سورة النجم فسجد فما بقي أحد من القوم إلا سجد إلا رجل واحد أخذ كفا من حصى، فوضعه على جبهته، وقال: يكفيني. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. فالوارد الصحيح عن ابن عباس هو المتقدم عنه لا ما رواه عنه الضعفاء والهلكى من ذكر الغرانيق ... هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فالصحيح في هذا المقام هو الوارد عن ابن مسعود فإنه قد أدرك الحادثة وهي مكية، بخلاف ابن عباس، فإنه ما حضرها ولا أدركها، فالصحيح في هذا ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أحد السابقين الأعلام، وأما ما رواه جماعة من التابعين، فإنما تلقّاه بعضهم عن بعض واشتهر بسبب غرابته، وكان الأصلح لهؤلاء رحمهم الله أن يأخذوا ذلك عن ابن مسعود، فتنبه والله الموفق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

أحدهما: تلا، قاله الأكثرون، وأنشدوا: تمنَّى كتابَ اللهِ أوّل ليلهِ ... وآخرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ وقال آخر: تمنَّى كتابَ الله آخرَ ليلِه ... تمنِّيَ داودَ الزبورَ على رِسْلِ والثاني: أنه من الأمنية، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم تمنى يوماً أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه به قومُه، فألقى الشيطان على لسانه لِما كان قد تمناه، قاله محمد بن كعب القرظي. قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي: يُبطله ويُذهبه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ قال مقاتل: يُحْكِمُها من الباطل. قوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللام متعلقة بقوله: أَلْقَى الشَّيْطانُ، والفتنة ها هنا بمعنى البلية والمحنة. والمرضُ: الشك والنفاق. وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ يعني: الجافية عن الإِيمان. ثم أعلمه أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم، والشقاق: غاية العداوة. قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهو التوحيد والقرآن، وهم المؤمنون. وقال السدي: التصديق بنسخ الله. قوله تعالى: أَنَّهُ الْحَقُّ إِشارة إِلى نسخ ما يلقي الشيطان فالمعنى: ليعلموا أن نسخ ذلك وإِبطاله حق من الله فَيُؤْمِنُوا بالنسخ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي: تخضع وتَذِلّ. ثم بيَّن بباقي الآية أن هذا الإِيمان والإِخبات إِنما هو بلطف الله وهدايته.. قوله تعالى: فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي: في شكّ. وفي هاء «منه» أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها ترجع إِلى قوله: تلك الغرانيق العلى. والثاني: أنها ترجع إِلى سجوده في سورة النجم. والقولان عن سعيد بن جبير، فيكون المعنى: إِنهم يقولون: ما بالُه ذكر آلهتنا ثم رجع عن ذكرها؟! والثالث: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله ابن جريج. والرابع: أنها ترجع إِلى الدِّين، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وفيها قولان: أحدهما: القيامة تأتي مَنْ تقوم عليه من المشركين، قاله الحسن. والثاني: ساعة موتهم، ذكره الواحدي. قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ فيه قولان «2» : أحدهما: أنه يوم بدر، روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي. والثاني: أنه يوم القيامة، قاله عكرمة، والضحاك. وأصل العقم في الولادة، يقال: امرأة عقيم لا تلد، ورجل عقيم لا يولد له وأنشدوا: عُقْمِ النِّساءُ فلا يَلِدْنَ شَبْيَهه ... إِن النِّساءَ بمثْلِه عقم

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 180: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أقرب منه من ذكر قوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ والهاء في قوله أنه من ذكر القرآن، فإلحاق الهاء في قوله فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ بالهاء من قوله أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أولى من إلحاقها بما التي في قوله ما يُلْقِي الشَّيْطانُ مع بعد ما بينهما. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 181: والقول الأول: أنه يوم بدر أولى بتأويل الآية، لأنه لا وجه لأن يقال: لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو تأتيهم الساعة، وذلك أن الساعة هي يوم القيامة، فإن كان اليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة، فإنما معناه تكرير الساعة مرتين، باختلاف الألفاظ، وذلك لا معنى له فأولى التأولين أصحهما معنى، وهو ما ذكرنا. فتأويل الكلام: أو يأتيهم عذاب يوم عقيم لهم، فلا ينظر وافيه إلى الليل، ولا يؤخروا فيه إلى المساء لكنهم يقتلون قبل المساء.

[سورة الحج (22) : الآيات 56 إلى 59]

وسميت الريح العقيم بهذا الاسم، لأنها لا تأتي بالسحاب الممطر، فقيل لهذا اليوم: عقيم، لأنه لم يأت بخير. فعلى قول من قال: هو يوم بدر في تسميته بالعقيم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لم يكن فيه للكفار بركة ولا خير، قاله الضحاك. والثاني: لأنهم لم يُنْظَروا فيه إِلى الليل، بل قُتلوا قبل المساء، قاله ابن جريج. والثالث: لأنه لا مثْل له في عِظَم أمره، لقتال الملائكة فيه، قاله يحيى بن سلام. وعلى قول من قال: هو يوم القيامة، في تسميته بذلك قولان: أحدهما: لأنه لا ليلة له، قاله عكرمة. والثاني: لأنه لا يأتي المشركين بخير ولا فرج، ذكره بعض المفسّرين. [سورة الحج (22) : الآيات 56 الى 59] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة لِلَّهِ من غير منازع ولا مدَّع يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي: بين المسلمين والمشركين وحكمه بينهم بما ذكره في تمام الآية وما بعدها. ثم ذكر فضل المهاجرين فقال: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: من مكة إِلى المدينة. وفي الرزق الحسن قولان: أحدهما: أنه الحلال، قاله ابن عباس. والثاني: رزق الجنة، قاله السّدّيّ. قوله تعالى: ثُمَّ قُتِلُوا وقرأ ابن عامر: «قُتِّلوا» بالتشديد قوله تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا وقرأ نافع بفتح الميم برضوانه يعني: الجنة. والمدخل يجوز أن يكون مصدرا، فيكون المعنى: ليدخلنهم إدخالاً يكرمون به فيرضونه ويجوز أن يكون بمعنى المكان. و «مَدخلاً» بفتح الميم على تقدير: فيدخلون مدخلاً. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بنيّاتهم حَلِيمٌ عنهم. [سورة الحج (22) : الآيات 60 الى 62] ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: المعنى: الأَمْرُ ذلك، أي: الأمر ما قصصنا عليكم وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ والعقوبة: الجزاء والأول ليس بعقوبة، ولكنه سمي عقوبةً، لاستواء الفعلين في جنس المكروه، كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» لما كانت المجازاة إِساءة بالمفعول به سمِّيت سيّئة، ومثله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «2» قاله الحسن، ومعنى الآية: من قاتل المشركين كما قاتلوه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي: ظُلم باخراجه عن منزله. وزعم مقاتل أن سبب نزول هذه الآية أن مشركي مكة لقوا المسلمين لليلةٍ بقيت من المحرَّم، فقاتلوهم، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام، فأبوا إلّا القتال،

_ (1) سورة الشورى: 40. (2) سورة البقرة: 15.

[سورة الحج (22) : الآيات 63 إلى 64]

فثبت المسلمون، ونصرهم الله على المشركين، ووقع في نفوس المسلمين من القتال في الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، وقال: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ عنهم غَفُورٌ لقتالهم في الشهر الحرام «1» . قوله تعالى: ذلِكَ أي: ذلك النصر بِأَنَّ اللَّهَ القادر على ما يشاء، فمن قُدرته أنه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لدعاء المؤمنين بَصِيرٌ بهم حيث جعل فيهم الإِيمان والتقوى، ذلِكَ الذي فعل من نصر المؤمنين بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي: هو الإِله الحق وَأَنَّ ما يَدْعُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «يدعون» بالياء. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بالتاء، والمعنى: وأنَّ ما يعبدون مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ. [سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 64] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً بالنبات. وحكى الزجاج عن الخليل أنه قال: معنى الكلام التنبيه، كأنه قال: أتسمع، أنزل الله من السماء ماءً فكان كذا وكذا. وقال ثعلب: معنى الآية عند الفراء خبر، كأنه قال: اعلم أن الله ينزِّل من السماء ماءً فتصبح، ولو كان استفهاماً والفاء شرطاً لنصبه. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي: باستخراج النبات من الأرض رزقاً لعباده خَبِيرٌ بما في قلوبهم عند تأخير المطر. وقد سبق معنى الغني الحميد في سورة البقرة «2» . [سورة الحج (22) : الآيات 65 الى 66] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ يريد البهائم التي تركب وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ قال الزجاج: كراهة أن تقع. وقال غيره: لئلّا تقع إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فيما سخَّر لهم وفيما حبس عنهم من وقوع السماء عليهم. وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم نطفاً ميتة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث والحساب إِنَّ الْإِنْسانَ يعني: المشرك لَكَفُورٌ لِنعَم الله إِذ لم يوحده. [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 70] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)

_ (1) واه بمرة. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 4/ 665 عن مقاتل مرسلا. ومقاتل واه. (2) سورة البقرة: 267.

فصل:

قوله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قد سبق بيانه في هذه السّورة فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي: في الذبائح، وذلك أن كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أمر الذبيحة، فقالوا: كيف تأكلون ما قتَلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟! يعنون: الميتة. فإن قيل: إِذا كانوا هم المنازعين له، فكيف قيل: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ؟ فقد أجاب عنه الزجاج، فقال: المراد: النهي له عن منازعتهم، فالمعنى: لا تنازعنَّهم، كما تقول للرجل: لا يخاصمنَّك فلان في هذا أبداً، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إِلا من اثنين، لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إِلا باثنين، فإذا قلت: لا يجادلنَّك فلان، فهو بمنزلة: لا تجادلنَّه، ولا يجوز هذا في قولك: لا يضربنَّك فلان وأنت تريد: لا تضربنَّه، ولكن لو قلت: لا يضاربنَّك فلان، لكان كقولك: لا تضاربنَّ، ويدل على هذا الجواب قوله: وَإِنْ جادَلُوكَ. قوله تعالى: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي: إِلى دينه والإِيمان به. و «جادلوك» بمعنى: خاصموك في أمر الذبائح، فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من التكذيب، فهو يجازيكم به. اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: يقضي بينكم فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الدِّين، أي: تذهبون إِلى خلاف ما ذهب إِليه المؤمنون وهذا أدب حسن علَّمه الله عباده ليردُّوا به مَن جادل على سبيل التعنُّت، ولا يجيبوه، ولا يناظروه. فصل: قال أكثر المفسرين: هذا نزل قبل الأمر بالقتال، ثم نُسِخ بآية السيف. وقال بعضهم: هذا نزل في حق المنافقين، كانت تظهر من أقوالهم وأفعالهم فلَتات تدل على شركهم، ثم يجادِلون على ذلك، فوكل أمرهم إِلى الله تعالى، فالآية على هذا محكمة. قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ هذا استفهام يراد به التقرير والمعنى قد علمتَ ذلك إِنَّ ذلِكَ يعني ما يجري في السموات والأرض فِي كِتابٍ يعني: اللوح المحفوظ، إِنَّ ذلِكَ أي: عِلْم الله بجميع ذلك عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل لا يتعذَّر عليه العلم به. [سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 72] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ يعني: كفار مكة ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي: حُجة وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أنه إِله، وَما لِلظَّالِمِينَ، يعني: المشركين مِنْ نَصِيرٍ أي: مانع من العذاب. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا يعني القرآن والمنكر ها هنا بمعنى الإِنكار، فالمعنى: أثر الإِنكار من الكراهة، وتعبيسُ الوجوه، معروف عندهم. يَكادُونَ يَسْطُونَ أي: يبطشون ويُوقِعون بمن يتلو عليهم القرآن من شدَّة الغيظ، يقال: سطا عليه، وسطا به: إِذا تناوله بالعنف والشدة. قُلْ لهم يا محمد: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ أي: بأشدَّ عليكم وأكره إِليكم من سماع القرآن، ثم ذكر ذلك فقال: النَّارُ أي: هو النار. [سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 74] يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)

[سورة الحج (22) : الآيات 75 إلى 76]

قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ قال الأخفش: إِن قيل: أين المَثَل؟ فالجواب: أنه ليس ها هنا مثَل، وإِنما المعنى: يا أيها الناس ضُرب مَثَل، أي: شبّهت بي الأوثان فَاسْتَمِعُوا لهذا المثل. وتأويل الآية: جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي فاستمِعوا حالها ثم بيَّن ذلك بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ أي: تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ، وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وابن أبي عبلة: «يدعون» بالياء المفتوحة. وقرأ ابن السميفع، وأبو رجاء وعاصم الجحدري: «يُدْعون» بضم الياء وفتح العين، يعني: الأصنام، لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً والذباب واحد، والجمع القليل: أذِبَّة، والكثير: الذّبّان، مثل: غُراب وأَغْرِبة وغِرْبان وقيل: إنما خصّ الذّباب لمانته واستقذاره وكثرته. وَلَوِ اجْتَمَعُوا يعني: الأصنام لَهُ أي: لخَلْقِه، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ يعني: الأصنام. قال ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فيجفّ، فيأتي الذباب فيختلسه. وقال ابن جريج: كانوا إِذا طيَّبوا أصنامهم عجنوا طيبهم بشيء من الحلواء، كالعسل ونحوه، فيقع عليها الذباب فيسلبها إِياه، فلا تستطيع الآلهة ولا مَنْ عبَدها أن يمنعه ذلك. وقال السدي: كانوا يجعلون للآلهة طعاماً، فيقع الذباب عليه فيأكل منه قال ثعلب: وإِنما قال: لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ فجعل أفعال الآلهة كأفعال الآدميين، إذا كانوا يعظِّمونها ويذبحون لها وتُخاطَب، كقوله: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «1» لمَّا خاطبهم جعلهم كالآدميين، ومثله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «2» ، وقد بيَّنَّا هذا المعنى في (الأعراف) عند قوله تعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ «3» . قوله تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فيه ثلاثة أقوال «4» : أحدها: أن الطالب: الصنم، والمطلوب: الذباب، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: الطالب: الذباب يطلب ما يسلبُه من الطيِّب الذي على الصنم، والمطلوب: الصنم يطلب الذباب منه سَلْبَ ما عليه، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: الطالب: عابد الصنم يطلب التقرُّب بعبادته، والمطلوب: الصنم، هذا معنى قول الضحاك، والسدي. قوله تعالى: ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما عظّموه حق عظمته، إِذ جعلوا هذه الأصنام شركاء له إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ لا يُقْهَر عَزِيزٌ لا يرام. [سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 76] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) قوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا كجبريل وميكائيل وإِسرافيل ومَلَك الموت، وَمِنَ النَّاسِ الأنبياءَ المرسلين، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لمقالة العباد بَصِيرٌ بمن يتّخذه رسولا.

_ (1) سورة النمل: 18. (2) سورة يوسف: 4. (3) الأعراف: 191. (4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 189: والصواب من القول في ذلك عندنا ما ذكرته عن ابن عباس من أن معناه: وعجز الطالب وهو الآلهة. أن تستنقذ من الذباب ما سلبها إياه، وهو الطيب وما أشبهه، والمطلوب: الذباب. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 296 وقال: اختاره ابن جرير وهو ظاهر السياق. [.....]

[سورة الحج (22) : الآيات 77 إلى 78]

وزعم مقاتل أن هذه الآية نزلت حين قالوا: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا «1» . قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الإِشارة إِلى الذين اصطفاهم وقد بيَّنَّا معنى ذلك في آية الكرسي «2» . [سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) قوله تعالى: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا قال المفسرون: المراد: صلُّوا، لأن الصلاة لا تكون إِلا بالركوع والسجود، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ أي: وحِّدوه وَافْعَلُوا الْخَيْرَ يريد: أبواب المعروف لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة. فصل: لم يختلف أهل العلم في السجدة الأولى من الحج واختلفوا في هذه السجدة الأخيرة فروي عن عمر، وابن عمر، وعمَّار، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وابن عباس، أنهم قالوا: في الحج سجدتان، وقالوا: فضّلت هذه السورة على غيرها بسجدتين، وبهذا قال أصحابنا، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. وروي عن ابن عباس أنه قال: في الحج سجدة، وبهذا قال الحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وإِبراهيم، وجابر بن زيد، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك ويدل على الأول. (1011) ما روى عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال: «نعم، ومن

_ صدره حسن، وعجزه ضعيف. أخرجه أبو داود 1402 والترمذي 578 والدارقطني 1/ 408 والحاكم 1/ 221 وأحمد 4/ 151 والواحدي في «الوسيط» 3/ 281 والبيهقي 2/ 317 والبغوي في «التفسير» 3/ 299 من طرق عن ابن لهيعة عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر به. وإسناده ضعيف، وله علتان: ضعف ابن لهيعة، وشيخه مشرح قال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول. وقال الذهبي في «الميزان» 4/ 117: صدوق لينه ابن حبان، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين: ثقة، وقال ابن حبان: يروي عن عقبة مناكير، لا يتابع عليها، فالصواب ترك ما انفرد به اه. وعجزه ضعيف، وهو قوله «فمن لم يسجدها فلا يقرأها» بل هو منكر، وهو إما من مناكير ابن لهيعة حيث اختلط، أو من شيخه مشرح، حيث إن الراوي عنه عند أبي داود ابن وهب، وهو أحد العبادلة وأيّا كان فعجز الحديث ضعيف منكر، وقد ضعفه الترمذي بقوله: هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي. - وعارضه أحمد شاكر رحمه الله فقال: بل هو حديث صحيح، فإن ابن لهيعة ومشرح ثقتان ... ؟! - وأما الألباني فذكر الحديث في «ضعيف أبي داود» 303، وفي ذلك نظر، فإن لصدره شواهد منها: - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أخرجه أبو داود 1401 وابن ماجة 1057 والحاكم 1/ 223 والبيهقي 2/ 79 وإسناده ضعيف، فيه عبد الله بن منين مجهول، وعنه الحارث بن سعيد العتكي، لا يعرف. وقال الحاكم عقبه: رواته مصريون، واحتج الشيخان بأكثر الرواة! وسكت الذهبي! وقال الزيلعي في «نصب الراية» 2/ 180: قال عبد الحق: ابن منين، لا يحتج به. قال ابن القطان: وذلك لجهالته اه. ومع ذلك يصلح شاهدا لما قبله، فليس بشديد الضعف، حيث فيه الجهالة فقط، ومع ذلك فقد أدخله الألباني في «ضعيف سنن أبي داود» 301؟! وله شاهد مرسل، أخرجه أبو داود في «المراسيل» ص 113 عن خالد بن معدان، ومن طريق أبي داود، أخرجه البيهقي 2/ 317 ونقل عن أبي داود قوله: وقد أسند هذا الحديث، ولا يصح اه ومراده والله أعلم، أن هناك من وصل مرسل ابن معدان، والصواب إرساله. ومع ذلك يصلح شاهدا للموصول المتقدم، وما قبله. وقد ورد موقوفا عن جماعة من الصحابة، أسند ذلك كله الحاكم في «المستدرك» 2/ 390- 391 والبيهقي 2/ 317- 318 وكذا الدارقطني 1/ 408- 409- 410. فهذه الموقوفات مع المرسل مع الموصول المتقدم تشهد لصدر حديث عقبة دون عجزه، وترقى به إلى درجة الحسن والله تعالى أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 1519 بتخريجنا.

فصل:

لم يسجدهما فلا يقرأهما» . فصل «1» : واختلف العلماء في عدد سجود القرآن، فروي عن أحمد روايتان، إِحداهما: أنها أربع عشرة سجدة. وبه قال الشافعي، والثانية: أنها خمس عشرة، فزاد سجدة (ص) . وقال أبو حنيفة: هي أربع عشرة، فأخرج التي في آخر (الحج) وأبدل منها سجدة ص. فصل «2» : وسجود التلاوة سُنَّة، وقال أبو حنيفة: واجب. ولا يصح سجود التلاوة إِلا بتكبيرة الإِحرام والسلام، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشّافعيّ. ولا يجزئ الركوع عن سجود التلاوة، وقال أبو حنيفة: يجزئ. ولا يسجد المستمع إِذا لم يسجد التالي، نصّ عليه أحمد رضي الله عنه. وتكره قراءة السجدة في صلاة الإِخفات، خلافاً للشافعي. قوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ في هذا الجهاد ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنه فِعل جميع الطاعات،

_ (1) قال الترمذي عقب الحديث 2/ 472: واختلف أهل العلم في هذا، فروي عن عمرو وابنه أن سورة الحج فضلت بسجدتين. وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، ورأى بعضهم فيها سجدة، وهو قول الثوري ومالك وأهل الكوفة اه. والمذهب الأول هو الراجح فإن مستندهم حديثان موصولان يقوي أحدهما الآخر مع مرسل أضف إلى ذلك موقوفات عن جماعة من الصحابة، والله الموفق. (2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 2/ 359: سجود التلاوة سنة مؤكدة، وليس بواجب ومن ترك فلا شيء عليه وإذا سجد للتلاوة فعليه التكبير للسجود والرفع منه سواء كان في صلاة أو في غيرها وقال الشافعي: إذا سجد خارج الصلاة كبّر واحدة للافتتاح وأخرى للسجود، ويرفع يديه عند تكبيرة الابتداء إن كان في غير صلاة وهو قول الشافعي. قال القاضي: وقياس المذهب لا يرفع ويقول في سجوده ما يقول في سجود صلاته. ويسلّم إذا رفع ورأى أحمد أنه واجب وفي رواية ثانية، لا تسليم فيه، وبه قال النخعي، والحسن، وسعيد بن جبير ويحيى بن وثاب. وروي ذلك عن أبي حنيفة. واختلف قول الشافعي فيه. ويسن السجود للتالي والمستمع، لا نعلم في هذا خلافا. ويشترط لسجود المستمع أن يكون التالي ممن يصلح أن يكون له إماما. وقال أبو حنيفة: إذا امتنع من السجود لمعارض، فإذا زال المعارض يسجد. ولا يقوم الركوع مقام السجود، وقال أبو حنيفة: يقوم مقامه استحبابا. وإذا قرأ السجدة على الراحلة في السفر أومأ بالسجود حيث كان وجهه، وإن كان ماشيا سجد على الأرض. ولا يسجد إلا وهو طاهر ويعتبر للسجود من الشروط ما يشترط لصلاة النافلة. ولا نعلم في ذلك اختلافا. ويكره اختصار السجود، وهو أن ينتزع الآيات التي فيها سجود فيقرأها ويسجد فيها أو يقرأ القرآن إلا آيات السجود. (3) قال الطبري رحمه الله 9/ 191: والصواب من القول في ذلك: عني به الجهاد في سبيل الله لأن المعروف من الجهاد ذلك، وهو الأغلب على قول القائل: جاهدت في الله، وحق الجهاد: استفراغ الطاقة فيه.

فصل:

هذا قول الأكثرين. والثاني: أنه جهاد الكفار، قاله الضحاك. والثالث: أنه جهاد النفس والهوى، قاله عبد الله بن المبارك. فأما حق الجهاد، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه الجِدُّ في المجاهدة، واستيفاء الإِمكان فيها. والثاني: أنه إخلاص النّيّة لله عزّ وجلّ. والثالث: أنه فِعل ما فيه وفاء لحق الله عزّ وجلّ. فصل: وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها على قولين: أحدهما: قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «1» . والثاني: قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «2» وقال آخرون: بل هي مُحْكَمَةٌ، ويؤكده القولان الأولان في تفسير حق الجهاد، وهو الأصح، لأن الله تعالى لا يكلِّف نفساً إِلا وسعها. قوله تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ أي: اختاركم واصطفاكم لدينه. والحرج: الضِّيق، فما من شيء وقع الإِنسان فيه إِلا وجد له في الشرع مَخرجاً بتوبة أو كفارة أو انتقالٍ إِلى رخصة ونحو ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج: ما كان على بني إِسرائيل من الإِصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة. قوله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ قال الفراء: المعنى: وسّع عليكم كملَّة أبيكم، فاذا ألقيتَ الكاف نصبتَ، ويجوز النصب على معنى الأمر بها، لأن أول الكلام أمر، وهو قوله تعالى ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا والزموا ملَّة أبيكم. فإن قيل: هذا الخطاب للمسلمين، وليس إِبراهيم أباً لكُلِّهم. فالجواب: أنه إِن كان خطاباً عامّاً للمسلمين، فهو كالأب لهم، لأنّ حرمته وحقّه عليكم كحقّ الوالد، وإن كان الخطاب للعرب خاصة، فإبراهيم أبو العرب قاطبة، هذا قول المفسرين. والذي يقع لي أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنّ إبراهيم أبوه، وأمّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم داخلة فيما خوطب به رسول الله. قوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور فعلى هذا في قوله: مِنْ قَبْلُ قولان. أحدهما: من قبل القرآن سمَّاكم بهذا في الكتب التي أنزلها. والثاني: «مِنْ قَبْلُ» أي: في أُمّ الكتاب، وقوله تعالى: وَفِي هذا أي: في القرآن. والثاني: أنه إِبراهيم عليه السلام حين قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «3» فالمعنى: من قَبْل هذا الوقت، وذلك في زمان إِبراهيم عليه السلام وفي هذا الوقت حين قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً، هذا قول ابن زيد. قوله تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ المعنى: اجتباكم وسمَّاكم ليكون الرسول يعني محمداً صلى الله عليه وسلّم شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة أنه قد بلَّغكم وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة «4» إِلى قوله: وَآتُوا الزَّكاةَ. قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ قال ابن عباس: سَلُوه أن يَعْصِمكم من كل ما يُسخط. ويُكْرَه. وقال الحسن: تمسَّكوا بدين الله. وما بعد هذا مشروح في الأنفال «5» .

_ (1) سورة البقرة: 286. (2) سورة التغابن: 16. (3) سورة البقرة: 128. (4) سورة البقرة: 143. (5) سورة الأنفال: 40.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) سورة المؤمنين مكية في قول الجميع. (1012) روى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقد أُنزلت علينا عشر آيات من أقامهنَّ دخل الجنة، ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) إِلى عشر آيات» ، رواه الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» . (1013) وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِن الله تعالى حاط حائط الجنّة

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 3173 والنسائي في «الكبرى» 1439 وأحمد 1/ 34 والحاكم 2/ 392/ 3479 والعقيلي 4/ 460- 461 والواحدي 3/ 283 من حديث عمر، ومداره على يونس بن سليم، وهو مجهول، فالإسناد ضعيف، وصوب الترمذي كونه من مرسل الزهري، وأنه الصحيح. ومع ذلك صححه الحاكم! لكن تعقبه الذهبي بقوله: سئل عبد الرزاق عن شيخه يونس هذا فقال: لا أظنه شيء، وقال الذهبي في «الميزان» في ترجمة يونس: حدث عنه عبد الرزاق، ولم يعتمده في الرواية. وأعله العقيلي به، وقال: لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به. وقال النسائي: هذا حديث منكر. انظر «أحكام القرآن» 1522 بتخريجنا. ضعيف. أخرجه البزار 3508 وأبو نعيم في «حلية الأولياء» 6/ 204 وفي «صفة الجنة» 1/ 137/ 140 والبيهقي في «البعث» 236 من حديث أبي سعيد وضعفه البزار بقوله: لا نعلم رفعه إلا عدي بن الفضل، وليس هو بالحافظ، وكذا ضعفه البيهقي. وجاء في «الميزان» : عدي بن الفضل، قال ابن معين وأبو حاتم: متروك الحديث، وقال يحيى: لا يكتب حديثه، وقال غير واحد: ضعيف اه. فالرجل ضعيف جدا. وله شاهد: أخرجه الحاكم 2/ 392 والبيهقي في «الصفات» 2/ 47 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 17 من حديث أنس، وإسناده ضعيف لضعف علي بن عاصم الواسطي. وذكره الذهبي في «الميزان» بهذا الحديث وحديث آخر، وقال: هذان باطلان اه. والحديث صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: بل ضعيف اه. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه الطبراني في 11439 وفي «الأوسط» 476 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 16. وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» 5468: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسنادين أحدهما جيد. وتبعه على ذلك الهيثمي في «المجمع» 18639، وأما ابن كثير- رحمه الله- فأعلّه بضعف رواية بقية عن الحجازيين والمعروف أن إسماعيل بن عياش هو الذي بهذه الصفة، وإنما علّة الحديث هي أن بقية مدلس، وقد عنعن، قال أحمد: توهمت أن بقية، لا يحدث المناكير إلا عن المجاهيل، فإذا هو يحدث المناكير عن المشاهير. وللحديث علة أخرى ابن جريج أيضا مدلس، وقد عنعن، لكن الحمل فيه على بقية أولى. والله أعلم. تنبيه: وقع في الأوسط تصريح بقية بالتحديث، وهو خطأ من شيخ الطبراني أو من هشام بن خالد فإنه كان يجعل ما رواه بقية ب «عن» «حدثنا» توهما، راجع ذلك في الميزان، وانظر «تفسير ابن كثير» 3/ 299 والشوكاني 1689 بتخريجنا.

لَبِنَة من ذهب ولَبِنَة من فضة، وغرس غرسها بيده فقال لها: تكلَّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال لها: طوبى لكِ منزل الملوك» . قال الفرّاء: «قد» ها هنا يجوز أن تكون تأكيداً لفلاح المؤمنين. ويجوز أن تكون تقريباً للماضي من الحال، لأن «قد» تقرِّب الماضي من الحال حتى تُلحقَه بحكمه، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة، قبل حال قيامها، فيكون معنى الآية: إِن الفلاح قد حصل لهم وإِنهم عليه في الحال. وقرأ أُبيّ بن كعب، وعكرمة، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرِّف: «قد أُفْلِحَ» بضم الألف وكسر اللام وفتح الحاء، على ما لم يُسمَّ فاعله. قال الزجاج: ومعنى الآية: قد نال المؤمنون البقاء الدائم في الخير. ومن قرأ: «قد أُفْلِحَ» بضم الألف، كان معناه: قد أُصيروا إِلى الفلاح. وأصل الخشوع في اللغة: الخضوع والتواضع. وفي المراد بالخشوع في الصلاة أربعة أقوال: «1» أحدها: أنه النظر إِلى موضع السجود. (1014) روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا صلى رفع بصره إِلى السماء، فنزلت: «الذين هم في صلاتهم خاشعون» فنكس رأسه. وإِلى هذا المعنى ذهب مسلم بن يسار، وقتادة. والثاني: أنه تركُ الالتفات في الصلاة، وأن تُلين كنفك للرجل المسلم، قاله عليّ بن أبي طالب.

_ ضعيف. أخرجه الحاكم 2/ 393 والواحدي في «أسباب النزول» 626 كلاهما عن ابن سيرين عن أبي هريرة، وهو حديث ضعيف. ففي الإسناد أبو شعيب الحراني عن أبيه، ولم أجد لهما ترجمة. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين لولا خلاف فيه على محمد، فقد قيل عنه مرسلا. وصوب الذهبي الإرسال، وهو كما قال كذا رواه الثقات عند الطبري، ومع ذلك لا يصح رفعه. فقد أخرجه الطبري عن ابن سيرين قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم ... ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فالصواب موقوف. وأخرجه الطبري 25414 بسند صحيح عن ابن سيرين مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وكرره 25416 من وجه آخر عن ابن سيرين قال: نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ... وهذا ضعيف لجهالة المنبئ لابن سيرين. وانظر «أحكام القرآن» 1523، و «تفسير الشوكاني» 1693، والله الموفق.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 إلى 13]

والثالث: أنه السكون في الصلاة، قاله مجاهد، وإِبراهيم، والزهري. والرابع: أنه الخوف، قاله الحسن. وفي المراد باللغو ها هنا خمسة أقوال: أحدها: الشِّرك، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الباطل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: المعاصي، قاله الحسن. والرابع: الكذب: قاله السدي. والخامس: الشتم والأذى الذي كانوا يسمعونه من الكفار، قاله مقاتل. قاله الزجاج: واللغو: كل لعب ولهو، وكل معصية فهي مطَّرَحة مُلغاة. فالمعنى شغلهم الجِدُّ فيما أمرهم الله به عن اللغو. قوله تعالى: لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي: مؤدُّون «1» ، فعبَّر عن التأدية بالفعل، لأنه فعل. قوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ قال الفراء: «على» بمعنى «مِنْ» . وقال الزجاج: المعنى: أنهم يُلامون في إِطلاق ما حُظر عليهم وأُمروا بحفظه «2» ، إِلا على أزواجهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فإنهم لا يُلامون. قوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغى أي: طَلَب وَراءَ ذلِكَ أي: سوى الأزواج والمملوكات فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ يعني الجائرين الظالمين، لأنهم قد تجاوزوا إلى ما لا يَحلُّ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ قرأ ابن كثير: «لأمانتهم» وهو اسم جنس، والمعنى: للأمانات التي ائتُمنوا عليها، فتارة تكون الأمانة بين العبد وبين ربِّه، وتارة تكون بينه وبين جنسه، فعليه مراعاة الكُلِّ. وكذلك العهد. ومعنى راعُونَ: حافظون. قال الزجاج: وأصل الرعي في اللغة: القيام على إِصلاح ما يتولاَّه الراعي من كلّ شيء. قوله تعالى: على صلاتهم قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «صَلَواتِهِمْ» على الجمع. وقرأ حمزة، والكسائي: «صلاتِهم» على التوحيد، وهو اسم جنس. والمحافظة على الصلوات: أداؤها في أوقاتها. قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ذكر السدي عن أشياخه أن الله تعالى يرفع للكفار الجنة، فينظرون إِلى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا، ثم تقسم بين المؤمنين فيرِثونهم، فذلك قوله: «أولئك هم الوارثون» . وقد شرحنا هذا في الأعراف «3» عند قوله: أُورِثْتُمُوها، وشرحنا معنى الفردوس في الكهف «4» . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 13] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13)

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 300: وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ الأكثرون على أن المراد بالزكاة ها هنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات الأنصبة. والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة، كما قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ. وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ها هنا زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وكقوله وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ فصلت: 6 على أحد القولين في تفسيرها، وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا، وهذا، والله أعلم. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 300: والذين حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلّها الله لهم، وما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج، وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة، قال فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين وقد قال: فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ. (3) سورة الأعراف: 43. [.....] (4) سورة الكهف: 107.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 إلى 16]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فيه قولان: أحدهما: أنه آدم عليه السلام. وإِنما قيل: «مِنْ سُلالة» لأنه استُلَّ من كل الأرض، هذا مذهب سلمان الفارسي، وابن عباس في رواية، وقتادة. والثاني: أنه ابن آدم، والسُّلالة: النطفة استُلَّت من الطين، والطين: آدم عليه السلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: والسُّلالة: فُعالة، وهي القليل مما يُنْسَل، وكل مبنيٍّ على «فُعالة» يراد به القليل، من ذلك: الفُضالة، والنُّخَالة، والقُلامة. قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ يعني: ابن آدم نُطْفَةً فِي قَرارٍ وهو الرَّحِم مَكِينٍ أي: حريز، قد هيّئ لاستقراره فيه. وقد شرحنا في سورة الحج «1» معنى النُّطفة والعَلقة والمُضغة. قوله تعالى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «عظاماً فكسونا العظام» على الجمع. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «عظما فسكونا العَظْم» على التوحيد. قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ هذه الحالة السّابعة. قال عليّ رضي الله عنه لا تكون موؤودة حتى تمرَّ على التارات السبع. وفي محل هذا الإِنشاء قولان: أحدهما: أنه بطن الأم. ثم في صفة الإِنشاء قولان: أحدهما: أنه نفخ الروح فيه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، والشعبي، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك في آخرين. والثاني: أنه جعْله ذكراً أو أنثى، قاله الحسن. والقول الثاني: أنه بعد خروجه من بطن أُمه. ثم في صفة هذا الإِنشاء أربعة أقوال: أحدها: أن ابتداء ذلك الإِنشاء أنه استُهلَّ، ثم دُلَّ على الثدي، وعُلِّم كيف يبسط رجليه إِلى أن قعد، إِلى أن قام على رجليه، إِلى أن مشى، إِلى أن فُطم، إِلى أن بلغ الحُلُم، إِلى أن تقلَّب في البلاد، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه استواء الشباب، قاله ابن عمر، ومجاهد. والثالث: أنه خروج الأسنان والشَّعْر، قاله الضحاك، فقيل له: أليس يولَد وعلى رأسه الشعر؟ فقال: وأين العانة والإِبط؟. والرابع: أنه إِعطاء العقل والفهم، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أي: استحق التعظيم والثناء. وقد شرحنا معنى «تبارك» في الأعراف «2» أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي: المصوِّرين والمقدِّرين. والخَلْق في اللغة: التقدير. وجاء في الحديث. (1015) أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية وعنده عمر، إِلى قوله تعالى: خَلْقاً آخَرَ، فقال عمر: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لقد خُتمتْ بما تكلمتَ به يا ابن الخطّاب» .

_ ضعيف. أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن صالح أبي الخليل كما في «الدر» 5/ 11، وصالح أبو الخليل في عداد تابع التابعين، فالخبر واه. وأخرجه الطيالسي 41 ومن طريقه الواحدي 627 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 304 عن أنس عن عمر به، من حديثه. «وافقت ربي في أربع ... » فذكره منها والوهن فيه فقط في الفقرة الأخيرة وهي ما يتعلق بهذه الآية. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف روى مناكير كثيرة، ولا يحتج بما ينفرد به. وأصل الحديث في الصحيحين دون الموافقة المذكورة في هذه الآية. وانظر «تفسير الشوكاني» 1700 و «تفسير ابن كثير» 3/ 304 و «تفسير القرطبي» 4460 جميعا بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 إلى 20]

فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ وقوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ «1» . فالجواب: أن الخلق يكون بمعنى الإِيجاد، ولا موجِد سوى الله، ويكون بمعنى التقدير، كقول زهير: وبعض القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي «2» فهذا المراد ها هنا، أن بني آدم قد يصوِّرون ويقدِّرون ويصنعون الشيء، فالله خير المصوِّرين والمقدِّرين. وقال الأخفش: الخالقون ها هنا هم الصانعون، فالله خير الخالقين. قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد ما ذُكر من تمام الخَلْق لَمَيِّتُونَ عند انقضاء آجالكم. وقرأ أبو رزين العقيلي، وعكرمة، وابن أبي عبلة: «لمائتون» بألف. قال الفراء: والعرب تقول لمن لم يمت: إِنك مائت عن قليل، وميت، ولا يقولون للميت الذي قد مات: هذا مائت، إِنما يقال في الاستقبال فقط، وكذلك يقال: هذا سيِّد قومه اليوم، فاذا أخبرتَ أنه يسودهم عن قليل، قلتَ: هذا سائد قومه عن قليل، وكذلك هذا شريف القوم، وهذا شارف عن قليل وهذا الباب كلُّه في العربية على ما وصفتُ لك. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 الى 20] وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ يعني: السموات السبع، قال الزجاج: كل واحدة طريقة. وقال ابن قتيبة: إِنما سميت «طرائق» بالتَّطارق، لأن بعضها فوق بعض، يقال: طارقتُ الشيء: إِذا جعلتَ بعضه فوق بعض. قوله تعالى: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما غفلنا عنهم إِذ بنينا فوقهم سماءً أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب. والثاني: ما كنا تاركين لهم بغير رزق، فأنزلنا المطر. والثالث: لم نغفُل عن حفظهم من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم. قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ يعلمه الله، وقال مقاتل: بقدر ما يكفيهم للمعيشة.

_ (1) سورة فاطر: 3. (2) هو جزء من بيت لزهير بن أبي سلمى وتمامه: ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري وهو في «اللسان» - خلق- و «شرح ديوان زهير» 94.

قوله تعالى: وَشَجَرَةً هي معطوفة على قوله: جَنَّاتٍ. وقرأ أبو مجلز، وابن يعمر، وإِبراهيم النخعي: «وشجرةٌ» بالرفع. والمراد بهذه الشجرة: شجرة الزيتون. فإن قيل: لماذا خص هذه الشجرة من بين الشجر؟ فالجواب من أربعة أوجه: أحدها: لكثرة انتفاعهم بها، فذكَّرهم من نِعَمِه ما يعرفون، وكذلك خص النخيل والأعناب في الآية الأولى، لأنهما كانا جُلَّ ثمار الحجاز وما والاها، وكانت النخيل لأهل المدينة، والأعناب لأهل الطائف. والثاني: لأنهم لا يكادون يتعاهدونها بالسقي، وهي تُخرج الثمرة التي يكون منها الدُّهن. والثالث: أنها تنبت بالماء الذي هو ضد النار، وفي ثمرتها حياة للنار ومادة لها. والرابع: لأن أول زيتونة نبتت بذلك المكان فيما زعم مقاتل. قوله تعالى: طُورِ سَيْناءَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، «طور سِيناء» مكسورة السين، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، مفتوحة السين، وكلُّهم مدَّها. قال الفراء: العرب تقول: سَيناء، بفتح السين في جميع اللغات، إِلا بني كنانة، فإنهم يكسرون السين. قال أبو علي: ولا تنصرف هذه الكلمة، لأنها جُعلت اسماً لبقعة أو أرض، وكذلك «سينين» ولو جعلت اسما للمنزل أو للمكان أو نحو ذلك من الأسماء المذكَّرة لصُرفت، لأنك كنت قد سمَّيت مذكَّراً بمذكَّر. والطُّور: الجبل. وفي معنى «سَيْناء» خمسة أقوال: أحدها: أنه بمعنى الحسن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال الضحاك: «الطور» : الجبل بالسريانية، و «سَيْناء» : الحسن بالنبطية. وقال عطاء: يريد: الجبل الحسن. والثاني: أنه المبارك، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه اسم حجارة بعينها، أضيف الجبل إِليها لوجودها عنده، قاله مجاهد. والرابع: أن طور سيناء: الجبل المشجَّر، قاله ابن السائب. والخامس: أن سيناء: اسم المكان الذي به هذا الجبل، قاله الزجاج قال الواحدي: وهو أصح الأقوال «1» قال ابن زيد: وهذا هو الجبل الذي نودي منه موسى، وهو بين مصر وأيلة. قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «تُنْبِت» برفع التاء وكسر الباء. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وضم الباء. قال الفراء: وهما لغتان: نبتت وأنبتت، وكذلك قال الزجاج: يقال: نبت الشجر وأنبت في معنى واحد، قال زهير: رأيتُ ذَوِي الحاجاتِ حَوْلَ بُيُوتِهم ... قَطِيناً لهم حتى إِذا أَنْبَتَ البَقْلُ «2» قال: ومعنى «تَنْبُتُ بالدُّهْن» : تنبت ومعها دهن، كما تقول: جاءني زيد بالسيف، أي: جاءني ومعه السيف. وقال أبو عبيدة: معنى الآية: تنبت الدهنَ، والباء زائدة، كقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ «3» وقد بيَّنَّا هذا المعنى هناك. قوله تعالى: وَصِبْغٍ وقرأ ابن مسعود، وابن مسعود، وابن يعمر، وإِبراهيم النخعي، والأعمش: «وصِبْغاً» بالنصب. وقرأ ابن السميفع: «وصِبَاغٍ» بألف مع الخفض. قال ابن قتيبة: الصِّبغ مِثْل الصِّباغ، كما يقال: دِبْغ ودِبَاغ، ولِبْس ولِبَاس. قال المفسّرون: والمراد بالصّبغ ها هنا: الزّيت، لأنه

_ (1) وهو اختيار الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 208 وقال: إنه الجبل الذي نودي منه موسى صلى الله عليه وسلّم وهو مع ذلك مبارك، لا أن معنى سيناء معنى مبارك. (2) في «اللسان» : القطينة، سكن الدار. (3) سورة الحج: 25.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 إلى 22]

يلوِّن الخبزَ إِذا غُمس فيه، والمراد أنه إدام يصبغ به. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 الى 22] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «نَسْقِيكُم» بفتح النون. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بضمها. وقد شرحنا هذا في النحل «1» إِلى قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ يعني: في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها وَمِنْها تَأْكُلُونَ من لحومها وأولادها والكسب عليها. قوله تعالى: عَلَيْها يعني: الإبل خاصّة عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ فالإِبل تحمل في البَرِّ والسفن تحمل في البحر. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 44] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ قال المفسّرون: هذا تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بذكر هذا

_ (1) سورة النحل: 66.

الرسول الصابر ليتأسَّى به في صبره، وليعلم أن الرسل قبله قد كُذِّبوا. قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي: يعلوكم بالفضيلة، فيصير متبوعاً، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أن لا يُعبَد شيء سواه لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً تبلّغ عنه أمره، لم يرسل بشراً ما سَمِعْنا بِهذا الذي يدعونا إِليه نوح من التوحيد فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ. فأما الجِنَّةُ فمعناها: الجنون. وفي قوله: حَتَّى حِينٍ قولان: أحدهما: أنه الموت، فتقديره: انتظروا موته. والثاني: أنه وقت منكَّر. قوله تعالى: قالَ رَبِّ انْصُرْنِي وقرأ عكرمة، وابن محيصن: «قال ربُّ» بضم الباء، وفي القصّة الأخرى. قوله تعالى: بِما كَذَّبُونِ وقرأ يعقوب: «كذَّبوني» بياء، وفي القصة التي تليها أيضاً: «فاتقوني» «أن يحضروني» «ربّ ارجعوني» «ولا تكلّموني» أثبتهن في الحالين يعقوب، والمعنى: انصرني بتكذيبهم، أي: انصرني بإهلاكهم جزاءً لهم بتكذيبهم. فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ قد شرحناه في هود «1» إِلى قوله: فَاسْلُكْ فِيها أي: أدخل في سفينتك مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «من كلِّ» بكسر اللام من غير تنوين. وقرأ حفص عن عاصم: مِنْ كُلٍّ بالتنوين. قال أبو علي: قراءة الجمهور إِضافة «كلّ» إِلى «زوجين» وقراءة حفص تؤول إِلى زوجين، لأن المعنى: من كل الأزواج زوجين. قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «مُنْزَلاً» بضم الميم. وروى أبو بكر عن عاصم فتحها. والمَنزِلُ، بفتح الميم: اسم لكل ما نزلتَ به، والمُنْزَلُ، بضمها: المصدر: بمعنى الإِنزال، تقول: أنزلتُه إِنزالاً ومُنْزَلاً. وفي الوقت الذي قال فيه نوح ذاك قولان: أحدهما: عند نزوله في السفينة. والثاني: عند نزوله من السفينة. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في قصة نوح وقومه لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا أي: وما كنا لَمُبْتَلِينَ أي: لمختبرين إِياهم بإرسال نوح إِليهم. ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ يعني عاداً فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وهو هود، هذا قول الأكثرين وقال أبو سليمان الدمشقي: هم ثمود، والرسول صالح. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ قال الزجاج: موضع «أنَّكم» نصب على معنى: أَيَعِدُكُمْ أنَّكم مخرجون إِذا مِتُّم فلما طال الكلام أُعيد ذِكْر «أنَّ» كقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «2» . قوله تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: هَيْهاتَ هَيْهاتَ بفتح التاء فيهما في الوصل، وإسكانها في الوقف. وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو مجلز، وهارون عن أبي عمرو: «هيهاتاً هيهاتاً» بالنصب والتنوين. وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري، وأبو حيوة الحضرمي، وابن السميفع: «هيهاتٌ هيهاتٌ» بالرفع والتنوين. وقرأ أبو العالية، وقتادة: «هيهاتٍ هيهاتٍ» بالخفض والتنوين. وقرأ أبو جعفر: «هيهاتِ هيهاتِ» بالخفض من غير تنوين، وكان يقف بالهاء. وقرأ أبو المتوكل الناجي، وسعيد بن جبير، وعكرمة: «هيهاتُ هيهاتُ» بالرفع من غير تنوين، وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو رجاء، وخارجة عن أبي عمرو: «هيهات هيهات»

_ (1) سورة هود: 37. (2) سورة التوبة: 63.

باسكان التاء فيهما. وفي «هيهات» عشر لغات قد ذكرنا منها سبعة عن القراء، والثامنة: «إِيهات» ، والتاسعة: «إِيهان» بالنون، والعاشرة: «إِيها» بغير نون، ذكرهن ابن القاسم وأنشد الأحوص في الجمع بين لغتين منهن: تذكَّرُ أياماً مَضَيْن من الصِّبا ... وهيهاتِ هيهاتاً إِليك رجوعُها قال الزجاج: فأما الفتح، فالوقف فيه بالهاء، تقول: «هيهاه» إِذا فتحت ووقفت بعد الفتح، فإذا كسرتَ ووقفتَ على التاء كنتَ ممن ينوِّن في الوصل، أو كنتَ ممن لا ينوِّن. وتأويل «هيهات» : البُعد لِما توعَدون. وإِذا قلتَ: «هيهات ما قلت» فمعناه: بعيد ما قلت. وإِذا قلتَ: «هيهات لما قلت» ، فمعناه: البعد لِما قلت. ويقال: «أيهات» في معنى «هيهات» ، وأنشدوا: وأيهاتَ أيهاتَ العقِيقُ ومَنْ بهِ ... وأيهاتَ وصلٌ بالعقيقِ نُواصله قال أبو عمرو بن العلاء: إِذا وقفت على «هيهات» فقل: «هيهاه» وقال الفراء: الكسائي يختار الوقف بالهاء، وأنا اختار التاء. قوله تعالى: لِما تُوعَدُونَ قرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «ما تُوعَدُون» بغير لام. قال المفسرون: استبعد القومُ بعثهم بعد الموت إِغفالاً منهم للتفكُّر في بدوِّ أمرهم وقُدرة الله على إِيجادهم، وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبداً، إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يعنون: ما الحياة إِلا ما نحن فيه، وليس بعد الموت حياة. فإن قيل: كيف قالوا: نَمُوتُ وَنَحْيا وهم لا يقرُّون بالبعث؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها الزجاج: أحدها: نموت ويحيا أولادنا، فكأنهم قالوا: يموت قوم ويحيا قوم. والثاني: نحيا ونموت، لأن الواو للجمع، لا للترتيب. والثالث: أبتداؤنا موات في أصل الخلقة، ثم نحيا، ثم نموت. قوله تعالى: إِنْ هُوَ يعنون الرسول. وقد سبق تفسير ما بعد هذا «1» إِلى قوله: قالَ عَمَّا قَلِيلٍ قال الزجاج: معناه: عن قليل، و «ما» زائدة بمعنى التوكيد. قوله تعالى: لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ أي: على كفرهم، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ أي: باستحقاقهم العذاب بكفرهم. قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم، فصاروا لشدَّتها غُثاءً. قال أبو عبيدة: الغُثاء: ما أشبه الزَّبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك مما لا يُنتفَع به في شيء. وقال ابن قتيبة: المعنى: فجعلناهم هَلْكَى كالغُثاء، وهو ما علا السَّيل من الزَّبد والقَمش «2» ، لأنه يذهب ويتفرَّق. وقال الزجاج: الغُثاء: الهالك والبالي من ورق الشجر الذي إِذا جرى السَّيل رأيته مخالطاً زَبَده. وما بعد هذا قد سبق شرحه «3» إلى قوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر: «تترىً كلَّما» منونة والوقف بالألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بلا تنوين، والوقف عند نافع وابن عامر، بألف. وروى هبيرة، وحفص عن عاصم، أنه

_ (1) سورة هود: 7، والنحل: 38. (2) في «اللسان» القمش: الرديء من كل شيء، والجمع قماش: وهو ما كان على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذالة الناس: قماش. وقماش كل شيء: فتاته. (3) سورة الحجر: 5. [.....]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 إلى 48]

يقف بالياء قال أبو علي: يعني بقوله: يقف بالياء، أي: بألِفٍ مُمالة. قال الفراء: أكثر العرب على ترك التنوين، ومنهم من نوَّن، قال ابن قتيبة: والمعنى: نُتَابع بفترة بين كل رسولين، وهو من التَّواتر، والأصل: وَتْرَى، فقُلبت الواو تاءً كما قلبوها في التَّقوى والتخمة. وحكى الزجاج عن الأصمعي أنه قال: معنى واتَرْتُ الخَبرَ: أتْبَعْتُ بعضه بعضاً، وبين الخبرين هُنيَّة. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: ومما تضعه العامة غير موضعه قولهم: تواترتْ كتُبي إِليك، يعنون: اتصلتْ من غير انقطاع، فيضعون التواتر في موضع الاتصال، وذلك غلط، إِنما التواتر مجيء الشيء ثم انقطاعه ثم مجيئه، وهو التفاعل من الوِتر، وهو الفرد، يقال: واترتُ الخبر، أَتْبعتُ بعضه بعضاً، وبين الخبرين هُنَيهة قال الله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أصلها «وَتْرى» من المواترة فأبدلت التاء من الواو، ومعناه: منقطعة متفاوتة، لأن بين كل نبيَّين دهراً طويلاً، وقال أبو هريرة: لا بأس بقضاء رمضان تترى، أي: منقطعاً، فإذا قيل: واتر فلان كتبه، فالمعنى: تابعها، وبين كل كتابين فترة. قوله تعالى: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي: أهلكنا الأمم بعضهم في إِثر بعض وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ قال أبو عبيدة: أي يُتمثَّل بهم في الشرِّ، ولا يقال في الخير: جعلته حديثا. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 48] ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) قوله تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا أي: عن الإِيمان بالله وعبادته وَكانُوا قَوْماً عالِينَ أي: قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم. قوله تعالى: وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ أي: مطيعون. قال أبو عبيدة: كل من دان لملك فهو عابد له. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 49 الى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: التوراة، أُعطيها جملة واحدة بعد غرق فرعون لَعَلَّهُمْ يعني: بني إِسرائيل، والمعنى: لكي يهتدوا. قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «آيتين» على التثنية، وهذا كقوله: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً «1» وقد سبق شرحه. قوله تعالى: وَآوَيْناهُما أي: جعلناهما يأويان إِلى رَبْوَةٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «رُبوة» بضم الراء، وقرأ عاصم، وابن عامر: بفتحها. وقد شرحنا معنى الربوة في البقرة «2» ، ذاتِ قَرارٍ أي: مستوية يستقر عليها ساكنوها، والمعنى: ذات موضع قَرار. وقال الزجاج: أي: ذات مستقَرّ وَمَعِينٍ وهو الماء الجاري من العيون. وقال ابن قتيبة: «ذات قرار» أي: يُستقَرُّ بها للعمارة «ومَعينٍ» هو الماء الظاهر، ويقال: هو مفعول من العين، كأنّ أصله معيون، كم يقال: ثوب

_ (1) سورة الأنبياء: 91. (2) سورة البقرة: 265.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 إلى 56]

مَخِيط، وبُرٌّ مَكِيل. واختلف المفسرون في موضع هذه الربوة الموصوفة على أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها دمشق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عبد الله بن سلام، وسعيد بن المسيب. والثاني: أنها بيت المقدس، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وعن الحسن كالقولين. والثالث: أنها الرملة من أرض فلسطين، قاله أبو هريرة. والرابع: مصر، قاله وهب بن منبه، وابن زيد، وابن السائب. فأما السبب الذي لأجله أَوَيَا إِلى الربوة، فقال أبو صالح عن ابن عباس: فرَّت مريم بابنها عيسى من ملكهم، ثم رجعت إِلى أهلها بعد اثنتي عشرة سنة. قال وهب بن منبه: وكان الملك أراد قتل عيسى. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56] يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة في آخرين: يعني بالرّسل ها هنا محمّدا صلى الله عليه وسلّم وحده، وهو مذهب العرب في مخاطبة الواحد خطاب الجميع، ويتضمن هذا أن الرسل جميعاً كذا أُمِروا، وإِلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة، والزجاج، والمراد بالطيِّبات: الحلال. قال عمرو بن شرحبيل: كان عيسى عليه السلام يأكل من غَزْل أُمِّه. قوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «وأنَّ» بالفتح وتشديد النون. وافق ابنُ عامر في فتح الألف، لكنه سكَّن النون. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «وإِنَّ» بكسر الألف وتشديد النون. قال الفراء: من فتح، عطف على قوله: «إِني بما تعملون عليم» وبأنَّ هذه أمّتكم، فموضعها خفض لأنها مردودة على «ما» ، وإِن شئتَ كانت منصوبة بفعل مضمر، كأنك قلت: واعلموا هذا ومن كسر استأنف. قال أبو علي الفارسي: وأما ابن عامر، فإنه خفف النون المشدَّدة، وإِذا خُفِّفت تعلَّق بها ما يتعلَّق بالمشدَّدة. وقد شرحنا معنى الآية والتي بعدها في الأنبياء «2» إِلى قوله: زُبُراً وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني: «زُبَراً» برفع الزاي وفتح الباء. وقرأ أبو الجوزاء، وابن السميفع: «زُبْراً» برفع الزاي وإِسكان الباء. قال الزجاج: من قرأ «زُبُراً» بضم الباء، فتأويله: جعلوا دينهم كُتُباً مختلفة، جمع زَبُور. ومن قرأ «زُبَراً» بفتح الباء، أراد قِطَعاً. قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي: بما عندهم من الدِّين الذي ابتدعوه مُعْجَبون، يرون أنهم على الحقّ. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب، قاله مجاهد. والثاني: أنهم أهل الكتاب ومشركو العرب، قاله ابن السائب.

_ (1) الصواب أنها بيت المقدس، ولا يعني اشتهار موضع في دمشق ب «الربوة» أن يكون هو ذلك الموضع، لأن الربوة تطلق على كل ما ارتفع من الأرض، وقد وصف الله تلك الربوة بأنها ذات قرار أي صالحة للاستقرار. و «معين» أي فيها نبع ماء صالحة للشرب، وليس بالأمر اليسير انتقال مريم عليها السّلام من بيت المقدس إلى دمشق، ومن ذا الذي يوصلها إليه. فالصحيح أن ذلك كان في بيت المقدس أو في بيت لحم، وغير ذلك بعيد غريب، والله أعلم. فالصواب أنها لم تفارق موطنها الأصلي فلسطين، وبقيت في قومها وزكريا يحوطها ويرعاها، والله أعلم. (2) سورة الأنبياء: 92.

فصل:

قوله تعالى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب: «في غمراتهم» على الجمع. قال الزجاج: في عَمايتهم وحَيرتهم حَتَّى حِينٍ أي: إِلى حين يأتيهم ما وُعدوا به من العذاب. قال مقاتل: يعني كفار مكة. فصل: وهل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ فيها قولان: أحدهما: أنها منسوخة بآية السيف. والثاني: أن معناها التهديد، فهي محكَمة. قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ وقرأ عكرمة، وأبو الجوزاء: «يُمِدُّهم» بالياء المرفوعة وكسر الميم. وقرأ أبو عمران الجوني: «نَمُدُّهُم» بنون مفتوحة ورفع الميم. قال الزجاج: المعنى: أيحسبون أن الذي نمدهم به مِنْ مالٍ وَبَنِينَ مجازاة لهم؟! إِنما هو استدراج، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أي: نسارع لهم به في الخيرات. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وأيوب السختياني: «يُسَارِعُ» بياء مرفوعة وكسر الراء. وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكّل مثله، إلّا أنهما فتح الراء وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «يُسْرَعُ» بياء مرفوعة وسكون السين ونصب الراء من غير ألف. قوله تعالى: بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي: لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 61] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) ثم ذكر المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وقد شرحنا هذا المعنى في قوله: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ «1» . قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقرأ عاصم الجحدري: «يأتون ما أتوا» بقصر همزة «أتوا» . (1016) وسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن هذه الآية فقالت: يا رسول الله، أهم الذين يُذنبون وهم مشفقون؟ فقال: «لا، بل هم الذين يصلُّون وهم مشفقون، ويصومون وهم مشفقون، ويتصدّقون

_ حسن. أخرجه الترمذي 3175 وابن ماجة 4198 وأحمد 6/ 205 والطبري 25560 و 25562، والحاكم 2/ 394 والبيهقي في «الشعب» 762 من طريق عبد الرحمن بن سعيد الهمداني عن عائشة به. وإسناده ضعيف، رجاله رجال مسلم، إلا أنه منقطع، عبد الرحمن لم يدرك عائشة. وجرى الحاكم على ظاهره، فصححه! وسكت الذهبي! ووصله الطبري، فقد أخرجه 25559 من طريق عمر بن قيس عن عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم عن أبي هريرة عن عائشة، وإسناده ضعيف لضعف عمر بن قيس. وكرره 25561 من وجه آخر عن ليث عن مغيث عن رجل من أهل مكة عن عائشة، وإسناده ضعيف، فيه راو لم يسمّ. وكرره 25563 من طريق ليث وهشيم عن العوام بن حوشب عن عائشة، وهو ضعيف لانقطاعه بين عائشة والعوام. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 293 عن ليث عن عمرة عن عائشة، وإسناده ضعيف لضعف ليث، وهو ابن أبي سليم. الخلاصة: هو حديث حسن صحيح، بمجموع طرقه، والله أعلم.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 إلى 67]

وهم مشفقون أن لا يُتقبَّل منهم» . قال الزجاج: فمعنى: «يؤتون» : يُعطون ما أَعْطَوا وهم يخافون أن لا يُتقبَّل منهم، أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي: لأنهم يوقنون أنهم يرجعون. ومعنى «يَأتون» : يعملون الخيرات وقلوبهم خائفة أن يكونوا مع اجتهادهم مقصِّرين، أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «يُسْرِعون» برفع الياء وإسكان السين وكسر الراء من غير ألف. قال الزجاج: يقال: أسرعت وسارعت في معنى واحد، إِلا أن «سارعت» أبلغ من «أسرعت» ، وَهُمْ لَها أي: من أجلها، وهذا كما تقول: أنا أُكرم فلاناً لك، أي: من أجلك. وقال بعض أهل العلم: الوجل المذكور ها هنا واقع على مضمر. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 الى 67] وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) قوله تعالى: وَلَدَيْنا كِتابٌ يعني: اللوح المحفوظ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ قد أُثبت فيه أعمال الخلق، فهو ينطق بما يعملون وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي: لا يُنْقَصون من ثواب أعمالهم. ثم عاد إِلى الكفار، فقال: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا قال مقاتل: في غفلة عن الإِيمان بالقرآن. وقال ابن جرير: في عمىً عن هذا القرآن. قال الزجاج: يجوز أن يكون إِشارة إِلى ما وصف من أعمال البِرِّ في قوله: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، فيكون المعنى: بل قلوب هؤلاء في عماية من هذا ويجوز أن يكو إِشارة إِلى الكتاب، فيكون المعنى: بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطق بالحقّ وأعماُلهم مُحْصَاةٌ فيه. فخرج في المشار إِليه ب «هذا» ثلاثة أقوال: أحدها: القرآن. والثاني: أعمال البِرِّ. والثالث: اللوح المحفوظ. قوله تعالى: وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أعمال سيِّئة دون الشِّرك، رواه عكرمة عن ابن عباس: والثاني: خطايا من دون ذلك الحق، قاله مجاهد. وقال ابن جرير: من دون أعمال المؤمنين وأهل التقوى والخشية. والثالث: أعمالٌ غير الأعمال التي ذُكِروا بها سيعملونها، قاله الزجاج. والرابع: أعمال- من قبل الحين الذي قدَّر الله تعالى أنه يعذِّبهم عند مجيئه- من المعاصي، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: هُمْ لَها عامِلُونَ إِخبار بما سيعملونه من أعمالهم الخبيثة التي كُتبت عليهم لا بدَّ لهم من عملها. قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي: أغنياءهم ورؤساءهم، والإِشارة إِلى قريش. وفي المراد «بالعذاب» قولان: أحدهما: ضرب السيوف يوم بدر، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. والثاني: الجوع الذي عُذِّبوا به سبع سنين، قاله ابن السّائب. ويَجْأَرُونَ بمعنى: يصيحون. لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أي: لا تستغيثوا من العذاب إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي: لا تُمْنَعون من عذابنا. قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: القرآن فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي: ترجعون وتتأخَّرون عن الإِيمان بها، مُسْتَكْبِرِينَ منصوب على الحال. وقوله: بِهِ الكناية عن البيت الحرام، وهي كناية عن غير مذكور والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم، لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 إلى 70]

مواطنهم. تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف أحداً، ونحن أهل بيت الله وَوُلاتُه، هذا مذهب ابن عباس وغيره. قال الزجاج: ويجوز أن تكون الهاء في «به» للكتاب، فيكون المعنى: تُحدث لكم تلاوتُه عليكم استكباراً. قوله تعالى: سامِراً قال أبو عبيدة: معناه: تَهْجُرون سُمَّاراً، والسامر بمعنى السُّمَّار، بمنزلة طفل في موضع أطفال، وهو من سَمَر الليل. وقال ابن قتيبة: «سامراً» أي: متحدِّثين ليلاً، والسَّمَر: حديث الليل. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو العالية، وابن محيصن: «سُمَّراً» بضم السين وتشديد الميم وفتحها، جمع سامر. قرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري: «سُمَّاراً» برفع السين وتشديد الميم وألف بعدها. قوله تعالى: تَهْجُرُونَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تَهجُرون» بفتح التاء وضم الجيم. وفي معناها أربعة أقوال: أحدها: تهجرون ذِكْرَ الله والحقَّ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: تهجرون كتاب الله تعالى ونبيّه صلى الله عليه وسلّم، قاله الحسن. والثالث: تهجرون البيت، قاله أبو صالح. وقال سعيد بن جبير: كانت قريش تَسْمُر حول البيت، وتفتخر به ولا تطوف به. والرابع: تقولون هُجْراً من القول، وهو اللغو والهَذَيان، قاله ابن قتيبة. قال الفراء: يقال: قد هَجَر الرجل في منامه: إِذا هذى، والمعنى: إِنكم تقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما ليس فيه وما لا يَضُرُّه. وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن محيصن، ونافع: «تُهْجِرُون» بضم التاء وكسر الجيم. قال ابن قتيبة: وهذا من الهُجْر، وهو السَّبُّ والإِفحاش من المنطق، يريد سبّهم للنبيّ صلى الله عليه وسلّم ومن اتَّبعه. وقرأ أبو العالية، وعكرمة، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: «تُهَجِّرُون» بتشديد الجيم ورفع التاء قال ابن الأنباري: ومعناها معنى قراءة ابن عباس. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 الى 70] أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) قوله تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ يعني: القرآن، فيعرفوا ما فيه من الدلالات والعِبَر على صدق رسولهم أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ المعنى: أليس قد أُرسل الأنبياء إلى أممهم كما أرسل محمّد صلى الله عليه وسلّم؟! أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ هذا توبيخ لهم، لأنهم عرفوا نسبه وصدقه وأمانته صغيراً وكبيراً ثم أعرضوا عنه. والجِنَّة: الجنون، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ يعني القرآن. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 71 الى 73] وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) قوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ في المراد بالحقّ قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ، قاله مجاهد، وابن جريج، والسدي في آخرين. والثاني: أنه القرآن، ذكره الفراء، والزجاج. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو جعل الله لنفسه شريكاً كما يحبُّون. وعلى الثاني: لو نزَّل القرآن بما يحبُّون من جعل شريك لله لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي: فما فيه شرفهم وفخرهم وهو القرآن فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أي: قد تولَّوا عما جاءهم من شرف الدنيا والآخرة. وقرأ ابن

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 74 إلى 77]

مسعود، وأُبيّ بن كعب، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «بل أتيناهم بذكراهم فهم عن ذكراهم مُعْرِضون» بألف فيهما. أَمْ تَسْأَلُهُمْ عمّا جئتَهم به خَرْجاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: «خَرْجاً» بغير ألف «فخراج» بألف. وقرأ ابن عامر: «خَرْجاً» «فخَرْج» بغير ألف في الحرفين. وقرأ حمزة والكسائي «خراجاً» بألف «فخراج» بألف في الحرفين. ومعنى «خَرْجاً» : أجراً ومالاً، فَخَراجُ رَبِّكَ أي فما يُعطيك ربُّك من أجره وثوابه خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي: أفضل من أعطى وهذا على سبيل التنبيه لهم أنه لم يسألهم أجراً، لا أنه قد سألهم. والناكب: العادل يقال: نَكَبَ عن الطريق، أي: عدل عنه. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 74 الى 77] وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) قوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ. (1017) قال ابن عباس: الضّرّ ها هنا: الجوع الذي نزل بأهل مكة حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «اللهم أَعِنِّي على قريش بسنين كَسِنِيِّ يوسف» ، فجاء أبو سفيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فشكا إِليه الضُّرَّ، وأنهم قد أكلوا القِدَّ «1» والعظام، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، وهو العذاب المذكور في قوله: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ. قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم بدر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنَّهُ الجوع الذي أصابهم، قاله مقاتل. والثالث: بابٌ من عذاب جهنم في الآخرة، حكاه الماوردي. قوله تعالى: إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: «مبلَسون» بفتح اللام. وقد شرحنا معنى المُبلس في سورة الأنعام. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 85] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85)

_ أخرجه الطبري 25633 عن ابن عباس به، وفيه يحيى بن واضح، وفيه كلام، وعبد المؤمن بن عثمان غير قوي. وورد من وجه آخر بنحوه عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا العلهز- يعني الوبر، والدم- فأنزل الله وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ.... أخرجه النسائي في «الكبرى» 11352 وفي «التفسير» 372 والطبري 25632 والواحدي 629 والطبراني 11/ 370 ح 12038 والحاكم 2/ 394 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 90 من وجوه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس به، وهو حديث حسن بطرقه. ويشهد لأصله ما أخرجه البخاري 4824 ومسلم 2798 والترمذي 3254 وأحمد 1/ 380 من حديث ابن مسعود وفيه « ... اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ... » .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 86 إلى 89]

قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ قال المفسرون: يريد أنهم لا يشكرون أصلاً. قوله تعالى: ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: خلقكم من الأرض. قوله تعالى: وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: هو الذي جعلهما مختلفَين يتعاقبان ويختلفان في السّواد والبياض أَفَلا تَعْقِلُونَ مال ترون مِنْ صُنعه؟! وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ أي: قل لأهل مكة المكذِّبين بالبعث: لِمَن الأرض وَمَنْ فِيها مِن الخَلْق إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بحالها، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قرأ أبو عمرو: «لله» بغير ألف ها هنا، وفي اللَّذَين بعدها بألف. وقرأ الباقون: «لله» في المواضع الثلاثة. وقراءة أبي عمرو على القياس. قال الزجاج: ومن قرأ: «سيقولون الله» فهو جواب السؤال، ومن قرأ «لله» فجيّد أيضاً، لأنك إِذا قلتَ مَنْ صاحبُ هذه الدار؟ فقيل: لزيد، جاز، لأن معنى «مَن صاحب هذه الدار؟» : لمن هي؟ وقال أبو علي الفارسي: من قرأ «لله» في الموضعين الآخَرين، فقد أجاب على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «سيقولون الله» «الله» «الله» بألف فيهن كلِّهن. قال أبو علي الأهوازي: وهو في مصاحف أهل البصرة بألف فيهن. قوله تعالى: قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء، أقدر على إحياء الأموات؟! [سورة المؤمنون (23) : الآيات 86 الى 89] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) قوله تعالى: أَفَلا تَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: تتقون عبادة غيره. والثاني: تخشَون عذابه. فأما الملكوت، فقد شرحناه في سورة الأنعام «1» . قوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي: يمنع من السوء من شاء، ولا يمنع منه من أراده بسوء، يقال: أَجَرْتُ فلاناً: أي: حميته، وأجرتُ عليه: أي: حميت عنه. قوله تعالى: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ قال ابن قتيبة: أنَّى تُخْدَعون وتُصْرَفون عن هذا؟!. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 90 الى 92] بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)

_ (1) سورة الأنعام: 75.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 إلى 98]

قوله تعالى: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ أي: بالتوحيد والقرآن وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يُضِيفون إِلى الله من الولد والشريك ثم نفاهما عنه بما بعد هذا إِلى قوله: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي: لانفرد بخَلْقِه ولم يرض أن يُضاف خَلْقُه وإِنعامه إِلى غيره، ولمنع الإِله الآخر عن الاستيلاء على ما خَلَق وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي: غلب بعضهم بعضاً. قوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «عالمِ» بالخفض. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «عالمُ» بالرفع. قال الأخفش: الجرُّ أجود ليكون الكلام من وجه واحد، والرفع على أن يكون خبر ابتداء محذوف. ويقوِّيه أن الكلام الأول قد انقطع. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 98] قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) قوله تعالى: إِمَّا تُرِيَنِّي وقرأ أبو عمران الجوني، والضحاك: «تُرئَنِّي» بالهمز بين الراء والنون من غير ياء. والمعنى: إِن أريتني ما يوعَدون من القتل والعذاب، فاجعلني خارجاً عنهم ولا تهلكني بهلاكهم فأراهم الله تعالى ما وعدهم ببدر وغيرها، ونجّاه ومن معه. قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فيه أربعة أقوال: أحدها: ادفع إِساءة المسيءِ بالصفح، قاله الحسن. والثاني: ادفع الفُحش بالسلام، قاله عطاء، والضحاك. والثالث: ادفع الشِّرك بالتوحيد، قاله ابن السائب. والرابع: ادفع المنكَر بالموعظة، حكاه الماوردي. وذكر بعض المفسرين أن هذا منسوخ بآية السيف «1» . قوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي: بما يقولون من الشِّرك والتكذيب والمعنى: إِنَّا نجازيهم على ذلك. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ أي: ألجأ وأمتنع بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ قال ابن قتيبة: هو نَخْسُها وطَعْنُها، ومنه قيل للعائب: هُمَزَةٌ، كأنه يطعن ويَنْخَس إِذا عاب. وقال ابن فارس: الهَمْزُ كالعَصْر، يقال: همزتُ الشيء في كفِّي، ومنه الهَمْز في الكلام، لأنه كأنه يضغط الحرف، وقال غيره: الهَمْز في اللغة: الدَّفع، وهَمَزات الشياطين: دَفْعُهم بالإِغواء إِلى المعاصي. قوله تعالى: أَنْ يَحْضُرُونِ أي: أن يَشْهَدُون والمعنى: أن يصيبوني بسوءٍ، لأن الشيطان لا يحضر ابن آدم إِلا بسوءٍ. ثم أخبر أن هؤلاء الكفار المنكِرين للبعث يسألون الرجعة إِلى الدنيا عند الموت بالآية التي تلي هذه، وقيل: هذا السؤال منهم للملائكة الذين يقبضون أرواحهم. فإن قيل: كيف قال: «ارجعون» وهو يريد: «ارجعني» ؟ فالجواب: أن هذا اللفظ تعرفه العرب للعظيم الشأن، وذلك أنه يخبر عن نفسه فيه بما تخبر به الجماعة، كقوله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ «2» ، فجاء خطابه عن نفسه، هذا قول الزّجّاج. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 104] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104)

_ (1) وهي مطلع سورة براءة- التوبة. (2) سورة ق: 43.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 إلى 111]

قوله تعالى: لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ قال ابن عباس: فيما مضى من عُمُري وقال مقاتل: فيما تركت من العمل الصالح. قوله تعالى: كَلَّا أي: لا يرجع إِلى الدنيا إِنَّها يعني: مسألته الرجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي: هو كلام لا فائدة له فيه وَمِنْ وَرائِهِمْ أي: أمامهم وبين أيديهم بَرْزَخٌ قال ابن قتيبة: البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة، وكل شيء بين شيئين فهو برزخ. وقال الزجاج: البرزخ في اللغة: الحاجز، وهو ها هنا: ما بين موت الميت وبعثه. قوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ في هذه النفخة قولان: أحدهما: أنها النفخة الأولى، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنها الثانية، رواه عطاء عن ابن عباس. قوله تعالى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ في الكلام محذوف، تقديره: لا أنساب بينهم يومئذ يتفاخرون بها أو يتقاطعون بها، لأن الأنساب لا تنقطع يومئذ، إنما يرفع التّواصل والتّفاخر بها. وفي قوله: وَلا يَتَساءَلُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يتساءلون بالأنساب أن يترك بعضهم لبعض حَقَّه. والثاني: لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه، لاشتغال كل واحد بنفسه. والثالث: لا يسأل بعضهم بعضاً من أي قبيل أنت، كما تفعل العرب لتعرف النسب فتعرف قدر الرجل. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إِلى قوله: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قال الزجاج: تلفح وتنفح بمعنىً واحد، إِلا أن اللفح أعظم تأثيراً، والكالح: الذي قد تشمَّرت شفته عن أسنانه، نحو ما ترى من رؤوس الغنم إِذا برزت الأسنان وتشمَّرت الشفاه. وقال ابن مسعود: قد بدت أسنانهم وتقلّصت شفاهم كالرأس المشيط بالنار. (1018) وروى أبو عبد الله الحاكم في ( «صحيحه» ) من حديث أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال في هذه الآية: «تشويه النار فتقلِّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته الشّفلى حتى تبلغ سرّته» . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 111] أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 3176 والحاكم 2/ 395 من حديث أبي سعيد، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه الحاكم! واعترضه الذهبي على أن الكلام على إسناده تقدم اه. وإسناده ضعيف لأجل دراج، فإنه روى عن أبي الهيثم أحاديث مناكير، كما ذكر العلماء وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» 4480 بتخريجنا.

قوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ المعنى: ويقال لهم: ألم تكن آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: القرآن. قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «شِقوتُنا» بكسر الشين من غير ألف، وقرأ عمرو بن العاص، وأبو رزين العقيلي، وأبو رجاء العطاردي كذلك، إِلا أنه بفتح الشين. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والأعمش، وحمزة، والكسائي: «شَقَاوتُنا» بألف مع فتح الشين والقاف وعن الحسن، وقتادة كذلك، إِلا أن الشين مكسورة. قال المفسرون: أقرَّ القوم بأنَّ ما كُتب عليهم من الشقاء منعهم الهدى. قوله تعالى: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها أي: من النار. قال ابن عباس: طلبوا الرجوع إِلى الدنيا فَإِنْ عُدْنا أي: إلى الكفر والمعاصي. قوله تعالى: اخْسَؤُا قال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط، يقال: خَسَأْتُ الكلب أَخْسَؤه: إِذا زجرتَه ليتباعد. قوله تعالى: وَلا تُكَلِّمُونِ أي: في رفع العذاب عنكم. قال عبد الله بن عمرو: إِن أهل جهنم يدعون مالكاً أربعين عاماً، فلا يجيبهم، ثم يقول: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ «1» ، ثم ينادون ربَّهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فيدعهم مثل عمر الدنيا، ثم يقول: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ثم ينادون ربَّهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فيدعهم مثل عمر الدنيا، ثم يردّ عليهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ فما ينبس القومُ بعد ذلك بكلمة إِن كان، إِلا الزفير والشهيق. ثم بيَّن الذي لأجله أخسأهم بقوله: إِنَّهُ وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «أنَّه» بفتح الهمزة كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي قال ابن عباس: يريد المهاجرين. قوله تعالى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ قال الزجاج: الأجود إِدغام الذال في التاء لقرب المخرجين، وإِن شئتَ أظهرتَ، لأن الذال من كلمة والتاء من كلمة والتاء، من كلمة، وبين الذال والتاء في المخرج شيء من التباعد. قوله تعالى: سِخْرِيًّا قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو حاتم عن يعقوب: «سخريّا» بضمّ السين ها هنا وفي سورة ص «2» ، تابعهم المفضل في ص. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: بكسر السين في السورتين. ولم يختلف في ضم السين في الحرف الذي في الزخرف. واختار الفراء الضم، والزجاج الكسر. وهل هما بمعنىً؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما لغتان ومعناهما واحد، قاله الخليل، وسيبويه، ومثله قول العرب: بحر لُجِّيٌّ ولِجِيٌّ، وكوكبٌ دُرِيٌّ ودِرِّيٌّ. والثاني: أن الكسر بمعنى الهمز، والضمّ بمعنى السّخرة والاستبعاد، قاله أبو عبيدة، وحكاه الفراء، وهو مروي عن الحسن، وقتادة. قال أبو علي: قراءة من كسر أرجح من قراءة من ضمّ، لأنه من الهزء، والأكثر في الهزء كسر السين. (1019) قال مقاتل: كان رؤوس كفار قريش كأبي جهل وعقبة والوليد قد اتخذوا فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كعمَّار وبلال وخبَّاب وصهيب سِخْرِيّاً يستهزئون بهم ويضحكون منهم. قوله تعالى: حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي: أنساكم الاشتغال بالاستهزاء بهم ذِكْري، فنسب الفعل إلى

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 إلى 118]

المؤمنين وإِن لم يفعلوه، لأنهم كانوا السبب في وجوده، كقوله: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» . قوله تعالى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي: على أذاكم واستهزائكم أَنَّهُمْ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: «أنَّهم» بفتح الألف. وقرأ حمزة والكسائي: «إِنَّهم» بكسرها. فمن فتح «أنَّهم» فالمعنى: جزيتُهم بصبرهم الفور، ومن كسر «إنهم» ، استأنف. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «قال كم لبثتم» وهذا سؤال الله تعالى للكافرين. وفي وقته قولان: أحدهما: أنه يسألهم يوم البعث. والثاني: بعد حصولهم في النار. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: «قل كم لبثتم» وفيها قولان: أحدهما: أنه خطاب لكل واحد منهم، والمعنى: قل يا أيها الكافر. والثاني: أن المعنى: قولوا، فأخرجه مخرج الأمر للواحد، والمراد الجماعة، لأن المعنى مفهوم. وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي يدغمون ثاء «لبثتم» ، والباقون لا يدغمونها فمن أدغم، فلتقارب مخرج الثاء والتاء، ومن لم يدغم، فلتباين المخرجين. وفي المراد بالأرض قولان: أحدهما: أنها القبور. والثاني: الدنيا. فاحتقر القوم ما لبثوا لِما عاينوا من الأهوال والعذاب فقالوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال الفراء: والمعنى: لا ندري كم لبثنا. وفي المراد بالعادِّين قولان: أحدهما: الملائكة، قاله مجاهد. والثاني: الحُسَّاب، قاله قتادة. وقرأ الحسن، والزهري، وأبو عمران الجوني، وابن يعمر: «العادِين» بتخفيف الدال. قوله تعالى: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «قال إِن لبثتم» . وقرأ حمزة، والكسائي: «قل إِن لبثتم» على معنى: قل أيها السائل عن لبثهم. وزعموا أن في مصحف أهل الكوفة «قل» في الموضعين، فقرأهما حمزة، والكسائي على ما في مصاحفهم، أي: ما لبثتم في الأرض إِلَّا قَلِيلًا لأن مكثهم في الأرض وإِن طال، فإنه مُتَنَاهٍ ومكثهم في النار لا يتناهى. وفي قوله: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: لو علمتم قدر لبثكم في الأرض. والثاني: لو علمتم أنكم إِلى الله ترجعون، فعملتم لذلك. قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أي: أفظننتم أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي: للعبث والعبث في اللغة: اللعب، وقيل: هو الفعل لا لغرض صحيح، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: «لا تُرْجَعون» بضم التاء. وقرأ حمزة، والكسائي بفتحها. فَتَعالَى اللَّهُ عمَّا يَصِفُه به الجاهلون من الشِّرك والولد، الْمَلِكُ قال الخطّابي: هو التامّ المُلك الجامع لأصناف المملوكات.

_ (1) سورة إبراهيم: 36.

وأما المالك: فهو الخالص المُلك. وقد ذكرنا معنى «الحقّ» في سورة يونس «1» . قوله تعالى: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ والكريم في صفة الجماد بمعنى: الحسن. وقرأ ابن محيصن: «الكريم» برفع الميم، يعني الله عزّ وجلّ. قوله تعالى: لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي: لا حُجَّة له به ولا دليل وقال بعضهم: معناه: فلا برهان له به. قوله تعالى: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي: جزاؤه عند ربّه.

_ (1) سورة يونس: 32.

سورة النور

سورة النّور وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) (1020) روى أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تُنْزِلُوهُنَّ الغُرَف ولا تُعَلمِّوهُنَّ الكتابة، وعلّموهنّ الغزل وسورة النّور» ، يعني: النّساء. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: سُورَةٌ قرأ الجمهور بالرفع. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة، ومحبوب عن أبي عمرو: «سورةً» بالنصب. قال أبو عبيدة: من رفع، فعلى الابتداء. وقال الزجاج: هذا قبيح، لأنها نكرة، وأَنْزَلْناها صفة لها، وإِنما الرفع على إِضمار: هذه سُورةٌ، والنصب على وجهين: أحدهما على معنى: أنزلنا سورة والثاني على معنى: أُتلُ سُورةً. قوله تعالى: وَفَرَضْناها قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد. وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وعكرمة والضحاك والزهري ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وابن يعمر والأعمش وابن أبي عبلة بالتخفيف. قال الزجاج: من قرأ بالتشديد فعلى وجهين: أحدهما: على معنى التكثير، أي إِننا فرضنا فيها فروضاً. والثاني: على معنى: بيَّنَّا وفصَّلنا ما فيها من الحلال والحرام ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه: ألزمناكم العمل بما فُرض فيها. وقال غيره: مَنْ شدَّد، أراد: فصَّلنا فرائضها، ومَنْ خفَّف، فمعناه: فرضنا ما فيها. قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي القراءة المشهورة بالرفع. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو الجوزاء، وابن

_ موضوع. أخرجه الحاكم 2/ 396 والبيهقي في «الشعب» 2453 من حديث عائشة وفيه عبد الوهّاب بن الضحاك، وهو متروك متهم، ومع ذلك، صححه الحاكم! لكن تعقّبه الذهبي بقوله: بل موضوع، وآفته عبد الوهّاب. قال أبو حاتم: كذاب اه. وأخرجه الخطيب 13/ 224 ومن طريقه ابن الجوزي والواحدي في «الوسيط» 3/ 302 والبغوي في «التفسير» 3/ 360 من طريقين عن محمد بن إبراهيم الشامي، وإسناده ساقط، فيه محمد بن إبراهيم الشامي، قال عنه الذهبي في «الميزان» 3/ 445- 446: قال الدارقطني: كذاب، وقال ابن حبان: يضع الحديث، ثم ذكر الذهبي أحاديث ومنها حديث الباب هذا، وقال: صدق الدارقطني. وورد من حديث ابن عباس أخرجه ابن عدي 2/ 153 ومن طريقه ابن الجوزي 2/ 268 وفيه جعفر بن نصر أعله ابن عدي به، وقال: حدّث عن الثقات بالبواطل، وله موضوعات. وانظر «تفسير الشوكاني» 1724 بتخريجنا.

فصل:

أبي عبلة، وعيسى بن عمر: «الزانيةَ» بالنصب. واختاره الخليل وسيبويه والرّفع اختيار الأكثرين. قال الزجاج: والرفع أقوى في العربية، لأن معناه: من زنى فاجلدوه، فتأويله الابتداء، ويجوز النصب على معنى: اجلدوا الزانية. فأما الجَلْد، فهو ضرب الجِلْد، يقال: جَلَدَه: إِذا ضرب جِلْده، كما يقال: بَطَنَه: إِذا ضَرَب بَطْنه. قال المفسرون: ومعنى الآية: الزانية والزاني إِذا كانا حُرّين بالغَين بِكْرَيْن، فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. فصل: قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية تقتضي وجوب الجَلْدِ على البِكْر والثَّيّب «1» . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حق البِكْر زيادة على الجَلْد بتغريب عام، وفي حق الثَّيِّب زيادة على الجلد بالرجم بالحجارة. (1021) فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «البِكْر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتغريب عامٍ، والثَّيِّب بالثَّيِّب جلد مائة ورجم بالحجارة» . وممن قال بوجوب النَّفي في حق البِكْر: أبو بكر،

_ تقدم في سورة النساء: عند الآية 15 و 16 وقد خرجه مسلم وغيره.

فصل:

وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وممن بعدهم عطاء، وطاوس، وسفيان، ومالك، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإِسحاق، وممن قال بالجمع بين الجلد والرجم في حق الثَّيِّب عليُّ بن أبي طالب، والحسن البصري، والحسن بن صالح، وأحمد، وإِسحاق. قال: وذهب قوم من العلماء إِلى أن المراد بالجَلْد المذكور في هذه الآية: البِكْر، فأما الثَّيِّب، فلا يجب عليه الجَلْد، وإِنما يجب الرجم، روي عن عمر، وبه قال النخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك، وروي عن أحمد رواية مثل قول هؤلاء. قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رزين والضحاك وابن يعمر والأعمش: «يَأْخُذْكُمْ» بالياء بِهِما رَأْفَةٌ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: «رَأْفَةٌ» باسكان الهمزة. وقرأ أبو المتوكل ومجاهد وأبو عمران الجوني وابن كثير: بفتح الهمزة وقصرها على وزن رَعَفَة. وقرأ سعيد بن جبير والضحاك وأبو رجاء العطاردي: «رآفَةٌ» مثل سآمة وكآبة، وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: لا تأخذكم بهما رأفة، فتخفِّفوا الضرب، ولكن أوجعوهما، قاله سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة. والثاني: لا تأخذكم بهما رأفة فتعطِّلوا الحدود ولا تقيموها، قاله مجاهد والشعبي وابن زيد في آخرين. فصل: واختلف العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري: ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشُّرب، ويضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب أصحابنا، وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال مالك: الضرب في الحدود كلِّها سواءٌ غير مبرِّح. فصل: فأما ما يُضرَب من الأعضاء، فنقل الميموني عن أحمد في جَلْد الزاني، قال: يجرَّد، ويعطى كل عضو حقَّه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه. ونقل يعقوب بن بختان: لا يُضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: لا يُضرب إِلا في الظَّهر. وقال الشافعي: يُتَّقى الفرج والوجه. قوله تعالى: فِي دِينِ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: في حُكمه، قاله ابن عباس. والثاني: في طاعة الله، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما قال الزجاج: القراءة باسكان اللام، ويجوز كسرها، والمراد بعذابهما ضربهما، وفي المراد بالطّائفة ها هنا خمسة أقوال «1» : أحدها: الرجل فما فوقه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. وقال النخعي: الواحد طائفة. والثاني: الاثنان فصاعدا، قاله

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 260: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قول: أقل ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين: الواحد فصاعدا، وذلك أن الله عمّ بقوله وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ والطائفة: قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا، غير أنّي وإن كان الأمر على ما وصفت أستحب أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس، عدد من تقبل شهادته على الزنا لأن ذلك إذا كان كذلك، فلا خلاف بين الجميع أنه قد أدى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك وهم فيما دون ذلك مختلفون.

سعيد بن جبير، وعطاء وعن عكرمة كالقولين. قال الزجاج: والقول الأول على غير ما عند أهل اللغة، لأن الطائفة في معنى جماعة، وأقل الجماعة اثنان. والثالث: ثلاثة فصاعداً، قاله الزهري. والرابع: أربعة، قاله ابن زيد. والخامس: عشرة، قاله الحسن البصري. قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً. (1022) قال عبد الله بن عمرو: كانت امرأة تسافح، وتشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. (1023) وقال عكرمة: نزلت في بغايا، كُنَّ بمكة، ومنهن تسع صواحب رايات، وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية: المواخير، ولا يدخل عليهن إِلا زانٍ من أهل القِبلة، أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فنزلت هذه الآية. قال المفسرون: ومعنى الآية: الزاني من المسلمين لا يتزوج من أولئك البغايا إِلا زانية أَوْ مُشْرِكَةً لأنهن كذلك كن وَالزَّانِيَةُ منهن لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، ومذهب أصحابنا «1» أنه إِذا زنى بامرأة، لم يجز له أن يتزوّجها إلّا بعد التّوبة منهما.

_ حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 379 وأحمد 2/ 159- 225 والحاكم 2/ 193 والطبري 25742 والواحدي في «الأسباب» 632 والبيهقي 7/ 153 كلهم من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص به مع اختلاف يسير في ألفاظهم. وإسناده ضعيف لجهالة الحضرمي هذا، وقد وثقه ابن حبان وحده. واعتمده الهيثمي، فقال في «المجمع» 7/ 74: رجال أحمد ثقات! وكذا صححه الحاكم! ووافقه الذهبي. وأخرجه الحاكم 2/ 391 من طريق هشيم عن سليمان التيمي عن القاسم عن عبد الله بن عمرو به، وإسناده ضعيف، فقد سقط منه الحضرمي، ولعل ذلك بسبب عنعنة هشيم، فإنه مدلس، وقد جرى الحاكم على ظاهره، فصححه على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! وليس كما قالا. وله شاهد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري 25749 ومع إرساله فيه راو لم يسم، ومع ذلك هذه الروايات تشهد للحديث الآتي وليست مخالفة له، والله أعلم فقد تكون الحادثة مكررة والسبب واحد. وانظر «أحكام القرآن» 1549. مرسل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 631 عن عكرمة بدون إسناد. وانظر ما قبله.

[سورة النور (24) : الآيات 4 إلى 5]

قوله تعالى: وَحُرِّمَ ذلِكَ وقرأ أُبيّ بن كعب وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: «وحَرَّمَ اللهُ ذلك» بزيادة اسم الله تعالى مع فتح حروف «حَرَّمَ» . وقرأ زيد بن علي: «وحَرُمَ ذلك» بفتح الحاء وضم الراء مخففة. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه نكاح الزواني، قاله مقاتل. والثاني: الزنا، قاله الفراء. [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ شرائط الإِحصان في الزنا الموجب للرجم عندنا أربعة: البلوغ، والحرية، والعقل، والوطء في نكاح صحيح. فأما الإِسلام، فليس بشرط في الإِحصان، خلافا لأبي حنيفة، ومالك. ومعنى الآية: يرمون المحصنات بالزنا، فاكتفى بذكره المتقدِّم عن إِعادته ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا على ما رمَوْهُنَّ به بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون أنهم رأوهنَّ يفعلْنَ ذلك فَاجْلِدُوهُمْ يعني القاذفين. فصل: وقد أفادت هذه الآية أنَّ على القاذف إِذا لم يُقم البيِّنة، الحدَّ، وردَّ الشهادة وثبوتَ الفِسْق، واختلفوا هل يُحكَم بفسقه وردِّ شهادته بنفس القذف، أم بالحدِّ؟ فعلى قول أصحابنا: إِنه يُحكم بفسقه وردِّ شهادته إِذا لم يُقم البيِّنة، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يُحكم بفسقه، وتقبل شهادته ما لم يُقَم الحدُّ عليه. فصل: والتعريض بالقذف- كقوله لمن يخاصمه: ما أنت بزانٍ، ولا أُمُّك زانية- يوجب الحدَّ في المشهور من مذهبنا. وقال أبو حنيفة: لا يوجب الحدَّ. وحدٌّ العبد في القذف نصف حدِّ الحُرِّ، وهو أربعون، قاله الجماعة، إِلا الأوزاعي فانه قال: ثمانون. فأما قاذف المجنون، فقال الجماعة: لا يُحَدُّ. وقال الليث: يُحَدُّ. فأما الصبيّ، فان كان مثله يجامِع أو كانت صبيِّة مثلُها يجامَع، فعلى القاذف الحدُّ. وقال مالك: يُحدُّ قاذف الصبيَّة التي يجامَع مثلُها، ولا يُحَدُّ قاذف الصبيّ. وقال أبو حنيفه، والشافعي: لا يُحَدُّ قاذفهما. فان قذف رجلٌ جماعةً بكلمة واحدة، فعليه حدٌّ واحد، وإِن أفرد كلَّ واحد بكلمة، فعليه لكل واحد حدّ، وهو قول الشعبي، وابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه حدّ واحد، سواء قذفهم بكلمة أو بكلمات. فصل: وحدُّ القذف حقٌّ لآدميّ، يصحّ أن يبرئ منه، ويعفو عنه، وقال أبو حنيفة: هو حقّ الله عزّ وجلّ وعندنا أنه لا يستوفى إِلا بمطالبة المقذوف، وهو قول الأكثرين. وقال ابن أبي ليلى: يحدّه

[سورة النور (24) : الآيات 6 إلى 10]

الإِمام وإِن لم يطالِب المقذوف. قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي: من القذف وَأَصْلَحُوا قال ابن عباس: أظهروا التوبة وقال غيره: لم يعودوا إِلى قذف المُحْصنَات، وفي هذا الإِستثناء قولان: أحدهما: أنه نسخ حدِّ القذف وإِسقاط الشهادة معاً، وهذا قول عكرمة، والشعبي، وطاوس، ومجاهد، والقاسم بن محمد، والزهري، والشافعي، وأحمد. والثاني: أنه يعود إِلى الفسق فقط، وأما الشهادة، فلا تُقْبَل أبداً، قاله الحسن، وشريح، وإِبراهيم، وقتادة. فعلى هذا القول انقطع الكلام عند قوله: «أبداً» وعلى القول الأول وقع الاستثناء على جميع الكلام، وهذا أصح، لأن المتكلّم بالفاحشة لا يكون جرماً من راكبها، فإذا قُبلت شهادةُ المقذوف بعد ثبوته، فالرامي أيسر جرماً، وليس القاذف بأشدَّ جرماً من الكافر، فإنه إِذا أسلم قبلت شهادته. [سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ. (1024) سبب نزولها أن هلال بن أُمية وجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يُهجْه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله: إِنِّي جئت أهلي، فوجدت عندها رجلاً، فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما جاء به، واشتد عليه، فقال سعد بن عبادة: الآن يَضْرِبُ رسولُ الله هلالاً ويُبطل شهادته، فقال هلال: والله إِنِّي لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فو الله إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أن يأمر بضربه إِذ نزل عليه الوحي، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. (1025) وفي حديث آخر، أن الرجل الذي قذفها به شريك بن سحماء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال

_ أخرجه أحمد 1/ 238 والطبري 25828 من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لأجل عباد بن منصور، لكن أصله محفوظ، أخرجه البخاري وغيره. وانظر ما بعده وانظر «أحكام القرآن» 1555. صحيح. أخرجه البخاري 2671 و 4747 وأبو داود 2254 والترمذي 3179 وابن ماجة 2067 والبيهقي 7/ 393 والبغوي 2370 كلهم من حديث ابن عباس، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «البينة وإلا حد في ظهرك» . فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد. فنزل جبريل وأنزل عليه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فقرأ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلّم فأرسل إليها. فجاء هلال فشهد. والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقّفوها وقالوا: إنها موجبة. قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سمحاء» فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» . لفظ البخاري. وانظر «أحكام القرآن» 1553 بتخريجنا.

فصل في بيان حكم الآية:

لهلال حين قذفها: «ائتني بأربعة شهداء، وإِلا فحدٌّ في ظهرك» ، فنزلت هذه الآية، فنُسخ حكم الجلد في حق الزوج القاذف. فصل في بيان حكم الآية: إِذا قذف الرجل زوجته بالزنا، لزمه الحدُّ، وله التخلُّص منه باقامة البيِّنة، أو باللِّعان، فإن أقام البيِّنة لزمها الحدّ، وإِن لاعنها، فقد حقَّق عليها الزّنا، ولها التّخليص منه باللّعان، فإن نكل الزوج عن اللعان، فعليه حدُّ القذف، وإِن نكلت الزوجة، لم تحدّ، وحُبست حتى تُلاعِن أو تُقِرَّ بالزنا في إِحدى الروايتين، وفي الأخرى: يُخلَّى سبيلُها، وقال أبو حنيفة: لا يُحَدُّ واحد منهما، ويُحبس حتى يُلاعِن. وقال مالك، والشافعي: يجب الحدُّ على الناكل منهما. فصل: ولا تصح الملاعنة إِلا بحضرة الحاكم. فان كانت المرأة خَفِرة، بعث الحاكم من يُلاعِن بينهما. وصفة اللعان أن يبدأ الزوج فيقول: أشهد بالله إِني لمن الصادقين فيما رميتُها به من الزنا، أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: ولعنة الله عليه إِن كان من الكاذبين، ثم تقول الزوجة أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم تقول: وغضب الله عليها إِن كان من الصادقين. والسُّنة أن يتلاعنا قياماً، ويقال للزوج إِذا بلغ اللعنة: اتق الله فانها المُوجِبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكذلك يقال للزوجة إِذا بلغت إِلى الغضب. فإن كان بينهما ولد، افتقر نفيه عن الأب إِلى ذِكْره في اللعان، فيزيد في الشهادة: وما هذا الولد ولدي، وتزيد هي: وإِن هذا الولد ولده. فصل: واختلف الفقهاء في الزوجين اللَّذين يجري بينهما اللعان، فالمشهور عن أحمد أن كل زوج صح قذفه صح لعانه، فيدخل تحت هذا المسلمُ والكافر والحرُّ والعبد، وكذلك المرأة، وهذا قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجوز اللعان بين الحرِّ والأمَةَ، ولا بين العبد والحرة، ولا بين الذميَّين، أو إِذا كان أحدهما ذميّاً ونقل حرب عن أحمد نحو هذا، والمذهب هو الأول. ولا تختلف الرواية عن أحمد أن فُرقة اللعان لا تقع بلعان الزوج وحده. واختلفت هل تقع بلعانهما من غير فُرقة الحاكم على روايتين. وتحريم اللعان مؤبَّد، فان أكذب الملاعنُ نفسه لم تحلَّ له زوجته أيضاً، وبه قال عمر، وعلي، وابن مسعود، وعن أحمد روايتان، أصحهما: هذا، والثانية: يجتمعان بعد التكذيب، وهو قول أبي حنيفة. قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ وقرأ أبو حنيفة وأبو المتوكل. وابن يعمر، والنخعي: «تكن» بالتاء. قوله تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «أربعَ» بفتح العين. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: برفع العين. قال الزجاج: من رفع «أربعُ» فالمعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأُ حَدَّ القذف أربعُ ومن نصب، فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربعَ. قوله تعالى: وَالْخامِسَةُ قرأ حفص عن عاصم: «والخامسةَ» نصباً، حملاً على نصب «أربعَ شهادات» . قوله تعالى: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ قرأ نافع، ويعقوب، والمفضل:

[سورة النور (24) : الآيات 11 إلى 20]

«أنْ لعنةُ الله» و «أنْ غضبُ الله» بتخفيف النون فيهما وسكونهما ورفع الهاء من «لعنةُ» والباء من «غضبُ» ، إِلا أن نافعاً كسر الضاد من «غَضِبَ» وفتح الباء. قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا أي: ويَدفع عنها الْعَذابَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحَدُّ. والثاني: الحبس ذكرهما ابن جرير. والثالث: العار. قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: ستره ونعمته. قال الزجاج: وجواب «لولا» ها هنا متروك، والمعنى: لولا ذلك لنال الكاذبَ منكم عذابٌ عظيم، وقال غيره: لولا فضل الله لبيّن الكاذب من الزوجين فأُقيم عليه الحدّ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ يعود على من رجع عن المعاصي بالرحمة حَكِيمٌ فيما فرض من الحدود. [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 20] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أجمع المفسرون أن هذه الآية وما يتعلق بها بعدها نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها، وفي حديث الإِفك أن هذه الآية إِلى عشر آيات نزلت في قصة عائشة. وقد ذكرنا حديث الإِفك في كتاب «الحدائق» وفي كتاب «المغني في التفسير» فلم نطل بذكره، لأن غرضنا اختصار هذا الكتاب ليحفظ. فأما الإِفك، فهو الكذب، والعصبة: الجماعة. ومعنى قوله تعالى: مِنْكُمْ أي: من المؤمنين. (1026) وروى عروة عن عائشة أنها قالت: هم أربعة: حسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي بن سلول ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، وكذلك عدهم مقاتل. قوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ قال المفسرون: هذا خطاب لعائشة وصفوان بن المعطّل،

_ صحيح. أخرجه مسلم 2770 ح 58 والترمذي 3180 من طريق أبي أسامة عن هشام عن عروة عن عائشة، وهو طرف حديث. وانظر «أحكام القرآن» 1566 بتخريجنا. وحديث الإفك، حديث صحيح مشهور. أخرجه البخاري 2661 و 4141 و 4750، و 6679 ومسلم 2770 وأبو داود 4735 والترمذي 3180 والنسائي في «عشرة النساء» 45 وعبد الرزاق 9748 وأحمد 6/ 197 وأبو يعلى 4927 و 4933 وابن حبان 4212 والطبراني 23/ 134 والبيهقي 7/ 302 من طرق كلهم من حديث عائشة.

وقيل: لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعائشة والمعنى: إٍنكم تؤجرون فيه، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يعني: من العصبة الكاذبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي: جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، ومجاهد وابن أبي عبلة، والحسن، ومحبوب عن أبي عمرو ويعقوب: «كُبْره» بضم الكاف. قال الكسائي: وهما لغتان. وقال ابن قتيبة: كِبْر الشيء: معظمه، ومنه هذه الآية. قال قيس بن الخطيم يذكر امرأة: تنام عن كبر شأنها فإذا ... قامت رويدا تكاد تنغرف «1» وفي المتولي لذلك قولان: «2» أحدهما: أنه عبد الله بن أبي، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وعروة عن عائشة، وبه قال مجاهد، والسدي، ومقاتل. قال المفسرون: هو الذي أشاع الحديث، فله عذاب عظيم بالنار. وقال الضحاك: هو الذي بدأ بذلك. والثاني: أنه حسان. (1027) روى الشعبي أن عائشة قالت: ما سمعت أحسن من شعر حسان، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة فقيل: يا أم المؤمنين، أليس الله يقول: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ، فقالت: أليس قد ذهب بصره؟ (1028) وروى عنها مسروق أنها قالت: وأي عذاب أشد من العمى، ولعل الله أن يجعل ذلك العذاب العظيم، ذهاب بصره، تعني: حسان بن ثابت. ثم إنّ الله عزّ وجلّ أنكر على الخائضين في الإفك بقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أي: هلا إذ سمعتم أيتها العصبة الكاذبة قذف عائشة ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ من العصبة الكاذبة، وهم حسّان ومسطح

_ أخرجه الطبري 25843 عن الشعبي عن عائشة، وهذا منقطع، وانظر ما بعده. صحيح. أخرجه البخاري 4146 و 4755 و 4756 ومسلم 2488 والطبري 25845 من طريق مسروق به. قال مسروق، دخلنا على عائشة رضي الله عنها وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا يشبب بأبيات له وقال: حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك. قال مسروق: فقلت لها: لم تأذني له أن يدخل عليك وقد قال الله: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فقالت: وأي عذاب أشد من العمى؟ قالت له: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ومعنى: حصان: عفيفة، رزان: ذات ثبات ووقار وعفة، ما تزن: ما تتهم، غرثى: جائعة.

وَالْمُؤْمِناتُ وهي: حمنة بنت جحش بِأَنْفُسِهِمْ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: بأمهاتهم. والثاني: بأخواتهم. والثالث: بأهل دينهم، لان المؤمنين كنفس واحدة، وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي: كذب بيِّن. وجاء في التفسير أن أبا أيوب الأنصاري قالت له أمه: (1029) ألا تسمع ما يقول الناس في أمر عائشة؟! فقال: هذا إفك مبين، أكنت يا أمّاه فاعلته؟ فقالت: معاذ الله، قال: فعائشة والله خير منك فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: لَوْلا جاؤُ أي: هلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: «بأربعة» منونة والمعنى: يشهدون بأنهم عاينوا ما رموها به فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ أي: في حكمه هُمُ الْكاذِبُونَ. ثم ذكر القاذفين فقال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: لولا ما منَّ الله به عليكم، لَمَسَّكُمْ أي: لأصابكم فِيما أَفَضْتُمْ أي: أخذتم وخضتم فِيهِ من الكذب والقذف عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة. ثم ذكر الوقت الذي لولا فضله لأصابهم فيه العذاب فقال إِذْ تَلَقَّوْنَهُ وكان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا، فيتلقاه بعضهم من بعض. وقرأ عمر بن الخطاب: «إذ تُلْقونه» بتاء واحدة خفيفة مرفوعة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مرفوعة خفيفة وقرأ معاوية، وابن السميفع مثله، إلا أنهما فتحا التاء والقاف. وقرأ ابن مسعود: «تَتَلَقَّونه» بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام وتشديد القاف. وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، ومجاهد، وأبو حيوة: «تَلِقُونه» بتاء واحدة خفيفة مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف. وقال الزجاج: «تُلْقونه» : يلقيه بعضكم إلى بعض وتلقونه معناه: إذ تسرعون بالكذب، يقال: قد ولق يلق: إذا أسرع في الكذب وغيره، قال الشاعر: جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّامْ تلق أي: تسرع. وقال ابن قتيبة: «تَلَقَّوْنَهُ» أي: تقبلونه، ومن قرأ: «تَلِقونَهُ» أخذه من الولق، وهو الكذب. قوله تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي: من غير أن تعلموا أنه حق وَتَحْسَبُونَهُ يعني: ذلك القذف هَيِّناً أي: سهلا لا إثم فيه وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ في الوزر. ثم زاد عليهم في الإنكار فقال: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أي: ما يحل وما ينبغي لنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ وهو يحتمل التنزيه والتعجب. وروت عائشة أن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له: ألم تسمع ما يتحدث الناس؟! فقال: «ما يكونُ لنا ان نَتَكَلَم بهذا ... » الآية، فنزلت الآية، وقد روينا آنفا أن أمه ذكرت له ذلك، فنزلت الآية المتقدمة، وروي عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ذلك قال سبحانك هذا بهتان عظيم، فقيل للناس: هلا قلتم كما قال سعد؟! قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أي: ينهاكم الله أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أي: إلى مثله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

_ أخرجه الطبري 25859 من طريق محمد بن إسحاق به، عن بعض رجال بني النجار، فهذا إسناد ضعيف. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 636 عن عروة عن عائشة رضي الله عنها حدثته بحديث الإفك وقالت فيه: وكان أبو أيوب الأنصاري حين أخبرته امرأته ... وذكر الحديث وفي إسناده عطاء الخراساني، وهو ضعيف.

[سورة النور (24) : آية 21]

لأن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ في الأمر والنهى. ثم هدّد القاذفين بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي: يحبون أن يفشو القذف بالفاحشة، وهي الزنا فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا يعني: الجلد وَالْآخِرَةِ عذاب النار. (1030) وروت عمرة عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة، فضربوا حدهم. (1031) وروى أبو صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جلد عبد الله بن أبيّ، ومسطح ابن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة، فأما الثلاثة فتابوا، وأما عبد الله فمات منافقا وبعض العلماء ينكر صحة هذا، ويقول: لم يضرب أحدا. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ شر ما خضتم فيه وما يتضمن من سخط الله وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ جوابه محذوف، تقديره: لعاقبكم فيما قلتم لعائشة. قال ابن عباس: يريد: مسطحا، وحسّانا، وحمنة. [سورة النور (24) : آية 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) قوله تعالى: لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي: تزيينه لكم قذف عائشة. وقد سبق شرح «خطوات الشيطان» وبيان «الفحشاء والمنكر» «1» . قوله تعالى: ما زَكى مِنْكُمْ وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة: «ما زكَّى» بتشديد الكاف. وفيمن خوطب بهذا قولان: أحدهما: أنه عام في الخلق. والثاني: أن خاص للمتكلمين في الإفك. ثم في معناه أربعة أقوال: أحدها: ما اهتدى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: ما أسلم، قاله ابن زيد. والثالث: ما صلح، قاله مقاتل. والرابع: ما ظهر، قاله ابن قتيبة.

_ غير قوي. أخرجه أبو داود 4474 والترمذي 3181 وابن ماجة 2567 وأحمد 6/ 35 والطحاوي في «المشكل» 2963 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 74 وفي «السنن» 8/ 250 من طرق عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: «لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلّم على المنبر فذكر ذاك، وتلا- تعني القرآن- فلما نزل المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم» . وفي رواية الطحاوي «فأمر برجلين وامرأة، فضربوا حدهم ثمانين ثمانين» . وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، لكن صرّح بالتحديث في رواية الطحاوي والبيهقي. وأخرجه أبو يعلى 4932 عن عروة مرسلا. وأخرجه عبد الرزاق 9750 عن الزهري مرسلا. وأخرجه أبو داود 4475 عن محمد بن إسحاق مرسلا. وأخرجه عبد الرزاق 9749 من طريق ابن أبي يحيى عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة. وإسناده ضعيف جدا، فيه ابن أبي يحيى، وهو إبراهيم بن محمد، وهو متروك. فلا يقطع بصحة هذا الخبر بمثل هذه الروايات، والله أعلم. لم يثبت أن ابن سلول، قد حدّ البتة، وأصح شيء ورد في ذلك هو ما تقدم. وهذا الطريق عن أبي صالح عن ابن عباس، ليس بشيء. لأن أبا صالح واه في ابن عباس، وراويته الكلبيّ، وهو ممن يضع الحديث.

[سورة النور (24) : آية 22]

قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي: يطهّر من يشار من الإثم بالتوبة والغفران فالمعنى: وقد شئت ان أتوب عليكم وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ علم ما في نفوسكم من التّوبة والنّدامة. [سورة النور (24) : آية 22] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة: «لا يتألَّ» بهمزة مفتوحة بين التاء واللام وتشديد اللام على وزن يَتَعلَّ. (1032) قال المفسرون: سبب نزولها أن أبا بكر الصديق كان ينفق على مسطح لقرابته وفقره، فلما خاض في أمر عائشة قال أبو بكر: والله لا أنفق عليه شيئا أبداً، فنزلت هذه الآية، فأما الفضل، فقال أبو عبيدة: هو التفضل والسعة. الجِدةْ. قال المفسرون: والمراد به: أبو بكر. قوله تعالى: أَنْ يُؤْتُوا قال ابن قتيبة: معناه: أن لا يؤتوا، فحذف «لا» . فأمّا قوله تعالى: أُولِي الْقُرْبى فانه يعنى مسطحا، وكان ابن خالة أبي بكر، وكان مسكيناً، وكان مهاجراً. قال المفسرون: فلما سمع أبو بكر أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال: بلى يا ربّ، وأعاد نفقته على مسطح. [سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يعني: العفائف الْغافِلاتِ عن الفواحش، لُعِنُوا فِي الدُّنْيا أي: عذبوا بالجلد، وفي الآخرة بالنار. واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها نزلت في عائشة خاصة. قال خصيف: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية، فقلت: من قذف محصنة لعنه الله؟ قال: لا، إنما أنزلت هذه الآية في عائشة خاصة. والثاني: أنها في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم خاصة، قاله الضحاك. والثالث: أنها في المهاجرات. قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أن المرأة كانت إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة، قذفها المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنما خرجت تفجر، فنزلت هذه الآية. والرابع: أنها عامة في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم وغيرهن، وبه قال قتادة، وابن زيد. فان قيل: لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرّجال؟

_ هو طرف حديث الإفك المتقدم برقم 1045، وهو عند الطبري 25875 من طريق ابن إسحاق عن الزهري، وقد عنعن. لكن الحجة بما تقدم، ذكره البخاري 4757 من وجه آخر تعليقا، ووصله أحمد 6/ 59 والطبري 25257. وانظر «أحكام القرآن» 1571 بتخريجنا.

[سورة النور (24) : آية 26]

فالجواب: أن من رمى مؤمنة فلا بد أن يرمي معها مؤمناً، فاستغني عن ذكر المؤمنين، ومثله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» أراد: والبرد، قاله الزجاج. قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «يشهد» بالياء وهو إقرارها بما تكلموا به من الفرية. قال ابو سليمان الدمشقي: وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم. وقال ابن جرير: المعنى: ان ألسنة بعضهم تشهد على بعض. قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أي: حسابهم العدل، وقيل: جزاءهم الواجب. وقرأ مجاهد، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس، والأعمش: «دينهم الحقُ» برفع القاف وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ قال ابن عباس: وذلك ان عبد الله بن ابي كان يشك في الدين، فإذا كانت القيامة علم حيث لا ينفعه. [سورة النور (24) : آية 26] الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) قوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: الكلمات الخبيثات لا يتكلم بها إلا الخبيث من الرجال والنساء، والكلمات الطيبات لا يتكلم بها إلا الطيبون من الرجال والنساء. والثاني: الكلمات الخبيثات إنما تلصق بالخبيثين من الرجال والنساء، فأما الطيبات والطيبون، فلا يصلح أن يقال في حقهم إلا الطيبات. والثالث: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال. والرابع: الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال، وكذلك الطيبات وقوله تعالى: أُولئِكَ يعني: عائشة وصفوان مُبَرَّؤُنَ: منزهون مِمَّا يَقُولُونَ من الفرية لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنّة. [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ.

_ (1) سورة النحل: 81. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 295: وأولى هذه الأقوال في تأويل الآية: قول من قال: عنى بالخبيثات: الخبيثات من القول، وذلك قبيحه وسيئه، للخبيثين من الرجال والنساء والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، هم بها أولى، لأنهم أهلها. والطيبات من القول وذلك حسنه وجميله، للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول، لأنهم أهلها، وأحق بها.

(1033) ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها أن امرأة من الانصار جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إني اكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل علي رجل من أهلي، فنزلت هذه الآية فقال ابو بكر بعد نزولها: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن، فنزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ الآية. ومعنى قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أي: بيوتاً ليست لكم. واختلف القراء في باء البيوت، فقرأ بعضهم بضمها، وبعضهم بكسرها. وقد بيّنّا ذلك في سورة البقرة «1» . قوله تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: حتى تسلموا وتستأنسوا. قال الزّجّاج: و «تستأنسوا» في اللغة، بمعنى تستأذنوا، وكذلك هو في التفسير، والاستئذان: الاستعلام، تقول: آذنته بكذا، أي: أعلمته، وآنست منه كذا، أي: علمت منه، ومثله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً «2» أي: علمتم. فمعنى الآية: حتى تستعلموا، يريد أهلها ان تدخلوا، ام لا؟ قال المفسرون: وصفة الاستعلام أن تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ولا يجوز أن تدخل بيت غيرك إلا بالاستئذان، لهذه الآية، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من أن تدخلوا بغير إذن لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أن الاستئذان خير فتأخذون به، قال عطاء: قلت لابن عباس: أستأذن على أمي وأختي ونحن في بيت واحد؟ قال: أيسرُّكَ أن ترى منهنّ عورة؟ قال: لا،. قال: فاستأذن. قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً أي: إن وجدتموها خالية فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي: إن ردوكم فلا تقفوا على أبوابهم وتلازموها، هُوَ أَزْكى لَكُمْ يعني: الرجوع خير لكم وأفضل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول باذن وغير إذن عَلِيمٌ. فصل «3» : وهل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ فيها قولان: أحدهما: أن حكمها عام في جميع

_ ضعيف. أخرجه الواحدي 638 من طريق الفريابي، والطبري 25921 كلاهما عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت، وإسناده ضعيف لضعف أشعث بن سوار، ثم هو مرسل، عدي تابعي. وهو عند الطبري دون آخره، - وعند الواحدي قال: قال المفسّرون: فلما نزلت قال أبو بكر.. وانظر «تفسير الشوكاني» 1740 و «تفسير القرطبي» 4513 كلاهما بتخريجنا.

[سورة النور (24) : الآيات 30 إلى 31]

البيوت، ثم نسخت منها البيوت التي ليس لها أهل يستأذنون بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ، هذا مروي عن الحسن، وعكرمة. والثاني: أن الآيتين محكمتان، فالاستئذان شرط في الأولى إذا كان للدار أهل، والثانية وردت في بيوت لا ساكن لها، والإذن لا يتصور من غير آذن، فاذا بطل الاستئذان، لم تكن البيوت الخالية داخلة في الأولى، وهذا أصح. قوله تعالى: أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فيها خمسة اقوال «1» : أحدها: أنها الخانات والبيوت المبنية للسابلة ليأووا إليها، ويؤووا أمتعتهم، قاله قتادة. والثاني: أنها البيوت الخربة، والمتاع: قضاء الحاجة فيها من الغائط والبول، قاله عطاء. والثالث: أنها بيوت مكة، قاله محمد بن الحنفية. والرابع: حوانيت التجار التي بالأسواق، قاله ابن زيد. والخامس: أنها جميع البيوت التي لا ساكن لها، لأن الاستئذان إنما جعل لأجل الساكن، قاله ابن جريج. فيخرّج في معنى «المتاع» ثلاثة أقوال: أحدها: الأمتعة التي تباع وتشترى. والثاني: إلقاء الأذى من الغائط والبول. والثالث: الانتفاع بالبيوت لاتقاء الحرّ والبرد. [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ في «من» قولان: أحدهما: أنها صلة. والثاني: أنها أصل، لأنهم لم يؤمروا بالغض مطلقاً، وإنما أمروا بالغض عما لا يحلُّ. وفي قوله تعالى: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ قولان: أحدهما: عما لا يحل لهم، قاله الجمهور. والثاني: عن أن تُرى، فهو أمر لهم بالاستتار، قاله أبو العالية، وابن زيد.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 301: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عمّ بقوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ كل بيت لا ساكن فيه ولا مالك له، من بيت خراب قد باد أهله ولا ساكن فيه لمتاع له يؤويه إليه، أو لقضاء حقه. وأما بيوت التجار، فإنه ليس لأحد دخولها إلا بإذن أربابها وسكانها، فإن ظن ظان أن التاجر إذا فتح دكانه وقعد للناس، فقد أذن لمن أراد الدخول عليه في دخوله، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وإن كان التاجر قد عرف منه أن فتحه حانوته إذن لمن أراد دخوله في الدخول، فذلك بعد راجع إلى ما قلنا. من أنه لم يدخله من دخله إلا بإذنه. فتبين أنه مما عنى الله من هذه الآية بمعزل.

قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى الغض وحفظ الفروج أَزْكى لَهُمْ أي خير وأفضل إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ في الأبصار والفروج. ثم امر النساء بما امر به الرجال. قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي: لا يظهرنها لغير مَحْرَم. وزينتهن على ضربين: خفية كالسّوارين والقرطين والدّملج والقلائد ونحو ذلك، وظاهر وهي المشار إليها بقوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وفي سبعة أقوال «1» : أحدها: انها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود وفي لفظ آخر قال هو الرداء. والثاني: أنها الأكفّ، والخاتم والوجه. والثالث: الكحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: القُلْبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة. والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد. والسادس: الخاتم والسوار، قاله الحسن. والسابع: الوجه والكفان، قاله الضحاك. قال القاضي أبو يعلى: والقول الاول أشبه، وقد نص عليه احمد، فقال: الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر «2» ، ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، مثل ان يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فانه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصّة فأما النّظر إليها لغير عذر، فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها «3» ، وسواء في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن. فان قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟! فالجواب: أن في تغطيته مشقة، فعفي عنه «4» .

_ (1) قال الطبري رحمه الله في في «تفسيره» : وأولى هذه الأقوال بالصواب: قول من قال: عني بذلك الوجه والكفان. (2) جاء في «المغني» 2/ 327- 328: وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة، لأنه قد روي في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «المرأة عورة» ، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. لكن رخّص لها في كشف وجهها وكفيها، لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة، لأنه مجمع المحاسن. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: المرأة كلها عورة حتى ظفرها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «المرأة عورة» . وهذا عام يقتضي وجوب ستر جميع بدنها وترك الوجه للحاجة، ففيما عداه يبقى على الدليل. [.....] (3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 9/ 489: لا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها ولا خلاف في إباحة النظر إلى وجهها، وذلك لأنه ليس بعورة وهو مجمع المحاسن، وموضع النظر، ولا يباح له النظر إلى ما لا يظهر عادة. ولا بأس بالنظر إليها بإذنها أو غير إذنها، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل» وقد أمر بالنظر وأطلق. ولا يجوز له الخلوة بها، لأنها محرّمة، ولم يرد الشرع بغير النظر فبقيت على التحريم، ولأنه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور، ولا ينظر إليها نظر تلذذ وشهوة، ولا لريبة، قال أحمد، في رواية صالح: ينظر إلى الوجه، ولا يكون عن طريق لذة. وله أن يردد النظر إليها، ويتأمل محاسنها، لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك. فأما ما يظهر غالبا سوى الوجه، كالكفين والقدمين ونحو ذلك، مما تظهره المرأة في منزلها ففيه روايتان: إحداهما: لا يباح النظر إليه، لأنه عورة، فلم يبح النظر إليه كالذي لا يظهر ولأن الحاجة تندفع بالنظر إلى الوجه فيبقى ما عداه على التحريم. والثانية: له النظر إلى ذلك. وإلى ما يدعو إلى نكاحها، من يد أو جسم ونحو ذلك. قال أبو بكر: لا بأس أن ينظر إليها عند الخطبة حاسرة. وقال الشافعي: فينظر إلى الوجه والكفين. (4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 2/ 328: لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة ولا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم. وفي الكفين روايتان: إحداهما: يجوز كشفهما. وهو قول مالك والشافعي لقول ابن عباس قال، في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قال: الوجه والكفين. وقال أبو حنيفة: القدمان ليس من العورة لأنهما يظهران غالبا منها كالكفين والوجه. وإذا انكشف من المرأة أقل من ربع شعرها أو ربع فخذها أو ربع بطنها لم تبطل صلاتها. وأجمع أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت، وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها الإعادة. والثانية: هما من العورة ويجب سترهما في الصلاة. وهذا قول الخرقي، ونحوه قال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي: من فقهاء التابعين بالمدينة وأحد الفقهاء السبعة، وكان يقال له: راهب قريش، توفي سنة 94. انظر طبقات الفقهاء للشيرازي 59، تهذيب التهذيب 12/ 30- 32.

قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ وهي جمع خِمار، وهو ما تغطى به المرأة رأسها، والمعنى: وليُلْقِين مَقانِعَهن عَلى جُيُوبِهِنَّ ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وإبراهيم النخعي، والأعمش: «على جِيوبهن» بكسر الجيم، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ يعني: الخفية، وقد سبق بيانها إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ قال ابن عباس: لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن. قوله تعالى: أَوْ نِسائِهِنَّ يعني: المسلمات. قال أحمد: لا يحل للمسلمة ان تكشف راسها عند نساء أهل الذمة واليهودية والنصرانية لا تقبِّلان المسلمة «1» . قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قال اصحابنا: المراد به: الإماء دون العبيد. وقال أصحاب الشّافعيّ: يدخل فيه العبيد، يجوز للمرأة عندهم أن تظهر لمملوكها ما تظهر لمحارمها، لأنّ مذهب الشّافعيّ رضي الله عنه أنه مَحْرم لها، وعندنا انه ليس بمحرم، ولا يجوز أن ينظر إلى غير وجهها وكفّيها، وقد نصّ أحمد على أنه لا يجوز أن ينظر إلى شعر مولاته. قال القاضي أبو يعلى: وإنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء، لأن الذين تقدم ذكرهم احرار، فلما ذكر الإماء زال الإشكال. قوله تعالى: أَوِ التَّابِعِينَ وهم الذين يتبعون القوم ويكونون معهم لإرفاقهم إياهم، او لأنهم تشؤوا فيهم. وللمفسرين في هذا التابع ستة اقوال: أحدها: أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل، قاله قتادة، وكذلك قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء. والثاني: أنه العنين، قاله عكرمة. والثالث: المخنث، كان يتبع الرجل يخدمه بطعامه، ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن، قاله الحسن. والرابع: أنه الشيخ الفاني. والخامس: أنه الخادم، قالهما ابن السائب. والسادس: أنه الذي لا يكترث بالنساء، إما لكبر أو لهرم أو لصغر، ذكره ابن المنادي من أصحابنا. قال الزجاج: «غير» صفة للتابعين. وفيه دليل على ان قوله: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ معناه: غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ فالمعنى: ولا يبدين زينتهن لمماليكهن، ولا لتُبَّاعِهن، إلا أن يكونوا غير أولي الإربة، والإربة: الحاجة، ومعناه: غير ذوي الحاجات إلى النساء «2» .

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 355: وقوله أَوْ نِسائِهِنَّ يعني: تظهر زينتها أيضا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة، لئلا يصفن لرجالهن، وذلك وإن كان محذورا في جميع النساء، إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد، فإنهن ما يمنعهن من ذلك مانع، فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 355: في الصحيح من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن مخنثا كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم وهو ينعت امرأة: أنها إذا أقبلت بأربع وإذا أدبرت بثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا أرى هذا يعلم ها هنا، لا يدخلن عليكن فحجبوه، فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم.

[سورة النور (24) : الآيات 32 إلى 34]

قوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ قال ابن قتيبة: يريد الأطفال، بدليل قوله تعالى: لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي: لم يعرفوها «1» . قوله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ أي: باحدى الرجلين على الأخرى ليضرب الخلخال الخلخال فيعلم أنّ عليها خلخالين «2» . [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى وهم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال: رجل أيِّم وامرأة أيِّم، ورجل أرمل وامرأة أرملة، ورجل بِكر وامرأة بِكر: إِذا لم يتزوجا، وامرأة ثيِّب ورجل ثيِّب: إِذا كانا قد تزوجا، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ أي: من عبيدكم، يقال: عَبْد وعِبَاد وعَبِيد، كما يقال: كَلْب وكلاب وكليب. وقرأ الحسن، ومعاذ القارئ: «من عَبيدكم» . قال المفسرون: والمراد بالآية الندب. ومعنى الصّلاح ها هنا: الإِيمان. والمراد بالعباد: المملوكون، فالمعنى: زوِّجوا المؤمنين من عبيدكم وولائدكم. ثم رجع إِلى الأحرار فقال: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فأخبرهم أن النكاح سبب لنفي الفقر. قوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي: وليْطلب العِفَّة عن الزنا والحرام مَن لا يجد ما ينكح به من صداق ونفقة.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 356: يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إذا كان مراهقا أو قريبا منه بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرّق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكّن من الدخول على النساء. (2) قال ابن كثير رحمه الله 3/ 356: كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها، ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك وكذا إذا كان شيء من زينتها مستورا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي، دخل في هذا النهي ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها فيشم الرجال طيبها. وقوله وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهيا عنه، والله تعالى هو المستعان وعليه التكلان.

(1034) وقد روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا معشر الشباب عليكم بالباءة، فمن لم يجد فعليه بالصيام فانه له وجاء» . قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أي: يطلبون المكاتبة من العبيد والإِماء على أنفسهم، فَكاتِبُوهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه مندوب إِليه، قاله الجمهور. والثاني: أنه واجب، قاله عطاء، وعمرو بن دينار. وذكر المفسرون: أنها نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزَّى يقال له: صبيح، سأل مولاه الكتابة فأبى عليه، فنزلت هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً. قوله تعالى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فيه ستة أقوال «1» : أحدها: إِن علمتم لهم مالاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، والضحاك. والثاني: إِن علمتم لهم حيلة، يعني: الكسب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أن علمتم فيهم ديناً، قاله الحسن. والرابع: إِن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير، قاله سعيد بن جبير. والخامس: إِن أقاموا الصلاة، قاله عبيدة السلماني. والسادس: إِن علمتم لهم صدقاً ووفاءً، قاله إِبراهيم. قوله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فيه قولان «2» : أحدهما: أنه خطاب للأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة، أُمروا ان يعطوا المكاتبين من سهم الرِّقاب، روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو سهم الرقاب يُعطى منه المكاتَبون. والثاني: أنه خطاب للسادة، أُمروا أن يعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئاً. قال أحمد والشافعي: الإِيتاء واجب، وقدَّره أحمد بربع مال الكتابة. وقال الشافعي: ليس بمقدَّر. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجب الإِيتاء: وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كاتب غلاماً له يقال له: أبو أميّة، فجاء بنجمه حين حلَّ فقال: اذهب يا أبا أميّة فاستعن به في مكاتبتك، قال: يا أمير المؤمنين لو أخَّرْتَه حتى يكون في آخر النجوم، فقال: يا أبا أُمية: إِني أخاف أن لا أدرك ذلك، ثم قرأ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ، قال عكرمة: وكان ذلك أول نجم أُدِّي في الإِسلام. قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ. (1035) روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي سفيان عن جابر، قال: كان عبد الله بن أبيّ

_ صحيح. أخرجه البخاري 5066 ومسلم 1400 ح 3 و 4 والترمذي 1081 والنسائي 4/ 169 و 270 و 6/ 57 و 58 وأحمد 1/ 424 و 425 و 432 والدارمي 2/ 132. والبيهقي 7/ 77 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه البخاري 1905 و 5065 ومسلم 1400 وأبو داود 2046 وابن ماجة 1845 والنسائي 4/ 171 و 6/ 57 و 58 وأحمد 1/ 378 و 447 والطيالسي 1905 وأبو يعلى 5110 و 5192 والبيهقي 7/ 77 من طرق عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود به. وورد من حديث أبي هريرة عند الواحدي في «الوسيط» 3/ 318. حديث صحيح. أخرجه مسلم 3029 وأبو داود 2311 والنسائي في «التفسير» 385 والطبري 26072 و 26073 والواحدي في «الأسباب» 640 واستدركه الحاكم 2/ 397 كلهم عن جابر: أن جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلّم: فأنزل الله وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ- إلى قوله- غَفُورٌ رَحِيمٌ. لفظ مسلم في روايته الثانية، ورووه بألفاظ متقاربة بمثل سياق المصنف. وانظر «أحكام القرآن» 1602 بتخريجنا.

[سورة النور (24) : آية 35]

يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، فنزلت هذه الآية. (1036) قال المفسرون: وكان له جاريتان، مُعاذة ومُسَيكة، فكان يكرههما على الزنا، ويأخذ منهما الضريبة، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إِماءهم، فلما جاء الإِسلام قالت معاذة لمسيكة: إِن هذا الأمر الذي نحن فيه إِن كان خيراً فقد استكثرنا منه، وإِن كان شرّاً فقد آن لنا أن نَدَعه، فنزلت هذه الآية. وزعم مقاتل أنها نزلت في ست جوارٍ كُنَّ لعبد الله بن أُبيّ، مُعاذة، ومُسَيكة، وأُميمة، وقُتيلة، وعمرة، وأروى «1» . فأما الفتيات، فهن الإِماء. والبِغاء: الزنا. والتحصن: التعفف. واختلفوا في معنى إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً على أربعة أقوال: أحدها: أن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكرناه، فخرج النهي عن صفة السبب، وإِن لم يكن شرطاً فيه. والثاني: إِنه إِنما شرط إِرادة التحصُّن، لأن الإِكراه لا يُتَصور إِلا عند إِرادة التحصُّن، فأما إِذا لم ترد المرأة التحصُّن، فانها تبغي بالطبع. والثالث: أن «إِنْ» بمعنى «إِذ» ، ومثله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2» وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» . والرابع: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: «وأنكحوا الأيامى» إِلى قوله: «وإِمائكم» «إِن أردن تحصناً» ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهو كسبهن وبيع أولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ للمُكْرَهات رَحِيمٌ وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد: «من بعد إِكراههن لهن غفور رحيم» . قوله تعالى: آياتٍ مُبَيِّناتٍ قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة غير أبي بكر، وأبان: «مبيِّنات» بكسر الياء في الموضعين في هذه السّورة «4» وآخر سورة الطلاق «5» . قوله تعالى: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا أي: شَبَهاً من حالهم بحالكم أيها المكذِّبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق المكذّبين قبلهم. [سورة النور (24) : آية 35] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

_ ذكره الواحدي في «الأسباب» بإثر حديث 643 بقوله: قال المفسّرون. وورد نحوه من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 26075. وانظر ما قبله.

قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه قولان «1» : أحدهما: هادي أهل السموات والأرض، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أنس بن مالك، وبيان هذا أن النُّور في اللغة: الضياء، وهو الذي تصل به الأبصار إلى مُبْصَراتها، فورد النُّور مضافاً إِلى الله تعالى، لأنه هو الذي يَهْدي المؤمنين ويبيِّن لهم ما يهتدون به. فالخلائق بنوره يهتدون. والثاني: مدبِّر السموات والأرض، قاله مجاهد، والزّجّاج. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وابن السميفع: «اللهُ نَوَّرَ» بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء «السمواتِ» بالخفض «والأرضَ» بالنصب. قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ في هاء الكناية أربعة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، قال ابن عباس: مَثَلُ هُدَاه في قلب المؤمن. والثاني: أنها ترجع إِلى المؤمن، فتقديره: مثل نور المؤمن، قاله أبيّ بن كعب. وكان أُبيّ وابن مسعود يقرآن: «مثل نور المؤمنين» . والثالث: أنها ترجع إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله كعب. والرابع: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله سفيان. فأما المشكاة، ففيها ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها في موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأنبوب، والمصباح: الضوء، قاله ابن عباس. والثاني: أنها القنديل، والمصباح: الفتيلة، قاله مجاهد. والثالث: أنها الكوّة التي لا منفذ لها، والمصباح: السراج، قاله كعب، وكذلك قال الفراء: المشكاة: الكوّة التي ليست بنافذة. وقال ابن قتيبة: المشكاة: الكوّة بلسان الحبشة. وقال الزجاج: هي من كلام العرب، والمصباح: السراج. وإِنما ذكر الزُّجاجة، لأن النُّور في الزُّجاج أشد ضوءاً منه في غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن أبي عبلة: «في زَجاجة الزّجاجة» بفتح الزاء فيهما. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدريّ، وابن يعمر: بكسر الزاء فيهما. وقال بعض أهل المعاني: معنى الآية: كمَثَل مصباح في مشكاة، فهو من المقلوب. فأما الدُّرِّيّ، فقرأ أبو عمرو، والكسائي وأبان عن عاصم «دِرِّيءٌ» بكسر الدال وتخفيف الياء ممدوداً مهموزاً. قال ابن قتيبة: المعنى على هذا: إِنه من الكواكب الدّراريء، وهي اللاتي يدرأن

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 320: يعني هادي من في السماوات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا، لأنه عقيب قوله وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فكان ذلك بأن يكون خبرا عن موقع يقع تنزيله من خلقه ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه أولى وأشبه. فتأويل الكلام: ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس، آيات مبينات الحق من الباطل، وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فهديناكم بها، وبينا لكم معالم دينكم بها، لأني هادي أهل السماوات والأرض. [.....] (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 325: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به. مثل المشكاة وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وذلك نظير الكوة تكون في الحيطان لا منفذ لها. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 361 فقال: وتقديره: شبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه- كما قال تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا انحراف. فقوله كَمِشْكاةٍ هو موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور ولهذا قال بعده: فِيها مِصْباحٌ وهو الذّبالة التي تضيء. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي: هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية.

فصل

عليك، أي: يطلعن. وقال الزّجّاج: هذا مأخوذ من درأ يدرأ: إِذا اندفع منقضّاً فتضاعف نوره، يقال: تدارأ الرجلان: إِذا تدافعا. وروى المفضَّل عن عاصم كسر الدال وتشديد الياء من غير همز ولا مدٍّ، وهي قراءة عبد الله بن عمرو، والزهري. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «دُرِّيٌّ» بضم الدال وكسر الراء وتشديد الياء من غير مدٍّ ولا همز، وقرأ عثمان بن عفان، وابن عباس، وعاصم الجحدري: «دَرِيءُ» بفتح الدال وكسر الراء ممدودا مهموزا. وقرأ أبيّ بن كعب، وسعيد بن المسيب، وقتادة: بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مدٍّ ولا همز. وقرأ ابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن يعمر: بفتح الدال وكسر الراء مهموزا مقصورا. قال الزّجّاج: والدّرّيء: منسوب إِلى أنه كالدُّرّ في صفائه وحسنه. وقال الكسائيّ: الدّرّيّء: يشبه الدّرّ، والدّرّيء: جار، والدّرّء: يلتمع، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم، والوليد بن عتبة عن ابن عامر: بضم الدال وتخفيف الياء مع إِثبات الهمزة والمدِّ، قال الزّجّاج: والنّحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في هذا وقال الفراء: ليس هذا بجائز في العربية، لأنه ليس في الكلام «فُعِّيل» إِلا أعجمي، مثل: مُرِّيق، وما أشبهه. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: المُرّيق: العُصْفُر، أعجمي معرَّب، وليس في كلامهم اسم على زِنة فُعِّيْل. قال أبو علي: وقد حكى سيبويه عن أبي الخطّاب: كوكب دُرِّيء: من الصفات، ومن الأسماء: المُرِّيق: العُصْفر. قوله تعالى: «تَوَقَّدَ» قرأ ابن كثير. وأبو عمرو: بالتاء المفتوحة وتشديد القاف ونصب الدَّال، يريدان المصباح، لأنه هو الذي يوقد. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: يُوقَدُ بالياء مضمومة مع ضم الدال، يريدون المصباح أيضاً. وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تُوقَد» بضم التاء والدال، يريدون الزجاجة، قال الزجاج: والمقصود: مصباح الزجاجة، فحذف المضاف. قوله تعالى: مِنْ شَجَرَةٍ أي: من زيت شجرة، فحذف المضاف، يدلُّك على ذلك قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ والمراد بالشجرة ها هنا: شجرة الزيتون، وبَرَكَتُها من وجوه، فانها تجمع الأدم والدّهن والوقود، فيوقد بخطب الزيتون، ويُغسَل برمادة الإِبريسم، ويُستخرج دُهنه أسهل استخراج، ويورِق غصنه من أوله إِلى آخره. وإنما خصّت بالذّكر ها هنا دون غيرها، لأن دُهنها أصفى وأضوأ. قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بين الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس، قاله أبيّ بن كعب، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنها في الصحراء لا يُظِلُّها جبل ولا كهف، ولا يواريها شيء، فهو أجود لزيتها، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزجاج. والثالث: أنها من شجر الجنّة، لا من شجر الدُّنيا، قاله الحسن. قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ أي: يكاد من صفائه يُضيء قبل أن تصيبه النار بأن يوقد به. نُورٌ عَلى نُورٍ قال مجاهد: النار على الزيت. وقال ابن السائب: المصباح نور، والزجاجة نور. وقال أبو سليمان الدمشقي: نور النار، ونور الزيت، ونور الزجاجة، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ فيه أربعة أقوال: أحدها: لنور القرآن. والثاني: لنور الإيمان. والثالث: لنور محمّد صلى الله عليه وسلّم. والرابع: لدينه الإِسلام. فصل : فأما وجه هذا المَثَل ففيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه شبَّه نور محمّد صلى الله عليه وسلّم بالمصباح النّير

_ (1) تقدم الكلام على أولى الأقوال بالصواب.

[سورة النور (24) : الآيات 36 إلى 38]

فالمشكاة جوف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والمصباح النور الذي في قلبه، والزجاجة قلبه، فهو من شجرة مباركة، وهو إِبراهيم عليه السلام، سماه شجرة مباركة، لأن أكثر الأنبياء من صلبه «لا شرقية ولا غربية» لا يهوديّ ولا نصرانيّ، يكاد محمّد صلى الله عليه وسلّم يتبيَّن للناس أنه نبيٌّ ولو لم يتكلَّم. وقال القرظي: المشكاة: إِبراهيم، والزجاجة: إِسماعيل، والمصباح: محمّد، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال الضحاك: شبّه عبد المطلب بالمشكاة، وعبد الله بالزّجاجة، ومحمّدا صلى الله عليه وسلّم بالمصباح. والثاني: أنه شبّه نور الإِيمان في قلب المؤمن بالمصباح، فالمشكاة: قلبه، والمصباح: نور الإِيمان فيه. وقيل: المشكاة: صدره، والمصباح: القرآن والإِيمان اللَّذان في صدره، والزجاجة: قلبه، فكأنه مما فيه من القرآن والإِيمان كوكب مضيء تَوَقَّد من شجرة، وهي الإِخلاص، فمثل الإِخلاص عنده كشجرة لا تصيبها الشمس، فكذلك هذا المؤمن قد احترس من أن تصيبه الفتن، فان أُعطي شكر، وإِن ابتُلي صبر، وإِن قال صدق، وإِن حكم عدل، فقلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيَه العلم، فاذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدىً كما يكاد هذا الزيت يضيء قبل أن تمسَّه النار، فاذا مسَّته اشتد نُوره، فالمؤمن كلامه نُور، وعمله نُور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إِلى نور يوم القيامة. والثالث: أنه شبّه القرآن بالمصباح يُستضَاء به ولا ينقص، والزجاجة: قلب المؤمن، والمشكاة: لسانه وفمه، والشجرة المباركة: شجرة الوحي، تكاد حُجج القرآن تتضح وإن لم يقرأ. وقيل: تكادُ حجج الله تضيء لمن فكَّر فيها وتدبَّرها ولو لم ينزل القرآن، نُورٌ عَلى نُورٍ أي: القرآن نُور من الله لخلقه «1» مع ما قد قام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن. قوله تعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي: ويبيِّن الله الأشباه للناس تقريباً إِلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك. [سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ قال الزجاج: فِي مِن صلةِ قوله: كَمِشْكاةٍ، فالمعنى: كمشكاة في بيوت ويجوز أن تكون متصلة بقوله: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها فتكون فيها تكريراً على التوكيد والمعنى: يسبِّح لله رجال في بيوت. فان قيل: المشكاة إِنما تكون في بيت واحد، فكيف قال: «في بيوت» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه من الخطاب المتلوِّن الذي يُفتح بالتوحيد ويُختم بالجمع، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «2» . والثاني: أنه راجع إِلى كل واحد من البيوت، فالمعنى: في كل بيت مشكاة. وللمفسرين في المراد بالبيوت ها هنا ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنها المساجد، قاله ابن عباس،

_ (1) وإنما يستجيب له من نوّر الله قلبه، وهداه إلى صراطه المستقيم. (2) سورة الطلاق: 1. (3) قال الطبري رحمه الله 9/ 329: ذلك المصباح في بيوت أذن الله أن ترفع، وعني بالبيوت المساجد وإنما اخترنا هذا القول لدلالة قوله يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ على أنها بيوت بنيت للصلاة، وهي المساجد. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 364، وقال: لما ضرب الله مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب، وذلك كالقنديل مثلا، ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد.

والجمهور. والثاني: بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد. والثالث: بيت المقدس، قاله الحسن. فأما أَذِنَ فمعناه: أَمَر. وفي معنى أَنْ تُرْفَعَ قولان: أحدهما: أن تعظَّم، قاله الحسن، والضحاك. والثاني: أن تُبْنَى، قاله مجاهد، وقتادة. وفي قوله تعالى: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قولان: أحدهما: توحيده رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: يُتلى فيها كتابُه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله تعالى: يُسَبِّحُ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «يُسَبِّح» بكسر الباء وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بفتحها. وقرأ معاذ القارئ، وأبو حيوة: «تُسَبِّحُ» بتاء مرفوعة وكسر الباء ورفع الحاء. وفي قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها قولان: أحدهما: أنه الصلاة. ثم في صلاة الغُدُوِّ قولان: احدهما: أنها صلاة الفجر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: صلاة الضحى، روى ابن أبي مُلَيكة عن ابن عباس قال: إِن صلاة الضحى لفي كتاب الله، وما يغوص عليها إلّا غوّاص، ثم قرأ «يُسَبِّح له فيها بالغدوّ والآصال» . وفي صلاة الآصال قولان: أحدهما: أنها صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قاله ابن السائب. والثاني: صلاة العصر، قاله أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أنه التسبيح المعروف، ذكره بعض المفسرين. قوله تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ أي: لا تَشْغَلُهم «1» تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ قال ابن السائب: التُّجَّار: الجلاّبون، والباعة: المقيمون. وقال الواقدي: التّجارة ها هنا بمعنى الشراء. وفي المراد بذِكْر الله ثلاثة أقوال: أحدها: الصلاة المكتوبة، قاله ابن عباس، وعطاء، وروى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت «رجال لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذِكْر الله» . والثاني: عن القيام بحق الله، قاله قتادة. والثالث: عن ذِكْر الله باللسان، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 367: فقوله رِجالٌ فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية، التي صاروا عمارا للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنزيهه. وقوله: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فمعنى قوله تعالى: لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها، وملاذ بيعها وربحها، عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم، لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق، فيقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم. فأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن. قال: هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحدا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب.

[سورة النور (24) : الآيات 39 إلى 40]

قوله تعالى: وَإِقامِ الصَّلاةِ أي: أداؤها لوقتها وإِتمامها. فان قيل: إِذا كان المراد بذِكْر الله الصلاة، فما معنى إِعادتها؟ فالجواب: أنه بيَّن أنهم يقيمونها بأدائها في وقتها. قوله تعالى: تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ في معناه ثلاثة أقوال: أحدها: أن من كان قلبه مؤمنا بالبعث والنشور، ازداد بصيرة برؤية ما وُعِد به ومن كان قلبه على غير ذلك، رأى ما يوقِن معه بأمر القيامة، قاله الزجاج. والثاني: أن القلوب تتقلَّب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تتقلَّب، تنظر من أين يؤتَون كتبهم، أَمِنْ قِبَل اليمين، أم مِنْ قِبَل الشمال؟ وأي ناحية يؤخذ بهم، أذات اليمين، أم ذات الشمال؟ قاله ابن جرير. والثالث: تتقلَّب القلوب فتبلغ إِلى الحناجر، وتتقلَّب الأبصار إِلى الزَّرَق بعد الكَحَل والعمى بَعْدَ النَّظر. قوله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ المعنى: يسبِّحون الله ليَجزيَهم أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي: ليجزيهم بحسناتهم. فأما مساوئهم فلا يجزيهم بها وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لم يستحقُّوه بأعمالهم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قد شرحناه في آل عمران «1» . [سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) ثم ضرب الله مثلاً للكفار فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ قال ابن قتيبة: السراب: ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار، والآل «2» : ما رأيته في أول النهار وآخره، وهو يرفع كل شيء، والقِيعة والقاع واحد. وقرأ أبيّ بن كعب، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «بِقِيعات» . وقال الزجاج: القيعة جمع قاع، مثل جارٍ وجيرة، والقيعة والقاع: ما انبسط من الأرض ولم يكن فيه نبات، فالذي يسير فيه يرى كأن فيه ماءً يجري، وذلك هو السراب، والآل مثل السراب، إِلا أنه يرتفع وقت الضحى، كالماء، بين السماء والأرض يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ وهو الشديد العطش ماءً، حتى إِذا جاء إٍلى موضع السراب رأى أرضاً لا ماء فيها، فأعلم الله أن الكافر الذي يظن أن عمله قد نفعه عند الله، كظن الذي يظن السراب ماءً، وعملُه قد حبط. قوله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي: قَدِم على الله فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي: جازاه بعمله وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن، والمراد به الخبر عن الكافر. قوله تعالى: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ مفسّر في سورة البقرة «3» :

_ (1) سورة آل عمران: 27. (2) في «اللسان» الآل: السراب وقال الأصمعي: الآل والسراب واحد، وخالفه غيره فقال: الآل من الضحى إلى زوال الشمس، والسراب بعد الزوال إلى صلاة العصر، واحتجوا بأن الآل يرفع كل شيء حتى يصير آلا أي شخصا، والسراب الذي يجري على وجه الأرض كأنه الماء وهو نصف النهار. (3) سورة البقرة: 202.

فصل:

قوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ في هذا المثل قولان: أحدهما: أنه لعمل الكافر، قاله الجمهور، واختاره الزجاج. والثاني: أنه مَثَل لقلب الكافر في أنه لا يَعْقِل ولا يُبْصِر، قاله الفراء. فأما اللُّجِّيّ، فهو العظيم اللُّجَّة، وهو العميق. يَغْشاهُ أي: يعلو ذلك البحرَ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ أي: من فوق الموج موج، والمعنى: يتبع الموج موج، حتى كان بعضه فوق بعض، مِنْ فَوْقِهِ أي: من فوق ذلك الموج سَحابٌ. ثم ابتدأ فقال: ظُلُماتٌ يعني: ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الذي فوق الموج، وظلمة السحاب. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن: «سحابُ ظلماتٍ» مضافاً. إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ يعني: إِذا أخرجها مُخرِجٌ، لَمْ يَكَدْ يَراها فيه قولان: أحدهما: أنه لم يرها، قاله الحسن، واختاره الزجاج. قال: لأن في دون هذه الظلمات لا يرى الكفّ وكذلك قال ابن الأنباري: معناه: لم يرها البتَّة، لأنه قد قام الدليل عند وصف تكاثف الظلمات على أن الرؤية معدومة، فبان بهذا الكلام أن «يَكَد» زائدة للتوكيد، بمنزلة «ما» في قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «1» . والثاني: أنه لم يرها إِلا بعد الجهد، قاله المبرِّد. قال الفراء: وهذا كما تقول: ما كدت أبلغ إِليك، وقد بلغتَ، قال الفرّاء: وهذا وجه العربية. فصل: وأما وجه المَثَل، فقال المفسرون: لمّا ضَرب اللهُ للمؤمن مَثَلاً بالنُّور، ضَرب للكافر هذا المثل بالظلمات والمعنى: أن الكافر في حيرة لا يهتدي لرشدٍ. وقيل: الظُّلمات: ظُلمة الشِّرك وظُلمة المعاصي. وقال بعضهم: ضربَ الظلمات مثلاً لعمله، والبحر اللُّجِّيّ لقلبه، والموج لِما يغشى قلبه من الشِّرك والجهل والحيرة، والسحاب للرَّيْن والخَتْم على قلبه، فكلامه ظُلمة، وعمله ظُلمة، ومدخله ظُلمة، ومخرجه ظُلمة، ومصيره إِلى الظُّلمات يوم القيامة. قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فيه قولان: أحدهما: دِيناً وإِيماناً، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: هداية، قاله الزّجّاج. [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 42] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قد تقدّم تفسيره «2» . قوله تعالى: وَالطَّيْرُ أي: وتسبّح له الطّير صَافَّاتٍ أي: باسطات أجنحتها في الهواء. وإنّما خصّ الطّير بالذّكر، لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت، فهي خارجة عن جملة من في السّموات والأرض. قوله تعالى: كُلٌّ أي: من الجملة التي ذكرها قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قال المفسّرون: الصّلاة، لبني آدم، والتّسبيح، لغيرهم من الخلق. وفي المشار إليه بقوله: «قد علم» قولان: أحدهما: أنه الله تعالى، والمعنى: قد علم الله صلاة المصلّي وتسبيحه، قاله الزّجّاج. والثاني: أنه المصلّي والمسبّح. ثم فيه قولان: أحدهما: قد علم المصلّي والمسبّح صلاة نفسه وتسبيحه، أي: قد عرف ما كلّف من ذلك. والثاني: قد علم المصلّي صلاة الله وتسبيحه، أي: علم

_ (1) سورة المؤمنون: 40. (2) سورة البقرة: 30.

[سورة النور (24) : الآيات 43 إلى 44]

أنّ ذلك لله تعالى وحده. وقرأ قتادة، وعاصم الجحدريّ، وابن يعمر: «كلّ قد علم» برفع العين وكسر اللام «صلاته وتسبيحه» بالرّفع فيهما. [سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أي: يسوقه ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي: يضم بعضه إِلى بعض، فيجعل القِطَع المتفرِّقة قطعة واحدة. والسحاب لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجمع، فلهذا قال: يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي: يجعل بعض السحاب فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ وهو المطر. قال الليث: الوَدْقُ: المطر كُلُّه شديدُه وهيِّنُه. قوله تعالى: مِنْ خِلالِهِ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك: «من خَلَلهِ» والخِلال: جمع خَلَل، مثل: جبال وجبل. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مفعول الإِنزال محذوف، تقديره: وينزِّل من السماء من جبال فيها من بَرَدٍ بَرَداً، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه. و «مِنْ» الأولى، لابتداء الغاية، لأن ابتداء الإِنزال من السماء، والثانية، للتبعيض، لأن الذي ينزله الله بعض تلك الجبال، والثالثة، لتبيين الجنس، لأن جنس تلك الجبال جنس البَرَد، قال المفسرون: وهي جبال في السماء مخلوقة من بَرَد. وقال الزجاج: معنى الكلام: وينزِّل من السماء من جبال بَرَد فيها، كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، المعنى: هذا خاتم حديد في يدي. قوله تعالى: فَيُصِيبُ بِهِ أي: بالبَرَد مَنْ يَشاءُ فيضرُّه في زرعه وثمره. والسنا: الضوء، يَذْهَبُ وقرأ مجاهد، وأبو جعفر: «يُذْهِبُ» بضم الياء وكسر الهاء. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي: يأتي بهذا، ويذهب بهذا إِنَّ فِي ذلِكَ التّقليب لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي: دلالة لأهل البصائر والعقول على وحدانيّة الله وقدرته. [سورة النور (24) : آية 45] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ وقرأ حمزة، والكسائيّ: «والله خالق كلّ دابّة من ماء» وفي الماء قولان: أحدهما: أنّ الماء أصل كلّ دابّة. والثاني: أنه النّطفة، والمراد به: جميع الحيوان المشاهد في الدنيا. وإنما قال: «فمنهم» تغليبا لما يعقل. وإنما لم يذكر الذي يمشي على أكثر من أربع، لأنه في رأي العين كالذي يمشي على أربع، وقيل: لأنه يعتمد في المشي على أربع. وإنما سمّى السّائر على بطنه ماشيا، لأنّ كلّ سائر ومستمرّ يقال له: ماش وإن لم يكن حيوانا، حتّى إنه يقال: قد مشى هذا الأمر، هذا قول الزّجّاج. وقال أبو عبيدة: إنما هذا على سبيل التشبيه بالماشي، لأنّ المشي لا يكون على البطن، إنما يكون لمن له قوائم، فإذا خلطوا ما له قوائم بما لا قوائم له، جاز ذلك، كما يقولون: أكلت خبزا ولبنا، ولا يقال: أكلت لبنا. [سورة النور (24) : الآيات 46 الى 52] لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)

قوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ. (1037) قال المفسرون: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: بشر كان بينه وبين يهوديّ حكومة، فدعا اليهوديّ المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليحكم بينهما، فقال المنافق لليهودي: إِن محمداً يَحِيف علينا، ولكن بيني وبينك كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني المنافقين مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: من بعد قولهم: آمَنَّا وَما أُولئِكَ يعني المُعْرِضين عن حُكم الله ورسوله بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي: إِلى كتابه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الرسول إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ومعنى الكلام: أنهم كانوا يُعْرِضُون عن حكم الرسول عليهم، لعِلمهم أنَّه يحكُم بالحق وإِن كان الحق لهم على غيرهم، أسرعوا إِلى حكمه مذعنين، لثقتهم أنه يحكم لهم بالحق. قال الزجاج: والإِذعان في اللغة: الإِسراع مع الطاعة، تقول: قد أذعن لي، أي: قد طاوعني لِما كنتُ ألتمسه منه. قوله تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: كفر أَمِ ارْتابُوا أي: شكُّوا في القرآن؟ وهذا استفهام ذمّ وتوبيخ، والمعنى: إِنهم كذلك، وإِنما ذكره بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ في ذمِّهم، كما قال جرير في المدح: أَلَسْتُمْ خَيْرَ من ركب المطايا «1» أي: أنتم كذلك. فأما الحَيْف، فهو: المَيْل في الحكم يقال: حاف في قضيَّته، أي: جار بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي: لا يَظْلِمُ اللهُ ورسولُه أحداً، بل هم الظالمون لأنفسهم بالكفر والإِعراض عن حُكم الرسول. ثم نعت المؤمنين، فقال: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ قال الفراء: ليس هذا بخبرٍ ماضٍ، وإِنما المعنى: إِنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إِذا دعوا أن يقولوا سمعنا. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء: «إِنما كان قولُ المؤمنين» بضم اللام. وقرأ أبو جعفر، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: «ليحكم بينهم» برفع الياء وفتح الكاف. قال المفسّرون: والمعنى: سمعنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأطعنا أمره، وإِن كان ذلك فيما يكرهونه. قوله تعالى: وَيَخْشَ اللَّهَ أي: فيما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما بعدُ أن يعصيه. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وورش عن نافع: «ويتّقهي» موصولة بياء. وروى قالون

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 645 بدون إسناد، وتقدم في سورة النساء عند الآية: 67 باستيفاء.

[سورة النور (24) : الآيات 53 إلى 54]

عن نافع: «ويَتَّقْهِ فأولئك» بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «ويَتَّقِهْ» جزماً. [سورة النور (24) : الآيات 53 الى 54] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ قال المفسرون: لمّا نزل في هؤلاء المنافقين ما نزل من بيان كراهتهم لحكم الله، قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلّم: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، فكيف لا نرضى حكمك؟! فنزلت هذه الآية. وقد بيَّنَّا معنى جَهْدَ أَيْمانِهِمْ «1» ، لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ من أموالهم وديارهم، وقيل: ليخرجُنّ إِلى الجهاد قُلْ لا تُقْسِمُوا هذا تمام الكلام ثم قال: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ قال الزجاج: المعنى: أَمْثَلُ من قَسَمِكم الذي لا تصدُقون فيه طاعةٌ معروفة. قال ابن قتيبة: وبعض النحويين يقول: الضمير فيها: لتكن منكم طاعة معروفة، أي: صحيحة لا نِفاق فيها. قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا هذا خطاب لهم، والمعنى: فان تتولَّوا، فحذف إِحدى التاءين، ومعنى التولِّي: الإِعراض عن طاعة الله ورسوله، فَإِنَّما عَلَيْهِ يعني: الرسول ما حُمِّلَ من التبليغ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الطاعة وذكر بعض المفسّرين أن هذا منسوخ بآية السيف، وليس بصحيح. قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلّم تَهْتَدُوا، وكان بعض السلف يقول: مَنْ أمَّر السُّنَّة على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالحكمة، ومن أمّر البدعة الهوى على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالبدعة، لقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا. [سورة النور (24) : الآيات 55 الى 56] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ. (1038) روى أبو عبد الله الحاكم في «صحيحه» من حديث أُبيّ بن كعب، قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتْهم العرب عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إلّا في

_ أخرجه الحاكم 2/ 401 والطبراني في «الأوسط» 7025 والواحدي في «أسباب النزول» 647 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 6- 7 من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب. وإسناده لين. مداره على علي بن حسين بن واقد، وهو لين الحديث، ضعفه أبو حاتم، وقال النسائي وغيره: ليس به بأس. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» 11237: رجاله ثقات اه. وانظر «أحكام القرآن» 1610.

[سورة النور (24) : آية 57]

السلاح، ولا يصبحون إِلا في لأْمتهم، فقالوا: أترون أنّا نعيش حتى نَبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلّا الله عزّ وجلّ؟! فنزلت هذه الآية. قال أبو العالية: لمّا أظهر الله عزّ وجلّ رسوله على جزيرة العرب، وضعوا السلاح وأمنوا، ثم قبض الله نبيّه، فكانوا آمنين كذلك في إِمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة، فأدخل الله عزّ وجلّ عليهم الخوف فغيَّروا، فغيَّر الله تعالى ما بهم. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذا الوعد وعده الله أُمَّة محمد في التوراة والإِنجيل. (1039) وزعم مقاتل أن كفار مكّة لمّا صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين عن العُمرة عام الحديبية، قال المسلمون. لو أن الله تعالى فتح علينا مكّة، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أي: ليجعلنَّهم يخلفُون مَنْ قَبْلهم، والمعنى: ليورثنَّهم أرض الكفار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكَّانها. وعلى قول مقاتل: المراد بالأرض مكة. قوله تعالى: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وقرأ أبو بكر عن عاصم: «كما استُخلِف» بضم التاء وكسر اللام يعني: بني إِسرائيل، وذلك أنه لمّا هلكت الجبابرة بمصر، أورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم. قوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ وهو الإِسلام، وتمكينه: إِظهاره على كل دين، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ وقرأ ابن كثير، وأبو بكر، وأبان، ويعقوب: «وَليُبْدِلَنَّهم» بسكون الباء وتخفيف الدال مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً لأنهم كانوا مظلومين مقهورين، مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً لأنهم كانوا مظلومين مقهورين، يَعْبُدُونَنِي هذا استئناف كلام في الثناء عليهم، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ بهذه النِّعم، أي: من جحد حقَّها. قال المفسرون: وأوّلُ من كفر بهذه النّعم قتله عثمان. [سورة النور (24) : آية 57] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأ ابن عامر، وحمزة وحفص، عن عاصم: «لا يَحْسَبَنَّ» بالياء وفتح السين. وقرأ الباقون بالتاء وكسر السين. [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في سبب نزولها قولان: (1040) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجَّه غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج بن عمرو إلى

_ عزاه المصنف لمقاتل، ومقاتل ساقط الرواية ليس بشيء. لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 648 عن ابن عباس بدون إسناد. وقال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» 3/ 253: هكذا نقله الثعلبي والواحدي والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما بغير سند اه. فالخبر لا أصل له، يعني: لا إسناد له. وانظر «أحكام القرآن» 1621 بتخريجنا.

عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر على حالة كره عمرُ رؤيتَه عليها، فقال: يا رسول الله، وددت له لو أنّ الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. (1041) والثاني: أن أسماء بنت مرثد كان لها غلام، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: إِنَّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم وفيهم قولان «1» : أحدهما: أنه أراد الذكور دون الإِناث، قاله ابن عمر. والثاني: الذكور والإِناث، رواه أبو حصين عن أبي عبد الرحمن. ومعنى الكلام: ليستأذنكم مماليككم في الدخول عليكم. قال القاضي أبو يعلى: والأظهر أن يكون المراد: العبيد الصغار والإِماء الصغار، لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته، فكيف يضاف إِلى الصبيان الذين هم غير مكلفين؟! قوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ وقرأ عبد الوارث: «الحُلْم» باسكان اللام مِنْكُمْ أي: من أحراركم من الرجال والنساء ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي: ثلاثة أوقات ثم بيَّنها فقال: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وذلك لأن الإِنسان قد يَبِيت عُرياناً، أو على حالة لا يحب أن يُطَّلع عليه فيها وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي: القائلة وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ حين يأوي الرجل إِلى زوجته، ثَلاثُ عَوْراتٍ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «ثلاثُ عورات» برفع الثاء من «ثلاث» ، والمعنى: هذه الأوقات هي ثلاث عورات، لأن الإِنسان يضع فيها ثيابه، فربما بدت عورته. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ثلاثَ عورات» بنصب التاء قال أبو عليّ: جعلوه بدلاً من قوله: «ثلاثَ مَرَّات» والأوقات ليست عورات، ولكن المعنى: أنها أوقات ثلاث عورات، فلما حذف المضاف أعرب باعراب المحذوف. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير والأعمش «عَوَرات» بفتح الواو لَيْسَ عَلَيْكُمْ يعني المؤمنين الأحرار وَلا عَلَيْهِمْ يعني الخدم والغلمان جُناحٌ أي: حرج بَعْدَهُنَّ أي بعد مُضي هذه الأوقات في أن لا يستأذنوا، فرفع الحرج عن الفرقين طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي: هم طوافون عليكم بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي: يطوف بعضكم وهم المماليك على بعض وهم الأحرار.

_ كذا ذكره الواحدي في «الأسباب» 649 عن مقاتل بدون إسناد، وهذا معضل، وهو بدون إسناد.

فصل:

فصل: وأكثر علماء المفسرين على أن هذه الآية محكمة، وممن روي عنه ذلك ابن عباس، والقاسم بن محمد، وجابر بن زيد، والشعبي. وحكي عن سعيد بن المسيب أنها منسوخة بقوله: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا والأول أصح، لأن معنى هذه الآية: وإِذا بلغ الأطفال منكم، أو من الأحرار الحلم، فَلْيَسْتَأْذِنُوا، أي: في جميع الأوقات في الدخول عليكم كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كما استأذن الأحرار الكبار، الذين هم قبلهم في الوجود، وهم الذين أُمروا بالاستئذان على كل حال فالبالغ يستأذن في كل وقت، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث. قوله تعالى: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ قال ابن قتيبة: يعني: العُجْزَ، واحدها: قاعدٌ، ويقال: إِنما قيل لها: قاعدٌ، لقعودها عن الحيض والولد، وقد تقعد عن الحيض والولد ومِثْلُها يرجو النكاح، ولا أُراها سميتْ قاعداً إِلا بالقعُود، لأنها إِذا أسَنَّتْ عجزتْ عن التصرُّف وكثرة الحركة، وأطالت القعود، فقيل لها: «قاعد» بلا هاء، ليدلّ حذف الهاء على أنه قعود كِبَر، كما قالوا: «امرأةٌ حاملٌ» ، ليدلُّوا بحذف الهاء على أنه حمل حَبَل، وقالوا في غير ذلك: قاعدةٌ في بيتها، وحاملةٌ على ظَهرها. قوله تعالى: أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي: عند الرجال ويعني بالثياب: الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخِمار، هذا المراد بالثياب، لا جميع الثياب، غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي: من غير أن يُرِدْنَ بوضع الجِلباب أن تُرى زينتُهن والتبرُّج: إِظهار المرأة محاسنها، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ فلا يَضَعْنَ تلك الثياب خَيْرٌ لَهُنَّ، قال ابن قتيبة: والعرب تقول: امرأةٌ واضعٌ: إِذا كبِرتْ فوضعت الخِمار، ولا يكون هذا إِلا في الهرِمة. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنه يُباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال، وأما شعرها، فيحرم النظر إليه كشعر الشابّة. [سورة النور (24) : آية 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ في سبب نزولها خمسة أقوال: (1042) أحدها: أنه لما نزل قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «1» تحرَّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزَّمنى والعُمْي والعُرْج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يُبْصِر موضع الطعام الطيِّب، والمريض لا يستوفي الطعام، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

_ أخرجه الطبري 26219 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع بين علي وابن عباس. والراجح هو الآتي، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 3/ 421 بتخريجنا.

(1043) والثاني: أن ناساً كانوا إِذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إِذا احتاجوا، فكانوا يَتَّقون أن يأكُلوا منها، ويقولون: نخشى أن لا تكون أنفُسُهم بذلك طيِّبة، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن المسيب. والثالث: أن العُرجان والعُميان كانوا يمتنعون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس يتقذَّرونهم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، والضحاك «1» . والرابع: أن قوماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا إِذا لم يكن عندهم ما يُطعمون المريض والزَّمِن، ذهبوا به إِلى بيوت آبائهم وأمّهاتهم وبعض من سمّى الله عزّ وجلّ في هذه الآية، فكان أهل الزمَّانَة يتحرَّجون من أكل ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير مالكه، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد «2» . والخامس: أنها نزلت في إِسقاط الجهاد عن أهل الزمَّانَة المذكورين في الآية، قاله الحسن، وابن زيد «3» . فعلى القول الأول يكون معنى الآية: ليس عليكم في الأعمى حرج أن تأكلوا معه، ولا في الأعرج، وتكون «على» بمعنى «في» ، ذكره ابن جرير. وكذلك يخرَّج معنى الآية على كل قول بما يليق به. وقد كان جماعة من المفسرين يذهبون إلى أن آخر الكلام «ولا على المريض حرج» وأن ما بعده مستأنَف لا تعلُّق له به، وهو يقوِّي قول الحسن، وابن زيد. قوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ فيه ثلاثة أقوال «4» : أحدها: أنها بيوت الأولاد. والثاني: البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم، فيكون الخطاب لأهل الرجل وولده وخادمه ومَن يشتمل

_ حسن. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 653 من طريق مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلا، ومراسيل سعيد جياد. وله شاهد من مرسل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أخرجه الطبري 26224. وله شاهد موصول عن عائشة رضي الله عنها، أخرجه البزار 2241 «كشف» . وقال الهيثمي في «المجمع» 11238/ 7: رجاله رجال الصحيح. - الخلاصة: مرسل سعيد مع مرسل عبيد الله إذا انضم إليهما الموصول رقى بهما إلى درجة الحسن في أقل تقدير، وهذا القول أرجح الأقوال، ومع ذلك باقي الأقوال لا تعارضه، بل تشهد لبعضه، والله أعلم.

عليه منزله، ونسبها إِليهم لأنهم سكّانها. والثالث: أنها بيوتهم، والمراد أكلُهم من مال عيالهم وأزواجهم، لأن بيت المرأة كبيت الرجل. وإِنما أباح الأكل من بيوت القرابات المذكورين، لجريان العادة ببذل طعامهم لهم فإن كان الطعام وراء حِرْزٍ، لم يجز هتك الحرز. قوله تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الوكيل، لا بأس أن يأكل اليسير، وهو معنى قول ابن عباس. وقرأها سعيد بن جبير، وأبو العالية: «ما مُلِّكْتُمْ» بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها على ما لم يسمَّ فاعله، وفسَّرها سعيد فقال: يعني القهرمان الذي بيده المفاتيح. وقرأ أنس بن مالك، وقتادة، وابن يعمر: «مِفْتَاحَه» بكسر الميم على التوحيد. والثاني: بيت الإِنسان الذي يملكه، وهو معنى قول قتادة. والثالث: بيوت العبيد، قاله الضحاك. قوله تعالى: أَوْ صَدِيقِكُمْ. قال ابن عباس: (1044) نزلت هذه في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم غازيا، وخلّف خالد بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهوداً، فقال: تحرَّجْتُ أن آكل من طعامك بغير إِذنك، فنزلت هذه الآية. وكان الحسن وقتادة يريان الأكل من طعام الصَّديق بغير استئذان جائزاً. قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً في سبب نزول هذا ثلاثة أقوال «1» : (1045) أحدها: أن حيّاً من بني كنانة يقال لهم: بنو ليث كانوا يتحرَّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إِلى الرَّواح، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة والضحاك. والثاني: أن قوماً من الأنصار كانوا لا يأكلون إِذا نزل بهم ضيف إِلا مع ضيفهم، فنزلت هذه الآية، ورخِّص لهم أن يأكلوا جميعاً أو أشتاتاً، قاله عكرمة «2» . والثالث: أن المسلمين كانوا يتحرَّجون من مؤاكلة أهل الضُّرِّ خوفاً من أن يستأثروا عليهم، ومن الاجتماع على الطعام، لاختلاف الناس في مآكلهم وزيادةِ بعضهم على بعض، فوسِّع عليهم، وقيل: «ليس عليكم جُناح أن تأكُلوا جميعاً» أي: مجتمعين «أو أشتاتاً» أي: متفرِّقين، قاله ابن قتيبة.

_ ذكره السيوطي في «أسباب النزول» 807 وقال: أخرجه الثعلبي في «تفسيره» عن ابن عباس، ولم أقف على إسناده، وتفرّد الثعلبي به دليل وهنه. ضعيف. أخرجه الطبري 26237 عن قتادة مرسلا و 26235 عن الضحاك مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. ولا يصح في سبب نزول هذه الآية خبرا، وإنما ذكرت على سبيل الإرشاد والإباحة. وانظر «أحكام القرآن» 3/ 425 بتخريجنا.

[سورة النور (24) : آية 62]

قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فيها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها بيوت أنفسكم، فسلِّموا على أهاليكم وعيالكم، قاله جابر بن عبد الله، وطاوس، وقتادة. والثاني: أنها المساجد، فسلِّموا على مَنْ فيها، قاله ابن عباس. والثالث: بيوت الغير، فالمعنى: إِذا دخلتم بيوت غيركم فسلِّموا عليهم، قاله الحسن. قوله تعالى: تَحِيَّةً قال الزجاج: هي منصوبة على المصدر، لأن قوله: فَسَلِّمُوا بمعنى: فحيُّوا وَلْيُحَيِّ بعضكم بعضاً تحيَّةً، مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قال مقاتل: مُبارَكَةً بالأجر، طَيِّبَةً أي: حسنة. [سورة النور (24) : آية 62] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) قوله تعالى: وَإِذا كانُوا مَعَهُ يعني: مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي: على أمر طاعة يجتمعون عليها، نحو الجهاد والجمعة والعيد ونحو ذلك لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ. (1046) قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا صَعِد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث يراه، فيعرف أنه إِنما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم، فالأمر إِليه في ذلك. قال مجاهد: وإِذن الإِمام يوم الجمعة أن يشير بيده. قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ أي: لخروجهم عن الجماعة إِن رأيتَ لهم عذرا. [سورة النور (24) : الآيات 63 الى 64] لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه نهي عن التّعرّض

_ ذكره الواحدي في «الوسيط» 3/ 331 نقلا عن المفسّرين، ولم أقف على إسناده فهو مما لا أصل له، والمراد في ذلك الجهاد، ويدخل في ذلك كل أمر جامع، لكن سياق الآيات وسباقها يشير إلى الجهاد. وانظر تفسير الطبري 26257 و 26258 و 26259.

لإسخاط رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فانه إِذا دعا على شخص فدعوتُه موجبة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم أُمروا أن يقولوا: يا رسول الله، ونُهوا أن يقولوا: يا محمّد، قاله سعيد بن جبير، وعلقمة، والأسود، وعكرمة، ومجاهد. والثالث: أنه نهي لهم عن الإِبطاء إِذا أمرهم والتأخّرِ إِذا دعاهم، حكاه الماوردي. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وأبو المتوكّل، ومعاذ القارئ: «دعاء الرسولِ نبِيِّكم» بياء مشددة ونون قبل الباء. قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ التسلل: الخروج في خفية. واللِّواذ: أن يستتر بشيء مخافة مَن يراه. والمُراد بقوله «قد يَعْلَمُ» التهديدُ بالمجازاة. قال الفراء: كان المنافقون يشهدون الجمعة فيذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويعيبهم بالآيات التي أُنزلت فيهم، فإن خفي لأحدهم القيام قام، فذلك قوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي: يلوذ هذا بهذا، أي: يستتر ذا بذا. وإِنما يقال: «لواذاً» لأنها مصدر «لاوَذْتُ» ، ولو كان مصدراً ل «لذت» لقلت: لذت لياذا، كما يقال: قُمْتُ قِيَاماً. وكذلك قال ثعلب: وقع البناء على لاوَذَ مُلاوَذةً، ولو بني على لاذ يَلُوذ، لقيل: لياذاً. وقيل: هذا كان في حفر الخندق، كان المنافقون ينصرفون عن غير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم مختفين. قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، قاله مجاهد. والثاني: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة. وفي «عن» قولان: أحدهما: أنها زائدة، قاله الاخفش. والثاني: أن معنى «يخالفون» : يُعْرِضون عن أمره. وفي الفتنة ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: الضلالة، قاله ابن عباس. والثاني: بلاء في الدّنيا، قاله قاله مجاهد. والثالث: كفر، قاله السدي، ومقاتل. قوله تعالى: أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فيه قولان: أحدهما: القتل في الدنيا. والثاني: عذاب جهنم في الآخرة. قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي: ما في أنفسكم، وما تنطوي عليه ضمائركم من الإِيمان والنفاق وهذا تنبيه على الجزاء على ذلك. والله أعلم بالصّواب.

سورة الفرقان

سورة الفرقان قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة في آخرين: هي مكية «1» . وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إِلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله تعالى: غَفُوراً رَحِيماً «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) قوله تعالى: تَبارَكَ قد شرحناه في سورة الأعراف «3» ، والفُرقان: القرآن، سمي فُرقاناً، لأنه فُرق به بين الحق والباطل. والمراد بعبده: محمد صلى الله عليه وسلّم، لِيَكُونَ فيه قولان: أحدهما: أنه كناية عن عبده، قاله الجمهور. والثاني: عن القرآن، حكاه الماوردي. قوله تعالى: لِلْعالَمِينَ يعني الجن والإِنس نَذِيراً أي: مخوّفا من عذاب الله.

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 13/ 5: سورة الفرقان مكية كلها في قول الجمهور. ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة، والرد على مقالاتهم وجهالاتهم. (2) الفرقان: 68- 70. (3) الأعراف: 54. قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 383: يقول الله تعالى حامدا نفسه الكريمة على ما نزّله على رسوله الكريم من القرآن العظيم، كما قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً وقال ها هنا: تَبارَكَ وهو تفاعل من البركة المستقرة الدائمة الثابتة الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ فعل من التكرر والتكثر كما قال: وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة، والقرآن نزل منجما مفصلا آيات بعد آيات، وأحكاما بعد أحكام، وسورا بعد سور. وهذا أبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ولذلك سمّاه ها هنا الفرقان، لأنه يفرق بين الحق والباطل. والحلال والحرام، والهدى والضلال، والغي والرشاد.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 إلى 6]

قوله تعالى: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: سوَّاه وهيَّأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت. والثاني: قَدَّر له ما يُصلحه ويُقيمه. والثالث: قدَّر له تقديراً من الأجَل والرِّزق. ثم ذكر ما صنعه المشركون، فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعني: الأصنام لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي: وهي مخلوقة وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا أي: دَفْع ضرّ، ولا جَرّ نفع، لأنها جماد لا قُدرة لها وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً أي: لا تملك أن تُميت أحداً، ولا أن تحيي أحداً، ولا أن تبعث أحداً من الأموات والمعنى: كيف يعبُدون ما هذه صفته، ويتركون عبادةَ من يقدر على ذلك كلِّه؟! [سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: مشركي قريش وقال مقاتل: وهو قول النَّضْر بن الحارث من بني عبد الدار إِنْ هَذا أي: ما هذا، يعنون القرآن إِلَّا إِفْكٌ أي: كذب افْتَراهُ أي: اختلقه من تلقاء نفسه وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قال مجاهد: يعنون اليهود وقال مقاتل: أشاروا إلى عدّاس مولى حويطب، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى لعامر أيضاً، وكان الثلاثة من أهل الكتاب. قوله تعالى: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. قال الزّجّاج: المعنى فقد جاءوا بظلم وزور فلما سقطت الباء، أفضى الفعل فنصب، والزُّور: الكذب. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ المعنى: وقالوا: الذي جاء به أساطير الأولين، وقد بيَّنَّا ذلك في (الأنعام) «1» . قال المفسرون: والذي قال هذا هو النضر بن الحارث. ومعنى اكْتَتَبَها أَمر أن تُكْتَب له. وقرأ ابن مسعود، وإِبراهيم النخعي، وطلحة بن مصرف: «اكْتُتِبَها» برفع التاء الأولى وكسر الثانية، والابتداءُ على قراءتهم برفع الهمزة، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي: تُقرَأ عليه ليحفظها لا ليكتبها، لأنه لم يكن كاتباً، بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي: غُدوة وعشيّاً. قُلْ لهم يا محمد: أَنْزَلَهُ يعني: القرآن الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي: لا يخفى عليه شيء فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 9] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) قوله تعالى: وَقالُوا يعني المشركين مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ أنكروا أن يكون الرسول بَشَراً يأكل الطعام ويمشي في الطُّرق كما يمشي سائر الناس يطلب المعيشة والمعنى: أنه ليس بملَك ولا ملِك، لأن الملائكة لا تأكل، والملوك لا تتبذَّل في الأسواق، فعجبوا أن يكون مساوياً للبشر لا يتميَّز عليهم بشيء وإِنما جعله الله بشراً ليكون مجانساً للذين أُرسل إِليهم، ولم يجعله ملِكاً يمتنع

_ (1) الأنعام: 25.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 10 إلى 14]

من المشي في الأسواق، لأن ذلك من فعل الجبابرة، ولأنه أُمر بدعائهم، فاحتاج أن يمشي بينهم. قوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ وذلك أنهم قالوا له: سل ربك أن يبعث معك ملَكاً يصدِّقك ويجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا فذلك قوله تعالى: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي: ينزل إِليه كنز من السماء أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي: بستان يأكل من ثماره. قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «يأكل منها» بالياء، يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلّم. وقرأ حمزة، والكسائي: «نأكل» بالنون، قال أبو علي: المعنى: يكون له علينا مزيِّة في الفضل بأكلنا من جنته. وباقي الآية مفسَّر في (بني إِسرائيل) «1» . قوله تعالى: انْظُرْ يا محمد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ حين مثَّلوك بالمسحور، وبالكاهن والمجنون والشاعر فَضَلُّوا بهذا عن الهدى فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فيه قولان: أحدهما: لا يستطيعون مَخرجاً من الأمثال التي ضربوها، قاله مجاهد، والمعنى أنهم كذّبوا ولم يجدوا على قولهم حُجَّة وبرهاناً. وقال الفراء: لا يستطيعون في أمرك حيلة. والثاني: سبيلاً إِلى الطاعة، قاله السّدّيّ. [سورة الفرقان (25) : الآيات 10 الى 14] تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) ثم أخبر أنه لو شاء لأعطاه خيراً مما قالوا في الدنيا، وهو قوله: خَيْراً مِنْ ذلِكَ يعني: لو شئتُ لأعطيتُك في الدنيا خيراً مما قالوا، لأنه قد شاء أن يعطيَه ذلك في الآخرة. وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «ويجعلُ لكَ قصوراً» برفع اللام. وقرأ أبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «ويجعلْ» بجزم اللام. فمن قرأ بالجزم، كان المعنى: إِن يشأْ يجعلْ لك جنات ويجعلْ لك قصوراً. ومن رفع، فعلى الاستئناف المعنى: وسيجعل لكَ قصوراً في الآخرة. وقد سبق معنى «اعتدنا» «2» ومعنى «السّعير» «3» . قوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال السدي عن أشياخه: من مسيرة مائة عام. فان قيل: السعير مذكَّر، فكيف قال: «إِذا رأتهم» ؟ فالجواب: أنه أراد بالسعير النار. قوله تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً فيه قولان: أحدهما: غَلَيان تَغَيُّظ، قاله الزجاج. قال المفسرون: والمعنى أنها تتغيَّظ عليهم فيسمعون صوت تغيُّظها وزفيرها كالغضبان إِذا غلا صدره من الغيظ. والثاني: يسمعون فيها تغيُّظ المعذَّبين وزفيرهم، حكاه ابن قتيبة. قوله تعالى: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً قال المفسرون: تضيِّق عليهم كما يضيِّق الزُّجُّ على الرُّمح، وهم قد قُرنوا مع الشياطين. والثُّبور: الهَلَكة. وقرأ عاصم الجحدريّ، وابن السّميفع: «ثبورا» بفتح الثاء.

_ (1) الإسراء: 47. [.....] (2) النساء: 37. (3) النساء: 10.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 15 إلى 16]

قوله تعالى: وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قال الزجاج: الثُّبور مصدر، فهو للقليل والكثير على لفظ الواحد، كما تقول: ضربته ضرباً كثيراً، والمعنى: هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. (1047) وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أول من يُكْسى من أهل النار يوم القيامة إِبليس، يُكْسى حُلَّة من النَّار فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريَّتُه خلفه وهو يقول: ووا ثبوراه، وهم ينادون: يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار، فينادي: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم، فيقول الله عزّ وجلّ: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً. [سورة الفرقان (25) : الآيات 15 الى 16] قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) قوله تعالى: قُلْ أَذلِكَ يعني: السعير خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ وهذا تنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين، لا على أن في السعير خيراً. وقال الزجاج: قد وقع التساوي بين الجنة والنار في أنهما منزلان، فلذلك وقع التفضيل بينهما. قوله تعالى: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً أي: ثواباً وَمَصِيراً أي: مَرْجِعاً. قوله تعالى: كانَ عَلى رَبِّكَ المشار إِليه، إِما الدخول، وإِما الخُلود وَعْداً وعدهم الله إِياه على ألسنة الرسل. وفي معنى «مسؤولاً» قولان: أحدهما: مطلوباً. وفي الطالب له قولان. أحدهما: أنهم المؤمنون، سألوا الله في الدنيا إِنجاز ما وعدهم به. والثاني: أن الملائكة سألته ذلك لهم، وهو قوله: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «1» . والثاني: أن معنى المسؤول: الواجب. [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: «يحشرهم» «فيقول» بالياء

_ ضعيف. أخرجه أحمد 3/ 152- 154- 249 وابن أبي شيبة 13/ 168 والبزار 3495 «كشف» والطبري 26294 والخطيب 11/ 253 والواحدي في «الوسيط» 3/ 336 وأبو نعيم 6/ 256 من حديث أنس، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد وقد تفرّد به. وصححه السيوطي في «الدر» 5/ 117 فلم يصب. وقال الهيثمي في «المجمع» 18611: رجاله رجال الصحيح غير علي بن زيد، وقد وثق. وفيما قاله نظر إذ كان عليه أن يضعف علي بن زيد حيث ضعفه الجمهور، وهو الذي استقر عليه ابن حجر في «التقريب» حيث قال: ضعيف. وعبارة الهيثمي توهم أنه لم يضعف، وقد وثقه بعضهم.

فيهما. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «نحشرهم» بالنون «فيقول» بالياء. وقرأ ابن عامر: «نحشرهم» «فنقول» بالنون فيهما جميعا ويعني: المشركين، وَما يَعْبُدُونَ قال مجاهد: يعني عيسى وعزيراً والملائكة. وقال عكرمة، والضحاك: يعني الأصنام، فيأذن الله للأصنام في الكلام، ويخاطبها: فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي أي: أمرتموهم بعبادتكم أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي: أخطئوا الطريق. قالُوا يعني الأصنام سُبْحانَكَ نزَّهوا الله تعالى أن يُعْبَدَ غيره ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ نُواليهم والمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نَعبد نحن غيرك، فكيف ندعو إِلى عبادتنا؟! فدل هذا الجواب على أنهم لم يأمروا بعبادتهم. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وابن جبير، والحسن، وقتادة، وأبو جعفر، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: «أن نُتَّخَذ» برفع النون وفتحِ الخاء. ثم ذكروا سبب تركهم للإيمان، فقالوا: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ أي: أطلت لهم العمر وأوسعت لهم الرزق حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي: تركوا الإِيمان بالقرآن والاتِّعاظَ به وَكانُوا قَوْماً بُوراً قال ابن عباس: هَلْكى. وقال في رواية أخرى، البُور: في لغة أزد عُمان: الفاسد. قال ابن قتيبة: هو من بارَ يَبُور: إِذا هلك وبطَل، يقال: بار الطعامُ: إِذا كَسَد، وبارت الأَيّمُ: إِذا لم يُرغَبْ فيها. (1048) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتعوَّذُ من بَوَار الأيِّمِ. قال: وقال أبو عبيدة: يقال رجل بُورٌ وقوم بور، لا يُجمَع ولا يُثنَّى، واحتج بقول الشاعر: يا رَسُولَ المَلِيكِ إِنَّ لِسَاني ... رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بور «1» قال: وقد سمعنا ب «رجل بائر» ، ورأيناهم ربما جمعوا «فاعلاً» على «فُعْل» ، نحو عائذٍ وعُوذٍ، وشارِفٍ وشُرْفٍ. قال المفسرون: فيقال للكفار حينئذ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أي: فقد كذَّبكم المعبودون في قولكم: إنهم آلهة. وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد، ومعاذ القارئ، وابن شنبوذ عن قنبل: «بما يقولون» بالياء والمعنى: كذَّبوكم بقولهم: سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا الآية هذا قول الأكثرين. وقال ابن زيد: الخطاب للمؤمنين فالمعنى: فقد كذَّبكم المشركون بما تقولون: إنّ محمّدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً قرأ الأكثرون بالياء. وفيه وجهان: أحدهما: فما يستطيع المعبودون صرفاً للعذاب عنكم ولا نصراً لكم. والثاني: فما يستطيع الكفار صرفاً لعذاب الله عنهم ولا نصراً لأنفسهم. وقرأ حفص عن عاصم: «تستطيعون» بالتاء والخطاب للكفار. وحكى ابن قتيبة عن يونس البصري أنه قال: الصَّرْف: الحيلةُ من قولهم: إِنه ليتصرَّف. قوله تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أي: بالشِّرك نُذِقْهُ في الآخرة. وقرأ عاصم الجحدري، والضحاك، وأبو الجوزاء وقتادة: «يذقه» بالياء عَذاباً كَبِيراً أي: شديداً. وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال الزجاج: في الآية محذوف، تقديره: وما أرسلنا قبلك رُسلاً من المرسَلين، فحذفت رسلاً لأن قوله: مِنَ الْمُرْسَلِينَ يدلّ عليها. قوله تعالى: إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي: إِنهم كانوا على مثل حالك،

_ لا أصل له في المرفوع، وإنما هو من كلام بعض السلف. وانظر «تفسير القرطبي» 13/ 14.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 إلى 24]

فكيف تكون بِدْعاً منهم؟! فان قيل: لم كسرت «إنّهم» ها هنا، وفتحت في براءة في قوله تعالى: أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ «1» فقد بيّنّا عِلَّة فتح تلك فأما كسر هذه فذكر ابن الأنباري فيه وجهين: أحدهما: أن تكون فيها واو للحال مضمرة، فكسرت بعدها «إِنّ» للاستئناف، فيكون التقدير: إلّا وإنّهم ليأكلون الطعام، فأضمرت الواو ها هنا كما أضمرت في قوله تعالى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ «2» ، والتأويل، أو وهم قائلون. والثاني: أن تكون كُسرت لإِضمار «مَنْ» قبلها، فيكون التقدير: وما أرسلنا قبلكَ من المرسَلين إِلا مَنْ إِنهم ليأكلون، قال الشاعر: فظلُّوا ومنهم دَمْعُه سَابق له ... وآخَرُ يَثني دَمْعَة العَيْنِ بالمَهْلِ «3» أراد: مَن دمعُه. قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الفتنة: الابتلاء والاختبار. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه افتتان الفقير بالغنيّ، يقول: لو شاء لجعلني غنيّاً، والأعمى بالبصير، والسقيم بالصحيح، قاله الحسن. والثاني: ابتلاء الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى، فاذا أراد الشريف أن يُسْلِم فرأى الوضيع قد سبقه بالإِسلام أنف فأقام على كفره، قاله ابن السائب. والثالث: أن المستهزئين من قريش كانوا إِذا رأوا فقراء المؤمنين، قالوا: انظروا إِلى أتباع محمد من موالينا ورُذالتنا، قاله مقاتل. فعلى الأول: يكون الخطاب بقوله: أَتَصْبِرُونَ لأهل البلاء. وعلى الثاني: للرؤساء، فيكون المعنى: أتصبرون على سبق الموالي والأتباع. وعلى الثالث: للفقراء والمعنى: أتصبرون على أذى الكفار واستهزائهم، فالمعنى: قد علمتم ما وُعِد الصابرون، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن يصبر وبمن يجزع. [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24] وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لا يخافون البعث لَوْلا أي: هلاّ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فكانوا رُسلاً إِلينا وأخبرونا بصدقك، أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا أنَّكَ رسوله، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: تكبَّروا حين سألوا هذه الآيات وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً قال الزجاج: العُتُوُّ في اللغة: مجاوزة القَدْرِ في الظُّلم. قوله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ فيه قولان: أحدهما: عند الموت. والثاني: يوم القيامة. قال الزجاج: وانتصب اليوم على معنى: لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة، و «يومَئِذٍ» مؤكِّد ل «يومَ يَرَوْنَ الملائكةَ» والمعنى أنهم يُمنَعون البُشرى في ذلك اليوم ويجوز أن يكون «يومَ» منصوباً على معنى: اذكر يوم يرون الملائكة، ثم أخبر فقال: لا بُشْرى والمجرمون ها هنا: الكفار. قوله تعالى: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وقرأ قتادة، والضّحّاك، ومعاذ القارئ: «حُجْراً» بضم الحاء. قال الزجاج: وأصل الحجْر في اللغة: ما حجرتَ عليه، أي: منعتَ من أن يوصل إليه، ومنه حجر

_ (1) التوبة: 54. (2) الأعراف: 4. (3) البيت لذي الرمّة كما في ديوانه ص 570.

القضاة على الأيتام. وفي القائلين لهذا قولان «1» : أحدهما: أنهم الملائكة يقولون للكفار: حِجْراً محجوراً، أي: حراماً محرّماً. وفيما حرَّموه عليهم قولان: أحدهما: البُشرى، فالمعنى: حرام محرَّم أن تكون لكم البشرى، قاله الضحاك، والفراء وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أن تدخلوا الجنة، قاله مجاهد. والثاني: أنه قول المشركين إِذا عاينوا العذاب، ومعناه الاستعاذة من الملائكة، روي عن مجاهد أيضاً. وقال ابن فارس: كان الرَّجل إِذا لقيَ مَن يخافه في الشهر الحرام، قال: حجرا محجورا أي: حرام عليكَ أذايَ، فاذا رأى المشركون الملائكة يوم القيامة، قالوا: حِجْراً محجوراً، يظنُّون أنه ينفعهم كما كان ينفعهم في الدنيا. قوله تعالى: وَقَدِمْنا قال ابن قتيبه: أي: قَصَدْنا وعَمَدْنا، والأصل أنَّ من اراد القُدوم إِلى موضع عَمَد له وقصده. قوله تعالى: إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أي: من أعمال الخير فَجَعَلْناهُ هَباءً لأن العمل لا يُتقبَّل مع الشِّرك. وفي الهباء خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه ما رأيتَه يتطاير في الشمس التي تدخل في الكوّة مثل الغبار، قاله عليّ رضي الله عنه، والحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، واللغويون والمعنى أنَّ الله أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء. والثاني: أنه الماء المُهراق، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه ما تنسفه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس. والرابع: أنه الشَّرر الذي يطير من النار إِذا أُضرمت، فاذا وقع لم يكن شيئاً، رواه عطيَّة عن ابن عباس. والخامس: أنه ما يسطع من حوافر الدَّواب، قاله مقاتل. والمنثور: المتفرِّق. قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة، خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أفضل منزلاً من المشركين وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قال الزجاج: المَقيل: المُقام وقت القائلة، وهو النوم نصف النهار. وقال الأزهري: القيلولة عند العرب: الاستراحة نصف النهار إِذا اشتد الحرّ وإِن لم يكن مع ذلك نوم. وقال ابن مسعود، وابن عباس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يَقِيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 378: يقول تعالى ذكره: يوم يرى هؤلاء الذين قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا بتصديق محمد الملائكة، فلا بشرى لهم بخير وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً يعني أن الملائكة يقولون للمجرمين حجرا محجورا، حراما محرّما عليكم اليوم البشرى أن تكون لكم من الله. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك لأن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البشرى عليهم حرام. ووافقه ابن كثير رحمه الله 3/ 390. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 391: وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها شيء، فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا، إذ إنها لا شيء بالكلية. وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق، الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشرّ فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 إلى 29]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) قوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا هذا معطوف على قوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ، وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «تَشَّقَّقُ» بالتشديد، فأدغموا التاء فى الشين، لأن الأصل: تتشقق. قال الفراء: المعنى: تتشقق السماء عن الغمام، وتنزل فيه الملائكة، و «على» و «عن» و «الباء» في هذا الموضع بمعنى واحد، لأن العرب تقول: رميت عن القوس، وبالقوس، وعلى القوس، والمعنى واحد. وقال أبو علي الفارسي: المعنى: تتشقَّقُ السماء وعليها غمام، كما تقول: ركب الأمير بسلاحه، وخرج بثيابه، وإِنما تتشقَّق السماء لنزول الملائكة. قال ابن عباس: تتشقق السماء عن الغمام، وهو الغيم الأبيض، وتنزل الملائكة في الغمام. وقال مقاتل: المراد بالسماء: السّموات، تتشقق عن الغمام، وهو غمام أبيض كهيئة الضَّباب، فتنزل الملائكة عند انشقاقها. وقرأ ابن كثير: «ونُنْزِلُ» بنونين، الأولى مضمومة، والثانية ساكنة، واللام مضمومة، و «الملائكةَ» نصباً. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني: «ونَزَّلَ» بنون واحدة مفتوحة ونصب الزاي وتشديدها وفتح اللام ونصب «الملائكةَ» . وقرأ ابن يعمر: «ونَزَلَ» بفتح النون واللام والزاي والتخفيف «الملائكةُ» بالرفع. قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ قال الزجاج: المعنى: المُلْك الذي هو المُلْك حقّاً للرحمن «1» . فأما العسير، فهو الصعب الشديد يشتد على الكفار، ويهون على المؤمنين فيكون كمقدار صلاة مكتوبة. قوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (1049) أحدها: أن أُبيَّ بن خَلَف كان يحضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويجالسه من غير أن يؤمن به، فزجره عُقبة بن أبي مُعَيط عن ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس. (1050) والثاني: أن عُقبة دعا قوماً فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم لطعام فأكلوا، وأبى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأكل، وقال: «لا آكل حتى تَشهد أن لا إِله إِلا الله وأنِّي رسولُ الله» ، فشهد بذلك عقبة، فبلغ ذلك

_ أخرجه الطبري 26347، وإسناده ضعيف جدا، فيه عنعنة ابن جريج، وهو مدلس، وفيه إرسال بين عطاء الخراساني وابن عباس. ضعيف. أخرجه الطبري 26351 عن مجاهد به. وأخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 401 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره، والكلبي كذاب متهم، وأبو صالح ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 657 م و «الوسيط» 3/ 339 بدون إسناد. الخلاصة: الخبر واه، وتخصيص الآية بواحد من بدع التأويل، بل «ال» في الظالم لاستغراق الجنس، فالآية تعم كل ظالم كافر، وعقبة داخل في العموم ومثله أبي بن خلف وغيرهما.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 إلى 31]

أُبيَّ بن خَلَف، وكان خليلاً له، فقال: صبوت يا عقبة؟ فقال: لا والله، ولكنه أبى أن يأكل حتى قلت ذلك، وليس من نفسي، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. (1051) والثالث: أن عُقبة كان خليلاً لأُميَّة بن خَلَف، فأسلم عُقبة، فقال أُمية: وجهي من وجهك حرام إِن تابعتَ محمداً، فكفر وارتدَّ لرضى أُميَّة، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي. فأمّا الظالم المذكور ها هنا، فهو الكافر، وفيه قولان: أحدهما: أنه أُبيُّ بن خَلَف، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: عُقبة بن أبي مُعَيط، قاله مجاهد وسعيد بن جبير، وقتادة. وقال عطاء: يأكل يديه حتى تذهبا إِلى المرفقين، ثم تنبتان، فلا يزال هكذا كلَّما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل. قوله تعالى: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ الأكثرون يسكِّنون «يا ليتني» ، وأبو عمرو يحرِّكها، قال أبو علي: والأصل التحريك، لأنها بازاء الكاف التي للخطاب، إِلا أن حرف اللِّين تكره فيه الحركة، ولذلك أسكن من أسكن والمعنى: ليتني اتَّبعتُه فاتَّخذتُ معه طريقاً إلى الهُدى. قوله تعالى: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً في المشار إِليه أربعة أقوال: أحدها: أنه عنى أُبيَّ بن خَلَف، قاله ابن عباس. والثاني: عقبة بن أبي مُعَيط، قاله أبو مالك. والثالث: الشيطان، قاله مجاهد. والرابع: أميّة بن خَلَف، قاله السدي. فان قيل: إِنما يكنى من يخاف المبادأة أو يحتاج إِلى المُداجاة، فما وجه الكناية؟ فالجواب: أنه أراد بالظالم: كلَّ ظالم، وأراد بفلان: كلَّ من أُطيع في معصية الله وأُرضي بسخط الله، وإِن كانت الآية نزلت في شخص، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي: صرفني عن القرآن والإِيمان به بَعْدَ إِذْ جاءَنِي مع الرسول، وها هنا تم الكلام. ثم قال الله تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ يعني: الكافر خَذُولًا يتبرأ منه في الآخرة. [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 31] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) قوله تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ يعني محمّدا صلى الله عليه وسلّم، وهذا عند كثير من العلماء أنه يقوله يوم القيامة فالمعنى: ويقول الرسول يومئذ. وذهب آخرون، منهم مقاتل، إِلى أن الرسول قال ذلك شاكياً من قومه إِلى الله تعالى حين كذَّبوه «1» . وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «إِن قوميَ اتخذوا» بتحريك الياء وأسكنها عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 26348 عن الشعبي هكذا مرسلا.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 32 إلى 34]

وفي المراد بقوله: مَهْجُوراً قولان: أحدهما: متروكاً لا يلتفتون إِليه ولا يؤمنون به، وهذا معنى قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: هجَروا فيه، أي: جعلوه كالهذَيان، ومنه يقال: فلان يَهْجُر في منامه، أي: يَهْذِي، قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: الهُجْر: ما لا يُنتفع به من القول: قال المفسرون: فعزّاه الله عزّ وجلّ، فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي: كما جعلنا لك أعداءً من مشركي قومك، جعلنا لكلِّ نبيّ عدوّاً من كفّار قومه والمعنى: لا يَكْبُرَنَّ هذا عليك، فلك بالأنبياء أسوة وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً لك وَنَصِيراً يمنعك من عدوِك. قال الزجاج: والباء في قوله: بِرَبِّكَ زائدة فالمعنى: كفى ربُّك هاديا ونصيرا. [سورة الفرقان (25) : الآيات 32 الى 34] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) قوله تعالى: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي: كما أُنزلت التوراةُ والإِنجيل والزَّبور، فقال الله عزّ وجلّ: كَذلِكَ أي: أنزلناه كذلك متفرِّقاً، لأن معنى ما قالوا: لِمَ نُزِّل عليه متفرِّقاً؟ فقيل: إِنما أنزلناه كذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي: لنُقَوِّي به قلبَك فتزداد بصيرة، وذلك أنه كان يأتيه الوحي في كل أمر وحادثة، فكان أقوى لقلبه وأنور لبصيرته وأبعد لاستيحاشه، وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي: أنزلناه على الترتيل، وهو التمكُّث الذي يُضادُّ العَجَلة. قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ يعني المشركين بِمَثَلٍ يضربونه لك في مخاصمتك وإِبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي: بالذي هو الحقّ لنردّ به كيدهم وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً من مَثَلهم والتفسير: البيان والكشف. قال مقاتل: ثم أخبر بمستقرِّهم في الآخرة، فقال: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ وذلك أن كفار مكة قالوا: إِن محمداً وأصحابه شُرُّ خلق الله، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي: منزلاً ومصيراً وَأَضَلُّ سَبِيلًا ديناً وطريقاً من المؤمنين. [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 39] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) قوله تعالى: اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. إِن قيل: إِنما عاينوا الآيات بعد وجود الرسالة، فكيف يقع التكذيب منهم قبل وجود الآيات؟ فالجواب: أنهم كانوا مكذِّبين أنبياءَ الله وكتبه

المتقدِّمة، ومن كذَّب نبيّاً فقد كذَّب سائر الأنبياء، ولهذا قال: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ، وقال الزجاج: يجوز ان يكون المرادَ به نوحٌ وحده، وقد ذُكر بلفظ الجنس، كما يقال: فلان يركب الدوابّ، وإِن لم يركب إِلا دابّة واحدة وقد شرحنا هذا في سورة هود عند قوله: وَعَصَوْا رُسُلَهُ «1» . وقد سبق معنى التّدمير. قوله تعالى: وَأَصْحابَ الرَّسِّ في الرَّسِّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بئر كانت تسمى الرَّسِّ، قاله ابن عباس في رواية العوفي. وقال في رواية عكرمة: هي بئر بأذربيجان. وزعم ابن السائب أنها بئر دون اليمامة. وقال السدي: بئر بأنطاكية. والثاني: أن الرَّسَّ قرية من قرى اليمامة، قاله قتادة. والثالث: أنها المَعْدِن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. وفي تسميتها بالرَّسِّ قولان: أحدهما: أنهم رَسُّوا نبيَّهم في البئر، قاله عكرمة. قال الزجاج: رَسُّوه، أي: دَسُّوه فيها. والثاني: أن كل رَكِيَّة لم تطو فهي رَسٌّ، قاله ابن قتيبة. واختلفوا في أصحاب الرَّسِّ على خمسة أقوال «2» : أحدها: أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة، فبعث الله إِليهم نبيّاً من ولد يهوذا بن يعقوب، فحفروا له بئراً وألقَوه فيها، فهلكوا، قاله عليّ بن أبي طالب. والثاني: أنهم قوم كان لهم نبيّ يقال له: حنظلة بن صفوان، فقتلوا نبيَّهم فأهلكهم الله، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أنهم كانوا أهل بئر ينزلون عليها، وكانت لهم مواشٍ، وكانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إِليهم شُعيباً، فتمادَوا في طغيانهم، فانهارت البئر، فخُسف بهم وبمنازلهم، قاله وهب بن منبه. والرابع: أنهم الذين قتلوا حبيباً النجار، قتلوه في بئر لهم، وهو الذي قال: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ «3» ، قاله السدي. والخامس: أنهم قوم قتلوا نبيَّهم وأكلوه، وأولُ من عمل السحر نساؤهم، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَقُرُوناً المعنى: وأهلكنا قروناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي: بين عاد وأصحاب الرّسّ. وقد سبق بيان القرون «4» وفي هذه القصص تهديد لقريش. قوله تعالى: وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي: أعذرنا إِليه بالموعظة وإِقامة الحجَّة وَكُلًّا تَبَّرْنا قال الزجاج: التَّتبير: التدمير، وكل شىء كسرته وفتّتّه فقد تبَّرته، وكُسارته: التِّبر، ومن هذا قيل لمكسور الزّجّاج: التّبر، وكذلك تبر الذهب.

_ (1) هود: 59. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 397: واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود، الذين ذكروا في سورة البروج، والله أعلم. (3) يس: 20. [.....] (4) الأنعام: 6. قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 397: وقوله وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي: وأمما بين أصناف من ذكر أهلكناهم كثيرة، والقرن: هو الأمة من الناس، كقوله ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وحدّه بعض المفسّرين بمائة وعشرين سنة، وقيل: بمائة سنة. وقيل: بثمانين سنة، وقيل: أربعين. وقيل غير ذلك، والأظهر أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، فإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهم قرن ثان، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ... الحديث.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 40 إلى 44]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 40 الى 44] وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) قوله تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا يعني كفار مكة عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني قرية قوم لوط التي رُميتْ بالحجارة أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في أسفارهم فيعتبروا؟! ثم أخبر بالذي جرَّأهم على التكذيب، فقال: بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي: لا يخافون بعثاً، هذا قول المفسرين. وقال الزجاج: الذي عليه أهل اللغة أن الرجاء ليس بمعنى الخوف، وإِنما المعنى: بل كانوا لا يرجون ثواب عمل الخير، فركبوا المعاصي. قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أي: ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً أي: مهزوءاً به، ثم ذكر ما يقولون من الاستهزاء: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أي: ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي: على عبادتها قال الله تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ في الآخرة مَنْ أَضَلُّ أي: مَنْ أَخطأُ طريقاً عن الهدى، أهم، أم المؤمنون. ثم عجَّب نبيَّه من جهلهم حين عبدوا ما دعاهم إِليه الهوى، فقال: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قال ابن عباس: كان أحدهم يعبد الحجر، فاذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخَر. وقال قتادة: هو الكافر لا يهوى شيئاً إِلا ركبه. وقال ابن قتيبة: المعنى: يتَّبع هواه ويدع الحقَّ، فهو له كالإِله. قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي: حفيظا يحفظه من اتِّباع هواه. وزعم الكلبي أن هذه الآية منسوخة بآية القتال. قوله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ يعني أهل مكة والمراد: يسمعون سماع طالب للإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ ما يعاينون من الحُجج والأعلام إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ وفي وجه تشبيههم بالأنعام قولان: أحدهما: أن الأنعام تسمع الصوت ولا تفقه القول. والثاني: أنه ليس لها همٌّ إِلا المأكل والمشرب. قوله تعالى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تهتدي لمراعيها وتنقاد لأربابها وتُقبل على المحسِن إِليها، وهم على خلاف ذلك. [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)

قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ أي: إِلى فِعْل ربِّك. وقال الزجاج: معناه: ألم تعلم، فهو من رؤية القلب، ويجوز أن يكون من رؤية العين، فالمعنى: ألم تر إِلى الظِّلِّ كيف مَدَّه ربُّك؟ والظِّلُّ من وقت طلوع الفجر إِلى وقت طلوع الشمس وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي: ثابتا لا يزول ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فالشمس دليل على الظل، فلولا الشمس ما عُرف أنه شيء، كما أنه لولا النُّور ما عُرفت الظُّلمة، فكل الأشياء تُعرف بأضدادها. قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا يعني: الظل قَبْضاً يَسِيراً وفيه قولان: أحدهما: سريعاً، قاله ابن عباس. والثاني: خفيّاً، قاله مجاهد. وفي وقت قبض الظل قولان: أحدهما: عند طلوع الشمس يُقبض الظِّل وتُجمع أجزاؤه المنبسطة بتسليط الشمس عليه حتى تنسجه شيئاً فشيئاً. والثاني: عند غروب الشمس تُقبض أجزاء الظِّل بعد غروبها، ويخلّف كل جزء منه جزءاً من الظلام. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي: ساتراً بظلمته، لأن ظلمته تغشى الأشخاص وتَشتمل عليها اشتمال اللباس على لابسه وَالنَّوْمَ سُباتاً قال ابن قتيبة: أي: راحة، ومنه يوم السبت، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة، وكان الفراغ منه في يوم السبت، فقيل لبني إِسرائيل: استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا فيه شيئاً، فسمِي يوم السبت، أي: يوم الراحة، وأصل السبت: التَّمدُّد، ومن تمدَّد استراح. وقال ابن الأنباري: أصل السبت، القَطْع، فالمعنى: وجعلنا النوم قَطْعاً لأعمالكم. قوله تعالى: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً فيه قولان: أحدهما: تنتشرون فيه لابتغاء الرزق، قاله ابن عباس. والثاني: تُنشَر الرُّوح باليقظة كما تنشر بالبعث، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ قد شرحناه في الأعراف «1» إلى قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً يعني: المطر. قال الأزهري: الطَّهُور في اللغة: الطاهر المُطهِّر. والطَّهور ما يُتَطَهَّر به، كالوَضوء الذي يُتَوضَّأُ به، والفَطُور الذي يُفْطَر عليه. قوله تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو جعفر: «مَيِّتاً» بالتشديد. قال الزجاج: لفظ البلدة مؤنَّث، وإِنما قيل: «ميتاً» لأن معنى البلدة والبلد سواء. وقال غيره: إِنما قال: «ميتاً» ، لأنه أراد بالبلدة المكان. وقد سبق معنى صفة البلدة بالموت. ومعنى: «ونسقيه» «2» . وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، والضحاك، والأعمش، وابن أبي عبلة: «نسقيه» بفتح النون. فأما الأناسيُّ، فقال الزجاج: هو جمع إِنسيّ، مثل كرسيّ وكراسي، ويجوز أن يكون جمع إنسان، وتكون الياء بدلاً من النون، الأصل: أناسين مثل سَراحين. وقرأ أبو مجلز، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: «وأناسيَ» بتخفيف الياء. قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ يعني المطر بَيْنَهُمْ مرة لهذه البلدة، ومرة لهذه لِيَذَّكَّرُوا أي: ليتفكَّروا في نِعَم الله عليهم فيه فيحمدوه. وقرأ حمزة، والكسائي: «لِيَذْكُروا» خفيفة الذال. قال أبو علي: يَذَّكَّر في معنى يتذكَّر، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وهم الذين يقولون: مُطِرنا بنوء كذا وكذا، كفروا بنعمة الله. وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً المعنى: إِنّا بعثناك إِلى جميع القُرى لعِظَم كرامتك، فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ، وذلك أن كفار مكة دَعَوه إِلى دين آبائهم، وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي: بالقرآن جِهاداً كَبِيراً أي: تامّاً شديدا.

_ (1) الأعراف: 57. (2) الحجر: 24.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 53 إلى 55]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 55] وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ قال الزجاج: أي: خلَّى بينهما تقول: مرجتُ الدابَّة وأمرجتُها: إِذا خلَّيتَها ترعى. ومنه الحديث: (1052) «مَرِجَتْ عهودُهم وأماناتهم» أي: اختلطت. قال المفسرون: والمعنى «1» أنه أرسلهما في مجاريهما، فما يلتقيان، ولا يختلط المَلِح بالعذب، ولا العذب بالمَلِحِ، وهو قوله تعالى: هذا يعني: أحد البحرين عَذْبٌ أي: طيِّب، يقال: عَذُبَ الماءُ يَعْذُبُ عُذوبةً، فهو عَذْبٌ. قال الزجاج: والفُرات صفة للعَذْب، وهو أشد الماء عُذوبة، والأُجَاج صفة للملح، وهو: المُرُّ الشديد المرارة. وقال ابن قتيبة: هو أشد الماء ملوحة، وقيل: هو الذي

_ صحيح. أخرجه أحمد 2/ 212 وأبو داود 4343 من طريق يونس بن أبي إسحاق عن هلال بن خباب به من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهلال بن خباب حسن الحديث إذا لم يخالف ثقة. وأخرجه أحمد 2/ 221 وأبو داود 4342 وابن ماجة 3957 من طريق أبي حازم، حدثنا عمارة بن عمرو به. وصححه الحاكم 4/ 435 ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وأخرجه أحمد 2/ 162 من طريق إسماعيل عن يونس عن الحسن أن عبد الله بن عمرو قال: وهذا إسناد فيه كلام. ويشهد له حديث أبي هريرة الذي أخرجه الدولابي في «الكنى» 2/ 35 وصححه ابن حبان 1849. وأخرجه البخاري 478 من طريق حامد بن عمر عن بشر، عن عاصم عن واقد عن أبيه عن ابن عمر- أو ابن عمرو- «شبك النبي صلى الله عليه وسلّم أصابعه» . وعلقه البخاري 480. قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا عبد الله بن عمرو، كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس، بهذا» . وقال الحافظ في الفتح 1/ 566 بعد أن ذكر هذا: (وقد ساقه الحميدي في الجمع بين الصحيحين نقلا عن أبي مسعود) ، وزاد هو: «قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه» . وأخرجه أبو يعلى 5593 بتمامه: وهو عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو قال: «بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ ذكروا الفتنة أو ذكرت عنده» ، قال: «إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قال: فقمت إليه فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة» .

[سورة الفرقان (25) : الآيات 56 إلى 60]

يُخالطه مرارةٌ، ويقال ماءٌ مِلح، ولا يقال مالح، والبرزخ: الحاجز. وفي هذا الحاجز قولان: أحدهما: أنه مانع من قدرة الله تعالى، قاله الأكثرون، قال الزجاج: فهما في مرأى العين مختلطان، وفي قدرة الله منفصلان لا يختلط أحدهما بالآخر. قال أبو سليمان الدمشقي: ورأيت عند عَبَّادان من سواد البصرة الماءَ العذب يَنحدر في دجلة نحو البحر، ويأتي المَدُّ من البحر، فيلتقيان، فلا يختلط أحد الماءين بالآخر، يُرى ماء البحر إِلى الخُضرة الشديدة، وماء دجلة إِلى الحُمرة الخفيفة فيأتي المستقي فيغرف من ماء دجلة عذباً لا يخالطه شيء، وإِلى جانبه ماء البحر في مكان واحد. والثاني: أن الحاجز: الأرض واليَبَس، وهو قول الحسن، والأول أصح. قوله تعالى: وَحِجْراً مَحْجُوراً قال الفراء: أي: حراماً محرَّماً أن يغلب أحدهما صاحبه. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً أي: من النُّطفة بَشَراً أي: إِنساناً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي: ذا نسب وصِهْرِ. قال علي عليه السلام: النَّسَب: ما لا يحل نكاحه، والصِّهر: ما يَحِلُّ نكاحه. وقال الضحاك: النسب سبع، وهو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلى قوله تعالى: وَبَناتُ الْأُخْتِ، والصِّهر خمس، وهو قوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ إلى قوله: مِنْ أَصْلابِكُمْ «1» . وقال طاوس: الرَّضاعة من الصِّهر. وقال ابن قتيبة: «نَسَباً» أي: قرابة النَّسَب، «وصِهراً» أي: قرابة النكاح. وكل شيء من قِبَل الزوج، مثل الأب والأخ، فهم الأحماء، واحدهم حَماً، مثل: قَفاً، وحمو مثل أبو، وحمء مهموز ساكن الميم، وحَمٌ مثل أَبٍ. وحَمَاة المرأة: أُمُّ زوجها، لا لغة فيها غير هذه، وكلّ شيء من قِبَل المرأة، فهم الأَخْتان. والصِّهر يجمع ذلك كلّه. وحكى ابن فارس عن الخليل، أنه قال: لا يقال لأهل بيت الرجل إِلا أَختان، ولأهل بيت المرأة إلّا أصهار. ومن العرب من يجعلهم أصهاراً كلّهم. والصَّهْر: إِذابة الشيء. وذكر الماوردي أن المَناكح سمِّيتْ صِهْراً، لاختلاط الناس بها كما يختلط الشيء إِذا صُهِر. قوله تعالى: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: مُعيناً للشيطان على ربِّه، لأنّ عبادته الأصنام معاونة للشيطان. والثاني: مُعيناً للمشركين على أن لا يوحِّدوا الله تعالى. والثالث: مُعِيناً على أولياء ربِّه. والرابع: وكان الكافر على ربِّه هيِّناً ذليلاً، من قولك: ظَهَرتُ بفلان: إِذا جعلتَه وراء ظهرك ولم تلتفت إِليه. قالوا: والمراد بالكافر ها هنا أبو جهل. [سورة الفرقان (25) : الآيات 56 الى 60] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)

_ (1) النساء: 23. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 410: يقول الله تعالى ذكره، ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهة لا تنفعهم إذا عبدوها ولا تضرهم إذا تركوا عبادتها، ويتركون عبادة من أنعم عليهم هذه النعم التي لا كفاء لأدناها، ومن إذا أراد عقاب بعض من عصاه من عباده أحل به ما أحل بالذين وصف صفتهم من قوم فرعون وعاد وثمود وأصحاب الرس، فلم يكن لمن غضب عليه عنه ناصر، ولا له عنه دافع وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً فكان الكافر معينا للشيطان على ربه، مظاهرا له على معصيته.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 إلى 62]

قوله تعالى: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: على القرآن وتبليغ الوحي مِنْ أَجْرٍ وهذا توكيد لصِدْقه، لأنه لو سأَلهم شيئاً من أموالهم لاتَّهموه، إِلَّا مَنْ شاءَ معناه: لكن من شاء أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بإنفاق ماله في مرضاة الله، فَعَل ذلك، فكأنه قال: لا أسألكم لنفسي. وقد سبق تفسير الكلمات التي تلي هذه «1» ، إلى قوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً، و «به» بمعنى: «عنه» ، قال ابن أحمر «2» : فإن تسألوني بالنّساء فإنّي ... بَصِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ وفي هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الله تعالى. والثاني: إِلى اسمه الرحمن، لأنهم قالوا: لا نعرف الرّحمن. الثالث: إِلى ما ذكر مِنْ خَلْق السموات والأرض وغير ذلك. وفي الخبير أربعة أقوال «3» : أحدها: أنه جبريل، قاله ابن عباس: والثاني: أنه الله تعالى، والمعنى: سلني فأنا الخبير، قاله مجاهد. والثالث: القرآن، قاله شمر. والرابع: مُسْلِمة أهل الكتاب، قاله أبو سليمان، وهذا يخرَّج على قولهم: لا نعرف الرَّحمن، فقيل: سَلُوا مُسَلِمة أهل الكتاب، فإنّ الله خاطب موسى في التوراة باسمه الرحمن، فعلى هذا، الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلّم والمراد سواه. قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ يعني كفار مكة اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ قال المفسرون: إِنهم قالوا: لا نعرف الرَّحمن إِلا رحمن اليمامة، فأنكروا أن يكون من أسماء الله تعالى، أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وقرأ حمزة، والكسائي: «يأمُرُنا» بالياء، أي: لِمَا يأمرنا به محمّد، وهذا استفهام إنكار، ومعناها: لا نسجد للرَّحمن الذي تأمرنا بالسجود له، وَزادَهُمْ ذِكر الرحمن نُفُوراً أي: تباعداً من الإيمان. [سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 62] تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً قد شرحناه في الحجر «4» : والمراد بالسراج: الشمس. وقرأ حمزة، والكسائي: «سُرُجاً» بضم السين والراء وإِسقاط الألف. قال الزجاج: أراد: الشمس والكواكب العظام ويجوز «سُرْجاً» بتسكين الراء، مثل رُسْل ورُسُل. قال الماوردي: لما اقترن بضوء الشمس وهج حَرِّها، جعلها لأجل الحرارة سراجاً، ولمّا عدم ذلك في القمر جعله نورا.

_ (1) البقرة: 30 وآل عمران: 159 والأعراف: 54. (2) بل هو علقمة بن عبدة والبيت في ديوانه 11 و «أدب الكاتب» 505. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 402: وقوله: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي: استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به، وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلّم- فهو سيد ولد آدم على الإطلاق، في الدنيا والآخرة، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى- فهو حق، وما أخبر به فهو صدق، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء وجب ردّ نزاعهم إليه، فما يوافق أقواله أفعاله فهو الحق، وما يخالفها فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان. قال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. (4) الحجر: 16.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 إلى 67]

قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً فيه قولان: أحدهما: أن كل واحد منهما يخالف الآخر في اللون، فهذا أبيض، وهذا أسود، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة. والثاني: أن كل واحد منهما يَخْلُفُ صاحبه، رواه عمرو بن قيس الملائي عن مجاهد، وبه قال ابن زيد وأهل اللغة، وأنشدوا قول زهير: بِهَا العِينُ والآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ «1» أي: إِذا ذهبت طائفة جاءت طائفة. قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي: يتَّعظ ويعتبر باختلافهما. وقرأ حمزة: «يَذْكُرَ» خفيفة الذال مضمومة الكاف، وهي في معنى: يتذكَّر، أَوْ أَرادَ شكر الله تعالى فيهما. [سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 67] وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ وقرأ عليّ، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن السميفع: «يُمَشَّون» برفع الياء وفتح الميم والشين وبالتشديد. قال ابن قتيبة: إِنما نسبهم إِليه لاصطفائه إِياهم، كقوله تعالى: ناقَةُ اللَّهِ «2» ، ومعنى «هَوْناً» : مشياً رويداً. ومنه يقال: أَحْبِبْ حبيبك هَوْناً ما. وقال مجاهد: يمشون بالوقار والسكينة. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أي: سَداداً. وقال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جهل عليهم حَلُموا. وقال مقاتل بن حيّان: «قالوا سلاماً» أي: قولاً يسْلَمون فيه من الإِثم. وهذه الآية محكمة عند الأكثرين. وزعم قوم أن المراد بها أنهم يقولون للكفار: ليس بيننا وبينكم غير السلام، ثم نُسخت بآية السيف. قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ قال الزجاج: كل من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم يقال: بات فلان قلِقاً، إِنما المبيت إِدراك الليل. قوله تعالى: كانَ غَراماً فيه خمسة أقوال تتقارب معانيها: (1053) أحدها: دائماً، رواه أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والثاني: موجِعاً، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: مُلِحّاً، قاله ابن السائب وقال ابن جريج:

_ أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» 5/ 142، ولم أقف على إسناده، وتفرده به يدل على وهنه، ولم يذكره القرطبي ولا ابن كثير ولا غيرهما. وانظر «تفسير الشوكاني» 1798 بتخريجنا.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 إلى 70]

لا يفارق. والرابع: هلاكاً، قاله أبو عبيدة: والخامس: أن الغرام في اللغة: أشدُّ العذاب، قال الشاعر: وَيَوْمَ النِّسار وَيَوْمَ الجِفا ... رِكانَا عذاباً وكانَا غَرَاماً» قاله الزجاج. قوله تعالى: ساءَتْ مُسْتَقَرًّا أي: بئس موضع الاستقرار وموضع الإِقامة هي. قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يَقْتِروا» مفتوحة الياء مكسورة التاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «يَقْتُروا» بفتح الياء وضم التاء. وقرأ نافع، وابن عامر: «يُقْتِروا» بضم الياء وكسر التاء. وفي معنى الكلام قولان «2» : أحدهما: أن الإِسراف: مجاوزة الحدِّ في النفقة، والإِقتار: التقصير عمّا لا بُدَّ منه، ويدل على هذا قولُ عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سَرَفاً أن يأكل كلَّ ما اشتهى. والثاني: أنَّ الإِسراف: الإِنفاق في معصية الله وإِن قَلَّ، والإِقتار: منع حق الله تعالى، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج في آخرين. قوله تعالى: وَكانَ يعني الإِنفاق بَيْنَ ذلِكَ أي: بين الإِسراف والإِقتار قَواماً أي: عَدْلاً قال ثعلب: القَوام، بفتح القاف: الاستقامة والعَدْل، وبكسرها: ما يدوم عليه الأمر ويستقرّ. [سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 70] وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (1054) أحدها: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيُّ الذَّنْب أعظم؟ قال: «أن تَجْعَلَ لله نِدّاً وهو خَلَقَكَ» ، قلتُ: ثم أيّ؟ قال: «أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك» ، قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تُزانيَ حليلة جارك» ، فأنزل الله تعالى تصديقها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية. (1055) والثاني: أن ناساً من أهل الشرك قَتلوا فأكثَروا وزَنَوْا فأكثَروا، ثم أتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: إِن الذي تقولُ وتدعو إِليه لَحَسَنٌ لو تُخبرنا أنّ لِمَا عَمِلنا كفارة، فنزلت هذه الآية إلى قوله

_ صحيح. أخرجه البخاري 7520 ومسلم 1/ 90 ح 86 والترمذي 3183 والنسائي 7/ 90 وأحمد 1/ 380 و 431 و 434 من حديث ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» 1799 و «تفسير القرطبي» 4720. صحيح. أخرجه البخاري 4810 ومسلم 122 وأبو داود 4274 والنسائي في «التفسير» 469 والحاكم 2/ 403 والبيهقي 9/ 98 والواحدي في أسباب النزول 658 من طريق يعلى بن مسلم به. وأخرجه الطبري 26512 من طريق منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير به.

تعالى: غَفُوراً رَحِيماً، أخرجه مسلم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس. (1056) والثالث: أن وحشيّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أتيتك مستجيراً فأجِرني حتَى أسمع كلام الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قد كنت أُحِبُّ أن أراك على غير جوار، فأما إِذا أتيتَني مستجيراً فأنت في جواري حتى تَسمع كلام الله، قال: فإنِّي أشركت بالله وقتلتُ النَّفْس التي حرَّم الله وزنيتُ، فهل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نزلت هذه الآية، فتلاها عليه، فقال: أرى شرطاً، فلعلِّي لا أعمل صالحاً، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، فدعاه فتلاها عليه، فقال: ولعلِّي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية «1» ، فقال: نعم، الآن لا أرى شرطاً، فأسلم، رواه عطاء عن ابن عباس وهذا وحشيّ هو قاتل حمزة وفي هذا الحديث المذكور عنه نظر، وهو بعيد الصحّة، والمحفوظ في إِسلامه غير هذا، وأنه قَدِم مع رسل الطّائف فأسلم من غير اشتراط. وقوله تعالى: يَدْعُونَ معناه: يَعْبُدون. وقد سبق بيان قتل النفس بالحق في الأنعام «2» . قوله تعالى: يَلْقَ أَثاماً وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل: «يُلَقَّ» برفع الياء وفتح اللام وتشديد القاف مفتوحة. قال ابن عباس: يَلْقَ جزاءً. وقال مجاهد، وعكرمة: هو وادٍ في جهنم. وقال ابن قتيبة: يَلْقَ عقوبة، وأنشد: جَزَى اللهُ ابنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَى ... عُقُوقاً والعُقُوق لَهُ أثام «3» قال الزجاج: وقوله تعالى: يَلْقَ أَثاماً جزم على الجزاء. قال أبو عمرو الشيباني: يقال: قد لقيَ أثام ذلك، أي: جزاء ذلك، وسيبويه والخليل يذهبان إِلى أن معناه: يلقى جزاء الأثام. قال سيبويه: وإنما جزمت «يُضَاعَفْ له العذابُ» لأن مضاعفة العذاب لُقِيُّ الآثام، فلذلك جزمت، كما قال الشاعر: مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنا في دِيارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جزْلاً وناراً تَأجَّجَا لأن الإِتيان هو الإِلمام، فجزم «تُلْمِمْ» لانه بمعنى «تأتي» . وقرأ الحسن: «يُضَعَّفْ» ، وهو جيِّد بالغ تقول: ضاعفتُ الشيءَ وضَعَّفْتُه. وقرأ عاصم: «يُضَاعَفُ» بالرفع على تفسير «يَلْقَ أثاماً» كأنّ قائلاً قال: ما لُقيُّ الأثام؟ فقيل: يُضاعَف للآثم العذاب. وقرأ أبو المتوكل، وقتادة، وأبو حيوة: «يُضْعَف» برفع الياء وسكون الضاد وفتح العين خفيفة من غير ألف. وقرأ أبو حصين الأسدي، والعمري عن أبي

_ واه. أخرجه الواحدي 660 والطبراني 11480 من حديث ابن عباس، قال في المجمع 7/ 101: فيه أبين بن سفيان ضعفه الذهبي اه. والمتن بهذا اللفظ، وأن وحشيا تردد حتى نزل فيه آيات باطل لا أصل له، وله علة ثانية وهي عنعنة ابن جريج. وانظر «تفسير القرطبي» 3517 بتخريجنا.

فصل:

جعفر مثله، إِلا أن العين مكسورة، و «العذابَ» بالنصب. قوله تعالى: وَيَخْلُدْ وقرأ أبو حيوة وقتادة والأعمش: «ويُخْلَد» برفع الياء وسكون الخاء وفتح اللام مخففة. وقرأ عاصم الجحدري وابن يعمر وأبو المتوكل مثله، إِلا أنهم شدَّدوا اللام. فصل: ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة وفي ناسخها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «1» ، قاله ابن عباس. وكان يقول: هذه مكية، والتي في النساء مدنية. والثاني: أنها نسخت بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ الآية «2» . والثالث: أنّ الأولى نسخت بالثانية، وهي: إِلَّا مَنْ تابَ. والقول الثاني: أنها محكمة والخلود إِنما كان لانضمام الشرك إِلى القتل والزنا. وفساد القول الأول ظاهر، لأن القتل لا يوجب تخليداً عند الأكثرين وقد بيَّنَّاه في سورة النساء «3» ، والشِّرك لا يُغْفَر إِذا مات المشرك عليه، والاستثناء ليس بنسخ. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ. قال ابن عباس: (1057) قرأنا على عهد رسول الله سنتين: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ثم نزلت إِلَّا مَنْ تابَ فما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فرح بشيء فرحه بها، وب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. قوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ اختلفوا في كيفية هذا التبديل وفي زمان كونه، فقال ابن عباس: يبدِّل الله شركهم إِيماناً، وقتلهم إِمساكاً، وزناهم إِحصاناً وهذا يدل: أولا: على أنه يكون في الدنيا، وممن ذهب إلى هذا المعنى سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. والثاني: أن هذا يكون في الآخرة، قاله سلمان رضي الله عنه، وسعيد بن المسيّب، وعليّ بن الحسين. وقال عمرو بن ميمون: يبدِّل الله سيئات المؤمن إِذا غفرها له حسنات، حتى إِن العبد يتمنَّى أن تكون سيئاته أكثر مما هي. وعن الحسن كالقولين. وروي عن الحسن أنه قال: وَدَّ قومٌ يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا من الذُّنوب فقيل: من هم؟ قال: هم الذين قال الله تعالى فيهم: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ. (1058) ويؤكِّد هذا القولَ حديثُ أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالرّجل يوم القيامة، فيقال:

_ ضعيف. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 972 والطبراني في «الكبير» 12935 والواحدي 3/ 347 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 84 وقال: رواه الطبراني من رواية علي بن زيد عن يوسف بن مهران، وقد وثقا، وفيهما ضعف، وبقية رجاله ثقات. كذا قال رحمه الله، وما ذكره لعله يصدق على يوسف بن مهران، فقد قال عنه الحافظ. لين الحديث، وأما علي بن زيد فضعيف. وقد ضعفه الجمهور، وجزم الحافظ في «التقريب» بضعفه، وقد روى مناكير كثيرة، وشيخه يوسف بن مهران، وثقة أبو زرعة وابن حبان، وقال أحمد: لا يعرف. صحيح. أخرجه مسلم 190 والترمذي 2596 وأحمد 5/ 170 وابن حبان 7375 وأبو عوانة 1/ 169- 170 وابن مندة في «الإيمان» 847- 849 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه الترمذي في «الشمائل» 229 والبغوي 4256 من طرق كلهم من حديث أبي ذر.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 71 إلى 74]

اعرضوا عليه صِغار ذنوبه، فتُعْرَض عليه صِغار ذنوبه، وتنحّى عنه كبارها، فيقال: عملتَ يوم كذا، كذا وكذا، وهو مُقِرّ لا يُنْكِر، وهو مُشْفِق من الكبار، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة» ، أخرجه مسلم في «صحيحه» . [سورة الفرقان (25) : الآيات 71 الى 74] وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) قوله تعالى: وَمَنْ تابَ ظاهر هذه التوبة أنها عن الذنوب المذكورة. وقال ابن عباس: يعني: ممن لم يَقْتُل ولم يزن، وَعَمِلَ صالِحاً فانّي قد قدَّمتُهم وفضَّلتُهم على من قاتل نبيّي واستحلَّ محارمي. قوله تعالى: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً قال ابن الأنباري: معناه: من أراد التوبة وقصد حقيقتها، فينبغي له أن يُريد اللهَ بها ولا يخلط بها ما يُفسدها وهذا كما يقول الرجل: من تجر فانه يتّجر في البزّ، ومن ناظر فانه يناظر في النحو، أي: من أراد ذلك، فينبغي أن يقصد هذا الفن قال: ويجوز أن يكون معنى هذه الآية: ومن تاب وعمل صالحاً، فان ثوابه وجزاءه يعظُمان له عند ربِّه الذي أراد بتوبته، فلما كان قوله: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً يؤدِّي عن هذا المعنى، كفى منه، وهذا كما يقول الرجل للرجل: إِذا تكلَّمتَ فاعلم أنك تكلِّم الوزير، أي تكلِّم من يَعرف كلامك ويجازيك، ومثله قوله تعالى: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ، أي: فاني أتوكَّل على من ينصرني ولا يُسْلِمني. وقال قوم: معنى الآية: فانه يرجع إِلى الله مرجعاً يقبله منه. قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ فيه ثمانية أقوال «1» : أحدها: أنه الصَّنم، روى الضحاك عن ابن عباس ان الزُّور صنم كان للمشركين. والثاني: أنه الغناء، قاله محمّد ابن الحنفية، ومكحول وروى ليث عن مجاهد قال: لا يسمعون الغناء. والثالث: الشِّرك، قاله الضحاك، وأبو مالك. والرابع: لعب كان لهم في الجاهلية، قاله عكرمة. والخامس: الكذب، قاله قتادة، وابن جريج. والسادس: شهادة الزور، قاله عليّ بن أبي طلحة. والسابع: أعياد المشركين، قاله الرّبيع بن أنس. والثامن: أنه الخنا، قاله عمرو بن قيس. وفي المراد باللّغو ها هنا خمسة أقوال «2» : أحدها: المعاصي، قاله الحسن. والثاني: أذى المشركين إِياهم، قاله مجاهد. والثالث: الباطل، قاله قتادة. والرابع: الشِّرك، قاله الضحاك. والخامس: إِذا ذكروا النكاح كنوا عنه، قاله مجاهد. وقال محمد بن علي: إِذا ذكروا الفروج كنّوا عنها.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 421: وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل بذلك لأنه محسن لأهله، حتى ظنوا أنه حق، وهو باطل، ويدخل فيه الغناء، لأنه أيضا مما يعنيه ترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضا قد يدخل فيه، لتحسين صاحبه أنه حق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور فالتأويل: الذين لا يشهدون شيئا من الباطل، وكل ما لزمه اسم الزور. (2) قال الطبري رحمه الله 9/ 422: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مرّوا كراما، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح، وكل ما يدخل في معنى اللغو، فلا وجه إذ كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو، أن يقال: عني به بعض ذلك دون بعض.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 75 إلى 77]

قوله تعالى: مَرُّوا كِراماً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مَرُّوا حُلَماء، قاله ابن السائب. والثاني: مَرُّوا مُعْرِضِين عنه، قاله مقاتل. والثالث: أن المعنى إِذا مَرُّوا باللغو جاوزوه، قاله الفراء. قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا أي: وُعِظوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وهي القرآن لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها فكأنّهم صُمٌّ لم يسمعوها، عميٌ لم يَرَوها. وقال غيره من أهل اللغة: لم يثبتوا على حالتهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يَرَوا، وإِن لم يكونوا خَرُّوا حقيقة تقول العرب: شتمت فلاناً فقام يبكي، وقعد يندب، وأقبل يعتذر، وظلَّ يتحيَّر، وإِن لم يكن قام ولا قعد. قوله تعالى: هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «وذُرِّيَّاتِنَا» على الجمع. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: «وذُرِّيَّتِنَا» على التوحيد، قُرَّةَ أَعْيُنٍ وقرأ ابن مسعود، وأبو حيوة: «قُرَّاتَ أَعْيُنٍ» يعنون: من يعمل بطاعتك فتقرّ به أعيننا في الدنيا والآخرة. وسئل الحسن عن قوله: «قُرَّةَ أعين» في الدنيا، أم في الآخرة؟ قال: لا، بل في الدنيا، وأيُّ شيء أقَرُّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وولده يُطيعون الله، والله ما طلب القوم إِلا أن يُطاع الله فتَقَرّ أعينهم. قال الفراء: إِنما قال: «قُرَّةَ» لأنها فعل، والفعل لا يكاد يُجمع، ألا ترى إِلى قوله: وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً «1» فلم يجمعه والقُرَّة مصدر، تقول: قَرَّت عينه قُرَّة، ولو قيل: قُرَّة عين أو قُرَّات أعين كان صواباً. وقال غيره: أصل القُرَّة من البَرْد، لأن العرب تتأذى بالحَرِّ، وتستروح إِلى البَرْد. قوله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً فيه قولان: أحدهما: اجعلنا أئمة يُقتدى بنا، قاله ابن عباس. وقال غيره: هذا من الواحد الذي يراد به الجمع، كقوله: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» ، وقوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي «3» . والثاني: اجعلنا مؤتمِّين بالمُتَّقِين مقتدين بهم، قاله مجاهد فعلى هذا يكون الكلام من المقلوب، فالمعنى: واجعل المتّقين لنا إماما. [سورة الفرقان (25) : الآيات 75 الى 77] أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) قوله تعالى: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ قال ابن عباس: يعني الجنة. وقال غيره: الغرفة: كل بناءٍ عالٍ مرتفع، والمراد غرف الجنة، وهي من الزَّبَرجد والدُّرّ والياقوت، بِما صَبَرُوا على دينهم وعلى أذى المشركين. قوله تعالى: وَيُلَقَّوْنَ فِيها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: «ويُلَقَّوْنَ» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف. وقرأ أبن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ويَلْقَوْنَ» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، تَحِيَّةً وَسَلاماً قال ابن عباس: يُحيِّي بعضُهم بعضاً بالسلام، ويرسل إليهم الرّبّ عزّ وجلّ بالسلام. وقال مقاتل: «تحيةً» يعني السلام، «وسلاماً» أي: سلَّم الله لهم أمرهم وتجاوز عنهم. قوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي فيه ثلاثة أقوال:

_ (1) الفرقان: 44. (2) الشعراء: 16. (3) الشعراء: 77.

أحدها: ما يصنع بكم! قاله ابن عباس. والثاني: أيّ وزن يكون لكم عنده تقول: ما عبأتُ بفلان، أي: ما كان له عندي وزن ولا قَدْر، قاله الزجاج. والثالث: ما يعبأ بعذابكم، قاله ابن قتيبة. وفي قوله تعالى: لَوْلا دُعاؤُكُمْ أربعة أقوال: أحدها: لولا إِيمانكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: لولا عبادتكم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: لولا دعاؤه إِيّاكم لِتعبُدوه، قاله مجاهد والمراد نفع الخَلْق، لأن الله تعالى غير محتاج. والرابع: لولا توحيدكم، حكاه الزجاج. وعلى قول الأكثرين ليس في الآية إِضمار وقال ابن قتيبة: فيها إِضمار تقديره: ما يعبأ بعذابكم لولا ما تَدْعونه من الشريك والولد، ويوضح ذلك قوله تعالى: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً يعني: العذاب، ومثله قول الشاعر: مَنْ شَاءَ دَلَّى النَّفْسَ في هُوَّةٍ ... ضَنْكٍ ولكِنْ مَنْ لَهُ بالمَضِيقْ أي: بالخروج من المضيق. وهل هذا خطاب للمؤمنين، أو للكفار؟ فيه قولان. فأما قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فهو خطاب لأهل مكة حين كذَّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فَسَوْفَ يَكُونُ يعني: تكذيبكم لِزاماً أي: عذاباً لازماً لكم وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قتلهم يوم بدر، فقُتلوا يومئذ، واتصل بهم عذاب الآخرة لازماً لهم، وهذا مذهب ابن مسعود، وأُبيِّ بن كعب، ومجاهد في آخرين. والثاني: أنه الموت، قاله ابن عباس. والثالث: أنّ اللّزام: القتال، قاله ابن زيد. والله أعلم بالصّواب.

سورة الشعراء

سورة الشّعراء وهي مكّيّة كلّها، إلّا أربع آيات منها نزلت بالمدينة، من قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) إلى آخرها، قاله ابن عباس، وقتادة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) قوله تعالى: طسم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «طسم» بفتح الطاء وإِدغام النون من هجاء «سين» عند الميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبان، والمفضل: «طسم» و «طس» «1» بامالة الطاء فيهما. وأظهر النون من هجاء «سين» عند الميم حمزة ها هنا وفي «القصص» . وفي معنى «طسم» أربعة أقوال «2» : أحدها: أنها حروف من كلمات، ثم فيها ثلاثة أقوال: (1059) أحدها: رواه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت «طسم» قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الطاء: طور سيناء، والسين: الاسكندرية، والميم: «مكة» . والثاني: أن الطاء: طَيْبَة، وسين: بيت المقدس، وميم: مكة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الطاء: شجرة طوبى، والسين: سدرة المنتهى، والميم: محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله جعفر الصادق. والثاني: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد بيَّنَّا كيف يكون مثل هذا من أسماء الله تعالى في فاتحة (مريم) . وقال القرظيّ: أقسم الله بطوله وسنائه

_ لا أصل له في المرفوع، ولم يذكره سوى المصنف، وهو من بدع التأويل، ولو صح مثل هذا ما اختلف المفسّرون في تأويل الحروف في أوائل السور.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 إلى 22]

ومُلكه. والثالث: انه اسم للسُّورة، قاله مجاهد. والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة، وأبو روق. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «1» إِلى قوله: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ والمعنى: لعلّك قاتل نفسك لتركهم الإِيمان. ثم أخبر أنه لو أراد أن يُنزل عليهم ما يضطرهم إِلى الإِيمان لفعل، فقال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ وقرأ أبو زرين، وأبو المتوكل: «إِن يَشَأْ يُنَزِّلْ» بالياء فيهما، عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ جعل الفعل أولاً للأعناق، ثم جعل «خاضعين» للرجال، لأن الأعناق إِذا خضعت فأربابها خاضعون. وقيل: لمّا وصف الأعناق بالخضوع، وهو من صفات بني آدم، أخرج الفعل مخرج الآدميّين كما بيّنّا في قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «2» ، وهذا اختيار أبي عبيدة. وقال الزجاج: قوله: «فظلَّت» معناه: فتَظَلُّ، لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى المستقبل، كقولك: إِن تأْتني أكرمتُكَ، معناه: أُكْرِمْكَ وإِنما قال: «خاضعِين» لأن خضوع الأعناق هو خضوع أصحابها، وذلك أن الخضوع لمَّا لم يكن إِلا بخضوع الأعناق، جاز أن يخبر عن المضاف إِليه، كما قال الشاعر: رَأتْ مَرَّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ «3» فلما كانت السّنون لا تكون إِلا بمَرٍّ، أخبر عن السنين، وإِن كان أضاف إِليها المرور. قال: وجاء في التفسير أنه يعني بالأعناق كبراءَهم ورؤساءَهم. وجاء في اللغة أن أعناقهم جماعاتهم يقال: جاءني عُنُق من الناس، أي: جماعة. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «4» إلى قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ يعني المكذِّبين بالبعث كَمْ أَنْبَتْنا فِيها بعد أن لم يكن بها نبات مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ قال ابن قتيبة: من كل جنس حسن. وقال الزجاج: الزوج: النوع، والكريم: المحمود. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ الإِنبات لَآيَةً تدل على وحدانية الله وقُدرته وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي: ما كان أكثرهم يؤمِن في عِلْم الله، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ المنتقِم من أعدائه الرَّحِيمُ بأوليائه. [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قوله تعالى: وَإِذْ نادى المعنى: واتل هذه القصة على قومك. قوله تعالى: أَنْ يُكَذِّبُونِ ياء

_ (1) المائدة: 15، والكهف: 6. [.....] (2) يوسف: 4. (3) البيت لجرير، كما في ديوانه 426 و «اللسان» - خضع- و «تفسير القرطبي» 13/ 87. (4) الأنبياء: 2.

«يكذّبون» محذوفة، ومثلها أَنْ يَقْتُلُونِ «1» «سيهدين» «2» «فهو يهدين» «3» «ويسقين» «4» «فهو يشفين» «5» «ثم يحيين» «6» «كذّبون» «7» «وأطيعون» «8» فهذه ثماني آيات أثبتهن في الحالين يعقوب. قوله تعالى: وَيَضِيقُ صَدْرِي أي: بتكذيبهم إِيّاي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي للعُقدة التي كانت بلسانه. وقرأ يعقوب: «ويَضيقَ» «ولا يَنطلقَ» بنصب القاف فيهما، فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ المعنى: ليُعينني، فحُذف، لأن في الكلام دليلاً عليه. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ وهو القتيل الذي وكزه فقضى عليه والمعنى: ولهم عليَّ دعوى ذَنْب فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به قالَ كَلَّا وهو ردع وزجر عن الإِقامة على هذا الظن والمعنى: لن يقتلوك لأنّي لا اسلِّطهم عليك، فَاذْهَبا يعني: أنت وأخوك بِآياتِنا وهي: ما أعطاهما من المعجزة إِنَّا يعني نفسه عزّ وجلّ مَعَكُمْ فأجراهما مجرى الجماعة مُسْتَمِعُونَ نسمع ما تقولان وما يجيبونكما به. قوله تعالى: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ قال ابن قتيبة: الرسول يكون بمعنى الجميع، كقوله: هؤُلاءِ ضَيْفِي «9» وقوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «10» . وقال الزجاج: المعنى: إِنْا رِسالةُ ربِّ العالَمين، أي: ذوو رسالة ربِّ العالمين، قال الشاعر: لقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما بُحْتُ عِنْدَهُم ... بِسرٍّ وَلا أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ «11» أي: برسالة. قوله تعالى: أَنْ أَرْسِلْ المعنى: بأن أرسل مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أَطْلِقْهم من الاستعباد، فأَتَياه فبلَّغاه الرسالة، ف قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أي: صبيّاً صغيراً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وفيها ثلاثة أقوال. أحدها: ثماني عشرة سنة، قاله ابن عباس. والثاني: أربعون سنة، قاله ابن السائب. والثالث: ثلاثون سنة، قاله مقاتل، والمعنى: فجازيْتَنا على ان ربَّيناك أن كفرت نعمتنا، وقتلت منّا نفساً، وهو قوله: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ وهي قتل النفس. قال الفراء: وإِنما نُصِبَت الفاء، لأنها مرة واحدة، ولو أُريد بها مثل الجِلسة والمِشية جاز كسرها. وفي قوله: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قولان «12» : أحدهما: من الكافرين لنعمتي، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك وابن زيد. والثاني: من الكافرين بالهك، كنتَ معنا على ديننا الذي تعيب، قاله الحسن، والسدي. فعلى الاول: وأنت من الكافرين الآن. وعلى الثاني: وكنت. وفي قوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ثلاثة أَقوال: أحدها: من الجاهلين، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن

_ (1) الشعراء: 14. (2) الشعراء: 62. (3) الشعراء: 78. (4) الشعراء: 79. (5) الشعراء: 80. (6) الشعراء: 81. (7) الشعراء: 117. (8) الشعراء: 108. (9) الحجر: 68. (10) الحج: 5. (11) البيت لكثير عزة، كما في «اللسان» - رسل-. [.....] (12) قال الطبري رحمه الله 9/ 437: وأشبه الأقوال بتأويل الآية أن يقال: من الكافرين لنعمتي، لأن فرعون لم يكن مقرا لله بالربوبية وإنما كان يزعم أنه هو الرب، فغير جائز أن يقول لموسى إن كان موسى عنده على دينه يوم قتل القتيل. إلا أن يقول قائل: إنما أراد: وأنت من الكافرين يومئذ يا موسى على قولك اليوم فيكون ذلك وجها يتوجه.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 إلى 28]

جبير، وقتادة. وقال بعض المفسرين: المعنى: إِني كنت جاهلاً لم يأتني من الله شيء. والثاني: من الخاطئين والمعنى: إِني قتلت النفس خطأً، قاله ابن زيد. والثالث: من الناسين ومثله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «1» ، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ أي: ذهبت من بينكم لَمَّا خِفْتُكُمْ على نفسي إلى مَدْيَنِ، وقرأ عاصم الجحدري، والضحاك، وابن يعمر: «لِمَا» بكسر اللام وتخفيف الميم، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وفيه قولان: أحدهما: النبوَّة، قاله ابن السائب. والثاني: العِلْم والفَهم، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ يعني التربية أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: اتخذْتَهم عبيداً يقال: عبَّدتُ فلاناً وأعبدتُه واستعبدتُه: إِذا اتخذتَه عبداً. وفي «أنْ» وجهان: أحدهما: أن تكون في موضع رفع على البدل من «نِعْمةٌ» . والثاني: أن تكون في موضع نصب بنزع الخافض، تقديره: لأَن عبَّدتَ، أو لتعبيدك. واختلف العلماء في تفسير الآية «2» ، ففسرها قوم على الإِنكار، وقوم على الإِقرار، فمن فسرها على الإِنكار قال معنى الكلام: أو تلك نعمة؟! على طريق الاستفهام، ومثله هذا رَبِّي «3» ، وقوله: فَهُمُ الْخالِدُونَ «4» ، وأنشدوا: لم أنس يوم الرحيل وقفتَها ... وجفنها من دموعها شَرِقُ وقولَها والركابُ سائرة ... تتركنا هكذا وتنطلق وهذا قول جماعة منهم. ثم لهم في معنى الكلام ووجهه أربعة أقوال: أحدها: أن فرعون أخذ أموال بني إِسرائيل واستعبدهم وأنفق على موسى منها، فأبطل موسى النِّعمة لأنها أموال بني إِسرائيل، قاله الحسن. والثاني: أن المعنى: إِنك لو كنت لا تقتُل أبناء بني إِسرائيل لكفلني أهلي، وكانت أُمِّي تستغني عن قذفي في اليمِّ، فكأنك تمنُّ عليَّ بما كان بلاؤك سبباً له، وهذا قول المبرِّد، والزجّاج، والأزهري. والثالث: أن المعنى: تمنُّ عليَّ باحسانك إِليَّ خاصة، وتنسى إِساءتك بتعبيدك بني إِسرائيل؟! قاله مقاتل. والرابع: أن المعنى: كيف تمنُّ عليَّ بالتربية وقد استعبدت قومي؟! ومن أُهين قومُه فقد ذَلَّ، فقد حبط إحسانك بتعبيدك قومي، حكاه الثعلبي. فأما من فسرها على الإِقرار، فانه قال: عدَّها موسى نعمة حيثُ ربَّاه ولم يقتله ولا استعبده. فالمعنى: هي لعمري نعمة إِذ ربَّيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إِسرائيل ف «أنْ» تدل على المحذوف، ومثله في الكلام- أن تَضرب بعض عبيدك وتترك الآخر، فيقول المتروك-: هذه نعمة عليَّ أن ضربتَ فلاناً وتركتني، ثم تحذف «وتركتني» لأن المعنى معروف، هذا قول الفراءِ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 28] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)

_ (1) البقرة: 282. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 413: أي وما أحسنت إليّ وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل! فجعلتهم عبيدا وخدما، تصرّفهم في أعمالك ومشاق رعيتك أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ أي: ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم. (3) الأنعام: 76. (4) الأنبياء: 34.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 29 إلى 48]

قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ سأله عن ماهيَّةِ مَنْ لا ماهيَّة له «1» ، فأجابه بما يدلُّ عليه من مصنوعاته. وفي قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قولان: أحدهما: أنّه خَلَقَ السموات والأرض. والثاني: إِن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه، فكذلك، فأيقنوا أن رب العالمين ربّ السّموات والأرض. قوله تعالى: قالَ يعني: فرعون لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه أَلا تَسْتَمِعُونَ معجِّباً لهم. فان قيل: فأين جوابهم؟ فالجواب: أنه أراد: ألا تستمعون قول موسى؟ فردَّ موسى، لأنه المراد بالجواب، ثم زاد في البيان بقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فأعرض فرعون عن جوابه ونسبه إِلى الجنون، فلم يَحْفِل موسى بقول فرعون، واشتغل بتأكيد الحُجَّة ف قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي: إِن كنتم ذوي عقول لم يَخْفَ عليكم ما أقول. [سورة الشعراء (26) : الآيات 29 الى 48] قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48)

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 414: يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون، وتمرده، وطغيانه وجحوده في قوله وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وذلك أنه كان يقول لقومه: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ وكانوا يجحدون الصانع- تعالى- ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون. فلما قال موسى: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ قال له: ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟! ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط، فإنه لم يكن مقرا بالصانع حتى يسأل عن ماهيته. بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه، فيجيبه موسى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة، فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله: أَلا تَسْتَمِعُونَ أي: ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه أن لكم إلها غيري. فأجاب موسى بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى- عليه السلام- فقال: ما أخبر الله تعالى عنه: قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 49 إلى 51]

قوله تعالى: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي: بأمر ظاهر يعرف به صدقي أتسجنني؟! وما بعد هذا مفسر في الأعراف «1» إِلى قوله: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم الزينة، وكان عيداً لهم، وَقِيلَ لِلنَّاسِ يعني أهل مصر. وذهب ابن زيد إِلى أن اجتماعهم كان بالاسكندرية. قوله تعالى: لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ قال الاكثرون: أرادوا سَحَرة فرعون فالمعنى: لعلَّنا نتَّبعهم على أمرهم. وقال بعضهم: أرادوا موسى وهارون، وإِنما قالوا ذلك استهزاءً. قال ابن جرير: و «لعل» ها هنا بمعنى «كي» . وقوله تعالى: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أي: بعظمته. [سورة الشعراء (26) : الآيات 49 الى 51] قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) قوله تعالى: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قال الزجاج: اللام دخلت للتوكيد. قوله تعالى: لا ضَيْرَ أي: لا ضرر. قال ابن قتيبة: هو من ضَارَه يَضُوره ويَضيره بمعنى ضَرَّه. والمعنى: لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا لأنّا ننقلب إِلى ربِّنا في الآخرة مؤمِّلين غفرانه. قوله تعالى: أَنْ كُنَّا أي: لأن كنا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بآيات موسى في هذه الحال. [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 59] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) قوله تعالى: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي: يَتبعكم فرعون وقومه. قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ المعنى: وقال فرعون إِن هؤلاء، يعني بني إِسرائيل لَشِرْذِمَةٌ قال ابن قتيبة: أي: طائفة. قال الزجاج: والشرذمة في كلام العرب: القليل. قال المفسرون: وكانوا ستمائة ألف، وإِنما استقلَّهم بالإِضافة إِلى جنده، وكان جنده لا يُحصى. قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ تقول: غاظني الشيء، إِذا أغضبك. قال ابن جرير: وذُكر أن غيظهم كان لقتل الملائكة من قَتَلَتْ من أبكارهم. قال: ويحتمل أن غيظهم لذهابهم بالعواري التي استعاروها من حُليِّهم، ويحتمل أن يكون لفراقهم إِياهم وخروجهم من أرضهم على كُره منهم. قوله تعالى: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «حَذِرون» بغير ألف. وقرأ الباقون: حاذِرُونَ بألف. وهل بينهما فرق؟ فيه قولان: أحدهما: أن الحاذر، المستعدُّ، والحذر: المتيقّظ. وجاء في التفسير أن معنى حاذرين: مُؤْدُون، أي: ذَوو أداة، وهي السلاح، لأنها أداة الحرب. والثاني: أنهما لغتان معناهما واحد قال أبو عبيدة: يقال: رجل حَذِرٌ وحَذُرٌ وحاذرٌ. والمَقام الكريم: المنزل الحسن. وفي قوله تعالى: كَذلِكَ قولان: أحدهما: كذلك أفعل بمن عصاني، قاله

_ (1) الأعراف: 107.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 60 إلى 68]

ابن السائب. والثاني: الأمر كذلك، أي: كما وصفنا، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ وذلك أن الله تعالى ردَّهم إِلى مصر بعد غرق فرعون، وأعطاهم ما كان لفرعون وقومه من المساكن والأموال. وقال ابن جرير الطبري: إِنما جعل ديار آل فرعون مُلْكاً لبني إِسرائيل ولم يَرْدُدْهم إِليها لكنه جعل مساكنهم الشّام. [سورة الشعراء (26) : الآيات 60 الى 68] فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) قوله تعالى: فَأَتْبَعُوهُمْ قال ابن قتيبة: لحقوهم مُشْرِقِينَ أي: حين شَرَقت الشمس، أي: طلعت، يقال: أشْرَقْنا: دخلنا في الشُّروق، كما يقال: أمسينا وأصبحنا. وقرأ الحسن، وأيوب السَّخْتِياني: «فاتَّبعوهم» بالتّشديد. قوله تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ وقرأ أبو رجاء، والنخعي، والأعمش: «تَرِاأَى» بكسر الراء وفتح الهمزة، أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه. قوله تعالى: كَلَّا أي: لن يُدركونا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: سيدلُّني على طريق النجاة. قوله تعالى: فَانْفَلَقَ فيه إِضمار «فضرب فانفلق» ، أي: انشقَّ الماء اثني عشر طريقاً فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي: كل جزءٍ انفرق منه. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: «كُلُّ فِلْقٍ» باللام، كَالطَّوْدِ وهو الجبل. قوله تعالى: وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي: قرَّبْنا الآخَرين من الغرق، وهم أصحاب فرعون. وقال أبو عبيدة: «أزلفنا» أي: جمعنا. قال الزجاج: وكلا القولين حسن، لأن جمعهم تقريب بعضهم من بعض، وأصل الزُّلفى في كلام العرب: القُرْبَى. وقرأ ابن مسعود وأُبيُّ بن كعب وأبو رجاء والضحاك وابن يعمر: «أزلقنا» بالقاف، وكذلك قرءوا: «أزلقت الجنّة» «1» بقاف أيضاً. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: في إِهلاك فرعون وقومه عبرة لمن بعدهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي: لم يكن أكثر أهل مصر مؤمنين، إِنما آمنت آسية، وخِربيل مؤمن آل فرعون، وفنّة الماشطة، ومريم- امرأة دلَّت موسى على عظام يوسف-، هذا قول مقاتل «2» . وما أخللنا به من تفسير كلمات في قصة موسى، فقد سبق بيانها، وكذلك ما تفقد ذِكْره في مكان، فهو إِما أن يكون قد سبق، وإِما أن يكون ظاهراً، فتنبَّه لهذا. [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

_ (1) في الشعراء: 90. (2) عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، فخبره لا شيء.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 إلى 89]

قوله تعالى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ والمعنى: هل يَسمعون دعاءكم. وقرأ سعيد بن جبير وابن يعمر وعاصم الجحدري: «هل يُسْمِعونكم» بضم الياء وكسر الميم، إِذْ تَدْعُونَ قال الزجاج: إِن شئت بيَّنت الذال، وإِن شئت أدغمتها في التاء وهو أجود في العربية لقرب الذال من التاء. قوله تعالى: أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أي: إِن عبدتموهم أَوْ يَضُرُّونَ إِن لم تعبدوهم؟ فأخبروا عن تقليد آبائهم. قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي فيه وجهان: أحدهما: أن لفظه لفظ الواحد والمراد به الجميع فالمعنى: فانهم أعداءٌ لي. والثاني: فان كلَّ معبود لكم عدوٌّ لي. فان قيل: ما وجه وصف الجماد بالعداوة؟ فالجواب: من وجهين. أحدهما: أن معناه: فانهم عدوٌّ لي يوم القيامة إِن عبدتُهم. والثاني: أنه من المقلوب والمعنى: فإنِّي عدوٌّ لهم، لأن مَنْ عاديتَه عاداكَ، قاله ابن قتيبة. وفي قوله تعالى: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ قولان: أحدهما: أنه استثناء من الجنس، لأنه عَلِم أنهم كانوا يعبُدون الله مع آلهتهم، قاله ابن زيد. والثاني: أنه من غير الجنس فالمعنى: ولكنّ ربّ العالمين ليس كذلك، قاله أكثر النحويين. قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي: إِلى الرّشد، لا ما تعبُدون وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي هو رازقي الطعام والشراب. فإن قيل: لم قال: «مرضتُ» ، ولم يقل: «أمرضَني» ؟ فالجواب: أنه أراد الثناء على ربّه فأضاف إِليه الخير المحض، لأنه لو قال: «أمرضَني» لعدَّ قومُه ذلك عيباً، فاستعمل حُسن الأدب ونظيره قصة الخضر حين قال في العيب: «فأردت» «1» ، وفي الخير المحض: «فأراد ربّك» «2» . فإن قيل: فهذا يردُّه قوله: وَالَّذِي يُمِيتُنِي. فالجواب: أن القوم كانوا لا يُنكرون الموت، وإِنما يجعلون له سبباً سوى تقدير الله عزّ وجلّ، فأضافه إبراهيم إلى الله تعالى، وقوله تعالى: ثُمَّ يُحْيِينِ يعني للبعث، وهو أمرٌ لا يُقِرُّون به، وإِنما قاله استدلالاً عليهم والمعنى: أن ما وافقتموني عليه موجب لِصِحَّة قولي فيما خالفتموني فيه. قوله تعالى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يعني: ما يجري على مِثْلِي من الزَّلل والمفسرون يقولون: إِنما عنى الكلمات الثلاث التي ذكرناها في الأنبياء «3» ، يَوْمَ الدِّينِ يعني: يوم الحشر والحساب وهذا احتجاج على قومه أنه لا تصلحُ الإِلهية إلّا لمن فعل هذه الأفعال. [سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89] رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) قوله تعالى: هَبْ لِي حُكْماً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: النبوَّة، قاله أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: اللُّبّ، قاله عكرمة. والثالث: الفهم والعلم، قاله مقاتل، وقد بيّنّا قوله: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ

_ (1) الكهف: 79. (2) الكهف: 82. (3) الأنبياء: 63.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 إلى 104]

في سورة يوسف «1» ، وبيَّنَّا معنى لِسانَ صِدْقٍ في مريم «2» والمراد بالآخِرِين: الذين يأتون بعده إِلى يوم القيامة. قوله تعالى: وَاغْفِرْ لِأَبِي قال الحسن: بلغني أن أُمَّه كانت مسلمة على دينه، فلذلك لم يذكُرها. فإن قيل: فقد قال: اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ «3» . قيل: أكثر الذِّكْر إِنما جرى لأبيه، فيجوز أن يسأل الغفران لأمِّه وهي مؤمنة، فأما أبوه فلا شك في كفره. وقد بيَّنَّا سبب استغفاره لأبيه في براءة «4» ، وذكرنا معنى الخزي في آل عمران «5» . قوله تعالى: يَوْمَ يُبْعَثُونَ يعني: الخلائق. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فيه ستة أقوال: أحدها: سليم من الشِّرك، قاله الحسن وابن زيد. والثاني: سليم من الشَّكّ، قاله مجاهد. والثالث: سليم، أي صحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قاله سعيد بن المسيب. والرابع: أن السَّليم في اللغة: اللّديغ، فالمعنى: كاللّديغ من خوف الله عزّ وجلّ، قاله الجنيد. والخامس: سليم من آفات المال والبنين، قاله الحسين بن الفضل. والسادس: سليم من البدعة، مُطْمئنّ على السُّنَّة، حكاه الثعلبي. [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) قوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ اي: قًُرِّبَتْ إِليهم حتى نظروا إِليها، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ أي: أُظهرتْ لِلْغاوِينَ وهم الضالُّون، وَقِيلَ لَهُمْ على وجه التوبيخ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أي: يمنعونكم من العذاب، أو يمتنعون منه. قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا قال السّدي: هم المشركون. قال ابن قتيبة: أُلْقُوا على رؤوسهم، وأصل الحرف «كُبِّبوا» من قولك: كَبَبْتُ الإِناء، فأبدَلَ من الباء الوسطى كافاً، استثقالاً لاجتماع ثلاث باءات، كما قالوا: «كُمْكِمُوا» من «الكُمَّة» ، والأصل: «كُمّمُوا» . وقال الزجاج: معناه: طُرح بعضُهم على بعض: وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب، كأنه إِذا أُلقي يَنْكَبُّ مَرَّةً بعد مَرَّة حتى يَسْتَقِرَّ فيها. وفي الغاوين ثلاثة اقوال: أحدها: المشركون، قاله ابن عباس. والثاني: الشياطين، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: الآلهة، قاله السدي. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أتباعه من الجنّ والإِنس. قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يعني: هم وآلهتهم، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا قال الفراء: لقد كُنَّا. وقال الزجاج: ما كُنَّا إِلا في ضلال. قوله تعالى: إِذْ نُسَوِّيكُمْ أي: نعدلِكُم بالله في العبادة وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فيهم قولان: أحدهما: الشياطين. والثاني: أولَّوهم الذين اقتَدَوا بهم، قال عكرمة: إِبليسُ وابن آدم القاتل. قوله

_ (1) يوسف: 101. (2) مريم: 50. [.....] (3) إبراهيم: 41. (4) التوبة: 113. (5) آل عمران: 192.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 إلى 110]

تعالى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ هذا قولهم إِذا شفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون. (1060) وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إِن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله عزّ وجلّ: أخرجوا له صديقه إِلى الجنة، فيقول من بقي في النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم؟. والحميم: القريب الذي تَوَدُّه ويودّك والمعنى: ما لنا من ذي قرابة يُهِمُّه أمرنا، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي: رجعة إِلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لتَحِلَّ لنا الشفاعة كما حَلَّت للموحّدين. [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 110] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ قال الزجاج: القوم مذكَّرون والمعنى كذَّبت جماعةُ قوم نوح. قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ كانت الأُخوَّة من جهة النَّسَب بينهم، لا من جهة الدِّين، أَلا تَتَّقُونَ عذاب الله بتوحيده وطاعته، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ على الرّسالة فيما بيني وبين ربّكم. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي: على الدعاء إِلى التّوحيد. [سورة الشعراء (26) : الآيات 111 الى 116] قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قوله تعالى: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ وقرأ يعقوب بفتح الهمزة وتسكين التاء وضم العين: «وأَتْبَاعُكَ الأرذلون» ، وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: الحاكَة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: الحاكَة والأساكفة قاله عكرمة. والثالث: المساكين الذين ليس لهم مال ولا عزٌّ، قاله عطاء. وهذا جهل منهم، لأن الصناعات لا تضرُّ في باب الدِّيانات. قوله تعالى: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: لم أعلم أعمالهم وصنائعهم، ولم أُكلَّف ذلك، إِنما كلِّفتُ أن أدعوَهم، إِنْ حِسابُهُمْ فيما يعملون إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ بذلك ما عبتموهم في صنائعهم، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي: ما أنا بالذي لا أقبل إِيمانهم لزعمكم أنهم الأرذلون. وفي قوله تعالى: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: من المشتومين، قاله الضحاك. والثاني: من المضروبين بالحجارة، قاله قتادة. والثالث: من المقتولين بالرَّجم، قاله مقاتل. [سورة الشعراء (26) : الآيات 117 الى 122] قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

_ أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 357 من حديث جابر، وإسناده ضعيف جدا، الوليد بن مسلم يدلس عن كذابين، وهاهنا شيخه لم يسم، وباقي الإسناد ثقات. وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 إلى 135]

قوله تعالى: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ أي: اقض بيني وبينهم قضاء، يعني: بالعذاب وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ من ذلك العذاب. والفُلْك قد تقدم بيانه. والمشحون: المملوء، يقال: شحنتُ الإِناء: إِذا مَلأْتَه وكانت سفينة نوح قد ملئت من الناس والطير والحيوان كُلِّه، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ بعد نجاة نوح ومن معه الْباقِينَ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 135] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قوله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً وقرأ عاصم الجحدري، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: «بكُلِّ رَيْع» بفتح الراء. قال الفراء: هما لغتان. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المكان المرتفع روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: بكل شَرَف. قال الزجاج: هو في اللغة: الموضع المرتفع من الأرض. والثاني: أنه الطريق، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثالث: الفجُّ بين الجبلين، قاله مجاهد. والآية: العلامة. وفيما أراد بهذا البناء ثلاثة أقوال. أحدها: أنه أراد: تبنون ما لا تسكنون، رواه عطاء عن ابن عباس والمعنى أنه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثاً. والثاني: بروج الحمام، قاله سعيد بن جبير ومجاهد. والثالث: أنهم كانوا يبنون في المواضع المرتفعة ليُشرفوا على المارَّة فيَسْخَروا منهم ويَعْبَثوا بهم، وهو معنى قول الضحاك. قوله تعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ فيها ثلاثة أقوال: أحدها: قصور مشيَّدة، قاله مجاهد. والثاني: مصانع للماء تحت الارض، قاله قتادة. والثالث: بروج الحمام، قاله السّدّيّ. وفي قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ قولان: أحدهما: كأنَّكم تخلُدون، قاله ابن عباس، وأبو مالك. والثاني: كَيْما تَخْلُدوا، قاله الفراء، وابن قتيبة. وقرأ عكرمة، والنخعي، وقتادة، وابن يعمر: «تُخْلَدون» برفع التاء وتسكين الخاء وفتح اللام مخففة. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو حسين: «تُخَلَّدون» بفتح الخاء وتشديد اللام. قوله تعالى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ المعنى: إِذا ضربتم ضربتم بالسياط ضرب الجبَّارين، وإِذا عاقبتم قَتَلتم وإِنما أنكر عليهم ذلك، لأنه صدر عن ظلم، إِذ لو ضَربوا بالسيف أو بالسوط في حقّ ما ليموا. وفي قوله: عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قولان: أحدهما: ما عذِّبوا به في الدنيا. والثاني: عذاب جهنم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 145] قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي: «خَلْق» بفتح الخاء وتسكين اللام قال ابن قتيبة: أرادوا اختلاقهم وكذبهم، يقال: خَلَقتُ الحديثَ واختلقتُه، أي: افتعلته،

[سورة الشعراء (26) : الآيات 146 إلى 152]

قال الفراء: والعرب تقول للخُرافات: أحاديثُ الخَلْق. وقرأ عاصم، ونافع وابن عامر وحمزة وخلف «خُلُق الأولين» بضم الخاء واللام. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وعاصم الجحدري: «خُلْق» برفع الخاء وتسكين اللام والمعنى: عادتهم وشأنهم. قال قتادة: قالوا له: هكذا كان الناس يعيشون ما عاشوا ثم يموتون، ولا بعث لهم ولا حساب. قوله تعالى: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي: على ما نفعله في الدنيا. [سورة الشعراء (26) : الآيات 146 الى 152] أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قوله تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا أي: فيما أعطاكم الله في الدنيا آمِنِينَ من الموت والعذاب. قوله تعالى: طَلْعُها هَضِيمٌ الطَّلْع: الثمر. وفي الهضيم سبعة أقوال: أحدها: أنه الذي قد اينع وبلغ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه الذي يتهشَّم تهشُّماً، قاله مجاهد. والثالث: أنه الذي ليس له نوى، قاله الحسن. والرابع: أنه المذنَّب من الرُّطَب، قاله سعيد بن جبير. والخامس: اللَّيِّن، قاله قتادة، والفراء. والسادس: أنه الحَمْل الكثير الذي يركب بعضه بعضاً، قاله الضحاك. والسابع: أنه الطَّلْع قبل أن ينشقَّ عنه القشر وينفتح، يريد أنه منضمٌّ مكتَنِزٌ، ومنه قيل: رجل أهضَمُ الكَشْحَيْن، إِذا كان منضمّهما، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «فَرِهين» . وقرأ الباقون: «فارِهِين» بألف. قال ابن قتيبة: «فَرِهِينَ» : أَشِرِين بَطِرِين، ويقال: الهاءُ فيه مبدَلةٌ من حاء، أي: فَرِحِين، و «الفرحُ» قد يكون السرورَ، وقد يكون الأَشَرَ، ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» أي: الأشِرِين، ومن قرأ: «فَارِهِينَ» فهي لغة أخرى، يقال: فَرِهٌ وفارِهٌ، كما يقال: فَرِحٌ وفارِحٌ، ويقال: «فَارِهِينَ» أي: حاذِقِين قال عكرمة: حاذِقِين بنحتها. قوله تعالى: وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس: يعني: المشركين. وقال مقاتل: هم التّسعة الذين عقروا النّاقة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 153 الى 164] قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)

_ (1) القصص: 76.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 165 إلى 175]

قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ قال الزجاج: أي: ممن له سَحْر، والسَّحْر: الرِّئة، والمعنى: أنت بشر مثلنا. وجائز أن يكون من المفعَّلين من السِّحر والمعنى: ممن قد سُحِر مَرَّة بعد مَرَّة. قوله تعالى: لَها شِرْبٌ أي: حظّ من الماء. وقال ابن عباس: لها شِرب معروف لا تحضروه معها، ولكم شِرْب لا تحضر معكم، فكانت إِذا كان يومهم حضروا الماء فاقتسموه، وإِذا كان يومها شَربتِ الماءَ كُلَّه. وقال قتادة: كانت إِذا كان يوم شربها، شربت ماءهم أول النهار، وسقتهم اللبن آخر النهار. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة: «لها شُرْبٌ» بضم الشين. قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ قال ابن عباس: ندموا حين رأوا العذاب، على عَقْرها، وعذابهم كان بالصّيحة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 165 الى 175] أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ وهو جمع ذَكَر مِنَ الْعالَمِينَ أي: من بني آدم، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ قال الزجاج: وقرأ ابن مسعود: «ما أَصلح لكم ربُّكم من أزواجكم» يعني به الفروج. وقال مجاهد: تركتم أقبال النساء إِلى أدبار الرجال. قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي: ظالمون معتدون. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ أي: لئن لم تسكت عن نهينا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من بلدنا. قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ يعني: إِتيان الرجال مِنَ الْقالِينَ قال ابن قتيبة: أي: من المُبْغِضِين، يقال: قَلَيْتُ الرجلَ: إِذا أبغضتَه. قوله تعالى: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي: من عقوبة عملهم فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ وقد ذكرناهم في هود «1» ، إِلَّا عَجُوزاً يعني امرأته فِي الْغابِرِينَ أي: الباقين في العذاب. ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم بالخَسْف والحَصْب، وهو قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني الحجارة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 180] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) قوله تعالى: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «أصحاب ليكة» ها هنا، وفي (ص) «2» بغير همز والتاء مفتوحة وقرأ الباقون: «الأيكة» بالهمزة فيهما والألف. وقد سبق هذا الحرف «3» . إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ إِن قيل: لِمَ لم يقل: أخوهم، كما قال في (الأعراف) «4» ؟ فالجواب: أن شعيباً لم يكن من نسل أصحاب الأيكة، فلذلك لم يقل: أخوهم وإِنما أرسل إليهم بعد أن أرسل

_ (1) هود: 80. (2) ص: 13. (3) الحجر: 78. (4) الأعراف: 85.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 181 إلى 184]

إِلى مَدْيَن، وهو من نسل مَدْيَن، فلذلك قال هناك: أخوهم، هذا قول مقاتل بن سليمان. وقد ذكرنا في سورة (هود) «1» عن محمد بن كعب القرظي، أن أهل مَدْين عذِّبوا بعذاب الظُّلَّة، فإن كانوا غير أصحاب الأيكة كما زعم مقاتل، فقد تساوَوا في العذاب، وإِن كان أصحاب مَدْين هم أصحاب الأيكة، وهو مذهب ابن جرير الطبري كان حذف ذكر الأخ تخفيفا، والله أعلم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 181 الى 184] أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي: من الناقِصِين للكَيْل، يقال: أخسرتُ الكَيْل والوزن: إِذا نقصته. وقد ذكرنا القسطاس في (بني إِسرائيل) «2» . قوله تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ أي: وخَلَق الجِبِلَّة. وقيل: المعنى: واذكروا ما نزل بالجِبِلَّة الْأَوَّلِينَ. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: «الجبلّة» برفع الجيم والباء جميعاً مشددة اللام. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وعاصم الجحدري: بكسر الجيم وتسكين الباء وتخفيف اللام. قال ابن قتيبة: الجِبِلَّة: الخَلْق، يقال: جُبِل فلان على كذا، أي: خُلق، قال الشاعر: والموتُ أعظم حادث ... ممّا يمرّ على الجبلّه [سورة الشعراء (26) : الآيات 185 الى 191] قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) قوله تعالى: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً قال ابن قتيبة: أي قطعةً مِنَ السَّماءِ، و «كِسَفٌ» جمع «كِسْفَة» ، كما يقال: قِطَعٌ وقِطْعَة. قوله تعالى: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي: من نقصان الكيل والميزان والمعنى: إِنه يُجازيكم إِن شاء، وليس عذابكم بيدي، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ قال المفسرون: بعث الله عليهم حرّاً شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إِلى البرِّيَّة، فبعث الله عليهم سحابة أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً، ونادى بعضهم بعضاً، حتى إِذا اجتمعوا تحتها، أرسل الله عليهم ناراً، فكان ذلك من أعظم العذاب، فالظّلّة: السّحابة التي أظلّتهم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 199] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)

_ (1) هود: 94. (2) الإسراء: 35.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 200 إلى 209]

قوله تعالى: وَإِنَّهُ يعني القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: «نَزَل به» خفيفاً «الرُّوحُ الأمينُ» بالرفع. وقرأ أبن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «نَزَّلَ» مشددة الزاي «الرُّوحَ الأمينَ» بالنصب. والمراد بالرُّوح الأمين جبريل، وهو أمين على وحي الله تعالى إِلى أنبيائه، عَلى قَلْبِكَ قال الزجاج: معناه: نزل عليك فوعاه قلبك، فثبت، فلا تنساه أبداً. قوله تعالى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي: ممن أَنذر بآيات الله المكذَِّبين، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قال ابن عباس: بلسان قريش ليفْهموا ما فيه. قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وقرأ الاعمش: «زُبْرِ» بتسكين الباء. وفي هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى القرآن والمعنى: وإِنَّ ذِكْر القرآن وخبره، هذا قول الأكثرين. والثاني: أنها تعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. والزُّبُر: الكُتُب. قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ: «أو لم يكن» بالياء «آيةً» بالنصب. وقرأ ابن عامر، وابن أبي عبلة: «تكن» بالتاء «آيةٌ» بالرفع. وقرأ أبو عمران الجوني، وقتادة: «تكن» بالتاء «آيةً» بالنصب، قال الزجاج: إِذا قلت: «يكن» بالياء، فالاختيار نصب «آية» وتكون «أن» اسم كان، وتكون «آية» خبر كان، المعنى: أَوَلَم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم حقّ، وأنّ نبوّته حقّ؟! «آية» : علامة موضحة، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل وجدوا ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلّم مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل. ومن قرأ «أولم تكن» بالتاء جعل «آية» هي الاسم، و «أن يعلمه» خبر «تكن» . ويجوز أيضا «أو لم تكن» بالتاء «آية» بالنّصب، كقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ «1» وقرأ الشعبي، والضحاك، وعاصم الجحدري: «أن تَعْلَمَهُ» بالتاء. (1061) وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إِلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمّد صلى الله عليه وسلّم، فقالوا: إِنّ هذا لَزمانُه، وإِنّا لنجد في التوراة صفته، فكان ذلك آية لهم على صِدقه. قوله تعالى: عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ قال الزجاج: هو جمع أعجم، والأنثى عجماء، والأعجم: الذي لا يُفْصِح، وكذلك الأعجمي فأما العجمي: فالذي من جنس العجم، أفصح أو لم يُفْصِح. قوله تعالى: ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي: لو قرأه عليهم أعجميّ لقالوا: لا نفقه هذا، فلم يؤمنوا. [سورة الشعراء (26) : الآيات 200 الى 209] كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)

_ لا أصل له. ذكره البغوي في «تفسيره» 3/ 398 والقرطبي 13/ 126 كلاهما عن ابن عباس بدون إسناد.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 210 إلى 212]

قوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ قد شرحناه في الحجر «1» . والمجرمون ها هنا: المشركون. قوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ قال الفراء: المعنى: كي لا يؤمنوا. فأما العذاب الأليم، فهو عند الموت. فَيَقُولُوا عند نزول العذاب هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي: مُؤَخَّرون لنؤمِن ونصدِّق. (1062) قال مقاتل: فلمّا أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعذاب، قالوا: فمتى هو؟ تكذيباً به، فقال الله تعالى: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ. قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ قال عكرمة: عُمُرَ الدنيا. قوله تعالى: ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ أي: من العذاب. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بالعذاب في الدنيا إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ يعني: رسُلاً تنذرهم العذابَ. ذِكْرى أي: موعظة وتذكيراً. [سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 212] وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) قوله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. (1063) سبب نزولها أن قريشاً قالت: إِنما تجىء بالقرآن الشياطين فتُلقيه على لسان محمد، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي: أن ينزلوا بالقرآن وَما يَسْتَطِيعُونَ أن يأتوا به من السماء، لأنهم قد حِيل بينهم وبين السَّمع بالملائكة والشُّهُب. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ أي: عن الاستماع للوحي من السماء لَمَعْزُولُونَ فكيف ينزلون به؟! وقال عطاء: عن سماع القرآن لمحجوبون، لأنهم يُرْجَمون بالنجوم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 220] فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) قوله تعالى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ قال ابن عباس: يحذِّر به غيره، يقول: أنت أكرمُ الخَلْق عليَّ، ولو اتَّخذتَ من دوني إِلهاً لعذَّبتُك. قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. (1064) روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أنزل الله تعالى

_ لا أصل له. ذكره البغوي في «تفسيره» 3/ 399 عن مقاتل بدون إسناد. ومقاتل متهم بوضع الحديث. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك يضع الحديث. صحيح. أخرجه البخاري 2753 و 3527 و 4771 ومسلم 206 والترمذي 3185 والنسائي 6/ 248- 249 وأحمد 2/ 333 وابن حبان 646 و 6549 والبيهقي 6/ 280 والبغوي 3744 من طرق من حديث أبي هريرة. واللفظ الأول للبخاري، واللفظ الأخير لمسلم. قال: «لما أنزلت هذه الآية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قريشا، فاجتمعوا فعم وخص، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلّها ببلالها» .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 إلى 223]

«وأنذر عشيرتك الاقربين» فقال: «يا مَعْشَر قريش: اشْتَرُوا أنفُسَكم من الله، لا أُغْني عنكم من الله شيئاً، يا بَني عَبْدِ مَنافٍ لا أُغْني عنكم من الله شيئاً، يا عبّاسُ بنَ عبد المُطَّلِب لا أُغْني عنكَ من الله شيئاً، يا صفيةُ عَمَّةَ رسولِ الله لا أُغْني عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمةُ بنتَ محمد سَلِيني ما شئتِ ما أُغْني عنكِ من الله شيئاً» وفي بعض الألفاظ: «سَلُوني مِنْ مالي ما شئتم» . وفي لفظ: «غير أنَّ لكم رَحِماً سأبُلُّها ببلالها» . ومعنى قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ: رهطك الأذنين. فَإِنْ عَصَوْكَ يعني: العشيرة فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من الكفر. ووَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي: ثِقْ به وفوِّض أمرك إِليه، فهو عزيز في نِقْمته، رحيم لم يعجِّل بالعقوبة. وقرا نافع، وابن عامر: «فتوكّل» بالفاء، وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: حين تقوم إِلى الصلاة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: حين تقوم من مقامك، قاله أبو الجوزاء. والثالث: حين تخلو، قاله الحسن. قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ أي: ونرى تقلُّبك فِي السَّاجِدِينَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: وتقلُّبك في أصلاب الأنبياء حتى أخرجك، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: تقلّبك في الركوع والسجود والقيام مع المصلِّين في الجماعة والمعنى: يراك وحدك ويراك في الجماعة، وهذا قول الأكثرين منهم قتادة. والثالث: وتصرُّفك في ذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين، قاله الحسن. [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 223] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ هذا ردّ عليهم حين قالوا: إِنما يأتيه بالقرآن الشياطين. فأما الأفَّاك فهو الكذّاب، والأثيم: الفاجر قال قتادة: وهم الكهنة. قوله تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ أي: يُلْقُون ما سمعوه من السماء إِلى الكهنة. وفي قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ قولان: أحدهما: أنهم الشياطين. والثاني: الكهنة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 224 الى 227] وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ وقرا نافع: «يَتْبعهم» بسكون التاء والوجهان حسنان، يقال: تَبِعْتُ واتّبعت، مثل حفرت واحتفرت. (1065) وروى العوفي عن ابن عباس، قال: كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد تهاجيا، فكان مع كل واحد منهما غُواة من قومه، فقال الله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. وفي رواية آخرى عن ابن عباس، قال: هم شعراء المشركين، قال مقاتل: منهم عبد الله بن الزِّبَعْرى، وأبو سفيان بن حرب، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، في آخرين، قالوا: نحن نقول مثل قول محمد، وقالوا الشعر، فاجتمع

_ واه. أخرجه الطبري 26838 عن عطية العوفي عن ابن عباس، وهو واه لأجل عطية العوفي.

إليهم غواة من قومهم يسمعون أشعارهم ويَرْوُون عنهم «1» . وفي الغاوين ثلاثة أقوال: أحدها: الشياطين، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: السُّفهاء، قاله الضحاك. والثالث: المشركون، قاله ابن زيد. قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ هذا مَثَل بمن يَهيم في الأودية والمعنى أنهم يأخذون في كل فنّ من لغو وكذب وغير ذلك فيمدحون بباطل ويذُمُّون بباطل، ويقولون: فعلنا، ولم يفعلوا: قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا. قال ابن عباس: (1066) لمّا نزل ذمُّ الشعراء، جاء كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، أنزل اللهُ هذا وهو يعلم أنّا شعراء، فنزلت هذه الآية. وقال المفسرون: وهذا الاستثناء لشعراء المسلمين الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذمّوا من هجاه، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي: لم يَشْغَلهم الشِّعر عن ذِكْر الله ولم يجعلوا الشّعر همّهم. قال ابن زيد: وذكروا الله في شِعرهم. وقيل: المراد بالذّكر: الشّعر في طاعة الله عزّ وجلّ. قوله تعالى: وَانْتَصَرُوا أي: من المشركين مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لأنّ لمشركين بدءوا بالهجاء. ثم أوعد شعراء المشركين، فقال: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أَشركوا وهَجَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قال الزجاج: «أيَّ» منصوبة بقوله: «ينقلبون» لا بقوله: «سيعلم» ، لأن «أيّاً» وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها. ومعنى الكلام: إِنهم يَنْقلبون إِلى نار يخلَّدون فيها. وقرأ ابن مسعود، ومجاهد عن ابن عباس، وأبو المتوكل، وأبو رجاء: «أيَّ مُتَقَلَّبٍ يَتَقَلَّبُون» بتاءين مفتوحتين وبقافين على كل واحدة منهما نقطتان وتشديد اللام فيهما. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو مجلز، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «أيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُون» بالفاء فيهما وبنونين ساكنين وبتاءين. وكان شريح يقول: سيعلم الظّالمون حظّ من نقصوا، إِنّ الظّالم يَنْتَظِر العِقاب، وإنّ المظلوم ينتظر النّصر. والله أعلم.

_ خبر منكر، لا يصح. أخرجه الطبري 26848 و 26859 عن سالم البراد وهو مرسل، والمتن غريب، فالسورة مكية والخبر مدني. وأخرجه ابن أبي حاتم عن عروة بنحوه كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 440 وقال ابن كثير بعده: وهكذا قال ابن عباس، وعكرمة وغير واحد وهذه مرسلات لا يعتمد عليها، فالسورة مكية وهؤلاء الشعراء من الأنصار اه. بتصرف واختصار.

سورة النمل

سورة النّمل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) قوله تعالى: طس فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه، قال: هو اسم الله الأعظم. والثاني: اسم من أسماء القرآن، قاله قتاده. والثالث: الطاء من اللطيف، والسين من السميع، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: وَكِتابٍ مُبِينٍ وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: «وكتابٌ مبينٌ» بالرفع فيهما. قوله تعالى: وَبُشْرى أي: بشرى بما فيه من الثواب للمصدِّقين. قوله تعالى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي: حبَّبْنا إِليهم قبيح فعلهم. وقد بيّنّا حقيقة التّزيين والعمه في سورة البقرة «1» . وسُوءُ العذاب: شديده. قوله تعالى: هُمُ الْأَخْسَرُونَ لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إِلى النار. قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ قال ابن قتيبة: أي: يُلْقَى عليك فتَتَلَقَّاه أنت، أي: تأخذه. إِذْ قالَ مُوسى المعنى: اذكر إذ قال «2» موسى.

_ (1) البقرة عند الآيات: 15، 212. [.....] (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 442: أي اذكر حين سار موسى بأهله، فأضل الطريق وذلك في ليل وظلام، فآنس من جانب الطور نارا، فقال لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أي عن الطريق، وكان كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نورا عظيما، ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي: فلما أتاها رأى منظرا هائلا عظيما حيث انتهى إليها، والنار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا توقدا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء. قال ابن عباس: لم تكن نارا، إنما كانت نورا يتوهج.

[سورة النمل (27) : الآيات 9 إلى 14]

قوله تعالى: بِشِهابٍ قَبَسٍ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب إِلاّ زيداً: «بشهابٍ» بالتنوين. وقرأ الباقون على الإِضافة غير منوَّن. قال الزجاج: من نوّن الشّهاب، جعل القبس من صفة الشهاب، وكل أبيض ذي نور، فهو شهاب. فأما من أضاف، فقال الفراء: هذا مما يضاف إِلى نفسه إِذا اختلفت الأسماء، كقوله تعالى: وَلَدارُ الْآخِرَةِ «1» . قال ابن قتيبة: الشّهاب: النّار، والقيس: النار تُقْبَس: يقال: قَبَسْتُ النار قَبْساً، واسم ما قَبَستَ: قَبَسٌ. قوله تعالى: تَصْطَلُونَ أي: تستدفئون، وكان الزمان شتاءً. قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَها أي: جاء موسى النارَ، وإِنما كان نوراً فاعتقده ناراً، نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: قُدِّس مَنْ في النّار، وهو الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، والحسن والمعنى: قُدِّس مَنْ نادى من النّار، لا أنّ الله عزّ وجلّ يَحُلُّ في شيء. والثاني: أن «مَنْ» زائدة فالمعنى: بوركتِ النَّارُ، قاله مجاهد. والثالث: أن المعنى بُورِك على من في النار، أو فيمن في النار قال الفراء: والعرب تقول: باركه الله، وبارك عليه، وبارك فيه، بمعنى واحد، والتقدير: بورك في من طلب النار، وهو موسى، فحذف المضاف. وهذه تحيَّة من الله تعالى لموسى بالبركة، كما حيَّا إِبراهيمَ بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه، فقالوا: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ «2» . فخرج في قوله تعالى: بُورِكَ قولان: أحدها: قدس. والثاني: من البركة. وفي قوله تعالى: وَمَنْ حَوْلَها ثلاثة أقوال: أحدها: الملائكة، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: موسى والملائكة، قاله محمد بن كعب. والثالث: موسى فالمعنى: بُورِك فيمن يطلبها وهو قريب منها. [سورة النمل (27) : الآيات 9 الى 14] يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) قوله تعالى: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الهاء عماد في قول أهل اللغة وعلى قول السدي: هي كناية عن المنادي، لأن موسى قال: مَن هذا الذي يناديني؟ فقيل: «إِنَّه أنا الله» . قوله تعالى: وَأَلْقِ عَصاكَ في الآية محذوف، تقديره: فألقاها فصارت حيَّة، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ قال الفراء: الجانّ: الحيَّة التي ليست بالعظيمة ولا بالصغيرة «3» . قوله تعالى: وَلَمْ يُعَقِّبْ فيه قولان: أحدهما: لم يلتفت، قاله قتادة. والثاني: لم يرجع، قاله

_ (1) يوسف: 109. (2) هود: 73. (3) قال ابن كثير رحمه الله 3/ 443: الجانّ ضرب من الحيات، أسرعه حركة، وأكثره اضطرابا. - وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قتل الجنّان التي في البيوت» . أخرجه البخاري 3312 و 33313 ومسلم 2233 وأبو داود 5253 وابن حبان 5639.

ابن قتيبة، والزجاج. قال ابن قتيبة: وأهل النظر يرون أنه مأخوذ من العَقْبِ.. قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي: لا يخافون عندي. وقيل: المراد: في الموضع الذي يوحى إِليهم فيه، فكأنه نبَّهه على أن من آمنه الله بالنبوَّة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة. وفي قوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه استثناء صحيح، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل والمعنى: إِلا من ظَلَمَ منهم فانه يخاف. قال ابن قتيبة: علم الله تعالى أن موسى مُسْتَشْعِرٌ خِيفةً من ذَنْبه في الرَّجل الذي وَكزَه، فقال: «إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً» أي: توبة وندماً، فانه يخاف، وإِني غفور رحيم. والثاني: أنه استثناء منقطع والمعنى: لكن من ظلَمَ فانه يخاف، قاله ابن السائب والزجاج. وقال الفراء: «مَنْ» مستثناة من الذين تُركوا في الكلام، كأنه قال: لا يخاف لديّ المرسَلون، إِنما الخوف على غيرهم، إِلا من ظَلَمَ، فتكون «مَنْ» مستثناة. وقال ابن جرير: في الآية محذوف، تقديره: إِلا من ظَلَمَ، فمن ظَلَمَ ثم بدَّل حُسْناً. والثالث: أن «إِلاّ» بمعنى الواو، فهو كقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ «2» ، حكاه الفراء عن بعض النحويين، ولم يرضه. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعاصم الجحدري، وابن يعمر: «أَلا مَنْ ظَلَمَ» بفتح الهمزة وتخفيف اللام. وللمفسرين في المراد بالظّلم ها هنا قولان «3» : أحدهما: المعاصي. والثاني: الشِّرك. ومعنى «حُسْناً» توبة وندماً. وقرأ ابن مسعود، والضَّحَّاك، وأبو رجاء، والأعمش، وابن السميفع، وعبد الوارث عن أبي عمرو: «حَسَناً» بفتح الحاء والسين بَعْدَ سُوءٍ أي: بعد إِساءة، وقيل: الإِشارة بهذا إِلى أن موسى وإِن كان قد ظلم نفسه بقتل القبطي، فان الله يغفِر له، لأنه ندم على ذلك وتاب. قوله تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ الجَيْب حيث جِيبَ من القميص، أي: قُطِع. قال ابن جرير: إنّما أمر بإدخال يده في جيبه، لأنه كان عليه حينئذ مِدْرَعة من صوف ليس لها كُمّ. والسُّوء: البَرَص. قوله تعالى: فِي تِسْعِ آياتٍ قال الزجاج: «في» مِنْ صلة قوله: «وأَلْقِ عصاك» «وأدخل يدك» ، فالتأويل:

_ (1) قال الزمخشري في «الكشاف» 3/ 356: وإِلَّا بمعنى لكن، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل كان مظنّة لطروق الشبهة، فاستدرك ذلك. والمعنى: ولكن من ظلم منهم أي فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى بوكزه القبطي، وسماه ظلما، كما قال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي- القصص: 16- والحسن، والسوء: حسن التوبة، وقبح الذنب. وقال الطبري في «تفسيره» 9/ 500: والصواب من القول في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ أنه استثناء صحيح وهو قول الحسن البصري وابن جريج ومن قال قولهما. وقال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 443: وهذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على شيء ثم أقلع عنه ورجع وأناب. فإن الله يتوب عليه كما قال تعالى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى والآيات في هذا كثيرة. (2) البقرة: 150. (3) تقدم معنى الظلم بقول الزمخشري رحمه الله، وابن كثير رحمه الله.

[سورة النمل (27) : الآيات 15 إلى 19]

أظْهِر هاتين الآيتين في تسع آيات. و «في» بمعنى «مِنْ» ، فتأويله: مِنْ تسع آيات تقول: خذ لي عشراً من الإِبل فيها فحلان، أي: منها فحلان. وقد شرحنا الآيات في بني إِسرائيل «1» . قوله تعالى: إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أي: مٌرْسَلاً إِلى فرعون وقَومِه، فحذف ذلك لأنه معروف. فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أي: بيّنة واضحة، وهو كقوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً «2» وقد شرحناه. قوله تعالى: قالُوا هذا أي: هذا الذي نراه عِياناً سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِها أي: أنكروها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أنّها مِنْ عند الله، ظُلْماً أي: شركا وعلوّا أي: تكبّرا. وقال الزجاج: المعنى: وجحدوا بها ظُلماً وعُلُوّاً، أي: ترفُّعاً عن أن يؤمِنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله. [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً قال المفسرون: عِلْماً بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بالنبوَّة والكتاب وإِلانة الحديد وتسخير الشياطين والجن والإِنس عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ قال مقاتل: كان داود أشد تعبُّداً من سليمان، وكان سليمان أعظمَ مُلْكاً منه وأفطن. قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي: ورث نبوَّته وعِلْمه ومُلْكه، وكان لداود تسعة عشر ذكراً، فخصّ سليمان بذلك، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيها سواء «3» . قوله تعالى: وَقالَ يعني سليمان لبني إِسرائيل يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ قرأ أُبيُّ بن كعب: «عَلَمْنا» بفتح العين واللام. قال الفراء: «مَنْطِقَ الطَّير» : كلام الطَّير كالمنطق إِذا فُهم، قال الشاعر: عَجِبْتُ لها أَنَّى يَكُونُ غِناؤها ... فَصيحاً ولم تَفْغَرْ بمَنْطِقها فَمَا «4» ومعنى الآية: فهمنا ما تقول الطَّير. قال قتادة: والنمل من الطَّير. وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قال الزجاج: أي: من كل شىء يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس. وقال مقاتل: أُعطينا المُلك والنبوَّة والكتاب والرِّياح ومَنْطِق الطَّير، وسخِّرت لنا الجنُّ والشياطين. وروى جعفر بن محمد عن أبيه، قال: أعطي

_ (1) الإسراء: 108. (2) الإسراء: 59. (3) هذا القول لا حجة فيه، وهو قول الكلبي كما في «تفسير القرطبي» 13/ 149، والكلبي كذاب متروك. - وانظر الكلام على توريث الأنبياء في سورة مريم: 7. (4) البيت لحميد بن ثور يصف حمامة، كما في «اللسان» فغر، فغر فاه: فتحه، ويعني بالمنطق: بكاؤه.

سليمان مُلْك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر، وملك اهلَ الدنيا كلَّهم من الجن والإِنس والشياطين والدواب والطير والسباع، وأُعطي عِلْم كل شيء ومنطق كل شيء، وفي زمانه صُنعت الصنائع المعجِّبة، فذلك قوله: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. قوله تعالى: إِنَّ هذا يعني: الذي أُعطينا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي: الزيادة الظاهرة على ما أُعطي غيرنا. وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ أي: جُمع له كل صِنف من جُنده على حِدَة، وهذا كان في مسيرٍ له، فَهُمْ يُوزَعُونَ قال مجاهد: يُحبَس أوَّلُهم على آخرهم. قال ابن قتيبة: وأصل الوَزْع: الكَفُّ والمنع. يقال: وزَعْت الرَّجل، أي: كففته، ووازِعُ الجيش: الذي يكفُّهم عن التفرُّق، ويردُّ مَنْ شَذَّ منهم. قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَتَوْا أي: أشرفوا عَلى وادِ النَّمْلِ وفي موضعه قولان: أحدهما: أنه بالطَّائف، قاله كعب. والثاني: بالشَّام، قاله قتادة. قوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ وقرأ ابو مجلز، وأبو رجاء وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرف: «نَمُلَةٌ» بضم الميم أي: صاحت بصوت، فلما كان ذلك الصوت مفهوماً عبّر عنه بالقول ولمَّا نَطَقَ النَّمل كما ينطق بنو آدم، أُجري مجرى الآدميين، فقيل: ادْخُلُوا، وألهم الله تلك النملة معرفة سليمان مُعْجِزاً له، وقد ألهم الله النمل كثيراً من مصالحها تزيد به على الحيوانات، فمن ذلك أنها تكسر كل حبَّة تدخرها قطعتين لئلاّ تَنْبُت، إِلا الكُزْبرة فانها تكسرها أربع قطع، لأنها تَنْبُت إِذا كُسرت قطعتين، فسبحان من ألهمها هذا! وفي صفة تلك النملة قولان: أحدهما: أنها كانت كهيئة النعجة، قال نوف الشامي: كان النمل في زمن سليمان بن داود كأمثال الذئاب «1» . والثاني: كانت نملة صغيرة. ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري: «مَسْكَنَكم» على التوحيد. قوله تعالى: لا يَحْطِمَنَّكُمْ الحَطْم: الكَسْر. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء: «لَيَحْطِمَنَّكُمْ» بغير ألف بعد اللام. وقرأ ابن مسعود: «لا يَحْطِمْكُمْ» بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون. وقرأ عمرو بن العاص، وأبان: «يَحْطِمَنْكُمْ» بفتح الياء وسكون الحاء والنون جميعا. وقرأ ابن أبو المتوكل، وأبو مجلز: «لا يَحِطِّمَنَّكُمْ» بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعاً. وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: «يُحْطِمَنَّكُمْ» برفع الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون. والحَطْمُ: الكَسْر، والحُطَام: ما تحطَّم. قال مقاتل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وفي قوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قولان: أحدهما: وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النملة، قاله ابن عباس. والثاني: وأصحاب سليمان لا يَشْعُرون بمكانكم، لانها علمتْ أنَّه ملك لا بغي فيه، وأنهم لو علموا بالنمل ما توطَّؤوهم، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً قال الزجاج «ضاحكاً» منصوب، حال مؤكَدة، لأن «تبسّم» بمعنى «ضحك» . قال المفسرون: تبسم تعجُّباً ممَّا قالت، وقيل: من ثنائها عليه. وقال بعض العلماء: هذه الآية من عجائب القرآن، لأنها بلفظة «يا» نادت «أيها» نبّهت «النّمل» عيّنت «ادخلوا» «مساكنَكم» نصَّت «لا يحطمنَّكم» حذَّرت «سليمانُ» خصَّت «وجنوده» عمَّت «وهم لا يشعُرون» عذرت. قوله

_ (1) قال ابن كثير بعد أن ذكر قول نوف البكالي. هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت (الذياب) وإنما هو بالياء الموحدة، وذلك تصحيف والله أعلم. فصوابه «بالباء» «ذباب» وإلا فهو من مجازفات نوف البكالي.

[سورة النمل (27) : الآيات 20 إلى 26]

تعالى: وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي قال ابن قتيبة: ألهِمْني، أصل الإِيزاع: الإِغراء بالشيء، يقال: أوزَعْتُه بكذا، أي: أغريتُه به، وهو مُوزَعٌ بكذا، ومُولَعٌ بكذا، وقال الزجاج. تأويله في اللغة: كُفَّني عن الأشياء إِلا عن شُكرِ نِعمتك والمعنى: كُفَّني عمَّا يُباعِد منك، وَأَنْ أَعْمَلَ أي: وألهِمْني أن أعمل صالِحاً تَرْضاهُ قال المفسّرون: إنما شكر الله تعالى لأن الريح أبلغت إِليه صوتها ففهم ذلك. [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 26] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ التفقُّد: طلب ما غاب عنك والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير والطَّير اسم جامع للجنس، وكانت الطَّير تصحب سليمان في سفره تُظِلُّه بأجنحتها فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ قرأ ابن كثير، وعاصم، والكسائي: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ بفتح الياء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة بالسكون، والمعنى: ما للهدهد لا أراه؟! تقول العرب: مالي أراك كئيباً، أي: مَالَكَ؟ فهذا من المقلوب الذي معناه معلوم. قال المفسرون: لمَّا فَصَل سليمان عن وادي النمل، وقع في قفر من الأرض، فعطش الجيش فسألوه الماء، وكان الهدهد يدلُّه على الماء، فإذا قال له: ها هنا الماء، شقّقت الشياطين الصّخرة وفجَّرت العيون قبل أن يضربوا أبنيتهم، وكان الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الماء في الزجاجة، فطلبه يومئذ فلم يجده. وقال بعضهم: إِنما طلبه لأن الطَّير كانت تُظِلُّهم من الشمس، فأخلَّ الهدهد بمكانه، فطلعت الشمس عليهم من الخلل. قوله تعالى: أَمْ كانَ قال الزجاج: معناه: بل كان. قوله تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً فيه ستة أقوال: أحدها: نتف ريشه، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: نتفه وتشميسه، قاله عبد الله بن شداد. والثالث: شد رجله وتشميسه، قاله الضحاك. والرابع: أن يطليَه بالقطران ويشمّسه، قاله مقاتل بن حيان. والخامس: ان يودِعه القفص. والسادس: أن يفرِّق بينه وبين إِلفه، حكاهما الثعلبي. قوله تعالى: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي وقرأ ابن كثير: «لَيَأْتِيَنَّنِي، بنونين، وكذلك هي في مصاحفهم. فأما السلطان، فهو الحُجَّة، وقيل: العُذر. وجاء في التفسير أن سليمان لما نزل في بعض مسيره، قال الهدهد: إِنه قد اشتغل بالنزول فأرتفع أنا إِلى السماء فأنظر إِلى طول الدنيا وعرضها، فارتفع فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إِلى الخُضرة فوقع فيه، فاذا هو بهدهد قد لقيَه، فقال: من اين أقبلت؟ قال: من الشام مع صاحبي سليمان، فمن أين أنت؟ قال: من هذه البلاد، وملكها امرأة يقال لها: بلقيس، فهل انت مُنطلق معي حتى ترى مُلْكها؟ قال: أخاف أن يتفقَّدني سليمان وقت الصلاة إِذا احتاج إِلى الماء، قال: إِن صاحبك يسرُّه أن تأتيَه بخبر هذه الملِكة، فانطلق معه، فنظر إِلى بلقيس ومُلْكها، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ قرأ الجمهور بضم الكاف، وقرأ

عاصم بفتحها، وقرأ ابن مسعود: «فتمكَّث» بزيادة تاء والمعنى: لم يلبث إِلا يسيراً حتى جاء، فقال سليمان: ما الذي أبطأ بك؟ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي: علمتُ شيئاً من جميع جهاته مما لم تعلم به وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «سَبَأَ» نصباً غير مصروف، وقرأ الباقون خفضاً منوَّناً «1» . (1067) وجاء فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أن سبأ رجل من العرب» . وقال قتادة: هي أرض باليمن يقال لها: مأرب. وقال أبو الحسن الأخفش: إِن شئتَ صرفت «سبأ» فجعلته اسم أبيهم، أو اسم الحيِّ، وإِن شئت لم تصرف فجعلته اسم القبيلة، أو اسم الأرض. قال الزجاج: وقد ذكر قوم من النحويين أنه اسم رجل. وقال آخرون: الاسم إِذا لم يُدْرَ ما هو لم يُصرف وكلا القولين خطأٌ، لأن الأسماء حقُّها الصَّرف، وإِذا لم يُعلم هل الاسم للمذكَّر أم للمؤنَّث، فحقُّه الصَّرف حتى يُعلم أنَّه لا ينصرف، لأن أصل الأسماء الصرف. وقول الذين قالوا: هو اسم رجل، غلط، لأن سبأ هي مدينة تُعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، فمن لم يصرفه جعله اسم مدينة، ومن صرفه فلأنَّه اسم البلد، فيكون مذكَّراً سمي بمذكَّر. قوله تعالى: بِنَبَإٍ يَقِينٍ أي: بخبر صادق، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ يعني بلقيس وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قال الزجاج: معناه: من كل شيء يُعطاه الملوك ويؤتاه الناس. والعرش: سرير الملك. قال قتادة: كان عرشها من ذهب، قوائمه من جوهر مكلَّل باللؤلؤ، وكان أحد أبويها من الجنّ، وكان

_ صحيح. أخرجه الترمذي 3222 وابن سعد في «الطبقات» 1/ 38 والطبري 28783 من طرق عن أبي أسامة عن الحسن بن الحكم ثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك به. وإسناده لين، لأجل أبي سبرة، فإنه مقبول، وباقي الإسناد ثقات. وقال الترمذي. حسن غريب. وورد من وجه آخر. أخرجه البخاري في «التاريخ» 7/ 126/ 568 والحاكم 2/ 424 من طريق الحميدي عن فرج بن سعيد حدثني عمي ثابت بن سعيد عن أبيه عن فروة به. وإسناده حسن في المتابعات والشواهد، لأجل ثابت بن سعيد بن أبيض، فإنه مقبول هو وأبوه. وباقي الإسناد ثقات. وسكت عليه الحاكم، وصححه الذهبي، وورد من وجه آخر. أخرجه الطبري 28682 من طريق أبي حيان عن يحيى بن هانئ عن عروة المرادي عن فروة به. وإسناده ضعيف، فيه مجاهيل، وورد من وجه آخر. أخرجه الطبري 28784 من طريق أسباط بن نصر عن يحيى بن هانئ المرادي عن أبيه أو عن عمه- شك أسباط- قال: قدم فروة، فهذا مرسل. وفيه من لم يسم فهو ضعيف. وله شاهد من حديث يزيد بن حصين، أخرجه الطبراني 22/ 245. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 94/ 11287: رجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني علي بن الحسن الصائغ، ولم أعرفه. قلت: ذكره الخطيب في «التاريخ» 11/ 376 من غير جرح أو تعديل، وبكل حال يصلح شاهدا لما قبله، ويشهد له حديث ابن عباس، أخرجه الحاكم 2/ 423 وصححه، ووافقه الذهبي. الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده، وقال ابن كثير في «التفسير» 3/ 538: إسناده حسن قوي. وانظر «تفسير القرطبي» 112 و «تفسير الشوكاني» 2049 وكلاهما بتخريجي.

[سورة النمل (27) : الآيات 27 إلى 31]

مؤخَّر أحد قدميها مثل حافر الدابة، وقال مجاهد: كان قدماها كحافر الحمار. وقال ابن السائب: لم يكن بقدميها شيء، إِنما وقع الجنُّ فيها عند سليمان بهذا القول، فلمَّا جعل لها الصرح بان له كذبُهم. قال مقاتل: كان ارتفاع عرشها ثمانين ذراعاً في عرض ثمانين، وكانت أُمُّها من الجنّ «1» . قال ابن جرير: وإِنما صار هذا الخبر عُذْراً للهدهد، لأن سليمان كان لا يرى لأحد في الأرض مملكة سواه، وكان مع ذلك يحبُّ الجهاد، فلمَّا دلَّه الهدهد على مملكةٍ لغيره، وعلى قومٍ كَفَرة يجاهدهم، صار ذلك عذرا. قوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا قرأ الأكثرون: «ألاَّ» بالتشديد. قال الزجاج: والمعنى: وزيَّن لهم الشيطان ألاَّ يسجدوا، أي: فصدَّهم لئلاَّ يسجُدوا. وقرأ ابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والزهري وقتادة، وأبو العالية، وحميد الأعرج، والأعمش، وابن أبي عبلة، والكسائي: «ألا يسجُدوا» مخفَّفة، على معنى: ألا يا هؤلاء اسجُدوا، فيكون في الكلام إِضمار «هؤلاء» ويُكتفى منها ب «يا» ، ويكون الوقف «ألا يا» والابتداء «اسجدوا» قال الفراء: فعلى هذه القراءة هي سجدة، وعلى قراءة من شدَّد لا ينبغي لها أن تكون سجدة. وقال أبو عبيدة: هذا أمر من الله مستأنَف، يعني: ألا يا أيُّها الناس اسجدوا. وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ: «هلاَّ يسجدوا» بهاءٍ. قوله تعالى: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن قتيبة: أي: المُسْتَتِر فيهما، وهو من خَبَأْتُ الشيءَ: إِذا أخفيته، ويقال: خبْءُ السموات: المطر، وخبءُ الأرض: النبات. وقال الزجاج: كل ما خَبَأته فهو خَبْءُ، فالخَبْءُ: كُلُّ ما غاب فالمعنى: يعلم الغيب في السموات والأرض. وقال ابن جرير: «في» بمعنى «مِنْ» فتقديره: يُخرج الخَبْءَ من السموات. قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ قرأ حفص عن عاصم، والكسائي، بالتاء فيهما. وقرأ الباقون بالياء. قال ابن زيد: من قوله: أَحَطْتُ إِلى قوله: الْعَظِيمِ كلام الهدهد. وقرأ الضّحّاك، وابن محيصن: «العظيم» برفع الميم. [سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 31] قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) فلما فرغ الهدهد من كلامه قالَ سَنَنْظُرُ فيما أخبرتَنا به أَصَدَقْتَ فيما قلتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ وإِنما شَكَّ في خبره، لأنه أنكر أن يكون لغيره في الأرض سلطان. ثم كتب كتاباً وختمه بخاتَمه ودفعه إِلى الهدهد وقال: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي: «فأَلْقِهي» موصولة بياء. وقرأ أبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، وحمزة: «فأَلْقِهْ» بسكون الهاء، وروى قالون عن نافع: كسر الهاء من غير إِشباع ويعني: إِلى أهل سبأ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: أَعْرِض. والثاني: انْصَرِف، فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي: ماذا يَرُدُّون من الجواب. فإن قيل: إِذا تولَّى عنهم فكيف يعلم جوابهم؟ فعنه جوابان «2» : أحدهما: أن المعنى: ثم تولّ عنهم مستترا

_ (1) هذا وما قبله وأمثالها من الإسرائيليات المنكرة. [.....] (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 448: كتب سليمان كتابا إلى بلقيس وقومها. وأعطاه للهدهد فحمله وجاء قصر بلقيس إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها فألقاه إليها من كوة هناك بين يديها، ثم تولى ناحية أدبا ورئاسة فتحيرت مما رأت وهالها ذلك، ثم عمدت إلى الكتاب، وقرأته وفتحت ختمه، فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها، ثم قالت: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره، كون الطائر أتى به فألقاه إليها ثم تولى عنها أدبا وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك.

[سورة النمل (27) : الآيات 32 إلى 35]

من حيث لا يرونك، فانظر ماذا يردُّون من الجواب، وهذا قول وهب بن منبِّه. والثاني: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: فانظر ماذا يرجعِون ثم تولّ عنهم، وهذا مذهب ابن زيد. قال قتادة: أتاها الهدهد وهي نائمة فألقى الكتاب على نحرها فقرأته وأخبرت قومها. وقال مقاتل: حمله بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة، فرفرف ساعة والناس ينظُرون، فرفعت رأسها فألقي الكتاب في حِجْرها، فلما رأت الخاتَم أُرْعِدَتْ وخضعتْ وخضع مَنْ معها من الجنود. واختلفوا لأيِّ عِلَّة سمَّتْه كريماً على سبعة أقوال: أحدها: لأنه كان مختوماً، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: لأنها ظنَّته من عند الله عزّ وجلّ، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أن معنى قولها: «كريمٌ» : حَسَنٌ ما فيه، قاله قتادة، والزّجّاج. والرابع: لكلام صاحبه، فانه كان ملِكاً، ذكره ابن جرير. والخامس: لأنه كان مَهيباً، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والسادس: لتسخير الهدهد لحمله، حكاه الماوردي. والسابع: لأنها رأت في صدره «بسم الله الرحمن الرحيم» ، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ أي: إِن الكتاب من عنده وَإِنَّهُ أي: وإِنَّ المكتوب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ أي: لا تتكبروا. وقرأ ابن عباس: «تَغْلُوا» بغين معجمة وأْتُوني مُسْلِمِينَ أي: منقادين طائعين. ثم استشارت قومها، ف قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ يعني الاشراف، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر قائداً، كل رجل منهم على عشرة آلاف. وقال ابن عباس: كان معها مائة ألف قَيْل، مع كل قَيْل مائة ألف. وقيل: كانت جنودها ألف ألف ومائتي ألف. [سورة النمل (27) : الآيات 32 الى 35] قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) قوله تعالى: أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي: بيِّنوا لي ما أفعل، وأشيروا عليَّ. قال الفراء: جعلت المشورة فُتْيا، وذلك جائز لسَعة اللغة. قوله تعالى: ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً أي: فاعلته حَتَّى تَشْهَدُونِ أي: تَحْضُرون: والمعنى: إِلا بحضوركم ومشورتكم. قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فيه قولان: أحدهما: أنهم أرادوا القُوَّة في الأبدان. والثاني: كثرة العدد والبأس والشجاعة في الحرب. وفيما أرادوا بذلك القول قولان: أحدهما: تفويض الأمر إِلى رأيها. والثاني: تعريض منهم بالقتال إِن أمرتْهم. ثم قالوا: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أي: في القتال وتركه. قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً قال الزجاج: المعنى: إِذا دخلوها عَنْوة عن قتال وغَلَبة. قوله تعالى: أَفْسَدُوها أي: خرَّبوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أي: أهانوا أشرافها ليستقيم لهم الأمر. ومعنى الكلام: أنها حذَّرتْهم مسير سليمان إِليهم ودخوله بلادها. قوله تعالى:

وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ فيه قولان: أحدهما: أنه من تصديق الله تعالى لقولها، قاله الزجاج. والثاني: من تمام كلامها والمعنى: وكذلك يفعل سليمان وأصحابه إِذا دخلوا بلادنا، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ قال ابن عباس: إِنما أرسَلَت الهديَّة لتعلم أنه إِن كان نبيّاً لم يُرِد الدُّنيا، وإِن كان مَلِكاً فسيرضى بالحَمْل، وأنها بعثت ثلاث لَبِنات مِنْ ذهب في كل لَبِنة مائة رطل وياقوتةً حمراء طولها شِبر مثقوبة، وثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفة، وألبستْهم لباساً واحداً حتى لا يُعرف الذكر من الأنثى، ثم كتبتْ إِليه: إِنِّي قد بعثتُ إِليكَ بهديَّة فاقبلها، وبعثتُ إِليكَ بياقوتة طولها شبر، فأدخل فيها خيطاً واختِم على طرفي الخيط بخاتَمك، وقد بعثت إِليك ثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفة، فميِّز بين الجواري والغِلمان فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثتْ إِليه، فقال له: انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال لَبِناً من الذهب فانطلق، فبعث الشياطين، فقطعوا اللَّبِن من الجبال وطلَوه بالذهب وفرشوه، ونصبوا في الطريق أساطين الياقوت الأحمر، فلمّا جاء الرُّسُل، قال بعضهم لبعض: كيف تدخُلون على هذا الرجل بثلاث لَبِنات، وعنده ما رأيتم؟! فقال رئيسهم: إِنما نحن رُسُل، فدخلوا عليه، فوضعوا اللَّبِن بين يديه، فقال: أتمدّونني بمال؟ ثم دعا ذَرَّةً فربط فيها خيطاً وأدخلها في ثَقْب الياقوتة حتى خرجت من طرفها الآخر، ثم جمع بين طرفي الخيط فختم عليه ودفعها إِليهم، ثم ميَّز بين الغِلمان والجواري هذا كلُّه مرويّ عن ابن عباس «1» . وقال مجاهد: جعلت لباس الغِلمان للجواري ولباس الجواري للغلمان، فميَّزهم ولم يقبل هديَّتها. وفي عدد الوصائف والوُصفاء خمسة أقوال: أحدها: ثلاثون وصيفاً وثلاثون وصيفة، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، قاله وهب. والثالث: مائتا غلام ومائتا جارية، قاله مجاهد. والرابع: عشرة غلمان وعشر جوارٍ، قاله ابن السائب. والخامس: مائة وصيف ومائة وصيفة، قاله مقاتل. وفيما ميَّزهم به ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أمرهم بالوضوء، فبدأ الغلام من مرفقه إِلى كفِّه، وبدأت الجارية من كفّها إِلى مرفقها، فميَّزهم بذلك، قاله سعيد بن جبير. والثاني: أن الغلمان بدءوا بغَسْل ظُهور السَّواعد قبل بُطونها، والجواري على عكس ذلك، قاله قتادة. والثالث: أن الغلام اغترف بيده، والجارية أفرغت على يدها، قاله السدي. وجاء في التفسير أنها أمرت الجواري أن يكلِّمن سليمان بكلام الرجال، وأمرت الرجال أن يكلّموه كلام النساء، وأرسلت قدحا أن يملأه ماءً ليس من ماء السماء ولا من ماء الأرض، فجرّى الخيل وملأه من عرقها. قوله تعالى: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي: بقَبُول أم بِردّ. قال ابن جرير: وأصل «بِمَ» : بما، وإِنما أُسقطت الألف لأن العرب إِذا كانت «ما» بمعنى «أيّ» ثم وصلوها بحرف خافض، أسقطوا ألفها، تفريقاً بين الاستفهام والخبر، كقوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ «2» وقالُوا فِيمَ كُنْتُمْ «3» ، وربما أثبتوا فيها الألف كما قال الشاعر: على مَا قام يَشْتُمُنا لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رماد؟ «4»

_ (1) هو متلقى عن أهل الكتاب. ولا يصح شيء في تعيين الهدية أو وصفها، وكل ذلك من الإسرائيليات. (2) النبأ: 1. (3) النساء: 97. (4) البيت لحسان بن ثابت، ديوانه: 143.

[سورة النمل (27) : الآيات 36 إلى 40]

[سورة النمل (27) : الآيات 36 الى 40] فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قال الزجاج: لما جاء رسُولها، ويجوز: فلمَّا جاء بِرُّها. قوله تعالى: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «أتُمِدُّونَني» بنونين وياء في الوصل. وروى المسيِّبي عن نافع: «أتُمِدُّوني» بنون واحدة خفيفة وياء في الوصل والوقف. وقرأ عاصم، وابن عامر، والكسائي: «أتُمِدُّونَنِ» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ حمزة: «أتُمِدُّونِّي بمال» بنون واحدة مشددة ووقف على الياء. قوله تعالى: فَما آتانِيَ اللَّهُ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «فما آتانِ» بكسر النون من غير ياء. وقرأ أبو عمرو، ونافع، وحفص عن عاصم: «أتاني الله» بفتح الياء. وكلّهم فتح التاء غير الكسائي، فإنه أمالها من «آتاني اللهُ» وأمال حمزة: «أنا آتيكَ به» أشمَّ النون شيئاً من الكسر، والمعنى: فما آتاني الله، أي: من النبوَّة والملك خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ من المال بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ يعني إِذا أهدى بعضكم إِلى بعض فرح، فأمّا أنا فلا، ثم قال للرسول: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ أي: لا طاقة لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها يعني بلدتهم. فلمّا رجعتْ رسلُها إِليها بالخبر، قالت: قد علمتُ أنَّه ليس بملِك وما لنا به طاقة، فبعثتْ إِليه: إِني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما تدعو إِليه، ثم أمرت بعرشها فجُعل وراء سبعة أبواب، ووكَّلتْ به حرساً يحفظونه، وشخصت إِلى سليمان في اثني عشر ألف ملِك، تحت يدي كل ملِك ألوف. وكان سليمان مهيبا لا يبتدئ بشيء حتى يسأل عنه، فجلس يوماً على سرير ملكه فرأى رهجاً قريباً منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس قد نزلت بهذا المكان، وكان قدر فرسخ، وقد كان بلغه أنها احتاطت على عرشها قبل خروجها، وقالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها وفي سبب طلبه له خمسة أقوال «1» : أحدها: ليعلم صِدق الهدهد، قاله ابن عباس. والثاني: ليجعل ذلك دليلاً على صِدق نبوَّته، لأنها خلَّفته في دارها واحتاطت عليه، فوجدته قد تقدَّمها، قاله وهب بن منبه. والثالث: ليختبر عقلها وفطنتها، أتعرفه أم تُنْكِره، قاله سعيد بن جبير. والرابع: لأن صفته أعجبتْه، فخشي أن تُسْلِم فيحرم عليه مالها، فأراد أخذه قبل ذلك، قاله قتادة.

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 9/ 521: وأولى الأقوال بالصواب في السبب الذي من أجله خص سليمان بسؤاله الملأ من جنده بإحضار عرش المرأة دون سائر ملكها عندها ليجعل ذلك حجة عليها في نبوته ويعرّفها بذلك قدرة الله وعظيم شأنه، أنها خلفته في بيت في جوف أبيات بعضها في جوف بعض مغلق مقفل فأخرجه الله من ذلك كله بغير فتح أغلاق وأقفال حتى أوصله إلى وليه من خلقه وسلمه إليه فكان لها في ذلك أعظم حجة على حقيقة ما دعاها إليه سليمان وعلى صدقه فيما أعلمها من نبوته.

والخامس: ليريَها قدرة الله تعالى وعِظَم سلطانه، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ قال أبو عبيدة: العِفْريت من كل جِنّ أو إِنس: الفائق المبالغ الرئيس. وقال ابن قتيبة: العفريت: الشرير الوثيق. وقال الزجاج: العفريت: النافذ في الأمر، المبالغ فيه مع خُبث ودهاء. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والضحاك، وأبو العالية، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: «قال عَفْرِيت» بفتح العين وكسر الراء، وروى ابن أبي شريح عن الكسائي: «عِفْريَةٌ» بفتح الياء وتخفيفها، وروي عنه أيضاً تشديدها وتنوين الهاء على التأنيث. وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع: «عِفْرَاةٌ» بكسر العين وفتح الراء وبألف من غير ياء. قوله تعالى: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي: من مجلسك ومثله: «في مقام أمين» «1» . وكان سليمان يجلس للقضاء بين الناس من وقت الفجر إِلى طلوع الشمس، وقيل: إِلى نصف النهار. وَإِنِّي عَلَيْهِ أي: على حمله لَقَوِيٌّ. وفي قوله تعالى: أَمِينٌ قولان: أحدهما: أمين على ما فيه من الجوهر والدُّرِّ وغير ذلك، قاله ابن السائب. والثاني: أمين أن لا آتيك بغيره بدلاً منه، قاله ابن زيد. قال سليمان: أريد اسرع من ذلك. قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ وهل هو إِنسي أم مَلَك؟ فيه قولان: أحدهما: إِنسيّ، قاله ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، ثم فيه أربعة أقوال: أحدها: أنَّه رجل من بني إِسرائيل، واسمه آصف بن برخياء، قاله مقاتل. قال ابن عباس: دعا آصف- وكان آصف يقوم على رأس سليمان بالسيف- فبعث اللهُ الملائكة فحملوا السرير تحت الأرض يَخُدُّون الأرض خَدّاً، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان. والثاني: أنه سليمان عليه السلام، وإِنما قال له رجل: أنا آتيك به قبل أن يرتد إِليك طَرْفك، فقال: هات، قال: أنت النبيُّ ابن النبيِّ، فان دعوتَ الله جاءكَ، فدعا اللهَ فجاءه، قاله محمّد بن المنكدر. والثالث: أنَّه الخضر، قاله ابن لهيعة «2» . والرابع: أنه عابد خرج يومئذ من جزيرة في البحر فوجد سليمان فدعا فأُتيَ بالعرش، قاله ابن زيد. والقول الثاني: أنه من الملائكة، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه جبريل عليه السلام. والثاني: مَلَك من الملائكة أيَّد اللهُ تعالى به سليمان، حكاهما الثعلبي. وفي العِلْم الذي عنده من الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم الله الأعظم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. والثاني: أنه عِلْم كتاب سليمان إلى بلقيس. والثالث: عِلْم ما كتب اللهُ لبني آدم، وهذا على أنه مَلَك، حكى القولين الماوردي. وفي قوله تعالى: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أربعة أقوال: أحدها: قبل أن يأتيَك أقصى ما تنظر إِليه، قاله سعيد بن جبير. والثاني: قبل أن ينتهي طرفك إِذا مددته إِلى مداه، قاله وهب. والثالث: قبل أن يرتد طرفك حسيراً إِذا أدمتَ النظر، قاله مجاهد. والرابع: بمقدار ما تفتح عينك ثم تطرف، قاله الزّجّاج: قال مجاهد: دعا فقال: يا ذا الجلال والإِكرام، وقال ابن السائب: إِنما قال: يا حيّ يا قيّوم. قوله تعالى: فَلَمَّا رَآهُ في الكلام محذوف تقديره: فدعا اللهَ فأُتيَ به، فلمَّا رآه، يعني: سليمان مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي: ثابتاً بين يديه قالَ هذا يعني التمكُّن من حصول المراد. قوله تعالى: أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ فيه قولان: أحدهما: أأشكر على السرير إِذ أُتيتُ به، أم أكفر إذا

_ (1) الدخان: 51. (2) ابن لهيعة: ضعيف إذا وصل الحديث فكيف إذا أرسله، وقد استغرب ابن كثير هذا القول جدا.

[سورة النمل (27) : الآيات 41 إلى 44]

رأيتُ من هو دوني في الدنيا أعلم منّي، قاله ابن عباس. والثاني: أأشكر ذلك من فضل الله عليَّ، أم أكفر نعمته بترك الشُّكر له، قاله ابن جرير. [سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44] قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) قوله تعالى: قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها قال المفسرون: خافت الشياطين أن يتزوج سليمان بلقيس فتُفشي إِليه أسرار الجن، لأن أُمَّها كانت جِنِّية، فلا ينفكُّون من تسخير سليمان وذرِّيَّته بعده، فأساؤوا الثناء عليها وقالوا: إِن في عقلها شيئاً، وإِن رجلها كحافر الحمار، فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها، وينظر إِلى قدميها ببناء الصرح. قال ابن قتيبة: ومعنى «نكِّروا» : غيِّروا، يقال: نكَّرت الشيء فتنكَّر، أي: غيَّرتُه فتغيَّر. وللمفسرين في كيفية تغييره ستة أقوال: أحدها: أنه زِيد فيه ونقص منه، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنهم جعلوا صفائح الذهب التي كانت عليه مكان صفائح الفضة، وصفائح الفضة مكان صفائح الذهب، والياقوتَ مكان الزَّبَرْجَد، والدُّرَّ مكان اللؤلؤ، وقائمتَي الزَّبَرْجَد مكان قائمتَي الياقوت، قاله ابن عباس أيضاً. والثالث: أنهم نزعوا ما عليه من فصوصه وجواهره، روي عن ابن عباس أيضاً. والرابع: أنهم جعلوا ما كان منه أحمرَ أخضرَ، وما كان أخضر أحمر، قاله مجاهد. والخامس: أنهم جعلوا أسفله أعلاه، ومُقَدَّمه مُؤخَّره، وزادوا فيه، ونقصوا منه، قاله قتادة. والسادس: أنهم جعلوا فيه تماثيل السَّمك، قاله أبو صالح. وفي قوله تعالى: كَأَنَّهُ هُوَ قولان: أحدهما: أنها لمَّا رأته جعلت تَعْرِف وتُنْكِر، ثم قالت في نفسها: من أين يَخْلُص إِلى ذلك وهو في سبعة أبيات والحرس حوله؟! ثم قالت: كأنه هو، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال قتادة: شبَّهتْه بعرشها. وقال السدي: وجدت فيه ما تعرفه فلم تُنْكِر، ووجدت فيه ما تُنْكِره فلم تُثْبِت، فلذلك قالت: كأنه هو. والثاني: أنَّها عرفتْه، ولكنها شبَّهتْ عليهم كما شبَّهوا عليها، فلو أنهم قالوا: هذا عرشكِ، لقالت: نعم، قاله مقاتل. قال المفسرون: فقيل لها: فانه عرشكِ، فما أغنى عنكِ إغلاق الأبواب؟! وفي قوله تعالى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قول سليمان، قاله مجاهد، ثم في معناه قولان: أحدهما: وأُوتينا العِلْم بالله وقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة. والثاني: أُوتينا العِلْم باسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكُنَّا مُسْلِمِين لله. والقول الثاني: انه من قول بلقيس، فانها لمّا رأت عرشها، قالت: قد عرفتُ هذه الآية، وأُوتينا العِلْم بصِحَّة نبوَّة سليمان بالآيات المتقدِّمة، تعني أمر الهدهد والرُّسُلِ التي بُعثت من قَبْل هذه الآية، وكُنَّا مُسْلِمِين منقادِين لأمركَ قبل أن نجىء. والثالث: أنه من قول قوم سليمان، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الفراء: معنى الكلام: هي عاقلة، إِنَّما صدَّها عن عبادة الله عبادتُها الشمس والقمر، وكان عادةً من دين آبائها والمعنى: وصدَّها أن تعبُد الله ما كانت

[سورة النمل (27) : الآيات 45 إلى 47]

تعبد، قال: وقد قيل: صدَّها سليمانُ، أي: منعها ما كانت تعبُد. قال الزجاج: المعنى: صدَّها عن الإِيمان العادةُ التي كانت عليها، لأنها نشأت ولم تعرِف إِلا قوماً يعبُدون الشمس، وبيَّن عبادتها بقوله: إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: «أنَّها كانت» بفتح الهمزة. قوله تعالى: يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ قال المفسرون: أمر الشياطين فبنَوا له صرحاً كهيئة السطح من زجاج. وفي سبب أمره بذلك ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه أراد أن يريَها مُلكاً هو اعزُّ من مُلكها، قاله وهب بن منبِّه. والثاني: أنه أراد أن ينظر إِلى قدمها من غير أن يسألها كشفها، لأنه قيل له: إِن رجلها كحافر الحمار، فأمر ان يُهيَّأ لها بيت من قوارير فوق الماء، ووُضع سرير سليمان في صدر البيت، هذا قول محمد بن كعب القرظي. والثالث: أنه فعل ذلك ليختبرها كما اختبرته بالوصائف والوصفاء، ذكره ابن جرير. فأمّا الصَّرْح، فقال ابن قتيبة: هو القصر، وجمعه: صُروح، ومنه قول الهذليِّ: تَحْسَبُ أعلامَهنَّ الصُّروحا «1» قال: ويقال: الصَّرْحُ بلاطٌ اتّخذ لها من قوارير، وجعل تحته ماءٌ وسمك، قال مجاهد: كانت بِركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير. وقال مقاتل: كان قصراً من قوارير بني على الماء وتحته السّمك. قوله تعالى: سِبَتْهُ لُجَّةً وهي: معظم الماء كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لدخول الماء، فناداها سليمان نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ أي: مملّس نْ قَوارِيرَ أي: من زُجاج فعلمتْ حينئذ أن ملك سليمان من الله تعالى، فالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أي: بعبادة غيرك. وقيل: ظنَّت في سليمان أنه يريد تغريقها في الماء، فلمَّا علمتْ أنه صَرْح ممرَّد قالت: ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نفسي بذلك الظَّنِّ، وأسلمتُ مع سليمان، ثم تزوجها سليمان. وقيل: إِنه ردَّها إِلى مملكتها وكان يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام، وأنها ولدت منه. ويقال: إِنه زوَّجها ببعض الملوك ولم يتزوجها هو. [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 47] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) قوله تعالى: فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ مؤمن وكافر يَخْتَصِمُونَ وفيه قولان: أحدهما: أنه قولهم: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ الآيات «2» . والثاني: أنه قول كل فريق منهم: الحقُّ معي. قوله تعالى: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ وذلك حين قالوا: إِن كان ما أتيتنا به حقّاً فائتنا بالعذاب. وفي السيِّئة والحسنة قولان: أحدهما: أن السيِّئة: العذابُ، والحسنة: الرحمة، قاله مجاهد. والثاني: أن السيِّئة: البلاءُ، والحسنة، العافية، قاله السدي. قوله تعالى: لَوْلا أي: هلاَّ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ من الشِّرك لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فلا تعذَّبون. قالُوا اطَّيَّرْنا قال ابن قتيبة: المعنى: تَطَيَّرنا وتشاءَمْنا بِكَ، فأُدغمت التاء في الطاء، وأثبتت الألف، ليسلم

_ (1) هو جزء من عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي وهو في «ديوان الهذليين» 1/ 136 وتمامه: على طرق كنحور الركاب ... تحسب أعلامهن الصروحا (2) الأعراف: 75- 80.

[سورة النمل (27) : الآيات 48 إلى 53]

السكونُ لِمَا بعدها. وقال الزجاج: الأصل: تطيَّرنا، فأُدغمت التاء في الطاء، واجتُلبت الألفُ لسكون الطاء فاذا ابتدأتَ قلتَ: اطَّيَّرنا، وإِذا وصلتَ لم تذكر الألف وتسقط لأنها ألِف وصل، وإِنما تطيَّروا به، لأنهم قحطوا وجاعوا، ف قالَ لهم طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وقد شرحنا هذا المعنى في الأعراف. وفي قوله تعالى: تُفْتَنُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: تُختَبرون بالخير والشر، قاله ابن عباس. والثاني: تُصرَفون عن دينكم، قاله الحسن. والثالث: تُبتلَوْن بالطاعة والمعصية، قاله قتادة. [سورة النمل (27) : الآيات 48 الى 53] وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) قوله تعالى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ وهي الحِجْر التي نزلها صالح تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يريد: في أرض الحِجْر، وفسادهم: كفرهم ومعاصيهم، وكانوا يسفكون الدِّماء ويَثِبون على الأموال والفروج، وهم الذين عملوا في قتل الناقة. وروي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح قالا: كان فسادهم كسر الدراهم والدنانير، قالُوا فيما بينهم تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أي: احلفوا بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ أي: لنقتُلنَّ صالحاً (وأهلَه) ليلاً (ثم لَنَقولَنَّ) وقرأ حمزة، والكسائي: «لتُبَيِّتُنَّهُ وأهلَه ثم لَتَقولُنَّ» بالتاء فيهما. وقرأ مجاهد، وأبو رجاء، وحميد بن قيس: «لَيُبَيِّتُنَّهُ» بياء وتاء مرفوعتين «ثم لَيَقُولُنَّ» بياء مفتوحة وقاف مرفوعة وواو ساكنة ولام مرفوعة لِوَلِيِّهِ أي: لوليِّ دمه إِنْ سألَنا عنه ما شَهِدْنا أي: ما حضرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام والمَهْلِك يجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإِهلاك، ويجوز أن يكون الموضع. وروى ابو بكر، وأبان عن عاصم: بفتح الميم واللام، يريد الهلاك يقال: هَلَكَ يَهْلِكُ مَهْلَكاً. وروى عنه حفص، والمفضل: بفتح الميم وكسر اللام، وهو اسم المكان، على معنى: ما شهدنا موضع هلاكهم فهذا كان مكرهم، فجازاهم الله عليه فأهلكهم. وفي صفة إِهلاكهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم أتَوا دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتْهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم، قاله ابن عباس. والثاني: رماهم الله بصخرة فقتلتهم، قاله قتادة. والثالث: أنهم دخلوا غاراً ينتظرون مجيء صالح، فبعث الله صخرة سدَّت باب الغار، قاله ابن زيد. والرابع: أنهم نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضاً ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم، قاله مقاتل. قوله تعالى: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «أنَّا دمَّرناهم» بفتح الألف. وقرأ الباقون بكسرها. فمن كسر استأنف، ومن فتح، فقال أبو علي: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون بدلاً من عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ. والثاني: أن يكون محمولاً على مبتدإٍ مضمر، كأنه قال: هو أنَّا دمَّرناهم. قوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً قال الزجاج: هي منصوبة على الحال المعنى: فانظر إلى بيوتهم خاوية. [سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

[سورة النمل (27) : الآيات 59 إلى 61]

قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فيه قولان: أحدهما: وأنتم تعلمون أنَّها فاحشة. والثاني: بعضكم يُبْصِر بعضاً. قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ قال ابن عباس: تجهلون القيامة وعاقبة العِصيان. قوله تعالى: قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي: جعلناها بتقديرنا وقضائنا عليها من الباقين في العذاب. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «قَدَرْنَاهَا» خفيفة، وهي في معنى المشدَّدة. وباقي القصة قد تقدّم تفسيره. [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 61] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) قوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أُمِرَ أن يَحْمَد اللهَ على هلاك الأمم الكافرة، وقيل: على جميع نِعَمه، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فيهم أربعة أقوال: أحدها: الرسل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه عكرمة، قال: اصطفى إِبراهيم بالخُلَّة، وموسى بالكلام، ومحمداً بالرؤية. والثاني: أنهم أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلّم، رواه أبو مالك عن ابن عباس، وبه قال السدي. والثالث: أنهم الذين وحَّدوه وآمنوا به، رواه عطاء عن ابن عباس. والرابع: أنه أمة محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن السائب. قوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ قال أبو عبيدة: مجازه: أو ما تشركون، وهذا خطاب للمشركين والمعنى: آلله خير لمن عبده، أم الأصنام لعابديها؟! ومعنى الكلام: أنه لمَّا قصَّ عليهم قصص الأمم الخالية، أخبرهم أنَّه نجَّى عابديه، ولم تُغْنِ الأصنام عنهم. قوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ تقديره: أمّا يشركون خير، أمّن خلق السّموات وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ فأمَّا الحدائق، فقال ابن قتيبة: هي البساتين، واحدها: حديقة، سميت بذلك لأنه يُحْدَقُ عليها، أي: يُحْظَر، والبهجة: الحُسن. قوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي: ما ينبغي لكم ذلك لأنكم لا تقدرون عليه. ثم قال مستفهماً مُنْكِراً عليهم: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي: ليس معه إِله بَلْ هُمْ يعني: كفار مكة قَوْمٌ يَعْدِلُونَ وقد شرحناه في فاتحة (الأنعام) . أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي: مُسْتَقَرّاً لا تَمِيد بأهلها وَجَعَلَ خِلالَها أي: فيما بينها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أي: جبالاً ثوابتَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أي: مانعاً من قدرته بين العذْب والمِلْح ان يختلطا، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قدر عظمة الله عزّ وجلّ.

[سورة النمل (27) : الآيات 62 إلى 75]

[سورة النمل (27) : الآيات 62 الى 75] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) قوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ وهو: المكروب المجهود وَيَكْشِفُ السُّوءَ يعني الضُّرَّ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي: يهلك قرنا وينشئ آخرين، وتَذَكَّرُونَ بمعنى تتَّعظون. وقرأها أبو عمرو بالياء، والباقون بالتاء أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ أي: يُرشدكم إِلى مقاصدكم إِذا سافرتم فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وقد بيَّنَّاها في الأنعام «1» وشرحنا ما يليها من الكلمات فيما مضى «2» إِلى قوله: وَما يَشْعُرُونَ يعني مَنْ في السموات والأرض أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي: متى يُبْعَثون بعد موتهم. قوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «بل أَدْرَكَ» قال مجاهد: «بل» بمعنى «أم» والمعنى: لم يُدْرِكْ عِلْمُهم، وقال الفراء: المعنى: هل أَدرك عِلْمُهم عِلْم الآخرة؟ فعلى هذا يكون المعنى: إِنهم لا يقفون في الدنيا على حقيقة العِلْم بالآخرة. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «بل ادّارَكَ» على معنى: بل تدارك، أي: تتابع وتلاحق، فأُدغمت التاء في الدال. ثم في معناها قولان: أحدهما: بل تكامل عِلْمهم يوم القيامة لأنهم مبعوثون، قاله الزجاج: وقال ابن عباس: ما جهلوه في الدُّنيا، عَلِموه في الآخرة. والثاني: بل تدارك ظَنُّهم وحَدْسهم في الحكم على الآخرة، فتارة يقولون: إِنها كائنة، وتارة يقولون: لا تكون، قاله ابن قتيبة. وروى أبو بكر عن عاصم: «بل ادّرَكَ» على وزن افتعل من أدركت. قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي: بل هم اليوم في شك من القيامة بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ قال ابن قتيبة: أي: من عِلْمِها. وما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إِلى قوله: مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون: العذاب الذي تَعِدنا. قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ قال ابن عباس: قَرُب لكم. وقال ابن قتيبة: تَبِعَكم، واللام زائدة، كأنه قال: رَدِفَكم. وفي ما تبعهم مِمَّا استعجلوه قولان: أحدهما: يوم بدر. والثاني: عذاب القبر. قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ قال مقاتل: على أهل مكة حين لا يعجّل عليهم

_ (1) الأنعام: 63، 97. (2) الأعراف: 57، يونس: 4. (3) النحل: 127، المؤمنون: 35، 82.

[سورة النمل (27) : الآيات 76 إلى 82]

العذاب. قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي: ما تُخفيه وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم من عداوتك وخلافك والمعنى أنه يجازيهم عليه. وَما مِنْ غائِبَةٍ أي: وما من جملة غائبة، إِلَّا فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ والمعنى: إِنَّ عِلْم ما يستعجلونه من العذاب بَيِّنٌ عند الله وإِن غاب عن الخَلْق. [سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 82] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه، فلو أخذوا به لسلموا. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يعني بين بني إِسرائيل بِحُكْمِهِ وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «بِحِكَمِه» بكسر الحاء وفتح الكاف. قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى قال المفسرُون: هذا مَثَلٌ ضربه الله للكفار فشبَّههم بالموتى. قوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ وقرأ ابن كثير: «ولا يَسْمَعُ الصُّمُّ» بفتح ميم «يَسْمَعُ» وضم ميم «الصُّمُّ» . قوله تعالى: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أي: أن الصّمّ إذا أدبروا عنك ثم ناديتهم ولم يسمعوا، فكذلك الكافر. وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ أي: ما أنت بمرشِد من أعماه الله عن الهدى، إِنْ تُسْمِعُ سماع إِفهام إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا. قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ «وقع» بمعنى وجب، وفي المراد بالقول ثلاثة أقوال: أحدها: العذاب، قاله ابن عباس. والثاني: الغضب، قاله قتادة. والثالث: الحُجَّة، قاله ابن قتيبة. ومتى ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: إِِذا لم يأمروا بمعروف، ولم ينهَوا عن منكر، قاله ابن عمر، وأبو سعيد الخدري. والثاني: إِذا لم يُرج صلاحُهم، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وهو معنى قول أبي العالية. والإِشارة بقوله: عَلَيْهِمْ إِلى الكفار الذين تخرج الدابَّة عليهم. وللمفسرين في صفة الدابَّة أربعة أقوال: (1068) أحدها: أنها ذات وبر وريش، رواه حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم. وقال ابن عباس: ذات زغب وريش لها أربع قوائم. والثاني: أنّ رأسها ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن إِيَّل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرٍّ وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مَفصِلين اثنا عشر ذراعاً، رواه ابن جريج عن أبي الزّبير.

_ هو الحديث الآتي.

والثالث: أن وجهها وجه رجل، وسائر خَلْقها كخَلْق الطَّير، قاله وهب. والرابع: أن لها أربع قوائم وزغباً وريشاً وجناحين، قاله مقاتل. وفي المكان الذي تخرج منه خمسة أقوال: أحدها: من الصفا. (1069) روى حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون، تضطرب الأرض تحتهم، وينشقُّ الصَّفا مِمَّا يلي المسعى، وتخرج الدابَّة من الصَّفا، أول ما يبدو منها رأسها، ملمَّعةٌ ذاتُ وَبَر وريش، لن يدركها طالب، ولن يفوتها هارب» . (1070) وفي حديث آخر عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «طولها ستون ذراعاً» ، وكذلك قال ابن مسعود: تخرج من الصفا. (1071) وقال ابن عمر: تخرج من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها. وقال عبد الله بن عمر: تخرج الدابَّة فيَمَسُّ رأسها السحاب ورِجلاها في الأرض ما خرجتا. (1072) والثاني: أنها تخرج من شِعْب أجياد، روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وعن ابن عمر مثله. والثالث: تخرج من بعض أودية تهامة، قاله ابن عباس. والرابع: من بحر سَدوم، قاله وهب بن منبّه. والخامس: أنها تخرج بتهامة بين الصًَّفا والمروة، حكاه الزجّاج. (1073) وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «تخرج الدابَّة معها خاتم سليمان، وعصا موسى، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إِن أهل البيت ليجتمعون، فيقول

_ ضعيف. أخرجه الطبري 27100 من حديث حذيفة بن اليمان، وإسناده ضعيف لضعف روّاد بن الجراح. وقال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 464 عن هذا الحديث: لا يصح. وورد من حديث أبي طفيل عن أبي سريحة أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» ص 401 والطيالسي 1069 والحاكم 4/ 484 ح 8490 وإسناده ضعيف لضعف طلحة بن عمرو الحضرمي كما قال الذهبي متعقبا للحاكم في تصحيحه للحديث. عزاه الحافظ في «تخريجه» 3/ 384 للثعلبي من حديث حذيفة اه. ولم يبين إسناده، وتفرّد الثعلبي به دليل على وهنه، وهذا بالنسبة لصدر الحديث (أن طولها ستون ذراعا) وأما باقي لفظ حديث حذيفة فهو المتقدم. وانظر تفاصيل ذلك في «الفتن» لنعيم بن حماد ص 401 و «الدر» 5/ 217- 220 وابن كثير 3/ 387 و «المستدرك» 4/ 484- 486. وانظر «تفسير القرطبي» 13/ 211 بتخريجنا. موقوف ضعيف. أخرجه الطبري 27094 من حديث ابن عمر، وإسناده ضعيف لضعف عطية بن سعد العوفي. وأخرجه نعيم بن حماد ص 403 من طريق فضيل بن مرزوق به لكن عن ابن عمرو، وهو أشبه فإن هذا الأثر متلقى عن أهل الكتاب، وابن عمر ما روى عن أهل الكتاب بخلاف ابن عمرو، والله أعلم. ضعيف. مداره على رباح بن عبيد الله، وهو منكر الحديث. أخرجه ابن عدي 3/ 73 و 7/ 112 والواحدي في «الوسيط» 3/ 385 والذهبي في «الميزان» 2/ 37/ 2723 من طرق عن هشام بن يوسف عن رباح بن عبيد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. أخرجه الترمذي 3187 وابن ماجة 4066 وأحمد 2/ 295 والطبري 27101 والحاكم 4/ 485 ونعيم بن حماد في «الفتن» ص 403 والحاكم 4/ 485 من طرق عن حماد بن سلمة به، سكت عليه الحاكم! وكذا الذهبي! وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، فقد ضعفه غير واحد، روى مناكير كثيرة، وهذا منها. - وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 485 من طريق حماد بن سلمة بهذا الإسناد موقوفا على أبي هريرة. وهو أصح من المرفوع، والله أعلم.

[سورة النمل (27) : الآيات 83 إلى 86]

هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر» . (1074) وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «تَسِم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه: مؤمن، وتَسِم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه: كافر، وتصرخ ثلاث صرخات يسمعُها مَنْ بين الخافِقَين» . وقال حُذيفة بن أسِيد: إِن للدابه ثلاث خرجات: خرجة في بعض البوادي ثم تنكتم، وخرجة في بعض القرى ثم تنكتم، فبينما الناس عند أشرف المساجد- يعني المسجد الحرام- إِذ ارتفعت الأرض، فانطلق الناس هِراباً، فلا يفوتونها، حتى إِنَّها لتأتي الرجل وهو يصلِّي، فتقول: أتتعوَّذ بالصلاة، والله ما كنت مِنْ أهل الصَّلاة، فتَخْطِمُه، وتجلو وجه المؤمن. وقال عبد الله بن عمرو: إِنها تَنْكُتُ في وجه الكافر نُكْتَةً سوداء فتفشو في وجهه فيسودُّ وجهُه، وتَنْكُتُ في وجه المؤمن نُكْتَةً بيضاء فتفشو في وجهه حتَّى يبيضَّ وجهه، فيعرف الناس المؤمن والكافر، ولَكَأنِّي بها قد خرجت في عقب ركب من الحاج. قوله تعالى: تُكَلِّمُهُمْ قرأ الأكثرون بتشديد اللام، فهو من الكلام. وفيما تكلِّمهم به ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تقول لهم: إِنَّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، قاله قتادة. والثاني: تكلِّمهم ببطلان الأديان سوى دين الاسلام، قاله السدي. والثالث: تقول: هذا مؤمن، وهذا كافر، حكاه الماوردي. وقرأ ابن أبي عبلة، والجحدري: بتسكين الكاف وكسر اللام وفتح التاء فهو من الكَلْم قال ثعلب: والمعنى: تجرحهم. وسئل ابن عباس عن القراءتين، فقال: كل ذلك والله تفعله تُكلِّم المؤمن، وتَكْلِم الفاجر والكافر، أي: تجرحه. قوله تعالى: أَنَّ النَّاسَ قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة، وكسرها الباقون فمن فتح أراد: تكلِّمهم بأن الناس، وهكذا قرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني: «تكلِّمهم بأنَّ الناس» بزيادة باء مع فتح الهمزة ومن كسر فلأنّ معنى «تكلِّمهم» تقول لهم: إِن الناس، والكلام قول. [سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 86] وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً الفوج: الجماعة من الناس كالزُّمرة، والمراد به: الرّؤساء والمتبوعين في الكفر، حُشروا وأُقيمت الحجة عليهم. وقد سبق معنى يُوزَعُونَ «1» حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف لحساب قالَ الله تعالى لهم: أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي هذا استفهام إِنكار عليهم ووعيد لهم وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً فيه قولان: أحدهما: لم تعرفوها حقَّ معرفتها. والثاني: لم تُحيطوا عِلْماً ببطلانها. والمعنى: إنكم لم تتفكّروا في صحّتها، أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا فيما أمرتُكم به ونهيتُكم عنه؟! قوله تعالى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ قد شرحناه آنفا «2» بِما ظَلَمُوا أي: بما أشركوا

_ صدره تقدم برقم 1069، وهو حديث حذيفة، واختصره المصنف. - وقوله «تصرخ ثلاث ... » هو من حديث أبي هريرة، وتقدم تخريجه برقم 1072.

[سورة النمل (27) : الآيات 87 إلى 90]

فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ بحجة عن أنفسهم. ثُم احتج عليهم بالآية التي تلي هذه. ومعنى قوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً يبصر فيه لابتغاء الرّزق. [سورة النمل (27) : الآيات 87 الى 90] وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قال ابن عباس: هذه النفخة الأولى. قوله تعالى: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ قال المفسرون: المعنى: فيفزع من في السّموات ومن في الارض، والمراد أنهم ماتوا، بلغ بهم الفزغ إلى الموت. وفي قوله تعالى: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الشهداء، قاله أبو هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: جبريل وميكائيل وإِسرافيل ومَلَك الموت، ثم إِن الله تعالى يميتهم بعد ذلك، قاله مقاتل. والثالث: أنهم الذين في الجنة من الحور وغيرهن، وكذلك مَن في النار، لأنهم خُلقوا للبقاء، ذكره أبو إسحاق بن شاقلا من أصحابنا. قوله تعالى: وَكُلٌّ أي: من الأحياء الذين ماتوا ثم أُحيوا «آتُوه» وقرأ حمزة وحفص عن عاصم: «أَتَوْهُ» بفتح التاء مقصورة، أي: يأتون الله يوم القيامة داخِرِينَ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: صاغرين. قال أبو عبيدة: «كُلٌّ» لفظه لفظ الواحد، ومعناه يقع على الجميع، فهذه الآية في موضع جمع. قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ قال ابن قتيبة: هذا يكون إِذا نُفخ في الصُّور، تُجمَع الجبالُ وتُسَيَّر فهي لكثرتها تُحسب جامِدَةً أي: واقفة وَهِيَ تَمُرُّ أي: تسير سير السحاب، وكذلك كلُّ جيش عظيم يحسبه الناظر من بعيد واقفاً وهو يسير، لكثرته، قال الجَعْدِيّ يصف جيشاً: بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهُمْ ... وُقُوفٌ لِحَاجٍ والرِّكاب تُهَمْلِجُ «1» قوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ قال الزجاج: هو منصوب على المصدر، لأن قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً دليل على الصنعة، فكأنه قال: صنع الله ذلك صنعاً، ويجوز الرفع على معنى: ذلك صُنْع الله. فأما الإِتقان، فهو في اللغة: إِحكام الشيءِ. قوله تعالى: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «يفعلون» بالياء. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي بالتاء. قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قد شرحنا الحسنة والسيّئة في آخر الأنعام «2» . وفي قوله تعالى: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قولان: أحدهما: فله خير منها يصل إِليه، وهو الثواب، قاله ابن عباس والحسن

_ (1) الرّعن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدما، ويقال: الجيش الأرعن: هو المضطرب لكثرته. والطود: الجبل العظيم. والحاج: جمع حاجة. والهملجة والهملاج: حسن سير الدابة في سرعة. (2) الأنعام: 160.

وعكرمة. والثاني: فله أفضل منها، لأنه يأتي بحسنة فيعطى عشر أمثالها، قاله زيد بن أسلم. قوله تعالى: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «مِنْ فَزَعِ يَوْمِئِذٍ» مضافاً. وقرأ عاصم. وحمزة، والكسائي: «مِنْ فَزَعٍ» بالتنوين «يومَئذٍ» بفتح الميم. وقال الفراء: الإِضافة أعجب إِليَّ في العربية، لأنه فزع معلوم، ألا ترى إِلى قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «1» . فصيَّره معرِفة، فاذا أضفت مكان المعرفة كان أحبَّ إِليَّ، واختار أبو عبيدة قراءة التنوين وقال: هي أعمُّ التأويلين، فيكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم. قال أبو علي الفارسي: إِذا نوّن جاز أن يُعنى به فزع واحد، وجاز أن يعنى به الكثرة، لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة وإِن كانت مفردة الألفاظ، كقوله: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «2» ، وكذلك إِذا أضيف جاز أن يُعنى به فزع واحد، وجاز أن يعنى به الكثرة وعلى هذا القول، القراءتان سواء، فان أريد به الكثرة، فهو شامل لكل فزع يكون في القيامة، وإِن أريد به الواحد، فهو المشار إليه بقوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ. وقال ابن السائب: إِذا أطبقت النَّارُ على أهلها فَزِعوا فَزْعَةً لم يفزعوا مثلها، وأهل الجَنَّة آمنون من ذلك الفزع. قوله تعالى: ما قال في الدنيا، قاله الحسن. قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «تعملون» بالتاء، على معنى: قل لهم. وقرأ الباقون بالياء، على أنه وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم. والله أعلم بالصّواب.

_ (1) الأنبياء: 103. (2) لقمان: 19.

سورة القصص

سورة القصص وهي مكّيّة كلّها غير آية منها، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «1» فإنها نزلت عليه وهو بالجحفة في وقت خروجه للهجرة، هذا قول ابن عباس. وروي عن الحسن، وعطاء، وعكرمة: أنها مكّيّة كلّها. وزعم مقاتل: أنّ فيها من المدنيّ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) إلى قوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «2» وفيها آية ليست بمكّيّة ولا مدنيّة وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ نزلت بالجحفة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) قوله تعالى: طسم قد سبق تفسيره «3» . قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي: طغى وتجبَّر في أرض مصر وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي: فِرَقاً وأصنافاً في خدمته يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إِسرائيل، واستضعافه إِيّاهم: استعبادُهم، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بالقتل والعمل بالمعاصي. يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وقرأ أبو رزين، والزهري، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: «يَذْبَحُ» بفتح الياء وسكون الذال خفيفة. قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي: نُنْعِم عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم بنو إِسرائيل، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً يُقتدى بهم في الخير وقال قتادة: وُلاةً وملوكاً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لمُلك فرعون بعد غَرَقه. قوله تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ويَرِى» بياء مفتوحة وإِمالة الألف التي بعد الراء «فرعونُ وهامانُ وجنودُهما» بالرفع. ومعنى الآية: أنهم أُخبِروا أن هلاكهم على يَدَي رجل من بني إِسرائيل، فكانوا على وَجَل منهم، فأراهم اللهُ ما كانوا يَحْذَرون.

_ (1) القصص: 85. (2) القصص: 55. (3) مضى الكلام على ذلك في أول سورة البقرة.

[سورة القصص (28) : الآيات 7 إلى 9]

[سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 9] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه إِلهام، قاله ابن عباس. والثاني: أنَّ جبريل أتاها بذلك، قاله مقاتل. والثالث: أنَّه كان رؤيا منام، حكاه الماوردي. قال مقاتل: واسم أم موسى «يوخابذ» «1» . قوله تعالى: أَنْ أَرْضِعِيهِ قال المفسرون: كانت امرأةٌ من القوابل مصافية لأم موسى، فلمَّا وضعتْه تولَّت أمرها ثم خرجت فرآها بعض العيون فجاؤوا ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته: يا أُمَّاه هذا الحرس بالباب، فلفَّت موسى في خرقة ووضعته في التَّنُّور وهو يسجر، فدخلوا ثم خرجوا، فقالت لأخته: أين الصبيُّ، قالت: لا أدري، فسمعت بكاءه من التَّنُّور فاطَّلعت وقد جعل الله عليه النَّارَ بَرْداً وسلاماً، فأرضعته بعد ولادته ثلاثة أشهر، وقيل: أربعة أشهر، فلمَّا خافت عليه صنعت له التابوت «2» . وفي قوله: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ قولان «3» : أحدهما: إِذا خِفْتِ عليه القتل، قاله مقاتل. والثاني: إِذا خِفْتِ عليه أن يصيح أو يبكي فيُسمع صوتُه، قاله ابن السائب. وفي قوله تعالى: وَلا تَخافِي قولان: أحدهما: أن يغرق، قاله ابن السائب. والثاني: أن يضيع، قاله مقاتل. قال الأصمعي: قلت لأعرابية: ما أفصحكِ! فقالت: أوَ بعد هذه الآية فصاحة وهي قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ جمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟! قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الالتقاط: إِصابة الشيء من غير طلب. والمراد بآل فرعون: الذين تولَّوا أخذ التابوت من البحر. وفي الذين التقطوه ثلاثة أقوال: أحدها: جواري امرأة فرعون، قاله السدي. والثاني: ابنة فرعون، قاله محمد بن قيس. والثالث: أعوان فرعون، قاله ابن إِسحاق. قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا أي: ليصير بهم الأمر إِلى ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، وهذه اللام تسمى لام العاقبة، وقد شرحناها في يونس «4» ، وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: ليكون لهم عَدُوّاً في دينهم وحَزَناً لِمَا يصنعه بهم. والثاني: عدوّاً لرجالهم وحَزَنَاً على نسائهم، فقتل الرجال بالغرق، واستعبد النساء. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ وهي آسية بنت مزاحم، وكانت من بني إسرائيل تزوّجها فرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ قال الزجاج: رفع «قُرَّةُ عَيْنٍ» على إِضمار «هو» . قال المفسرون: كان فرعون لا

_ (1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو غير حجة. (2) هذه الأقوال مصدرها كتب الأقدمين. (3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 30: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: إن الله تعالى ذكره أمر أم موسى أن ترضعه، فإذا خافت عليه من عدو الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليم وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادتها إياه. واليم الذي أمرت أن تلقيه فيه هو النيل. (4) يونس: 88.

[سورة القصص (28) : الآيات 10 إلى 13]

يولد له إِلا البنات، فقالت: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فنُصيب منه خيراً أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يشعرون أنه عدو لهم، قاله مجاهد. والثاني: أنَّ هلاكهم على يديه، قاله قتادة. والثالث: لا يشعر بنو إِسرائيل أنَّا التقطناه، قاله محمّد بن قيس. والرابع: لا يشعرون أنِّي أفعل ما أريد لا ما يريدون، قاله محمّد بن إسحاق. [سورة القصص (28) : الآيات 10 الى 13] وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) قوله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً فيه أربعة أقوال: أحدها: فارغاً من كل شيء إِلا من ذِكْر موسى، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك. والثاني: أصبح فؤادها فَزِعاً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهي قراءة أبي رزين، وأبي العالية، والضحاك، وقتادة، وعاصم الجحدري، فإنهم قرءوا: «فَزِعاً» بزاي معجمة. والثالث: فارغاً من وحينا بنسيانه، قاله الحسن، وابن زيد. والرابع: فارغاً من الحزن، لِعِلْمها أنَّه لم يُقتَل، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: وهذا من أعجب التفسير، كيف يكون كذلك واللهُ يقول: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها؟! وهل يُرْبَطُ إِلاّ على قلب الجازع المحزون؟! قوله تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ في هذه الهاء قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى موسى. ومتى أرادت هذا؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حين فارقتْه روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كادت تقول: يا بُنَيَّاه. قال قتادة: وذلك من شدة وجدها. والثاني: حين حملت لرضاعه كادت تقول: هو ابني، قاله السدي. والثالث: أنَّه لمَّا كَبِر وسَمِعَت الناسَ يقولون: موسى بن فرعون، كادت تقول: لا بل هو ابني، قاله ابن السائب. والقول الثاني: أنها ترجع إِلى الوحي والمعنى: إِنْ كادت لتُبْدي بالوحي، حكاه ابن جرير. قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها قال الزجاج: المعنى: لولا ربطنا على قلبها، والرَّبْط: إِلهام الصبر وتشديد القلب وتقويته. قوله تعالى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي: من المُصَدِّقِين بوعد الله. وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ قال ابن عباس: قُصّي أثره واطلُبيه هل تسمعين له ذِكْراً، أي: أحيٌّ هو، أو قد أكلته الدوابّ؟ ونسيتْ الذي وعدها الله فيه. وقال وهب: إِنَّما قالت لأخته: قصِّيه، لأنَّها سمعتْ أنَّ فرعون قد أصاب صبيّاً في تابوت. قال مقاتل: واسم أخته: مريم. قال ابن قتيبة: ومعنى «قُصِّيه» : قُصَِّي أَثَرَه واتبعيه فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي: عن بُعْدٍ منها عنه وإِعراضٍ، لئلاَّ يفطنوا، والمجانبة من هذا. وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو مجلز: «عَنْ جَنَابٍ» بفتح الجيم والنون وبألف بعدهما. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «عَنْ جَانِبٍ» بفتح الجيم وكسر النون وبينهما ألف. وقرأ قتادة، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: «عَنْ جَنْبٍ» بفتح الجيم وإِسكان النون من غير ألف. قوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه قولان: أحدهما: وهم لا يشعرون أنه عدو لهم، قاله مجاهد. والثاني: لا يشعُرون أنَّها أختُه، قاله السدي.

[سورة القصص (28) : الآيات 14 إلى 17]

قوله تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ وهي جمع مُرْضِع مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قَبْل أنْ نَرُدَّه على أُمِّه، وهذا تحريم منع، لا تحريم شرع. قال المفسرون: بقي ثمانية أيام ولياليهن، كلَّما أُتي بمُرْضِع لم يَقْبل ثديها، فأهمَّهم ذلك واشتدَّ عليهم فَقالَتْ لهم أخته: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ فقالوا لها: نعم، مَنْ تلك؟ فقالت: أُمي، قالوا: وهل لها لبن؟ قالت: لبن هارون. فلمَّا جاءت قَبِل ثديها. وقيل: إِنَّها لمَّا قالت: وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ قالوا: لعلَّكِ تعرفين أهله، قالت: لا، ولكني إِنما قلت: وهم للملِكِ ناصحون. قوله تعالى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ قد شرحناه في طه «1» . قوله تعالى: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بردِّ ولدها حَقٌّ وهذا عِلْم عِيان ومشاهدة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أنّ الله وعدها أن يردّه إليها. [سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 17] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قد فسرنا هذه الآية في سورة يوسف «2» ، وكلامُ المفسرين في لفظ الآيتين متقارب، إِلا أنهم فرَّقوا بين بلوغ الأشدّ وبين الاستواء. فأما بلوغ الأشُدِّ فقد سلف بيانه في سورة الانعام «3» . وفي مدة الاستواء لهم قولان: أحدهما: أنه أربعون سنة، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. والثاني: ستون سنة، ذكره ابن جرير. قال المفسرون: مكث عند أمِّه حتى فطمته، ثم ردَّته إِليهم، فنشأ في حِجْر فرعون وامرأته واتخذاه ولداً. قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فيها قولان: أحدهما: أنها مصر. والثاني: مدينة بالقرب من مصر. قال السدي: ركب فرعون يوماً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى ركب في إِثره فأدركه المَقِيل في تلك المدينة. وقال غيره: لمَّا توهَّم فرعون في موسى أنَّه عدوُّه أمر باخراجه من مدينته، فلم يدخل إِلا بعد أن كَبِر، فدخلها يوماً عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها. وفي ذلك الوقت أربعة أقوال: أحدها: أنَّه كان يوم عيد لهم، وكانوا قد اشتغلوا فيه بلهوهم، قاله عليٌّ عليه السلام. والثاني: أنه دخل نصف النهار، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثالث: بين المغرب والعشاء، قاله وهب بن منبِّه. والرابع: أنَّهم لمَّا أخرجوه لم يدخل عليهم حتى كَبِر، فدخل على حين غفلة عن ذِكْره، لأنَّه قد نُسي أمرُه، قاله ابن زيد. قوله تعالى: هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي: من أصحابه من بني إِسرائيل وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أي: من أعدائه من القِبط، والعدوّ يُذْكَر للواحد وللجمع. قال الزجاج: وإِنما قيل في الغائب: «هذا» و «هذا» ،

_ (1) طه: 40. (2) يوسف: 22. [.....] (3) الأنعام: 152.

[سورة القصص (28) : الآيات 18 إلى 20]

على جهة الحكاية للحضرة والمعنى: أنه إِذا نظر إِليهما الناظر قال: هذا مِنْ شِيعته، وهذا من عدوّه. قال المفسّرون: وكان القبطيّ قد سخّر الإسرائيليّ ليحمل حطباً إِلى مطبخ فرعون فَاسْتَغاثَهُ أي: فاستنصره، فَوَكَزَهُ قال الزّجّاج: الوكز: أن يضربه بجمع كفِّه. وقال ابن قتيبة: «فوكزه» أي: لَكَزَهُ، يقال: وَكَزْتُه ولَكَزْتُه ولَهَزْتُه: إِذا دفَعْته، فَقَضى عَلَيْهِ أي: قتله وكلُّ شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه. وللمفسرين فيما وكزه به قولان: أحدهما: كفّه، قاله مجاهد. والثاني: عصاه، قاله قتادة. فلمَّا مات القِبطي ندم موسى لأنه لم يرد قتله، وقالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي: هو الذي هيَّج غضبي حتى ضربتُ هذا، إِنَّهُ عَدُوٌّ لابن آدم مُضِلٌّ له مُبِينٌ عداوته. ثم استغفر ف قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أي: بقتل هذا، ولا ينبغي لنبيّ أن يقتُل حتى يُؤْمَر. قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بالمغفرة فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال ابن عباس: عوناً للكافرين. وهذا يدلُّ على أن الإِسرائيليَّ الذي أعانه موسى كان كافراً. [سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 20] فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) قوله تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ وهي التي قتل بها القِبطيَّ خائِفاً على نفسه يَتَرَقَّبُ أي: ينتظر سوءاً يناله منهم ويخاف أن يُقتل به فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ وهو الاسرائيلي يَسْتَصْرِخُهُ أي: يستغيث به على قِبطي آخر أراد أن يسخِّره أيضاً قالَ لَهُ مُوسى في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القبطيّ. الثاني: إِلى الإِسرائيليّ، وهو أصح. فعلى الأول يكون المعنى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ بتسخيرك وظلمك. وعلى الثاني فيه قولان: أحدهما: أن يكون الغَوِيُّ بمعنى المغوي، كالأليم بمعنى المؤلم والوجيع بمعنى الموجع والمعنى: إِنَّكَ لمُضِلٌّ حين قتلتُ بالأمس رجلاً بسببك، وتَدْعوني اليوم إِلى آخر. والثاني: أن يكون الغوي بمعنى الغاوي والمعنى: إِنك غاوٍ في قتالك من لا تُطيق دفع شرِّه عنك. قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أي: بالقِبطي قالَ يا مُوسى هذا قول الإِسرائيليّ من غير خلاف علمناه بين المفسرين قالوا: لمَّا رأى الاسرائيليُّ غضبَ موسى عليه حين قال له: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِين» ورآه قد همَّ أن يَبْطِش بالفرعونيِّ، ظنَّ أنَّه يريده فخاف على نفسه ف قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي وكان قوم فرعون لم يعلموا مَنْ قاتِلُ القِبطي، إِلاَّ أنَّهم أَتَواْ إِلى فرعون فقالوا: إِن بني إِسرائيل قتلوا رجلاً مِنَّا فخُذ لَنَا بحقِّنا، فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه لآخذ لكم حقَّكم، فبينا هم يطوفون ولا يدرون مَنْ القاتل، وقعت هذه الخصومة بين الإِسرائيلي والقِبطي في اليوم الثاني فلمّا قال الإِسرائيليُّ لموسى: «أتريد أن تقتُلني كما قَتَلْتَ نفساً بالأمس» انطلق القبطي إِلى فرعون فأخبره أنَّ موسى هو الذي قتل الرجل، فأمر بقتل موسى، فعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه فأخبره، فذلك قوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى. فأمَّا الجبَّار، فقال السدي: هو القتَّال، وقد شرحناه في

[سورة القصص (28) : الآيات 21 إلى 28]

هود «1» ، وأقصى المدينة: آخرها وأبعدها، ويسعى، بمعنى يُسرع. قال ابن عباس: وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وسيأتي الخلاف في اسمه في سورة المؤمن «2» . فأمّا الملأ، فهم الوجوه من الناس والأشراف. وفي قوله: يَأْتَمِرُونَ بِكَ ثلاثة اقوال: أحدها: يتشاورون فيك ليقتلوك، قاله أبو عبيدة. والثاني: يَهُمُّون بك، قاله ابن قتيبة. والثالث: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك، قاله الزّجّاج. [سورة القصص (28) : الآيات 21 الى 28] فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) قوله تعالى: فَخَرَجَ مِنْها أي: من مصر خائِفاً وقد مضى تفسيره «3» . قوله تعالى: نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني المشركين أهل مصر. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قال ابن قتيبة: أي: تِجَاهَ مَدْيَن ونحوَها، وأصله: اللِّقاء، وزيدت فيه التاء، قال الشاعر: فاليومَ قَصَّرَ عن تِلْقَائك الأَملُ «4» أي: عن لقائك. قال المفسرون: خرج خائفاً بغير زاد ولا ظَهْر، وكان بين مصر ومَدْيَن مسيرة ثمانية أيام، ولم يكن له بالطريق عِلْم، ف قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي: قَصْدَه. قال ابن عباس: لم يكن له عِلْم بالطريق إِلاَّ حُسْن ظنِّه بربّه. وقال السّدّيّ: بعث الله تعالى له مَلَكاً فدلَّه، قالوا: ولم يكن له في طريقه طعام إِلا ورق الشجر، فورد ماءَ مَدْيَن وخُضرةُ البقل تتراءى في بطنه من الهُزَال والأُمَّة الجماعة، وهم الرعاة، يَسْقُونَ مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي: من سوى الأمّة امْرَأَتَيْنِ وهم ابنتا شعيب قال مقاتل: واسم الكبرى: صبورا، والصغرى: عبرا تَذُودانِ قال ابن قتيبة: أي: تكُفَّان غَنَمهما، فحذف الغنم اختصاراً. قال المفسرون: إنما فَعَلَتا ذلك ليَفْرُغ الناس وتخلوَ لهما البئر، قال موسى: ما خَطْبُكُما أي: ما شأنكما لا تسقيان؟! قالَتا لا نَسْقِي وقرأ ابن مسعود وأبو الجوزاء وابن يعمر وابن السميفع: «لا نُسقي» برفع النون حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وقرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر: «يَصْدُرَ» بفتح الياء وضم الدال، أي: حتى يرجع الرّعاء. وقرأ الباقون: «يصدر» بضمّ

_ (1) هود: 59. (2) غافر: 28. (3) القصص: 18. (4) هو عجز بيت للراعي النميري وصدره: أملت خيرك هل تأتي مواعده

الياء وكسر الدال، أرادوا: حتى يَرُدَّ الرِّعاء غنمهم عن الماء. والرِّعاء: جمع راعٍ، كما يقال: صاحب وصِحاب. وقرأ عكرمة وسعيد بن جبير وابن يعمر وعاصم الجحدري: «الرُّعَاءُ» بضم الراء، والمعنى: نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يَقْدِر أن يَسْقيَ ماشيته من الكِبَر فلذلك احْتَجْنَا نحن إِلى أن نسقيَ، وكان على تلك البئر صخرة عظيمة، فاذا فرغ الرِّعاء مِنْ سَقيهم أعادوا الصخرة، فتأتي المرأتان إِلى فضول حياض الرِّعاء فتَسْقيان غنمهما. فَسَقى موسى لَهُما. وفي صفة ما صنع قولان: أحدهما: أنه ذهب إلى بئر أُخرى عليها صخرة لا يقتلعها إِلا جماعة من الناس، فاقتلعها وسقى لهما، قاله عمر بن الخطاب وشُريح. والثاني: أنه زاحم القوم على الماء وسقى لهما، قاله ابن إِسحاق، والمعنى: سقى غنمهما لأجلهما. ثُمَّ تَوَلَّى أي: انصرف إِلَى الظِّلِّ وهو ظِل شجرة فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما اللام بمعنى إِلى، فتقديره: إِنِّي إِلى ما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وأراد بالخير: الطعام. وحكى ابن جرير أنه أسمع المرأتين هذا الكلام تعريضاً أن تُطْعِماه. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما المعنى: فلمّا شربتْ غنمَهُما رَجَعَتا إِلى أبيهما فأخبرتاه خبر موسى، فبعث إِحداهما تدعو موسى. وفيها قولان: أحدهما: الصغرى. والثاني: الكبرى. فجاءته تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قد سترت وجهها بِكُمِّ دِرْعها. وفي سبب استحيائها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان من صفتها الحياء، فهي تمشي مشي من لم تعتد الخروج والدخول. والثاني: لأنها دعته لتكافئَه، وكان الأجمل عندها أن تدعوَه من غير مكافأة. والثالث: لأنها رسول أبيها. قوله تعالى: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا قال المفسرون: لمَّا سمع موسى هذا القول كرهه وأراد أن لا يتبعها، فلم يجد بُدّاً للجَهْد الذي به من اتِّباعها، فتَبِعها، فكانت الريح تضرب ثوبها فيصف بعض جسدها، فناداها: يا أَمَة الله، كوني خلفي ودُلِّيني الطريق فَلَمَّا جاءَهُ أي: جاء موسى شعيباً وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي: أخبره بأمره مِنْ حين وُلد والسبب الذي أخرجه من أرضه قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا سُلطان لفرعون بأرضنا ولسنا في مملكته. قالَتْ إِحْداهُما وهي الكبرى: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي: اتَّخِذه أجيراً إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي: خير من استعملتَ على عملكَ مَنْ قَوِيَ على عملك وأدَّى الأمانة وإِنَّما سمَّتْه قويّا، لرفعه الحجر على رأس البئر، وقيل: لأنه استقى بدلو لا يُقِلُّها إِلا العدد الكثير من الرجال، وسمَّته أميناً، لأنه امرها أن تمشيَ خلفه. وقال السدي: قال لها شعيب: قد رأيتِ قوَّته، فما يُدريكِ بأمانته؟ فحدَّثَتْه. قال المفسرون: فرغب فيه شعيب، فقال له: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ أي: أزوّجك «1»

_ (1) قال القرطبي في «التفسير» 13/ 272: استدل أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح، وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف منه. وقال علماؤنا في المشهور: ينعقد النكاح بكل لفظ. وقال أبو حنيفة. ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد. - وقال الإمام الموفق في «المغني» 9/ 460: وينعقد النكاح بلفظ الإنكاح والتزويج والجواب عنهما إجماعا، وهما اللذان ورد بهما نص الكتاب في قوله تعالى: زَوَّجْناكَها وقوله سبحانه وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ولا ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج، وبهذا قال ابن المسيب وعطاء والزهري وربيعة والشافعي. وقال الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأبو عبيد وداود: ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع والتمليك، وفي لفظ الإجارة روايتان عن أبي حنيفة، وقال مالك ينعقد بذلك إذا ذكر المهر اه ملخصا.

[سورة القصص (28) : الآيات 29 إلى 35]

إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ قال الفراء: تأجُرني وتأجِرني، بضم الجيم وكسرها، لغتان. قال الزجاج: والمعنى: تكون أجيراً لي ثماني سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي: فذلك تفضل منكَ، وليس بواجب عليك. قوله تعالى: وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ أي: في العَشْر. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: في حُسْن الصُّحبة والوفاء بما قلت. قالَ له موسى ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي: ذلك الذي وصفتَ وشرطتَ عليَّ فلكَ، وما شرطتَ لي مِنْ تزويج إِحداهما فلي، فالأمر كذلك بيننا. وتمّ الكلام ها هنا. ثم قال: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ يعني: الثمانيَ والعشر. قال أبو عبيدة: «ما» زائدة. قوله تعالى: قَضَيْتُ أي: أتممتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي: لا سبيل عَلَيَّ والمعنى: لا تعتد عليَّ بأن تُلْزِمني أكثر منه وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ قال الزجاج: أي: واللهُ شاهِدُنا على ما عقدَ بعضُنا على بعض. واختلف العلماء في هذا الرجل الذي استأجر موسى على أربعة أقوال «1» : (1075) أحدها: أنه شُعيب نبيُّ الله صلى الله عليه وسلّم، وعلى هذا أكثر أهل التفسير. وفيه أثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم يدل عليه، وبه قال وهب، ومقاتل. والثاني: أنه صاحب مدين، واسمه يثربي، قاله ابن عباس. والثالث: رجل من قوم شعيب، قاله الحسن. والرابع: أنه يثرون ابن أخي شعيب، رواه عمرو بن مرَّة عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وبه قال ابن السائب. واختلفوا في التي تزوَّجها موسى من الابنتين على قولين: أحدهما: الصغرى، روي عن ابن عباس. والثاني: الكبرى، قاله مقاتل. وفي اسم التي تزوجها ثلاثة أقوال: أحدها: صفوريا، حكاه أبو عمران الجوني. والثاني: صفورة، قاله شعيب الجبائي. الثالث: صبورا، قاله مقاتل. [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)

_ واه. أخرجه البزار 2828 والطبراني 6364 من حديث سلمة بن سعد، وإسناده واه. - قال الهيثمي في «المجمع» 10/ 51: فيه من لم أعرفهم.

قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ. (1076) روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه سئل: أيّ الأجلين قضى موسى، قال: «أوفاهما وأطيبهما» . قال مجاهد: مكث بعد قضاء الأجل عندهم عشراً أُخَر. وقال وهب بن منبِّه: أقام عندهم بعد أن أدخل عليه امرأته سنين، وقد سبق تفسير هذه الآية «1» إلى قوله تعالى: أَوْ جَذْوَةٍ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: «جِذْوَةٍ» بكسر الجيم. وقرأ عاصم بفتحها. وقرأ حمزة، وخلف، والوليد عن ابن عامر بضمها، وكلُّها لغات. قال ابن عباس: الجذوة: قطعة حطب فيها نار، وقال أبو عبيدة: قطعة غليظة من الحطب ليس فيها لَهب، وهي مثل الجِذْمَة من أصل الشجر، قال ابن مقبل: باتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا ... جَزْلَ الجِذَا غيرَ خَوَّارٍ وَلا دَعِرِ «2» والدّاعر: الذي قد نَخِر، ومنه رجل داعر. أي: فاسد. قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ وهو: جانبه الأيمنِ وهو الذي عن يمين موسى

_ حديث حسن أو يشبه الحسن. أخرجه الحاكم 2/ 408 ح 3531 من حديث ابن عباس، سكت عليه الحاكم، وضعفه الذهبي بقوله: حفص- ابن عمر العدني- واه. وتوبع حفص، فقد أخرجه الحميدي 535 وأبو يعلى 2408 والبزار 2245 «كشف» والطبري 27409 والحاكم 2/ 407- 408 ح 3532 كلهم من حديث ابن عباس، «أن النبي صلى الله عليه وسلّم سأل جبريل: «أي الأجلين قضى موسى؟» قال: أتمهما» وإسناده ضعيف فيه إبراهيم بن يحيى، وهو مجهول كما قال الذهبي في رده على الحاكم حيث صحح الحديث، وكذا أعله الحافظ في «تخريجه» 3/ 407 بجهالة إبراهيم هذا، وقد سقط إبراهيم هذا من إسناد أبي يعلى، فجرى الهيثمي في «المجمع» 11250 على ظاهره، فقال: رجاله رحال الصحيح غير الحكم بن أبان، وهو ثقة! وكذا حسنه الشيخ حسين أسد محقق «مسند أبي يعلى» جريا على ظاهره، وليس كذلك كما تقدم. لكن المرفوع ورد من وجوه أخر. فقد ورد من حديث أبي ذر، أخرجه البزار 2244 «كشف» وإسناده ضعيف جدا لأجل إسحاق بن إدريس، متروك ومثله شيخه عوبد بن أبي عمران، وقد توبع إسحاق عند الطبراني في «الصغير» 815 و «الأوسط» كما في «المجمع» 112252. وقال الهيثمي: إسناده حسن، كذا قال رحمه الله! مع أن فيه عوبد، وهو متروك. وورد من حديث عتبة بن النّدر، أخرجه ابن ماجة 2444 وإسناده ضعيف جدا فيه بقية بن الوليد، مدلس، وقد عنعن، وفيه مسلمة بن علي الخشني، وهو متروك. وورد من وجه آخر عن أبي لهيعة، أخرجه البزار 2246 والطبراني 17/ 34- 135، وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 477 وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة، وورد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري 27410. ومن مرسل محمد بن كعب القرظي، أخرجه 27408 فلعل هذه الروايات بمجموعها تتأيد ويصير الحديث حسنا، على أنه أخرجه الطبري من وجوه عن ابن عباس وغيره موقوفا، غير مرفوع والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» 1856 و 1857 و 1858 و 1859 و «تفسير ابن كثير» كلاهما بتخريجي.

فِي الْبُقْعَةِ وهي القطعة من الأرض الْمُبارَكَةِ بتكليم الله موسى فيها مِنَ الشَّجَرَةِ أي: من ناحيتها. وفي تلك الشجرة قولان: أحدهما: أنها شجرة العنَّاب، قاله ابن عباس. والثاني: عوسجة، قاله قتادة، وابن السائب، ومقاتل. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله تعالى: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ أي: من أن ينالك مكروه. قوله تعالى: اسْلُكْ يَدَكَ أي: أَدْخِلها، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ قد فسرنا الجناح في طه «2» إِلا ان بعض المفسرين خالف بين تفسير اللفظين، فشرحناه. وقال ابن زيد: جناحه: الذّراع والعضد والكفّ. وقال الزّجّاج: الجناح ها هنا: العضُد، ويقال لليد كلِّها: جناح. وحكى ابن الأنباري عن الفرّاء أنه قال: الجناح: العصا. قال ابن الأنباري: الجناح للانسان مشبَّه بالجناح للطائر، ففي حال تُشبَِّه العربُ رِجْلي الإِنسان بجناحَي الطائر، فيقولون: قد مضى فلان طائرا في حاجته، يعنون ساعياً على قدميه، وفي حال يجعلون العضد منه بمنزلة جناحي الطائر، كقوله: «واضمُمْ يدك إِلى جناحك» ، وفي حال يجعلون العصا بمنزلة الجناح، لأن الإِنسان يدفع بها عن نفسه كدفع الطائر عن نفسه بجناحه، كقوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ، وإِنما يوقع الجناح على هذه الأشياء تشبيهاً واستعارة، كما يقال: قد قُصَّ جناح الإِنسان، وقد قُطعت يده ورجله: إِذا وقعت به جائحة أبطلت تصرُّفه ويقول الرجل للرجل: أنت يدي ورِجْلي، أي: أنت مَنْ به أُصِلُ إِلى محابِّي، قال جرير: سَأَشْكُرُ أَنْ رَدَدْتَ إِليَّ رِيشي ... وأَنْبَتَّ القَوادمَ في جَناحِي وقالت امرأة من العرب ترثي زوجها الأغرّ: يا عِصمتي في النَّائبات ويا ... رُكْني الأغرّ ويا يَدي اليمنى لا صُنْتُ وجهاً كنتُ صَائنه ... أبداً ووجهك في الثّرى يبلى وأما الرَّهَب، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «مِنَ الرَّهَب» بفتح الراء والهاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «من الرُّهْب» بضم الراء وسكون الهاء. وقرأ حفص وأبان عن عاصم: «من الرَّهْب» بفتح الراء وسكون الهاء. وهي قراءة ابن مسعود، وابن السميفع. وقرأ أُبيّ بن كعب، والحسن، وقتادة: بضم الراء والهاء. قال الزجاج: الرُّهْب، والرَّهَب بمعنى واحد، مثل الرُّشْد، والرَّشَد. وقال أبو عبيدة: الرُّهْب والرَّهْبة بمعنى الخوف والفَرَق. وقال ابن الأنباري: الرَّهْبُ، والرُّهُب، والرَّهَب، مثل الشَّغْل، والشُّغْل، والشَّغَل، والبَخْل، والبُخُل، والبَخَل، وتلك لغات ترجع إلى معنى الخوف والفَرَق. وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه لمَّا هرب من الحيّة أمره الله تعالى أن يضمّ إليه جناحه ليذهب عنه الفزغ. قال ابن عباس: المعنى: اضمم يدك إِلى صدرك من الخوف ولا خوف عليك. وقال مجاهد: كلٌّ مَنْ فَزِع فضَمَّ جناحه إِليه ذهب عنه الفَزَع. والثاني: أنَّه لمَّا هاله بياض يده وشعاعها، أُمِر أن يُدْخِلها في جيبه، فعادت إلى حالتها الأولى. والثالث: أن معنى الكلام: سَكِّن رَوْعَك، وثَبِّت جأْشَك. قال أبو علي: ليس يراد به الضَّمُّ بين الشيئين، إِنما أُمِر بالعزم على ما أُمِر به

_ (1) النمل: 10. (2) طه: 22.

[سورة القصص (28) : الآيات 36 إلى 37]

والجدِّ فيه، ومثله: اشدد حيازيمك للموت. قوله تعالى: فَذانِكَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «فذانِّك» بالتشديد. وقرأ الباقون: «فذانك» بالتخفيف. قال الزجاج: التشديد تثنية «ذلك» ، والتخفيف تثنية «ذاك» ، فجعل اللام في «ذلك» بدلاً من تشديد النون في «ذانِّك» ، بُرْهانانِ أي: بيانان اثنان. قال المفسرون: «فذانك» يعني العصا واليد، حُجَّتان من الله تعالى لموسى على صِدْقه، إِلى فِرْعَوْنَ أي: أرسلنا بهاتين الآيتين إِلى فرعون. وقد سبق تفسير ما بعد هذا «1» إلى قوله تعالى: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً أي: أحسنُ بياناً، لأنَّ موسى كان في لسانه أثر الجمرة التي تناولها، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً قرأ الأكثرون: «رِدْءاً» بسكون الدال وبعدها همزة. وقرأ أبو جعفر: «رِدا» بفتح الدال وألف بعدها من غير همز ولا تنوين وقرأ نافع كذلك إلّا أنه نوّن. قال الزجاج: الرِّدْءُ: العون، يقال: ردأتُه أردؤه رِدْءاً: إذا أعتنته. قوله تعالى: يُصَدِّقُنِي قرأ عاصم، وحمزة: «يُصَدِّقُني» بضم القاف. وقرأ الباقون بسكون القاف. قال الزجاج: من جزم «يُصَدِّقْني» فعلى جواب المسألة: أَرْسِلْهُ يُصَدِّقْني ومن رفع، فالمعنى: رِدْءاً مُصَدِّقاً لي. وأكثر المفسرين على أنه أشار بقوله تعالى: يُصَدِّقُنِي إِلى هارون وقال مقاتل بن سليمان: لكي يُصَدِّقني فرعون. قوله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ قال الزجاج: المعنى: سنُعينك بأخيك، ولفظ العَضُد على جهة المثل، لأن اليد قِوامُها عَضُدُها، وكل مُعين فهو عَضُد، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي: حُجَّة بيِّنة. وقيل للزَّيت: السَّليط، لأنه يستضاء به فالسّلطان: أبْيَن الحُجج. قوله تعالى: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أي: بقتل ولا أذى. وفي قوله تعالى: بِآياتِنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: تمتنعان منهم بآياتنا وحُججنا فلا يَصِلُون إِليكما. والثاني: أنَّه متعلِّق بما بعده، فالمعنى: بآياتنا أنتما ومَنْ اتبَّعكما الغالبون، أي: تَغْلِبُون بآياتنا. والثالث: أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: ونجعل لكما سلطانا بآياتنا فلا يصلون إليكما. [سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 37] فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) قوله تعالى: ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي: ما هذا الذي جئتَنا به إِلا سِحْر افتريتَه مِنْ قِبَل نفسك ولم تُبعَث به وَما سَمِعْنا بِهذا الذي تدعونا إِليه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ، وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ وقرأ ابن كثير: «قال موسى» بلا واو، وكذلك هي في مصاحفهم بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى أي: هو أعلم بالمُحِقِّ منَّا، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، والمفضّل: «يكون» بالياء، والباقون بالتاء. [سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 42] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

_ (1) الشعراء: 14.

[سورة القصص (28) : الآيات 43 إلى 47]

قوله تعالى: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ قال ابن قتيبة: المعنى: اصنع لي الآجُرّ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً أي: قصراً عالياً. وقال الزجاج: الصَّرْح: كلُّ بناءٍ متَّسع مرتفع. وجاء في التفسير أنَّه لمَّا أمر هامان- وهو وزيره- ببناء الصَّرْح، جمع العمَّال والفَعَلة حتى اجتمع خمسون ألف بنَّاء سوى الأتباع، فرفعوه وشيَّدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد قَطٌّ، فلمَّا تمَّ ارتقى فرعون فوقه، وأمر بنُشَّابَةٍ فرمى بها نحو السماء، فرُدَّت وهي متلطِّخة بالدَّم، فقال: قد قتلتُ إِله موسى، فبعث الله تعالى جبريلَ فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، فوقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلتْ ألف ألف رجل، ووقعت أخرى في البحر، وأخرى في المغرب «1» . قوله تعالى: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أي: أصعد إِليه وأُشْرِفُ عليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعني موسى مِنَ الْكاذِبِينَ في ادِّعائه إِلهاً غيري. وقال ابن جرير: المعنى: أظنُّ موسى كاذباً في ادِّعائه أنَّ في السماء ربّاً أرسله. وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: بالباطل والظُّلم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بالبعث للجزاء. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: «يُرْجَعون» برفع الياء وقرأ نافع وحمزة والكسائي: بفتحها. قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أي: في الدنيا أَئِمَّةً أي: قادة في الكفر يأتمُّ بهم العتاة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ لأن من أطاعهم دخلها و «ينصرون» بمعنى: يُمْنَعون من العذاب. وما بعد هذا مفسر في هود «2» . قوله تعالى: مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي: من المُبعَدين الملعونين قال أبو زيد: يقال: قَبَحَ اللهُ فلاناً، أي: أبعده من كل خير. وقال ابن جريج: معنى الآية: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة لعنةً أخرى، ثم استقبل الكلام، فقال: هم من المقبوحين. [سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 47] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي: ليتبصّروا به ويهتدوا.

_ (1) هذا الأثر من الإسرائيليات ولا حجة فيه، ذكره البغوي 3/ 383 بقوله: قال أهل السير. (2) هود: 60- 99. [.....]

[سورة القصص (28) : الآيات 48 إلى 55]

قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ قال الزجاج: أي: وما كنتَ بجانب الجبل الغربيّ. قوله تعالى: إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي: أحْكَمْنا الأمر معه بارساله إِلى فرعون وقومه وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ لذلك الأمر وفي هذا بيان لصحّة نبوّة نبيّنا صلى الله عليه وسلّم، لأنهم يعلمون أنه لم يقرأ الكتب، ولم يشاهِد ما جرى، فلولا أنَّه أُوحي إِليه ذلك، ما علم. قوله تعالى: وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي: خَلَقْنا أُمماً مِن بعد موسى فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي: طال إِمهالُهم فنسوا عهد الله وتركوا أمره وهذا يدلُّ على أنه قد عُهد إِلى موسى وقومه عهود في أمر محمّد صلى الله عليه وسلّم، وأُمروا بالإِيمان به، فلمَّا طال إِمهالُهم، أعرضوا عن مراعاة العهود، وَما كُنْتَ ثاوِياً أي: مقيماً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فتَعْلَم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أرسلناكَ إِلى أهل مكة وأخبرناك خبر المتقدِّمِين، ولولا ذلك ما علمتَه. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ أي: بناحية الجبل الذي كُلّم عليه موسى إِذْ نادَيْنا موسى وكلَّمناه، هذا قول الأكثرين وقال أبو هريرة: كان هذا النداء: يا أُمَّة محمد، أعطيتُكم قبل أن تسألوني، وأستجيب لكم قبل أن تدعوني. قوله تعالى: وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال الزجاج: المعنى: لم تُشاهِد قصص الأنبياء، ولكنّا أوحيناها إِليك وقصصناها عليك، رحمةً من ربِّك. وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ جواب «لولا» محذوف، تقديره: لولا أنهم يحتجُّون بترك الإِرسال إِليهم لعاجلناهم بالعقوبة، وقيل: لولا ذلك لم نَحْتَجْ إِلى إرسال الرسل ومؤاثرة الاحتجاج. [سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 55] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمُ يعني أهل مكة الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا وهو محمد عليه السلام والقرآن قالُوا لَوْلا أي: هلاَّ أُوتِيَ محمد من الآيات مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى كالعصا واليد. قال المفسرون: أمرت اليهودُ قريشاً أن تسأل محمّدا صلى الله عليه وسلّم مثل ما أُوتيَ موسى، فقال الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى أي: فقد كفروا بآيات موسى، وقالُوا في المشار إِليهم قولان: أحدهما: اليهود. والثاني: قريش. سِحْرانِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «ساحران» . تَظاهَرا أي: تعاونا. وروى العباس الانصاري عن أبي عمرو: «تَظَّاهَرا» بتشديد الظاء. وفيمن عَنَواْ ثلاثة أقوال: أحدها: موسى ومحمد، قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير فعلى هذا هو من قول مشركي العرب.

والثاني: موسى وهارون، قاله مجاهد: فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرّسالة. والثالث: محمّد وعيسى عليهما السّلام، قاله قتادة فعلى هذا هو من قول اليهود الذين لم يؤمنوا بنبيِّنا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «سِحْران» وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: التوراة والفرقان، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: الإنجيل والقرآن، قاله قتادة. والثالث: التّوراة والإنجيل، قاله أبو مجلز وإسماعيل بن أبي خالد. ومعنى الكلام: كلُّ سِحْر منهما يقوِّي الآخر، فنُسب التظاهر إِلى السِحْرين توسُّعاً في الكلام، وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ يعنون ما تقدَّم ذِكْره على اختلاف الأقوال، فقال الله تعالى لنبيِّه قُلْ لكفَّار مكة فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي: من التوراة والقرآن إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنَّهما ساحران. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي: فان لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي: أنَّ ما ركبوه من الكفر لم يحملهم عليه حُجَّة، وإِنما آثروا فيه الهوى وَمَنْ أَضَلُّ أي: ولا أحد أضل مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً أي: بغير رشد ولا بيان جاء مِنَ اللَّهِ. وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ وقرأ الحسن وأبو المتوكل وابن يعمر: «وصَلْنَا» بتخفيف الصاد. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم قريش، قاله الأكثرون، منهم مجاهد. والثاني: اليهود، قاله رفاعة القرظي. والمعنى: أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً، ويُخْبِر عن الأمم الخالية كيف عُذِّبِوا لعلَّهم يتَّعظون. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مؤمنوا أهل الكتاب، رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد. والثاني: مسلمو أهل الإِنجيل. (1077) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب النجاشي قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فشهدوا معه أُحُداً، فنزلت فيهم هذه الآية. والثالث: مسلمو اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، قاله السدي. قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل القرآن هُمْ بِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم لأن ذِكْره كان مكتوباً عندهم في كتبهم فآمنوا به. والثاني: إِلى القرآن. قوله تعالى: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن قالُوا آمَنَّا بِهِ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل نزول القرآن مُسْلِمِينَ أي مُخْلِصِين لله تعالى مصدِّقين بمحمد، وذلك لأن ذِكْره كان في كتبهم فآمنوا به أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنَّهم مؤمنو أهل الكتاب، وهذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وفيما صبروا عليه قولان: أحدهما: أنهم صبروا على الكتاب الأوّل وصبروا على اتّباعهم محمّدا صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة وابن زيد. والثاني: أنهم صبروا على الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلّم قبل أن يُبْعَث ثم على اتِّباعه حين بُعث، قاله الضحاك. والقول الثاني: انهم قوم من المشركين أسلموا فكان قومهم يؤذونهم فصبروا على الأذى، قاله مجاهد. قوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فيه أقوال قد شرحناها في الرعد. قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الاذى والسَّبّ، قاله مجاهد. والثاني: الشِّرك، قاله الضحاك. والثالث: أنهم قوم من اليهود آمنوا، فكانوا يسمعون ما غيّر اليهود من

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبراني في «الأوسط» برقم 7658 من حديث ابن عباس بأتم منه، وإسناده ضعيف جدا. فيه مجاهيل. قال السيوطي في «الأسباب» 1073: فيه من لا يعرف.

[سورة القصص (28) : الآيات 56 إلى 58]

صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيَكرهون ذلك ويُعْرِضون عنه، قاله ابن زيد. وهل هذا منسوخ، أم لا؟ فيه قولان. وفي قوله تعالى: وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ قولان: أحدهما: لنا دِيننا ولكم دِينكم. والثاني: لنا حِلْمُنا ولكم سَفَهُكم. سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: لم يريدوا التحيَّة، وإِنَّما أرادوا: بيننا وبينكم المُتَارَكة، وهذا قبل أن يؤمَر المسلمون بالقتال. وذكر أهل التّفسير، أنَّ هذا منسوخ بآية السيف. وفي قوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا نبتغي دِين الجاهلين. والثاني: لا نطلُب مجاورتهم. والثالث: لا نريد أن نكون جهّالا والله أعلم [سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 58] إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ «1» . (1078) وقد روى مسلم فيما انفرد به عن البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمِّه: «قل: لا إِله إِلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة» ، فقال: لولا أن تُعيِّرني نساءُ قريش، يقلن: إِنَّما حمله على ذلك الجزع، لاقررتُ بها عينك، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ. قال الزجاج: أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب. وفي قوله تعالى: مَنْ أَحْبَبْتَ قولان: أحدهما: من أحببتَ هدايته. والثاني: من أحببتَه لقرابته. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي: يُرْشِد لِدِينه من يشاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي: بمن قدَّر له الهُدى. قوله تعالى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ قال ابن عباس في رواية العوفي: هم ناس من قريش قالوا ذلك. وقال في رواية ابن أبي مُلَيْكة: إِنَّ الحارث بن عامر بن نوفل قال ذلك. (1079) وذكر مقاتل أن الحارث بن عامر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنَّا لَنعلم أنَّ الذي تقول حق، ولكن يمنعنا ان نتَّبع الهُدى معك مخافة أن تتخطّفنا العرب من أرضنا، يعنون مكة.

_ صحيح. أخرجه مسلم 41، 42 والترمذي 3188 وأحمد 2/ 434 والواحدي في «أسباب النزول» 662 من حديث أبي هريرة دون كلمة «نساء» وقد انفرد مسلم بروايته بهذا اللفظ مختصرا. - وقد مضى تخريجه بأطول منه في سورة التوبة عند الآية 113. متفق عليه. ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم، لكن ورد من وجه آخر. أخرجه النسائي في «الكبرى» 11385 من طريق عمرو بن شعيب عن ابن عباس، وهو منقطع، قال النسائي: ولم يسمعه منه، أي لم يسمع عمرو من ابن عباس. فالإسناد ضعيف، ولا يصح هذا الخبر.

[سورة القصص (28) : الآيات 59 إلى 61]

ومعنى الاية: إِن اتَّبعناك على دينك خِفْنا العرب لمخالفتنا إِياها. والتَّخَطُّف: الانتزاع بسرعة فردَّ الله عليهم قولهم، فقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً أي: أَوَلَمْ نُسْكِنْهم حَرَماً ونجعله مكاناً لهم، ومعنى آمِناً: ذو أمن يأمن فيه الناس، وذلك أن العرب كانت يُغِير بعضُها على بعض، وأهل مكة آمنون في الحرم من القتل والسَّبي والغارة، أي: فكيف يخافون إِذا أسلموا وهم في حرم آمن؟! يُجْبى قرأ نافع: «تُجْبي» بالتاء، أي: تُجْمَع إِليه وتُحمل من كل النواحي الثمرات، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا أي: مِنْ عندنا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يعني أهل مكة لا يَعْلَمُونَ أنَّ الله تعالى هو الذي فعل بهم ذلك فيشكرونه. ومعنى الآية: إِذا كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبدون غيري، فكيف تخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي؟! ثم خوَّفهم عذاب الأمم الخالية فقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها قال الزجاج: «معيشتَها» منصوبة باسقاط «في» ، والمعنى: بَطِرَتْ في معيشتها، والبطر: الطُّغيان في النِّعمة. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. قوله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس: لم يسكُنْها إِلاَّ المسافرون ومارُّ الطريق يوماً أو ساعة، والمعنى: لم تُسْكَن من بعدهم إلّا سكنى قليلة وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أي: لم يَخْلُفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم، فبقيتْ خراباً غير مسكونة. [سورة القصص (28) : الآيات 59 الى 61] وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى يعني القرى الكافر أهلها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي: في أعظمها رَسُولًا، وإِنما خصَّ الأعظم ببعثة الرسول، لأن الرسول إِنَّما يُبعث إِلى الأشراف، وأشراف القوم ملوكهم، وإِنما يسكُنون المواضع التي هي أُمُّ ما حولها. وقال قتادة: أُم القرى: مكّة، والرسول: محمّد صلى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا قال مقاتل: يخبرهم الرسول أنَّ العذاب نازل بهم إِن لم يؤمنوا. قوله تعالى: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أي: بظلمهم أُهلكهم. وظلمهم: شركهم. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أعطيتم من مال وخير فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تتمتَّعون به أيام حياتكم ثم يفنى وينقضي، وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب خَيْرٌ وَأَبْقى أفضل وأَدْوَم لأهله أَفَلا تَعْقِلُونَ أَنَّ الباقي أفضل مِنَ الفاني؟! قوله تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً اختُلف فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي جهل. والثاني: في عليّ وحمزة رضي الله عنهما، وأبي جهل. والقولان مرويان عن مجاهد. والثالث: في المؤمن والكافر، قاله قتادة. والرابع: في عمَّار والوليد بن المغيرة، قاله السدي. وفي الوعد الحسن قولان: أحدهما: الجنة. والثاني: النصر. قوله تعالى: فَهُوَ لاقِيهِ أي: مُصيبه ومُدْرِكه كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: كمن هو ممتَّع بشيء يفنى ويزول عن قريب ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ فيه قولان:

[سورة القصص (28) : الآيات 62 إلى 67]

أحدهما: من المحضرين في عذاب الله تعالى، قاله قتادة. والثاني: من المُحْضَرِين للجزاء، حكاه الماوردي. [سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي: ينادي الله تعالى المشركين يومَ القيامة فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ هذا على وجه حكاية قولهم والمعنى: أين شركائي في قولكم؟! قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: وجب عليهم العذاب، وهم رؤساء الضلالة، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم رؤوس المشركين. والثاني: أنهم الشياطين رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا يعنون الأتباع أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي: أضللناهم كما ضَلَلْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ أي: تبرَّأنا منهم إِليك والمعنى أنهم يتبرّأ بعضهم من بعض ويصيرون أعداء. وَقِيلَ لكُفَّار بني آدم ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي: استغيثوا بآلهتكم لتُخَلِّصكم من العذاب فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي: فلم يجيبوهم إِلى نصرهم وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ قال الزجّاج: جواب «لو» محذوف والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لَمَا اتبَّعوهم ولَمَا رأوُا العذاب. قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي: ينادي الله الكفار ويسألهم فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ وقرأ أبو رزين العقيلي، وقتادة، وأبو العالية، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري: «فَعُمِّيَتْ» برفع العين وتشديد الميم. قال المفسرون: خفيت عليهم الحُجج، وسمِّيت أنباءً، لأنها أخبار يخبر بها. قال ابن قتيبة: المعنى: عَمُوا عنها- من شدة الهول- فلم يُجيبوا، و «الأنباء» الحُجج. قوله تعالى: فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ فيه ثلاثة أقوال. أحدها: لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحُجَّة، قاله الضحاك. والثاني: أن المعنى: سكتوا فلا يتساءلون في تلك الساعة، قاله الفراء. والثالث: لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحمل عنه شيئاً من ذنوبه، حكاه الماوردي. فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشِّرك وَآمَنَ أي: صدّق بتوحيد الله عزّ وجلّ وَعَمِلَ صالِحاً أدَّى الفرائض فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ و «عسى» من الله عز وجل واجب. [سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ روى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ قال: كانوا يجعلون لآلهتهم خير أموالهم في الجاهلية.

[سورة القصص (28) : الآيات 71 إلى 75]

(1080) وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» . والمعنى أنَّه لا تُبْعَث الرسل باختيارهم. قال الزّجّاج: والوقف الجيد على قوله تعالى: «ويختار» وتكون «ما» نفياً والمعنى: ليس لهم أن يختاروا على الله تعالى ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، فيكون المعنى: ويختار الذي لهم فيه الخِيَرة ممَّا يتعبَّدهم به ويدعوهم إِليه قال الفراء: والعرب تقول لِمَا تختاره: أعطِني الخِيْرَة والخِيَرة والخَيْرة، قال ثعلب: كلها لغات. قوله تعالى: ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي: ما تُخفي من الكفر والعداوة وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم. قوله تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي: يَحْمَدُه أولياؤُه في الدنيا ويَحْمَدونه في الجنة وَلَهُ الْحُكْمُ وهو الفصل بين الخلائق. والسّرمد: الدّائم. [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) قوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ أي: سماع فَهْم وقَبول فتستدلُّوا بذلك على وحدانية الله تعالى؟! ومعنى تَسْكُنُونَ فِيهِ: تستريحون من الحركة والنَّصَب أَفَلا تُبْصِرُونَ ما أنتم عليه من الخطأ والضلالة؟! ثم أخبر أن اللَّيل والنهار رحمة منه. وقوله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يعني في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: لتلتمسوا من رزقه بالمعاش في النهار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الذي أنْعَم عليكم بهما. قوله تعالى: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي: أخرْجنا من كل أُمَّة رسولها الذي يشهد عليها بالتبليغ فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي: حُجَّتكم على ما كنتم تعبُدون من دوني فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي: عَلِموا أنَّه لا إِله إِلا هو وَضَلَّ عَنْهُمْ أي: بَطَل في الآخرة ما كانُوا يَفْتَرُونَ في الدنيا من الشّركاء. [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 77] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 665 بدون إسناد، بقوله: قال أهل التفسير.

قوله تعالى: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أي: من عشيرته وفي نسبه إِلى موسى ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه كان ابن عمه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عبد الله بن الحارث، وإِبراهيم، وابن جريج. والثاني: ابن خالته، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أنه كان عمَّ موسى، قاله ابن إِسحاق. قال الزجاج: «قارون» اسم أعجمي لا ينصرف، ولو كان «فاعولاً» من العربية من «قرنتُ الشيء» لانصرف. قوله تعالى: فَبَغى عَلَيْهِمْ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه جعل لِبَغِيٍّ جُعْلاً على أن تقذف موسى بنفسها، ففعلت، فاستحلفها موسى على ما قالت، فأخبرته بقصتها، فكان هذا بغيه، قاله ابن عباس. والثاني: أنه بغى بالكفر بالله تعالى، قاله الضحاك. والثالث: بالكِبْر، قاله قتادة. والرابع: أنه زاد في طول ثيابه شِبراً، قاله عطاء الخراساني، وشهر بن حوشب. والخامس: أنه كان يخدم فرعون فتعدَّى على بني إِسرائيل وظلمهم، حكاه الماوردي. وفي المراد بمفاتحه قولان: أحدهما: أنها مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب، قاله مجاهد، وقتادة. وروى الأعمش عن خيثمة قال: كانت مفاتيح قارون وِقْر ستين بغلاً، وكانت من جلود، كل مفتاح مثل الأصبع. والثاني: أنها خزائنه، قاله السدي، وأبو صالح، والضحاك. قال الزجاج: وهذا الأشبه أن تكون مفاتحه خزائن ماله وإِلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة. قال أبو صالح: كانت خزائنه تُحمل على أربعين بغلاً. قوله تعالى: لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أي: تُثقلهم وتُميلهم. ومعنى الكلام: لَتُنِيءُ العصبةَ، فلمَّا دخلت الباءُ في «العُصْبة» انفتحت التاء، كما تقول: هذا يَذْهَبُ بالأبصارِ، وهذا يُذْهِبُ الأبصارَ، وهذا اختيار الفراء وابن قتيبة والزجَّاج في آخرين. وقال بعضهم: هذا من المقلوب، وتقديره: ما إِن العُصْبة لَتَنُوء بمفاتحه، كما يقال: إِنها لَتَنُوء بها عجيزُتها، أي: هي تَنْوء بعجيزتها، وأنشدوا: فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفِسْي ومَالي ... ومَا آلُوكَ إِلاَّ مَا أُطِيقُ أي: فديت بنفسي وبمالي نفسه، وهذا اختيار أبي عبيدة، والأخفش. وقد بيَّنَّا معنى العُصْبة في سورة يوسف «2» ، وفي المراد بها ها هنا ستة أقوال: أحدها: أربعون رجلاً، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: ما بين الثلاثة إِلى العشرة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: خمسة عشر، قاله مجاهد. والرابع: فوق العشرة إِلى الأربعين، قاله قتادة. والخامس: سبعون رجلاً، قاله أبو صالح. والسادس: ما بين الخمسة عشر إِلى الأربعين، حكاه الزجاج. قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ في القائل له قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون من قومه، قاله السدي. والثاني: أنه قول موسى له، حكاه الماوردي. قوله تعالى: لا تَفْرَحْ قال ابن قتيبة: المعنى: لا تأشَرْ ولا تَبطَرْ، قال الشاعر: ولستُ بِمِفْراحٍ إِذا الدَّهرُ سَرَّني ... ولا جازع من صرفه المتحوّل «3»

_ (1) قال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 492: قال ابن جرير: وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه. (2) يوسف: 8. (3) البيت لهدبة بن خشرم العذري، وهو في «حماسة البحتري» 120.

[سورة القصص (28) : آية 78]

أي: لستُ بأَشِرٍ، فأمَّا السرورُ، فليس بمكروه. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وقرأ أبو رجاء، وأبو حيوة، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: «الفَارِحِين» بألف. قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ أي: اطلب فيما أعطاكَ اللهُ من الأموال «1» . وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «واتّبع» بتشديد التاء وكسر الباء وعين ساكنة غير معجمة الدَّارَ الْآخِرَةَ وهي: الجنة وذلك يكون بانفاقه في رضى الله تعالى وشُكر المُنْعِم به وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن يعمل في الدنيا للآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور. والثاني: أن يُقدِّم الفضل ويُمسك ما يُغْنيه، قاله الحسن. والثالث: أن يستغنيَ بالحلال عن الحرام، قاله قتادة. وفي معنى وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ثلاثة أقوال: أحدها: أَعْطِ فضل مالك كما زادك على قدر حاجتك. والثاني: أَحْسِن فيما افترض عليك كما أحسن في إِنعامه إِليك. والثالث: أحسن في طلب الحلال كما أحسن إِليك في الإِحلال. قوله تعالى: وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ فتعمل فيها بالمعاصي. [سورة القصص (28) : آية 78] قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) قوله تعالى: إِنَّما أُوتِيتُهُ يعني المال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فيه خمسة أقوال «2» : أحدها: على عِلْم عندي بصنعة الذهب، رواه أبو صالح عن ابن عباس قال الزجاج: وهذا لا أصل له، لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له. والثاني: برضى الله عني، قاله ابن زيد. والثالث: على خير علمه الله تعالى عندي، قاله مقاتل. والرابع: إِنما أُعطيتُه لفضل علمي، قاله الفراء. قال الزجاج: ادَّعى أنه أُعطيَ المال لعلمه بالتوراة. والخامس: على علم عندي بوجوه المكاسب، حكاه الماوردي. قوله تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ يعني قارون أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ بالعذاب مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ في الدُّنيا حين كذَّبوا رُسُلَهم مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً للأموال. وفي قوله تعالى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يُسْأَلون ليُعْلَم ذلك مِنْ قِبَلهم وإِن سئلوا سؤال توبيخ، قاله الحسن. والثاني: أن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسألهم عن ذنوبهم، قاله مجاهد. والثالث: يدخلون النار بغير حساب، قاله قتادة. وقال السدي: يعذَّبون ولا يُسْأَلون عن ذنوبهم.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله 3/ 493: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرّب إليه بشتى أنواع القربات التي تحصّل لك الثواب في الدار الآخرة وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ما أباح الله لك من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، فإن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه. وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي: أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك ولا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض، وتسيء إلى خلق الله. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 494: وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد، فإنه قال: لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال، وقرأ: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ.

[سورة القصص (28) : الآيات 79 إلى 80]

[سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 80] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال الحسن: في ثيابٍ حمر وصفر وقال عكرمة: في ثياب مُعَصْفَرة. وقال وهب بن منبِّه: خرج على بغلة شهباء عليها سرج أحمر من أُرْجُوان، ومعه أربعة آلاف مقاتل، وثلاثمائة وصيفة عليهن الحلي والزِّينة على بغال بيض. قال الزجاج: الأُرْجُوان في اللغة: صِبغ أحمر. قوله تعالى: لَذُو حَظٍّ أي: لَذُو نصيب وافر من الدنيا. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إِسرائيل. وقال مقاتل: الذين أوتوا العلم بما وَعَدَ اللهُ في الآخرة قالوا للذين تَمنَّوا ما أُوتيَ قارون وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ أي: ما عنده من الجزاء خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ مِمَّا أُعطيَ قارونُ. قوله تعالى: وَلا يُلَقَّاها قال أبو عبيدة: لا يوفَّق لها ويُرْزَقُها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «ولا يَلْقَاها» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. وفي المشار إِليها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الأعمال الصالحة، قاله مقاتل. والثاني: أنها الجنة، والمعنى: لا يُعطاها في الآخرة إِلاَّ الصابرون على أمر الله تعالى، قاله ابن السائب. والثالث: أنها الكلمة التي قالوها، وهي قولهم: «ثوابُ الله خيرٌ» ، قاله الفرّاء. [سورة القصص (28) : الآيات 81 الى 82] فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ لمَّا أمر قارونُ البَغِيَّ بقذف موسى على ما سبق شرحه غضب موسى فدعا عليه، فأوحى الله تعالى إِليه: إِنِّي قد أمرت الأرض أن تُطيعَك فَمُرْها فقال موسى: يا أرض خُذيه، فأخذتْه حتى غيَّبَتْ سريره، فلمَّا رأى ذلك ناشده بالرّحم، فقال: يا أرض خُذيه، فأخذته حتى غيَّبتْ قدميه فما زال يقول: خُذيه، حتى غيَّبتْه، فأوحى الله تعالى إِليه: يا موسى ما أفظَّك، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته. قال ابن عباس: فخُسفتْ به الأرضُ إِلى الأرض السفلى. وقال سَمُرَة بنُ جنْدَب: إِنَّه يُخسف به كلَّ يوم قامة، فتبلغ به الأرض السفلى يوم القيامة. قال مقاتل: فلمَّا هلك قارون قال بنو إِسرائيل: إِنَّما أهلكه موسى ليأخذ ماله وداره، فخَسَفَ الله تعالى بداره وماله بعده بثلاثة أيام «1» . قوله تعالى: يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: يمنعونه من الله تعالى وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي: من الممتنعين ممَّا نزل به. ثم أعلَمنا أن المتمنِّين مكانه ندموا على ذلك التمنِّي بالآية التي تلي هذه. وقوله تعالى: لَخَسَفَ بِنا الأكثرون على ضم الخاء وكسر السين. وقرأ يعقوب، والوليد عن ابن عامر، وحفص، وأبان عن عاصم: بفتح الخاء والسين. فأما قوله تعالى: «وَيْكَ» فقال ابن عباس: معناه: ألم تر، وكذلك قال أبو عبيده، والكسائي. وقال الفراء: «وَيْكَ أن» في كلام العرب تقرير، كقول الرجل:

_ (1) هذا الأثر مصدره كتب الأقدمين لا حجة فيه.

[سورة القصص (28) : الآيات 83 إلى 84]

أما ترى إلى صنع الله تعالى وإِحسانه، أنشدني بعضهم: وَيْكَ أَنْ مَنْ يَكُنْ له نشب يحبب ... ومَنْ يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ وقال ابن الأنباري: في قوله: وَيْكَأَنَّهُ ثلاثة أوجه «1» : الأول: إِن شئت قلت: «وَيْكَ» حرف، و «أنَّه» حرف والمعنى: ألم تر أنَّه، والدليل على هذا قول الشاعر: سالَتَاني الطَّلاق أنْ رَأَتَاني ... قَلَّ مالي قَدْ جِئْتُمَاني بِنُكْرِ وَيْكَ أَنْ من يكن له نشب يحبب ... ومَن يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْش ضُرِّ «2» والثاني: أن يكون «ويك» حرفا، «وأنّه» حرفاً. والمعنى: ويلك اعلمْ أنَّه، فحذفت اللام، كما قالوا: قم لا أباك، يريدون: لا أبالك، وأنشدوا: أَبِالْمَوْتِ الذي لا بُدَّ أنِّي ... مُلاقٍ لا أَبَاكِ تُخَوِّفِيني «3» أراد: لا أَبَالَكِ، فحذف اللام. والثالث: أن يكون «وَيْ» حرفاً، و «كأنّه» حرفا، فيكون المعنى «وَيْ» التعجُّب، كما تقول: وَيْ لِمَ فعلت كذا وكذا، ويكون معنى «كأنَّه» : أظُنُّه وأعلمُه، كما تقول في الكلام: كأنَّك بالفَرَج قد أَقْبَل فمعناه: أظُنُّ الفَرَجُ مقْبِلاً. وإِنما وصلوا الياء بالكاف في قوله تعالى: وَيْكَأَنَّهُ لأنّ الكلام بهما يكثر، كما جعلوا «يا ابْنَ أُمَّ» «4» في المصحف حرفا واحدا، وهما حرفان. وكان جماعة منهم يعقوب، يقفون على «وَيْكَ» في الحرفين، ويبتدئون «أنّ» و «أنَّه» في الموضعين. وذكر الزجَّاج عن الخليل أنه قال: «وَيْ» مفصولة من «كأنَّ» ، وذلك أنَّ القوم تندَّموا فقالوا: «وَيْ» متندِّمين على ما سلف منهم، وكلُّ مَنْ نَدِم فأظهر ندامته قال: وَيْ. وحكى ابن قتيبة عن بعض العلماء أنَّه قال: معنى «ويكأنَّ» : رحمةً لك، بلغة حِمْيَر. قوله تعالى: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي: بالرحمة والمعافاة والإيمان لَخَسَفَ بِنا. [سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ يعني الجنة نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وفيه خمسة أقوال: أحدها: أنَّه البَغْي، قاله سعيد بن جبير. والثاني: الشَّرَفُ والعِزّ، قاله الحسن. والثالث: الظُّلْم، قاله الضحاك. والرابع: الشِّرك، قاله يحيى بن سلام. والخامس: الاستكبار عن الإيمان، قاله مقاتل.

_ (1) قال الطبري في «تفسيره» 10/ 113: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة من أن معناه: ألم تر، ألم تعلم. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 496: وقد اختلف النحاة في معنى قوله تعالى: وَيْكَأَنَّهُ فقال بعضهم: معناها «ويلك اعلم أن» ولكن خففت فقيل: «ويك» ودل فتح «أن» على حذف اعلم وهذا القول ضعفه ابن جرير. والظاهر أنه قوي، ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة «ويكأن» . والكتابة أمر وضعي اصطلاحي، والمرجع إلى اللفظ العربي، والله أعلم. (2) البيتان لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي، كما في «مجاز القرآن» 2/ 112 و «سيبويه» 1/ 290. (3) البيت لأبي حية النّميري، وهو في «اللسان» - أبى-. (4) طه: 94.

[سورة القصص (28) : الآيات 85 إلى 88]

قوله تعالى: وَلا فَساداً فيه قولان: أحدهما: العمل بالمعاصي، قاله عكرمة. والثاني: الدُّعاء إِلى غير عبادة الله تعالى، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي: العاقبة المحمودة لهم. قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قد فسرناه في سورة النمل «1» . قوله تعالى: فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: إِلاَّ جزاء عملهم من الشِّرك، وجزاؤه النّار. [سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88] إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ. (1081) قال مقاتل: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الغار ليلاً، فمضى من وجهه إِلى المدينة فسار في غير الطريق مخافة الطَّلب فلمَّا أَمِن رجع إِلى الطريق فنزل الجُحْفَةَ بين مكة والمدينة، فعرف الطريق إِلى مكة، فاشتاق إِليها، وذكر مولده، فأتاه جبريل فقال: أتشتاق إِلى بلدك ومولدك؟ قال: نعم قال: فان الله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، فنزلت هذه الآية بالجحفة. وفي معنى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ثلاثة أقوال: أحدها: فرض عليك العمل بالقرآن، قاله عطاء بن أبي رباح، وابن قتيبة. والثاني: أعطاك القرآن، قاله مجاهد. والثالث: أنزل عليك القرآن، قاله مقاتل والفراء وأبو عبيدة. وفي قوله تعالى: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أربعة أقوال «2» : أحدها: إِلى مكة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية، والضحاك. قال ابن قتيبة: مَعَادُ الرَّجُل: بلدُه، لأنه يتصرَّف في البلاد ويَضْرِب في الأرض ثم يعود إِلى بلده. والثاني: إِلى معادك من الجنة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والزهري. فإن اعتُرض على هذا فقيل: الرَّدُّ يقتضي أنه قد كان فيما رُدَّ إِليه فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنَّه لمَّا كان أبوه آدم في الجنة ثم أُخرج، كان كأنَّ ولده أُخرج منها، فاذا دخلها فكأنه أعيد. والثاني: أنّه دخلها ليلة

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهذا معضل، وهو بدون إسناد، ومقاتل ساقط الرواية، فهذا خبر لا شيء.

المعراج، فاذا دخلها يوم القيامة كان ردّاً، ذكرهما ابن جرير. والثالث: أن العرب تقول: رجع الأمر إِلى كذا، وإِن لم يكن له كون فيه قطّ، وأنشدوا: يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذ هُوَ سَاطِعُ «1» وقد شرحنا هذا في قوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ عن ابن عباس وبه قال أبو سعيد الخدريّ. الثالث: لَرَادُّك إِلى الموت، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال أبو سعيد الخدري. والرابع: لَرَادُّك إِلى القيامة بالبعث، قاله الحسن والزهري ومجاهد في رواية والزجاج. ثم ابتدأ كلاماً يَرُدُّ به على الكفار حين نسبوا النبيّ صلى الله عليه وسلّم إِلى الضَّلال، فقال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى والمعنى: قد علم أنِّي جئت بالهُدى، وأنَّكم في ضلال مبين. ثم ذَكَّرهُ نعمه، فقال: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي: أن تكون نبيّاً وأن يوحى إِليكَ القرآنُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال الفراء: هذا استثناء منقطع، والمعنى: إِلاَّ أنَّ ربَّكَ رَحِمَكَ فأنزله عليك فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي: عَوْناً لهم على دينهم، وذلك أنَّهم دَعوه إِلى دين آبائه فأُمر بالاحتراز منهم والخطاب بهذا وأمثاله له، والمراد أهل دينه لئلاَّ يُظاهِروا الكفَّار ولا يوافقوهم. قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فيه قولان: أحدهما: إِلا ما أُرِيدَ به وجهُه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الثوري. والثاني: إِلاَّ هو، قاله الضحاك وأبو عبيدة. قوله تعالى: لَهُ الْحُكْمُ أي الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة.

_ (1) هو عجز بيت للبيد بن ربيعة العامري وصدره: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه، كما في «ديوانه» 169، و «اللسان» - حور-.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت فصل في نزولها: روى العوفيّ عن ابن عباس أنها مكِّيَّة، وبه قال الحسن، وعطاء، وقتادة، وجابر بن زيد، ومقاتل. وفي رواية عن ابن عباس أنها مدنيّة. وقال هبة الله بن سلامة المفسّر: نزلت من أوّلها إلى رأس العشر بمكّة، وباقيها بالمدينة. وقال غيره عكس هذا: نزلت العشر بالمدينة، وباقيها بمكّة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) قوله تعالى: الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (1082) أحدها: أنَّه لمَّا أُمر بالهجرة، كتب المسلمون إِلى إِخوانهم بمكة أنَّه لا يُقْبَل منكم إِسلامكم حتى تُهاجِروا، فخرجوا نحو المدينة فأدركهم المشركون فردُّوهم، فأنزل الله تعالى من أول هذه السورة عشر آيات، فكتبوا إِليهم يخبرونهم بما نزل فيهم، فقالوا: نَخْرُج، فان اتَّبَعَنَا أحدٌ قاتلناه، فخرجوا فاتَّبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم مَنْ قُتل، ومنهم مَنْ نجا، فأنزل الله تعالى فيهم: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا «1» ، هذا قول الحسن والشعبي. (1083) والثاني: أنَّها نزلت في عمَّار بن ياسر إِذ كان يعذَّب في الله عزّ وجلّ، قاله عبد الله بن عُبيد بن عُمير. (1084) والثالث: أنَّها نزلت في مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب حين قُتل ببدر، فجزع عليه أبواه وامرأته، فأنزل الله تعالى في أبويه وامرأته هذه الآية.

_ أخرجه الطبري 27693 وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 666 عن الشعبي مرسلا، فهو ضعيف. أخرجه الطبري 27692 عن عبد الله بن عبيد بن عمير. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 667 عن مقاتل بدون إسناد، ومقاتل ساقط الرواية، فخبره واه.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 5 إلى 7]

قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ قال ابن عباس: يريد بالناس: الذين آمنوا بمكة كعيَّاش بن أبي ربيعة وعمَّار بن ياسر وسَلَمة بن هشام وغيرهم. قال الزجاج: لفظ الآية استخبار ومعناها معنى التقرير والتوبيخ والمعنى: أحَسِب النَّاس أن يُتْرَكوا بأن يقولوا: آمَنَّا، ولأَن يقولوا: آمَنَّا، أي أَحَسِبوا أن يُقْنَع منهم بأن يقولوا: إِنَّا مؤمنون، فقط، ولا يُمتَحنون بما يبيِّن حقيقة إِيمانهم وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي: لا يُختَبرون بما يُعْلَم به صِدق إِيمانهم من كذبه. وللمفسرين فيه قولان: أحدهما: لا يُفْتَنون في أنفسهم بالقتل والتعذيب، قاله مجاهد. والثاني: لا يُبْتَلَوْن بالأوامر والنواهي. قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: ابتليناهم واختبرناهم فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فليرينّ الله عزّ وجلّ الذين صَدَقوا في إِيمانهم عند البلاء إِذا صبروا لقضائه، ولَيُرِيَنَّ الكاذبين في إِيمانهم إِذا شكُّوا عند البلاء، قاله مقاتل. والثاني: فلَيُمَيِّزَنَّ، لأنَّه قد عَلِم ذلك مِنْ قَبْل، قاله أبو عبيدة. والثالث: فلَيُظْهِرَنَّ ذلك حتى يوجد معلوماً، حكاه الثعلبي. وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وجعفر بن محمد: «فلَيُعْلِمَنَّ اللهُ» «ولَيُعْلِمَنَّ الكاذبين» «وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين» «1» بضم الياء وكسر اللام. قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ أي: أحسب الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني الشِّرك أَنْ يَسْبِقُونا أي: يفُوتونا ويُعْجِزونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي: بئس ما حكموا لأنفسهم حين ظنُّوا ذلك. قال ابن عباس: عنى بهم الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والعاص بن هشام، وغيرهم. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 5 الى 7] مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) قوله تعالى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ قد شرحناه في آخر الكهف «2» فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ يعني الأجل المضروب للبعث والمعنى: فليعمل لذلك اليوم وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقول الْعَلِيمُ بما يعمل. وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أي: إِن ثوابه إِليه يرجع. قوله تعالى: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي: لَنُبْطِلَنَّها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي: بأحسن أعمالهم، وهو الطاعة، ولا نجزيهم بمساوئ أعمالهم. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو مجلز، وعاصم الجحدري: «إِحساناً» بألف. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء: «حسنا» بفتح الحاء والسين. (1085) وروى أبو عثمان النّهدي عن سعد بن أبي وقَّاص، قال: فيَّ أُنزلت هذه الآية، كنت

_ أصله صحيح. أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 414 من طريق مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي عثمان

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 إلى 11]

رجلاً بَرّاً بأُمِّي، فلمَّا أسلمتُ قالت: يا سعد! ما هذا الدِّين الذي قد أحدثتَ، لَتَدَعنَّ دِينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموتَ فتُعيَّر بي فيقال: يا قاتلَ أُمِّه، قلت: لا تفعلي يا أُمَّاه، إِنِّي لا أَدَعُ ديني هذا لشيء، قال: فمكثتْ يوماً وليلة لا تأكل، فأصبحتْ قد جُهِدَتْ، ثم مكثتْ يوماً آخر وليلة لا تأكل، فلمَّا رأيتُ ذلك قلتُ: تعلمين والله يا أُمَّاه لو كانت لكِ مائة نَفْس فخرجتْ نَفْساً نَفْساً ما تركت ديني هذا لشيء، فكُلي، وإِن شئتِ لا تأكلي، فلمَّا رأت ذلك أكلتْ فأُنزلت هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، وقد جرى له مع أُمِّه نحو هذا. وذكر بعض المفسّرين أنّ هذه الآية، التي في لقمان «1» وفي الأحقاف «2» : نزلن في قصة سعد. قال الزجاج: مَنْ قرأ: «حُسْناً» فمعناه: ووصَّينا الإِنسان أن يفعل بوالديه ما يَحْسُن، ومن قرأ: «إِحساناً» فمعناه: ووصينا الإِنسان أن يُحْسِن إِلى والديه، وكان «حُسْناً» أعمَّ في البِرّ. وَإِنْ جاهَداكَ قال أبو عبيدة: مجاز هذا الكلام مجاز المختصر الذي فيه ضمير، والمعنى: وقلنا له: وإِن جاهداك. قوله تعالى: لِتُشْرِكَ بِي معناه: لتشرك بي شريكاً لا تَعْلَمه لي وليس لأحد بذلك عِلْم، فَلا تُطِعْهُما. قوله تعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي: في زُمرة الصَّالحين في الجنة. وقال مقاتل: «في» بمعنى «مع» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: (1086) أحدها: أنَّها نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون إٍلى بدر فارتدُّوا، رواه عكرمة عن ابن عباس. (1087) والثاني: نزلت في قوم كانوا يؤمنون بألسنتهم، فاذا أصابهم بلاءٌ من الله تعالى أو مصيبة

_ النهدي أن سعد بن مالك قال: نزلت فيّ هذه الآية وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال: كنت رجلاً بَرّاً بأُمِّي فلمَّا أسلمتُ قالت: يا سعد ما هذا الدِّين الذي قد أحدثتَ؟ لَتَدَعنَّ دِينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموتَ فتُعيَّر بي فيقال: يا قاتل أمه ... » فذكره بتمامه. وأخرجه مسلم ص 1877 ح 1748 والترمذي 3189 وأبو يعلى 782 من حديث سعد قال: «وحلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل، ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك آمرك بهذا قال: مكثت ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد، فقال ابن لها يقال له عمارة: نسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ ... » وله تتمة عند مسلم. أخرجه الطبري 27706 بأتم منه، وإسناده لا بأس به لأجل محمد بن شريك، وباقي الإسناد ثقات. أخرجه الطبري 27703 عن مجاهد مرسلا، وعزاه السيوطي في «الدر» 5/ 270 إلى ابن أبي شيبة والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 إلى 13]

في أنفسهم وأموالهم افتتنوا، قاله مجاهد. (1088) والثالث: نزلت في ناس من المنافقين بمكة، كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا أو أصابهم بلاءٌ من المشركين رجعوا إِلى الشِّرك، قاله الضحاك. (1089) والرابع: أنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، كان أسلم، فخاف على نفسه من أهله وقومه، فخرج من مكة هارباً إِلى المدينة، وذلك قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى المدينة، فجزعت أمُّه فقالت لأخويه أبي جهل والحارث ابني هشام- وهما أخواه لأمِّه-: والله لا آوي بيتاً ولا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تأتياني به، فخرجا في طلبه فظفرا به، فلم يزالا به حتى تابعهما وجاءا به إِليها، فقيَّدتْه، وقالت: والله لا أحُلُّك من وَثاقك حتى تكفُر بمحمد، ثم أقبلت تَجْلِده بالسِّياط وتعذِّبه حتى كفر بمحمد عليه السلام جَزَعاً من الضَّرْب، فنزلت فيه هذه الآية، ثم هاجر بَعْدُ وحَسُنَ إِسلامه، هذا قول ابن السائب، ومقاتل. وفي رواية عن مقاتل أنَّهما جَلَداه في الطريق مائتي جلدة، فتبرَّأ من دين محمد، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي: ناله أذى أو عذاب بسبب إِيمانه جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ أي: ما يصيبه من عذابهم في الدنيا كَعَذابِ اللَّهِ في الآخرة وإِنما ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله تعالى لِمَا يرجو من ثوابه وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ يعني: دولة للمؤمنين لَيَقُولُنَّ يعني المنافقين للمؤمنين إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ على دينكم، فكذَّبهم الله تعالى وقال: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإِيمان والنفاق. وقد فسرنا الآية التي تلي هذه في أوّل السّورة. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) قوله تعالى: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا يعنون: ديننا. قال مجاهد: هذا قول كفار قريش لمن آمن من أهل مكة، قالوا لهم: لا نُبعَث نحن ولا أنتم فاتَّبِعونا، فان كان عليكم شيء فهو علينا. قوله تعالى: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ قال الزجاج: هو أمر في تأويل الشرط والجزاء، يعني إِن اتَّبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم. وقال الأخفش: كأنّهم أمروا أنفسهم بذلك. وقرأ الحسن: «ولِنَحمل» بكسر اللام. قال ابن قتيبة: الواو زائدة، والمعنى: لنحمل خطاياكم. قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي: فيما ضمنوا من حمل خطاياهم. قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أي: أوزار أنفسهم وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي: أوزاراً مع أوزارهم، وهي أوزار الذين أضلُّوهم، وهذا كقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «1»

_ أخرجه الطبري 27704 عن الضحاك مرسلا، فهو ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل وهو ساقط الحديث، ومثله ابن السائب، كلاهما ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 إلى 15]

وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال توبيخ وتقريع عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الكذب على الله عزّ وجلّ وقال مقاتل: عن قولهم نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله تعالى. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاما فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وفي هذه القصة تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلّم حيث أُعلم أن الأنبياء قد ابتُلوا قبلَه، وفيها وعيد شديد لمن أقام على الشّرك. فانهم وإِن أُمهلوا، فقد أُمهل قوم نوح أكثر ثم أُخذوا. قوله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً اختلفوا في عُمُر نوح على خمسة أقوال «1» . أحدها: بُعث بعد أربعين سنة، وعاش في قومه ألف سنة إِلا خمسين عاماً يدعوهم، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس «2» . والثاني: أنَّه لبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، وعاش بعد ذلك سبعين عاماً، فكان مبلغ عُمُره ألف سنة وعشرين سنة، قاله كعب الأحبار. والثالث: أنهُ بعث وهو ابن خمسين وثلاثمائة، فلبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة، قاله عون بن أبي شداد. والرابع: أنَّه لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، ودعاهم ثلاثمائة سنة ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، قاله قتادة. وقال وهب بن منبِّه: بُعث لخمسين سنة. والخامس: أنَّ هذه الآية بيَّنت مقدار عُمُره كلِّه، حكاه الماوردي. فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: «إِلَّا خَمْسِينَ عاماً» ، فهلاَّ قال: تسعمائة وخمسين؟ فالجواب: أنَّ المراد به تكثير العدد، وذِكْر الألف أفخم في اللفظ، وأعظم للعدد. وقال الزجاج: تأويل الاستثناء في كلام العرب: التوكيد، تقول: جاءني إِخوتك إِلا زيداً، فتؤكِّد أَنَّ الجماعة جاءوا، وتنقص زيداً. واستثناء نصف الشيء قبيح جداً لا تتكلّم به العرب، وإنما يتكلّم بالاستثناء كما يتكلّم بالنقصان، تقول: عندي درهم ينقُص قيراطاً، فلو قلت: ينقُص نصفه، كان الأَولى أن تقول: عندي نصف درهم، ولم يأت الاستثناء في كلام العرب إِلاَّ قليل من كثير. قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الموت. (1090) روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ قال: «الموت» . والثاني: المطر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة. قال ابن قتيبة: هو المطر الشديد. والثالث: الغرق، قاله الضحاك. قال الزجاج: الطُّوفان من كل شيء: ما كان كثيراً مطيفاً بالجماعة كلِّها، فالغرق

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبري 15005، و 15009 من حديث عائشة، وإسناده ضعيف جدا فيه يحيى بن يمان عن منهال بن خليفة عن حجاج بن أرطأة، وثلاثتهم ضعفاء. وزاد نسبته في «الدر» 3/ 203 إلى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه. وأخرجه الطبري من طرق متعددة عن مجاهد قوله، وهو الصواب. يلاحظ أن المصنف ذكر هذا الخبر عند هذه الآية، وهو وهم، لإجماعهم أن المراد بالطوفان هاهنا الغرق، وإنما أخرجه الطبري وغيره في سياق قصة موسى مع ذكر الآيات الأخر- منها الجراد والقمل وغير ذلك.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 إلى 18]

الذي يشتمل على المدن الكثيرة: طوفان، وكذلك القتل الذريع، والموت الجارف: طوفان. قوله تعالى: وَهُمْ ظالِمُونَ قال ابن عباس: كافرون. قوله تعالى: وَجَعَلْناها يعني السفينة، قال قتادة: أبقاها الله تعالى آية للناس بأعلى الجُودِيّ. قال أبو سليمان الدمشقي: وجاز أن يكون أراد: الفعلة التي فعلها بهم من الغرق آيَةً، أي عِبرة لِلْعالَمِينَ بعدهم. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 18] وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) قوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ قال الزجّاج: هو معطوف على نوح، والمعنى: أرسلنا إِبراهيم. قوله تعالى: ذلِكُمْ يعني عبادة الله خَيْرٌ لَكُمْ من عبادة الأوثان إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما هو خير لكم مما هو شر لكم والمعنى: ولكنكم لا تعلمون. إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً قال الفراء: «انَّما» في هذا الموضع حرف واحد، وليست على معنى «الذي» ، وقوله تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً مردود على «إِنما» ، كقولك: إِنما تفعلون كذا، وإِنما تفعلون كذا. وقال مقاتل: الأوثان: الأصنام. قال ابن قتيبة: واحدها وثن، وهو ما كان من حجارة أو جِصّ. قوله تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً وقرأ ابن السميفع، وأبو المتوكل: «وتختلقون» بزيادة تاءٍ. ثم فيه قولان: أحدهما: تختلقون كذباً في زعمكم أنَّها آلهة. والثاني: تصنعون الأصنام فالمعنى: تعبدون أصناماً أنتم تصنعونها. ثم بيَّن عجزهم بقوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي: لا يقدرون على أن يرزقوكم فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أي: فاطلبوا من الله تعالى، فانَّه القادر على ذلك. قوله تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا هذا تهديد لقريش فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ والمعنى: فأهلكوا. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 23] أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) أَوَلَمْ يَرَوْا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «يَرَواْ» بالياء. وقرأ حمزة، والكسائي: بالتاء. وعن عاصم كالقراءتين. وعنى بالكلام كفّار مكّة كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي: كيف يخلُقهم ابتداءً من نطفة، ثم من مُضغة إِلى أن يتم الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ أي: ثم هو يُعيده في الآخرة عند البعث. وقال أبو عبيدة: مجازه: أولم يَرَوا كيف استأنف الله الخلق الأوَّل ثم يعيده. وفيه لغتان: أبدأ وأعاد، وكان مُبدئاً ومُعيداً، وبدأ وعاد، وكان بادئاً وعائداً.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 إلى 25]

قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني الخَلْق الأول والخَلْق الثاني. قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: انظروا إِلى المخلوقات التي في الأرض، وابحثوا عنها هل تجدون لها خالقا غير الله عزّ وجلّ، فاذا علموا أنه لا خالق لهم سواه، لزمتهم الحجّة في الإعادة، وهو قوله تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي: ثمّ الله تعالى ينشئهم عند البعث نشأة أخرى. وأكثر القراء قرءوا: «النَّشْأة» بتسكين الشين وترك المد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «النَّشاءَة» بالمد. قوله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فيه قولان: أحدهما: أنَّه في الآخرة بعد إِنشائهم. والثاني: أنَّه في الدنيا. ثم فيه خمسة أقوال حكاها الماوردي: أحدها: يعذِّب من يشاء بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة. والثاني: يعذِّب بسوء الخُلُق، ويرحم بحُسْن الخُلُق. والثالث: يعذِّب بمتابعة البدعة، ويرحم بملازمة السُّنَّة. والرابع: يعذِّب بالانقطاع إِلى الدنيا، ويرحم بالإِعراض عنها. والخامس: يعذِّب من يشاء ببغض الناس له، ويرحم من يشاء بحبِّ الناس له. قوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي: تُرَدُّون. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ فيه قولان حكاهما الزجاج: أحدهما: وما أنتم بمعجزين في الأرض، ولا أهلُ السماء بمعجزين في السماء. والثاني: وما أنتم بمعجزين في الأرض، ولا لو كنتم في السماء. وقال قطرب: هذا كقولك: ما يفوتني فلان لا ها هنا ولا بالبصرة، أي: ولا بالبصرة لو صار إِليها. قال مقاتل: والخطاب لكفار مكة والمعنى: لا تَسبقون الله حتى يجزيَكم بأعمالكم السيِّئة، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: قريب ينفعكم وَلا نَصِيرٍ يمنعكم من الله تعالى. قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أي: بالقرآن والبعث أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي في الرحمة قولان: أحدهما: الجنة، قاله مقاتل. والثاني: العفو والمغفرة، قاله أبو سليمان. قال ابن جرير: وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 25] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) ثم عاد الكلام إِلى قصة إِبراهيم، وهو قوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي: حين دعاهم إلى الله تعالى ونهاهم عن الأصنام إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ وهذا بيان لسفه أحلامهم حين قابلوا احتجاجه عليهم بهذا. قوله تعالى: فَأَنْجاهُ اللَّهُ المعنى: فحرَّقوه فأنجاه الله مِنَ النَّارِ. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يشير إِلى إِنجائه إِبراهيم. قوله تعالى: وَقالَ يعني إِبراهيم إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ» بالرفع والإِضافة. قال الزجاج: «مَوَدَّةُ» مرفوعة باضمار «هي» كأنه قال: تلك مَوَدةُ بينِكم، أي: أُلفتكم واجتماعكم على الأصنام مَوَدَّةُ بينِكم والمعنى: إِنَّما اتخذتم هذه الأوثان لتتوادُّوا بها في الحياة الدنيا. ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي. وقرأ ابن عباس، وسعيد بن المسيّب، وعكرمة، وابن أبي عبلة: «مَوَدَّةٌ» بالرفع «بَيْنَكُمْ» بالنصب. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «مَوَدَّةً بَيْنَكم» قال أبو علي: المعنى: اتَّخذتم الأصنام للمودَّة، و «بينَكم» نصب على الظرف،

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 إلى 30]

والعامل فيه «المودَّة» . وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «مَوَدَّةَ بَيْنِكُم» بنصب «مَوَدَّةَ» مع الإِضافة، وهذا على الاتساع في جعل الظرف اسماً لِما أُضيف إِليه. قال المفسرون: معنى الكلام: إِنَّما اتَّخذتموها لِتَتَّصِلَ المودَّة بينكم واللِّقاء والاجتماع عندها، وأنتم تعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي: يتبرَّأ القادة من الأتباع وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يلعن الأتباعُ القادةَ لأنَّهم زيَّنوا لهم الكفر. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 30] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) قوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي: صدَّق بابراهيم وَقالَ يعني إِبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي فيه قولان: أحدهما: إِلى رضى ربِّي. والثاني: إِلى حيث أمرني ربِّي، فهاجر من سواد العراق إِلى الشام وهجر قومه المشركين. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ بعد إِسماعيل وَيَعْقُوبَ من إِسحاق وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وذلك أن الله تعالى لم يبعث نبيّاً بعد إِبراهيم إِلاَّ مِنْ صُلبه وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا فيه أربعة أقوال: أحدها: الذِّكْر الحسن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: الثناء الحسن والولد الصالح، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: العافية والعمل الحسن والثناء، فلست تَلْقى أحداً من اهل الملَل إِلاَّ يتولاَّه، قاله قتادة. والرابع: أنه أُري مكانَه من الجنة، قاله السدي. قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن جرير: له هناك جزاء الصَّالحين غير منقوص من الآخرة بما أُعطي في الدنيا من الأجر. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله تعالى: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا يعترضون مَنْ مَرَّ بهم لعملهم الخبيث، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا إِذا جلسوا في مجالسهم يرمون ابن السبيل بالحجارة، فيقطعون سبيل المسافر، قاله مقاتل. والثالث: أنه قطع النسل للعدول عن النساء إِلى الرجال، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال ابن قتيبة: النادي: المجلس، والمُنْكَر يجمع الفواحش من القول والفعل. وللمفسرين في المراد بهذا المُنْكَر أربعة أقوال: (1091) أحدها: أنهم كانوا يَحْذِفون أهل الطريق ويسخرون منهم، فذلك المنكر، روته أمّ هانئ

_ ضعيف جدا، والمتن منكر. أخرجه الترمذي 3190 وأحمد 6/ 341 و 424 والطبري 27743 والحاكم 2/ 409 والطبراني 24/ 1001 وابن أبي الدنيا في «الصمت» 282 من طرق من حديث أم هانئ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث حاتم عن سماك. وإسناده ضعيف جدا، سماك بن حرب تغير حفظه بآخره لذا ضعفه غير واحد، وأبو صالح- واسمه باذام، ويقال باذان- ضعفه غير واحد، وتركه آخرون، وهو ضعيف جدا، روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. - وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 418 من طريق بشر بن معاد بهذا الإسناد. وأخرجه الطيالسي 1617 والطبراني 24/ 1002 من طريق قيس بن الربيع عن سماك به. - وأخرجه الطبري 27745 والطبراني 24/ 1000 من طريق أبي يونس القشيري عن سماك به. الخلاصة: الإسناد ضعيف جدا، والمتن منكر، فإن المنكر المراد في الآية أعظم من حذف المارة والسخرية منهم، بل يشمل اللواط وغيره.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 إلى 35]

بنت أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقال عكرمة والسدي: كانوا يَحْذِفون كلَّ مَنْ مَرَّ بهم. والثاني: لَفُّ القميص على اليد، وجرُّ الإِزار، وحَلُّ الأزرارِ، والحذف والرمي بالبندق، ولعب الحمام، والصَّفير، في خصال أُخَر رواها ميمون بن مهران عن ابن عباس. والثالث: أنه الضُّراط، رواه عروة عن عائشة، وكذلك فسّره القاسم بن محمد. والرابع: أنه إِتيان الرجال في مجالسهم، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. وهذه الآية تدل على أنه لا ينبغي للمجتمعين أن يتعاشروا إِلا على ما يقرِّب من الله عزّ وجلّ، ولا ينبغي ان يجتمعوا على الهزء واللعب. قوله تعالى: رَبِّ انْصُرْنِي أي: بتصديق قولي في العذاب. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 35] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) قوله تعالى: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعنون قرية لوط. قوله تعالى: لَنُنَجِّيَنَّهُ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: «لَنُنَجِّيَنَّه» و «إِنَّا مُنَجُّوكَ» بتشديد الحرفين، وخفّفهما حمزة، والكسائيّ. وروى أبو بكر عن عاصم: «لَنُنَجِّيَنَّه» مشددة، و «إِنَّا مُنْجُوكَ» مخففة ساكنة النون. وقد سبق شرح ما أخللنا بذكره «1» إلى قوله تعالى: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً وهو الحَصْب والخسف. قوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها في المكني عنها قولان: أحدهما: أنها الفَعْلة التي فعل بهم فعلى هذا في الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحجارة التي أدركت أوائل هذه الأُمَّة، قاله قتادة. والثاني: الماء الاسود على وجه الأرض، قاله مجاهد. والثالث: الخبر عما صُنع بهم. والثاني: أنها القرية فعلى هذا في المراد بالآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها آثار منازلهم الخَرِبة، قاله ابن عباس.

_ (1) هود: 77.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 إلى 37]

والثاني: أن الآية في قريتهم إِلى الآن أنّ أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها، أسفلها، حكاه أبو سليمان الدمشقي. والثالث: أن المعنى: تركناها آية، تقول: إِن في السماء لآية، تريد أنها هي الآية، قاله الفراء. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) قوله تعالى: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قال المفسرون: اخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 38 الى 40] وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) قوله تعالى: وَعاداً وَثَمُودَ قال الزّجّاج: وأهلكنا عاداً وثموداً، لأن قبل هذا فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ. قوله تعالى: وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي: ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجاز واليمن آية في هلاكهم، وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ قال الفراء: أي: ذوي بصائر. وقال الزجاج: أتوا ما أتوه وقد تبين لهم أن عاقبته عذابهم. وقال غيره: كانوا عند أنفسهم مستبصِرِين يظنون أنهم على حق. قوله تعالى: وَما كانُوا سابِقِينَ أي: ما كانوا يفوتون الله تعالى أن يفعل بهم ما يريد. قوله تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ أي: عاقبْنا بتكذيبه فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً يعني قوم لوط وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعني ثموداً وقوم شعيب وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعني قارون وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا يعني قوم نوح وفرعون وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيعذِّبهم على غير ذنب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالإقامة على المعاصي. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 43] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني الأصنام يتخذها المشركون أولياء يرجون نفعها ونصرها، فمَثَلهم في ضعف احتيالهم كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً قال ثعلب: والعنكبوت أنثى، وقد يذكِّرها بعض العرب، قال الشاعر: كأنَّ العَنْكَبُوتَ هو ابْتَناها «1» قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ أي: هو عالِم بما عبدوه من دونه، لا

_ (1) هو عجز بيت وصدره: على هطّالهم منهم بيوت، والبيت غير منسوب في «اللسان» - عنكب-.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 44 إلى 45]

يخفى عليه ذلك والمعنى أنه يجازيهم على كفرهم. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ يعني أمثال القرآن التي شبّه بها أحوال الكفار، وقيل: إِن «تلك» بمعنى «هذه» ، والْعالِمُونَ الذين يعقلون عن الله عزّ وجلّ. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 44 الى 45] خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: للحق، ولإِظهار الحق. قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ في المراد بالصلاة قولان: أحدهما: أنها الصلاة المعروفة، قاله الأكثرون. (1092) وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ لم تَنْهَهُ صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلّا بعدا» .

_ المرفوع واه ليس بشيء، أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 421 من حديث أنس، وفيه عمر بن شاكر وهو منكر الحديث. وله شاهد من حديث ابن عباس. أخرجه الطبراني 11025 والقضاعي في «الشهاب» 509 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 511 من طريق ليث عن طاوس عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ضعيف، ليث هو ابن أبي سليم. قال عنه الحافظ في «التقريب» : صدوق، اختلط أخيرا، ولم يتميز حديثه فترك. وبه أعله الهيثمي في «المجمع» 1/ 134. وله شاهد من حديث عمران بن حصين، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 511 من طريق عمر بن أبي عثمان عن الحسن عن عمران به. وإسناده ضعيف جدا، وله علتان: عمر هذا لم أجد له ترجمة، والحسن لم يلق عمران، وهو مدلس، وقد عنعن. وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه الطبري 27784 والواحدي 3/ 421 من طريق جويبر عن الضحاك عنه. وهذا إسناد ساقط، جويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن مسعود. وورد من مرسل الحسن، أخرجه الطبري 27785 من طريق إسماعيل بن مسلم عنه. ومع إرساله إسماعيل هذا متروك. وأخرجه القضاعي 508 من وجه آخر عن مقدام بن داود عن علي بن معبد عن هشيم عن يونس عن الحسن مرسلا. ورجاله ثقات سوى مقدام بن داود، فإنه ليس بثقة، قاله النسائي. ولعله توبع، فقد قال العراقي في «تخريج الإحياء» 1/ 143: أخرجه علي بن معبد في كتاب «الطاعة والمعصية» من حديث الحسن بإسناد صحيح. قلت: ومع ذلك مراسيل الحسن واهية لأنه يحدث عن كل أحد. كما هو مقرر في كتب التراجم. وقد خولف علي بن معبد فيه، فقد أخرجه الطبري 27786 عن يعقوب ثنا ابن علية عن يونس عن الحسن. قوله، لم يرفعه. وهذا إسناد رجاله ثقات مشاهير. وأخرجه الطبري 27787 من طريق بشر عن يزيد عن سعيد هو ابن أبي عروبة- عن قتادة والحسن قالا ... فذكره موقوفا عليهما. وهو الصحيح عن الحسن وغيره. وحديث ابن مسعود المتقدم، مع سقوط إسناده، هو معلول بالوقف، كذا أخرجه الطبري 27783 ورجاله ثقات. وحديث ابن عباس، معلول أيضا بالوقف، كذا أخرجه الطبري 27781 لكن فيه من لم يسم. وقال الحافظ ابن كثير 3/ 512: والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم. الخلاصة: المرفوع ضعيف ليس بشيء، والصحيح وقفه على من ذكر من الصحابة والتابعين، والله أعلم. والمتن مع ذلك منكر، فقد صح ما يخالفه، وهو ما أخرجه أحمد 2/ 447 والبزار 720 وابن حبان 2560 من حديث أبي هريرة بسند صحيح «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، فقال: إنه سينهاه ما تقول» . انظر «تفسير الشوكاني» 1887 أو 1888 و «أحكام القرآن» 1733.

[سورة العنكبوت (29) : آية 46]

والثاني: أنّ المراد بالصلاة: القرآن، قاله ابن عمر، ويدلّ على هذا قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ «1» وقد شرحنا معنى الفحشاء والمنكر فيما سبق «2» . وفي معنى هذه الآية للعلماء ثلاثة أقوال: أحدها: أن الإِنسان إِذا أدَّى الصلاة كما ينبغي وتدبَّر ما يتلو فيها، نهته عن الفحشاء والمنكر، هذا مقتضاها وموجبها. والثاني: أنها تنهاه ما دام فيها. والثالث: أن المعنى: ينبغي أن تنهى الصلاةُ عن الفحشاء والمنكر. قوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فيه أربعة أقوال: (1093) أحدها: ولَذِكْرُ الله إِيَّاكم أكبرُ من ذِكْركم إِيَّاه، رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبه قال ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد في آخرين. والثاني: ولَذِكْرُ الله تعالى أفضلُ من كل شيء سواه، وهذا مذهب أبي الدرداء، وسلمان، وقتادة. والثالث: ولَذِكْرُ الله تعالى في الصلاة أكبرُ ممََّا نهاك عنه من الفحشاء والمُنكَر، قاله عبد الله بن عون. والرابع: ولذكر الله تعالى العبدَ- ما كان في صلاته- أكبرُ من ذكر العبد لله تعالى، قاله ابن قتيبة. [سورة العنكبوت (29) : آية 46] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ في التي هي أحسن ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا إله إلا الله، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنها الكفُّ عنهم إِذا بذلوا الجزية، فان أبَواْ قوتِلوا، قاله مجاهد. والثالث: أنها القرآن والدّعاء إلى الله تعالى بالآيات والحُجج. قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وهم الذين نصبوا الحرب وأبَواْ أن يؤدُّوا الجزية، فجادِلوا هؤلاء بالسيف حتى يُسْلِموا أو يُعطوا الجزية وَقُولُوا لِمَن أدَّى الجزية منهم إِذا أخبركم بشيء ممَّا في كتبهم آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الآية. (1094) وقد روى أبو هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التّوراة بالعبرانيّة، ويفسّرونها بالعربية

_ المرفوع ضعيف جدا، والصحيح موقوف. أخرجه ابن الديلمي في «زهر الفردوس» 4/ 165 من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن موسى بن عقبة به عن ابن عمر. وإسناده ضعيف جدا، إسماعيل ضعفه غير واحد، وعنه مجاهيل، والصحيح موقوف على ابن عمر وابن عباس وغيرهما. - وأثر ابن عباس، أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 2256 وابن أبي شيبة 35640 والطبري 27791 و 27792 و 27793 و 27794 و 27797 و 27799 من طرق متعددة عنه موقوفا، وهو الصحيح. صحيح. أخرجه البخاري 4485 و 7362 و 7542 والنسائي في «التفسير» 407 والبغوي 125 من حديث أبي هريرة. ويشهد له حديث أبي نملة. أخرجه عبد الرزاق 20059 وأحمد 4/ 136 وأبو داود 3644 وابن حبان 6257 والطبراني 22/ 874 و 875 كلهم من حديث أبي نملة الأنصاري، ورجاله رجال الشيخين، سوى نملة بن أبي نملة، وهو ثقة. فقد وثقه ابن حبان، وروى عنه جمع منهم الزهري وعاصم ويعقوب ابنا عمر بن قتادة، وضمرة بن سعيد، ومروان بن أبي سعيد، وعلى هذا تزول جهالته حيث روى عنه أكثر من واحد، وقال عنه الحافظ في «التقريب» مقبول.

فصل:

لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذِّبوهم وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» الآية. فصل: واختُلف في نسخ هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نُسخت بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله تعالى: وَهُمْ صاغِرُونَ «1» ، قاله قتادة والكلبي. والثاني: أنها ثابتة الحكم، وهو مذهب ابن زيد. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 الى 49] وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: وكما أنزلنا الكتاب عليهم أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني مؤمني أهل الكتاب وَمِنْ هؤُلاءِ يعني أهل مكة مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وهم الذين أسلموا وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ قال قتادة: إِنَّما يكون الجَحْد بعد المعرفة. قال مقاتل: وهم اليهود. قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ قال أبو عبيدة: مجازه: ما كنت تقرأ قبله كتاباً، و «مِن» زائدة. فأما الهاء في «قَبْله» فهي عائدة إِلى القرآن. والمعنى: ما كنتَ قارئاً قبل الوحي ولا كاتباً، وهكذا كانت صفته في التوراة والإِنجيل أنَّه أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وهذا يدلّ على ان الذي جاء به، من عند الله تعالى. قوله تعالى: إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي: لو كنتَ قارئاً كاتباً لشكَّ اليهودُ فيكَ ولقالوا: ليست هذه صفته في كتابنا. والمُبْطِلون: الذين يأتون الباطل، وفيهم ها هنا قولان: أحدهما: كفار قريش، قاله مجاهد. والثاني: كفار اليهود، قاله مقاتل. قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ في المكنيِّ عنه قولان: أحدهما: أنه النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى: بل وجْدانُ أهل الكتاب في كتبهم أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلّم لا يكتب ولا يقرأ، وأنه أُمِّيٌّ، آياتٌ بيِّنات في صدورهم، وهذا مذهب ابن عباس، والضحاك، وابن جريج. والثاني: أن المعنى: بل محمّد عليه السلام ذو آيات بيِّنات في صدور الذين أوتوا العِلْم من أهل الكتاب، لأنَّهم يجدونه بنعته وصفته، قاله قتادة. والثاني: أنه القرآن، والذين أوتوا العلم: المؤمنون الذين حملوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحملوه بعده. وإِنما أُعطي الحفظ هذه الأمة، وكان من قبلهم لا يقرءون كتابهم إِلاَّ نظراً، فاذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه سوى الأنبياء، وهذا قول الحسن. وفي المراد بالظالمين ها هنا قولان: أحدهما: المشركون، قاله ابن عباس. والثاني: كفّار اليهود، قاله مقاتل. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)

_ (1) التوبة: 29.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 إلى 55]

قوله تعالى: وَقالُوا يعني كفار مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «آياتٌ» على الجمع. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «آيةٌ» على التوحيد. وإِنما أرادوا: كآيات الأنبياء قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو القادر على إِرسالها، وليست بيدي. وزعم بعض علماء التفسير أنّ قوله تعالى: وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ منسوخ بآية السيف. ثم بيّن الله عزّ وجلّ أن القرآن يكفي من الآيات التي سألوها بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ؟! (1095) وذكر يحيى بن جعدة أن ناساً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكتب قد كتبوها، فيها بعض ما يقول اليهود، فلمَّا نظر إِليها ألقاها وقال: «كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عمَّا جاء به نبيُّهم إِلى قوم غيرهم» فنزلت: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ إِلى آخر الآية. قوله تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ قال المفسرون: لمَّا كذَّبوا بالقرآن نزلت: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَشهَد لي أنِّي رسوله، ويشهد عليكم بالتكذيب، وشهادةُ الله له: إِثبات المعجزة له بانزال الكتاب عليه، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس: بغير الله تعالى. وقال مقاتل: بعبادة الشيطان. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) قوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ قال مقاتل: نزلت في النَّضْر بن الحارث حين قال: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» . وفي الأجل المسمى أربعة أقوال. أحدها: أنه يوم القيامة، قاله سعيد بن جبير. والثاني: أجل الحياة إِلى حين الموت، وأجل الموت إِلى حين البعث، قاله قتادة. والثالث: مُدَّة أعمارهم، قاله الضحاك. والرابع: يوم بدر، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ يعني العذاب. وقرأ معاذ القارئ، وأبو نهيك، وابن أبي عبلة: «ولَتَأْتِيَنَّهم» بالتاء بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ باتيانه. قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي:

_ مرسل. أخرجه الطبري 27838 عن يحيى بن جعدة بهذا اللفظ، وهذا مرسل. - وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» 5/ 283 كلهم عن يحيى بن جعدة. بدون لفظ «فلما أن نظر فيها ألقاها» إنما- فقال: «كفى بها حماقة أو ضلالة قوم، أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم، إلى ما جاء به غير نبيُّهم إِلى قوم غيرهم» فنزلت: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ... الآية- ولمعناه شواهد.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 إلى 60]

جامعة لهم. قوله تعالى: وَيَقُولُ ذُوقُوا قرأ ابن كثير: بالنون. وقرأ نافع: بالياء. فمن قرأ بالياء، أراد الملَك الموكَّل بعذابهم، ومن قرأ بالنون، فلأنَّ ذلك لمَّا كان بأمر الله تعالى جاز أن يُنسَب إِليه. ومعنى ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: جزاء ما عملتم من الكفر والتّكذيب. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60] يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: يا عِبادِيَ بتحريك الياء. وقرأ أبو عمرو، والكسائي: باسكانها. قوله تعالى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ وقرأ ابن عامر وحده: «أرضيَ» بفتح الياء، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خطاب لِمَن آمن مِنْ أهل مكة، قيل لهم: «إِن أرضي» يعني المدينة «واسعة» ، فلا تجاوروا الظَّلَمة في أرض مكة، قاله أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال مقاتل: نزلت في ضُعفاء مُسْلِمي مكة، أي: إِن كنتم في ضيق بمكة من إِظهار الإِيمان، فارض المدينة واسعة. والثاني: أن المعنى: إِذا عُمل بالمعاصي في أرض فاخرجوا منها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عطاء. والثالث: إِنَّ رزقي لكم واسع، قاله مطرف بن عبد الله. قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ أثبت فيها الياء يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون. قال الزجّاج: أمرهم بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله إِلى حيث تتهيَّأُ لهم العبادة ثم خوَّفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة، فقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ المعنى: فلا تُقيموا في دار الشِّرك خوفاً من الموت ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ بعد الموت فنجزيكم بأعمالكم، والأكثرون قرءوا: «تُرْجَعون» بالتاء على الخطاب وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء. قوله تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ» بالباء، أي: لَنُنْزِلَنَّهم. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «لَنُثْوِيَنَّهُمْ» بالثاء، وهو من: ثويتُ بالمكان: إِذا أقمت به. قال الزجاج: يقال: ثوى الرجل: إِذا أقام، وأثويتُه: إِذا أنزلتَه منزلاً يُقيم فيه. قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا. قال ابن عباس: (1096) لمّا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالخروج إِلى المدينة، قالوا: يا رسول الله، نخرُج إِلى المدينة وليس لنا بها عقار ولا مال؟! فمن يؤوينا ويطعمنا؟ فنزلت هذه الآية. قال ابن قتيبة: ومعنى الآية: كم مِنْ دابَّة لا ترفَعُ شيئاً لغدٍ، قال ابن عُيَيْنَةَ: ليس شيءٌ يَخْبَأُ إِلا الإِنسانُ والفأرةُ والنملة. قال المفسرون وقوله: اللَّهُ يَرْزُقُها أي: حيث ما توجّهت وَإِيَّاكُمْ أي:

_ لم أقف عليه مسندا. وذكر الواحدي في الوسيط 424 نحوه عن مقاتل بدون إسناد، فهو لا شيء، ومقاتل إن كان ابن حيان، فقد روى مناكير، وإن كان ابن سليمان فهو كذاب.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 إلى 63]

ويرزُقكم إِن هاجرتم إِلى المدينة وَهُوَ السَّمِيعُ لقولكم: لا نجد ما نُنْفِق بالمدينة الْعَلِيمُ بما في قلوبكم. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 63] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعني كفار مكة، وكانوا يُقِرُّون بأنه الخالق والرَّازق وإِنَّما أمَره أن يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ على إِقرارهم، لأن ذلك يُلزمهم الحُجَّة فيوجِب عليهم التوحيد بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ توحيد الله مع إِقرارهم بأنه الخالق. والمراد بالأكثر: الجميع. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 66] وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) قوله تعالى: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ والمعنى: وما الحياةُ في هذه الدنيا إِلا غرور ينقضي عن قليل وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني الجنة لَهِيَ الْحَيَوانُ قال أبو عبيدة: اللام في «لَهِيَ» زائدة للتوكيد، والحيوان والحياة واحد والمعنى: لهي دارُ الحياة التي لا موتَ فيها، ولا تنغيص يشوبها كما يشوب الحياة في الدُّنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي: لو علموا لرغبوا عن الفاني في الباقي، ولكنهم لا يَعْلَمون. قوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ يعني المشركين دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: أفردوه بالدُّعاء. قال مقاتل: والدِّين بمعنى التوحيد والمعنى أنهم لا يَدْعُون مَنْ يَدْعُونه شريكاً له، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ أي: خلَّصهم من أهوال البحر، وأَفْضَوا إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ في البَرّ، وهذا إِخبار عن عنادهم لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ هذه لام الأمر، ومعناه التّهديد والوعيد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1» والمعنى: ليَجْحَدوا نِعْمة الله في إِنجائه إِيَّاهم وَلِيَتَمَتَّعُوا قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي باسكان اللام على معنى الأمر والمعنى: ليتمتعوا بباقي أعمارهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم. وقرأ الباقون بكسر اللام في «لِيَتَمتَّعُوا» ، فجعلوا اللاَّمين بمعنى «كي» ، فتقديره: لكي يكفُروا، ولكي يَتَمتَّعوا، فيكون معنى الكلام: إِذا هم يُشْرِكون ليكفُروا ولِيتمتَّعوا، أي: لا فائدة لهم في الإِشراك إِلاّ الكفر والتمتُّع بما يتمتَّعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في الآخرة. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 67 الى 69] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

_ (1) فصلت: 40.

قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا يعني كفار مكة أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً يعني مكة، وقد شرحنا هذا المعنى في سورة القصص «1» وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أي: أن العرب يَسْبي بعضهم بعضاً وأهلُ مكة آمنون أَفَبِالْباطِلِ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: الشِّرك، قاله قتادة. والثاني: الأصنام، قاله ابن السائب. والثالث: الشيطان، قاله مقاتل. قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وعاصم الجحدري: «تُؤْمِنونَ وبنِعمة الله تكفُرونَ» بالتاء فيهما. قوله تعالى: وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يعني: محمداً والإِسلام، وقيل: بانعام الله عليهم حين أطعمهم وآمنهم يَكْفُرُونَ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: زعم أن له شريكاً وأنه أمر بالفواحش أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ يعني محمداً والقرآن أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟! وهذا استفهام بمعنى التقرير، كقول جرير: ألَسْتُمْ خَيْرَ من ركب المطايا «2» وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أي: قاتلوا أعداءنا لأجلنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي: لَنُوَفّقَنَّهم لإِصابة الطريق المستقيمة وقيل: لَنَزِيدنَّهم هِدايَة وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنُّصرة والعون. قال ابن عباس: يريد بالمُحْسِنِين: الموحِّدين وقال غيره: يريد المجاهدين. وقال ابن المبارك: من اعتاصت عليه مسألة، فليسأل أهل الثّغور عنها، لقوله تعالى: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا. والله أعلم بالصّواب

_ (1) القصص: 57. (2) هو صدر بيت لجرير كما في ديوانه: 98. وعجزه: وأندى العالمين بطون راح.

سورة الروم

سورة الرّوم وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ. (1097) ذكر أهل التفسير في سبب نزولها أنه كان بين فارس والروم حرب فغلبت فارس الرُّومَ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابَه، فشقَّ ذلك عليهم، وفرح المشركون بذلك، لأنَّ فارس لم يكن لهم كتاب وكانوا يجحدون البعث ويعبُدون الأصنام، والرُّوم أصحاب كتاب، فقال المشركون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أُمِّيُونَ، وقد ظهر إِخواننا من أهل فارس على إِخوانكم من الرُّوم، فان قاتلتمونا لَنَظْهَرَنَّ عليكم، فنزلت هذه الآية، فخرج بها أبو بكر الصديق إِلى المشركين، فقالوا: هذا كلام صاحبك؟ فقال: اللهُ أَنزل هذا، فقالوا لأبي بكر: نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس، فقال أبو بكر: البِضْع ما بين الثلاث إِلى التسع، فقالوا: الوسط من ذلك ست، فوضعوا الرِّهان، وذلك قبل أن يُحرَّم الرِّهان، فرجع أبو بكر إِلى أصحابه فأخبرهم، فلاموه وقالوا: هلاَّ أقررتَها كما أقرَّها الله تعالى؟! لو شاء أن يقول: ستاً، لقال! فلمَّا كانت سنة ست، لم تظهر الروم على فارس، فأخذوا الرهان، فلمَّا كانت سنة سبع ظهرت الرُّومُ على فارس. (1098) وروى ابن عباس قال: لمَّا نزلت: آلم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ ناحب أبو بكر قريشا، فقال له

_ حديث صحيح بشواهده، دون بعض ألفاظ سأذكرها منكرة ليس لها شواهد. أخرجه الترمذي 3194 من طريق إسماعيل بن أويس عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم به. وإسناده لين، إسماعيل بن أبي أويس، وثقه قوم وضعفه آخرون. وقد تفرد في هذا الحديث بألفاظ منها «فأخذ المشركون رهن أبي بكر» غريب، فعامة الروايات تذكر الخطر، من غير بيان أنه أبو بكر أو أخذه المشركون. على أنه ورد من حديث البراء أن أبا بكر هو أخذ الرهن. وقد ذكر الألباني هذا الحديث في «صحيح الترمذي» 2552 فحسنة من غير تفصيل وبيان لما فيه من ألفاظ غريبة أو منكرة، والله الموفق. وانظر «فتح القدير» 1902 و «تفسير القرطبي» 4890 و «أحكام القرآن» 1738 بتخريجنا، والله أعلم. صحيح. أخرجه الترمذي 3191 والطبري 7866 عن ابن عباس، وهو مختصر، وإسناده غير قوي لأجل عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي. ولحديث ابن عباس طريق آخر، أخرجه الترمذي 3193 والنسائي في «الكبرى» 11389 وفي «التفسير» 409 وأحمد 1/ 276- 304 والحاكم 2/ 410 والطبراني 12/ 12377 والطبري 27865 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 330- 331 من طرق عن أبي إسحاق الفزاري عن الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، أبو إسحاق هو إبراهيم بن محمد الحارث روى له الشيخان، ومن دونه توبعوا، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح. وهذا المتن أصح شيء في الباب، ولأصله شواهد كثيرة منها الآتي لكن في بعض ألفاظها نكارة وغرابة أحيانا. وله طريق آخر، أخرجه الطبري 27867، وفي الإسناد مجاهيل، وفيه أيضا عطية العوفي، وهو واه. وله شاهد عن ابن مسعود، أخرجه الطبري 27876، وفيه إرسال بين الشعبي وابن مسعود، ورجال الإسناد ثقات. وله شاهد عن البراء بن عازب، أخرجه أبو يعلى كما في «المطالب العالية» 3698، وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 522 وإسناده ضعيف، فيه مؤمل بن إسماعيل، وضعفه غير واحد لسوء حفظه. وفي الباب مراسيل تشهد لأصله منها: مرسل عكرمة: أخرجه الطبري 27872 وكرره 27873. مرسل قتادة: أخرجه الطبري 27874. مرسل ابن زيد: أخرجه الطبري 27878. - الخلاصة هو حديث صحيح، له شواهد وطرق كما ترى، وفي بعض ألفاظ تلك الشواهد والطرق نكارة أحيانا وغرابة أحيانا أخرى، لكن مع ذلك تشهد لأصل هذا الحديث: وتدل على ثبوته، والله أعلم. - وانظر «تفسير القرطبي» 4889 و 480 و 4891 و «فتح القدير» 1900 و 1901 و 1902 و 1903 و «أحكام القرآن» 1737 وهي جميعا بتخريجنا، والله الموفق.

رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألا احتطتَ، فانَّ البِضْع ما بين السبع والتسع» . وذكر بعضهم أنهم ضربوا الأجَل خمس سنين، وقال بعضهم: ثلاث سنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِنما البِضْع ما بين الثلاث إِِلى التسع» فخرج أبو بكر فقال لهم: أُزايدُكم في الخطر وأَمُدُّ في الأجَل إِلى تسع سنين، ففعلوا، فقهرهم أبو بكر، وأخذ رهانهم. وفي الذي تولَّى وضع الرهان من المشركين قولان: أحدهما: أُبيُّ بن خلف، قاله قتادة. والثاني: أبو سفيان بن حرب، قاله السدي. قوله تعالى: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وقرأ أُبيُّ بن كعب، والضحاك، وأبو رجاء، وابن السميفع: «في أَداني الأرض» بألف مفتوحة الدال أي: أقرب الأرض أرض الروم إِلى فارس. قال ابن عباس: وهي طرف الشام. وفي اسم هذا المكان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إِلى فارس، قاله مجاهد. والثاني: أذْرِعات وكَسْكَر، قاله عكرمة. والثالث: الأردنُّ وفلسطين، قاله السدي. قوله تعالى: وَهُمْ يعني الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ وقرأ أبو الدرداء، وأبو رجاء، وعكرمة، والأعمش: «غَلْبهم» بتسكين اللام أي: من بعد غلبة فارس إِيَّاهم، والغَلَب والغَلَبة لغتان، سَيَغْلِبُونَ فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ، في البِضْع تسعة أقوال قد ذكرناها في يوسف «1» . قال المفسّرون: وهي ها هنا سبع سنين، وهذا من علم الغيب الذي يدل على أن القرآن حق، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي: من قبل ان تُغلَب الروم ومِنْ بَعْد ما غَلبت والمعنى أن غَلَبة الغالب وخِذْلان المغلوب، بأمر الله عزّ وجلّ وقضائه وَيَوْمَئِذٍ يعني يوم غلبت الرومُ فارس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ للروم. وكان التقاء الفريقين في السنة السابعة من غَلَبة فارس إيّاهم، فغلبتهم الرّوم، وجاء

_ (1) يوسف: 42.

[سورة الروم (30) : الآيات 6 إلى 8]

جبريلُ يخبر بنصر الروم على فارس، فوافق ذلك يوم بدر، وقيل: يوم الحديبية «1» . [سورة الروم (30) : الآيات 6 الى 8] وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) قوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ أي: وَعَدَ اللهُ ذلك وَعْداً لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أنَّ الرُّوم يَظهرون على فارس وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعني كفّار مكّة لا يَعْلَمُونَ أنّ الله تعالى لا يُخْلِف وعده في ذلك. ثم وصف كفار مكة، فقال: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا قال عكرمة: هي المعايش. وقال الضحاك: يعلمون بنيان قصورها وتشقيق أنهارها. وقال الحسن: يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم، ولقد بلغ واللهِ مِنْ عِلْم أحدهم بالدنيا أنه ينقُر الدرهم بظُفره فيُخبرك بوزنه ولا يُحسن يصلِّي. قوله تعالى: وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ لأنهم لا يؤمنون بها. قال الزجاج: وذِكْرهم ثانية يجري مجرى التوكيد، كما تقول: زيد هو عالم، وهو أوكد من قولك: زيد عالم. قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قال الزّجّاج: معناه: أو لم يتفكروا فيعلموا فحذف «فيعلموا» لأن في الكلام دليلاً عليه. ومعنى إِلَّا بِالْحَقِّ: إِلاَّ للحق، أي: لإِقامة الحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت الجزاء وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ المعنى: لكافرون بلقاء ربِّهم، فقدِّمت الباء، لأنها متّصلة ب «كافرون» وما اتصل بخبر «إِنَّ» جاز أن يقدَّم قبل اللام، ولا يجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر من غير خلاف بين النحويين، لا يجوز أن تقول: إِن زيداً كافرٌ لَبِالله، لأن اللام حَقُّها أن تدخل على الابتداء والخبر أو بين الابتداء والخبر، لأنها تؤكِّد الجملة. وقال مقاتل في قوله تعالى: وَأَجَلٍ مُسَمًّى: للسّماوات والأرض أَجَل ينتهيان إِليه، وهو يوم القيامة وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعني كفار مكة بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي: بالبعث لَكافِرُونَ. [سورة الروم (30) : الآيات 9 الى 11] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: أو لم يسافروا فينظروا مصارع الأُمم قبلهم كيف أُهلكوا بتكذيبهم فيعتَبروا. قوله تعالى: وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي: قلبوها للزراعة، ومنه قيل للبقرة: مثيرة. وقرأ أبيّ بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو حيوة: «وآثَرُوا الأرض» بمد الهمزة وفتح الثاء مرفوعة الراء، وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي: أكثر من عِمارة أهل مكة، لطول أعمار أولئك وشدّة قوّتهم وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ

_ (1) هذا منكر فإن السورة مكية جميعا باتفاق.

[سورة الروم (30) : الآيات 12 إلى 16]

بِالْبَيِّناتِ أي: بالدَّلالات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بتعذيبهم على غير ذنب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر والتكذيب ودلَّ هذا على أنهم لم يؤمنوا فأُهلكوا. ثم أخبر عن عاقبتهم فقال: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى يعني الخَلَّة السيِّئة وفيها قولان: أحدهما: أنها العذاب، قاله الحسن. والثاني: جهنم، قاله السدي. قوله تعالى: أَنْ كَذَّبُوا قال الفراء: لأن كذَّبوا، فلمَّا أُلقيت اللامُ كان نصباً، وقال الزجاج: لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم. وقيل: السُّوأى مصدر بمنزلة الإِساءَة فالمعنى: ثم كان التكذيب آخرَ أمرهم، أي: ماتوا على ذلك، كأنَّ الله تعالى جازاهم على إِساءَتهم أن طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب عقوبةً لهم. وقال مكي بن أبي طالب النحوي: «عاقبةُ» اسم كان، و «السُّوأى» خبرها، و «أن كذَّبوا» مفعول من أجله ويجوز أن يكون «السُّوأى» مفعولة ب «أساؤوا» ، و «أن كذَّبوا» خبر كان، ومن نصب «عاقبةَ» جعلها خبر «كان» ، و «السُّوأى» اسمها، ويجوز أن تكون «أن كذَّبوا» اسمها. وقرأ الأعمش: «أساؤوا السُّوءُ» برفع السّوء» . قوله تعالى: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي: يخلُقهم أوّلاً، ثم يعيدهم بعد الموت أحياءً كما كانوا، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «تُرْجَعون» بالتاء فعلى هذا يكون الكلام عائداً من الخبر إِلى الخطاب، وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: بالياء، لأن المتقدِّم ذِكْره غَيبة، والمراد بذِكر الرجوع: الجزاءُ على الأعمال، والخَلْق بمعنى المخلوقين، وإِنما قال: «يُعِيده» على لفظ الخلق. [سورة الروم (30) : الآيات 12 الى 16] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) قوله تعالى: يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ قد شرحنا الإِبلاس في سورة الأنعام «1» . قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ أي: من أوثانهم التي عبدوها شُفَعاءُ في القيامة وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يتبرَّؤون منها وتتبرَّأ منهم. قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ وذلك بعد الحساب ينصرف قوم إِلى الجنة، وقوم إِلى النار. قوله تعالى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ الرَّوضة: المكان المخضرُّ من الأرض وإِنَّما خصَّ الروضة، لأنها كانت أعجب الأشياء إِلى العرب قال أبو عبيدة: ليس شيءٌ عند العرب أحسنَ من الرياض المُعْشِبة ولا أطيبَ ريحاً، قال الأعشى: مَا رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ يَوْماً بأطْيَبَ مِنْها نَشْرَ رائحَةٍ ... وَلا بأحْسَنَ مِنْها إِذ دَنا الأُصُلُ «2» قال المفسرون: والمراد بالروضة: رياض الجنة. وفي معنى «يُحْبَرون» أربعة أقوال: أحدها:

_ (1) الأنعام: 44. (2) في «اللسان» : السّبل: المطر، وقيل: المطر السبل. وقد أسبلت السماء، وأسبل المطر.

[سورة الروم (30) : الآيات 17 إلى 19]

يُكْرَمون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: ينعمون، قاله مجاهد، وقتادة. وقال الزجاج: والحَبْرَة في اللغة: كل نَغْمَةَ حسنَة. والثالث: يفرحون، قاله السدي. وقال ابن قتيبة: «يُحْبَرون» يُسَرُّون، والحَبْرَة السُّرور. والرابع: أن الحَبْر: السّماع في الجنّة، فإذ أخذ أهل الجنة في السماع، لم تبق شجرة إِلاَّ ورَّدت، قاله يحيى بن أبي كثير. وسئل يحيى بن معاذ: أيّ الأصوات أحسن؟ فقال: مزامير أُنس، في مقاصير قُدس، بألحان تحميد، في رياض تمجيد فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «1» . قوله تعالى: فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي: هم حاضرون العذاب أبداً لا يخفَّف عنهم. [سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) ثم ذكر ما تُدْرَك به الجنة ويُتباعَد به من النار فقال: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ قال المفسّرون: المعنى: فصلّوا لله عزّ وجلّ حين تُمسون، أي: حين تدخُلون في المساء وَحِينَ تُصْبِحُونَ أي: تدخلون في الصّباح، وتُظْهِرُونَ تدخُلون في الظهيرة، وهي وقت الزَّوال، وَعَشِيًّا أي: وسبِّحوه عشيّاً. وهذه الآية قد جمعت الصّلوات الخمس، فقوله تعالى: «حين تُمسون» يعني به صلاة المغرب والعشاء، «وحين تصبحون» يعني به صلاة الفجر، «وعشيّاً» العصر، و «حين تُظْهِرونَ» الظُّهر. قوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: يَحْمَده أهل السموات وأهل الأرض ويصلُّون له. قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فيه أقوال قد ذكرناها في سورة آل عمران «2» . قوله تعالى: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي: يجعلها مُنْبِتة بعد أن كانت لا تُنْبِت، وتلك حياتها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تُخْرَجون» بضم التاء، وفتحها حمزة والكسائي والمراد: تخرجون يوم القيامة من الأرض، أي: كما أحيا الأرض بالنبات يُحييكم بالبعث. [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 29] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)

_ (1) القمر: 55. (2) آل عمران: 27.

قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أي: من دلائل قدرته أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم لأنه أصل البشر ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ من لحم ودم، يعني ذرّيته تَنْتَشِرُونَ يعني تنبسطون في الأرض. قوله تعالى: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً فيه قولان: أحدهما: أنه يعني بذلك آدم، خلق حوَّاء من ضِلعه، وهو معنى قول قتادة. والثاني: أن المعنى: جعل لكم آدميَّات مثلكم ولم يجعلهنَّ من غير جنسكم، قاله الكلبي. قوله تعالى: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي: لتأووا إِلى الأزواج وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً وذلك أن الزوجين يتوادَّان ويتراحمان من غير رَحِم بينهما إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكره من صنعه لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في قدرة الله عزّ وجلّ وعظَمته. قوله تعالى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ يعني اللغات من العربية والعجمية وغير ذلك وَأَلْوانِكُمْ لأنَّ الخلق بين أسود وأبيض وأحمر، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة. وقيل: المراد باختلاف الألسنة: اختلاف النَّغَمات والأصوات، حتى إِنه لا يشتبه صوت أخوين من أب وأم. والمراد باختلاف الألوان: اختلاف الصُّوَر، فلا تشتبه صورتان مع التشاكل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «للعالَمِين» بفتح اللام. وقرأ حفص عن عاصم: «للعالِمِين» بكسر اللام. قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ أي: نومكم. قال أبو عبيدة: المنام من مصادر النَّوم، بمنزلة قام يقوم قِياماً ومَقاماً، وقال يقول مَقالاً، قال المفسرون: وتقدير الآية: منامكم بالليل وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ وهو طلب الرزق بالنهار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع اعتبار وتذكُّر وتدبُّر وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ قال اللغويون: إِنَّما حذف «أنْ» لدلالة الكلام عليه، وأنشدوا: وما الدَّهْرُ إِلاَّ تارتان فتارةً ... أموتُ وأُخرى أبتغي العَيْش أكدحُ «1» ومعناه: فتارة أموت فيها، وقال طرفة: ألا أيّهذا الزّاجري أحصر الوغى «2» أراد: أن أحضر. وقد شرحنا معنى الخوف والطمع في رؤية البَرْق في سورة الرعد «3» . قوله تعالى: أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أي: تدوما قائمتين بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً وهي نفخة إسرافيل الأخيرة في الصّور بأمر الله عزّ وجلّ مِنَ الْأَرْضِ أي: من قبوركم إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ منها، وما بعد هذا قد سبق بيانه «4» إلى قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وفيه أربعة أقوال: أحدها: أن الإِعادة أهون عليه من البداية، وكُلُّ هيِّنٌ عليه، قاله مجاهد، وأبو العالية. والثاني: أنّ «أهون» بمعنى «هين» عليه، فالمعنى: وهو هيِّن عليه، وقد يوضع «أفعل» في موضع «فاعل» ، ومثله قولهم في الأذان: الله أكبر، أي: الله كبير، قال الفرزدق:

_ (1) البيت لتميم بن مقبل. (2) هو صدر بيت لطرفة بن العبد من معلقته وعجزه: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي. (3) الرعد: 12. [.....] (4) البقرة: 116 والعنكبوت: 19.

[سورة الروم (30) : الآيات 30 إلى 38]

إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنى لَنَا ... بَيْتاً دعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ وقال معن بن أوس المزني: لَعَمْرُكَ مَا أدْري وإِنِّي لأوجَلُ ... على أيِّنا تغدو المَنِيَّةُ أَوَّلُ «1» أي: وإِنِّي لَوَجِل، وقال غيره: أصبحتُ أمنحُك الصُّدودَ وإِنَّني ... قسماً إِليك مع الصُّدود لأَمْيَلُ «2» وأنشدوا أيضاً: تَمَنَّى رِجالٌ أنْ أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأَوْحَدِ أي: بواحد، هذا قول أبي عبيدة، وهو مرويّ عن الحسن، وقتادة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد: «وهو هَيِّن عليه» . والثالث: أنه خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب أن يكون عندهم البعث أسهل من الابتداء في تقديرهم وحُكمهم، فمن قَدَرَ على الإِنشاء كان البعثُ أهونَ عليه، هذا اختيار الفراء، والمبرد، والزجاج، وهو قول مقاتل. وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الهاء في «عليه» عائدة إلى الله عزّ وجلّ. والرابع: أن الهاء تعود على المخلوق، لأنه خلَقه نطفة ثم علقة ثم مضغة، ويوم القيامة يقول له كن فيكون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو اختيار قطرب. قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى قال المفسرون: أي: له الصِّفة العُليا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهي أنَّه لا إِله غيره. قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا سبب نزولها أن أهل الجاهلية كانوا يلبُّون فيقولون: لبَّيك لا شريك لك إِلا شريكاً هو لك تملكُه وما ملك، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. ومعنى الآية: بيَّن لكم أيها المشركون شَبَهاً، وذلك الشَّبه مِنْ أَنْفُسِكُمْ ثم بيّنه فقال: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي: من عبيدكم مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من المال والأهل والعبيد، أي: هل يشارككم عبيدكم في أموالكم فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي: أنتم وشركاؤكم من عبيدكم سواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: كما تخافون أمثالكم من الأحرار، وأقرباءكم كالآباء والأبناء؟ قال ابن عباس: تخافونهم أن يَرِثوكم كما يَرِث بعضكم بعضاً؟ وقال غيره: تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم كما يفعل الشركاء؟ والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويَه في التصرُّف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيرَه من الشركاء الأحرار؟، فاذا لم ترضَواْ ذلك لأنفسكم، فلم عَدَلتم بي من خَلْقي مَنْ هو مملوك لي؟! كَذلِكَ أي: كما بيَّنَّا هذا المَثَل نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عن الله تعالى. ثم بيَّن أنَّهم إِنَّما اتَّبعوا الهوى في إِشراكهم، فقال: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا بالله أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وهذا يدل على أنهم إِنما أشركوا باضلال الله إِيَّاهم وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي: مانعين من عذاب الله تعالى. [سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 38] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)

_ (1) في «اللسان» : الوجل: الفزع والخوف. (2) البيت للأحوص.

قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ قال مقاتل: أخلص دينك الإِسلام لِلدِّينِ أي: للتوحيد. وقال أبو سليمان الدمشقي: استقم بدينك نحو الجهة التي وجّهك الله تعالى إِليها. وقال غيره: سدِّد عملك. والوجه: ما يُتَوجَّه إِليه، وعمل الإِنسان ودينه: ما يتوجَّه إِليه لتسديده وإِقامته. قوله تعالى: حَنِيفاً قال الزجاج: الحنيف: الذي يميل إِلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحَنَف في الرِّجل، وهو ميلها إِلى خارجها خِلْقة، لا يقدر الأحنف أن يردّ حنفه، وقوله: فِطْرَتَ اللَّهِ منصوب، بمعنى: اتَّبِع فطرةَ الله، لأن معنى «فأقم وجهك» : اتَّبِع الدِّين القيِّم، واتَّبع فطرة الله تعالى، أي: دين الله تعالى والفطرة: الخلقة التي خلق عليها البشر. (1099) وكذلك قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» !، أي: على الإِيمان بالله تعالى. وقال مجاهد في قوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها قال: الإِسلام، وكذلك قال قتادة. والذي أشار إِليه الزجاج أصح، وإِليه ذهب ابن قتيبة، فقال: فرقُ ما بيننا وبين أهل القَدَر في هذا الحديث، أن الفطرة عندهم: الإِسلام، والفطرة عندنا: الإقرار بالله عز وجل والمعرفة به، لا الإِسلام، ومعنى الفطرة: ابتداء الخلقة، فالكلّ أقرّوا حين قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» ، ولستَ واجداً أحداً إِلا وهو مُقِرّ بأنَّ له صانعاً ومدبِّراً وإِن عبد شيئاً دونه وسمَّاه بغير اسمه فمعنى الحديث: إِن كل مولود في العالَم على ذلك العهد وذلك الإِقرار الأول، وهو الفطرة، ثم يهوِّد اليهودُ أبناءهم، أي:

_ صحيح. أخرجه مسلم 2658 وأحمد 2/ 275 وابن حبان 130 من طرق عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به. وهو في «مصنف عبد الرزاق» برقم 20087. وأخرجه مسلم 2658 وأحمد 2/ 233 من طريقين عن الزهري به. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 3/ 308 من طريق قتادة عن ابن المسيب به. وورد من وجه آخر مختصرا عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجّسانه» . أخرجه البخاري 1358 و 1359 و 1385 و 4775 ومسلم 2658 وأحمد 2/ 393، وابن حبان. وورد أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة باللفظ المذكور آنفا عند مسلم 2658 ح 23 والترمذي 2138 وأحمد 2/ 253 و 481 والطيالسي 2433 وأبو نعيم في «الحلية» 9/ 96 والبغوي في «شرح السنة» 84.

يعلِّمونهم ذلك، وليس الإِقرار الأول ممَّا يقع به حُكم ولا ثواب، وقد ذكر نحو هذا أبو بكر الأثرم، واستدل عليه بأن الناس أجمعوا على أنه لا يرث المسلُم الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ، ثم أجمعوا على أن اليهوديَّ إِذا مات له ولد صغير ورثه، وكذلك النصراني، والمجوسي، ولو كان معنى الفطرة الإِسلام، ما ورثه إِلا المسلمون، ولا دفن إِلا معهم، وإِنما أراد بقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على تلك البداية التي أقرُّوا له فيها بالوحدانية حين أخذهم مِن صُلْب آدم، فمنهم من جحد ذلك بعد إِقراره. ومثل هذا الحديث حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: (1100) «قال الله عزّ وجلّ: إِني خَلقتُ عبادي حنفاء» ، وذلك أنه لم يدعُهم يوم الميثاق إِلاَّ إِلى حرف واحد، فأجابوه. قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لفظه لفظ النفي، ومعناه النهي والتقدير: لا تبدّلوا خلق الله عزّ وجلّ، وفيه قولان: أحدهما: أنه خِصاء البهائم، قاله عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. والثاني: دين الله عز وجل، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي في آخرين، وعن ابن عباس وعكرمة كالقولين. قوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني التوحيد المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعني كفار مكة لا يَعْلَمُونَ توحيد الله عز وجلّ. قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ قال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا: فأقيموا وجوهكم منيبين، لأنّ مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلّم تدخل معه فيها الأُمَّة، ومعنى «منيبين» : راجعين إِليه في كل ما أمر، فلا يخرجون عن شيء من أمره. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «1» إِلى قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً وفيه قولان: أحدهما: أنه القحط، والرحمة: المطر. والثاني: أنه البلاء، والرحمة: العافية، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ وهم المشركون. والمعنى: إنّ الكلّ يلتجئون إليه في

_ صحيح. أخرجه مسلم 2865 وعبد الرزاق في «المصنف» 20088 وأحمد 4/ 162 و 266 والطيالسي 1079 والطبراني 17/ 987 و 992- 997 والبغوي 4105 والبيهقي 9/ 60 وابن حبان 653 من طرق عن قتادة. والحديث بتمامه بلفظ مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبة: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا كل مال نحلته عبدا، حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: رب! إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم. وعفيف متعفف ذو عيال قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» . ومعنى لا يخفى: لا يظهر ويقول أهل اللغة خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته وكتمته.

[سورة الروم (30) : الآيات 39 إلى 40]

شدائدهم، ولا يلتفت المشركون حينئذ إِلى أوثانهم. قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قد شرحناه في آخر العنكبوت «1» ، وقوله تعالى: فَتَمَتَّعُوا خطاب لهم بعد الإِخبار عنهم. قوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ أي: على هؤلاء المشركين سُلْطاناً أي: حُجَّة وكتاباً من السماء فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي: يأمرهم بالشِّرك؟! وهذا استفهام إنكار، ومعناه: ليس الأمر كذلك. قوله تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ قال مقاتل: يعني كفار مكة رَحْمَةً وهي المطر. والسيِّئة: الجوع والقحط، وقال ابن قتيبة: الرحمة: النعمة، والسيِّئة: المصيبة. قال المفسرون: وهذا الفرح المذكور ها هنا، هو فرح البطر الذي لا شُكر فيه. والقنوط: اليأس من فضل الله عزّ وجلّ، وهذا خلاف وصف المؤمن، فانه يشكر عند النعمة، ويرجو عند الشدة وقد شرحناه في بني إسرائيل «2» ، إلى قوله تعالى: ذلِكَ يعني إِعطاء الحق خَيْرٌ أي: أفضل من الإِمساك لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي: يطلبون بأعمالهم ثواب الله. [سورة الروم (30) : الآيات 39 الى 40] وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً في هذه الآية أربعة أقوال «3» : أحدها: أن الرِّبا ها هنا: أن يُهدي الرجل للرجل الشيء يقصِد أن يُثيبه عليه أكثر من ذلك، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وطاوس والضحاك وقتادة والقرظي. قال الضحاك: فهذا ليس فيه أجر ولا وزر، وقال قتادة: ذلك الذي لا يقبله الله عزّ وجلّ ولا يَجزي به، وليس فيه وِزْر. والثاني: أنه الرِّبا المحرَّم، قاله الحسن البصري. والثالث: أن الرجل يُعطي قرابته المال ليصير به غنيّاً لا يقصد بذلك ثواب الله تعالى، قاله إِبراهيم النخعي. والرابع: أنه الرجل يُعطي من يخدمه لأجل خدمته، لا لأجل الله تعالى، قاله الشّعبيّ. قوله تعالى: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ وقرأ نافع ويعقوب: «لتَرْبوْ» بالتاء وسكون الواو، أي: في اجتلاب أموال الناس واجتذابها فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي: لا يزكو ولا يضاعَف لأنكم قصدتم زيادة العِوَض ولم تقصُدوا القُربة. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي: ما أَعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة إِنما تريدون بها ما عند الله تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ قال ابن قتيبة: الذين يجدون التّضعيف والزّيادة. وقال

_ (1) العنكبوت: 67. (2) الإسراء: 26. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 536: من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم فهذا لا ثواب له عند الله، وهذا الصنيع مباح، وإن كان لا ثواب له فيه، إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم خاصة قاله الضحاك واستدل بقوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي: لا تعطي العطاء تريد أكثر منه. وقال ابن عباس: الربا رباءان، فربا لا يصحّ يعني ربا البيع، وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها، ثم تلا هذه الآية: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وإنما الثواب عند الله في الزكاة، ولهذا قال: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي: الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء.

[سورة الروم (30) : الآيات 41 إلى 43]

الزجاج: أي ذوو الأضعاف من الحسنات، كما يقال: رجل مُقْوٍ، أي: صاحب قُوَّة، ومُوسِر: صاحب يسار. [سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 43] ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في هذا الفساد أربعة أقوال: أحدها: نقصان البَرَكة، قاله ابن عباس. والثاني: ارتكاب المعاصي، قاله أبو العالية. والثالث: الشِّرك، قاله قتادة، والسدي: والرابع: قحط المطر، قاله عطية. فأما البَرّ. فقال ابن عباس: البَرُّ: البرِّيَّة التي ليس عندها نهر، وفي البحر قولان «1» : أحدهما: أنه ما كان من المدائن والقرى على شطِّ نهر، قاله ابن عباس. وقال عكرمة: لا أقول: بحرُكم هذا، ولكن كل قرية عامرة. وقال قتادة: المراد بالبَرِّ: أهل البوادي، وبالبحر: أهل القرى، وقال الزجاج: المراد بالبحر: مدن البحر التي على الأنهار، وكل ذي ماءٍ فهو بحر. والثاني: أن البحر: الماء المعروف. قال مجاهد: ظهور الفساد في البر: قتل ابن آدم أخاه، وفي البحر: مَلِك جائر يأخذ كل سفينة غصباً. وقيل لعطيَّة: أيّ فساد في البحر؟ فقال: إِذا قلَّ المطر قل الغَوص. قوله تعالى: بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي: بما عملوا من المعاصي لِيُذِيقَهُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، وقتادة، وابن محيصن، وروح عن يعقوب، وقنبل عن ابن كثير: «لِنُذيقَهم» بالنون بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي: جزاء بعض أعمالهم فالقحط جزاءٌ، ونقصان البركة جزاءٌ، ووقوع المعصية منهم جزاءٌ معجَّل لمعاصيهم أيضاً. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الذين أُذيقوا الجزاءَ. ثم في معنى رجوعهم قولان: أحدهما: يرجعون عن المعاصي، قاله أبو العالية. والثاني: يرجعون إِلى الحق، قاله إِبراهيم. والثاني: أنهم الذين يأتون بعدهم فالمعنى: لعلَّه يرجع مَنْ بعدَهُم، قاله الحسن. قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: سافِروا فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي: الذين كانوا قبلكم والمعنى: انظروا إِلى مساكنهم وآثارهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ المعنى: فأُهلكوا بشِركهم. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي: أَقم قصدك لاتِّباع الدِّين الْقَيِّمِ وهو الإِسلام المستقيم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يعني القيامة، لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم، لأن الله تعالى قد قضى كونه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي: يتفرَّقون إِلى الجنة والنار.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 192: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن الله تعالى ذكره أخبر أن الفساد قد ظهر في البر والبحر عند العرب في الأرض القفار، والبحر بحران: بحر ملح، وبحر عذب فهما جميعا بحر، ولم يخصص جل ثناؤه الخبر عن ظهور ذلك في بحر دون بحر، فذلك ما وقع عليه اسم بحر، عذبا كان أو ملحا، وإذا كان ذلك كذلك، دخل القرى التي على الأنهار والبحار، فتأويل الكلام إذن: إذا كان الأمر كما وصفت، ظهرت معاصي الله في كل مكان من برّ وبحر بما كسبت أيدي الناس، أي: بذنوب الناس، وانتشر الظلم فيهما اه.

[سورة الروم (30) : الآيات 44 إلى 45]

[سورة الروم (30) : الآيات 44 الى 45] مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي: جزاء كفره وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي: يُوَطِّئُون. وقال مجاهد: يسوُّون المضاجع في القبور، قال أبو عبيدة: «مَنْ» تقع على الواحد والاثنين والجمع من المذكَّر والمؤنَّث، ومجازها ها هنا مجاز الجميع، و «يَمْهَد» بمعنى يكتسب ويعمل ويستعدّ. [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 47] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ تبشِّر بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وهو الغيث والخصب وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ في البحر بتلك الرياح بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا بالتجارة في البحر مِنْ فَضْلِهِ وهو الرزق وكلُّ هذا بالرياح. قوله تعالى: جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: بالدّلالات على صدقهم انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي: عذَّبْنا الذين كذَّبوهم كانَ حَقًّا عَلَيْنا أي: واجباً هو أوجبه على نفسه صْرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنجاؤهم مع الرُّسل من عذاب المكذِّبين. [سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 57] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) قوله تعالى: يُرْسِلُ الرِّياحَ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، والنخعي، وطلحة بن مصرِّف، والأعمش: «يُرْسِلُ الرِّيح» بغير ألف. قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً أي: تُزعجه فَيَبْسُطُهُ الله فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ إِن شاء بسطه مسيرة يوم أو يومين أو أقل أو أكثر وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي: قِطعاً متفرِّقة. والأكثرون فتحوا سين «كِسَفاً» وقرأ أبو رزين، وقتادة، وابن عامر، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة:

بتسكينها قال أبو علي: يمكن أن يكون مثل سِدْرَة وسِدَر، فيكون معنى القراءتين واحداً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية: «مِن خَلَلِه» وقد شرحناه في النور «1» . فَإِذا أَصابَ بِهِ أي: بالوَدْق ومعنى يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بالمطر، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ وفي هذا التكرير ثلاثة أقوال: أحدها: أنه للتأكيد، كقوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «2» ، قاله الأخفش في آخرين. والثاني: أن «قَبْل» الأولى للتنزيل، والثانية للمطر، قاله قطرب. قال ابن الأنباري: والمعنى: مِنْ قَبْل نزول المطر، من قبل المطر، وهذا مثل ما يقول القائل: آتيك من قبل أن تتكلم، من قبل ان تطمئن في مجلسك، فلا تُنكَر الإِعادة، لاختلاف الشيئين. والثالث: أن الهاء في قوله تعالى: «مِنْ قبْله» ترجع إِلى الهُدى وإِن لم يتقدّم له ذكر، فيكون المعنى: كانوا يقنطون من قبل نزول المطر، من قبل الهُدى، فلمَّا جاء الهُّدى والإِسلام زال القُنوط، ذكره ابن الأنباري عن أبي عمر الدريدي وأبي جعفر بن قادم. والمبلسون: الآيسون وقد سبق الكلام في هذا «3» . فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «إِلى أَثَر» . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إلى آثار» على الجمع. والمراد بالرّحمة ها هنا: المطر، وأثرها: النّبت والمنبت والمعنى: انظر إِلى حسن تأثيره في الأرض كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ أي: كيف يجعلها تُنبت بعد أن لم يكن فيها نبت. وقرأ عثمان بن عفان، وأبو رجاء، وأبو عمران الجوني، وسليمان التيمي، «كيف تُحْيِي» بتاء مرفوعة مكسورة الياء «الأرضَ» بفتح الضاد. قوله تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً أي: ريحاً باردة مُضِرَّة، والريح إِذا أتت على لفظ الواحد أُريدَ بها العذاب، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول عند هبوب الريح: (1101) «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» . فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا يعني النبت، والهاء عائدة إِلى الأثر. قال الزجاج: المعنى: فرأَوُا النبت قد اصفرّ وجفَّ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ومعناه: لَيَظَلُّنّ، لأن معنى الكلام الشرط والجزاء، فهم يستبشرون بالغيث، ويكفرون إِذا انقطع عنهم الغيث وجفَّ النبت. وقال غيره: المراد برحمة الله: المطر. و «ظلُّوا» بمعنى صاروا «من بعده» أي: من بعد اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النِّعمة. وما بعد هذا مفسَّر في سورة النمل «4» إِلى قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ وقد ذكرنا الكلام فيه في الأنفال «5» ، قال المفسرون: المعنى: خلقكم من ماءٍ ذي ضَعف، وهو المنيّ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ يعني ضعف الطفولة قوَّة الشباب، ثُمَّ جَعل مِن بَعْد قوَّة الشباب ضعف الكِبَر، وشيبةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: من ضعف وقوَّة وشباب وشَيبة وَهُوَ الْعَلِيمُ بتدبير خلقه الْقَدِيرُ على ما يشاء. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ

_ ضعيف جدا، أخرجه الشافعي 1/ 175 والبغوي في «التفسير» 1234 من طريق الشافعي أنبأنا من لا أتهم بحديثه ثنا العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلّم على ركبتيه وقال: اللهم اجعلها ... ، وشيخ الشافعي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو متروك وكذبه القطان وابن معين، وكان الشافعي يوثقه؟! وهذا إسناد ساقط، والخبر شبه موضوع.

[سورة الروم (30) : الآيات 58 إلى 60]

قال الزجاج: الساعة في القرآن على معنى الساعة التي تقوم فيها القيامة، فلذلك لم تُعرف أيّ ساعة هي. قوله تعالى: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي: يَحْلِف المشركون ما لَبِثُوا في القبور غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ قال ابن قتيبة: يقال: أُفِكَ الرجلُ: إِذا عُدِل به عن الصّدق، فالمعنى أنهم قد كذّبوه في هذا الوقت كما كذّبوه في الدنيا. وقال غيره: أراد الله تعالى أن يفضحهم يوم القيامة بين المؤمنين، فحلفوا على شيء تبيّن للمؤمنين كذبُهم فيه، ويستدلُّون على كذبهم في الدنيا. ثم ذكر إِنكار المؤمنين عليهم بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة. والثاني: المؤمنون. قوله تعالى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فيه قولان: أحدهما: أن فيه تقديماً وتأخيراً، تقديره: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله عزّ وجلّ، قاله ابن جريج في جماعة من المفسرين. والثاني: أنه على نظمه. ثم في معناه قولان: أحدهما: لقد لَبِثتم في عِلْم الله، عزّ وجلّ، قاله الفراء. والثاني: لقد لَبِثتم في خَبَر الكتاب، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ أي: اليوم الذي كنتم تُنْكِرونه وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في الدنيا أنه يكون. فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «لا تَنْفَعُ» بالتاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بالياء، لأن التأنيث غير حقيقي. قال ابن عباس: لا يُقْبَلُ من الذين أشركوا عذر ولا توبة. [سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) قوله تعالى: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ أي: كعصا موسى ويده لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ أي: ما أنتم يا محمد وأصحابك إِلَّا مُبْطِلُونَ أي: أصحاب أباطيل، وهذا بيان لعنادهم. كَذلِكَ أي: كما طبع على قلوبهم حتى لا يصدِّقون الآيات يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ توحيد الله عزّ وجلّ فالسبب في امتناع الكفار من التوحيد، الطَّبْع على قلوبهم. قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرك وإِظهارك على عدوِّك حَقٌّ. وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ وقرأ يعقوب إِلا روحاً وزيداً: «يَسْتَخِفَّنْكَ» بسكون النون. قال الزّجّاج: لا يستفزّنّك عن دِينك الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ أي: هم ضُلاَّلٌ شاكُّونَ. وقال غيره: لا يُوقِنون بالبعث والجزاء. وزعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة والله أعلم.

سورة لقمان

سورة لقمان وهي مكّيّة في قول الأكثرين. وروي عن عطاء أنه قال: هي مكّيّة سوى آيتين منها نزلتا بالمدينة، وهما قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ والتي بعدها «1» وروى الحسن أنه قال: إلّا آية نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ «2» ، لأنّ الصلاة والزّكاة مدنيّتان. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة لقمان (31) : الآيات 3 الى 13] هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) قوله تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً وقرأ حمزة وحده: «ورحمةٌ» بالرفع. قال الزجاج: القراءة بالنصب على الحال المعنى: تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة ويجوز الرفع على إِضمار «هو هدىً ورحمةٌ» وعلى معنى: «تلك هدىً ورحمةٌ» . وقد سبق تفسير مفتتح هذه السّورة «3» إلى قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية مغنّيةً. وقال مجاهد: نزلت في شراء القيان والمغنّيات.

_ (1) لقمان: 27- 28. (2) لقمان: 4. (3) البقرة: 1- 5.

(1102) وقال ابن السائب ومقاتل: نزلت في النَّضْر بن الحارث، وذلك أنه كان تاجراً إِلى فارس، فكان يشتري أخبار الأعاجم فيحدِّث بها قريشاً ويقول لهم: إِنَّ محمداً يحدِّثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أُحدِّثكم بحديث رستم وإِسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فنزلت فيه هذه الآية. وفي المراد بلهو الحديث أربعة أقوال: أحدها: أنه الغناء، كان ابن مسعود يقول: هو الغناء والذي لا إِله إِلا هو، يُردِّدها ثلاث مرات وبهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: اللهو: الطبل. والثاني: أنه ما ألهى عن الله تعالى: قاله الحسن، وعنه مثل القول الأول. والثالث: أنه الشِّرك، قاله الضحاك. والرابع: الباطل، قاله عطاء. وفي معنى «يشتري» قولان: أحدهما: يشتري بماله وحديث النضر يعضده. والثاني: يختار ويستحبّ، قاله قتادة، ومطر. وإِنما قيل لهذه الأشياء: لهو الحديث، لأنها تُلهي عن ذِكْر الله تعالى. قوله تعالى: «لِيَضِلَّ» المعنى: ليصير أمره إِلى الضلال، وقد بيَّنَّا هذا الحرف في الحج «1» . وقرأ أبو رزين، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وأبو جعفر: لِيُضِلَّ بضم الياء، والمعنى: لِيُضِلَّ غيره، وإِذا أضَلَّ غيره فقد ضَلَّ هو أيضاً. قوله تعالى: وَيَتَّخِذَها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «ويَتَّخِذُها» برفع الذال. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بنصب الذال. قال أبو علي: من نصب عطف على «لِيُضِلَّ» «ويَتَّخذ» ، ومن رفع عطفه على «من يشتري» «ويتخذ» . وفي المشار إليه بقوله تعالى: وَيَتَّخِذَها قولان: أحدهما: أنها الآيات. والثاني: السبيل. وما بعد هذا مفسر في مواضع قد تقدّمت «2» إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ وفيها قولان «3» : أحدهما: الفهم والعقل، قاله الأكثرون. والثاني: النبوَّة. وقد اختُلف في نبوَّته على قولين: أحدهما: أنه كان حكيماً ولم يكن نبيّاً، قاله سعيد بن المسيب، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنه كان نبيّاً، قاله الشعبي، وعكرمة، والسدي. هكذا حكاه عنهم الواحدي، ولا يعرف، إِلاَّ أن هذا ممّا انفرد به عكرمة والقول الأول أصح. وفي صناعته ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان خيّاطاً، قاله سعيد بن المسيب. والثاني: راعياً، قاله ابن زيد. والثالث: نجاراً، قاله خالد الربعي. فأما صفته، فقال ابن عباس كان عبداً حبشيّاً. وقال سعيد بن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر. وقال مجاهد: كان غليظ الشّفتين مشقّق

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 676 عن مقاتل والكلبي بدون إسناد. وكلاهما متهم بالكذب.

[سورة لقمان (31) : الآيات 14 إلى 17]

القدمين، وكان قاضياً على بني إِسرائيل. قوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ المعنى: وقلنا له: أن أشكر لله على ما أعطاك من الحكمة وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي: إِنما يفعل لنفسه وَمَنْ كَفَرَ النِّعمة، فان الله لغنيّ عن عبادة خلقه. [سورة لقمان (31) : الآيات 14 الى 17] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ قال مقاتل: نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد شرحنا ذلك في العنكبوت «1» . قوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: «وَهَناً على وَهَنٍ» بفتح الهاء فيهما، قال الزجاج: أي: ضَعْفاً على ضَعْف. والمعنى لزمها بحَمْلها إِيَّاه أن تَضْعُف مَرَّةً بعد مرّة. وموضع «أن» نصب «بوصيّنا» المعنى: ووصَّينا الإِنسان أن أشكُر لي ولوالدَيْك، أي: وصَّيناه بشُكْرنا وشُكر والدَيه. قوله تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي: فِطامُه يقع في انقضاء عامين. وقرأ إِبراهيم النخعي، وأبو عمران، والأعمش: «وفَصَالُه» بفتح الفاء. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وأبو رجاء، وطلحة بن مصرِّف، وعاصم الجحدري، وقتادة «وفَصْلُه» بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف والمراد: التنبيه على مشقَّة الوالدة بالرَّضاع بعد الحمل. قوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ قد فسرنا ذلك في سورة العنكبوت إلى قوله تعالى: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً قال الزجاج: أي: مُصَاحَباً معروفاً، تقول: صاحبه مُصَاحَباً ومُصَاحَبَةً، والمعروف: ما يُستحسن من الأفعال. قوله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي: مَنْ رَجَع إِليَّ وأهل التفسير يقولون: هذه الآية نزلت في سعد، فهو المخاطَب بها. وفي المراد بمَنْ أناب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أبو بكر الصِّدِّيق، قيل لسعد: اتَّبِع سبيله في الإِيمان، هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء. وقال ابن إِسحاق: أسلم على يَدي أبي بكر الصِّدِّيق: عثمانُ بن عفان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف. والثاني: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن السائب. والثالث: مَنْ سلك طريق محمد وأصحابه، ذكره الثعلبي. ثم رجع إِلى الخبر عن لقمان فقال: يا بُنَيَّ. وقال ابن جرير: وجه اعتراض هذه الآيات بين الخبرين عن وصيَّة لقمان أنَّ هذا ممَّا أوصى به لقمانُ ابنَه. قوله تعالى: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ وقرأ

_ (1) العنكبوت: 8.

[سورة لقمان (31) : الآيات 18 إلى 19]

نافع وحده «مِثقالُ حَبَّة» برفع اللام. وفي سبب قول لقمان لابنه هذا قولان: أحدهما: أن ابن لقمان قال لأبيه: أرأيتَ لَو كانت حبَّة في قعر البحر أكان اللهُ تعالى يعلَمُها؟ فأجابه بهذه الآية، قاله السدي. والثاني: أنه قال: يا أبت إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد، كيف يعلَمُها الله؟ فأجابه بهذا، قاله مقاتل. قال الزجاج: من قرأ برفع المثقال مع تأنيث «تَكُ» فلأنَّ «مثقال حبَّة من خردل» راجع إِلى معنى: خردلة، فهي بمنزلة: إِن تَكُ حبَّةٌ من خردل ومن قرأ: «مثقالَ حبَّة» فعلى معنى: إِن التي سألتَني عنها إِن تَكُ مثقالَ حبَّة، وعلى معنى: إِنَّ فَعْلَة الإِنسان وإِن صغرت يأت بها الله عزّ وجلّ وقد بيَّنَّا معنى «مثقالَ حبَّة من خردل» في الأنبياء «1» . قوله تعالى: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ قال قتادة: في جبل. وقال السدي: هي الصخرة التي تحت الأرض السابعة، ليست في السّموات ولا في الأرض. وفي قوله تعالى: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ثلاثة أقوال: أحدها: يعلَمها الله تعالى: قاله أبو مالك. والثاني: يُظهرها، قاله ابن قتيبة. والثالث: يأت بها الله في الآخرة للجزاء عليها. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ قال الزجاج: لَطِيفٌ باستخراجها خَبِيرٌ بمكانها. وهذا مَثَل لأعمال العباد، والمراد أنَّ الله تعالى يأتي بأعمالهم يوم القيامة، مَنْ يعمل مثقال ذَرَّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذَرَّة شرّاً يره. قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ أي: في الأمر المعروف والنَّهي عن المُنْكَر من الأذى. وباقي الآية مفسّر في آل عمران «2» . [سورة لقمان (31) : الآيات 18 الى 19] وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب: «تُصَعِّر» بتشديد العين من غير ألف. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بألف من غير تشديد. قال الفراء: هما لغتان، ومعناهما الإِعراض من الكِبْر. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء وابن السميفع، وعاصم الجحدري: «ولا تُصْعِر» باسكان الصاد وتخفيف العين من غير ألف. وقال الزجاج: معناه: لا تُعْرِض عن الناس تكبُّراً يقال: أصاب البعير صَعَرٌ: إِذا أصابه داءٌ يَْلوي منه عُنُقه. وقال ابن عباس: هو الذي إِذا سُلِّم عليه لوى عُنُقه كالمستكبِر. وقال أبو العالية: ليكن الغنيُّ والفقير عندك في العلم سواء. وقال مجاهد: وهو الرجل يكون بينه وبين أخيه الحِنَة «3» ، فيراه فيُعرض عنه. وباقي الآية بعضه مفسر في بني إِسرائيل «4» وبعضه في سورة النساء «5» . قوله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي: ليكن مشيُك قصداً، لا تخيُّلاً ولا إِسراعاً. قال عطاء: امش بالوقار والسَّكينة. قوله تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي: انقص منه. قال الزجاج: ومنه: غضضتُ بصري، وفلان يغضُّ من فلان، أي: يقصر به. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ وقرأ أبو المتوكل، وابن أبي عبلة: «أنَّ أنكر الأصوات» بفتح الهمزة. ومعنى «أنكر» : أقبح تقول: أتانا فلان بوجه منكر، أي:

_ (1) الأنبياء: 47. (2) آل عمران: 286. (3) في «اللسان» : الحنة: هو من العداوة والإحنة: الحقد في الصدر ويقال في صدره عليّ إحنة ولا تقل حنة. (4) الإسراء: 37. (5) النساء: 36.

[سورة لقمان (31) : الآيات 20 إلى 21]

قبيح. وقال المبرِّد: تأويله: أن الجهر بالصوت ليس بمحمود، وأنه داخل في باب الصوت المنكَر، وقال ابن قتيبة: عَرَّفَهُ قُبْحَ رفْعِ الأصوات في المخاطبة والمُلاحاة «1» بقبح أصوات الحمير، لأنها عالية. قال ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيرا، ما جعله الله عزّ وجلّ للحمير. وقال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح لله عزّ وجلّ، إِلا الحمار، فانه ينهق بلا فائدة. فان قيل: كيف قال: «لَصَوتُ» ولم يقل: «لأَصواتُ الحمير» ؟ فالجواب: أن لكل جنس صوتاً، فكأنه قال: إِن أنكر أصوات الأجناس صوت هذا الجنس. [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) قوله تعالى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ أي: أَوسع َوأَكملَ نِعَمَهُ قرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «نِعَمَهُ» ، أرادوا جميع ما أنعم به. وقرأ ابن كثير، وابن عامر وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «نِعْمَةً» على التوحيد. قال الزجاج: هو ما أعطاهم من توحيده. (1103) وروى الضحاك عن ابن عباس، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله! ما هذه النِّعمة الظاهرة والباطنة؟ فقال: «أمَّا ما ظهر: فالإِسلام، وما سوَّى اللهُ مِنْ خَلْقِك، وما أَفضل عليك من الرِّزق. وأمَّا ما بطن: فستر مساوئ عملك، ولم يفضحك» وقال الضحاك: الباطنة: المعرفة، والظّاهرة: حسن الصّوت، وامتداد القامة، وتسوية الأعضاء. قوله تعالى: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ هو متروك الجواب، تقديره فيتبعونه؟. [سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 27] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) قوله تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وقتادة: «ومن

_ باطل. لا أصل له في المرفوع. أخرجه البيهقي في «الشعب» 4505 والديلمي 7167 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا، له ثلاث علل: عمار بن عمرو الجنبي ضعيف وجويبر بن سعيد متروك متهم بالوضع، والضحاك لم يلق ابن عباس. والمتن باطل لا أصل له، وحسبه أن يكون موقوفا. وانظر «تفسير الشوكاني» 1930 بتخريجنا.

[سورة لقمان (31) : الآيات 28 إلى 32]

يُسَلِّم» بفتح السين وتشديد اللام. وذكر المفسرون أن قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ منسوخ بآية السيف، ولا يصح، لأنه تسلية عن الحُزن، وذلك لا ينافي الأمر بالقتال. وما بعد هذا قد تقدم تفسير ألفاظه في مواضع «1» إلى قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وفي سبب نزولها قولان: (1104) أحدهما: أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أرأيت قول الله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2» إِيَّانا يريد، أم قومك؟ فقال: «كُلاً» ، فقالوا: ألستَ تتلو فيما جاءك أنَّا قد أوتينا التوراة فيها تِبيانُ كل شيء؟ فقال: «إِنَّها في عِلْم الله قليل» ، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن المشركين قالوا في القرآن: إِنَّما هو كلام يوشك أن يَنْفَد وينقطع، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. ومعنى الآية: لو كانت شجر الأرض أقلاماً، وكان البحر ومعه سبعة أبحر مِداداً- وفي الكلام محذوف تقديره: فكُتب بهذه الأقلام وهذه البحور كلمات الله عزّ وجلّ- لتكسّرت الأقلام ونفدت البحور، ولم تنفد كلماتُ الله، أي: لم تنقطع. فأما قوله تعالى: وَالْبَحْرُ فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «والبَحْرُ» بالرفع، ونصبه أبو عمرو. وقال الزجاج: من قرأ: «والبَحْرَ» بالنصب، فهو عطف على «ما» المعنى: ولو أن ما في الأرض، ولو أن البحر والرفع حسن على معنى: والبحرُ هذه حالُه. قال اليزيدي: ومعنى «يَمُدُّهُ مِنْ بَعده» : يزيد فيه يقال: مُدَّ قِدْرَكَ، أي: زِدْ في مائها، وكذلك قال ابن قتيبة: «يَمُدُّه» من المِداد، لا من الإِمداد، يقال: مَدَدْتُ دواتي بالمِداد، وأمددته بالمال والرجال. [سورة لقمان (31) : الآيات 28 الى 32] ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) قوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. (1105) سبب نزولها أن أُبيَّ بن خلف في آخرين من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: إنّ الله عزّ وجلّ خلقنا أطواراً: نطفة، علقة، مضغة، عظاماً، لحماً، ثم تزعم أنَّا نُبْعَث خَلْقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة؟! فنزلت هذه الآية.

_ أخرجه الطبري 28148 بنحوه بسند مجهول عن ابن عباس. و 28401 بنحوه عن عكرمة مرسلا و 28150 عن عطاء بن يسار مرسلا أيضا، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، فهذا خبر لا شيء.

[سورة لقمان (31) : الآيات 33 إلى 34]

ومعناها: ما خَلْقُكم أيُّها الناس جميعاً في القُدرة إِلا كخَلْق نفس واحدة، ولا بَعْثُكم جميعاً في القُدرة إِلا كبعث نفس واحدة، قاله مقاتل. وما بعد هذا قد تقدم تفسيره «1» إلى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تجري في البحر بنِعمة الله، قال ابن عباس: من نِعَمه جريان الفُلْك لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ أي: لِيُرِيَكم من صنعه وعجائبه في البحر، وابتغاء الرزق إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ قال مقاتل: أي: لكل صبور على أمر الله عزّ وجلّ شَكُورٍ في نعمه. وقوله تعالى: وَإِذا غَشِيَهُمْ يعني الكفار وقال بعضهم: هو عامّ في الكفار والمسلمين مَوْجٌ كَالظُّلَلِ قال ابن قتيبة: وهي جمع ظُلَّة، يراد أنَّ بعضه فوق بعض، فله سوادٌ من كثرته. قوله تعالى: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وقد سبق شرح هذا «2» ، والمعنى: فإنهم لا يذكُرون أصنامهم في شدائدهم إِنما يذكُرون الله وحده. (1106) وجاء في الحديث أن عكرمة بن ابي جهل لمًّا هرب يوم الفتح من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أهل السفينة: أَخْلِصوا، فان آلهتكم لا تُغْني عنكم شيئا ها هنا، فقال عكرمة: ما هذا الذي تقولون، فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إِلاَّ اللهُ تعالى: فقال: هذا إِله محمد الذي كان يدعونا إِليه، لَئن لم ينجني في البحر إِلاَّ الإِخلاص ما ينجيني في البَرِّ غيرُه، ارجعوا بنا، فرجَع فأسلم. قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مؤمن، قاله الحسن. والثاني: مقتصد في قوله، وهو كافر، قاله مجاهد. يعني أنه يعترف بأنّ الله تعالى وحده القادر على إِنجائه وإِن كان مُضْمِراً للشِّرك. والثالث: أنه العادل في الوفاء بما عاهد اللهَ عليه في البحر من التوحيد، قاله مقاتل. فأما «الخَتَّار» فقال الحسن: هو الغدَّار. قال ابن قتيبة: الخَتْرُ: أقبح الغَدْر وأشدّه. [سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ قال المفسرون: هذا خطاب لكفار مكة. وقوله تعالى: لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي: لا يقضي عنه شيئاً من جنايته ومظالمه. قال مقاتل: وهذا يعني به

_ أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 447 من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح هرب عكرمة بن أبي جهل فركب البحر ... فذكره. وكان قد أخرجه 3/ 446 من طريق أسباط بن نصر قال: زعم السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس إلا أربعة نفر، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، عكرمة، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي اليسر فأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم بها ...

الكفار. وقد شرحنا هذا في البقرة «1» . قال الزّجّاج: وقوله تعالى: هُوَ جازٍ جاءت في المصحف بغير ياء، والأصل «جازيٌ» بضمة وتنوين. وذكر سيبويه والخليل أن الاختيار في الوقف هو «جازٍ» بغير ياءٍ، هكذا وقف الفصحاء من العرب ليُعلموا أن هذه الياء تسقُط في الوصل. وزعم يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقف بياءٍ، ولكن الاختيار اتِّباع المصحف. قوله تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: بالبعث والجزاء فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بزينتها عن الإِسلام والتزوُّد للآخرة وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ أي: بحِلْمه وإِمهاله الْغَرُورُ يعني: الشيطان، وهو الذي من شأنه أن يَغُرُّ. قال الزجاج: «الغَرور» على وزن الفَعول، وفَعول من أسماء المبالغة، يقال: فلان أَكُول: إِذا كان كثير الأكل، وضَروب: إِذا كان كثير الضَّرْب، فقيل للشيطان غَرور، لأنه يَغُرُّ كثيراً. وقال ابن قتيبة: الغَرور بفتح الغين: الشيطان، وبضمها: الباطل. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. (1107) سبب نزولها أن رجلاً من أهل البادية جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: إِنَّ امرأتي حُبْلى، فأَخبِرني ماذا تَلِد؟ وبلدنا مُجْدِب، فأَخبِرني متى يَنزل الغيث؟ وقد علمت متى وُلدتُ، فأخبرني متى أموتُ، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. ومعنى الآية: «إِنَّ الله» عزّ وجلّ «عنده عِلْم الساعة» متى تقوم، لا يعلم سواه ذلك وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر: «ويُنَزِّلُ» بالتشديد، فلا يعلم أحد متى يَنزل الغيث، ألَيْلاَ أم نهاراً وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ لا يعلم سواه ما فيها، أذكر أم أنثى، أبيض أو أسود وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً أخيراً أم شرّاً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي: بأيِّ مكان. وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «بأيَّة أرض» بتاء مكسورة. والمعنى: ليس أحد يعلم أين مضجعه من الأرض حين يموت، أفي برٍّ أو بحر أو سهل أو جبل. وقال أبو عبيدة: يقال: بأيِّ أرض كنتَ، وبأية أرض كنت، لغتان، وقال الفراء: من قال: بأيِّ أرض، اجتزأ بتأنيث الأرض من أن يُظهر في «أيّ» تأنيثاً آخر. قال ابن عباس: هذه الخمس لا يعلمها ملَك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل مصطفى. قال الزجاج: فمن ادَّعى أنه يعلم شيئاً من هذه كفر بالقرآن لأنه خالفه.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 28173 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.

سورة السجدة

سورة السّجدة وتسمّى سورة المضاجع، وهي مكّيّة بإجماعهم وقال الكلبيّ: فيها من المدنيّ ثلاث آيات، أوّلها قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً «1» . وقال مقاتل: فيها آية مدنيّة، وهي قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ الآية «2» . وقال غيرهما: فيها خمس آيات مدنيّات، أوّلها تَتَجافى جُنُوبُهُمْ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ قال مقاتل: المعنى: لا شكَّ فيه أنَّه تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ بل يقولون، يعني المشركين افْتَراهُ محمّد عليه السّلام من تِلقاء نَفْسه، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني العرب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يأتهم نذير من قَبْل محمد عليه السلام. وما بعده قد سبق تفسيره «3» إلى قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ يعني الكفار يقول: ليس لكم من دون عذابه من وليٍّ، أي: قريب يمنعُكم فيرُدُّ عذابه عنكم وَلا شَفِيعٍ يشفع لكم أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتؤمنون. [سورة السجده (32) : الآيات 5 الى 9] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ في معنى الآية قولان «4» : أحدهما: يقضي

_ (1) السجدة: 18. (2) السجدة: 16. (3) الأعراف: 54. (4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 232: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معناه: يدبر الأمر من السماء إِلى الأرض، ثم يعرُج إِليه في يوم، كان مقدار ذلك اليوم في عروج ذلك الأمر إليه، ونزوله إلى الأرض ألف سنة مما تعدون من أيامكم، خمس مائة في النزول وخمس مائة في الصعود، لأن ذلك أظهر معانيه، وأشبهها بظاهر التنزيل.

القضاء من السماء فينزِّله مع الملائكة إِلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ الملَك إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ من أيام الدنيا، فيكون الملَك قد قطع في يوم واحد من أيام الدنيا في نزوله وصعوده مسافة ألف سنة من مسيرة الآدمي. والثاني: يدبِّر أمر الدنيا مدة أيَّام الدنيا، فينزِّل القضاء والقدر من السماء إِلى الأرض «ثم يعرُج إِليه» أي: يعود إِليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكّام وينفرد الله تعالى بالأمر فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ وذلك في يوم القيامة، لأنَّ كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة. وقال مجاهد: يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إِلى ملائكته فاذا مضت قضى لألف سنة آخرى، ثم كذلك أبداً. وللمفسرين في المراد بالأمر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الوحي، قاله السدي. والثاني: القضاء، قاله مقاتل. والثالث: أمر الدنيا. و «يعرُج» بمعنى يصعَد. قال الزجاج: يقال: عَرَجْتُ في السُّلَّم أعرُج، وعَرِج الرجُل يعرَج: إِذا صار أعرج. وقرأ معاذ القارئ، وابن السميفع، وابن أبي عبلة: «ثم يُعْرَجُ إِليه» بياء مرفوعة وفتح الراء، وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء «يَعْرِجُ» بياء مفتوحة وكسر الراء، وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «ثم تَعْرُجُ» بتاء مفتوحة ورفع الراء. قوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فيه خمسة أقوال «1» : أحدها: جعله حَسَناً. والثاني: أحكم كل شيء، رويا عن ابن عباس، وبالأول قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد. والثالث: أحسنه، ولم يتعلمه من أحد، كما يقال: فلان يُحْسِن كذا: إِذا عَلِمه، قاله السدي ومقاتل. والرابع: أن المعنى ألهم خَلْقه كلَّ ما يحتاجون إِليه، كأنه أعلمهم كل ذلك وأحسنهم، قاله الفراء. والخامس: أحسن إِلى كل شيء خَلْقه، حكاه الماوردي. وفي قوله تعالى: «خَلْقَه» قراءتان. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: «خَلْقَه» ساكنة اللام. وقرأ الباقون بتحريك اللام. وقال الزجاج: فتحها على الفعل الماضي وتسكينها على البدل، فيكون المعنى أحسنَ خَلْقَ كلِّ شيء خَلَقه. وقال أبو عبيدة: المعنى أحسن خَلْق كلِّ شيء، والعرب تفعل مثل هذا، يقدِّمون ويؤخِّرون. قوله تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي: ذرِّيته وولده، وقد سبق شرح الآية «2» . ثم رجع إِلى آدم فقال: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وقد سبق بيان ذلك «3» . ثم عاد إِلى ذريته فقال: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أي: بعد كونكم نطفا.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: أحكم وأتقن لأنه لا معنى لذلك إذا قرئ بفتح لام خَلَقَهُ إلا أحد الوجهين: إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان أو معنى التحسين الذي هو معنى الجمال والحسن، فلما كان في خلقه ما لا يشك في قبحه وسماجته، علم أنه لم يعن به أنه أحسن كل ما خلق، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته. وقراءة من قرأ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بفتح اللام هي عندي أولى الأقوال في ذلك بالصواب. (2) المؤمنون: 12. (3) الحجر: 29.

[سورة السجده (32) : الآيات 10 إلى 12]

[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 12] وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) قوله تعالى: وَقالُوا يعني منكري البعث أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ وقرأ عليّ بن أبي طالب وعليّ بن الحسين وجعفر بن محمد وأبو رجاء وأبو مجلز وحميد وطلحة: «ضَلِلْنَا» بضاد معجمة وكسر اللام الأولى. قال الفراء: ضَلَلْنَا وضَلِلْنَا لغتان، والمعنى: إِذا صارت عظامنا ولحومنا تراباً كالأرض تقول: ضَلَّ الماءُ في اللَّبَن، وضل الشيء في الشيء: إِذا أخفاه وغلب عليه. وقرأ أبو نهيك وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو حيوة وابن أبي عبلة: «ضُلِّلْنَا» بضم الضاد المعجمة وتشديد اللام الأولى وكسرها. وقرأ الحسن وقتادة ومعاذ القارئ: «صَلَلْنَا» بصاد غير معجمة مفتوحة، وذكر لها الزجاج معنيين: أحدهما: أَنْتَنَّا وتَغَيَّرْنا وتغيَّرَت صُوَرُنا يقال: صَلَّ اللحمُ وأَصَلَّ: إِذا أنتن وتغيَّر. والثاني: صِرْنَا من جنس الصَّلَّة، وهي الأرض اليابسة. قوله تعالى: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟! هذا استفهام إِنكار. قوله تعالى: الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي: بقبض أرواحكم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ يوم الجزاء. ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ أي: مُطأطئوها حياءً وندماً، رَبَّنا فيه إِضمار «يقولون ربَّنا» أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي: عَلِمْنا صِحَّة ما كنَّا به مكذِّبين فَارْجِعْنا إِلى الدنيا وجواب «لو» متروك، تقديره: لو رأيتَ حالهم لرأيت ما يعتبر به، ولشاهدت العجب. [سورة السجده (32) : الآيات 13 الى 17] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) قوله تعالى: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي: وجب وسبق والقول هو قوله تعالى لإِبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي: من كفار الفريقين. فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قال مقاتل: إِذا دخلوا النار قالت لهم الخزَنة: فذوقوا العذاب. وقال غيره: إِذا اصطرخوا فيها قيل لهم: ذُوقوا بما نَسِيتُم، أي بما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، إِنَّا نَسِيناكُمْ أي: تركناكم من الرَّحمة. قوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي: وُعِظوا بها خَرُّوا سُجَّداً أي: سقطوا على وجوههم ساجدين. وقيل: المعنى: إِنَّما يؤمِن بفرائضنا من الصلوات الخمس الذين إِذا ذُكِّروا بها بالأذان والإِقامة خَرُّوا سُجَّداً. قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ اختلفوا فيمن نزلت وفي الصلاة التي تتجافى لها جنوبهم على أربعة أقوال: أحدها: أنها نزلت في المتهجِّدين بالليل.

(1108) روى معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله: «تتجافى جنوبُهم» قال: «قيام العبد من الليل» . وفي لفظ آخر أنه قال لمعاذ: «إِن شئتَ أنبأتُك بأبواب الخير» ، قال: قلت أجَلْ يا رسول الله، قال: «الصَّوم جُنَّة، والصدقة تكفِّر الخطيئة، وقيام الرَّجل في جوف الليل يبتغي وجه الله» ، ثم قرأ: «تتجافى جنوبُهم عن المضاجع» . وكذلك قال الحسن، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وقتادة، وابن زيد أنها في قيام الليل. وقد روى العوفي عن ابن عباس قال: تتجافى جنوبهم لذكر الله تعالى، كلّما استيقظوا ذكروا الله تعالى، إِما في الصلاة، وإِمَّا في قيام، أو في قعود، أو على جنوبهم، فهم لا يزالون يذكرون الله عزّ وجلّ. (1109) والثاني: أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلّون ما بين المغرب

_ حديث حسن، وهو قطعة من حديث مطوّل، رجاله ثقات إلا أنه منقطع، أبو وائل لم يسمع من معاذ. أخرجه الترمذي 2616 والنسائي في «الكبرى» 11394 و «التفسير» 414 وابن ماجة 3973 وأحمد 5/ 231 والطبراني 20/ (266) والبغوي 11 وعبد الرزاق في «التفسير» 2302 من طرق عن معمر به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. - وأخرجه أحمد 5/ 248 والطبراني 20 (200) من طريق عاصم عن شهر عن معاذ به، رواية أحمد مختصرة، وهذا منقطع أيضا. - وأخرجه أحمد 5/ 245 246 من طريق شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ به، وهذا إسناد موصول، وشهر لا بأس به، وهو حسن الحديث في المتابعات، ولا يوجد في لفظة (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) قال: «قيام العبد من الليل» ولا ذكر أبواب الخير. - وأخرجه أحمد 5/ 233 وابن أبي شيبة في «الإيمان» / 2 والحاكم 2/ 76 و 412 والطبراني 20/ 291- 294، والطبري 28239 والبيهقي 9/ 20 من طريقين عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به مطولا ومختصرا. وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وهذا منقطع بين ميمون ومعاذ. الخلاصة: هو حديث حسن بمجموع طرقه، ولفظ الحديث عند الترمذي: عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّم في سفر. فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل قال: ثم تلا: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يَعْمَلُونَ ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه قال: كفّ عليك هذا، فقلت يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. ضعيف. أخرجه ابن عدي في «الكامل» 2/ 193 والطبري 28225 من طريق الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار: سألت أنس رضي الله عنه عن قوله تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قال: ... فذكره. وأعله ابن عدي بالحارث بن وجيه الراسبي ونقل عن النسائي قوله الحارث بن وجيه ضعيف. - وذكره الواحدي في «الأسباب» 684 عن مالك بن دينار به دون إسناد. - وورد بدون ذكر الآية، وإنما هو رأي لأنس يبين المراد بالآية. أخرجه أبو داود 1331 والطبري 28226 من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن أنس: «كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون» . ورجاله، ثقات لكنه رأي لأنس رضي الله عنه، والراجح في معنى الآية قيام الليل وهو المتقدم.

[سورة السجده (32) : الآيات 18 إلى 22]

والعشاء، قاله أنس بن مالك. والثالث: أنها نزلت في صلاة العشاء، كأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا ينامون حتى يصلُّوها، قاله ابن عباس. والرابع: أنها صلاة العشاء والصبح في جماعة، قاله أبو الدرداء والضحاك. ومعنى «تَتَجافى» : ترتفع. والمَضَاجِع جمع مَضْجَع، وهو الموضع الذي يُضْطَجَع عليه. يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً من عذابه وَطَمَعاً في رحمته وثوابه وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في الواجب والتطوُّع. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ وأسكن ياء «أُخْفِي» حمزة، ويعقوب. قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن المراد بالآية التي قبلها: الصلاة في جوف الليل، لأنه عمل يستسرّ الإِنسان به، فجعل لفظ ما يُجازى به «أخفي لهم» ، وإذا فتحت الياء من أُخْفِيَ، فعلى تأويل الفعل الماضي، وإِذا أسكنْتَها، فالمعنى: ما أُخْفِي أنا لهم، إِخبار عن الله تعالى وكذلك قال الحسن البصري: أخفي لهم، بالخُفْية خُفْية، وبالعلانية علانية. (1110) وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يقول الله عزّ وجلّ: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر، اقرءوا إِن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ. قوله تعالى: مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وقرأ أبو الدرداء، وأبو هريرة، وأبو عبد الرحمن السلمي، والشعبي، وقتادة: «من قُرَّاتِ أعيُنٍ» بألف على الجمع. [سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً في سبب نزولها قولان: (1111) أحدهما: أن الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط قال لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أنا أحدّ

_ صحيح. أخرجه البخاري 4780 عن إسحاق بن نصر به. وأخرجه مسلم 2824 ح 4 وابن ماجة 4328 وأحمد 2/ 466 و 495 وابن أبي شيبة 13/ 109 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه البخاري 3244 و 4479 ومسلم 2824 والترمذي 3197 والحميدي 1133 وابن حبان 369 من طرق عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري 7498 وعبد الرزاق 20874 وأحمد 2/ 313 والبغوي في «شرح السنة» 4266 من طريق معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة به. وأخرجه أحمد 2/ 313 والدارمي 2/ 335 والبغوي في «شرح السنة» 4268 من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. وله شاهد من حديث سهل بن سعد أخرجه مسلم 2825. ومن حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو نعيم في «الحلية» 2/ 262. ضعيف منكر. أخرجه الواحدي 687 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأخرجه الطبري 28262 عن ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار مرسلا. وهو ضعيف، فمع إرساله فيه مجاهيل والصواب أن الآية عامة في كل مؤمن وفاسق. وكون الآية نزلت في ذلك لا يصح وهو من بدع التأويل كونها خاصة في علي وعقبة، والمراد بالفاسق الكافر لا المؤمن العاصي. وانظر «تفسير القرطبي» 4974. و «أحكام القرآن» 3/ 535.

[سورة السجده (32) : الآيات 23 إلى 30]

منك سناناً، وأبسط منك لساناً، وأملأ للكتيبة منك، فقال له عليٌّ: اسكت فانما أنت فاسق، فنزلت هذه الآية، فعنى بالمؤمن عليّاً، وبالفاسق الوليد، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عطاء بن يسار، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى، ومقاتل. والثاني: أنها نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل، قاله شريك. قوله تعالى: لا يَسْتَوُونَ قال الزّجّاج: لا يستوي المؤمنون والكافرون ويجوز أن تكون لاثنين، لأن معنى الاثنين جماعة وقد شهد الله عزّ وجلّ بهذا الكلام لعليٍّ عليه السلام بالايمان وأنَّه في الجنّة، لقوله تعالى: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى. وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرِّف: «جنةُ المأوى» على التوحيد. قوله تعالى: نُزُلًا قرأ الحسن، والنخعي، والأعمش، وابن أبي عبلة: «نُزْلاً» بتسكين الزاي. وما بعد هذا قد سبق بيانه إِلى قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى وفيه ستة أقوال «1» : أحدها: أنه ما أصابهم يوم بدر، رواه مسروق عن ابن مسعود، وبه قال قتادة، والسدي. والثاني: سنون أُخذوا بها، رواه أبو عبيدة عن ابن مسعود، وبه قال النخعي. وقال مقاتل: أُخذوا بالجوع سبع سنين. والثالث: مصائب الدنيا، قاله أُبيُّ بن كعب، وابن عباس في رواية ابن أبي طلحة، وأبو العالية، والحسن، وقتادة، والضحاك. والرابع: الحدود، رواه عكرمة عن ابن عباس. والخامس: عذاب القبر، قاله البراء. والسادس: القتل والجوع، قاله مجاهد. قوله تعالى: دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي: قَبْل العذاب الأكبر وفيه قولان: أحدهما: أنه عذاب يوم القيامة، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه القتل ببدر. قاله مقاتل. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قال أبو العالية: لعلهم يتوبون. وقال ابن مسعود: لعلَّ مَنْ بقي منهم يتوب. وقال مقاتل: لكي يرجِعوا عن الكفر إِلى الإِيمان. قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ قد فسرناه في الكهف «2» . قوله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ قال يزيد بن رفيع: هم أصحاب القَدَر. وقال مقاتل: هم كفار مكة انتقم الله منهم بالقتل ببدر، وضربت الملائكةُ وجوههم وأدبارهم، وعجُّل أرواحهم إلى النار. [سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 248: وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: إن الله وعد هؤلاء الفسقة المكذبين بوعيده في الدنيا العذاب الأدنى أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر، والعذاب هو ما كان في الدنيا من بلاء أصابهم، إما شدة من مجاعة أو قتل، أو مصائب يصابون بها، فكل ذلك العذاب الأدنى، ولم يخصص الله تعالى ذكره أن يعذبهم بنوع من ذلك دون نوع، وقد عذبهم بكل ذلك في الدنيا بالجوع والشدائد والمصائب في الأموال فأوفى لهم بما وعدهم. (2) الكهف: 57.

[سورة السجده (32) : الآيات 23 إلى 30]

[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ فيه أربعة أقوال: (1112) أحدها: فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربَّه، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والثاني: من لقاء موسى ليلة الإِسراء، قاله أبو العالية، ومجاهد، وقتادة، وابن السائب. والثالث: فلا تكن في شكٍّ من لقاء الأذى كما لقي موسى، قال الحسن. والرابع: لا تكن في مرية من تلقّي موسى كتاب الله عزّ وجلّ بالرضى والقبول، قاله السدي. قال الزجاج: وقد قيل: فلا تكن في شكٍّ من لقاء موسى الكتاب، فتكون الهاء للكتاب. وقال أبو علي الفارسي: المعنى: من لقاء موسى الكتاب، فأضيف المصدر إِلى ضمير الكتاب، وفي ذلك مدح على امتثاله ما أُمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل. وفي قوله تعالى: وَجَعَلْناهُ هُدىً قولان: أحدها: الكتاب، قاله الحسن. والثاني: موسى، قاله قتادة. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أي: من بني إِسرائيل أَئِمَّةً أي: قادة في الخير يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي: يَدْعون الناس إِلى طاعة الله لَمَّا صَبَرُوا وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «لَمَّا صبروا» بفتح اللام وتشديد الميم. وقرأ حمزة والكسائي: «لِمَا» بكسر اللام خفيفة. وقرأ ابن مسعود: «بما» بباء مكان اللام والمراد: صبرهم على دينهم وأذى عدوِّهم وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ أنها من الله عزّ وجلّ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء. والثاني: أنهم قومٌُ صالحون سوى الأنبياء. وفي هذا تنبيه لقريش أنكم إِن أَطعتم جعلتُ منكم أئمة. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي: يقضي ويحكُم وفي المشار إِليهم قولان:

_ الصواب موقوف. أخرجه الطبراني 12758 من حديث ابن عباس وإسناده ضعيف، لضعف محمد بن عثمان بن أبي شيبة. وقال الهيثمي في «المجمع» 11270: رجاله رجال الصحيح! كذا قال رحمه الله مع أن شيخ الطبراني وهو محمّد بن عثمان بن أبي شيبة. ذكره الذهبي في «الميزان» 7934 فقال: وثقة صالح جزرة، وقال ابن عدي، لم أر له حديثا منكرا، وأما عبد الله بن أحمد، فقال: كذاب. وقال ابن خراش: كان يصنع الحديث. وقال مطيّن: هو عصا موسى، تلقف ما يأفكون. وقال ابن عقدة: سمعت عبد الله بن أسامة الكلبي، وإبراهيم بن إسحاق الصواف، وداود بن يحيى يقولون: محمد بن عثمان، كذاب اه باختصار والأشبه في هذا، الوقف فيه على ابن عباس. وانظر «تفسير ابن كثير» 3/ 571 و «فتح القدير» 1951 بتخريجنا.

أحدهما: أنهم الأنبياء وأُممهم. والثاني: المؤمنون والمشركون. ثم خوّف كفّار مكّة بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السّلمي: «نهد» بالنون. وقد سبق تفسيره «1» . أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ يعني المطر والسيل إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ وهي التي لا تُنبت- وقد ذكرناها في أول الكهف «2» - فاذا جاء الماء أنبتَ فيها ما يأكل الناس والأنعام. وَيَقُولُونَ يعني كفار مكة مَتى هذَا الْفَتْحُ وفيه أربعة أقوال «3» : أحدها: أنه ما فتح يوم بدر روى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: يومَ بدر فتح للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، فلم ينفع الذين كفروا إِيمانُهم بعد الموت. والثاني: أنه يوم القيامة، وهو يوم الحُكم بالثواب والعقاب، قاله مجاهد. والثالث: أنه اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب في الدنيا قاله السدي. والرابع: فتح مكة، قاله ابن السائب والفراء وابن قتيبة وقد اعتُرِض على هذا القول، فقيل: كيف لا ينفع الكفارَ إِيمانُهم يوم الفتح وقد أسلم جماعة منهم وقبل إسلامهم يومئذ؟! ففيه جوابان: أحدهما: لا ينفع مَنْ قُتل من الكفار يومئذ إِيمانُهم بعد الموت وقد ذكرناه عن ابن عباس. (1113) وقد ذكر أهل السِّيَر أنَّ خالداً دخل يوم الفتح من غير الطريق التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلقيه صفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو في آخرين فقاتلوه، فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم، فقتل أربعة وعشرين من قريش، وأربعة من هذيل، وانهزموا، فلمَّا ظهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ألم أَنه عن القتال» ؟ فقيل: إِن خالداً قوتل فقاتل. والثاني: لا ينفع الكفارَ ما أعطوا من الأمان، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: (1114) «مَنْ أَغلق بابَه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . قال الزجاج: يقال: آمنتُ فلاناً إِيماناً، فعلى هذا يكون المعنى: لا يدفع هذا الأمانُ عنهم عذاب

_ يأتي في سورة الفتح. وانظر قصة فتح مكة في «دلائل النبوة» للبيهقي 5/ 5- 64 و «سيرة ابن هشام» 4/ 26- 42. و «المغازي» للواقدي 2/ 780 و «الطبقات لابن سعد» 2/ 134. و «البداية والنهاية» 4/ 297. صحيح. أخرجه مسلم 1780 ح 86 وأبو داود 3023 والبيهقي 9/ 118 من طريقين عن ثابت عن أنس. - وأخرجه مسلم 1780 ح 84 و 85 وأبو داود 1872 والطيالسي 2424 وأحمد 3/ 538 وابن أبي شيبة 14/ 471- 473 والبيهقي 9/ 117- 118 وابن حبان 4760 من حديث أبي هريرة في أثناء خبر مطوّل. وانظر «تفسير القرطبي» 4394 بتخريجنا.

الله عزّ وجلّ. وهذا القول الذي قد دافعنا عنه ليس بالمختار، وإِنما بيَّنَّا وجهه لأنه قد قيل. وقد خرج بما ذكرنا في الفتح قولان: أحدهما: أنه الحكم والقضاء، وهو الذي نختاره. والثاني: فتح البلد. قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ أي: انتظر عذابهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ بك حوادث الدهر. قال المفسرون: وهذه الآية منسوخة بآية السّيف. والله أعلم بالصّواب.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب وهي مدنيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ. (1115) سبب نزولها أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا على عبد الله بن أُبيّ، ومعتب بن قشير، والجَدّ بن قيس فتكلَّموا فيما بينهم، وأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدعَوه إِلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء كرهها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (1116) قال مقاتل: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يرفُض ذِكْر اللات والعُزَّى ويقولَ: إِنَّ لها شفاعة، فكره ذلك، ونزلت الآية. وقال ابن جرير: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ الذين يقولون: اطرد عنَّا أتباعك من ضعفاء المسلمين وَالْمُنفِقِينَ فلا تَقْبَل منهم رأياً. فان قيل: ما الفائدة في أمر الله تعالى رسولَه بالتقوى، وهو سيِّد المتَّقين؟! فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المراد بذلك استدامة ما هو عليه. والثاني: الإِكثار مما هو فيه. والثالث: أنه خطاب وُوجِهَ به، والمراد أُمَّتُه. قال المفسرون: وأراد بالكافرين في هذه الآية: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور، وبالمنافقين: عبد الله بن أُبيّ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن

_ عزاه المصنف لابن عباس من طريق أبي صالح، وأبو صالح وتلميذه الكلبي رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 688 بدون إسناد، ولم أره مسندا، فهو لا شيء، وعزاه الحافظ في «الكشاف» 3/ 519 للثعلبي والواحدي بدون إسناد. عزاه المصنف لمقاتل، وهذا معضل، وهو بدون إسناد، ومقاتل ممن يضع الحديث، فهذا لا شيء.

أُبَيْرِق. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وفي سبب نزولها قولان: (1117) أحدهما: أن المنافقين كانوا يقولون: لمحمد قلبان، قلب معنا، وقلبٌ مع أصحابه، فأكذبهم اللهُ تعالى، ونزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. (1118) والثاني: أنها نزلت في جميل بن مَعْمَر الفهري- كذا نسبه جماعة من المفسرين. وقال الفراء: جميل بن أسد، ويكنى: أبا مَعْمَر. وقال مقاتل: أبو مَعْمَر بن أنس الفهري- وكان لبيباً حافظاً لِمَا سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إِلا وله قلبان في جوفه، وكان يقول: إِن لي قلبين أعقِل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلمَّا كان يوم بدر وهُزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر، تلقَّاه أبو سفيان وهو معلِّق إِحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: ما حال الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إِحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرتُ إِلاَّ أنهما في رِجليّ، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لَمَا نسي نعله في يده وهذا قول جماعة من المفسرين. وقد قال الزهري في هذا قولاً عجيباً، قال: بلغنا أنّ ذلك في زيد بن حارثة ضُرب له مثَل يقول: ليس ابنُ رجل آخر ابنَك. قال الأخفش: «مِنْ» زائدة في قوله تعالى: «من قلبين» . قال الزّجّاج: أكذب الله عزّ وجلّ هذا الرجل الذي قال: لي قلبان، ثم قرر بهذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم ممَّا لا حقيقة له، فقال: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ فأعلم الله تعالى أن الزوجة لا تكون أُمّاً، وكانت الجاهلية تُطلِّق بهذا الكلام، وهو أن يقول لها: أنتِ عليَّ كَظَهر أُمِّي، وكذلك قوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي: ما جعل مَنْ تَدْعونه ابناً- وليس بولد في الحقيقة- ابناً ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي: نسبُ مَنْ لا حقيقةَ لنَسَبه قولٌ بالفم لا حقيقة تحته وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أي: لا يجعل غير الابن ابناً وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي: للسّبيل المستقيم. وذكر المفسّرون أنّ قوله تعالى: «وما جَعل أزواجَكم اللاَّئي تُظاهِرون مِنْهُنَّ» نزلت في اوس بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة. ومعنى الكلام: ما جعل أزواجكم اللاَّئي تُظِاهرون منهنَّ كأُمَّهاتكم في التحريم، إِنَّما قولُكم معصية، وفيه كفّارة، وأزواجكم حلال لكم وسنشرح هذا في سورة المجادلة إِن شاء الله. وذكروا أنّ قوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ.

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 3199 وأحمد 1/ 168 والحاكم 2/ 415 والطبري 28318 من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لضعف قابوس. قال الترمذي: حديث حسن! وقال الحاكم: صحيح الإسناد! وتعقبه الذهبي بقوله: قابوس ضعيف. وانظر «فتح القدير» 1956 و «أحكام القرآن» 1750 بتخريجنا، والله الموفق. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 689 بتمامه بدون إسناد. وورد بنحوه عند الطبري 28321 وعبد الرزاق 2311 عن قتادة مرسلا. وورد أيضا من مرسل عكرمة عند الطبري 28323. وعن ابن عباس أخرجه الطبري 28319 وفيه مجاهيل، وفيه أيضا عطية العوفي، وهو واه. الخلاصة: هو خبر ضعيف، فهذه الروايات واهية لا تقوم بها حجة.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 5 إلى 6]

(1119) نزل في زيد بن حارثة، أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتبنَّاه قبل الوحي، فلمَّا تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون: تزوَّج محمدٌ امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فنزلت هذه الآية. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 5 الى 6] ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ. قال ابن عمر: (1120) ما كنَّا ندعو زيد بن حارثة إِلا زيد بن محمد، حتى نزلت «أُدعوهم لآبائهم» . قوله تعالى: هُوَ أَقْسَطُ أي: أعدل، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ أي: إِن لم تعرفوا آباءهم فَإِخْوانُكُمْ أي: فهم إِخوانُكم، فليقُل أحدُكم: يا أخي، وَمَوالِيكُمْ قال الزجاج: أي بنو عمِّكم. ويجوز أن يكون «مواليكم» أولياءَكم في الدِّين. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فيما أخطأتم به قبل النَّهي، قاله مجاهد. والثاني: في دعائكم من تَدْعونه إِلى غير أبيه وأنتم ترَونه كذلك، قاله قتادة. والثالث: فيما سهوتم فيه، قاله حبيب بن أبي ثابت. فعلى الأول يكون معنى قوله تعالى: وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي: بعد النَّهي. وعلى الثاني والثالث. ما تعمَّدتْ في دعاء الرجل إِلى غير أبيه. قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: أحقُّ، فله أن يحكُم فيهم بما يشاء، قال ابن عباس: إِذا دعاهم إِلى شيء، ودعتْهم أنفسهم إِلى شيء، كانت طاعتُه أولى من طاعة أنفُسهم وهذا صحيح، فان أنفُسهم تدعوهم إِلى ما فيه هلاكهم، والرسول عليه السلام يدعوهم إِلى ما فيه نجاتهم. قوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي: في تحريم نكاحهنَّ على التأبيد، ووجوب إِجلالهنَّ وتعظيمهنَّ ولا تجري عليهنَّ أحكام الأُمَّهات في كل شيء، إِذ لو كان كذلك لَمَا جاز لأحد أن يتزوج بناتِهنَّ، وَلَورِثْنَ المسلمين، ولجازت الخَلوة بهنَّ. وقد روى مسروق عن عائشة أن أمرأة قالت: يا أُمَّاه، فقالت: لستُ لكِ بأُمٍّ إِنَّما أنا أُمُّ رجالكم فبان بهذا الحديث أن معنى الأُمومة تحريمُ نكاحهنَّ فقط. وقال مجاهد: «وأزواجُه أُمَّهاتُهم» وهو أب لهم. وما بعد هذا مفسَّر في آخر الأنفال إِلى قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ والمعنى أن ذوي القرابات بعضُهم أولى بميراث بعض من أن يَرِثوا بالإِيمان والهجرة كما كانوا يفعلون قبل النسخ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً وهذا استثناء ليس من الأول،

_ لم أره بهذا التمام، وكونه عليه الصلاة والسلام أعتق زيدا مشهور متواتر في كتب الحديث والسير، وكونه تبناه فهذا مشهور، وأما ذكر نزول الآية، فلا يصح، ولم أره مسندا. صحيح. أخرجه البخاري 4782 ومسلم 2425 والترمذي 3209 و 3814 والنسائي في «التفسير» 416 وأحمد 2/ 77 وابن سعد 3/ 43 وابن حبان 7042 والطبراني 1317 والبيهقي 7/ 161 والواحدي في «الأسباب» 691 من طرق عن موسى بن عقبة به عن ابن عمر ...

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 إلى 9]

والمعنى: لكن فِعلُكم إِلى أوليائكم معروفاً جائز، وذلك أن الله تعالى لمَّا نسخ التوارث بالحلف والهجرة، أباح الوصية للمعاقدين، فللانسان أن يوصيَ لمن يتولاَّه بما أحب من ثلثه. فالمعروف ها هنا: الوصية. قوله تعالى: كانَ ذلِكَ يعني نسخ الميراث بالهجرة وردّه إِلى ذوي الأرحام فِي الْكِتابِ يعني اللوح المحفوظ مَسْطُوراً أي: مكتوباً. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 9] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا المعنى: واذكر إِذ أخذنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي: عهدهم وفيه قولان: أحدهما: أخذُ ميثاق النبييِّن: أن يصدِّق بعضُهم بعضاً، قاله قتادة. والثاني: أن يعبدوا الله تعالى ويدعوا إِلى عبادته، ويصدِّق بعضهم بعضاً، وأن ينصحوا لقومهم، قاله مقاتل. وهذا الميثاق أُخِذ منهم حين أُخرجوا من ظهر آدم كالذَّرِّ. قال أُبيُّ بن كعب: لمَّا أخذ ميثاق الخَلْق خصَّ النبييِّن بميثاق آخر. فان قيل: لِمَ خصَّ الأنبياءَ الخمسة بالذِّكْر دون غيرهم من الأنبياء؟ فالجواب: أنه نبَّه بذلك على فضلهم، لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وقدَّم نبيَّنا صلى الله عليه وسلّم بياناً لفضله عليهم «1» . (1121) قال قتادة: كان نبيُّنا أوّل النّبيّين في الخلق.

_ باطل، أخرجه الطبري 28353 عن أبي هلال عن قتادة من قوله وهذا باطل. وأخرجه الطبري 28352 وابن سعد في «الطبقات» 1/ 119 عن قتادة، مرسلا والمرسل من قسم الضعيف، وله علة ثانية: سعيد بن أبي عروبة، تغير بأخرة. وعلة ثالثة: فيه عطاء بن عبد الوهّاب الخفاف وثقه قوم وضعفه أحمد بقوله: ضعيف مضطرب الحديث. وورد من حديث أبي هريرة مرفوعا. أخرجه الديلمي 4850 وأبو نعيم في «الدلائل» 3 من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف جدا، فيه سعيد بن بشير، وهو ضعيف منكر الحديث، وساق الذهبي هذا الحديث في ترجمته في «الميزان» 3143 على أنه من منكراته. وله علة ثانية: وهي أن الحس لم يسمع من أبي هريرة، فالإسناد ضعيف جدا، لا شيء. وأما المتن فباطل. بل أول من خلق من البشر، آدم عليه السلام، هذا وقد خلط بعضهم هذا الحديث بحديث «كنت نبيا، وآدم بين الروح والجسد» . وهذا الحديث الأخير صحيح. أخرجه أحمد 5/ 59 والحاكم 2/ 609 والطبراني 2/ 353 والآجري في «الشريعة» 956 من طرق عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورجاله رجال مسلم. وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 222: رجاله رجال الصحيح. ولهذا الحديث شواهد كثيرة، لكنه لا يثبت أولية الخلق إنما فيه إثبات، أنه مكتوب في اللوح المحفوظ وفي علم الله تعالى، فتنبّه، فإن هذا الحديث الأخير، يخالف الأول ويفارقه، وإنما خلق وولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم ولدته أمه آمنة كما هو معلوم.

الإشارة إلى القصة

وقوله تعالى: مِيثاقاً غَلِيظاً أي: شديداً على الوفاء بما حُمِّلوا. وذكر المفسرون أن ذلك العهد الشديد: اليمين بالله عزّ وجلّ لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ يقول: أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين، وهم الأنبياء عَنْ صِدْقِهِمْ في تبليغهم. ومعنى سؤال الأنبياء- وهو يعلم صدقهم- تبكيت مكذِّبيهم. وها هنا تم الكلام. ثم أخبر بعد ذلك عمَّا أعدَّ للكافرين بالرسل. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيام الخندق. الإِشارة إِلى القصة (1122) ذَكر أهل العلم بالسّيرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمَّا أجلى بني النضير، ساروا إِلى خيبر، فخرج نفر من أشرافهم إِلى مكة فألَّبوا قريشاً ودعَوهم إِلى الخروج لقتاله، ثم خرجوا من عندهم فأتَوا غطفان وسُلَيم، ففارقوهم على مثل ذلك. وتجهزت قريشٌ ومن تبعهم من العرب، فكانوا أربعة آلاف، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، ووافتهم بنو سُلَيم ب «مرِّ الظهران» ، وخرجت بنو أسد، وفزارة، وأشجع، وبنو مُرَّة، فكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف، وهم الأحزاب فلمَّا بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم خروجُهم من مكة، أخبر الناسَ خبرهم، وشاورهم، فأشار سلمان بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى سفح «سَلْعٍ» ، وجعل سَلْعاً خلف ظهره ودسَّ أبو سفيان بن حرب حُيَيَّ بن أخطب إِلى بني قريظة يسألهم أن ينقُضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويكونوا معهم عليه، فأجابوا، واشتد الخوف، وعَظُم البلاء، ثم جرت بينهم مناوشة وقتال، وحُصِر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه بضع عشرة ليلة حتى خلص إِليهم «1» الكَرْب، وكان نُعَيم بن مسعود الأشجعيّ قد أسلم، فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذَّل بينهم، فاستوحش كل منهم من صاحبه، واعتلَّت قريظة بالسبت فقالوا: لا نقاتِل فيه، وهبَّت ليلةَ السبت ريح شديدة، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إِنكم والله لستم بدار مُقام، لقد هلك الخُفُّ والحافر، وأجدب الجَنَاب «2» ، وأخلفتْنا قريظةُ، ولقينا من الريح ما ترَون، فارتحِلوا فاني مرتحِل فأصبحت العساكر قد أقشَعت «3» كلُّها. قال مجاهد: والريح التي أُرسلت عليهم هي الصَّبا، حتى أكفأت «4» قدورهم، ونزعت فساطيطهم «5» . والجنود: الملائكة،

_ جزء من حديث. أخرجه الطبري 28369 عن ابن إسحاق عن عروة والزهري وغيرهما. وانظر خبر غزوة الخندق في «سيرة ابن هشام» 3/ 141- 145 نقلا عن ابن إسحاق و «دلائل النبوة» للبيهقي 3/ 408، و «تفسير الطبري» 28364 و «تفسير ابن كثير» 3/ 580- 581.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 10 إلى 12]

ولم تقاتل يومئذ. وقيل: إِن الملائكة جَعلت تقلع أوتادهم وتطفئ نيرانهم وتكبِّر في جوانب عسكرهم، فاشتدت عليهم، فانهزموا من غير قتال. قوله تعالى: لَمْ تَرَوْها وقرأ النخعي، والجحدري، والجوني، وابن السميفع: «لم يَرَوْهَا» بالياء وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً وقرأ أبو عمرو: «يعملون» بالياء. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 10 الى 12] إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي: مِنْ فوق الوادي ومن أسفله وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي: مالت وعَدَلت، فلم تنظُر إِلى شيء إِلاَّ إِلى عدوِّها مُقْبِلاً من كل جانب وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وهي جمع حَنْجَرَة. والحَنْجَرَة: جوف الحُلْقُوم. قال قتادة: شَخَصتْ عن مكانها، فلولا أنَّه ضاق الحُلقوم عنها أن تخرُج لخرجت. قال غيره: المعنى أنهم جَبُنوا وَجِزع أكثرهم وسبيل الجبان إِذا اشتدُّ خوفُه أن تنتفخ رئته فيرتفع حينئذ القلب إِلى الحَنْجَرة، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس والفراء. وذهب ابن قتيبة إِلى أن المعنى: كادت القلوبُ تبلُغ الحُلوقَ من الخوف. وقال ابن الأنباري: «كاد» لا يُضْمَر ولا يُعْرَف معناه إِذا لم يُنْطَق به. قوله تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا قال الحسن: اختلفت ظنونهم، فظن المنافقون أن محمّدا عليه السلام وأصحابه يُستأصَلون، وظن المؤمنون أنه يُنْصَر. قرأ ابن كثير، والكسائي، وحفص عن عاصم: «الظنُّونا» و «الرّسولا» «1» و «السّبيلا» «2» بألف إِذا وقفوا عليهن، وبطرحها في الوصل. وقال هبيرة عن حفص عن عاصم: وصل أو وقْف بألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بالألف فيهن وصلاً ووقفاً. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بغير ألف في وصل ولا وقف. قال الزجاج: والذي عليه حُذَّاق النحويين والمتَّبعون السُّنَّة من قرّائهم أن يقرءوا: «الظنُّونا» ويقفون على الألف ولا يَصِلون وإِنما فعلوا ذلك، لأن أواخر الآيات عندهم فواصل يُثبتون في آخرها الألف في الوقف. قوله تعالى: هُنالِكَ أي: عند ذلك ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي: اختُبروا بالقتال والحصر ليتبيَّن المُخلِص من المنافق وَزُلْزِلُوا أي: أُزعجوا وحُرِّكوا بالخوف، فلم يوجَدوا إِلا صابرين. وقال الفراء: حُرِّكوا إِلى الفتنة تحريكاً، فعُصموا. قوله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الشِّرك، قاله الحسن. والثاني: النفاق، قاله قتادة، ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً قال المفسرون: قالوا يومئذ: إِن محمداً يَعِدنا أن نفتَح مدائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله! هذا واللهِ الغرور. وزعم ابن السّائب أنّ القائل هذا معتّب بن قشير.

_ (1) الأحزاب: 66. (2) الأحزاب: 67.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 13 إلى 17]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 13 الى 17] وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يعني من المنافقين. وفي القائلين لهذا منهم قولان: أحدهما: عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، قاله السدي. والثاني: بنو سالم من المنافقين، قاله مقاتل. قوله تعالى: يا أَهْلَ يَثْرِبَ قال أبو عبيدة: يَثْرِب اسم أرض، ومدينةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في ناحية منها. قوله تعالى: لا مُقامَ لَكُمْ وقرأ حفص عن عاصم: لا مُقامَ بضم الميم. قال الزجاج: من ضمَّ الميم، فالمعنى: لا إِقامة لكم ومن فتحها، فالمعنى: لا مكان لكم تُقيمون فيه. وهؤلاء كانوا يثبّطون المؤمنين عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: فَارْجِعُوا أي: إِلى المدينة. (1123) وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج بالمسلمين حتى عسكروا ب «سَلْعِ» ، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم، فقال المنافقون للناس: ليس لكم ها هنا مقام، لكثرة العدوّ، هذا قول الجمهور. وحكى الماوردي قولَين آخرَين: أحدهما: لا مُقام لكم على دين محمد فارجِعوا إِلى دين مشركي العرب، قاله الحسن. والثاني: لا مُقام لكم على القتال، فارجعوا إِلى طلب الأمان، قاله الكلبي. قوله تعالى: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ فيه قولان: أحدهما: أنهم بنو حارثة، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: بنو حارثة بن الحارث بن الخزرج. وقال السدي: إِنما استأذنه رجلان من بني حارثة. والثاني: بنو حارثة، وبنو سلمة بن جشم، قاله مقاتل. قوله تعالى: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ قال ابن قتيبة: أي: خاليةٌ، فقد أمْكَن من أراد دخولَها، وأصل العَوْرة: ما ذهب عنه السِّتر والحِفظ، فكأنَّ الرجال سِترٌ وحفظٌ للبيوت، فاذا ذهبوا أعْوَرت البيوتُ، تقول العرب: أَعْوَرَ منزلي: إِذا ذهب سِتْرُه، أو سقط جداره، وأعْوَرَ الفارسُ: إِذا بان منه موضع خلل للضرب والطعن، يقول الله تعالى وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ لأنّ الله تعالى يحفظها، ولكن يريدون الفرار. وقال الحسن، ومجاهد قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السُّرَّاق. وقال قتادة: قالوا: بيوتنا ممَّا يلي العدوّ، ولا نأمن على أهلنا، فكذّبهم الله تعالى وأعلَم أنَّ قصدهم الفرار. قوله تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها يعني المدينة والأقطار: النواحي والجوانب، واحدها: قُطْر، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والضحاك، والزهري، وأبو عمران وأبو جعفر، وشيبة: «ثم سُيِلوا» برفع السين وكسر الياء من غير همز. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومجاهد وأبو الجوزاء: «ثم سوئلوا» برفع السين ومدِّ الواو بهمزة مكسورة بعدها. وقرأ الحسن، وأبو

_ ذكره الطبري 10/ 270 عند تفسير هذه الآية فقال: وهو قول أوس بن قيظي ومن كان على ذلك من رأيه ذكر ذلك في حديث ابن إسحاق أخرجه برقم 28380.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 إلى 22]

الأشهب: «ثم سُوْلوا» برفع السين وسكون الواو من غير مدٍّ ولا همز. وقرأ الأعمش، وعاصم الجحدري: «ثم سِيْلوا» بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو. ومعنى: «سئلوا الفتنة» ، سُئلوا فعلها والفتنة: الشِّرك، لَآتَوْها قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «لأَتَوَهْا» بالقصر، أي: لقصدوها، ولفعلوها. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ: «لآتوها» أي بالمدّ، لأعطَوها. قال ابن عباس في معنى الآية: لو ان الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشِّرك لأشركوا. قوله تعالى: وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً فيه قولان: أحدهما: وما احتَبَسوا عن الإِجابة إِلى الكفر إِلا قليلاً، قاله قتادة. والثاني: وما تلبَّثوا بالمدينة بعد الإِجابة إِلاَّ يسيراً حتى يعذَّبوا، قاله السدي. وحكى أبو سليمان الدمشقي في الآية قولاً عجيباً، وهو أنّ الفتنة ها هنا: الحرب، والمعنى: ولو دُخلت المدينةُ على أهلها من أقطارها ثم سُئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادِرين، وما تلبْثوا- يعني الجيوش الداخلة عليهم بها- إِلاَّ قليلاً حتى يُخرجوهم منها وإِنَّما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشكِّ في دينك قال: وهذا المعنى حَفِظتُه من كتاب الواقدي. قوله تعالى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر، فلمَّا علموا ما أعطى الله عزّ وجلّ أهل بدر من الكرامة قالوا: لئن شهدنا قتالاً لنقاتِلَنّ، قاله قتادة. والثاني: أنهم أهل العقبة، وهم سبعون رجلاً بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على طاعة الله تعالى ونُصرة رسوله، قاله مقاتل «1» . والثالث: أنه لمَّا نزل بالمسلمين يوم أُحد ما نزل، عاهد الله تعالى معتّب بن قُشَير وثعلبة بن حاطب: لا نولِّي دُبُراً قطُّ، فلمَّا كان يوم الأحزاب نافقا، قاله الواقدي، واختاره أبو سليمان الدمشقي، وهو اليَق ممَّا قبله. وإِذا كان الكلام في حق المنافقين، فكيف يُطْلَق القول على أهل العَقَبة كلِّهم! قوله تعالى: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي: يُسأَلون عنه في الآخرة. ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم، فقال: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ بعد الفرار في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا وهو باقي آجالكم. ثم أخبر ان ما قدَّره عليهم لا يدفع، بقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ أي: يُجيركم ويمنعكم منه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً وهو الإِهلاك والهزيمة والبلاء أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وهي النصر والعافية والسلامة وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي: لا يجدون مُوالياً ولا ناصراً يمنعهم من مراد الله عزّ وجلّ فيهم. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 22] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22)

_ (1) المشهور عن أصحاب بيعة العقبة أنهم استقاموا على الإسلام ومقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير.

قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ في سبب نزولها قولان: (1124) أحدهما: أن رجلاً انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب، فوجد أخاه لأبيه وأمّه وعنده شواء ونبيذ، فقال له: أنت ها هنا ورسولُ الله بين الرِّماح والسيوف؟! فقال: هلمَّ إِليَّ، لقد أُحيطَ بك وبصاحبك والذي يُحْلَفُ به لا يستقبلها محمدٌ أبداً فقال له: كذبتَ، والذي يُحْلَف به، أما والله لأُخْبِرَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأمرك، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليخبرَه، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إلى قوله تعالى: يَسِيراً، هذا قول ابن زيد. (1125) والثاني: أن عبد الله بن أُبيّ ومعتب بن قشير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إِلى المدينة، كانوا إِذا جاءهم منافق قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرُج، ويكتُبون بذلك إِلى إِخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنَّا ننتظركم- يثبِّطونهم عن القتال- وكانوا لا يأتون العسكر إِلاَّ أن لا يجدوا بُدّاً، فيأتون ليرى الناسُ وجوههم، فاذا غُفل عنهم عادوا إِلى المدينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب. والمعوِّق: المثبّط تقول: عاقني فلان، واعتاقني، وعوَّقني: إِذا منعك عن الوجه الذي تريده. وكان المنافقون يعوّقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نُصَّاره. قوله تعالى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد. والثاني: أنهم اليهود دعَواْ إِخوانهم من المنافقين إِلى ترك القتال، قاله مقاتل. والثالث: أنهم المنافقون دعَواْ المسلمين إِليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي: لا يحضُرون القتال في سبيل الله عزّ وجلّ إِلَّا قَلِيلًا للرِّياء والسُّمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل لله عزّ وجلّ لكان كثيراً. قوله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: لا يأتون الحرب إلّا تعذيرا، بخلا عليكم. وللمفسرين فيما شحُّوا به أربعة أقوال: أحدها: أشحة بالخير، قاله مجاهد. والثاني: بالنفقة في سبيل الله عزّ وجلّ. والثالث: بالغنيمة، رويا عن قتادة. وقال الزجاج: بالظَّفَر والغنيمة. والرابع: بالقتال معكم، حكاه الماوردي. ثم أخبر عن جُبنهم فقال: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ أي: إِذا حضر القتال رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي: كدوَران عين الذي يُغْشَى عليه من الموت، وهو الذي دنا موته

_ ضعيف. هذا مرسل، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم تابعي أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 5/ 360. وانظر «تفسير القرطبي» 14/ 136. عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي، وتقدم مرارا أنه ممن يضع الحديث، فخبره لا شيء.

وغشيتْه أسبابُه، فانه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يَطْرِف، فكذلك هؤلاء، لأنهم يخافون القتل. فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ قال الفراء: يقول آذَوْكم بالكلام في الأمن بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ سليطة ذَرِبة، والعرب تقول: صَلَقوكم، بالصاد، ولا يجوز في القراءة هذا قول الفراء. وقد قرأ بالصاد أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة في آخرين. وقال الزجاج: معنى «سلقوكم» : خاطبوكم أشدَّ مخاطَبة وأبلَغها في الغنيمة، يقال: خطيب مِسْلاق: إِذا كان بليغاً في خطبته أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي: خاطبوكم وهُم أشحَّة على المال والغنيمة. قال قتادة: إِذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطُونا فلستم أحقَّ بها منَّا فأمَّا عند الباس، فأجبن قوم وأخذله للحق، وأمَّا عند الغنيمة، فأشحُّ قوم. وفي المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغنيمة. والثاني: على المال أن يُنفقوه في سبيل الله تعالى. والثالث: على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بظَفَره. قوله تعالى: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا أي: هُمْ وإِن أظهروا الإِيمان فليسوا بمؤمِنين، لنفاقهم فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ قال مقاتل أي: أبطلَ جهادهم، لأنه لم يكن في إِيمان وَكانَ ذلِكَ الإِحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. ثم أخبر عنهم بما يدل على جُبنهم، فقال: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي: يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجُبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ أي: يَرجعوا إِليهم كَرَّةً ثانية للقتال يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي: يتمنَّوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي: ودُّوا لو أنَّهم بالبُعد منكم يسألون عن أخباركم، فيقولون: ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهَدة، فَرَقاً وجُبناً وقيل: بل يَسألون شماتةً بالمسلمين وفرحاً بنكَبَاتهم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ أي: لو كانوا يشهدون القتال معكم ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا فيه قولان: أحدهما: إِلا رمياً بالحجارة، قاله ابن السائب. والثاني: إِلا رياءً من غير احتساب، قاله مقاتل. ثم عاب من تخلّف بالمدينة بقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي: قُدوة صالحة. والمعنى: لقد كان لكم به اقتداءٌ لو اقتديتم به في الصبر معه كما صبر يوم أُحُد حتى كسرت رباعيّته وشجّ جبينه وقتل عمّه، وواساكم مع ذلك بنفسه. وقرأ عاصم: «أُسوةٌ» بضم الألف والباقون بكسر الألف وهما لغتان. قال الفراء: أهل الحجاز وأَسَد يقولون: «إِسوة» بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون: «أُسوة» بالضم. وخَصَّ اللهُ تعالى بهذه الأُسوة المؤمنين، فقال: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ والمعنى أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلّم إِنما كانت لِمَن كان يرجو الله واليوم الآخر وفيه قولان: أحدهما: يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله ابن عباس. والثاني: يخشى الله عزّ وجلّ ويخشى البعث، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي: ذِكْراً كثيراً، لأن ذاكر الله تعالى متَّبِع لأوامره، بخلاف الغافل عنه. ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال: لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وفي ذلك الوعد قولان: أحدهما: أنه قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ «1» الآية: فلمَّا عاينوا البلاء يومئذ قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، قاله ابن

_ (1) البقرة: 214.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 إلى 27]

عباس، وقتادة في آخرين. والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعدهم بالنّصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحِيرة، ذكره الماوردي وغيره. قوله تعالى: وَما زادَهُمْ يعني ما رأوه إِلَّا إِيماناً بوعد الله تعالى وَتَسْلِيماً لأمره. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 الى 27] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في أنس بن النضر، قاله أنس بن مالك. (1126) وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال: غاب عمِّي أَنَس بن النَّضْر عن قتال بدر، فلمَّا قَدِم قال: غِبْتُ عن أوّل قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلّم المشركين، لئن أشهدني الله عزّ وجلّ قتالاً لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع، فلمّا كان يوم أُحُدٍ انكشف الناسُ، فقال: اللهم إِني أبرأُ إِليكَ ممَّا جاء به هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر إِليك ممَّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين ثم مشى بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد، والذي نفسي بيده إِني لأجد ريح الجنة دون أُحُد، واهاً لريح الجنة. قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بِضْع وثمانون جِراحة، من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورَمْيَة بسهم، قد مثَّلوا به قال: فما عرفناه حتى عرفتْه أختُه بِبَنانه قال أنس: فكنّا نقول: أُنزلت هذه الآية «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» فيه وفي أصحابه. (1127) والثاني: أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله. روى النزَّال بن سَبْرة عن عليّ عليه السلام

_ صحيح. أخرجه البخاري 2805 و 4048 ومسلم 1903 والترمذي 3200 والنسائي في «التفسير» 422 و 423 من حديث أنس، وليس فيه سبب النزول. حسن بشواهده. أخرجه أبو الشيخ وابن عساكر كما في «الدر» 5/ 366، ولم أقف على إسناده، وللحديث شواهد مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلفظ «طلحة ممن قضى نحبه» وبألفاظ متقاربة منها: حديث جابر بن عبد الله أخرجه الترمذي 3739 والحاكم 3/ 376 من طرق عن الصلت بن دينار به. قال الحاكم: تفرّد به الصلت، وليس من شرط هذا الكتاب. وقال الذهبي: الصلت واه. وحديث معاوية بن أبي سفيان أخرجه الترمذي 3202 و 3740 وابن سعد في «الطبقات» 3/ 164 وابن ماجة 126 و 127 والطبري 28431 من طريقين عن إسحاق بن يحيى الطلحي عن موسى بن طلحة عن معاوية مرفوعا. وإسناده واه لأجل إسحاق بن يحيى، قال أحمد والنسائي: متروك. وقال يحيى: لا يكتب حديثه. وحديث عائشة أخرجه ابن سعد 3/ 163- 164 وأبو يعلى 4898 وأبو نعيم 1/ 88 ومداره على صالح بن موسى، وهو متروك، وكذا قال الهيثمي في «المجمع» 9/ 48. وحديث عائشة أخرجه الحاكم 3/ 376 من وجه آخر عنها وفيه إسحاق بن يحيى متروك ليس بشيء. وحديث طلحة بن عبيد الله أخرجه الترمذي 3203 و 3742 وأبو يعلى 363 والطبري 28430- من طريق موسى وعيسى ابني طلحة عنه. قال الترمذي: حسن غريب، وسمعت البخاري يحدث بهذا الحديث عن أبي كريب، ووضعه في كتاب «الفوائد» . ورجاله رجال مسلم ولكن طلحة بن يحيى، وإن روى له مسلم، ووثقه غير واحد فقد قال يحيى القطان: لم يكن بالقوي. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو زرعة: صالح الحديث. وله شاهد مرسل أخرجه ابن سعد 3/ 164 من طريق حصين عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وهذا مرسل صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم، ليس له علة إلا الإرسال فهذا شاهد لما تقدم. الخلاصة: هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده، ومع ذلك في المتن غرابة وانظر «أحكام القرآن» 1766 بتخريجنا وانظر «الصحيحة» 126.

أنهم قالوا له: حدِّثنا عن طلحة، قال: ذاك امرؤٌ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى: «فمنهم من قضى نحبه» لا حساب عليه فيما يستقبل. وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة، وأولها في أنس. قال ابن جرير: ومعنى الآية: وفوا الله بما عاهدوه عليه. وفي ذلك أربعة أقوال. أحدها: أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإِسلام والنصرة. والثاني: أنهم قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا الله عزّ وجلّ أن لا يتأخَّروا بعدها. والثالث: أنهم عاهدوا أن لا يفرُّوا إِذا لاقَواْ، فصَدَقوا. والرابع: أنهم عاهدوا على البأساء والضرَّاء وحين البأس. قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فمنهم من مات، ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس. والثاني: فمنهم من قضى عهده قُتل أو عاش، ومنهم من ينتظر أن يقضيَه بقتال أو صدق لقاءٍ، قاله مجاهد. والثالث: فمنهم من قضى نَذْره الذي كان نذر، قاله أبو عبيدة. فيكون النَّحْب على القول الأول: الأَجْل وعلى الثاني: العهد وعلى الثالث: النَّذْر. وقال ابن قتيبة: «قضى نحبه» أي: قُتل، وأصل النَّحْب: النَّذْر، كأن قوماً نذروا أنهم إِن لَقُوا العدوَّ قاتَلوا حتى يُقتَلوا أو يَفتَح اللهُ عليهم، فقُتِلوا، فقيل: فلان قضى نَحْبَه، أي: قُتِل، فاستعير النَّحْب مكان الأَجَل، لأن الأَجَل وقع بالنَّحْب، وكان النَّحْبُ سبباً له، ومنه قيل: للعطيَّة: «مَنْ» ، لأن من أعطى فقد مَنَّ. قال ابن عباس: ممَّن قضى نَحْبه: حمزة بن عبد المطلب، وأنس بن النَّضْر وأصحابه. وقال ابن إِسحاق: «فمنهم من قضى نحبه» من استُشهد يوم بدر وأُحُدٍ، «ومنهم من ينتظرُ» ما وعد اللهُ من نصره، أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه وَما بَدَّلُوا أي: ما غيَّروا العهد الذي عاهدوا ربَّهم عليه كما غيَّر المنافقون. قوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا الله تعالى عليه وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ بنقض العهد إِنْ شاءَ وهو أن يُميتَهم على نفاقهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ في الدنيا، فيخرجَهم من النفاق إِلى الإِيمان، فيغفر لهم. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني الأحزاب، صدَّهم ومنعهم عن الظَّفَر بالمسلمين بِغَيْظِهِمْ أي: لم يَشْفِ صدورهم بِنَيْل ما أرادوا لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي: لم يظفروا بالمسلمين، وكان ذلك عندهم خيراً، فخوطبوا على استعمالهم وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملائكة، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي: عاونوا الأحزاب، وهم بنو قريظة، وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم من العهد، وصاروا مع المشركين يداً واحدة.

وهذه الإشارة إلى قصتهم

وهذه الإِشارة إِلى قصتهم (1128) ذكر أهل العِلْم بالسّيرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمَّا انصرف من الخندق وضع عنه اللأْمة واغتسل، فتبدَّى له جبريل، فقال: ألا أراك وضعت اللأْمة، وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة؟! إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك أن تسير إِلى بني قريظة فانِّي عامد إِليهم فمزلزِل بهم حصونهم، فدعا عليّاً رضي الله عنه فدفع لواءه إِليه، وبعث بلالاً فنادى في الناس: (1129) إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم أن لا تصلُّوا العصر إِلا ببني قريظة، ثم سار إِليهم فحاصرهم خمسة عشر يوماً أشدَّ الحصار، وقيل: عشرين ليلة. (1130) فأَرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أَرْسِل إِلينا أبا لُبَابة بن عبد المنذر، فأرسله إِليهم، فشاوروه في أمرهم، فأشار إِليهم بيده: إِنه الذَّبْح، ثُمَّ ندم فقال: خنتُ الله تعالى ورسولَه، فانصرف فارتبط في المسجد حتى أنزل الله تعالى توبته، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأمّر بهم رسول الله محمّد بن مسلمة، فكتفوا، ونُحُّوا ناحيةً، وجُعل النساء والذُّرِّية ناحيةً. وكلَّمت الأوس رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يَهَبَهم لهم، وكانوا حلفاءهم، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم الحُكْمَ فيهم إِلى سعد بن معاذ هكذا ذكر محمد بن سعد. (1131) وحكى غيره: أنهم. نزلوا أوَّلاً على حكم سعد بن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف، فَرَجَواْ أن تأخذه فيهم هوادة، فحكم فيهم أن يُقتل كلُّ مَنْ جَرَت عليه المَوَاسي «1» ، وتُسبى النساء

_ صحيح. أخرجه البخاري 4122 ومسلم 1769 وأبو داود 3101 والنسائي 2/ 45 وابن سعد 3/ 425 كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «أصيب سعد يوم الخندق، فضرب النبي صلى الله عليه وسلّم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام، وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: وقد وضعت السلاح، والله ما وضعته، اخرج إليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: فأين، فأشار إلى بني قريظة ... » الحديث راجع «المجمع» 10156 وما بعده وانظر «أحكام القرآن» 1762 بتخريجنا. صحيح. أخرجه البخاري 946 و 4119 و 1770 و 3798 والبغوي 3798 والطبراني 19/ 160 وابن حبان 1462 من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لنا لما رجع من الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يرد منا ذلك فذكر للنبي صلى الله عليه وسلّم فلم يعنف واحدا منهم. لفظ البخاري. أخرجه الطبري 28446 من طريق محمد بن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري مرسلا، لكن لأصله شواهد. صحيح. أخرجه البخاري 3043 و 3804 و 4121 و 6262 ومسلم 1768 ح 64 وأبو داود 5215 و 5216 والنسائي في «الفضائل» 118 وابن سعد 3/ 424 وأحمد 3/ 22 والطبراني 5323 والبيهقي 6/ 57- 58 و 9/ 63 وابن حبان 7026 والبغوي 2718 من طرق عن شعبة به. - وأخرجه مسلم 1768 وأبو يعلى 1188 وابن حبان 7026 عن أبي خيثمة زهير بن حرب به. - وأخرجه أحمد 3/ 22 عن عبد الرحمن بن مهدي به، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم- وكان قريبا منه- فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيدكم» فجاء فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له: «إن هؤلاء نزلوا على حكمك» قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية. قال: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك» .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 إلى 34]

والذّراري، وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة» وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأمر بهم فأُدخلوا المدينة، وحُفر لهم أُخدود في السّوق، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه أصحابه، وأُخرجوا إِليه فضُربت أعناقهم، وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة. قوله تعالى: مِنْ صَياصِيهِمْ قال ابن عباس وقتادة: من حصونهم قال ابن قتيبة: وأصل الصيَّاصي: قرون البقر، لأنها تمتنع بها، وتدفع عن أنفسها فقيل للحصون: الصياصي، لأنها تَمنع، وقال الزجاج: كل قرن صيصية، وصيصية الديك: شوكة يتحصن بها. قوله تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي: ألقى فيها الخوف فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم المُقاتِلة وَتَأْسِرُونَ وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة: «وتأسُرون» برفع السين فَرِيقاً وهم النساء والذَّراري، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ يعني عقارهم ومنازلهم ونخيلهم وَأَمْوالَهُمْ من الذهب والفضة والحُلِيّ والعبيد والإِماء وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أي: لم تطئوها بأقدامكم بَعْدُ، وهي مما سنفتحها عليكم وفيها أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها فارس والروم، قاله الحسن. والثاني: ما ظهر عليه المسلمون إِلى يوم القيامة، قاله عكرمة. والثالث: مكة، قاله قتادة. والرابع: خيبر، قاله ابن زيد، وابن السّائب، وابن إسحاق، ومقاتل. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 34] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ... الآية. (1132) ذكر أهل التفسير أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم سألنه شيئاً من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة في

_ صحيح. أخرجه مسلم 1479 وأبو يعلى 164 من طريق سماك بن حرب عن ابن عباس عن عمر مطوّلا مع اختلاف في ألفاظه. وأخرجه البخاري 89 ومسلم 1479 والترمذي 3325 وأحمد 1/ 33 والنسائي 4/ 137

النفقة، وآذينه بغَيْرة بعضهنّ على بعض، فآلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم شهراً، وصَعِد إِلى غرفة له فمكث فيها، فنزلت هذه الآية، (1133) وكُنَّ أزواجُه يومئذ تسعاً: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسَوْدة، وأم سَلَمة، وصَفِيَّة الخيبريَّه، وميمونة الهلالية وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، (1134) فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعرض الآية عليهنّ، فبدأ بعائشة، فاختارت الله ورسوله، ثم قالت: يا رسول الله لا تُخبر أزواجك أنِّي اخترتك فقال «إِن الله بعثني مُبلِّغاً ولم يبعثني متعنِّتاً» . وقد ذكرت حديث التخيير في كتاب «الحدائق» وفي «المغني» بطوله. وفي ما خيَّرهنَّ فيه قولان «1» : أحدهما: أنه خيَّرهن بين الطلاق والمقام معه، هذا قول عائشة رضي الله عنها. والثاني: أنه خيَّرهنَّ بين اختيار الدنيا فيفارقهنّ، أو اختيار الآخرة فيُمسكهنّ، ولم يخيِّرهنّ في الطلاق، قاله الحسن، وقتادة. وفي سبب تخييره إِيَّاهُنَّ ثلاثة أقوال. أحدها: أنَّهنَّ سألنَه زيادة النَّفقة. والثاني: أنَّهنَّ آذَينه بالغَيْرة. والقولان مشهوران في التفسير. والثالث: أنه لمَّا خُيِّر بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة، أُمِر بتخيير نسائه ليكنَّ على مِثْل حاله، حكاه أبو القاسم الصّيمري. والمراد بقوله تعالى: أُمَتِّعْكُنَّ: مُتعة الطلاق. والمراد بالسَّراح: الطلاق، وقد ذكرنا ذلك في البقرة «2» . والمراد بالدار الآخرة. الجنة. والمُحْسِنات: المُؤْثِرات للآخرة. قال المفسرون: فلمّا اخترنه أثابهنّ الله عزّ وجلّ ثلاثة أشياء: أحدها: التفضيل على سائر النساء بقوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ. والثاني: أن جَعَلَهُنَّ أُمَّهات المؤمنين. والثالث: أن حظر عليه طلاقَهُنَّ والاستبدال بهنّ بقوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ «3» . وهل أبيح له بعد ذلك

_ أخرجه الطبري 8461 عن قتادة مرسلا، وله شواهد. صحيح. أخرجه مسلم 1478 وأحمد 3/ 328 وأبو يعلى 2253 والبيهقي 7/ 38 من حديث جابر مطولا.

التزويج عليهنّ؟ فيه قولان سيأتي ذِكْرهما إِن شاء الله تعالى. قوله تعالى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي: بمعصية ظاهرة. قال ابن عباس: يعني النشوز وسوءَ الخُلُق يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي: يُجعل عذاب جُرمها في الآخرة كعذاب جُرمَين، كما أنها تُؤتى أجرَها على الطاعة مرتين. وإِنما ضوعف عِقابُهنّ، لأنهنّ يشاهدن من الزّواجر الرّادعة ما لا يُشاهِد غيرُهن، فاذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، ولأن في معصيتهنَّ أذىً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وجرم من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكبرُ من جُرم غيره. قوله تعالى: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي: وكان عذابُها على الله عزّ وجلّ هيّنا. وَمَنْ يَقْنُتْ أي: تطع، وأَعْتَدْنا قد سبق بيانه «1» ، والرِّزق الكريم: الحَسَن، وهو الجنة. ثُمَّ أظهر فضيلتهنّ على النساء بقوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ قال الزجاج: لم يقل: كواحدة من النساء، لأن «أَحَداً» نفي عامّ للمذكَّر والمؤنَّث والواحد والجماعة. قال ابن عباس: يريد: ليس قدرُكُنَّ عندي مثل قَدْر غيركنَّ من النساء الصالحات، أنْتُنَّ أكرمُ عليَّ، وثوابُكُنَّ أعظم إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، فشرط عليهن التقوى بياناً أن فضيلتهنَّ إِنَّما تكون بالتقوى، لا بنفس اتصالهنّ برسول الله صلى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي: لا تلِنَّ بالكلام فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي: فُجور والمعنى: لا تَقُلْنَ قولاً يجد به منافق أو فاجر سبيلاً إِلى موافقتكن له، والمرأة مندوبة إِذا خاطبت الأجانب إِلى الغِلظة في المَقَالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الرِّيبة. وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي: صحيحاً عفيفاً لا يُطمِع فاجراً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرأ نافع، وعاصم إِلا أبان، وهبيرة، والوليد بن مسلم عن ابن عامر: «وقََرْنَ» بفتح القاف وقرأ الباقون بكسرها. قال الفراء: من قرأ بالفتح، فهو من قَرَرْتُ في المكان، فخفِّفت، كما قال: ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً «2» ، ومن قرأ بالكسر، فمن الوَقار، يقال: قِرْ في منزلك. وقال ابن قتيبة: من قرأ بالكسر، فهو من الوقار، يقال: وَقَرَ في منزله يَقِرُ وَقُوراً. ومن قرأ بنصب القاف جعله من القرار. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل: «واقْرَرْنَ» باسكان القاف وبراءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة مثله، إِلا أنهما كسرا الراء الأولى. قال المفسرون: ومعنى الآية: الأمر لهن بالتوقُّر والسكون في بُيوتهنَّ وأن لا يَخْرُجْنَ. قوله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ قال أبو عبيدة: التبرُّج: أن يُبْرِزن محاسنهن. وقال الزجاج: التبرُّج: إِظهار الزِّينة وما يُستدعى به شهوةُ الرجل. وفي الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أربعة أقوال: أحدها: أنها كانت بين إِدريس ونوح، وكانت ألف سنة، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنها كانت على عهد إِبراهيم عليه السلام، وهو قول عائشة رضي الله عنها. والثالث: بين نوح وآدم، قاله الحكم. والرابع: ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله الشعبي. قال الزجاج: وإِنما قيل: «الأولى» ، لأن كل متقدِّم أوَّل، وكل متقدِّمة أُولى، فتأويله: أنهم تقدّموا أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم. وفي صفة تبرُّج الجاهلية الأولى ستة أقوال: أحدها: أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال، فهو التبرج، قاله مجاهد. والثاني: أنها مِشية فيها تكسُّر وتغنُّج، قاله قتادة. والثالث: أنه التّبختر، قاله

_ (1) النساء: 37. (2) طه: 97.

ابن أبي نجيح. والرابع: أن المرأة منهن كانت تتخذ الدِّرع من اللؤلؤ فتَلْبَسُه ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها غيره، وذلك في زمن إِبراهيم عليه السلام، قاله الكلبي. والخامس: أنها كانت تُلقي الخِمار عن رأسها ولا تشُدُّه، فيُرى قُرْطها وقلائدها، قاله مقاتل. والسادس: أنها كانت تَلْبَس الثياب تبلغ المال، لا تواري جَسدها، حكاه الفراء. قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ وفيه للمفسرين خمسة أقوال: أحدها: الشرك، قاله الحسن. والثاني: الإِثم، قاله السدي. والثالث: الشيطان، قاله ابن زيد. والرابع: الشكّ. والخامس: المعاصي، حكاهما الماوردي. قال الزجاج: الرِّجس: كل مستقذَر من مأكول أو عمل أو فاحشة. ونصب «أهلَ البيت» على وجهين: أحدهما: على معنى: أعني أهلَ البيت. والثاني: على النداء، فالمعنى: يا أهل البيت. وفي المراد بأهل البيت ها هنا ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنهنَّ في بيته، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وابن السّائب، ومقاتل. ويؤكّد هذا القولَ أن ما قبله وبعده متعلِّق بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وعلى أرباب هذا القول اعتراض، وهو أن جمع المؤنَّث بالنون، فكيف قيل: «عنكم» «ويطهركم» ؟ فالجواب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيهنَّ، فغلّب المذكَّر. والثاني: أنه خاصٌّ في رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم، قاله أبو سعيد الخدري. (1135) وروي عن أنس وعائشة وأمّ سلمة نحو ذلك.

_ أصل الحديث. ورد عن جماعة من الصحابة. 1- حديث أم سلمة، وله طرق متعددة: الأول: أخرجه الطحاوي في «المشكل» 766 من طريق الأجلح عن شهر بن حوشب عن أم سلمة، وعبد الملك عن عطاء عن أم سلمة. وإسناده حسن في الشواهد، الأجلح هو ابن عبد الله، وثقه قوم، وضعفه آخرون، وقد تابعه عبد الملك بن أبي سليمان، وهو ثقة، لكن لم يسمع عطاء من أم سلمة. وأخرجه أحمد 6/ 304 والترمذي 3876 والطبراني 23 (769) عن زبيد بن الحارث عن شهر عن أم سلمة. وإسناده لين لأجل شهر. الطريق الثاني: أخرجه الطحاوي 768 والطبري 28495 و 28497 من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد عن أم سلمة. وإسناده واه لأجل عطية العوفي. الطريق الثالث: أخرجه الطحاوي 765 و 772 من طريق عمرة بنت أفعى عن أم سلمة. وإسناده ضعيف لجهالة عمرة. الطريق الرابع: أخرجه الطحاوي 763 والطبري 28498 من طريق عبد الله بن وهب بن زمعة. وإسناده ضعيف، فيه خالد بن مخلد

والثالث: أنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأزواجه، قاله الضحاك. وحكى الزجاج أنهم نساء النبيّ صلى الله عليه وسلّم والرجال الذين هم آله قال: واللغة تدل على أنها للنساء والرّجال جميعا، لقوله تعالى: عَنْكُمُ بالميم، ولو كانت للنساء، لم يجز إِلاَّ «عنكنّ» «ويُطهركنّ» . قوله تعالى: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من الشِّرك، قاله مجاهد. والثاني: من السُّوء، قاله قتادة. والثالث: من الإثم، قاله السّدّيّ، ومقاتل.

_ القطواني، غير حجة، وموسى بن يعقوب سيء الحفظ. الطريق الخامس: أخرجه الطحاوي 762 والطبري 28502 والطبراني 23 (750) . وإسناده ضعيف، فيه عنعنة الأعمش، وهو مدلس، وفيه جعفر بن عبد الرحمن البجلي، وهو شبه مجهول، حيث وثقه ابن حبان وحده. الطريق السادس: أخرجه الطبري 28496 من طريق سعيد بن زربي عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن أم سلمة. وإسناده ضعيف لضعف سعيد بن زربي. ولفظه عند الترمذي: عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلّم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله قال: إنك إلى خير. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو أحس شيء روي في هذا الباب. 2- حديث عائشة رضي الله عنها: أخرجه مسلم 2424 والطبري 28488 من طريقين عن محمد بن بشر عن زكريا به وإسناده غير قوي، فيه مصعب بن شيبة، فهو وإن روى له مسلم فقد ضعفه غير واحد، لذا لينه الحافظ في «التقريب» لكن لم ينفرد بهذا المتن. وأخرجه الحاكم 3/ 147 من طريق عبيد الله عن زكريا به! وصححه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي!، وليس كما قالا، فقد تفرد. وأخرجه البغوي 3804 من طريق الوليد بن شجاع عن يحيى بن زكريا به. ولفظه عند مسلم: قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلّم غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله. ثم جاء الحسين فدخل معه. ثم جاءت فاطمة فأدخلها. ثم جاء علي فأدخله ثم قال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» . 3- حديث واثلة بن الأسقع: أخرجه أحمد 4/ 107 وفي «الفضائل» 978 وابن أبي شيبة 12/ 72- 73 وابن حبان 6976 والحاكم 3/ 147 والطحاوي في «المشكل» 773 والطبري 28494 من طرق عن الأوزاعي ثني شداد أبو عمار قال سمعت واثلة ... بنحو الحديث المتقدم، وليس فيه ذكر أم سلمة أصلا. وإسناده صحيح. شداد من رجال مسلم، وباقي الإسناد على شرط الشيخين، وقد صححه الحاكم على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: على شرط مسلم. وكرره الطبري 28493 من طريق كلثوم المحاربي عن شداد به، وإسناده حسن في الشواهد. 4- حديث عمرو بن أبي سلمة: أخرجه الترمذي 3787 والطبري 28499 والطحاوي في «المشكل» 771 من طريق يحيى بن عبيد المكي عن عطاء عن عمر بن أبي سلمة به. ورجاله ثقات معروفون غير يحيى بن عبيد حيث قال الحافظ في «التقريب» : يحيى بن عبيد عن عطاء، يحتمل أن يكون الذي قبله، وإلا فمجهول. وقال عن الذي قبله: يحيى بن عبيد المكي، مولى بني مخزوم، ثقة من السادسة. قلت: قد توبع على أكثر هذا المتن، دون لفظ «وجعل عليا خلفه» فقد تفرد به، وهو غريب. 5- حديث سعد بن أبي وقاص: أخرجه مسلم 2404 ح 32 والترمذي 2999 و 3724 وأحمد 1/ 185 والنسائي في «الخصائص» 11 والطحاوي في «المشكل» 761 من طرق عن حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار عن عامر بن سعد عن سعد قال: لما نزلت هذه الآية فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي» . لفظ مسلم والترمذي وغيرهما دون النسائي والطحاوي حيث ذكر في الحديث الآية التي في الأحزاب. وكرره النسائي 54 والطبري 28501 والحاكم 3/ 108 من وجه آخر، وليس فيه ذكر الآية أصلا، بل فيه «حين نزل الوحي» وإسناده صحيح. الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وأصح متن وإسناد في هذا الباب حديث سعد ثم حديث واثلة ثم حديث أم سلمة لطرقه الكثيرة ثم حديث عائشة ثم حديث عمر بن أبي سلمة.

[سورة الأحزاب (33) : آية 35]

قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ فيه قولان: أحدهما: أنه تذكير لهنَّ بالنِّعَم. والثاني: أنه أمرٌ لهنَّ بحفظ ذلك. فمعنى «واذكُرْنَ» : واحفَظْن ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن. وفي الحكمة قولان: أحدهما: أنها السُّنَّة، قاله قتادة. والثاني: الأمر والنّهي، قاله قتادة. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً أي: ذا لطف بكُنَّ إِذْ جعلكُنَّ في البيوت التي تُتْلى فيها آياتُه خَبِيراً بكُنَّ إِذ اختاركنّ لرسوله. [سورة الأحزاب (33) : آية 35] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ في سبب نزولها خمسة أقوال: (1136) أحدها: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم قُلْنَ: ما له ليس يُذْكَر إِلاَّ المؤمنون، ولا يذكر المؤمنات بشيء؟! فنزلت هذه الآية، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. (1137) والثاني: أن أُمَّ سَلَمَة قالت: يا رسول الله يُذْكَرُ الرجال ولا نُذْكَر! فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ «1» ، قاله مجاهد. (1138) والثالث: أن أُمَّ عُمَارة الأنصارية قالت: قلت: يا رسول الله بأبي وأُمِّي ما بالُ الرجال يُذْكَرون، ولا تُذْكرَ النساء؟! فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. وذكر مقاتل بن سليمان أن أُمُّ سَلَمة وأُمُّ عُمَارة قالتا ذلك، فنزلت الآية في قولهما «2» . (1139) والرابع: أن الله تعالى لمَّا ذكر أزواج رسوله دخل النساءُ المُسْلمات عليهنَّ فقُلْنَ: ذُكِرْتُنَّ ولم نُذْكَر، ولو كان فينا خيرٌ ذُكِرنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. (1140) والخامس: أن أسماء بنت عُمَيس لما رجعت من الحبشة دخلت على نساء

_ إسناده ضعيف. أخرجه الطبري 28510 والطبراني 12/ 108 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف قابوس بن أبي ظبيان، وقال الهيثمي 7/ 91: قابوس ضعيف وقد وثق وبقية رجاله ثقات اه. فالإسناد ضعيف. مع ذلك فهو شاهد لما بعده وانظر «تفسير الشوكاني» 1998 بتخريجنا. أخرجه الحاكم 2/ 416 عن مجاهد عن أم سلمة ورجاله ثقات لكن رواية مجاهد عن أم سلمة مرسلة، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وأخرجه أحمد 6/ 301 والنسائي في «التفسير» 425 والطبري 28512 من حديث أم سلمة وإسناده حسن رجاله ثقات، وورد من طرق كثيرة. وأخرجه النسائي 424 والطبراني 23/ 263 من وجه آخر. وله شاهد هو الآتي. أخرجه الترمذي 3211 من حديث أم عمارة، وقال حسن غريب اه. وسليمان بن كثير فيه ضعف، ومع ذلك هو شاهد لما قبله. وانظر «تفسير الشوكاني» 1997 بتخريجنا. مرسل. أخرجه الطبري 28505 عن قتادة مرسلا. وانظر ما تقدم. ذكره الواحدي في «الوسيط» 3/ 471 و «أسباب النزول» 700 عن مقاتل بن حيان بدون إسناد، وهو مرسل، ومقاتل ذو مناكير، والصحيح ما تقدم.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 إلى 37]

رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله إِن النساء لفي خَيْبة وخسار، قال: «ومم ذاك» ؟ قالت: لأنهنَّ لا يُذْكَرْنَ بخير كما يُذْكَر الرجال، فنزلت هذه الآية، ذكره مقاتل بن حيَّان. وقد سبق تفسير ألفاظ الآية في مواضع «1» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 37] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ... الآية، في سبب نزولها قولان: (1141) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم انطلق يخطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فقالت: لا أرضاه، ولستُ بِنَاكِحَتِه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بلى فانكحيه، فانِّي قد رضيتُه لك» ، فأبت. فنزلت هذه الآية. وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور. وذكر بعض المفسرين أن عبد الله بن جحش أخا زينب كره ذلك كما كرهته زينب، فلمَّا نزلت الآيةُ رضيا وسلَّما. قال مقاتل: والمراد بالمؤمن عبد الله بن جحش، والمؤمنة زينب بنت جحش. (1142) والثاني: أنها نزلت في أُمِّ كُلثوم بنت عُقْبة بن أبي مُعَيط، وكانت أوَّل امرأة هاجرت، فوهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: «قد قَبلْتُكِ» ، وزوَّجها زيدَ بن حارثة، فسخطت هي وأخوها، وقالا: إِنَّما أردنا رسولَ الله، فزوَّجها عبدَه؟! فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد. والأول عند المفسرين أصح. قوله تعالى: إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أي: حَكَما بذلك «أن تكون» وقرأ أهل الكوفة: «أن يكون» بالياء لَهُمُ الْخِيَرَةُ وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء: «الخِيْرَةُ» باسكان الياء فجمع في الكناية في قوله تعالى: «لهم» ، لأن المراد جميع المؤمنين والمؤمنات، والخِيرَة: الاختيار، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله. (1143) فلمّا زوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيداً مكثت عنده حيناً، ثم إِن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى منزل زيد

_ أخرجه الطبري 28513 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف عطية بن سعد العوفي، ومن دونه مجاهيل، لكن لأصله شواهد، وأخرجه الطبري 28515 عن قتادة مرسلا. - وأخرجه الدارقطني 3/ 301 عن زينب بنت جحش بمعناه. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 28517 عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو معضل، ومع ذلك عبد الرحمن بن زيد متروك الحديث. باطل بهذا اللفظ. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 8/ 80 ومن طريقه الحاكم في «المستدرك» 4/ 23 من-

فنظر إِليها وكانت بيضاء جميلة من أتمِّ نساء قريش، فوقعت في قلبه، فقال: «سبحان الله مقلِّب القلوب» ، وفطن زيد، فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها. وقال بعضهم: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم منزل زيد، فرأى زينب، فقال: «سبحان مقلِّب القلوب» ، فسمعت ذلك زينب، فلمَّا جاء زيد ذكرت له ذلك، فعلم أنها قد وقعت في نفسه، فأتاه فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها. وقال ابن زيد: جاء

_ طريق محمد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلا. وإسناده ساقط له علل ثلاث: الأولى: الإرسال. الثانية: عبد الله بن عامر ضعيف الحديث. الثالثة: الواقدي متروك الحديث. والمتن باطل بهذا اللفظ، لا يليق بمقام النبي صلى الله عليه وسلّم مثل هذا. - وورد نحوه عن عبد الرحمن بن زيد. أخرجه الطبري 28519 وهذا معضل، وابن زيد متروك إذا وصل الحديث فكيف إذا أرسله. - وورد نحوه عن مقاتل كما ذكر المصنف والحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف عن الثعلبي بدون إسناد. ومقاتل لا يحتج بما يتفرد به، فهو متهم بالوضع. وقد قال الحافظ في «الفتح» : وردت آثار أخرجها ابن أبي حاتم والطبري، ونقلها كثير من المفسّرين، لا ينبغي التشاغل بها. - قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 3/ 576: عهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردّا أن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله، لا يزيد عليه، فإن أخبارهم مروية، وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين: إما غبي عن مقدارهم، وإما بدعي لا رأي له في برّهم ووقارهم فيدس تحت المقال المطلق الدواهي ولا يراعي الأدلة ولا النواهي ومحمد صلى الله عليه وسلّم ما عصى ربه قط فلم يقع قط في صغيرة- حاشا لله- ولا ذنب كبير. وهذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد. فأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلّم رآها فوقعت في قلبه فباطل، فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج، حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة وإنما كان الحديث ... قلت: وهو الصواب في ذلك أن زينب كانت تفخر وتترفع على زيد بسبب أنها قرشية حسيبة نسيبة وهو مولى الأصل ... فكان يشكوها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول له: «أمسك عليك زوجك» كما أخبر به القرآن-. وقد أخرج مسلم 1428 وابن سعد 8/ 82 والنسائي في «التفسير» 430، عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد: «اذكرها عليّ» قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمّر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكرها. فوليتها صدري ونكصت على عقبي. فقلت: يا زينب! أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ... الحديث واللفظ لمسلم. فهذا هو الصحيح فعليك به. وقال ابن العربي رحمه الله 3/ 578: وإنما كان الحديث أنها لما استقرت عند زيد جاءه جبريل: إن زينب زوجك، ولم يكن بأسرع أن جاءه زيد يتبرأ منها، فقال له: اتق الله، وأمسك عليك زوجك فأبى زيد إلا الفراق وطلّقها وانقضت عدتها، وخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلّم على يدي مولاه زوجها. وأنزل الله القرآن المذكور فيه خبرهما، هذه الآيات. فقال: اذكر يا محمد إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أمسك عليك زوجك، واتق الله في فراقها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه، يعني من نكاحك لها. وهو الذي أبداه لا سواه. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلّم أن الله تعالى إذا أوحى إليه أنها زوجته لا بد من وجود هذا الخبر وظهوره، هذا يدلك على براءته من كل ما ذكره متسور من المفسّرين، مقصور على علوم الدين. فإن قيل: فكيف يأمره بالتمسك بها، وقد علم أن الفراق لا بد منه؟ قلنا: هو صحيح للمقاصد الحسنة لإقامة الحجة، ومعرفة العاقبة، إنه أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله به من رغبته منها فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهية فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها. ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان، وقد علم أنه لا يؤمن فليس في مخالفة متعلّق الأمر لمتعلّق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما، وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه. قلت: هذا هو الصواب إن شاء الله، وكلام ابن العربي نفيس جدا، فتدبره والله الموفق.

فصل:

رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى باب زيد- وعلى الباب سِتْر من شعر- فرفعت الريح السِّتر، فرأى زينب، فلمَّا وقعت في قلبه كرهت إِلى الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله أُريد فراقها، فقال: «اتق الله» . وقال مقاتل: لمَّا فطن زيد لتسبيح رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فان فيها كِبْراً، فهي تَعظَّم عليَّ وتؤذيني بلسانها، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك زوجك واتق الله» . ثم إِن زيداً طلَّقها بعد ذلك، فأنزل الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالاسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعِتْق. قوله تعالى: وَاتَّقِ اللَّهَ أي: في أمرها فلا تطلِّقها وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ أي: تُسِرُّ وتُضْمِر في قلبك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي: مُظْهِره وفيه أربعة أقوال «1» : أحدها: حُبّها، قاله ابن عباس. والثاني: عهد عهده الله إِليه أنَّ زينب ستكون له زوجة، فلمَّا أتى زيد يشكوها، قال له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، وأخفى في نفسه ما الله مبديه، قاله علي بن الحسين. والثالث: إِيثاره لطلاقها، قاله قتادة، وابن جريج، ومقاتل. والرابع: أن الذي أخفاه: إِن طلَّقها زيد تزوجتُها، قاله ابن زيد. قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ فيه قولان: أحدهما: أنه خشي اليهود أن يقولوا: تزوَّج محمد امرأة ابنه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه خشي لوم الناس أن يقولوا: أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها. قوله تعالى: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ أي: أولى في كل الأحوال. وليس المراد أنه لم يخش الله تعالى في هذه الحال ولكن لمَّا كان لخشيته بالخَلْق نوع تعلُّق قيل له: اللهُ أحقُّ أن تخشى منهم. (1144) قالت عائشة: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية هي أشدّ عليه من هذه الآية، ولو كتم شيئاً من الوحي لكتمها. فصل: وقد ذهب بعض العلماء إِلى تنزيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم من حُبِّها وإِيثاره طلاقها. وإِن كان ذلك

_ صحيح. أخرجه مسلم 177 ح 288 والترمذي 3208 والنسائي في «التفسير» 428 وأحمد 6/ 241 والطبري 8522 من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة مختصرا. وأخرجه الترمذي 3207 من طريق داود بن الزبرقان عن داود عن أبي هند عن الشعبي عن عائشة به مطوّلا. وإسناده ضعيف جدا له علتان: الأولى: داود بن الزبرقان متروك الحديث. والثانية: الشعبي، وهو عامر بن شراحبيل عن عائشة منقطع. وضعفه الترمذي بقوله: غريب. وله شاهد من حديث أنس أخرجه البخاري 7420. وله شاهد من مرسل الحسن أخرجه الطبري 28518.

شائعاً في التفسير. قالوا: وإِنما عوتب في هذه القصة على شيئين: أحدهما: أنه أُخبر بأنها ستكون زوجة له، فقال لزيد: «أمسك عليك زوجك» وكتم ما أخبره الله تعالى به من أمرها حياءً من زيد ان يقول له: إِنَّ زوجتَك ستكون امرأتي وهذا يخرج على ما ذكرنا عن عليّ بن الحسين، وقد نصره الثعلبي، والواحدي. والثاني: أنه لمَّا رأى اتصال الخصومة بين زيد وزينب، ظن أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها، وأضمر أنه إِن طلَّقها تزوَّجتُها صِلةً لرحمها، وإِشفاقاً عليها، لأنها كانت بنت عمته أُميمة بنت عبد المطّلب، فعاتبه الله تعالى على إِضمار ذلك وإِخفائه حين قال لزيد: «أَمسك عليك زوجك» ، وأراد منه أن يكون ظاهره وباطنه عند الناس سواء. (1145) كما قيل له في قصة رجل أراد قتله: هلاّ أومأتَ إِلينا بقتله؟ فقال: «ما ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين» ، ذكر هذا القول القاضي أبو يعلى رحمة الله عليه. قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً قال الزجاج: الوَطَر كل حاجة لك فيها هِمَّة، فاذا بلغها البالغ، قيل: قد قضى وَطَره. وقال غيره: قضاء الوَطَر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، ثم صار عبارة عن الطلاق، لأن الرجل إِنما يطلِّق امرأته إِذا لم يبق له فيها حاجة. والمعنى: لمَّا قضى زيد حاجته من نكاحها زَوَّجْناكَها، وإِنما ذكر قضاء الوطر ها هنا ليُبيِّن أن امرأة المتبنَّي تَحِلُّ وإِن وطئها، وهو قوله تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً والمعنى: زوجْناك زينب- وهي امرأة زيد الذي تبنَّيتَه- لكيلا يُظَنَّ أن امرأة المتبنَّى لا يحلُّ نكاحها. (1146) وروى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال: لمَّا انقضت عِدَّة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد: «اذهب فاذْكُرها علَيَّ» ، قال زيد: فانطلقتُ، فلمَّا رأيتُها عَظُمَتْ في صدري حتى ما أستطيع أن أنظرُ إِليها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكرها، فولَّيتُها ظهري، ونَكَصْتُ على عَقِبي، وقلتُ: يا زينب، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكُركِ، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر «1» ربِّي، فقامت إِلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إِذن. وذكر أهل العلم أنّ من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه أُجيز له التزويج بغير مَهْر ليَخلُص قصد

_ جيد. أخرجه أبو داود 2683 و 4359 والنسائي 7/ 105- 106 والطحاوي في «شرح معاني الآثار» 3/ 330- 331 وابن أبي شيبة 14/ 491- 492 وأبو يعلى 757 والبزار 1821 والدارقطني 3/ 59، والحاكم 3/ 45 والبيهقي 7/ 40 وفي «دلائل النبوة» 5/ 59 وابن الأثير في «أسد الغابة» 4/ 70- 71 من طرق عن أحمد بن المفضل به، جميعهم من حديث سعد بن أبي وقاص. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وهو حديث حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» 6/ 168- 169: ورواه أبو داود وغيره باختصار، ورواه أبو يعلى والبزار ورجالهما ثقات! وفي الباب عن أنس: أخرجه البيهقي في «الدلائل» 5/ 60- 61، وفيه الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف. وذكره الهيثمي في «المجمع» 6/ 167- 168 ونسبه إلى الطبراني في «الأوسط» وأعله بالحكم بن عبد الملك. وعن سعيد بن المسيب مرسلا، أخرجه ابن سعد 2/ 141 من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد عنه. صحيح. أخرجه مسلم 1428 والنسائي في «التفسير» 430 والنسائي 6/ 79 وأحمد 3/ 195 وأبو يعلى 3332 وابن سعد 8/ 82 من حديث أنس. وانظر «تفسير الشوكاني» 2003 بتخريجنا.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 إلى 40]

زوجاته لله عزّ وجلّ دون العِوَض، وليخفّف عنه، وأُجيز له التزويج بغير وليّ، لأنه مقطوع بكفاءته، وكذلك هو مستغنٍ في نكاحه عن الشّهود. (1147) وكانت زينب تفاخر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلّم وتقول: زوّجكنّ أهلوكنّ وزوّجني الله عزّ وجلّ. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 40] ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) قوله تعالى: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قال قتادة: فيما أحلّ الله عزّ وجلّ له من النساء. قوله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ هي منصوبة على المصدر، لأن معنى ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ: سنَّ اللهُ عزّ وجلّ سُنَّة واسعة لا حَرَج فيها. والذين خَلَوا: هم النبيّون فالمعنى: أنّ سنّة الله عزّ وجلّ في التَّوسعة على محمد فيما فرض له، كسُنَّته في الأنبياء الماضين. قال ابن السائب: هكذا سُنَّة الله في الأنبياء، كداود، فانه كان له مائة امرأة، وسليمان كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سُرِّيَّة «1» ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي: قضاءً مقضيّاً. وقال ابن قتيبة: «سُنَّةَ الله في الذين خَلَوا» معناه: لا حَرَجَ على أحد فيما لم يَحْرُم عليه. ثم أثنى الله تعالى على الأنبياء بقوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي: لا يخافون لائمة الناس وقولهم فيما أُحِلَّ لهم. وباقي الآية قد تقدّم بيانه «2» . قوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قال المفسرون: (1148) لمَّا تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زينب، قال الناس: إِن محمداً قد تزوَّج امرأة ابنه، فنزلت هذه الآية. والمعنى: ليس بأب لزيد فتَحْرُم عليه زوجته وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ قال الزّجّاج: من نصبه،

_ صحيح. أخرجه البخاري 4787 و 7420 و 7421 والترمذي 3212 و 3213 والحاكم 2/ 417 وأحمد 3/ 150 والبيهقي 7/ 161 من حديث أنس رضي الله عنه. - وهو عند مسلم 1428 ح 90 في إحدى الروايات دون باقي الروايات، عن أنس رضي الله عنه قال: جاء زيد بن حارثة يشكو فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «اتق الله وأمسك عليك زوجك» قالت عائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم كاتما شيئا لكتم هذه. قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم تقول: زوّجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات. واللفظ للبخاري. ضعيف. أخرجه الترمذي 3207 من طريق داود بن الزبرقان عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة به مطوّلا. وإسناده ضعيف جدا له علتان: الأولى: داود بن الزبرقان متروك الحديث. الثانية: الشعبي، وهو عامر بن شراحيل عن عائشة منقطع. وضعفه الترمذي بقوله: غريب. - قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 606: وقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ نهى أن يقال بعد هذا «زيد بن محمد» أي: لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم، فإنه ولد له القاسم، والطيب، والطاهر، من خديجة فماتوا صغارا وولد له إبراهيم من مارية القبطيّة، فمات أيضا رضيعا. وكان له من خديجة أربع بنات: زينب، ورقية وأم كلثوم، وفاطمة- رضي الله عنهم أجمعين- فمات في حياته ثلاث وتأخرت فاطمة حتى أصيبت به- صلوات الله وسلامه عليه- ثم ماتت بعده بستة أشهر اه.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 إلى 44]

فالمعنى: ولكن كان رسول الله عليه السلام، وكان خاتم النبيِّين ومن رفعه، فالمعنى: ولكنْ هو رسول الله عليه السلام ومن قرأ: «خاتِمَ» بكسر التاء، فمعناه: وختم النبيِّين ومن فتحها، فالمعنى: آخِر النبيِّين. قال ابن عباس: يريد: لو لم أَختِم به النبيِّين، لَجَعلتُ له ولداً يكون بعده نبيّاً. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) قوله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قال مجاهد: هو أن لا تنساه أبداً. وقال ابن السائب: يقال: «ذِكْراً كثيراً» بالصلوات الخمس. وقال مقاتل بن حيَّان: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال. وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: (1149) «يقول ربُّكم: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه» . قوله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قال أبو عبيدة: الأصيل: ما بين العصر إِلى الليل. وللمفسرين في هذا التسبيح قولان: أحدهما: أنه الصلاة، واتفق أرباب هذا القول على أن المراد بالتسبيح بُكْرة: صلاةُ الفجر. واختلفوا في صلاة الأصيل على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة العصر، قاله أبو العالية، وقتادة. والثاني: أنها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قاله ابن السائب. الثالث: أنها الظهر والعصر، قاله مقاتل. والقول الثاني: أنه التسبيح باللسان، وهو قول: سبحان الله والحمد لله ولا إِله إِلا الله والله أكبر ولا حول ولا قُوَّة إِلاَّ بالله، قاله مجاهد. قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ في صلاة الله تعالى علينا خمسة أقوال: أحدها: أنها رحمته، قاله الحسن. والثاني: مغفرته، قاله سعيد بن جبير. والثالث: ثناؤه، قاله أبو العالية. والرابع: كرامته، قاله سفيان. والخامس: بَرَكَتُه، قاله أبو عبيدة. وفي صلاة الملائكة قولان: أحدهما: أنها دعاؤهم، قاله أبو العالية. والثاني: استغفارهم، قاله مقاتل. وفي الظُّلُمات والنُّور هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: الضَّلالة والهدى، قاله ابن زيد. والثاني: الإِيمان والكفر، قاله مقاتل. والثالث: الجنة والنار، حكاه الماوردي. قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ الهاء والميم كناية عن المؤمنين. فأمّا الهاء في قوله تعالى: يَلْقَوْنَهُ ففيها قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه تحيّتهم من الله يوم يلقونه سلام «1» .

_ جيد، أخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» ص 87 وابن ماجة 3792 وأحمد 2/ 540 والحاكم 1/ 496 والبغوي في «التفسير» 104 كلهم من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن صحيح.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 إلى 48]

(1150) روى صهيب عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنّ الله تعالى يسلِّم على أهل الجنة. والثاني: تحيَّتُهم من الملائكة يوم يلقون الله تعالى: سلامٌ، قاله مقاتل. وقال أبو حمزة الثُّمالي: تسلِّم عليهم الملائكة يوم القيامة، وتبشِّرهم حين يخرجون من قبورهم. والثالث: تحيَّتُهم بينهم يوم يلقون ربَّهم: سلام، وهو أن يُحيِّي بعضُهم بعضاً بالسلام، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أن الهاء ترجع إِلى ملك الموت، وقد سبق ذِكْره في ذِكْر الملائكة. قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال له: ربُّك يقرئك السلام. وقال البراء بن عازب في قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ قال: ملَك الموت، ليس مؤمن يقبض روحه إِلا سلَّم عليه. فأما الأجر الكريم، فهو الحسن في الجنّة. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 48] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أَي: على أُمَّتك بالبلاغ وَمُبَشِّراً بالجنة لمن صدَّقك وَنَذِيراً أي: منذِراً بالنار لمن كذَّبك، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي: إِلى توحيده وطاعته بِإِذْنِهِ أي: بأمره، لا أنك فعلتَه من تلقاء نفسك وَسِراجاً مُنِيراً أي: أنت لِمَن اتَّبعك «سراجاً» ، أي: كالسِّراج المضيء في الظلمة يُهتدى به. قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً وهو الجنة. (1151) قال جابر بن عبد الله: لمَّا أنزل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الآيات، قالت

_ لم أقف عليه من حديث صهيب، ولا يصح، وإنما حديث صهيب فيه إثبات الرؤية دون السلام كذا أخرجه مسلم 181 وغيره، وتقدم في سورة يونس. وورد ما ذكره المصنف من حديث جابر بن عبد الله، وهو ضعيف. أخرجه ابن ماجة 184 والآجري في «الشريعة» 626 والواحدي في «الوسيط» 3/ 517 من طريق محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وإسناده ضعيف. وأخرجه أبو نعيم في «صفة الجنة» 91 والبيهقي في «البعث» 493 من طريق العبّاداني به. وقال البوصيري في «الزوائد» أبو عاصم العبّاداني منكر الحديث قاله العقيلي. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 98 وقال: رواه البزار، وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وهو ضعيف. لم أره مسندا من حديث جابر، وتفرد المصنف بذكره، فهو لا شيء، وأصل الخبر صحيح دون ذكر نزول الآية، فقد ورد من حديث أنس بن مالك وليس فيه سبب نزول الآية في الأحزاب. أخرجه البخاري 4172 و 4834 وأحمد 3/ 173 من طريق شعبة. وأخرجه مسلم 1786 وأحمد 3/ 122 و 134 والطبري 31454 من طريقين عن همام به. وأخرجه مسلم 1786 والبيهقي 5/ 217 من طريق شيبان. وأخرجه الترمذي 3263 وأحمد 3/ 197 من طريق معمر. وأخرجه مسلم 1786 والطبري 31452 والواحدي في «الوسيط» 4/ 132- 133 من طريق سليمان بن طرخان. وأخرجه الطبري 31453 من طريق سعيد بن أبي عروبة. كلهم عن قتادة به. وأخرجه ابن حبان 371 من طريق سفيان عن الحسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا فما لنا! فأنزل الله لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة ثم رجعت فذكر له فقال: أما إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فعن أنس، وأما هنيئا مريئا فعن عكرمة. وحديث عكرمة أخرجه الطبري 31457 من طريق شعبة عن قتادة به. وليس فيه سبب نزول الآية في الأحزاب. وقد عزاه السيوطي في «الدر» 6/ 63 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مردويه عن عكرمة. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» 902 وعزاه إلى ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري وفيه سبب نزول الآية في الأحزاب ... وبرقم 903 وعزاه إلى البيهقي في «دلائل النبوة» عن الربيع بن أنس بنحوه.

[سورة الأحزاب (33) : آية 49]

الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، فما لَنا؟ فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ قد سبق في أول السورة. قوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ قال العلماء: معناه لا تجازهم عليه وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كفاية شرّهم وهذا منسوخ بآية السّيف. [سورة الأحزاب (33) : آية 49] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ قال الزجاج: معنى «نَكَحْتُم» تزوَّجتم «1» . ومعنى «تَمَسَّوهُنَّ» تَقْربوهن. وقرأ حمزة، والكسائي: «تُمَاسُّوهُنَّ» بألف. قوله تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أجمع العلماء أنه إِذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة فلا عِدَّة «2» وعندنا أن الخلوة توجب العِدَّه

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 611: هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة، منها: إطلاق النكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها. وقوله الْمُؤْمِناتِ خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق. (2) قال ابن كثير رحمه الله 3/ 612: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء إذا طلّقت قبل الدخول بها لا عدة عليها فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفّى عنها زوجها فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضا. وقال الإمام الموفق في «المغني» 9/ 533: فأما الخلوة بالمرأة، فالصحيح أنها لا تنشر حرمة. وقد روي عن أحمد: إذا خلا بالمرأة، وجب الصّداق والعدة، ولا يحل له أن يتزوج أمها أو ابنتها. قال القاضي: هذا محمول على أنه حصل مع الخلوة الجماع، فيخرّج كلامه بقوله: لا يحرّمه شيء من ذلك إلا الجماع. وفي رواية عن أحمد. فأما تحريم أمها فبمجرد العقد، وأما تحريم ابنتها فبالدخول وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فأما مع خلّوه من ذلك، فلا يؤثر في تحريم الربيبة لما في ذلك من مخالفة قوله تعالى. وأما الخلوة بأجنبية. فلا تنشر تحريما. لا نعلم في ذلك خلافا. وجاء في «المغني» 11/ 197: العدة تجب على كل من خلا بها زوجها، وإن لم يمسها. وإن خلا بها ولم يصبها ثم طلّقها، فإن مذهب أحمد وجوب العدة عليها. وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين، وزيد، وابن عمر وأصحاب الرأي والشافعي في القديم. وقال الشافعي في الجديد: لا عدّة عليها، لهذه الآية وهذا نص. ولأنها مطلقة لم تمس، فأشبهت من لم يخل بها. ولنا، إجماع الصحابة. فإنه من أرخى سترا أو أغلق بابا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة. وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر فصارت إجماعا. وقد روي عن أحمد، أن الصداق لا يكمل مع وجود المانع، فكذلك يخرج في العدة. لأن الخلوة إنما أقيمت مقام المسيس، لأنها مظنة له، ومع المانع لا تتحقق المظنة. ولأن العدة تجب لبراءة الرحم. وأجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر، مدخولا بها أو غير مدخول بها، سواء كانت كبيرة بالغة أو صغيرة لم تبلغ.

فصل:

وتقرّر الصّداق، خلافا للشّافعيّ رضي الله عنه. قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ المراد به من لم يسمّ لها مهرا، لقوله تعالى: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً «1» ، وقد بيَّنَّا المتعة هنالك. وكان سعيد بن المسيّب وقتادة يقولان: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ «2» . قوله تعالى: وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي: من غير إِضرار. وقال قتادة: هو طلاقها طاهراً من غير جماع. وقال القاضي أبو يعلي: الأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق، لأنه قد ذكر الطلاق، وإِنما هو بيان أنه لا سبيل له عليها، وأن عليه تخليتها من يده وحِباله. فصل: واختلف العلماء فيمن قال: إِن تزوجتُ فلانة فهي طالق، ثم تزوجها فعندنا أنها لا تطلق، وهو قول ابن عباس، وعائشة، والشافعي، واستدل أصحابنا بهذه الآية، وأنه جعل الطلاق بَعد النكاح. وقال سماك بن الفضل: النِّكاح عُقدة، والطلاق يَحُلُّها، فكيف يحلُّ عقدة لم تُعقد؟! فجُعل بهذه الكلمة قاضياً على «صنعاء» . وقال أبو حنيفة: ينعقد الطلاق، فاذا وُجد النكاح وقع. وقال مالك: ينعقد ذلك في خصوص النساء، وهو إِذا كان في امرأة بعينها، ولا ينعقد في عمومهن. فأما إِذا قال: إِن ملكتُ فلاناً فهو حُرّ، ففيه عن أحمد روايتان «3» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)

_ (1) البقرة: 236. (2) البقرة: 237. (3) قال الإمام الموفق في «المغني» 3/ 488: وإذا قال: إن تزوجت فلانة، فهي طالق. لم تطلق إن تزوج بها، وإن قال: إن ملكت فلانا فهو حرّ، فملكه صار حرا واختلفت الرواية عن أحمد، فعنه: لا يقع طلاق. روي هذا عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وعروة، وجابر بن زيد، والشافعي، قال: وهو قول أكثر أهل العلم لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك، ولا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» . قال الترمذي: وهذا حديث حسن. قال أحمد: هذا عن النبي صلى الله عليه وسلّم وعدة من الصحابة. ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم، فيكون إجماعا. والرواية الثانية عن أحمد: أنه يصح في العتق ولا يصح في الطلاق. - وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 13/ 180: استدل بعض العلماء بقوله تعالى: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وبمهلة ثمّ على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح، وأن من طلّق المرأة قبل نكاحها وإن عينها، فإن ذلك لا يلزمه. وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام. سمى الإمام البخاري منهم اثنين وعشرين. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا طلاق قبل نكاح» ومعناه: أن الطلاق لا يقع حتى يحصل النكاح. وقال طائفة من أهل العلم: إن طلاق المعيّنة الشخص أو القبيلة أو البلد لازم قبل النكاح، منهم مالك وجميع أصحابه، وجمع عظيم من علماء الأمة. وإن قال: كل امرأة أتزوجها طالق وكل عبد أشتريه حرّ، لم يلزمه شيء.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 إلى 52]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ذكر الله تعالى أنواع الأنكحة التي أحلَّها له، فقال: أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهُنَّ، وهُنَّ اللَّواتي تزوَّجْتَهُنَّ بصداق وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ يعني الجواري مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي: ردّه عليك من الكفار، كصفيَّة وجُوَيرية، فانه أعتقهما وتزوجهما وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ يعني نساء قريش وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ يعني نساء بني زُهْرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ إِلى المدينة. قال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا يدلُّ على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يَحِلَّ له نكاحها. (1152) وقالت أمّ هانئ: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاعتذرتُ إِليه بعذر، ثم أنزل اللهُ تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله تعالى: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، قالت: فلم أكن لأحَلَّ له، لأنِّي لم أُهاجِر معه، كنتُ من الطُّلَقاء وهذا يدلُّ مِنْ مذهبها أنَّ تخصيصه بالمهاجرات قد أوجب حظر مَنْ لم تُهاجِر. وذكر بعض المفسرين: أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ، ولم يذكر ناسخه. وحكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أن الهجرة شرط في إِحلال النساء له على الإِطلاق. والثاني: أنه شرط في إِحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات. قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً أي: وأَحلَلْنا لك امرأة مؤمنة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لك، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي: إِن آثر نكاحها خالِصَةً لَكَ أي: خاصة. قال الزجّاج: وإِنما قال: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ، ولم يقل: «لك» ، لأنه لو قال: «لك» ، جاز أن يُتوهَّم أن ذلك يجوز لغير رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما جاز في بنات العمِّ وبنات العمَّات. و «خالصة» منصوب على الحال. وللمفسرين في معنى «خالصةً» ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراة إِذا وهبت له نفسها، لم يلزمه صَداقُها دون غيره من المؤمنين، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب. والثاني: أنَّ له أن يَنْكِحها بِلاَ وليّ ولا مَهْر دون غيره، قاله

_ صدره صحيح، له شواهد، وعجزه ضعيف. أخرجه الترمذي 3214 وابن سعد 8/ 121 والحاكم 2/ 185- 224 و 4/ 53 والطبري 28546 والبيهقي 7/ 54 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 613 من طرق عن إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانئ به. وإسناده ضعيف جدا لأجل أبي صالح واسمه باذام، فقد ضعفه غير واحد، واتهمه بعضهم بالكذب. وصدر الحديث محفوظ، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلّم خطبها، والوهن فقط في ذكره الآية وكلام أم هانئ عقب الحديث، حيث تفرّد بذلك أبو صالح. والحديث ضعفه ابن العربي جدا، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: حسن صحيح!! قلت: وصدره محفوظ، أخرجه مسلم 2527 وعبد الرزاق 20603 وأحمد 2/ 269- 275 وابن حبان 6268 من طريق معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطب أم هانئ بنت أبي طالب، فقالت: يا رسول الله، إني قد كبرت، ولي عيال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» . وورد من مرسل الشعبي أخرجه ابن سعد 8/ 120، وكرره من مرسل أبي نوفل. الخلاصة: تبين من ذلك أن صدر الحديث محفوظ، والوهن فقط في عجزه. ولم يفرق الألباني في ذلك حيث أورد الحديث في «ضعيف سنن الترمذي» 630، وقال: إسناده ضعيف جدا؟!!

قتادة. والثالث: خالصةً لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، وهذا قول الشافعي، وأحمد. وفي المرأة التي وهبتْ له نَفْسها أقوال: (1153) أحدها: أُمّ شَريك. (1154) والثاني: خولة بنت حكيم. (1155) ولم يدخل بواحدة منهما. (1156) وذكروا أنّ ليلى بنت الخطيم وهبت نفسها له فلم يقبلها. قال ابن عباس: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها له. وقد حكي عن ابن عباس أن التي وهبت نفسها له ميمونة بنت الحارث، وعن الشعبي: أنها زينب بنت خزيمة. والأول: أصح. قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ أي: على المؤمنين غيرك فِي أَزْواجِهِمْ وفيه قولان: أحدهما: أن لا يجاوز الرجل أربع نسوة، قاله مجاهد. والثاني: أن لا يتزوج الرجل المرأة إِلاَّ بوليّ وشاهدَين وصَدَاق، قاله قتادة. قوله تعالى: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي: وما أَبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور. قوله تعالى: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ هذا فيه تقديم المعنى: أَحللْنا لك أزواجك، إلى قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ. قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «ترجئ» مهموزاً وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بغير همز. (1157) وسبب نزولها أنه لمَّا نزلت آية التخيير المتقدِّمة «1» ، أشفقْنَ أن يُطَلَّقْنَ، فقلن: يا

_ مرسل. أخرجه الطبري 28560 عن عروة مرسلا. وأخرجه الطبري 28557 عن الحكم أن علي بن الحسين كتب إلى عبد الملك قال: هي امرأة من الأسد يقال لها أم شريك، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلّم. وانظر «الدر» 5/ 395. خبر صحيح. أخرجه البخاري 5113 من طريق محمد بن سالم. وأخرجه البخاري 4788 ومسلم 1464 والنسائي 6/ 54 وابن ماجة 2000 وأحمد 6/ 185 والحاكم 2/ 436 وابن حبان 6367 والطبري 28574 والبغوي في «شرح السنة» 2262 من طرق عن هشام به. كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلّم فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل! فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. لفظ البخاري في الرواية الأولى. ضعيف. أخرجه ابن سعد 8/ 119 عن ابن أبي عون مرسلا قال: فلم يسمع أن النبي صلى الله عليه وسلّم قبل منهن أحدا. أخرجه ابن سعد 8/ 119 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط لأجل الكلبي، فإنه متهم. وأخرجه ابن سعد 8/ 119 عن قتادة مرسلا. وذكره ابن سعد 8/ 255 في ترجمة ليلى بنت الخطيم بدون عزو لأحد. ضعيف. أخرجه ابن سعد 8/ 158 والطبري 28567 و 28569 و 28572 من طريق منصور عن أبي رزين به، وهذا مرسل، فهو ضعيف. وأخرجه ابن سعد 8/ 158 والطحاوي في «المشكل» 1/ 456 عن مغيرة عن أبي رزين به أبو رزين هو مسعود بن مالك الأسدي، - أسد خزيمة- تابعي كبير.

نبيَّ الله، اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودَعْنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو رزين. وفي معنى الآية أربعة أقوال «1» : أحدها: تطلِّق من تشاء من نسائك، وتُمْسِك من تشاء من نسائك، قاله ابن عباس. والثاني: تترُك نكاح من تشاء، وتَنْكِح من نساء أُمَّتك من تشاء، قاله الحسن. والثالث: تَعْزِل من شئتَ من أزواجك فلا تأتيها بغير طلاق، وتأتي من تشاء فلا تَعْزِلها. قاله مجاهد. والرابع: تَقْبَل من تشاء من المؤمنات اللواتي يَهَبْنَ أنفُسَهُنَّ، وتترُك من تشاء، قاله الشعبي، وعكرمة. وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مصاحَبة نسائه كيف شاء من غير إِيجاب القِسْمة عليه والتسوية بينهنّ. غير أنه كان يسوِّي بينهنّ. وقال الزُّهري: ما عَلِمْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم أرجأ منهنَّ أحداً، ولقد آواهنَّ كلَّهنَّ حتى مات. (1158) وقال أبو رزين: آوى عائشة، وأُم سلمة، وحفصة، وزينب، وكان قَسْمُه من نَفْسه وماله فيهنَّ سواءً. وأرجأ سَوْدة، وجُوَيرية، وصفيَّة، وأُمَّ حبيبة، وميمونة، وكان يَقْسِم لهنَّ ما شاء. وكان أراد فراقهنَّ فقُلن: اقسم لنا ما شئتَ، ودَعْنا على حالنا. (1159) وقال قوم: إنه أرجأ سَودة وحدها لأنها وهبت يومها لعائشة، فتوفي وهو يَقْسِم لثمان. قوله تعالى: وَتُؤْوِي أي: تضم، وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ أي: إِذا أردتَ أن تُؤوي إِليك امرأةً ممَّن عزلتَ من القسمة فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي: لا مَيْلَ عليك بلَوْم ولا عَتْب ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أي: ذلك التخيير الذي خيَّرناك في صُحبتهنّ أقرب إِلى رضاهنّ. والمعنى: إِنهنّ إِذا عَلِمن أنَّ هذا أَمر من الله تعالى، كان أطيبَ لأنفُسهنّ. وقرأ ابن محيصن، وأبو عمران الجوني: «أن تُقِرَّ» بضم التاء وكسر القاف «أعيُنَهُنَّ» بنصب النون. وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي: بما أعطيتَهُنّ من تقريب وتأخير وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من المَيْل إِلى بعضهنّ. والمعنى: إِنما خيَّرناك تسهيلاً عليك. قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ كلُّهم قرأ: «لا يَحِلُّ» بالياء، غير أبي عمرو، فانه قرأ بالتاء والتأنيث ليس بحقيقي، إِنما هو تأنيث الجمع، فالقراءتان حسنتان. وفي قوله تعالى: مِنْ بَعْدُ ثلاثة

_ انظر الحديث الذي قبله. لم أره بهذا اللفظ، وخبر سودة دون ذكر هذه الآية. أخرجه الترمذي 3040 والطبري 10613 من حديث ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلّم فقالت: لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل فنزلت: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا ... النساء: 128. قال الترمذي: هذا حديث غريب اه. وله شاهد من حديث عائشة أخرجه أبو داود 2135 والبيهقي 7/ 47 وإسناده حسن صححه الحاكم 2/ 186 ووافقه الذهبي، وليس فيه ذكر الآية. وعند أبي داود 2138 من حديث عائشة « ... وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها» .

فصل:

أقوال: أحدها: من بعد نسائك اللواتي خيرتَهُنَّ فاخترن الله تعالى ورسولَه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين، وهُنَّ التِّسع، فصار مقصوراً عليهنّ ممنوعاً من غيرهن. وذكر أهل العِلْم أن طلاقه لحفصة وعَزْمه على طلاق سَوْدة كان قبل التخيير. والثاني: من بعد الذي أحلَلْنا لك، فكانت الإِباحة بعد نسائه مقصورة على المذكور في قوله تعالى: «إِنَّا أَحللنا لك أزواجك» إِلى قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ قاله أُبيُّ بن كعب، والضحاك. والثالث: لا تَحِلُّ لك النساء غير المُسْلِمات كاليهوديّات والنصرانيّات والمشركات، وتَحِلُّ لك المسلمات، قاله مجاهد. قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن تطلِّق زوجاتك وتستبدل بهنَّ سِواهنَّ، قاله الضحاك. والثاني: أن تبدِّل بالمسلمات المشركات، قاله مجاهد في آخرين. (1160) والثالث: أن تُعطيَ الرجل زوجتك وتأخذ زوجته، وهذه كانت عادة للجاهلية، قاله أبو هريرة، وابن زيد. قوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ يعني الإِماء. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إِلا أن تَملك بالسَّبي، فيَحِلّ لك وطؤها وإِن كانت من غير الصِّنف الذي أحلَلْتُه لك وإِلى هذا أومأ أُبيُّ بن كعب في آخرين. والثاني: إِلاَّ أن تصيب يهودية أو نصرانية فتطأها بملك اليمين، قاله ابن عباس ومجاهد. والثالث: إِلاَّ أن تبدِّل أَمَتَك بأَمَة غيرك، قاله ابن زيد. قال أبو سليمان الدمشقي: وهذه الأقوال جائزة، إِلاَّ أنَّا لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نكح يهودية ولا نصرانية بتزويج ولا ملك يمين. (1161) ولقد سبى ريحانة القرظية فلم يَدْنُ منها حتى أسلمت. فصل: واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ، وهذا مروي عن عليٍّ، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة، وعلي بن الحسين، والضحاك. (1162) وقالت عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أُحِلَّ له النساء، قال أبو سليمان الدّمشقي:

_ باطل. هو صدر حديث. أخرجه البزار 2251 «كشف» والدارقطني 3/ 218 من حديث أبي هريرة، وفيه إسحاق بن أبي فروة متروك الحديث. واتهمه الزهري، وهذا الحديث مما صنعت يداه، وهو باطل لا أصل له، وضعفه البزار جدا بقوله: إسحاق لين الحديث، ولا نحفظه إلا عنه. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» 3/ 618. ونقل الآبادي عن الحافظ في «الفتح» قوله: ضعيف جدا اه. وانظر «تفسير الشوكاني» 2023. ضعيف. أخرجه ابن سعد 8/ 102- 103 عن عمر بن الحكم مرسلا. ورد عن عائشة وعن أم سلمة. أما حديث عائشة فأخرجه الترمذي 3216 والنسائي 6/ 56 وأحمد 6/ 41 والحميدي 235 وابن سعد 8/ 140 والبيهقي 7/ 54 من طريق عمرو بن دينار عن عطاء عن عائشة، ورجاله رجال الشيخين فالإسناد صحيح إذا كان عطاء سمعه من عائشة، والظاهر أنه لم يسمعه منها كما سيأتي. وأخرجه الطبري 28594 من طريق ابن جريج عن عطاء عن عائشة. وأخرجه أحمد 6/ 180- 201 والنسائي 6/ 56 وفي «التفسير» 435 وابن سعد 8/ 141 والطحاوي في «المشكل» 522 وابن حبان 6366 والطبري 28598 والبيهقي 7/ 54 من طريق ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة به. ورجاله رجال البخاري ومسلم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن سعد 8/ 140 من طريق عطاء ومحمد بن علي عن عائشة، وفيه الواقدي متروك الحديث. - وأما حديث أم سلمة، فقد أخرجه الطحاوي في «المشكل» 524. وإسناده ساقط، فيه عمر بن أبي بكر الموصلي، وهو متروك. وأخرجه ابن سعد 8/ 194 من وجه آخر، وفيه الواقدي متروك. الخلاصة: حديث عائشة قوي، وأما حديث أم سلمة، فهو واه ليس بشيء. والجمهور على خلاف مذهب عائشة. انظر «أحكام القرآن» 1828 بتخريجنا.

[سورة الأحزاب (33) : آية 53]

يعني نساء جميع القبائل من المهاجرات وغير المهاجرات. والقول الثاني: أنها محكمة ثم فيها قولان: أحدهما: أن الله تعالى أثاب نساءه حين اخْتَرنه بأن قَصَره عليهنّ، فلم يُحِلَّ له غيرهنّ، ولم ينسخ هذا، قاله الحسن وابن سيرين وأبو أُمامة بن سهل وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. والثاني: أنّ المراد بالنساء ها هنا: الكافرات، ولم يَجُز له أن يتزوَّج كافرة، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وجابر بن زيد. [سورة الأحزاب (33) : آية 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية. في سبب نزولها ستة أقوال: (1163) الأول: أخرجاه في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمَّا تزوَّج زينب بنت جحش دعا القوم، فطَعِمُوا ثم جلسوا يتحدَّثون، فأخذ كأنَّه يتهيَّأُ للقيام، فلم يقوموا، فلمَّا رأى ذلك قام وقام مِنَ القوم مَنْ قام، وقعد ثلاثة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل فاذا القوم جلوس، فرجع، وإِنَّهم قاموا فانطلقوا، وجئت فأخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنَّهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبتُ أدخلُ فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله تعالى هذه الآية. (1164) والثاني: أنَّ ناساً من المؤمنين كانوا يتحيّنون طعام النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيدخُلون عليه قبل الطعام إِلى أن يُدرِك، ثم يأكلون ولا يخرُجون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتأذَّى بهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. (1165) والثالث: أن عمر بن الخطاب قال: قلت يا رسول الله! إِن نساءك يدخل عليهنّ البرّ

_ صحيح. أخرجه البخاري 4721 و 6239 و 6271 ومسلم 1428 والترمذي 3218 و 3219 والنسائي في «الكبرى» 11416 و 11420 والواحدي في «أسباب النزول» 706 من حديث أنس. ذكره البغوي هكذا بدون إسناد عن ابن عباس، ولم أره مسندا. - وورد نحوه عن الربيع بن أنس، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» 4/ 402. صحيح. أخرجه البخاري 402 و 4790 والنسائي في «التفسير» 438 وابن حبان 6896 عن أنس عن عمر به، وأتم. ولم أره عن ابن عمر عن عمر، فالله أعلم.

والفاجر، فلو أمرتَهُنَّ أن يَحْتَجِبْنَ، فنزلت آية الحجاب، أخرجه البخاري من حديث أنس، وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر، كلاهما عن عمر. (1166) والرابع: أنَّ عُمر أمر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب، إِنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟! فنزلت الآية، قاله ابن مسعود. (1167) والخامس: أن عمر كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: احجب نساءك، فلا يفعل، فخرجت سَوْدَةُ ليلة، فقال عمر: قد عرفناكِ يا سَوْدَة- حرصاً على أن ينزل الحجاب- فنزل الحجاب، رواه عكرمة عن عائشة. (1168) والسادس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يطعم معه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجل منهم يدَ عائشة، وكانت معهم، فكره النبيّ صلى الله عليه وسلّم ذلك، فنزلت آية الحجاب، قاله مجاهد. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ أي: أن تُدْعَوا إليه «1» غَيْرَ ناظِرِينَ أي: منتظرين أَنْ. قال الزجاج: موضع «أنْ» نصب والمعنى: إِلا بأن يؤذن أو لأن يؤذن، و «غير» منصوبة على الحال المعنى: إِلا أن يؤذَنَ لكم غيرَ منتظرِين. و «إناه» : نضجه وبلوغه.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 28621 وفيه عطاء بن السائب، وهو صدوق، لكن اختلط، وهو بهذا اللفظ ضعيف، والصواب ما تقدم برقم 1163 و 1165. وانظر «أحكام القرآن» 1832 بتخريجنا. أخرجه مسلم 2170 ح 18 والطبري 28619 من طريقين عن الزهري به. وأخرجه البخاري 6240 من طريق صالح بن كيسان عن الزهري به. وأخرجه البخاري 5237 ومسلم 2170 من طريق علي بن مسهر عن هشام عن عروة به. وأخرجه البخاري 4795 ومسلم 2170 والبيهقي 7/ 88 من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه به. وأخرجه مسلم 2170 وأحمد 6/ 56 من طريق ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه به. وأخرجه أبو يعلى 4433 وابن حبان 1409 من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام بن عروة عن أبيه به. وهم جميعا من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنهما. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 620: هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال: «إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن» . ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 709 عن مجاهد مرسلا، وصوّبه الدارقطني كما ذكر الحافظ في «تخريج الكشاف» 3/ 55. وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11419 والبخاري في «الأدب المفرد» 1053 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 621 من حديث عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلّم حيسا، فمرّ عمر، فدعاه فأكل، فأصابت يده إصبعي، فقال: حس! لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب وهذا منقطع مجاهد لم يسمع من عائشة كما في مراسيل ابن أبي حاتم. ثم إن الخبر منكر.

قوله تعالى: فَانْتَشِرُوا أي: فاخرُجوا. قوله تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ المعنى: ولا تدخُلوا مستأنِسِين، أي: طالبي الأُنس لحديث، وذلك أنهم كانوا يجلسون بعد الأكل فيتحدَّثون طويلاً، وكان ذلك يؤذيه، ويستحيي أن يقول لهم: قوموا، فعلَّمهم الله تعالى الأدب، فذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي: لا يترُك ان يُبيّن لكم ما هو الحقّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً أي: شيئاً يُستمتَع به وينتفع به من آلة المنزل فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ أي: سؤالكم إِيَّاهُنَّ المتاعَ من وراء حجاب أطهرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الرِّيبة. قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي: ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء. قال أبو عبيدة: «كان» من حروف الزوائد. والمعنى: ما لكم أن تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً. (1169) روى عطاء عن ابن عباس، قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لو توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلّم تزوّجت عائشة، فأنزل الله تعالى ما أَنزل. (1170) وزعم مقاتل أن ذلك الرجل طلحة بن عبيد الله. قوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ يعني نكاح أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي: ذنْباً عظيم العقوبة.

_ أخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 5/ 404 عن ابن عباس. وأخرجه البيهقي 7/ 69 من طريق مهران بن أبي عمر عن الثوري عنه: قال: قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: لو قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم لتزوجت عائشة وأم سلمة، فأنزل الله عز وجل: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ.... وإسناده ضعيف لضعف مهران في روايته عن الثوري خاصة. وأخرج ابن سعد نحوه عن جويبر عن ابن عباس كما في «أسباب النزول» للسيوطي 920 وليس فيه ذكر عائشة. سكت عليه السيوطي، لأن جويبرا مكشوف الحال، فهو متروك الحديث. وورد من مرسل عبد الرحمن بن زيد، أخرجه الطبري 82623 وابن زيد ليس بشيء. وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 2372 عن قتادة مرسلا. الخلاصة: هذه المراسيل مع الموصول عن ابن عباس تتأيد بمجموعها، ويعلم أن لهذا الخبر أصلا فهو حسن، أو يقارب الحسن، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 1838 بتخريجنا. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية. وورد من مرسل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله قال: إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم تزوجت عائشة. وفيه الواقدي ساقط الحديث متروك، فلا فائدة من هذا الشاهد. وبكل حال لا يحتج بالضعاف في هذا المقام على أن الحافظ ابن حجر ذكر هذا في «الإصابة» 2/ 230 وقال: طلحة بن عبيد الله بن مسافع، يقال هو الذي نزل فيه وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا ... وذكره أبو موسى في «الذيل» عن ابن شاهين بغير إسناد، وقال: إن جماعة من المفسّرين غلطوا، فظنوا أنه طلحة بن عبيد الله أحد العشرة اه. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 14/ 202: وقال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال شيخنا أبو العباس: وقد حكي هذا القول عن فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق هذا القول بالمنافقين الجهال. اه. قلت: وكون المراد طلحة بن عبيد الله أحد العشرة وفارس أحد باطل مفترى، وإن كان أحد المنافقين فهو محتمل حيث ورد من وجوه. وهذه الألفاظ إن صحت يكن قائلها منافقا، ولا يقولها مسلم. وانظر «تفسير ابن كثير» 3/ 621 و «فتح القدير» 2027 بتخريجنا و «الدر» 5/ 403- 404.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 إلى 55]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 الى 55] إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ قيل: إِنها نزلت فيما أبداه القائل: لئن مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأتزوجنّ عائشة «1» . قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ. قال المفسرون: (1171) لمَّا نزلت آية الحجاب، قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: ونحن أيضاً نُكَلِّمُهُنَّ من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ أي: في أن يَرَوْهُنَّ ولا يحتجبْنَ عنهم، إلى قوله تعالى: وَلا نِسائِهِنَّ قال ابن عباس: يعني نساء المؤمنين، لأن نساء اليهود والنصارى يَصِفْنَ لأزواجهن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِن رأينهنّ. فان قيل: ما بال العمِّ والخال لم يُذْكَرا؟ فعنه جوابان: أحدهما: لأن المرأة تَحِلُّ لأبنائهما، فكره أن تضع خمارها عند عمِّها وخالها، لأنهما ينعتانها لأبنائهما، هذا قول الشعبي وعكرمة. والثاني: لأنهما يجريان مجرى الوالدين فلم يُذْكَرا، قاله الزجاج. فأما قوله تعالى: وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ففيه قولان: أحدهما: أنه أراد الإِماء دون العبيد، قاله سعيد بن المسيب. والثاني: أنه عامّ في العبيد والإِماء. قال ابن زيد: كُنَّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يحتجِبْن من المماليك. وقد سبق بيان هذا في سورة النور «2» . قوله تعالى: وَاتَّقِينَ اللَّهَ أي: أن يراكنَّ غير هؤلاء إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي: لم يغب عنه شيء. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ في صلاة الله وصلاة الملائكة أقوال قد تقدّمت في هذه السّورة «3» . قوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ. قال كَعْب بن عُجْرَة: (1172) قلنا: يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: «اللهمّ

_ لم أره مسندا، وإنما عزاه المصنف للمفسّرين، وهو خبر واه، شبه لا شيء، لخلوه عن الإسناد. صحيح. أخرجه البخاري 3370 و 4797 و 6357 ومسلم 406 وأبو داود 976 و 977 و 978 والترمذي 483 والنسائي 3/ 47 وابن ماجة 904 والشافعي 1/ 92 والحميدي 711 و 712 وعبد الرزاق 3105 وأحمد-

صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على آل إِبراهيم، إِنَّك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد» ، أخرجه البخاري ومسلم. ومعنى قوله قد علمنا التسليم عليك: ما يقال في التشهد: «السلام عليك أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته» . وذهب ابن السائب إِلى أن معنى التسليم: سلِّموا لِمَا يأمركم به. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: (1173) أحدها: في الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين اتخذ صفيَّة بنتُ حيَيّ، قاله ابن عباس. والثاني: نزلت في المصوِّرين، قاله عكرمة. والثالث: في المشركين واليهود والنصارى، وصفوا الله تعالى بالولد وكذَّبوا رسوله وشجُّوا وجهه وكسروا رَباعيَته وقالوا: مجنون شاعر ساحر كذَّاب. ومعنى أذى الله: وصفه بما هو منزّه عنه «1» ،

_ 4/ 244 وإسماعيل القاضي 56 و 57 و 58 وابن الجارود 206 وابن حبان 912 والطبراني 19/ 116- 128- 129 والبيهقي 2/ 147 من طرق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة به. وانظر «أحكام القرآن» 1844 بتخريجنا. فائدة: قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «جلاء الأفهام» ص 118- 126 ما ملخصه: واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلّم على أربعة أقوال: - فقيل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة، وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء: - أحدها: أنهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وهذا مذهب الشافعي وأحمد في رواية. - والثاني: أنهم بنو هاشم خاصة، وهذا مذهب أبي حنيفة، والرواية عن أحمد، واختيار ابن القاسم صاحب مالك. والثالث: أنهم بنو هاشم، ومن فوقهم إلى غالب، فيدخل بنو المطلب، وبنو أمية، وبنو نوفل، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك. - قال: وهذا القول في الآل- أعني الذين تحرم عليهم الصدقة- هو منصوص الشافعي وأحمد والأكثرين، وهو اختيار أصحاب أحمد والشافعي. - والقول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وسلّم هم ذريته وأزواجه خاصة، حكاه ابن عبد البر في «التمهيد» ... - والقول الثالث: أن آله أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم، ورجحه النووي في «شرح مسلم» . - والقول الرابع: أن آله هم الأتقياء من أمته، حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة. - ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أدلة أصحاب هذه الأقوال وعقب ذلك بقوله: والصحيح هو القول الأول، ويليه الثاني، وأما الثالث والرابع فضعيفان اه. - وقال النووي كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 635: إذا صلّي على النبي صلى الله عليه وسلّم فليجمع بين الصلاة والتسليم فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول: «صلى الله عليه» فقط، ولا: «عليه السلام» . وقال ابن كثير: وهذا منتزع من الآية الكريمة فالأولى أن يقال: صلى الله عليه وسلّم تسليما. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 28641 عن ابن عباس برواية عطية العوفي، وهو واه، وعنه مجاهيل.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 إلى 62]

وعصيانُه ولعنُهم في الدنيا: بالقتل والجلاء، وفي الآخرة: بالنار. قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ في سبب نزولها أربعة أقوال: (1174) أحدها: أن عمر بن الخطاب رأى جارية متبرِّجة فضربها، وكفَّ ما رأى من زينتها، فذهبت إِلى أهلها تشكو، فخرجوا إِليه فآذَوْه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. (1175) والثاني: أنها نزلت في الزُّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إِذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيرَون المرأة فيدنون منها فيغمزونها، وإِنما كانوا يؤذون الإِماء، غير أنه لم تكن الأَمَة تُعرَف من الحرة، فشكون ذلك إِلى أزواجهنّ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. (1176) والثالث: أنها نزلت فيمن تكلَّم في عائشة وصفوان بن المعطِّل بالإِفك، قاله الضحاك. (1177) والرابع: أن ناساً من المنافقين آذَوا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قال المفسرون: ومعنى الآية: يرمونهم بما ليس فيهم. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 62] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 716 برواية عطاء عن ابن عباس بدون سند تعليقا- قلت: وتفرد الواحدي بذكره من غير إسناد، فهو لا أصل له لخلوه عن الإسناد، ولم يذكره الواحدي في «الوسيط» ولا رأيت من أخرجه غيره، فهو لا شيء. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 718 عن الضحاك والسدي الكلبي بدون إسناد. ضعيف جدا. ذكره السيوطي في «أسباب النزول» 922 قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا، جويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس. باطل، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 717 عن مقاتل بدون سند، ومقاتل ممن يضع الحديث، والمتن باطل.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 إلى 68]

قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية. سبب نزولها: (1178) أن الفُسَّاق كانوا يؤذون النساء إِذا خرجن بالليل، فاذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا: هذه حُرَّة، وإِذا رأوها بغير قناع قالوا: أَمَة، فآذَوها، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. قوله تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ قال ابن قتيبة: يَلْبَسْنَ الأردية. وقال غيره: يغطين رؤوسهنّ ووجوههنّ ليُعلَم أنهنَّ حرائر ذلِكَ أَدْنى أي: أحرى وأقرب أَنْ يُعْرَفْنَ أنهنَّ حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ. قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ أي: عن نفاقهم وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: فجور، وهم الزناة وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ بالكذب والباطل، يقولون: أتاكم العدوّ، وقُتلت سراياكم وهُزمت لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي: لَنُسلِّطنَّك عليهم بأن نأمرك بقتالهم. قال المفسرون: وقد أُغري بهم، فقيل له: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «1» . وقال يوم جمعة: (1179) «اخرج يا فلان من المسجد فانك منافق. قم يا فلان فانك منافق» . ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها ثم لا يجاورونك فيها أي: في المدينة إِلَّا قَلِيلًا حتى يهلكوا، مَلْعُونِينَ منصوب على الحال أي: لا يجاورونك إِلاَّ وهم ملعونون أَيْنَما ثُقِفُوا أي: وُجِدوا وأُدركوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا معنى الكلام: الأمر، أي: هذا الحكم فيهم، سُنَّةَ اللَّهِ أي: سنَّ في الذين ينافقون الأنبياء ويُرجِفون بهم أن يُفعل بهم هذا. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68] يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) قوله تعالى: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قال عروة: الذي سأله عنها عُتبة بن ربيعة. قوله تعالى: وَما يُدْرِيكَ أي: أيّ شيء يُعْلِمك أمر الساعة ومتى تكون؟ والمعنى: أنت لا تعرف ذلك ثم قال: لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً فإن قيل: هلاَّ قال: قريبة؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها:

_ أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 5/ 416 عن السدي مرسلا. وأخرجه الطبري 28651 عن قتادة، وهذا مرسل. وورد من مرسل أبي مالك. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 719. وورد من مرسل أبي صالح، أخرجه الطبري 28653 ومع إرساله فيه من لم يسم، وأبو صالح ضعيف الحديث، ليس بشير بشيء. وعزاه الواحدي في «الأسباب» 718 للضحاك والسدي والكلبي بدون إسناد. وورد من مرسل معاوية بن قرة، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر المنثور» 5/ 416. الخلاصة: هذه المراسيل تتأيد بمجموعها وتعتضد، ويعلم أن للخبر أصلا، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 3/ 626 بتخريجنا. ضعيف. أخرجه الطبري 17137 بإسناد واه، لأجل حسين بن عمرو العنقزي عن أسباط عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس به.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 إلى 71]

أنه أراد الظَّرف، ولو أراد صفة الساعة بعينها، لقال: قريبة، هذا قول أبي عبيدة. والثاني: أن المعنى راجع إِلى البعث، أو إِلى مجيء الساعة. والثالث: أن تأنيث الساعة غير حقيقي، ذكرهما الزجاج. وما بعد هذا قد سبق بيان ألفاظه «1» . فأمّا قوله تعالى: وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فقال الزجاج: الاختيار الوقف بألف، لأن أواخر الآي وفواصلها تجري مجرى أواخر الأبيات، وإِنما خوطبوا بما يعقلونه من الكلام المؤلَّف ليدلّ بالوقف بزيادة الحرف أن الكلام قد تمّ، وقد أشرنا إِلى هذا في قوله تعالى: الظُّنُونَا «2» . قوله تعالى: أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا أي: أشرافنا وعظماءنا. قال مقاتل: هم المطعمون في غزاة بدر. وكلّهم قرءوا: «سادتَنا» على التوحيد، غير ابن عامر، فانه قرأ: «ساداتنا» على الجمع مع كسر التاء، ووافقه المفضَّل، ويعقوب، إلّا أبا حاتم فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي: عن سبيل الهدى، رَبَّنا آتِهِمْ يعنون السادة ضِعْفَيْنِ أي: ضعفي عذابنا، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «كثيراً» بالثاء. وقرأ عاصم، وابن عامر: «كبيرا» . وقال أبو علي: الكثرة أشبه بالمِرار المتكررة من الكبر. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) قوله تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى أي: لا تؤذوا محمداً كما آذى بنو إِسرائيل موسى فينزل بكم ما نزل بهم، وفي ما آذَوا به موسى أربعة أقوال: (1180) أحدها: أنهم قالوا: هو آدَر، فذهب يوماً يغتسل، ووضع ثوبه على حجرٍ، ففرَّ الحجر

_ صح مرفوعا وموقوفا، فالله أعلم. أخرجه البخاري 3404 والترمذي 3221 والبغوي في «معالم التنزيل» 3/ 545 من طريق روح بن عبادة عن عوف عن الحسن ومحمد وخلاس عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده فيه لين، روح بن عبادة، وإن وثقه غير واحد، فقد قال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال يعقوب بن شيبة: سمعت عفان لا يرضى أمر روح بن عبادة. هذا شيء. والشيء الثاني: الحسن لم يسمع من أبي هريرة. وكذا خلاس فيما قال أحمد. قال الحافظ في «الفتح» 6/ 437: قال أبو داود عن أحمد: لم يسمع خلاس من أبي هريرة. قال الحافظ: وما له في البخاري غير هذا الحديث، وقد أخرجه له مقرونا بغيره، وله حديث آخر مقرون بمحمد بن سيرين. قلت: وكأن روح اضطرب في هذا الحديث. فقد أخرجه أحمد 2/ 514- 515 عن روح عن عوف عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلّم وخلاس ومحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم. فجعل رواية الحسن مرسلة. وهكذا أخرجه الطبري 28674 من طريق ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن مرسلا. وأخرجه الطبري 28673 والطحاوي في «المشكل» 67 عن روح عن عوف عن محمد- ابن سيرين- عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي في «التفسير» 444 و «الكبرى» 11424 من طريق روح عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة مرفوعا، وتقدم عن أحمد قوله: خلاس لم يسمع من أبي هريرة. وكرره النسائي 11425 وفي «التفسير» 445 من طريق النضر عن عوف بمثله. وعلى هذا فقد توبع روح، لكن هذا الإسناد معلول بسبب-

بثوبه، فخرج في طلبه، فرأَوه فقالوا: واللهِ ما به من بأس. والحديث مشهور في الصحاح كلِّها من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد ذكرتُه باسناده في «المغني» و «الحدائق» . قال ابن قتيبة: والآدَر: عظيم الخُصيتين. (1181) والثاني: أن موسى صَعِد الجبل ومعه هارون، فمات هارون، فقال بنو إِسرائيل: أنت قتلتَه فآذَوه بذلك، فأمر اللهُ تعالى الملائكةَ فحملته حتى مرَّت به على بني إِسرائيل، وتكلَّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إِسرائيل أنه مات، فبرّأه الله تعالى من ذلك، قاله عليّ عليه السلام.

_ الإرسال كما تقدم. وكرره البخاري 4799 من طريق روح عن عوف عن الحسن ومحمد وخلاس عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن موسى كان رجلا حييّا» ، وذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى.... - وللحديث طريق آخر: أخرجه البخاري 278 ومسلم 339 وص 1841 وابن حبان 6211 وأبو عوانة 1/ 281 والواحدي في «الوسيط» 3/ 483 من طرق عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة مرفوعا. - وله علة، وهي الوقف: أخرجه مسلم ص 1842 من وجه آخر عن خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة موقوفا عليه. وراويه عن خالد الحذاء، يزيد بن زريع، وهذا إسناد كالشمس. - وأخرجه الطبري 26875 عن قتادة، قال: حدث الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ... الحديث، وهذا منقطع. وورد من حديث أبي هريرة من وجه آخر: أخرجه الطبري 28669 من طريق جابر الجعفي عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ساقط، جابر هو ابن يزيد، متروك الحديث. وله شاهد من حديث أنس: أخرجه البزار 2252 «كشف» وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 93- 94: ثقة، سيء الحفظ. قلت: جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه. وورد عن ابن عباس موقوفا: أخرجه الطبري 28668 وإسناده صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم. وكرره 28670 وإسناده ضعيف جدا، فيه مجاهيل، وعطية العوفي واه. وورد عن قتادة قوله: أخرجه الطبري 28672. وورد عن الحسن وقتادة قولهما: أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 2382 عن معمر عن الحسن وقتادة. - الخلاصة: روي مرفوعا بإسناد حسن، وآخر صحيح، وأخر ضعيفة. وورد موقوفا بإسناد كالشمس، عن أبي هريرة ومثله عن ابن عباس بسند صحيح موقوفا. وورد عن قتادة وعن الحسن قولهما لم يرفعاه. فالحديث كما ترى ورد مرفوعا، وموقوفا، وموقوفا على بعض التابعين، وفي المتن غرابة. لكن لا أقدم على ترجيح الوقف بسبب أن الحديث في الصحيحين، ولم أجد من رجح وقفه، والله أعلم. ولفظ البخاري المرفوع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن موسى كان رجلا حييا سترا لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أدرة، وإما من آفة. وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو الله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا. فذلك قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً. قال الحافظ في «الفتح» 1/ 386: قال الجوهري: الأدرة: نفخة في الخصية، وهي بفتحات، وحكي بضم أوله، وإسكان الدال. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 14/ 224: وهو الصحيح من الأقوال. وهو مذهب الجمهور. أخرجه الطبري 2876 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 639 وإسناده حسن لأجل سفيان بن حسين، فإنه حسن الحديث، وباقي الإسناد ثقات. وانظر «أحكام القرآن» 3/ 627 بتخريجنا.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 إلى 73]

(1182) والثالث: أن قارون استأجر بغيّاً لتقذِف موسى بنفسها على ملأٍ من بني إِسرائيل فعصمها الله تعالى وبرّأ موسى من ذلك، قاله أبو العالية. والرابع: أنهم رمَوه بالسِّحر والجنون، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً قال ابن عباس: كان عند الله تعالى حَظيّاً لا يسألُه شيئاً إِلاَّ أعطاه. وقد بيّنّا معنى الوجيه في سورة آل عمران «1» . وقرأ ابن مسعود والأعمش، وأبو حيوة: «وكان عبد الله» بالتنوين والباء وكسر اللام. قوله تعالى: وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فيه أربعة قوال: أحدها: صواباً، قاله ابن عباس. والثاني: صادقاً، قاله الحسن. والثالث: عدلاً، قاله السدي. والرابع: قصداً، قاله ابن قتيبة. ثم في المراد بهذا القول ثلاثة أقوال: أحدها: أنه «لا إِله إِلا الله» ، قاله ابن عباس وعكرمة. والثاني: أنه العدل في جميع الأقوال، والأعمال، قاله قتادة. والثالث: في شأن زينب وزيد، ولا تنسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى ما لا يصلُح، قاله مقاتل بن حيّان. قوله تعالى: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ فيه قولان: أحدهما: يتقبَّل حسناتكم، قاله ابن عباس. والثاني: يزكِّي أعمالكم، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي: نال الخير وظفر به. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ فيها قولان «2» : أحدهما: أنها الفرائض، عرضها الله على السّموات والأرض والجبال، إِن أدَّتها أثابها، وإِن ضيَّعَتْها عذَّبها، فكرهتْ ذلك وعرضها على آدم فقَبِلها بما فيها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وكذلك قال سعيد بن جبير: عُرضت الأمانة على آدم فقيل له: تأخذها بما فيها، إِن أطعتَ غفرتُ لك، وإِن عصيتَ عذَّبتُك، فقال: قَبِلتُ، فما كان إِلاَّ كما بين صلاة العصر إِلى أن غَرَبت الشمس حتى أصاب الذَّنْب. وممن ذهب إِلى أنها الفرائض قتادة والضحاك والجمهور. والثاني: أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها. روى السدي عن أشياخه أن آدم لمَّا أراد الحج قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض، فأبت، وقال للجبال، فأبت، فقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وتجيء وتجد أهلك كما يسرُّك، فلما انطلق آدم قتل قابيل هابيل،

_ لا أصل له. عزاه المصنف لأبي العالية، ولم أره عنه مسندا، وأبو العالية يروي عن كتب الإسرائيليات، وهذا منها.

فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه، فذلك حيث يقول الله عزّ وجلّ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ إِلى قوله: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وهو ابن آدم، فما قام بها. وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن آدم لمّا حضرته الوفاة قال: يا ربِّ، من أستخلف من بعدي؟ فقيل له: اعرض خلافتك على جميع الخلق، فعرضها، فكلٌّ أباها غير ولده. وللمفسرين في المراد بعَرْض الأمانة على السّموات والأرض قولان: أحدهما: أن الله تعالى ركَّب العقل في هذه الأعيان، وأفهمهنَّ خطابه، وأنطقهنَّ بالجواب حين عرضها عليهنَّ، ولم يُرد بقوله: «أبَيْنَ» المخالَفَة، ولكنْ أَبَيْنَ للخَشية والمخافة، لأن العَرْض كان تخييراً لا إِلزاماً، و «أشفقن» بمعنى خِفْنَ منها أن لا يؤدِّينَها فيلحقهنَّ العقاب، هذا قول الأكثرين. والثاني: أن المراد بالآية: إنّا عرضنا الأمانة على أهل السّموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة، قاله الحسن. وفي المراد بالإِنسان أربعة أقوال: أحدها: آدم في قول الجمهور. والثاني: قابيل في قول السدي. والثالث: الكافر والمنافق، قاله الحسن. والرابع: جميع الناس، قاله ثعلب. قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ظَلوماً لنفسه، غِرّاً بأمر ربِّه، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: ظَلوماً لنفسه، جَهولاً بعاقبة أمره، قاله مجاهد. والثالث: ظَلوماً بمعصية ربِّه، جَهولاً بعقاب الأمانة، قاله ابن السائب. وذكر الزجاج في الآية وجهاً يخالف أكثر الأقوال، وذكر أنَّه موافق للتفسير فقال: إِن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السّموات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأمّا السموات والأرض فقالتا: أَتَيْنا طائِعِينَ «1» وأعلَمنا أن من الحجارة ما يَهْبِط من خَشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجُدون لله، فعرَّفنا اللهُ تعالى أنَّ السموات والأرض لم تحتمل الأمانة، لأنها أدَّتها، وأداؤها: طاعة الله وترك معصيته، وكلُّ من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كلُّ من أثم فقد احتمل الإِثم، وكذلك قال الحسن: «وحملها الإِنسان» أي: الكافر والمنافق حَمَلاها، أي: خانا ولم يُطيعا فأمّا من أطاع، فلا يقال: كان ظلوماً جهولاً. قوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قال ابن قتيبة: المعنى: عَرَضْنا ذلك ليظهر نفاقُ المنافق وشِرك المشرك فيعذِّبهم الله، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم، أي: يعود عليهم بالرحمة والمغفرة إِن وقع منهم تقصير في الطاعات.

_ (1) فصلت: 11.

سورة سبأ

سورة سبأ وهي مكّيّة بإجماعهم. وقال الضّحّاك، وابن السّائب، ومقاتل: فيها آية مدنيّة، وهي قوله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلْكاً وخَلْقاً وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ يَحَمَدُه أولياؤه إِذا دخلوا الجنَّة، فيقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «2» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «3» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «4» . يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من بذر أو مطر أو كنز أو غير ذلك وَما يَخْرُجُ مِنْها من زرع ونبات وغير ذلك وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من مطر أو رزق أو ملَك وَما يَعْرُجُ فِيها من ملَك أو عمل أو دُعاءٍ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مُنْكِري البعث لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أي: لا نُبْعَث «5» . قوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو: «عالم الغيب» بكسر الميم، وقرأ

_ (1) سبأ: 6. (2) الزمر: 74. (3) الأعراف: 43. (4) فاطر: 34. (5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 645: هذه إحدى الآيات الثلاث اللاتي لا رابع لهن، مما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس: [53] ، والثانية هذه، والثالثة في سورة التغابن [7] .

[سورة سبإ (34) : الآيات 7 إلى 9]

نافع وابن عامر برفعها. وقرأ حمزة والكسائي: «علاَّمِ الغيب» بالكسر ولام قبل الألف. قال أبو علي: من كسر فعلى معنى: الحمدُ للهِ عالِم الغيب ومن رفع جاز أن يكون «عَالِمُ الغيب» خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو عالِمُ الغيب، ويجوز أن يكون ابتداءً خبره لا يَعْزُبُ عَنْهُ و «علاَّم» أبلغ من «عالم» . وقرأ الكسائي وحده: «لا يَعْزِِبُ» بكسر الزاي وهما لغتان. قوله تعالى: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وقرأ ابن السميفع، والنخعي، والأعمش: «ولا أصغرَ مِنْ ذلك ولا أكبرَ» بالنصب فيهما. قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا قال الزّجّاج: المعنى: بل وربّي لتأتينّكم المجازاة، وقال ابن جرير: المعنى: أثبت مثقال الذرَّة وأصغر منه في كتاب مبين، ليَجْزِيَ الذين آمنوا، وليُريَ الذين أوتوا العلم. قوله تعالى: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ويعقوب، والمفضل: «مِنْ رِجْزٍ أليمٌ» رفعاً والباقون بالخفض فيهما «1» . وفي الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قولان: أحدهما: أنهم مؤمنوا أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة. قوله تعالى: الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني القرآن هُوَ الْحَقَّ قال الفرّاء: «هو» عماد للذي، فلذلك انتصب الحقّ. وما أخللنا به فقد سبق في مواضع «2» . [سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم منكروا البعث، قال بعضهم لبعض: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ أي: يقول لكم: إِنَّكم إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي: فرّقتم كلّ فريق والممزّق ها هنا مصدر بمعنى التمزيق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: يجدَّد خَلْقكم للبعث. ثم أجاب بعضُهم فقالوا: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً حين زعم أنَّا نُبعث؟! وألف «أَفْترى» ألف استفهام، وهو استفهام تعجب وإِنكار، أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي: جنون؟! فردّ الله تعالى عليهم فقال: بَلِ أي: ليس الأمر كما تقولون من الافتراء والجنون، بل الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وهم الذين يجحدون البعث فِي الْعَذابِ إِذا بُعثوا في الآخرة وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ من الحق في الدنيا. ثم وعظهم فقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وذلك أن الإِنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض قُدَّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فالمعنى أنهم أين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إِن شئتُ خسفتُ بهم الأرض، وإِن شئتُ أسقطتُ عليهم قطعة من السماء إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما يَرَون من السماء والأرض

_ (1) أي هنا وفي سورة الجاثية: 11. (2) البقرة: 130- 267، الحج: 51- 52.

[سورة سبإ (34) : الآيات 10 إلى 11]

لَآيَةً تدلُّ على قدرة الله تعالى على بعثهم والخسف بهم لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي: راجعٍ إِلى طاعة الله، متأمِّلٍ لِمَا يرى. [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا وهو النُّبوَّة والزَّبور وتسخير الجبال والطير، إِلى غير ذلك ممَّا أنعم اللهُ به عليه يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وروى الحلبي عن عبد الوارث: «أُوْبي» بضم الهمزة وتخفيف الواو. قال الزجاج: المعنى: وقلنا: يا جبال أوِّبي معه، أي: ارجعي معه. والمعنى: سبِّحي معه ورجِّعي التسبيح. ومن قرأ: «أُوْبي» معناه: عودي في التسبيح معه كلما عاد. وقال ابن قتيبة: «أوِّبي» أي: سبِّحي، وأصل التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كلَّه، وينزل ليلاً، فكأنه أراد: ادأَبي النهار كلَّه بالتسبيح إِلى الليل. قوله تعالى: وَالطَّيْرَ وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: «والطَّيْرُ» بالرفع. فأما قراءة النصب، فقال أبو عمرو بن العلاء: هو عطف على قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا وَالطَّيْرَ أي: وسخَّرْنا له الطَّيْرَ. قال الزجاج: ويجوز أن يكون نصباً على النداء، كأنه قال: دعَوْنا الجبالَ والطيرَ، فالطير معطوف على موضع الجبال، وكل منادى عند البصريين فهو في موضع نصب قال: وأما الرفع، فمن جهتين: إِحداهما: أن يكون نسقاً على ما في «أوِّبي» فالمعنى يا جبال رجِّعي التسبيح معه أنتِ والطير. والثانية: على النداء، المعنى: يا جبال ويا أيُّها الطير أوِّبي معه. قال ابن عباس: كانت الطير تسبِّح معه إِذا سبَّح، وكان إِذا قرأ لم تبق دابَّة إِلا استمعت لقراءته وبكت لبكائه. وقال وهب بن منبه: كان يقول للجبال: سبِّحي. وللطير: أجيبي، ثم يَأخذ هو في تلاوة الزَّبور بين ذلك بصوته الحسن، فلا يرى الناسُ منظراً أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئاً أطيبَ منه. قوله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أي: جعلناه ليِّناً. قال قتادة: سخَّر اللهُ له الحديد بغير نار، فكان يسوِّيه بيده، لا يُدخله النار، ولا يضربه بحديدة، وكان أول من صنع الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح. قوله تعالى: أَنِ اعْمَلْ قال الزجاج: معناه: وقلنا له: اعْمَل، ويكون في معنى «لأن يعمل» سابِغاتٍ أي: دروعاً سابغات، فذكر الصفة لأنها تدل على الموصوف. قال المفسرون: كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء، فيعمل الدّروع في بعض يوم فيبيعه بمال كثير، فيأكل ويتصدق. والسابغات: الدروع الكوامل التي تغطّي لابسها حتى تَفْضُل عنه فيجرّها على الأرض. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي: اجعله على قدر الحاجة. قال ابن قتيبة: السَّرْدُ: النَّسْج، ومنه يقال لصانع الدُّروع: سَرَّادٌ وزَرّادٌ، تبدل من السين الزاي، كما يقال: سرّاط وزرّاط. وقال الزجاج: السَّرْدُ في اللغة: تَقْدِمَةُ الشيء إِلى الشيء تأتي به متَّسقاً بعضُه في إِثر بعض متتابعاً، ومنه قولهم: سَرَدَ فلان الحديثَ. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: عدِّل المسمار في الحَلْقة ولا تصغِّره فيقلق، ولا تُعظِّمه فتنفصم الحَلْقة، قاله مجاهد. والثاني: لا تجعل حِلَقَه واسعة فلا تَقي صاحبها، قاله قتادة. قوله تعالى: وَاعْمَلُوا صالِحاً خطاب لداود وآله.

[سورة سبإ (34) : الآيات 12 إلى 14]

[سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 14] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قرأ الأكثرون بنصب الرِّيح على معنى: وسخَّرنا لسليمان الرِّيحَ. وروى أبو بكر، والمفضل عن عاصم: «الرِّيحُ» رفعاً، أي: له تسخيرُ الريح. وقرأ أبو جعفر: «الرِّياح» على الجمع. غُدُوُّها شَهْرٌ قال قتادة: تغدو مسيرةَ شهر إِلى نصف النهار، وتروح مسيرةَ شهر إِلى آخر النهار، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين. قال الحسن: لمَّا شَغَلت نبيَّ الله سليمانَ الخيلُ عن الصلاة فعقرها، أبدله الله خيراً منها وأسرع وهي الريح، فكان يغدو من دمشق فيَقيل بإِصْطَخْر وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إِصطخر فيبيت بكابُل، وبينهما مسيرة شهر للمسرع. قوله تعالى: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ قال الزجاج: القِطْر: النُّحاس، وهو الصُّفْر، أُذيب مذ ذاك، وكان قبل سليمان لا يذوب. قال المفسّرون: أجرى الله تعالى: لسليمان عين الصُّفْر حتى صنع منها ما أراد من غير نار، كما أُلين لداود الحديدُ بغير نار، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهنّ كجري الماء وإِنما يعمل الناس اليوم مما أُعطي سليمان. قوله تعالى: وَمِنَ الْجِنِّ المعنى: وسخَّرنا له من الجن مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي: بأمره سخَّرهم الله له، وأمرهم بطاعته والكلام يدلُّ على أنَ منهم من لم يسخَّر له وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ أي: يَعْدِل عَنْ أَمْرِنا له بطاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ وهل هذا في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان: أحدهما: في الآخرة، قاله الضحاك. والثاني: في الدنيا، قاله مقاتل. وقيل: إِنه كان مع سليمان مَلَك بيده سوط من نار، فمن زاغ من الجن ضربه الملك بذلك السوط. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المساجد، قاله مجاهد، وابن قتيبة. والثاني: القصور، قاله عطية. والثالث: المساجد والقصور، قاله قتادة. وأما التماثيل، فهي الصّور قاله الحسن. ولم تكن يومئذ محرَّمة ثم فيها قولان: أحدهما: أنها كانت كالطَّواويس والعِقْبان والنُّسور على كرسيِّه ودرجات سريره لكي يَهابَها من أراد الدُّنُوَّ منه، قاله الضحاك. والثاني: أنها كانت صُوَرُ النبييِّن والملائكة لكي يراهم الناس مصوَّرين، فيعبُدوا مثل عبادتهم ويتشبَّهوا بهم، قاله ابن السائب. وفي ما كانوا يعملونها منه قولان: أحدهما: من النُّحاس، قاله مجاهد. والثاني: من الرُّخام والشَّبَه «1» ، قاله قتادة. قوله تعالى: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ الجِفَان: جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة، والجَوَابي جمع جابِيَة، وهي الحوض الكبير يُجبَى فيه الماء، أي: يُجمع. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «كالجوابي» بياء،

_ (1) في «اللسان» : الشّبه: النحاس يصبغ فيصفر.

[سورة سبإ (34) : الآيات 15 إلى 21]

إِلا أن ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف، وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف. قال الزجاج: وأكثر القراء على الوقف بغير ياءٍ، وكان الأصل الوقف بالياء، إِلاَّ أن الكسرة تنوب عنها. قال المفسرون: كانوا يصنعون له القِصَاع كحياض الإِبل، يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها. قوله تعالى: وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي: ثوابت يقال: رسا يرسو: إِذا ثبت. وفي علَّة ثبوتها في مكانها قولان: أحدهما: أن أثافيها «1» منها، قاله ابن عباس. والثاني: أنها لا تُنزل لِعِظَمها، قاله ابن قتيبة. قال المفسرون: وكانت القُدور كالجبال لا تحرَّك من أماكنها، يأكل من القِدْر ألف رجل. قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً المعنى: وقلنا: اعملوا بطاعة الله تعالى، شكراً له على ما آتاكم. قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ يعني على سليمان. قال المفسرون: كانت الإِنس تقول: إِن الجن تعلم الغيب الذي يكون في غد، فوقف سليمان في محرابه يصلِّي متوكِّئاً على عصاه، فمات، فمكث كذلك حولاً والجن تعمل تلك الأعمال الشّاقّة ولا تعلم بموته حتى أكلتِ الأَرَضُ عصا سليمان، فخرَّ فعلموا بموته، وعَلِم الإِنس أن الجن لا تعلم الغيب. وقيل: إِن سليمان سأل الله تعالى أن يعمِّي على الجن موته، فأخفاه الله عنهم حولاً. وفي سبب سؤاله قولان: أحدهما: لأن الجن كانوا يقولون للانس: إِنَّنا نَعْلَمُ الغيب، فأراد تكذيبهم. والثاني: لأنه كان قد بقي من عِمارة بيت المقدس بقيَّة. فاما دَابَّةُ الْأَرْضِ فهي: الأَرَضَة: وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: «دابَّة الأرض» بفتح الراء. والمِنْسأة: العصا. قال الزجاج: وإِنما سمِّيت مِنْسأة، لأنه يُنْسَأُ بها، أي: يُطْرَدُ ويُزْجَر. قال الفراء: أهل الحجاز لا يهمزون المِنْسأة، وتميم وفصحاء قيس يهمزونها. قوله تعالى: فَلَمَّا خَرَّ أي: سقط تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي: ظهرت وانكشف للناس أنهم لا يعلمون الغيب، ولو علموا ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أي: ما عملوا مسخَّرين وهو ميت وهم يظنُّونه حيّاً. وقيل: تبيَّنت الجن، أي عَلِمت، لأنَّها كانت تَتَوَهَّم باستراقها السمع أنها تعلم الغيب، فعلمت حينئذ خطأَها في ظنِّها. وروى رويس عن يعقوب: «تبيّنت» برفع التاء والباء وكسر الياء. [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

_ (1) في «اللسان» : الأثف: الحجر الذي توضع عليه القدر، وجمعها أثافي. [.....]

الإشارة إلى قصتهم

قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «في مَسَاكِنِهم» . وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «مَسْكَنِهم» بفتح الكاف من غير ألف. وقرأ الكسائي، وخلف: «مَسْكِنِهم» بكسر الكاف، وهي لغة. قال المفسّرون: المراد بسبإ ها هنا: القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يشجب بن يَعْرُب بن قحطان وقد ذكرنا في سورة النمل «1» الخلاف في هذا، وأن قوماً يقولون: هو اسم بلد، وليس باسم رجل. وذكر الزجاج في هذا المكان أنَّ مَنْ قرأ: «لِسَبأَ» بالفتح وترك الصَّرْف، جعله اسماً للقبيلة، ومن صرف وكسر ونوَّن، جعله اسماً للحيِّ واسما لرجل وكلّ جائز حسن. وآيَةٌ رفع، اسم «كان» وجَنَّتانِ رفع على نوعين. أحدهما: أنه بدل من «آية» . والثاني: على إِضمار، كأنَّه لمَّا قيل: «آيةٌ» قيل: الآية جنَتَّان. الإِشارة إِلى قصتهم ذكر العلماء بالتفسير والسِّيَر أن بلقيس لمَّا ملكت قومَها جعل قومُها يقتتِلون على ماء واديهم، فجعلت تنهاهم فلا يُطيعونها، فتركت مُلْكها وانطلقت إِلى قصرها فنزلتْه، فلمَّا كَثُر الشَّرُّ بينهم وندموا، أتَوها فأرادوها على أن ترجع إِلى مُلكها، فأبت، فقالوا: لَتَرجِعِنَّ أو لَنَقْتُلَنَّكِ، فقالت: إِنكم لا تُطيعونني وليست لكم عقول، فقالوا: فانَّا نُطيعك، فجاءت إِلى واديهم- وكانوا إِذا مُطِروا أتاه السَّيل من مسيرة أيَّام- فأمرتْ به، فسُدَّ ما بين الجبلين بمُسَنَّاة «2» ، وحبستْ الماء من وراء السد، وجعلتْ له أبواباً بعضها فوق بعض، وبنتْ من دونه برِكة وجعلت فيها اثني عشر مَخْرجاً على عِدَّة أنهارهم، فكان الماء يخرج بينهم بالسويَّة، إِلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذكره «3» ، وبقُوا بعدها على حالهم، وقيل: إِنما بنَواْ ذلك البنيان لِئلاَّ يغشى السيلُ أموالهم فيُهلكها، فكانوا يفتحون من أبواب السَّدِّ ما يريدون، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إِليه، وكانت لهم جنَّتان عن يمين واديهم وعن شماله، فأخصبت أرضُهم، وكَثُرت فواكههم، وإِن كانت المرأةُ لتمُرُّ بين الجنَّتين والمِكْتَل على رأسها، فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تَمسُّ بيدها شيئاً منه، ولم يكن يُرى في بلدهم حيَّة ولا عقرب، ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، ويمُرُّ الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القَمْل، فيموت القمل لطيب هوائها. وقيل لهم: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي: هذه بلدة طيِّبة، أو بلدتُكم بلدةٌ طيِّبة، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي وَرَبٌّ غَفُورٌ أي: واللهُ ربٌّ غفور، وكانت ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إِليهم ثلاثة عشر نبيّاً «4» ، فكذَّبوا الرُّسل، ولم يقرّوا بنعم الله، فذلك قوله تعالى: فَأَعْرَضُوا أي: عن الحقّ، وكذَّبوا أنبياءهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وفيه أربعة أقوال: أحدها: أن العَرِم: الشديد، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال ابن الأعرابي: العَرِم: السَّيل الذي لا يُطاق. والثاني: أنه اسم الوادي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، ومقاتل. والثالث: أنه المُسَنَّاة، قاله مجاهد، وأبو ميسرة، والفراء، وابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: العَرِم: جمع عَرِمَة، وهي: السّكر «5» والمسنّاة. والرابع: أنّ العرم: الجرذ

_ (1) النمل: 22. (2) في «اللسان» سننت التراب: صببته على وجه الأرض صبا حتى صار كالمسنّاة. (3) النمل: 29- 44. (4) هذا الأثر من إسرائيليات وهب بن منبه. (5) السّكر بالسكون: ما سد به النهر.

الذي نقب عليهم السِّكْر، حكاه الزجاج. وفي صفة إِرسال هذا السيل عليهم قولان: أحدهما: أن الله تعالى بَعَثَ على سِكْرهم دابَّةً من الأرض فنقبت فيه نقباً، فسال ذلك الماء إِلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال قتادة والضحاك في آخرين: بعث اللهُ عليهم جُرَذاً يسمَّى الخُلْد- والخُلْد: الفأر الأعمى- فنقبه من أسفله، فأغرق اللهُ به جنَّاتهم، وخرَّب به أرضهم. والثاني: أنه أرسل عليهم ماءً أحمر، أرسله في السدِّ فنسفه وهدمه وحفر الوادي، ولم يكن الماء أحمر من السد، وإِنما كان سيلاً أُرسل عليهم، قاله مجاهد. قوله تعالى: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ يعني اللَّتين تُطعمان الفواكه جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «أُكُلٍ» بالتنوين. وقرأ أبو عمرو: «أُكُلِ» بالإِضافة. وخفَّف الكاف ابن كثير ونافع، وثقَّلها الباقون. أمَّا الأُكُل، فهو الثمر. وفي المراد بالخَمْط ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الأراك، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور فعلى هذا، أُكُلُه: ثمره ويسمَّى ثمر الأراك: البَرِير. والثاني: أنه كل شجرة ذات شوك، قاله أبو عبيدة. والثالث: أنه كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله، قاله المبرِّد والزجّاج. فعلى هذا القول، الخَمْط: اسم للمأكول، فيَحسُن على هذا قراءة من نوَّن الأُكُل وعلى ما قبله، هو اسم شجرة، والأُكُل ثمرها، فيحسُن قراءة من أضاف. فأمَّا الأَثْل، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الطَّرْفاء «1» ، قاله ابن عباس. والثاني: أنه السَّمُر، حكاه ابن جرير. والثالث: أنه شجر يشبه الطَّرْفاء إِلاَّ أنَّه أعظم منه. قوله تعالى: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ففيه تقديم، تقديره: وشيء قليل من السّدر وهو شجر النّبق. والمعنى: أنه كان الخَمْط والأَثْل في جنَّتيهم أكثر من السِّدْر. قال قتادة: بينما شجرُهم من خير الشجر، إِذ صيَّره اللهُ تعالى من شرِّ الشجر. قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ أي: ذلك التبديل جزيناهم بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ. فان قيل: قد يُجازى المؤمنُ والكافر، فما معنى هذا التخصيص؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن المؤمن يُجزى ولا يُجازى، فيقال في أفصح اللغة: جزى اللهُ المؤمن، ولا يقال: جازاه، لأن جازاه بمعنى كافأه، فالكافر يُجازى بسيِّئتِهِ مثلها، مكافأة له، والمؤمن يُزاد في الثواب ويُتفضَّل عليه، هذا قول الفراء. والثاني: أن الكافر ليست له حسنة تكفِّر ذنوبه، فهو يُجازى بجميع الذُّنوب، والمؤمن قد أَحبطت حسناتُه سيِّئاته، هذا قول الزجاج. وقال طاوس: الكافر يُجازى ولا يُغْفَر له، والمؤمن لا يُناقَش الحسابَ. قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ هذا معطوف على قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ والمعنى: كان من قَصَصهم أنّا جَعَلْنا بينهم وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي: قرى الشام وقد سبق بيان معنى البركة

_ (1) في «اللسان» : الطرفاء: قال أبو حنيفة: الطرفاء من العضاه وهدبه مثل هدب الأثل، وليس له خشب وإنما يخرج عصيا سمحة في السماء.

فيها «1» ، هذا قول الجمهور. وحكى ابن السائب أن الله تعالى لمَّا أهلك جنَّتيهم قالوا للرسل: قد عرفنا نعمة الله علينا، فلئن ردَّ إِلينا ما كنَّا عليه لنَعْبُدَنَّه عبادةً شديدة، فردَّ عليهم النِّعمة، وجعل لهم قُرىً ظاهرة، فعادوا إِلى الفساد وقالوا: باعد بين أسفارنا فَمُزِّقوا. قوله تعالى: قُرىً ظاهِرَةً أي: متواصلة ينظُر بعضها إِلى بعض وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ فيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يَغْدون فيَقِيلون في قرية، ويَرُوحون فيَبِيتون في قرية، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أنه جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: سِيرُوا فِيها والمعنى: وقلنا لهم: سيروا فيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً أي: ليلاً ونهاراً آمِنِينَ من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سَبُع أو تعب. وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان، فبَطِروا النِّعمة وملّوها كما ملّ بنو إِسرائيل المَنَّ والسَّلوى فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «بَعِّد» بتشديد العين وكسرها. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة: «باعِدْ» بألف وكسر العين. وعن ابن عباس كالقراءتين. قال ابن عباس: إِنهم قالوا: لو كانت جنَّاتنا أبعد ممَّا هي، كان أجْدَرَ أن يُشتهى جَنَاها. قال أبو سليمان الدمشقي: لمَّا ذكَّرتْهم الرُّسلُ نِعَم الله، أنكروا أن يكون ما هم فيه نعمة، وسألوا الله أن يُباعِد بين أسفارهم. وقرأ يعقوب: «ربُّنا» برفع الباء «باعَدَ» بفتح العين والدال، جعله فعلاً ماضياً على طريق الإخبار للناس بما أنزله الله عزّ وجلّ بهم. وقرأ عليّ بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، وابن السميفع، وابن أبي عبلة: «بَعُدَ» برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف، على طريق الشّكاية إلى الله عزّ وجلّ. وقرأ عاصم الجحدري وأبو عمران الجوني: «بُوعِدَ» برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين. قوله تعالى: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فيه قولان: أحدهما: بالكفر وتكذيب الرُّسل. والثاني: بقولهم: «بَعِّدْ بين أسفارنا» . فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم يتحدَّثون بما فُعل بهم وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي: فرَّقْناهم في كل وجه من البلاد كلَّ التفريق، لأنَّ الله لمَّا غرَّق مكانهم وأذهب جنَّتَيْهم تبدَّدوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل في الفُرقة بسبأٍ إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما فُعِل بهم لَآياتٍ أي: لَعِبَراً لِكُلِّ صَبَّارٍ عن معاصي الله شَكُورٍ لِنِعَمه. قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «عليهم» بمعنى «فيهم» ، وصِدْقه في ظنه أنَّه ظنَّ بهم أنَّهم يتَّبعونه إِذ أغواهم، فوجدهم كذلك. وإِنما قال: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ بالظنِّ، لا بالعِلْم، فمن قرأ: «صَدَّق» بتشديد الدال، فالمعنى: حقَّق ما ظنَّه فيهم بما فعل بهم ومن قرأ بالتخفيف، فالمعنى: صَدَق عليهم في ظنِّه بهم. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم أهل سبأ. والثاني: سائر المطيعين لإِبليس. قوله تعالى: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ قد شرحناه في قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «2» . قال الحسن: واللهِ ما ضربهم بعصاً ولا قهرهم على شيء، إِلاَّ أنه دعاهم إِلى الأماني والغرور. قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ أي: ما كان تسليطنا إِيَّاه إِلاَّ لِنَعْلَم المؤمنين من الشاكِّين. وقرأ الزهري: «إِلاَّ لِيُعْلَمَ» بياء مرفوعة على ما لمُ يسمَّ فاعله. وقرأ ابن يعمر: «لِيَعْلَمَ» بفتح الياء. وفي المراد بعلمه ها هنا ثلاثة أقوال: قد شرحناها في أول العنكبوت «3» . وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الشكِّ والإِيمان حَفِيظٌ، وقال ابن قتيبة: والحفيظ بمعنى الحافظ. قال الخطّابي: وهو فَعِيل بمعنى فاعل، كالقدير،

_ (1) الأنبياء: 71. (2) الحجر: 42. (3) العنكبوت: 3.

[سورة سبإ (34) : الآيات 22 إلى 23]

والعليم، فهو يحفظ السّموات والأرض بما فيها لتبقى مدَّة بقائها، ويحفظ عباده من المَهالك، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نيَّاتِهم، ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذُّنوب، ويحرسُهم من مكايد الشيطان. [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ المعنى: قل للكفار: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهةٌ ليُنْعِموا عليكم بنِعْمة، أو يكشفوا عنكم بليَّة. ثم أخبر عنهم فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي: من خير وشرّ ونفع وضُرّ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ لم يشاركونا في شيء من خلقهما، وَما لَهُ أي: وما لله مِنْهُمْ أي: من الآلهة مِنْ ظَهِيرٍ أي: من مُعِين على شيء. وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «أُذِنَ له» بفتح الألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ، «أُذِنَ له» برفع الألف، وعن عاصم كالقراءتين. أي: لا تنفع شفاعة مَلَك ولا نبيّ حتى يُؤْذَن له في الشفاعة، وقيل: حتى يؤذَن له فيمن يشفع. وفي هذا ردّ عليهم حين قالوا: إِن هذه الآلهة تشفع لنا. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قرأ الأكثرون: «فُزِّعَ» بضم الفاء وكسر الزاي، قال ابن قتيبة: خُفِّفَ عنها الفَزَع. وقال الزجاج: معناه: كُشِف الفَزَع عن قلوبهم. وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وأبان: «فَزَعَ» بفتح الفاء والزاي، والفعل لله عزّ وجلّ. وقرأ الحسن، وقتادة، وابن يعمر: «فرغ» بالراء غير معجمة، وبالغين معجمة، وهو بمعنى الأول، لأنها فرغت من الفزع. وقال غيره بل فرغت من الشك والشِّرك. وفي المشار إِليهم قولان «1» : أحدهما: أنهم الملائكة وقد دلَّ الكلام على أنهم يفزعون لأمر يطرأ عليهم من أمر الله ولم يذكره في الآية، لأن إِخراج الفزع يدل على حصوله وفي سبب فَزَعهم قولان: أحدهما: أنهم يفزعون لسماع كلام الله تعالى. وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: (1183) «إِذا تكلَّم اللهُ بالوحي سمع أهلُ السماء صلصلةً كجرِّ السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيَهم جبريل، فاذا جاءهم جبريل فزِّع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل، ماذا

_ حسن بشواهده. أخرجه أبو داود 4738 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 145 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 434 وابن حبان 37، ورجاله ثقات معروفون. وأخرجه موقوفا ابن خزيمة في التوحيد ص 146 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 432 كلاهما عن أبي معاوية به. وأخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» ص 92، 93 والخطيب في «تاريخ بغداد» 11/ 393 وعبد الله بن أحمد في «السنة» ص 71 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 146- 147 من طرق عن الأعمش به موقوفا على عبد الله. وعلقه البخاري عن مسروق عن ابن مسعود موقوفا كما في «الفتح» 13/ 452. ومع ذلك فمثله لا يقال بالرأي، ويشهد لأصله ما بعده.

[سورة سبإ (34) : الآيات 24 إلى 27]

قال ربُّك؟ قال: فيقول: الحق، فينادون: الحقّ الحقّ» . (1184) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِذا قضى اللهُ عزَّ وجل الأمرَ في السماء ضَربت الملائكةُ بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فاذا فزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربُّكم، قالوا للذي قال: الحقَّ وهو العلي الكبير» . والثاني: أنهم يفزعون من قيام الساعة. وفي السبب الذي ظنُّوه بدنوِّ الساعة ففزعوا، قولان: (1185) أحدهما: أنه لمَّا كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، ثم بعث اللهُ محمداً، أنزَل اللهُ جبريل بالوحي، فلمَّا نزل ظنَّت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة، فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمرُّ بكل سماءٍ ويكشف عنهم الفَزَع ويُخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة، ومقاتل، وابن السائب. وقيل: لمّا علموا بالإيحاء إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم، فزعوا، لِعِلمهم أنَّ ظُهوره من أشراط الساعة. (1186) والثاني: أن الملائكة المعقِّبات الذين يختلفون إِلى أهل الأرض ويكتبون أعمالهم إِذا أرسلهم الله تعالى فانحدروا، يُسْمَع لهم صوتٌ شديد، فيحْسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرُّون سُجَّداً، ويُصْعَقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا كلَّما مرُّوا عليهم، رواه الضحاك عن ابن مسعود. والقول الثاني: أن الذي أُشير إِليهم المشركون ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى: حتى إِذا كُشف الفزع عن قلوب المشركين عند الموت- إِقامةً للحجة عليهم- قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربُّكم في الدنيا؟ قالوا: الحقّ، فأقرُّوا حين لم ينفعهم الإِقرار، قاله الحسن، وابن زيد. والثاني: حتى إِذا كُشف الغِطاء عن قلوبهم يوم القيامة، قيل لهم: ماذا قال ربُّكم؟ قاله مجاهد. [سورة سبإ (34) : الآيات 24 الى 27] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ يعني المطر وَالْأَرْضِ يعني النبات والثمر. وإِنما

_ صحيح. أخرجه البخاري 4701 و 7481 و 4800 وأبو داود 3989 والترمذي 3223 وابن ماجة 194 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 147 وابن حبان 36 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 235- 236 وابن مندة في «الإيمان» 700 والحميدي 1151 من طرق عن سفيان به. لا أصل له، عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ومقاتل، وكلاهما يضع الحديث. وأخرجه الطبري 28854 عن قتادة قال: يوحي الله إلى جبرائيل، فتفرّق الملائكة، أو تفزع مخافة يكون شيء من أمر الساعة، فإذا جلي عن قلوبهم، وعلموا أنه ليس ذلك من أمر الساعة قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وهذا من كلام قتادة، ليس بمرفوع، فالخبر ليس له أصل في المرفوع. موقوف ضعيف. أخرجه الطبري 28855 عن الضحاك عن ابن مسعود قوله، وإسناده ضعيف، شيخ الطبري لم يسمّ، والضحاك لم يلق ابن مسعود.

[سورة سبإ (34) : الآيات 28 إلى 30]

أُمر أن يسأل الكفار عن هذا، احتجاجاً عليهم بأن الذي يرزُق هو المستحِقُّ للعبادة، وهم لا يُثبتون رازقاً سواه، ولهذا قيل له: قُلِ اللَّهُ لأنهم لا يُجيبون بغير هذا وها هنا تم الكلام. ثم أمره أن يقول لهم: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مذهب المفسّرين أنّ «أو» ها هنا بمعنى الواو. وقال أبو عبيدة: معنى الكلام: وإِنَّا لَعَلى هُدىً، وإِنَّكم لفي ضلالُ مبين. وقال الفراء: معنى «أو» عند المفسرين معنى الواو، وكذلك هو في المعنى، غير أن العربيَّة على غير ذلك، لا تكون «أو» بمنزلة الواو، ولكنها تكون في الأمر المفوَّض، كما تقول: إِن شئت فَخُذ درهماً أو اثنين، فله أن يأخذ واحداً أو اثنين، وليس له أن يأخذ ثلاثة، وإِنما معنى الآية: وإِنّا لضالُّون أو مهتدون، وإِنكم أيضاً لضالُّون أو مهتدون، وهو يَعْلَمُ أن رسوله المهتدي، وأن غيره الضالُّ، كما تقول للرجل تكذِّبه: واللهِ إِنَّ أحدنا لكاذب- وأنت تعنيه- فكذَّبْتَه تكذيباً غير مكشوف ويقول الرجل: والله لقد قَدِم فلان، فيقول له من يَعْلَم كذبه: قل: إِن شاء الله، فيكذِّبه بأحسنَ من تصريح التكذيب ومن كلام العرب أن يقولوا: قاتله الله، ثم يستقبحونها، فيقول: قاتَعَه الله، ويقول بعضهم: كاتعه الله ويقولون: جوعاً، دعاء على الرجل، ثم يستقبحونها فيقولن: جوداً، وبعضهم يقول: جوساً ومن ذلك قولهم: ويحك وويسك، وإِنما هي في معنى «ويلك» إِلا أنها دونها. قوله تعالى: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا أي: لا تؤاخَذون به وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الكفر والتكذيب والمعنى إِظهار التبرِّي منهم. وهذه الآية عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك. قوله تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يعني عند البعث في الآخرة ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا أي: يقضي بِالْحَقِّ أي: بالعدل وَهُوَ الْفَتَّاحُ القاضي الْعَلِيمُ بما يقضي قُلْ للكفار أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أي: أَعلِموني من أيِّ وجه ألحقتموهم وهم لا يخلُقون ولا يرزُقون كَلَّا ردع وتنبيه والمعنى: ارتدِعوا عن هذا القول، وتنبَّهوا عن ضلالتكم، فليس الأمر على ما أنتم عليه. [سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 30] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي: عامَّة لجميع الخلائق. وفي الكلام تقديم، تقديره: وما أرسلناك إِلاَّ للناس كافَّةً. وقيل: معنى «كافة للناس» : تكفُّهم عمَّا هُم عليه من الكفر، والهاء فيه للمبالغة. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون العذاب الذي يَعِدُهم به في يوم القيامة وإِنما قالوا هذا لأنهم يُنْكرون البعث قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ وفيه قولان: أحدهما: أنه يوم الموت عند النَّزْع والسّياق، قاله الضحاك. والثاني: يوم القيامة، قاله أبو سليمان الدّمشقي. [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)

[سورة سبإ (34) : الآيات 34 إلى 39]

قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي مكَّة لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعنون التوراة والإِنجيل، وذلك أن مؤمني أهل الكتاب قالوا: إِنّ صفة محمد في كتابنا، فكفر أهلُ مكَّة بكتابهم. ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ يعني مشركي مكة مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي: يَرُدُّ بعضُهم على بعض في الجدال واللَّوم يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم الأشراف والقادة: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أي: مصدِّقين بتوحيد الله والمعنى: أنتم منعتمونا عن الإِيمان فأجابهم المتبوعون فقالوا: أنحن صددنكم عن الهُدى أي: منعناكم عن الإِيمان بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ به الرسول؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ بترك الإِيمان- وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سبباً للعداوة في الآخرة- فردَّ عليهم الأتباع فقالوا: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: بل مكرُكم بنا في الليل والنهار. قال الفراء: وهذا ممَّا تتوسع فيه العرب لوضوح معناه، كما يقولون: ليله قائم، ونهاره صائم، فتضيف الفعل إِلى غير الآدميين، والمعنى لهم. وقال الأخفش: وهذا كقوله تعالى: مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ «1» ، قال جرير: لقد لُمْتِنا يا أمَّ غَيلانَ في السُّرى ... ونمتِ وَما ليلُ المطيِّ بِنائمِ «2» وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: «بل مَكَرَ» بفتح الكاف والراء «الليلُ والنهارُ» برفعهما. وقرأ ابن يعمر: «بل مَكْرُ» باسكان الكاف ورفع الراء وتنوينها، «الليلَ والنهارَ» بنصبهما. قوله تعالى: إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وذلك أنهم كانوا يقولون لهم: إِنَّ دِيننا حقّ ومحمد كذّاب، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ وقد سبق بيانه في يونس «3» . قوله تعالى: وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِذا دخلوا جهنم غُلَّت أيديهم إِلى أعناقهم، وقالت لهم خزنة جهنم: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا. قال أبو عبيدة: مجاز «هل» ها هنا مجاز الإِيجاب، وليس باستفهام والمعنى: ما تُجزَون إلّا ما كنتم تعملون. [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

_ (1) محمد: 13. (2) في «اللسان» : السّرى: سير الليل عامته. (3) يونس: 54.

وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ أي: نبيّ يُنْذِر إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها وهم أغنياؤها ورؤساؤها. قوله تعالى: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً. في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المُتْرَفون من كل أُمَّة. والثاني: مشركو مكة، فظنوا من جهلهم أن الله خوَّلهم المال والولد لكرامتهم عليه، فقالوا: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لأن الله أحسن إِلينا بما أعطانا فلا يعذِّبنا، فأخبر أنه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ والمعنى أنَّ بَسْطَ الرِّزق وتضييقه ابتلاءٌ وامتحان، لا أنَّ البَسْطَ يدلُّ على رضى الله، ولا التضييق يدل على سخطه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك. ثم صرح بهذا المعنى بقوله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قال الفراء: يصلُح أن تقع «التي» على الأموال والأولاد جميعاً، لأن الأموال جمع والأولاد جمع وإِن شئتَ وجَّهتَ «التي» إِلى الأموال، واكتفيتَ بها من ذِكْر الأولاد وأنشد لمرّار الأسدي: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» . وقال الزجاج: المعنى: وما أموالكم بالتي تقرِّبكم، ولا أولادكم بالذين يقرِّبونكم، فحُذف اختصاراً. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وأَبو الجوزاء: «باللاتي تقرّبكم» . قال الأخفش: و «زلفى» ها هنا اسم مصدر، كأنه قال: تقرِّبكم عندنا ازْدِلافاً. وقال ابن قتيبة: «زُلْفى» أي: قُرْبى ومَنْزِلةً عِندنا. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ آمَنَ قال الزجاج: المعنى: ما تقرِّبُ الأموالُ إِلاَّ من آمن وعمل بها في طاعة الله، فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ والمراد به ها هنا عشر حسنات، تأويله: لهم جزاءُ الضِّعف الذي قد أعلمتُكم مقداره. وقال ابن قتيبة: لم يُرِدْ فيما يَرى أهلُ النظر- والله أعلم- أنهم يُجازَون بواحدٍ مثله، ولا اثنين، ولكنه أراد جزاء التضعيف، وهو مِثْل يُضَمُّ إِلى مِثْلٍ ما بَلَغ، وكأنَّ الضِّعفَ الزيادةُ، فالمعنى: لهم جزاءُ الزيادة. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ورويس، وزيد عن يعقوب: «لهم جزاءً» بالنصب والتنوين وكسر التنوين وصلاً «الضِّعفُ» بالرفع. وقرأ أبو الجوزاء، وقتادة وأبو عمران الجوني: «لهم جزاءٌ» بالرفع والتنوين «الضِّعفُ» بالرفع. قوله تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ يعني غُرَف الجنة، وهي البيوت فوق الأبنية. وقرأ حمزة: «في الغُرْفة» على التوحيد أراد اسم الجنس. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل: «في الغُرْفات» بضم الغين وسكون الراء مع الألف. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر: بضم الغين وفتح الراء مع الألف آمِنُونَ من الموت والغير. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره «2» إلى قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي: يأتي ببدله، يقال: أخلف اللهُ له وعليه: إِذا أبدل ما ذهب عنه. وفي معنى الكلام أربعة أقوال. أحدها: ما أنفقتم من غير إِسراف ولا تقتير فهو يُخْلِفُه، قاله سعيد بن جبير. والثاني: ما أنفقتم في طاعته، فهو يخلفه في الآخرة بالأجر، قاله السدي. والثالث: ما أنفقتم في الخير والبِرِّ فهو يُخْلِفه، إِمَّا أن يعجله في الدنيا،

_ (1) التوبة: 34. [.....] (2) الحج: 51- الرعد: 26.

[سورة سبإ (34) : الآيات 40 إلى 45]

أو يدَّخرَه لكم في الآخرة، قاله ابن السائب. والرابع: أن الإِنسان قد يُنفق ماله في الخير ولا يرى له خَلَفاً أبداً وإِنما معنى الآية: ما كان من خَلَف فهو منه، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لمَّا دار على الألسن أن السلطان يرزُق الجند، وفلان يرزق عياله، أي: يعطيهم، أخبر أنه خير المعطين. [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 45] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني المشركين وقال مقاتل: يعني الملائكة ومَنْ عَبَدها ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ وهذا استفهام تقرير وتوبيخ للعابدين فنزَّهت الملائكةُ ربَّها عن الشِّرك ف قالُوا سُبْحانَكَ أي: تنزيهاً لك مما أضافوه إِليك من الشركاء أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي: نحن نتبرَّأُ إِليك منهم، ما تولّيناهم ولا اتَّخذناهم عابدين، ولسنا نريد وليّاً غيرك بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي: يُطيعون الشياطين في عبادتهم إِيَّانا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ أي: بالشياطين مُؤْمِنُونَ أي: مصدِّقون لهم فيما يُخبرونهم من الكذب أن الملائكةَ بناتُ الله، فيقول الله تعالى: فَالْيَوْمَ يعني في الآخرة لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ يعني العابدين والمعبودين نَفْعاً بالشفاعة وَلا ضَرًّا بالتعذيب وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا فعبدوا غير الله ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ ... الآية. ثم أخبر أنهم يكذِّبون محمداً والقرآن بالآية التي تلي هذه، وتفسيرها ظاهر. ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بيِّنة، ولم يكذِّبوا محمداً عن يقين، ولم يأتهم قبله كتاب ولا نبيّ يخبرهم بفساد أمره، فقال: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ولا بعث إِليهم نبيّاً قبل محمد وهذا محمول على الذين أنذرهم نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم وقد كان إِسماعيل نذيراً للعرب. ثم أخبر عن عاقبة المكذِّبين قبلهم مخوِّفاً لهم، فقال: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأمم الكافرة وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما بلغ كفار مكة معشار ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوَّة والمال وطول العمر، قاله الجمهور. والثاني: ما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا هؤلاء من الحُجَّة والبرهان. والثالث: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، حكاهما الماوردي. والمِعشار: العُشر. والنَّكير: اسم بمعنى الإِنكار. قال الزجاج: والمعنى: فكيف كان نكيري وإِنما حُذفت الياءُ لأنَّه آخر آية. [سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 50] قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

[سورة سبإ (34) : الآيات 51 إلى 54]

قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ أي: آمُرُكم وأُوصيكم بِواحِدَةٍ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها «لا إِله إِلا الله» ، رواه ليث عن مجاهد. والثاني: طاعة الله، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث: أنها قوله تعالى: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، قاله قتادة. والمعنى: أن التي أَعِظُكم بها، قيامُكم وتشميركم لطلب الحق، وليس بالقيام على الأقدام. والمراد بقوله تعالى: «مثنى» يجتمع اثنان فيتناظران في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والمراد ب «فُرادى» أن يتفكَّر الرجل وحده، ومعنى الكلام: لِيتفكرِ الإِنسانُ منكم وحده، ولْيَخْلُ بغيره، ولْيُناظِر، ولْيَسْتَشِر، فَيَسْتَدِلَّ بالمصنوعات على صانعها، ويُصدِّق الرسول على اتبّاعه، ولْيَقُل الرجلُ لصاحبه: هَلُمَّ فلْنَتَصادق هل رأينا بهذا الرجل جِنَّة قَطّ، أو جرَّبْنا عليه كَذِباً قَطّ. وتم الكلام عند قوله: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، وفيه اختصار تقديره: ثم تتفكَّروا لتعلموا صِحَّة ما أمرتُكم به وأنَّ الرسول ليس بمجنون، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ في الآخرة. قوله تعالى: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ على تبليغ الرسالة فَهُوَ لَكُمْ والمعنى: ما أسألكم شيئاً ومثله قول القائل: ما لي في هذا فقد وهبتُه لك، يريد: ليس لي فيه شيء. قوله تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي: يُلقي الوحي إِلى أنبيائه عَلَّامُ الْغُيُوبِ وقرأ أبو رجاء: «عَلاَّمَ» بنصب الميم. قُلْ جاءَ الْحَقُّ وهو الإِسلام والقرآن. وفي المراد بالباطل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الشيطان، لا يخلُق أحداً ولا يبعثُه، قاله قتادة. والثاني: أنه الأصنام، لا تُبدئ خَلْقاً ولا تُحيي، قاله الضحاك. وقال أبو سليمان: لا يبتدئ الصنم من عنده كلاماً فيُجاب ولا يرُدُّ ما جاء من الحق بحُجَّة. والثالث: أنه الباطل الذي يُضادُّ الحق فالمعنى: ذهب الباطل بمجيء الحقِّ، فلم تَبْقَ منه بقيَّة يُقبِل بها أو يدبر أو يبدئ أو يعيد، ذكره جماعة من المفسرين. قوله تعالى قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي: إِثم ضلالتي على نفسي وذلك أنَّ كُفَّار مكَّة زعموا أنه قد ضَلَّ حين ترك دين آبائه وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من الحكمة والبيان. [سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا في زمان هذا الفزع قولان: أحدهما: أنه حين البعث من القبور، قاله الأكثرون. والثاني: أنه عند ظهور العذاب في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال سعيد بن جبير: هو الجيش الذي يُخسف به بالبيداء، يبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقُوا، وهذا حديث مشروح في التفسير، وأن هذا الجيش يؤمُّ البيت الحرام لتخريبه، فيخسف بهم «1» . وقال الضّحّاك وزيد بن أسلم: هذه الآية فيمن قُتل يوم بدر من المشركين. قوله تعالى: فَلا فَوْتَ المعنى: فلا فَوْتَ لهم، أي: لا يُمكنهم أن يفوتونا وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:

_ (1) هذا من بدع التأويل، ولا يصح، والصواب أن ذلك يوم يحشرون إلى جهنم.

من مكانهم يوم بدر، قاله زيد بن أسلم. والثاني: من تحت أقدامهم بالخسف، قاله مقاتل. والثالث: من القبور، قاله ابن قتيبة. وأين كانوا فهُم من الله قريب. قوله تعالى: وَقالُوا أي: حين عاينوا العذاب آمَنَّا بِهِ في هاء الكناية أربعة أقوال: أحدها: أنها تعود إلى الله عزّ وجلّ، قاله مجاهد. والثاني: إِلى البعث، قاله الحسن. والثالث: إِلى الرسول، قاله قتادة. والرابع: إِلى القرآن، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «التَّنَاوُشُ» غير مهموز. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم: بالهمز. قال الفراء: من همز جعله من «نأشْتُ» ، ومن لم يهمز، جعله من «نُشْتُ» ، وهما متقاربان والمعنى: تناولتُ الشيء، بمنزلة: ذِمْتُ الشيءَ وذأمْتُه: إِذا عِبْتَه وقد تناوش القومُ في القتال: إِذا تناول بعضُهم بعضاً بالرِّماح، ولم يتدانَوا كُلَّ التداني، وقد يجوز همز «التَّنَاؤش» وهي من «نُشْتُ» لانضمام الواو، مثل قوله تعالى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ «1» . وقال الزجّاج: من همز «التَّنَاؤش» فلأنّ واو التّناوش مضمومة، وكلّ واو مضمومة ضمَّتُها لازمة، إِن شئتَ أبدلت منها همزة، وإِن شئتَ لم تبدل نحو: أدؤر. وقال ابن قتيبة: معنى الآية: وأنَّى لهم التَّناوُشُ لِمَا أرادوا بلوغَه، وإِدراكُ ما طلبوا من التَّوبة مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وهو الموضع الذي تُقْبَل فيه التوبةُ. وكذلك قال المفسرون: أنَّى لهم بتناول الإِيمان والتوبة وقد تركوا ذلك في الدنيا والدنيا قد ذهبت؟! قوله تعالى: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ في هاء الكناية أربعة أقوال قد تقدّمت في قوله تعالى: آمَنَّا بِهِ، ومعنى مِنْ قَبْلُ أي: في الدنيا من قبل معاينة أهوال الآخرة وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أ: يَرْمُون بالظّنِّ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وهو بُعدهم عن العلم بما يقولون. وفي المراد بمقالتهم هذه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يظُنُّون أنهم يُرَدُّون إِلى الدنيا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه قولهم في الدنيا: لا بعث لنا ولا جنة ولا نار، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: أنه قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هو ساحر، هو كاهن، هو شاعر، قاله مجاهد. قوله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ أي: مُنع هؤلاء الكفار مما يشتهون، وفيه ستة أقوال: أحدها: انه الرجوع إِلى الدنيا، قاله ابن عباس. والثاني: الأهل والمال والولد، قاله مجاهد. والثالث: الإِيمان، قاله الحسن. والرابع: طاعة الله، قاله قتادة. والخامس: التوبة. قاله السدي. والسادس: حيل بين الجيش الذي خرج لتخريب الكعبة وبين ذلك بأن خُسف بهم، قاله مقاتل «2» . قوله تعالى: كَما فُعِلَ وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وأبو عمران: «كما فَعَل» بفتح الفاء والعين بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ قال الزجّاج: أي: بمن كان مذهبُه مذهبَهم. قال المفسرون: والمعنى: كما فُعل بنُظَرائهم من الكفار، مِنْ قَبْل هؤلاء، فانهم حِيل بينهم وبين ما يشتهون. وقال الضحاك: هم أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ من البعث ونزول العذاب بهم مُرِيبٍ أي: مُوقِعٍ لِلرِّيبة والتُّهمة. والله أعلم بالصّواب.

_ (1) المرسلات: 11. (2) لا يصح كما تقدّم.

سورة فاطر

سورة فاطر وتسمّى سورة الملائكة، وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: خالِقُهما مبتدئاً على غير مِثال. قال ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر السّموات والأرض حتى اختصم أعرابيَّان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتُها، أي: ابتدأتُها. قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ وروى الحلبي والقزَّاز عن عبد الوارث: «جاعِلٌ» بالرفع والتنوين «الملائكةَ» بالنصب رُسُلًا يرسلهم إِلى الأنبياء وإِلى ما شاء من الأمور أُولِي أَجْنِحَةٍ أي: أصحاب أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فبعضُهم له جناحان، وبعضُهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ويَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه زاد في خَلْق الملائكة الأجنحة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: يَزيد في الأجنحة ما يشاء، رواه عبّاد بن منصور عن الحسن، وبه قال مقاتل. والثالث: أنه الخلق الحسن، رواه عوف عن الحسن. والرابع: أنه حُسن الصوت، قاله الزهري: وابن جريج. والخامس: المَلاحة في العينين، قاله قتادة. قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أي: من خير ورزق. وقيل: أراد بها المطر فَلا مُمْسِكَ لَها وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «فلا مُمْسِكَ له» . وفي الآية تنبيه على أنه لا إِله إِلا هو، إِذ لا يستطيع أحدٌ إِمساك ما فتَحَ وفَتْح ما أمسك. [سورة فاطر (35) : الآيات 3 الى 7] يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

[سورة فاطر (35) : الآيات 8 إلى 9]

قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال المفسرون: الخطاب لأهل مكة، و «اذكُروا» بمعنى احفظوا، ونعمة الله عليهم: إِسكانهم الحَرَم ومنع الغارات عنهم. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وقرأ حمزة والكسائي: «غيرِ الله» بخفض الراء، قال أبو علي: جعلاه صفة على اللفظ، وذلك حَسَنٌ لإِتباع الجرِّ. وهذا استفهام تقرير وتوبيخ والمعنى: لا خالق سواه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر وَمن الْأَرْضِ النبات. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ أي: إِنه يريد هلاككم فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي: أنزِلوه من أنفُسكم منزلة الأعداء، وتجنّبوا طاعته إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي: شيعته إِلى الكفر لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ. [سورة فاطر (35) : الآيات 8 الى 9] أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) قوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: (1187) أحدها: أنها نزلت في أبي جهل ومشركي مكة، قاله ابن عباس. والثاني: في أصحاب الأهواء والمِلل التي خالفت الهُدى، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله أبو قلابة. فان قيل: أين جواب «أفَمَنْ زُيِّن له» ؟. فالجواب من وجهين: ذكرهما الزجاج. أحدهما: أن الجواب محذوف والمعنى: أفَمَنْ زُيِّن له سُوء عمله كمن هداه الله؟ ويدُلُّ على هذا قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. والثاني: أن المعنى: أفَمَنْ زُيِّن له سوء عمله فأضلَّه اللهُ ذهبتْ نفسُك عليهم حسرات؟! ويدلّ على هذا قوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ. وقرأ أبو جعفر: «فلا تُذْهِبْ» بضم التاء وكسر الهاء «نَفْسَكَ» بنصب السين. وقال ابن عباس: لا تغتمَّ ولا تُهْلِكْ نَفْسَكَ حَسْرة على تركهم الإِيمان. قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً أي: تُزعجه من مكانه وقال أبو عبيدة: تجمعُه وتجيء به، و «سُقْناه» بمعنى «نسوقه» والعرب قد تضع «فَعَلْنَا» في موضع «نَفْعَلُ» وأنشدوا: إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً ... مِنَّي ومَا سَمعوا مِنْ صَالحٍ دَفَنُوا «2» المعنى: يَطيروا ويَدفِنوا. قوله تعالى: كَذلِكَ النُّشُورُ وهو الحياة، وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: كما أحيا اللهُ الأرض بعد موتها يُحيي الموتى يوم البعث.

_ واه بمرة. ورد في «أسباب النزول» للسيوطي 928 برواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وهذا سند تالف، جويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس. والصحيح عموم الآية.

[سورة فاطر (35) : آية 10]

(1188) روى أبو رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله كيف يُحيي اللهُ الموتى؟ وما آيةُ ذلك في خَلْقه؟ فقال: «هل مررتَ بوادي أهلك مَحْلاً، ثم مررتَ به يهتزُّ خَضِراً؟» قلت: نعم، قال: «فكذلك يُحيي اللهُ الموتى، وتلك آيتُه في خَلْقه» . والثاني: كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يُحيي الله الموتى بالماء. قال ابن مسعود: يرسِلُ اللهُ تعالى ماءً من تحت العرش كمنِيِّ الرجال، قال: فتنبت لُحْمانهم وجُسْمانهم من ذلك الماء، كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ هذه الآية. وقد ذكرنا في الأعراف «1» نحو هذا الشّرح. [سورة فاطر (35) : آية 10] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: من كان يريد العزَّة بعبادة الأوثان فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، قاله مجاهد. والثاني: من كان يريد العزَّة فليتعزَّز بطاعة الله، قاله قتادة. وقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: (1189) «إِنَّ ربَّكم يقول كل يوم: أنا العزيز، فمن أراد عِزَّ الدَّارَيْن فليُطِع العزيز» . والثالث: من كان يريد عِلْم العزَّة لِمن هي، فانها لله جميعاً، قاله الفراء. قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي، والنخعي، والجحدري، والشيزري عن الكسائي: «يُصْعَدُ الكلامُ الطَّيِّبُ» وهو توحيده وذِكْره وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قال علي بن المديني: الكِلَم الطَّيِّب: لا إِله إِلا الله، والعمل الصالح: أداء الفرائض واجتناب المحارم. وفي هاء الكناية في قوله تعالى: يَرْفَعُهُ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الكَلِم الطَّيِّب فالمعنى: والعمل الصالح يرفع الكَلِم الطَّيِّب، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك. وكان الحسن يقول: يُعْرَض القولُ على الفعل، فان وافق القولَ الفعلُ قُبِل، وإِن خالف رُدَّ. والثاني: أنها ترجع إِلى العمل الصالح، فالمعنى: والعمل الصالح يرفعُه الكَلِم الطَّيِّب، فهو عكس القول الأول، وبه قال أبو صالح، وشهر بن حوشب. فاذا قلنا: إِن الكَلِم الطَّيِّب هو التوحيد، كانت فائدة هذا القول أنه لا يُقْبَلُ عملٌ صالح إلّا من موحّد.

_ ضعيف. أخرجه أحمد 4/ 11 والطيالسي 1089 من حديث أبي رزين، وفيه وكيع بن عدس، قال الذهبي في «الميزان» لا يعرف، تفرد عنه يعلى بن عطاء اه فالإسناد ضعيف، وكيع مجهول العين. باطل. أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 119 من حديث أنس، وأعله بداود بن عفان، وقال: قال ابن حبان: كان يضع الحديث على أنس. وكرره 1/ 120 من وجه آخر، وأعله بسعيد بن هبيرة، ونقل عن ابن عدي وابن حبان أنه كان يضع الحديث.

[سورة فاطر (35) : الآيات 11 إلى 14]

والثالث: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، فالمعنى: والعمل الصالح يرفعُه اللهُ إِليه، أي: يَقْبَلُه. قاله قتادة. قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ قال أبو عبيدة: يمكرون: بمعنى يكتسِبون ويجترحِون. ثم في المشار إِليهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلّم في دار الندوة، قاله أبو العالية. والثاني: أنهم أصحاب الرِّياءَ، قاله مجاهد، وشهر بن حوشب. والثالث: أنهم الذين يعملون السَّيِّئات، قاله قتادة، وابن السائب. والرابع: أنهم قائلو الشِّرك، قاله مقاتل. وفي معنى يَبُورُ قولان: أحدهما: يَبْطُلُ، قاله ابن قتيبة. والثاني: يَفْسُدُ، قاله الزّجّاج. [سورة فاطر (35) : الآيات 11 الى 14] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني نسله ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي: أصنافاً، ذكوراً وإِناثاً قال قتادة: زوَّج بعضهم ببعض. قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي: ما يطُول عمر أحد وَلا يُنْقَصُ وقرأ الحسن، ويعقوب: «يَنْقُصُ» بفتح الياء وضم القاف مِنْ عُمُرِهِ في هذه الهاء قولان: أحدهما: أنها كناية عن آخر، فالمعنى: ولا يُنْقَص من عمر آخر وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في آخرين. قال الفراء: وإِنما كني عنه كأنه الأول، لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول، كأنه قال: ولا يُنْقَصُ من عمر مُعَمَّر، ومثله في الكلام: عندي درهم ونصفه والمعنى: ونصف آخر. والثاني: أنها ترجع إِلى المُعَمَّر المذكور فالمعنى: ما يذهب من عمر هذا المُعَمَّر يومٌ أو ليلة إِلاَّ وذلك مكتوب قال سعيد بن جبير: مكتوب في أول الكتاب: عمره كذا وكذا سنة، ثم يُكتب أسفل من ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، ذهبت ثلاثة، إِلى أن ينقطع عُمُره وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة وأبو مالك في آخرين. فأما الكتاب، فهو اللوح المحفوظ. وفي قوله تعالى إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قولان: أحدهما: أنه يرجع إِلى كتابة الآجال. والثاني: إِلى زيادة العُمُر ونقصانه. قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ يعني العذب والمِلْح وهذه الآية وما بعدها قد سبق بيانه «1» إِلى قوله: ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ قال ابن عباس: هو القِشْر الذي يكون على ظهر النَّواة. قوله تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد وَلَوْ سَمِعُوا بأن يخلق الله لهم أسماعاً مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ

_ (1) آل عمران: 27، الرعد: 2، الفرقان: 53، النحل: 14.

[سورة فاطر (35) : الآيات 15 إلى 26]

أي: لم يكن عندهم إِجابة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي: يتبرَّؤون من عبادتكم وَلا يُنَبِّئُكَ يا محمد مِثْلُ خَبِيرٍ أي: عالِم بالأشياء، يعني نفسه عزّ وجلّ والمعنى أنه لا أخبر منه عزّ وجلّ بما أخبر أنّه سيكون. [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ أي: المحتاجون إِليه وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن عبادتكم الْحَمِيدُ عند خلقه باحسانه إِليهم. وما بعد هذا قد تقدّم بيانه «1» إلى قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي: نَفْس مُثْقَلة بالذُّنوب إِلى حِمْلِها الذي حملتْ من الخطايا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ الذي تدعوه ذا قُرْبى ذا قرابة إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي: يخشونه ولم يَرَوه والمعنى: إِنما تَنفع بانذارك أهل الخشية، فكأنك تُنذرهم دون غيرهم لمكان اختصاصهم بالانتفاع، وَمَنْ تَزَكَّى أي: تطهَّر من الشِّرك والفواحش، وفعلَ الخير فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي: فصلاحُه لنَفْسه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيجزي بالأعمال. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني المؤمن والمشرك، وَلَا الظُّلُماتُ يعني الشِّرك والضَّلالات وَلَا النُّورُ الهدى والإِيمان، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ فيه قولان: أحدهما: ظِلُّ اللَّيل وسَمُوم النهار، قاله عطاء. والثاني: الظِّلُّ: الجَنَّة، والحَرُور: النَّار، قاله مجاهد. قال الفراء: الحَرُور بمنزلة السَّمُوم، وهي الرِّياح الحارَّة. والحَرُور تكون بالنَّهار وبالليل، والسَّمُوم لا تكون إِلا بالنَّهار. وقال أبو عبيدة: الحَرُور تكون بالنَّهار مع الشمس، وكان رؤبة يقول: الحَرور باللَّيل، والسَّمُوم بالنَّهار. قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ فيهم قولان: أحدهما: أن الأحياء: المؤمنون، والأموات: الكفار. والثاني: أن الأحياء، العقلاء: والأموات: الجُهَّال. وفي «لا» المذكورة في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها زائدة مؤكِّدة. والثاني: أنها نافية لاستواء أحد المذكورَين مع الآخر. قال قتادة: هذه أمثال ضربها اللهُ تعالى للمؤمن والكافر، يقول: كما لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي: يُفهم من يريد إِفهامه وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والجحدري: «بِمُسْمِعِ مَنْ» على الإِضافة يعني الكفار، شبههم بالموتى، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ قال بعض المفسرين: نُسخ معناها بآية السيف. قوله

_ (1) إبراهيم: 19- 71، الأنعام: 164.

[سورة فاطر (35) : الآيات 27 إلى 28]

تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي: ما من أُمَّة إِلا قد جاءها رسول. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب، وافقه في الوصل ورش. [سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) قوله تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ أي: ومِمَّا خَلَقْنا من الجبال جُدَدٌ. قال ابن قتيبة: الجُدَدُ: الخُطوط والطَّرائق تكون في الجبال، فبعضُها بِيض، وبعضُها حُمر، وبعضُها غرابيبُ سودٌ، والغَرابيب جمع غِرْبِيبٍ، وهو الشديد السواد، يقال: أسْودُ غِرْبِيبٌ، وتمام الكلام عند قوله: «كذلك» ، يقول: من الجبال مختلِفٌ ألوانه، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي: كاختلاف الثمرات. قال الفراء: وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وسودٌ غرابيب، لأنه يقال: أسودُ غِرْبيبٌ، وقلّما يقال: غربيب أسود. وقال الزجاج: المعنى: ومن الجبال غرابيبُ سود، وهي ذوات الصخر الأَسْود. وقال ابن دريد: الغِرْبيب: الأَسْود، أحسِبُ أن اشتقاقه من الغُراب. وللمفسرين في المراد بالغرابيب ثلاثة أقوال: أحدها: الطرائق السُّود، قاله ابن عباس. والثاني: الأودية السود، قاله قتادة. والثالث: الجبال السود، قاله السدي. ثم ابتدأ فقال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ يعني العلماء بالله عزَّ وجل. قال ابن عباس: يريد: إِنَّما يخافُني مِنْ خَلْقي مَنْ عَلِم جبروتي وعِزَّتي وسلطاني. وقال مجاهد والشعبي: العالِم من خاف اللهَ. وقال الربيع بن أنس: من لم يَخْش اللهَ فليس بعالِم. [سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 31] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يعني قُرَّاء القرآن، فأثنى عليهم بقراءة القرآن وكان مطرّف يقول: هذه آية القُرَّاء. وفي قوله تعالى يَتْلُونَ قولان: أحدهما: يقرءون. والثاني: يَتبَّعون. قال أبو عبيدة: وَأَقامُوا الصَّلاةَ بمعنى ويُقيمون وهو إِدامتها لمواقيتها وحدودها. قوله تعالى: يَرْجُونَ تِجارَةً قال الفراء: هذا جواب قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ. قال المفسرون: والمعنى: يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسُد ولن تَهْلِك ولن تَكْسُد لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أي: جزاء أعمالهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس: سوى الثّواب ما لم تر عين ولم تسمع أُذن. فأما الشَّكور، فقال الخطّابي: هو الذي يشكُر اليسيرَ من الطاعة، فيُثيب عليه الكثير من الثواب، ويُعطي الجزيل من النِّعمة، ويرضي باليسير من الشُّكر ومعنى الشُّكر المضاف إِليه: الرِّضى بيسير الطَّاعة من العبد، والقبول له، وإِعظام الثواب عليه وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله بالشّكور ترغيب

_ (1) آل عمران: 184.

[سورة فاطر (35) : الآيات 32 إلى 33]

الخَلْق في الطاعة قلَّت أو كَثُرت، لئلاَّ يَسْتَقِلُّوا القليل من العمل، ولا يتركوا اليسير منه. [سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 33] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ في «ثُمَّ» وجهان: أحدهما: أنها بمعنى الواو. والثاني: أنها للترتيب. والمعنى: أنزلنا الكتب المتقدِّمة، ثُمَّ أَوْرَثْنا الكتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن. وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه اسم جنس، والمراد به الكتب التي أنزلها الله عزّ وجلّ، وهذا يخرَّج على القولين. فان قلنا: الذين اصطُفوا أُمَّة محمد، فقد قال ابن عباس: إنّ الله أورث أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم كلَّ كتاب أنزله. وقال ابن جرير الطبري: ومعنى ذلك: أورثهم الإِيمانَ بالكتب كلِّها- وجميع الكتب تأمر باتِّباع القرآن- فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها واستدل على صحة هذا القول بأن الله تعالى قال في الآية التي قبل هذه: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ وأتبعه بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ فعلمنا أنهم أُمَّةٌ محمد، إِذ كان معنى الميراث: انتقال شيء من قوم إِلى قوم، ولم تكن أُمَّةٌ على عهد نبيّنا صلى الله عليه وسلّم انتقل إِليهم كتابٌ من قوم كانوا قبلهم غير أُمَّته. فان قلنا: هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى: أَورثْنا كلَّ كتاب أُنزل على نبيٍّ ذلك النبيَّ وأتباعَه. والقول الثاني: أن المراد بالكتاب القرآن. وفي معنى «أَوْرَثْنا» قولان: أحدهما: أَعْطَيْنا، لأنَّ الميراث، عطاء، قاله مجاهد. والثاني: أخَّرْنا، ومنه الميراث، لأنه تأخّر عن الميت فالمعنى: أخَّرْنا القرآنَ عن الأُمم السالفة وأعطيناه هذه الأُمَّة، إِكراماً لها، ذكره بعض أهل المعاني. قوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه صاحب الصغائر (1190) روى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «سابقُنا سابق، ومقتصدُنا ناجٍ، وظالمُنا مغفورٌ له» . (1191) وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية، قال: «كلُّهم في الجنة» .

_ أخرجه العقيلي في «الضعفاء» 1491 من طريق محمد بن أيوب عن عمرو بن الحصين به، وإسناده ضعيف جدا لأجل عمرو بن حصين، فإنه متروك. وأخرجه البيهقي في «البعث» 65 من طريق حفص بن خالد عن ميمون بن سياه عن عمر به. وقال البيهقي: فيه إرسال بين ميمون، وعمر. وانظر ما بعده. حسن. أخرجه الترمذي 3225 وأحمد 3/ 78 والطبري 29012 والطيالسي 2236 والبيهقي في «البعث» 61 من حديث أبي سعيد، وإسناده ضعيف. فيه رجل من ثقيف عن رجل من كنانة، وكلاهما لم يسمّ، فالخبر واه، وضعفه الترمذي، بقوله: غريب اه لكن له شواهد. وانظر «تفسير الشوكاني» 2065. - وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» 2577، وفيه نظر، وحسبه الحسن.

[سورة فاطر (35) : الآيات 34 إلى 39]

والثاني: أنه الذي مات على كبيرة ولم يَتُب منها، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أنه الكافر، رواه عمرو بن دينار عن ابن عباس. (1192) وقد رواه ابن عمر مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم. فعلى هذا يكون الاصطفاء لجملة من أُنزل عليه الكتاب، كما قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» أي: لَشَرف لكم، وكم من مُكْرَم لم يَقبل الكرامة! والرابع: أنه المنافق، حكي عن الحسن. وقد روي عن الحسن أنه قال: الظالم: الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد: الذي قد استوت حسناته وسيِّئاته، والسابق: من رَجَحت حسناتُه. وروي عن عثمان بن عفان أنه تلا هذه الآية، فقال: سابقُنا أهل جهادنا، ومقتصدِنا أهل حَضَرنا، وظالمُنا أهل بدونا. قوله تعالى: وَمِنْهُمْ سابِقٌ وقرأ أبو المتوكل والجحدري وابن السميفع: «سَبَّاقٌ» مثل: فَعَّال بِالْخَيْراتِ أي: بالأعمال الصالحة إِلى الجنة، أو إِلى الرَّحمة بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بارادته وأمره ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعني إِيراثهم الكتاب. ثم أخبر بثوابهم، فجمعهم في دخول الجنة فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها قرأ أبو عمرو وحده: «يُدْخَلُونَها» بضم الياء وفتحها الباقون، وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: وَلُؤْلُؤاً بالنصب. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان يهمز الواو الثانية ولا يهمز الأولى وفي رواية أخرى أنه كان يهمز الأولى ولا يهمز الثانية. والآية مفسرة في سورة الحج «2» . قال كعب: تحاكت مناكبُهم وربِّ الكعبة، ثم أُعطوا الفضل بأعمالهم. [سورة فاطر (35) : الآيات 34 الى 39] وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) ثم أخبر عمَّا يقولون عند دخولها، وهو قوله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ الحَزَن والحُزْن واحد، كالبَخَل والبُخْل. وفي المراد بهذا الحزن خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه الحزن

_ باطل، أخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 5/ 474 عن عمر مرفوعا، وتفرد ابن مردويه به دليل وهنه، ويخالفه ما تقدم من أحاديث، فهو متن باطل.

لطول المقام في المحشر. (1193) روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أمَّا السابق، فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصِد، فيحاسَب حساباً يسيراً، وأما الظَّالم لنفسه، فانه حزين في ذلك المقام» ، فهو الحزن والغم، وذلك قوله تعالى: «الحمد لله الذي أذهب عنّا الحَزَن» . (1194) والثاني: أنه الجوع، رواه أبو الدرداء أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا يصح، وبه قال شمر بن عطية. وفي لفظ عن شمر أنه قال: الحزن: هَمُّ الخُبز، وكذلك روي عن سعيد بن جبير أنه قال: الحزن: هَمُّ الخُبز في الدنيا. والثالث: أنه حزن النار، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والرابع: حزنهم في الدنيا على ذُنوب سلفت منهم، رواه عكرمة عن ابن عباس. والخامس: حزن الموت، قاله عطية. والآية عامَّة في هذه الأقوال وغيرها، ومن القبيح تخصيص هذا الحزن بالخبز وما يشبهه، وإِنما حزنوا على ذُنوبهم وما يوجبه الخوف. قوله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنا أي: أنزلنا دارَ الْمُقامَةِ قال الفراء: المُقامة هي الإِقامة، والمَقامة: المجلس، بالفتح لا غير، قال الشاعر: يَوْمَانِ يَوْمُ مَقامَاتٍ وأنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلى الأعْدَاءِ تأْوِيبِ «1» قوله تعالى: مِنْ فَضْلِهِ قال الزجاج: أي: بتفضُّله، لا بأعمالنا. والنَّصَبُ: التَّعَب. واللُّغوب: الإِعياء من التَّعب. ومعنى لُغُوبٌ: شيء يُلْغِب أي: لا نتكلّف شيئاً نُعَنّى منه. قوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي: لا يهلكون فيستريحوا ممَّا هُمْ فيه، ومثله: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ «2» . قوله تعالى: كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وقرأ أبو عمرو: «يجزى» بالياء «كلّ»

_ حديث حسن أو شبه حسن بطرقه وشواهده دون لفظ «فإنه حزين ... » فهذا ضعيف، ليس له شواهد. أخرجه أحمد 5/ 194 و 6/ 444 من طريق وكيع عن سفيان به. وأخرجه الحاكم 2/ 426 ومن طريقه البيهقي في «البعث» 62 من طريق جرير عن الأعمش به. وأخرجه أحمد 5/ 198 من طريق أنس بن عياض الليثي عن موسى بن عقبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء به. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 95- (12290) : رواه الطبراني، وأحمد باختصار إلا أنه قال عن ثابت أو أبي ثابت ... وثابت بن عبيد ومن قبله من رجال الصحيح، وفي إسناد الطبراني رجل غير مسمى. وقد فصّل الحاكم في اختلاف طرق هذا الحديث، وقال: إذا كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث أصلا. وللحديث شواهد منها الضعيف، وانظر «فتح القدير» 2066 و 2067. لم أره مسندا، وأمارة الوضع لائحة عليه، فإنه من بدع التأويل، واكتفى المصنف رحمه الله بقوله: لا يصح. وورد من كلام شمر بن عطية أحد علماء التفسير، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 4/ 476. - والصحيح عموم الآية في كل ما يحزن الإنسان من مصائب وهموم ونصب، وهو الذي اختاره المصنف.

[سورة فاطر (35) : الآيات 40 إلى 41]

برفع اللام. وقرأ الباقون: «نَجزي» بالنون «كُلَّ» بنصب اللام. قوله تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها وهو افتعال من الصُّراخ: والمعنى: يستغيثون، فيقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً أي: نوحِّدك ونُطيعك غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من الشِّرك والمعاصي فوبَّخهم الله تعالى بقوله: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ قال أبو عبيدة: معناه التقرير، وليس باستفهام والمعنى: أو لم نعمِّركم عُمُراً يتذكرَّ فيه من تَذَكَّر؟! وفي مقدار هذا التعمير أربعة أقوال: أحدها: أنه سبعون سنة، قال ابن عمر: هذه الآية تعيير لأبناء السبعين. والثاني: أربعون سنة. والثالث: ستون سنة، رواهما مجاهد عن ابن عباس، وبالأول منهما قال الحسن، وابن السائب. والرابع: ثماني عشرة سنة، قاله عطاء، ووهب بن منبّه، وأبو العالية، وقتادة. قوله تعالى: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الشيب، قاله ابن عمر وعكرمة وسفيان بن عيينة والمعنى: أو لم نعمركم حتى شبتم؟! والثاني: النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة وابن زيد وابن السائب ومقاتل. والثالث: موت الأهل والأقارب. والرابع: الحمّى، ذكرهما الماوردي. قوله تعالى: فَذُوقُوا يعني العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي: من مانع يَمنع عنهم. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «1» إلى قوله تعالى: خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ وهي الأُمَّة التي خَلَفَتْ مَنْ قَبْلها ورأت فيمن تقدَّمها ما ينبغي أن تَعتبر به فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي: جزاء كفره. [سورة فاطر (35) : الآيات 40 الى 41] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) قوله تعالى: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ المعنى: أَخبِروني عن الذين عبدتم من دون الله واتخذتموهم شركاء بزعمكم، بأيّ شيءٍ أوجبتم لهم الشركة في العبادة؟! أبشيءٍ خلقوه من الارض، أم شارَكوا خالق السموات في خَلْقها؟! ثم عاد إِلى الكفار فقال: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً يأمرهم بما يفعلون فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وحفص عن عاصم: «على بيِّنةٍ» على التوحيد. وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «بيِّناتٍ» جمعاً. والمراد: البيان بأنَّ مع الله شريكاً بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ يعني المشركين يَعِدُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً أنَّ الأصنام تَشفع لهم، وأنّه لا حساب عليهم ولا عقاب. وقال مقاتل: ما يَعِدُ الشيطانُ الكفَّار من شفاعة الآلهة إِلاَّ باطلاً. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي: يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع. قال الفراء وَلَئِنْ بمعنى «ولو» ، و «إِن» بمعنى «ما» ، فالتقدير: ولو زالتا ما أمسكهما من أحد. وقال الزجاج: لمَّا قالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، كادت السمواتُ يتفطَّرْن والجبالُ أن تَزُول والأرضُ أن تنشقَّ، فأمسكها الله عزّ وجلّ وإِنَّما وحَّد «الأرض» مع جمع «السموات» ، لأن الأرض تدل على الأَرَضِين. وَلَئِنْ زالَتا تحتمل وجهين: أحدهما: زوالهما يوم القيامة. والثاني: أن يقال

_ (1) المائدة: 7.

[سورة فاطر (35) : الآيات 42 إلى 43]

تقديرًا: وإِن لم تزولا، وهذا مكان يَدُلُّ على القدرة، غير أنه ذكر الحِلْم فيه، لأنه لمَّا أمسكهما عند قولهم: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً «1» ، حلم فلم يعجّل لهم العقوبة. [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني كفار مكة حلفوا بالله قبل إِرسال محمد صلى الله عليه وسلّم لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ أي: رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى أي: أَصْوَبَ دِيناً مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ يعني: اليهود والنّصارى والصّابئين فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وهو محمّد صلى الله عليه وسلّم ما زادَهُمْ مجيئُه إِلَّا نُفُوراً أي: تباعُداً عن الهُدى، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي: عتوّاً على الله وتكبُّراً عن الإِيمان به. قال الاخفش: نصب «استكباراً» على البدل من النفور. قال الفراء: المعنى: فعلوا ذلك استكباراً وَمَكْرَ السَّيِّئِ، فأضيف المكر إلى السّيئ، كقوله: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ «2» ، وتصديقه في قراءة عبد الله: «ومَكْراً سَيِّئاً» ، والهمزة في «السّيئ» مخفوضة، وقد جزمها الأعمش وحمزة، لكثرة الحركات قال الزجّاج: وهذا عند النحويِّين الحُذَّاق لَحْن، إِنّما يجوز في الشِّعر اضطراراً. وقال أبو جعفر النحاس: كان الأعمش يقف على «مَكْرَ السَّيّ» فيترك الحركة، وهو وقف حَسَنٌ تامّ، فغَلِط الراوي فروى أنه كان يَحْذِفُ الإِعراب في الوصل، فتابع حمزة الغلط، فقرأ في الإِدراج بترك الحركة. وللمفسرين في المراد ب «مكر السيّئ» قولان: أحدهما: أنه الشِّرك. قال ابن عباس: عاقبة الشِّرك لا تَحُلُّ إِلا بمن أشرك. والثاني: أنه المكر برسول الله صلى الله عليه وسلّم، حكاه الماوردي. قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي: ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي: إِلاَّ أن يَنْزِل العذاب بهم كما نَزَل بالأمم المكذِّبة قبلهم فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ في العذاب تَبْدِيلًا وإِن تأخَّر وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي: لا يَقْدِر أحدٌ أن يحوّل العذاب عنهم إلى غيرهم. [سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا هذا عامٌّ، وبعضهم يقول: أراد بالناس المشركين. والمعنى: لو واخذهم بأفعالهم لعجَّل لهم العقوبة. وقد شرحنا هذه الآية في «النحل» «3» . وما أخللنا به فقد سبق بيانه «4» . قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً قال ابن جرير: بصيرا بمن يستحقّ العقوبة ومن يستوجب الكرامة.

_ (1) مريم: 88. (2) الحاقة: 51. (3) النحل: 61. (4) يوسف: 109، الروم: 9، الأعراف: 34، النحل: 61.

سورة يس

سورة يس وفيها قولان «1» : أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إنها مكّيّة إلّا آية منها، وهي قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا «2» . والثاني: أنها مدنيّة، حكاه أبو سليمان الدّمشقي، وقال: ليس بالمشهور. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) وفي قوله تعالى: يس خمسة أقوال: (1195) أحدها: أن معناها: يا إنسان، بالحبشية، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومقاتل. والثاني: أنها قَسَم أقسم اللهُ به، وهو من أسمائه، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أن معناها: يا محمد، قاله ابن الحنفية، والضحاك. والرابع: أن معناها: يا رجُل، قاله الحسن. والخامس: اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء: «يسن» بفتح الياء وكسر النون. وقرأ أبو المتوكل وأبو رجاء وابن أبي عبلة بفتح الياء والنون جميعاً. وقرأ أبو حصين الأسدي بكسر الياء وإظهار النون. قال الزجاج: والذي عند أهل العربية أن هذا بمنزلة افتتاح السُّوَر، وبعض العرب يقول: «يسنَ والقرآن» بفتح النون، وهذا جائز في العربية لوجهين: أحدهما: أن «يس» اسم للسورة، فكأنه قال: اتْلُ يس، وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف. والثاني: أنهُ فتح لالتقاء الساكنين، والتسكين أجود لأنه حرف هجاء. قوله تعالى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ هذا قسم، وقد سبق معنى

_ أخرجه الطبري 29048 بسند رجاله ثقات عن عكرمة عن ابن عباس، والله أعلم.

[سورة يس (36) : الآيات 7 إلى 12]

«الحكيم» «1» ، قال الزجّاج: وجوابه: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وأحسنُ ما جاء في العربيّة أن يكون «لَمِنَ المرسلين» خبر «إنّ» ، ويكون قوله تعالى: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبراً ثانياً، فيكون المعنى: إِنَكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ، إِنَّكَ على صِراطٍ مستقيم. ويجوز أن يكون «على صِراطٍ» من صلة «المُرْسَلِين» ، فيكون المعنى: إِنَكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ الذين أُرسِلوا على طريقة مستقيمة. قوله تعالى: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «تنزيلُ» برفع اللام. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تنزيلَ» بنصب اللام. وعن عاصم كالقراءتين. قال الزجاج: من قرأ بالنصب، فعلى المصدر، على معنى: نزَّل اللهُ ذلك تنزيلاَ، ومن قرأ بالرفع، فعلى معنى: الذي أُنزلَ إليكَ تنزيلُ العزيز. وقال الفراء: من نصب، أراد: إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ تنزيلاً حَقاَ مُنزَلاً ويكون الرفع على الاستئناف، كقوله: «ذلك تنزيل العزيز» . وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رزين، وأبو العالية، والحسن، والجحدري: «تنزيلِ» بكسر اللام. وقال مقاتل: هذا القرآن تنزيل العزيز في ملكه، الرحيمِ بخَلْقه. قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ في «ما» قولان: أحدهما: أنها نفي، وهو قول قتادة والزجاج في الأكثرين. والثاني: أنها بمعنى «كما» ، قاله مقاتل. وقيل: هي بمعنى «الذي» . قوله تعالى: فَهُمْ غافِلُونَ أي: عن حجج التوحيد وأدلّة البعث. [سورة يس (36) : الآيات 7 الى 12] لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ فيه قولان: أحدهما: وجب العذاب. والثاني: سبق القول بكفرهم. قوله تعالى: عَلى أَكْثَرِهِمْ يعني أهل مكة، وهذه إِشارة إِلى إِرادة الله تعالى السابقة لكفرهم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لِمَا سبق من القَدَر بذلك. إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها مَثَلٌ، وليس هناك غُلٌّ على حقيقة، قاله أكثر المحقِّقين، ثم لهم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها مَثَل لمنعهم عن كل خير، قاله قتادة. والثاني: لحبسهم عن الإِنفاق في سبيل الله بموانع كالأَغلال، قاله الفراء، وابن قتيبة. والثالث: لمنعهم من الإِيمان بالله، قاله أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أنها موانع حسّيّة منعت ما يمنع الغلّ.

_ (1) البقرة: 32. (2) قال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 692: يقول الله تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غلّ، فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مقمحا، ولهذا قال: فَهُمْ مُقْمَحُونَ، والمقمح هو الرافع رأسه، كما قالت أم زرع في كلامها: «وأشرب فأتقمح» ، أي: أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئا وترويا. واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين، لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق، اكتفى بذكر العنق عن اليدين.

(1196) قال مقاتل بن سليمان: حلف أبو جهل لئن رأى النبيّ صلى الله عليه وسلّم يصليِّ لَيَدْمَغَنَّهُ، فجاءه وهو يصليِّ، فرفع حجراً فيَبِسَتْ يدُه والتصق الحجر بيده، فرجَع إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، فقام رجل منهم فأخذ الحجر، فلمّا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم طَمَسَ اللهُ على بصره فلم يره، فرجَع إلى أصحابه فلم يُبْصِرهم حتى نادَوْه، فنزل في أبي جهل: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا الآية. ونزل في الآخر: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا. والقول الثالث: أنه على حقيقته، إلاَّ أنَّه وَصْفٌ لِمَا سيُنْزِلُه اللهُ تعالى بهم في النار، حكاه الماوردي. قوله تعالى: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ قال الفراء: «فهي» كناية عن الأيمان، ولم تُذْكَر، لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في اليمين والعنق جامعاً لهما، فاكتُفيَ بذكر أحدهما عن صاحبه. وقال الزجّاج: «هي» كناية عن الأيدي، ولم يذكرها إيجازاً، لأن الغُلَّ يتضمن اليد والعنق، وأنشد: وَمَا أدْرِي إِذَا يمَّمْتُ أَرْضاً ... أُرِيْدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِيني وإنما قال: أَيُّهما، لأنه قد علم أن الخير والشرَّ معرَّضان للإنسان. قال الفراء: والذَّقْن: أسفل اللَّحْيَيْن، والمُقْمَحُ: الغاضّ بصره بعد رفع رأسه. قال أبو عبيده: كل رافعٍ رأسَه فهو مُقَامِح وقَامِح، والجمع: قِماح، فإن فُعل ذلك بإنسان فهو مُقْمَح، ومنه هذه الآية. وقال ابن قتيبة: يقال: بعيرٌ قامِحٌ، وإبلٌ قِماحٌ: إذا رَوِيَتْ من الماء فقَمَحَتْ، قال الشاعر- وذكر سفينة-: ونحنُ على جَوانِبِها قُعُودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِمَاحِ «1» وقال الأزهري: المُراد أنَّ أيديهم لمّا غُلَّت عند أعناقهم، رَفَعَتْ الأغلالُ أذقانَهم ورؤوسَهم، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إيَّاها. قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بفتح السين، والباقون: بضمها، وقد تكلّمنا على الفرق بينهما في سورة الكهف «2» . وفي معنى الآية قولان: أحدهما: منعناهم عن الإِيمان بموانع، فهم لا يستطيعون الخروج عن الكفر. والثاني: حجبناهم عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالظّلمة لمّا قصدوه بالأذى.

_ عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهو ممن يضع الحديث. وأخرجه أبو نعيم في «دلائل النبوة» 156 من طريق إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس مطوّلا بنحوه، وليس فيه ذكر رجل، ولا ذكر نزول الآية، وإسناده ضعيف فيه من لم يسمّ. وأخرج أبو نعيم 152 من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه: أن رجلا من بني مخزوم قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وفي يده مهز، ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ... » . وهذا مرسل. وليس فيه أن الآية نزلت بسبب ذلك. وأخرج الطبري 29064 عن عكرمة مرسلا «قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا لأفعلن، ولأفعلن» فأنزلت إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا.... وانظر «صحيح البخاري» 4958 حديث ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأنّ على عنقه. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «لو فعله لأخذته الملائكة» .

قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ قال ابن قتيبة: أغشينا عيونَهم وأعميناهم عن الهُدىَ. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ويحيى بن يعمر: «فأعشيناهم» بعين غير معجمة. ثم ذكر أن الإِنذارَ لا ينفعهم لإِضلاله إيَّاهم بالآية التي بعد هذه. ثم أخبر عمَّن ينفعُه الإِنذارُ بقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ أي: إنَّما يَنفع إِنذارُك مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وهو القرآن، فعمل به وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وقد شرحناه في الأنبياء «1» ، والأجر الكريم: الحسن، وهو الجنّة. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى للبعث وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا من خير وشرٍّ في دنياهم. وقرأ النخعي، والجحدري: «ويُكْتُبُ» بياء مرفوعة وفتح التاء «وآثارُهم» برفع الراء. وفي أثارهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنها خُطاهم بأرجُلهم، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة. (1197) قال أبو سعيد الخدري: شَكَت بنو سَلِمَةَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بُعْدَ منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «عليكم منازلكم، فإنّما يكتب آثارُكم» ، وقال قتادة وعمر بن عبد العزيز: لو كان اللهُ مُغْفِلاً شيئاً، لأغفل ما تعفِّي الرِّياحُ «2» من أثرَ قَدَم ابن آدم. والثاني: أنها الخُطا إلى الجمعة، قاله أنس بن مالك. والثالث: ما أثَروا من سُنَّة حسنة أو سيِّئة يُعْمَل بها بعدهم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، واختاره الفراء، وابن قتيبة، والزجاج. قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: «وكُلٌّ» برفع اللام، أي: مِنَ الأعمال أَحْصَيْناهُ أي: حَفِظْناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ وهو اللوح المحفوظ.

_ ذكر نزول الآية ضعيف، وأصل الحديث صحيح. أخرجه الترمذي 3226 والطبري 29073 وعبد الرزاق في «المصنف» 1982 من طريق سفيان الثوري عن أبي سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري ومداره على طريف بن شهاب، وهو ضعيف. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري، وأبو سفيان هو طريف السعدي. وأخرجه الحاكم 2/ 428 والواحدي في «أسباب النزول» 720 وفي «الوسيط» 3/ 510- 511 من طريق الثوري، عن سعد بن طريف عن أبي نضرة به، وفي الإسناد قلب، والصواب طريف بن شهاب كما تقدم. وقال ابن كثير في «التفسير» عند هذه الآية: فيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية والسورة بكاملها مكية، فالله أعلم. وورد من رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس عند ابن ماجة 785 والطبري 29069 و 2970 وقال البوصيري في «الزوائد» هذا موقوف، فيه سماك، وهو ابن حرب، وإن وثقه ابن معين، وأبو حاتم، فقد قال أحمد: مضطرب الحديث، وقال يعقوب بن شيبة: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وروايته عن غيره صالحة. وأشار الحافظ في «الفتح» 2/ 140 إلى هذه الرواية وقال: وإسناده قوي. وفيه نظر، والصواب أن إسناده ضعيف لضعف سماك في عكرمة، فقد روى عنه مناكير. والسورة مكية كلها كما قال الحافظ ابن كثير، والصواب حديث أنس بن مالك في «صحيح البخاري» وغيره، وحديث جابر عند مسلم، وليس فيه نزول الآية. قال أنس رضي الله عنه: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تعرى المدينة وقال: «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم؟» فأقاموا. أخرجه البخاري 655- 656- 1887 وابن ماجة 784 وأحمد 3/ 106 و 182 و 263 والبيهقي 3/ 64 والبغوي في «شرح السنة» 470 من طرق عن حميد به. وحديث جابر، أخرجه مسلم 665 وأحمد 3/ 332 و 333 و 371 و 390 وابن حبان 2042 وأبو عوانة 1/ 387 والبيهقي 3/ 64 وأبو يعلى 2157.

[سورة يس (36) : الآيات 13 إلى 19]

[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 19] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا المعنى: صف لأهل مكة مثلاً أي: شِبْهاً. وقال الزجاج: المعنى: مَثَلَ لهم مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ وهو بدل من مَثَل، كأنه قال: اذكُرْ لهم أصحابَ القرية. وقال عكرمة، وقتادة: هذه القرية هي أنطاكية «1» . إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ وفي اسميهما ثلاثة أقوال «2» : أحدها: صادق وصدوق، قاله ابن عباس، وكعب. والثاني: يوحنا وبولس، قاله وهب بن منبه. والثالث: تومان وبولس، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَعَزَّزْنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «فعَزَّزْنا» بتشديد الزاي، قال ابن قتيبة: المعنى: قوَّيْنَا وشدَّدْنَا، يقال: تعزَّز لحمُ النّاقة: إذا صَلُب. وقرأ أبو بكر، والمفضَّل عن عاصم: «فعَزَزْنا» خفيفة، قال أبو علي: أراد: فغَلَبْنا. قال مقاتل: واسم هذا الثالث شمعون، وكان من الحواريِّين، وهو وصيُّ عيسى عليه السلام. قال وهب: وأوحى اللهُ إلى شمعون يُخبره خبر الاثنين ويأمره بنُصرتهما، فانطلق يؤمُّهما. وذكرَ الفراء أن هذا الثالث كان قد أُرسل قبلَهما قال: ونراه في التنزيل كأنه بعدهما، وإنما المعنى: فعزَّزنا بالثالث الذي قبلهما، والمفسرون على أنه إنما أُرسل لنُصرتهما، ثُمَّ إِنَّ الثالث إِنما يكون بعد ثانٍ، فأمَّا إِذا سبق الاثنين فهو أوَّل وإنِّي لأتعجب من قول الفراء. واختلف المفسِّرون فيمن أَرسلَ هؤلاء الرُّسل على قولين «3» : أحدهما: أنّ الله تعالى أرسلهم،

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 3/ 695- 698: وقد استشكل بعض الأئمة كونها أنطاكية بما سيأتي في نهاية القصة وهو أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح، ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة، وهن القدس لأنها بلد المسيح، وأنطاكية لأنها أول بلد آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية قد ذكر الله تعالى أنهم كذّبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم. وإن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف: أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. (2) هذه الأقوال لا حجة فيها جميعا لأن مصدرها كتب الأقدمين، فالله أعلم بالصواب. (3) قال ابن كثير في «التفسير» 3/ 698: إن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله- عز وجل- لا من جهة المسيح، كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ... إلى أن قالوا: بُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام، والله أعلم. ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا.

[سورة يس (36) : الآيات 20 إلى 29]

وهو ظاهر القرآن، وهو مرويّ عن ابن عباس، وكعب، ووهب. والثاني: أن عيسى أَرسلهم، وجاز أن يُضاف ذلك إلى الله تعالى لأنهم رسل رسوله، قاله قتادة، وابن جريج. قوله تعالى: قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي: ما لكم علينا فضل في شيء وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ أي: لم يُنزِل كتاباً ولم يُرسِل رسولاً. وما بعده ظاهر إلى قوله: قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ وذلك أن المطر حُبس عنهم، فقالوا: إِنَّما أصابنا هذا من قِبلَكم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا أي: تسكتُوا عنا لَنَرْجُمَنَّكُمْ أي لَنَقْتُلَنَّكم. قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي: شؤمكم معكم بكفركم لا بنا أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ قرأ ابن كثير «أين ذُكِّرْتم» بهمزة واحدة بعدها ياء وافقه أبو عمرو إلاَّ أنه كان يَمُدُّ. قال الأخفش: معناه حيث ذُكِّرتم، أي وُعِظتم وخُوِّفتم، وهذا استفهام جوابه محذوف تقديره: أئن ذُكِّرتم تطيَّرتم بنا؟ وقيل: أئن ذكرتم قلتم هذا القول؟ والمسرفون ها هنا المشركون. [سورة يس (36) : الآيات 20 الى 29] وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى واسمه حبيب النجّار، وكان مجذوماً، وكان قد آمن بالرُّسل لمَّا وردوا القرية، وكان منزلهُ عند أقصى باب من أبواب القرية، فلمَّا بلغه أنَّ قومه قد كذَّبوا الرُّسل وهمُّوا بقتلهم، جاء يسعى، فقال ما قصّه الله علينا إلى قوله تعالى: وَهُمْ مُهْتَدُونَ يعني الرُّسل، فأخذوه ورفعوه إلى الملِك، فقال له الملِك: أفأنت تَتبعهم؟ فقال: وَما لِيَ أسكن هذه الياء حمزة، وخلف، ويعقوب لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي: وأيُّ شيء لي إِذا لم أعبُد خالقي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عند البعث، فيَجزِيكم بكُفركم؟! فإن قيل: لِمَ أضاف الفِطرةَ إلى نفسه والبعثَ إليهم وهو يَعلم أنّ الله فطَرهم جميعاً كما يَبعثهم جميعاً؟ فالجواب: أن إيجاد الله تعالى نِعمة يوجب الشُّكر، والبعثُ في القيامة وعيدٌ يوجب الزَّجر، فكانت إِضافةُ النِّعمة إِلى نفسه أظهرَ في الشُّكر، وإِضافةُ البعث إِلى الكافر أبلغ في الزَّجر. ثم أنكر عبادة الأصنام بقوله تعالى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. قوله تعالى: لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ يعني أنه لا شفاعة لهم فتُغْني، وَلا يُنْقِذُونِ أثبت ها هنا

[سورة يس (36) : الآيات 30 إلى 36]

الياء في الحالين يعقوب، وورش، والمعنى: لا يخلِّصوني من ذلك المكروه. إِنِّي إِذاً فتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو. قوله تعالى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فتح هذه الياء أهل الحجاز وأبو عمرو. وفيمن خاطبهم بإيمانه قولان: أحدهما: أنه خاطب قومه بذلك، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه خاطب الرُّسل. ومعنى فَاسْمَعُونِ: اشهَدوا لي بذلك، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: المعنى: فاسمَعوا منِّي. وأثبت ياء «فاسمَعوني» في الحالين يعقوب. قال ابن مسعود: لمَّا خاطب قومه بذلك، وطئوه بأرجُلهم. وقال السدي: رمَوْه بالحجارة، وهو يقول: اللهّم اهْدِ قَومي. قوله تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ لمَّا قتلوه فلقي الله عزّ وجلّ، قيل له: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فلمَّا دخلها قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي، وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها مع «غَفَرَ» في موضع مصدر والمعنى بغُفران الله لي. والثاني: أنها بمعنى «الذي» ، فالمعنى: ليتهم يَعلمون بالذي غَفَرَ لي به ربِّي فيؤمنون، فنصحهم حياً وميتاً. فلمَّا قتلوه عجَّل اللهُ لهم العذاب، فذلك قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ يعنى قوم حبيب مِنْ بَعْدِهِ أي: مِنْ بَعْدِ قتله مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ يعني الملائكة، أي: لم ينتصر منهم بجُند من السَّماء وَما كُنَّا نُنْزِلهم على الأُمم إذا أهلكناهم. وقيل: المعنى: ما بعثْنا إليهم بعده نبيّاً، ولا أنزلنا عليهم رسالة. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال المفسِّرون: أخذ جبريل عليه السلام بِعِضَادَتَي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم ميّتون لا يُسْمَع لهم حِسٌّ كالنَّار إِذا طُفئت، وهو قوله تعالى: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي: ساكنون كهيئة الرّماد الخامد. [سورة يس (36) : الآيات 30 الى 36] يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) قوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ قال الفرّاء: المعنى: يا لها حَسْرَة على العباد. وقال الزجاج: الحَسْرَةُ أن يركب الإنسان من شدّة النّدم ما لا نهاية له حتى يبقى قلبُه حَسِيراً. وفي المتحسِّر على العباد قولان: أحدهما: أنهم يتحسَّرون على أنفسهم، قال مجاهد والزجاج: استهزاؤهم بالرُّسل كان حسرةً عليهم في الآخرة. وقال أبو العالية: لمَّا عايَنوا العذاب، قالوا: يا حسرتنا على المرسَلين، كيف لنا بهمُ الآن حتى نؤمِن. والثاني: أنه تحسُّر الملائكة على العباد في تكذيبهم الرُّسل، قاله الضحاك. ثم خوَّف كُفَّاَر مكَّة فقال: أَلَمْ يَرَوْا أي: ألم يَعْلَموا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ فيعتبروا ويخافوا أن نعجِّل لهم الهلاك كما عجِّل لمن أُهلك قبلهم ولم يرجعوا إلى الدنيا؟!. قال الفراء: وأَلِف أَنَّهُمْ مفتوحة، لأن المعنى: ألم يَرَوا أنَّهم إِليهم لا يرجعون. وقد كسرها الحسن، كأنه لم يُوقِع

[سورة يس (36) : الآيات 37 إلى 40]

الرؤية على «كم» ، فلم يوقِعها على «أنّ» وإِن استأنفتَها كسرتَها. قوله تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة: «لَمَّا» بالتشديد، جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي: إِن الأُمم يُحضَرون يوم القيامة، فيجازَون بأعمالهم. قال الزجاج: من قرأ «لَمَا» بالتخفيف، ف «ما» زائدة مؤكِّدة، والمعنى: وإِنْ كُلُّ لَجميعٌ، ومعناه: وما كُلُّ إِلاَّ جميع لدينا مُحضَرون. ومن قرأ «لَمَّا» بالتشديد، فهو بمعنى «إلاَّ» ، تقول: «سألتُكَ لمّا فعلت» و «إلّا فعلتَ» . وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ وقرأ نافع: «المَيِّتَةُ» بالتشديد، وهو الأصل، والتخفيف أكثر، وكلاهما جائز و «آية» مرفوعة بالابتداء، وخبرها «لهم» ، ويجوز أن يكون خبرها «الأرضُ الميتةُ» والمعنى: وعلامةٌ تدلُّهم على التوحيد وأنَّ الله يَبْعَثُ الموتى أحياءً، الأرضُ الميتةُ. قوله تعالى: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ يعنى ما يُقتات من الحبوب. قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها وقوله تعالى وَفَجَّرْنا فِيها يعني في الأرض. قوله تعالى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ يعني النخيل، وهو في اللفظ مذكَّر. وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «عَمِلَتْهُ» بهاءٍ. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «عَمِلَتْ» بغير هاءٍ. والهاء مُثْبَتة في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة، ومحذوفة من مصاحف أهل الكوفة. قال الزّجّاج: موضع «ما» خفض والمعنى: ليأكُلوا من ثمره وممَّا عملَتْه أيديهم ويجوز أن يكون «ما» نفياً المعنى: ولم تعمله أيديهم، وهذا على قراءه من أثبت الهاء، فإذا حُذفت الهاءُ، فالاختيار أن تكون «ما» في موضع خفض، وتكون بمعنى «الذي» ، فَيحْسُن حذف الهاء وكذلك ذكر المفسِّرون القولين، فمن قال بالأول. قال: ليأكُلوا ممَّا عملتْ أيديهم، وهو الغُروس والحُروث التي تعبوا فيها، ومن قال بالثاني. قال: ليأكُلوا ما ليس مِنْ صُنعهم، ولكنه مِنْ فِعل الحقّ عزّ وجلّ أَفَلا يَشْكُرُونَ الله تعالى فيوحِّدوه؟!. ثم نزَّه نفسه بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها يعني الأجناس كلّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من الفواكه والحبوب وغير ذلك وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وهم الذكور والإِناث وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من دوابِّ البَرِّ والبحر وغير ذلك ممّا لم يَقِفوا على علمه. [سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40] وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أي: وعلامة لهم تَدُلُّ على توحيدنا وقدرتنا الليلُ نَسلخ منه النهار قال الفراء: نرمي بالنهار عنه، و «منه» بمعنى «عنه» . وقال أبو عبيدة: نُخْرِجُ منه النهار ونميِّزه منه فتجيء الظُّلمة، قال الماوردي: وذلك أنّ ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء، فإذا خرج منه أظلم. وقوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي: داخلون في الظَّلام. وَالشَّمْسُ أي: وآيةٌ لهم الشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها وفيه أربعة أقوال: أحدها: إلى موضع قرارها. روى أبو ذر قال:

(1198) سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله: لِمُسْتَقَرٍّ لَها قال: «مُسْتَقَرُّها تحت العَرْش» . وقال: «إِنَّها تذهب حتى تسجُد بين يَدَي ربِّها، فتَستأذِنُ في الطُّلوع، فيؤذَنُ لها» . والثاني: أنَّ مُسْتَقَرَّها مغربها لا تجاوزُه ولا تقصر عنه، قاله مجاهد. والثالث: لِوقت واحدٍ لا تعدُوه، قاله قتاده. وقال مقاتل: لِوقت لها إِلى يوم القيامة. والرابع: تسير في منازلها حتى تنتهيَ إلى مُسْتَقَرِّها الذي لا تجاوزُه، ثم ترجِع إِلى أوَّل منازلها، قاله ابن السائب. وقال ابن قتيبة: إلى مُسْتَقَرٍ لها، ومُسْتَقَرُّها: أقصى منازلها في الغُروب، وذلك لأنها لا تزال تتقدَّم إِلى أقصى مغاربها ثم ترجع. وقرأ ابن مسعود وعكرمة وعليّ بن الحسين والشيزري عن الكسائي «لا مُسْتَقَرَّ لها» والمعنى أنها تجري أبداً لا تثبُت في مكان واحد. قوله تعالى: ذلِكَ الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس والقمر تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في مُلكه الْعَلِيمِ بما يقدِّر. قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «والقَمَرُ» بالرفع. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «والقمر» بالنصب. قال الزجاج: من قرأ بالنصب، فالمعنى: وقدَّرْنا القمر قدَّرناه منازل، ومن قرأ بالرفع، فالمعنى: وآيةٌ لهم القمرُ قدَّرْناه، ويجوز أن يكون على الابتداء، و «قدَّرْناه» الخبر. قال المفسِّرون: ومنازلُ القمر ثمانيةٌ وعشرون منزِلاً ينزِلها من أوَّل الشَّهر إلى آخره، وقد سمَّيناها في سورة يونس «1» ، فإذا صار إلى آخر منازله، دَقَّ فعاد كالعُرجون، وهو عود العِذْق الذي تركته الشماريخ «2» ، فإذا جفَّ وقَدُمُ يشبه الهلال. قال ابن قتيبة: و «القديم» ها هنا: الذي قد أتى عليه حَوْلٌ، شُبِّه القمرُ آخِر لَيلةٍ يطلعُ به. قال الزجاج: وتقدير «عُرجون» : فُعْلون، من الانعراج. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، والضحاك، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «كالعِرْجَوْن» ، بكسر العين. قوله تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ فيه ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنهما إذا اجتمعا في السماء، كان أحدهما بين يَدَي الآخر، فلا يشتركان في المنازل، قاله ابن عباس. والثاني: لا يُشْبِه ضوءُ أحدهما ضوءُ الآخر، قاله مجاهد. والثالث: لا يجتمع ضوءُ أحدهما مع الآخر، فإذا جاء سُلطان أحدهما ذهب سُلطان الآخر، قاله قتادة فيكون وجه الحكمة في ذلك أنه لو اتصل الضوء، لم يعرف

_ صحيح. أخرجه البخاري 4803 و 7433 ومسلم 159 ح 251 وأحمد 5/ 158 وابن حبان 6152 والواحدي في «الوسيط» 3/ 514 من طرق عن وكيع به عن أبي ذر مرفوعا. - وأخرجه الطحاوي في «المشكل» 281 من طريق أبي معاوية عن الأعمش به.

[سورة يس (36) : الآيات 41 إلى 46]

الليل. قوله تعالى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وعاصم الجحدري: «سابِقُ» بالتنوين «النَّهارَ» بالنصب، وفيه قولان: أحدهما: لا يَتقدَّم الليلُ قبل استكمال النهار. والثاني: لا يأتي ليل بعد ليل من غير نهار فاصل بينهما. وباقي الآية مفسّر في سورة الأنبياء «1» . [سورة يس (36) : الآيات 41 الى 46] وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ نافع، وابن عامر: «ذُرْيَّاتِهِمْ» على الجمع وقرأ الباقون من السبعة: «ذُرِّيَّتَهُمْ» على التوحيد. قال المفسِّرون: أراد: في سفينة نوح، فنسب الذُّرِّيَّة إلى المخاطَبين، لأنهم من جنسهم، كأنه قال: ذُرِّيَّة الناس. وقال الفراء: أي: ذُرِّيَّة مَنْ هو منهم، فجعلها ذُرِّيَّةً لهم، وقد سبقتْهم. وقال غيره: هو حَمْلُ الأنبياء في أصلاب الآباء حين رَكِبوا السفينة، ومنه قول العباس: بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفينَ وقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْراً وأَهْلَهُ الغَرَقُ قال المفضّل بن سلمة: الذُّرِّيَّة: النَّسْل، لأنهم مَنْ ذرأهم اللهُ منهم، والذُّرِّيَّة أيضا: الآباء، لأن الذَّرَّ وقع منهم، فهو من الأضداد، ومنه هذه الآية، وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ «2» . والمشحون: المملوء. قوله تعالى: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ فيه قولان: أحدهما: مِثْل سفينة نوح، وهي السُّفُن، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، وأبو مالك، وأبو صالح، والمراد بهذا ذِكْر مِنَّته بأن خَلَق الخشب الذي تُعْمَل منه السُّفُن. والثاني: أنها الإِبل، خَلَقها لهم للرُّكوب في البَرِّ مثل السُّفُن المركوبة في البحر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وعن الحسن وقتادة كالقولين. قوله تعالى: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي: لا مُغيثَ ولا مُجِير وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ أي: ينجون من الغرق، يقال: أنقَذه واستنقَذه: إذا خلَّصه من المكروه، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا المعنى: إلا أن نرحمهم ونمتِّعهم إلى آجالهم. قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ يعني الكُفَّار اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: «ما بين أيديكم» : ما مضى من الذُّنوب، «وما خَلْفكم» : ما يأتي من الذنُّوب، قاله مجاهد. والثاني: ما تَقدَّم من عذاب الله للأُمم، «وما خلفكم» من أمر الساعة، قاله قتادة. والثالث: «ما بين أيديكم» من الدنيا، «وما خَلْفكم» من عذاب الآخرة، قاله سفيان. والرابع: «ما بين أيديكم» من أمر الآخرة، «وما خَلْفكم» من أمر الدنيا فلا تَغْتَرُّوا بها. قاله ابن عباس والكلبي. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي: لتكونوا على رجاء الرحمة من الله. وجواب «إذا» محذوف، تقديره: إِذا قيل لهم هذا، أعرضوا ويدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ أي: من دلالة تدلّ على صدق الرّسول.

_ (1) الأنبياء: 33. (2) آل عمران: 34.

[سورة يس (36) : الآيات 47 إلى 58]

[سورة يس (36) : الآيات 47 الى 58] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: في اليهود، قاله الحسن. والثاني: في الزنادقة، قاله قتادة. (1199) والثالث: في مشركي قريش، قاله مقاتل وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين النصيب الذي زعمتم أنه لله من الحرث والأنعام، فقالوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ. (1200) وقال ابن السائب: كان العاص بن وائل إذا سأله المسكين، قال: اذهب إلى ربِّك فهو أولى بك مني ويقول: قد منعه الله، أُطعمه أنا؟! ومعنى الكلام أنهم قالوا: لو أراد اللهُ أن يرزقهم لرزقهم، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نُطْعِمهم وهذا خطأٌ منهم، لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضاً، ليبلوَ الغنيَّ بالفقير فيما فرض له في ماله من الزكاة، والمؤمن لا يعترض على المشيئة، وإنما يوافق الأمر. وقيل: إنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء. وفي قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قولان: أحدهما: أنه من قول الكفار للمؤمنين، يعنون: إِنكم في خطأٍ من اتِّباع محمد. والثاني: أنه من قول الله للكفار لما ردُّوه من جواب المؤمنين. قوله تعالى: مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون القيامة والمعنى: متى إنجاز هذا الوعد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ يعنون محمدا وأصحابه. ما يَنْظُرُونَ أي: ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي النّفخة الأولى. ويَخِصِّمُونَ بمعنى يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد، كذلك قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يَخَصِّمُونَ» بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وروي عن ابن عمرو اختلاس حركة الخاء. وقرأ عاصم وابن عامر والكسائي «يَخْصِّمُونَ» بفتح الياء وكسر الخاء. وعن عاصم كسر الياء والخاء. وقرأ نافع بسكون الخاء وتشديد الصاد. وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد، أي: يَخْصِمُ بعضهم بعضاً. وقرأ أُبيٌّ بن كعب: «يختصمون» بزيادة تاء والمعنى أن الساعة تأتيهم أَغفلَ ما كانوا عنها وهم يتشاغلون في متصرَّفاتهم وبيعهم وشرائهم، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً قال مقاتل: أعجلوا عن الوصيّة

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم. عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم.

فماتوا، وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي: لا يعودون من الأسواق إلى منازلهم فهذا وصف ما يَلْقَون في النفخة الأولى. ثم ذكر ما يلقون في النّفخة الثانية قال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ يعني القبور، إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي: يخرُجون بسرعة، وقد شرحنا هذا المعنى في سورة الأنبياء «1» . قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين، والضحاك، وعاصم الجحدري: «من بعثْنَا» بكسر الميم والثاء وسكون العين. قال المفسرون: إنما قالوا هذا، لأن الله تعالى رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين. قال أُبيُّ بن كعب: ينامون نومة قبل البعث، فإذا بُعثوا قالوا هذا. قوله تعالى: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ في قائلي هذا الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قول المؤمنين، قاله مجاهد، وقتادة، وابن أبي ليلى. قال قتادة: أول الآية للكافرين، وآخرها للمؤمنين. والثاني: أنه قول الملائكة لهم، قاله الحسن. والثالث: أنه قول الكافرين، يقول بعضهم لبعض: هذا الذي أخبرَنا به المرسَلون أننا نُبعث ونجازى، قاله ابن زيد. قال الزجاج: «من مرقدنا» هو وقف التمام، ويجوز أن يكون «هذا» من نعت «مرقدنا» على معنى: مَنْ بعثَنا مِنْ مرقدنا هذا الذي كنّا راقدين فيه؟ ويكون في قوله تعالى: ما وَعَدَ الرَّحْمنُ أحد إِضمارين، إما «هذا» ، وإِما «حق» ، فيكون المعنى: حقُّ ما وَعد الرَّحمنُ. ثم ذكر النفخة الثانية، فقال: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ يعني في الآخرة فِي شُغُلٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «في شُغْلٍ» بإسكان الغين. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «في شُغُلٍ» بضم الشين والغين. وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وأيوب السختياني: «في شَغَلٍ» بفتح الشين والغين. وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك، والنخعي، وابن يعمر، والجحدري: «في شَغْلٍ» بفتح الشين وسكون الغين، وفيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أن شغلهم افتضاض العذارى، رواه شقيق عن ابن مسعود، ومجاهد عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، وقتادة، والضحاك. والثاني: ضرب الأوتار، رواه عكرمة عن ابن عباس وعن عكرمة كالقولين، ولا يثبت هذا القول. والثالث: النِّعمة، قاله مجاهد. وقال الحسن: شغلهم: نعيمهم عمَّا فيه أهل النار من العذاب. قوله تعالى: فاكِهُونَ وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وقتادة، وأبو الجوزاء، والنخعي، وأبو جعفر: «فَكِهُون» . وهل بينهما فرق؟ فيه قولان: أحدهما: أن بينهما فرقاً. فأما «فاكهون» ففيه أربعه أقوال: أحدها: فَرِحون، قاله ابن عباس. والثاني: مُعْجَبُون، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: ناعمون، قاله أبو مالك، ومقاتل. والرابع: ذوو فاكهة، كما يقال: فلانٌ لابِنٌ تامِرٌ، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. وأما «فَكِهون» ففيه قولان: أحدهما: أن الفَكِه: الذي يتفكَّه، تقول العرب للرجل إذا كان يتفكَّه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض

_ (1) الأنبياء: 96. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 3/ 705: يخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم، وعن ابن عباس في رواية عنه: فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ أي: سماع الأوتار. وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار.

[سورة يس (36) : الآيات 59 إلى 64]

الناس: إن فلاناً لفَكِهٌ بكذا، ومنه يقال للمُزاح: فُكاهَة، قاله أبو عبيدة. والثاني: أن فَكِهين بمعنى فَرِحين، قاله أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أن فاكهين وفكهِين بمعنى واحد، كما يقال: حاذِرٌ وحَذِرٌ، قاله الفراء. وقال الزجاج: فاكِهون وفكهِون بمعنى فَرِحين. وقال أبو زيد: الفَكِه: الطيِّب النَّفْس الضَّحوك، يقال: رجل فاكِه وفَكِه. قوله تعالى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ يعنى حلائلهم فِي ظُلَلٍ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «في ظُلَلٍ» . قال الفراء: الظِّلال جمع ظِلٍّ والظُّلَل جمع ظُلَّة وقد تكون الظِّلال جمع ظُلَّة أيضا، كما يقال: خُلَّة وخُلَل فإذا كثرت فهي الخِلال والحِلال والقِلال. قال مقاتل: والظِّلال: أكنان القصور. قال أبو عبيدة: والمعنى أنهم لا يَضْحَوْنَ. فأمّا الأرائك فقد بيّنّاها في الكهف «1» . قوله تعالى: وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ قال ابن قتيبة: ما يَتَمَنَّوْنَ، ومنه يقول الناس: هو في خيرِ ما ادَّعى، أي: ما تَمَنَّى، والعرب تقول: ادَّع ما شئتَ، أي: تمنّ ما شئت. وقال الزّجّاج: وهو مأخوذ من الدًّعاء والمعنى: كلُّ ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وقوله: سَلامٌ بدل من «ما» المعنى: لهم ما يتمنَّون سلام، أي: هذا مُنى أهل الجنة أن يُسلِّم الله عليهم. وقَوْلًا منصوب على معنى: سلامٌ يقوله اللهُ قولاً. وقال أبو عبيدة: «سلامٌ» رفع على «لهم» فالمعنى: لهم فيها فاكهة ولهم فيها سلام. وقال الفرّاء: معنى الكلام: لها ما يدَّعون مسلَّم خالص، ونصب القول، كأنكَ قلتَ: قاله قولاً، وإِن شئتَ جعلتَه نصباً من قوله تعالى: ولهم ما يدَّعون قولاًَ، كقولكَ: عِدَةً من الله. وقرأ ابن مسعود، وأًبيُّ بن كعب، والجحدري: «سلاما قولا» بنصبهما جميعا. [سورة يس (36) : الآيات 59 الى 64] وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) قوله تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ قال ابن قتيبة: أي: انقطِعوا عن المؤمنين وتميَّزوا منهم، يقال: مِزتُ الشيءَ من الشيء: إذا عزلتَه عنه، فانماز وامتاز، وميّزتُه فتميَّز. قال المفسرون: إذا اختلط الإِنس والجن في الآخرة، قيل: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فيقال للمجرمين: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أي: ألم آمركم، ألم أوصِكم؟ و «تعبُدوا» بمعنى تُطيعوا، والشيطان هو إبليس، زيَّن لهم الشِّرك فأطاعوه، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، أخرج أبويكم من الجنة. وَأَنِ اعْبُدُونِي قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي: «وأَنُ اعبُدوني» بضم النون. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة: «وأَنِ اعبُدوني» بكسر النون والمعنى: وحِّدوني هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يعني التوحيد. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: «جُبُلاً» بضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر: «جُبْلاً» بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام. وقرأ نافع، وعاصم: «جِبِّلاً» بكسر الجيم والباء مع تشديد اللام. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو عبد الرّحمن السّلمي، والزّهري،

_ (1) الكهف: 31.

[سورة يس (36) : الآيات 65 إلى 68]

والأعمش: «جُبُلًّا» بضم الجيم والباء مع تشديد اللام. وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن السميفع: «جِبْلاً» بكسر الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ومعاذ القارئ: «جُبَلاً» برفع الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام. وقرأ أبو العالية: وابن يعمر: «جِبَلاً» بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام. وقرأ أبو عمران الجوني، وعمرو بن دينار: «جِبَالاً» مكسورة الجيم مفتوحة الباء وبألف. ومعنى الكلمة كيف تصرَّفت في هذه اللغات: الخَلْق والجماعة فالمعنى: ولقد أضلَّ منكم خَلْقاً كثيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ فالمعنى: قد رأيتم آثار الهالكين قبلكم بطاعة الشيطان، أفلم تعقلوا ذلك؟! وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن يعمر: «أفلم يكونوا يعقلون» بالياء فيهما، فإذا أُدْنُوا إلى جهنم قيل لهم: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في الدنيا اصْلَوْهَا أي: قاسُوا حَرَّها. [سورة يس (36) : الآيات 65 الى 68] الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «يُخْتَمُ» بياء مضمومة وفتح التاء وَتُكَلِّمُنا قرأ ابن مسعود: «ولتكلّمنا» بزيادة لام مكسورة وفتح الميم وواو قبل اللام. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «لِتُكَلِّمَنا» بلام مكسورة من غير واو قبلها وبنصب الميم وقرءوا جميعا: «ولِتَشْهَدَ أرجُلُهم» بلام مكسورة وبنصب الدال. ومعنى «نَخْتِمُ» : نَطبع عليها، وقيل: منعُها من الكلام هو الختم عليها، وفي سبب ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنهم لمّا قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «1» ختم الله على أفواههم ونطقت جوارحهُم، قاله أبو موسى الأشعري. والثاني: ليَعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعواناً لهم على المعاصي صارت شهوداً عليهم. والثالث: ليعرفهم أهل الموقف، فتميّزوا منهم بذلك. والرابع: لأن إِقرار الجوارح أبلغ في الإِقرار من نُطْق اللسان، ذكرهنّ الماوردي. فإن قيل: ما الحكمة في تسمية نُطق اليد كلاماً ونطقِ الرِّجْل شهادةً؟ فالجواب: أن اليد كانت مباشِرة والرِّجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما فعل. قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ولو نشاء لأذهبْنا أعيُنَهم حتى لا يبدوَ لها شَقٌّ ولا جَفْن. والمطموس: الذي لا يكون بين جفنيه شَقّ، فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي: فتبادروا إلى الطريق فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي: فكيف يُبْصِرون وقد أعمينا أعيُنَهم؟! وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وعروة بن الزبير، وأبو رجاء: «فاستَبِقوا» بكسر الباء «فأنَّى تًُبْصِرونَ» بالتاء. وهذا تهديد لأهل مكة، وهو قول الأكثرين. والثاني: ولو نشاء لأضلَلْناهم وأعميناهم عن الهُدى، فأنّى يُبصِرون الحقَّ؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: ولو نشاء لفقأْنا أعيُنَ ضلالَتهم وأعميناهم عن غَيِّهم وحوَّلْنا أبصارهم من الضلالة إلى الهُدى فأبصروا رشدهم، فأنّى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم؟! حكي عن جماعة منهم مقاتل.

_ (1) الأنعام: 23. [.....]

[سورة يس (36) : الآيات 69 إلى 70]

قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ روى أبو بكر، عن عاصم «على مكاناتهم» وقد سبق بيان هذا «1» . وفي المراد بقوله: «لمَسَخْناهم» أربعة أقوال: أحدها: لأهلكْناهم، قاله ابن عباس. والثاني: لأقعدناهم على أرجلهم، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: لجعلْناهم حجارة، قاله أبو صالح، ومقاتل. والرابع: لجعلْناهم قردةً وخنازيرَ لا أرواح فيها، قاله ابن السائب. وفي قوله: فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: فما استطاعوا أن يتقدَّموا ولا أن يتأخروا، قاله قتادة. والثاني: فما استطاعوا مُضِيّاً عن العذاب، ولا رجوعاً إِلى الخِلقة الأُولى بعد المسخ، قاله الضحاك. والثالث: مُضِيّاً من الدنيا ولا رجوعاً إليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ قرأ حمزة: «نُنَكِّسْه» مشددة مع ضم النون الأولى وفتح الثانية والباقون: بفتح النون الأولى وتسكين الثانية من غير تشديد وعن عاصم كالقراءَتين. ومعنى الكلام: من نُطِلْ عمره ننكِّس خَلْقَه، فنجعل مكان القوَّة الضَّعف، وبدل الشباب الهرم، فنردُّه إِلى أرذل العمر. أَفَلا يَعْقِلُونَ قرأ نافع، وأبو عمرو: «أفلا تعقلون» بالتاء، والباقون بالياء. والمعنى: أفلا يعقلون أنَّ مَنْ فعل هذا قادر على البعث؟ [سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70] وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ قال المفسرون: إنّ كفّار مكّة قالوا: إنّ القرآن شِعْر وإِن محمداً شاعر، فقال الله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ أي: ما يتسهَّل له ذلك. قال المفسرون: ما كان يَتَّزن له بيتُ شِعر، (1201) حتى إنه روي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه تمثَّل يوماً فقال: كَفَى بالإِسلامِ والشَّيْبِ لِلْمَرْءِ ناهِياً. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إِنما قال الشاعر: كَفَى الشَّيْبُ والإِسلامُ لِلْمَرْءِ نَاهياً أَشهدُ أنَّكَ رسولَ الله، ما علَّمكَ اللهُ الشِّعر، وما ينبغي لك. (1202) ودعا يوماً بعباس بن مرداس فقال: «أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين الأَقْرَعِ وعُيَيْنَة» ؟ فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي، لم يقل كذلك، فأنشده أبو بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يَضُرُّكَ بأيِّهما بدأتَ» ، فقال أبو بكر: والله ما أنت بشاعر، ولا ينبغي لك الشّعر.

_ ضعيف جدا. أخرجه ابن سعد 1/ 298 والبغوي في «معالم التنزيل» 1789 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 709 من طريق علي بن زيد عن الحسن مرسلا، وإسناده ضعيف جدا وله علل ثلاث: الأولى: ضعف علي بن زيد، والثانية: هو مرسل، والثالث: مراسيل الحسن واهية. ضعيف. هو بعض حديث أخرجه البيهقي في «الدلائل» 5/ 179- 181- 182 وعلته الإرسال.

(1203) وتمثّل يوما، فقال: «ويأتيك مَنْ لم تُزَوِّدْهُ بالأَخْبارِ» فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: «إِنِّي لستُ بشاعر، ولا ينبغي لي» . وإِنما مُنِعَ من قول الشِّعر، لئلا تدخُل الشُّبهة على قوم فيما أتى به من القرآن فيقولون: قوي على ذلك بما في طَبْعه من الفطنة للشِّعر. قوله تعالى: إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ إِلا موعظة وَقُرْآنٌ مُبِينٌ فيه الفرائض والسُّنن والأحكام. قوله تعالى: لِيُنْذِرَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «لِيُنْذِرَ» بالياء، يعنون القرآن. وقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: «لِتُنْذِرَ» بالتاء، يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلّم، أي: لِتُنْذَرَ يا محمَّدُ بما في القرآن. وقرأ أبو المتوكّل، وأبو الجوزاء، وابن السّميفع: «لينذر» بياء مرفوعة وفتح الذال والراء جميعاً. قوله تعالى: مَنْ كانَ حَيًّا وفيه أربعة أقوال: أحدها: حيّ القلب حيّ البصر، قاله قتادة. والثاني: من كان عاقلاً، قاله الضحاك. قال الزجاج: من كان يَعْقِل ما يخاطَب به، فإن الكافر كالميت في ترك النذير. والثالث: مهتدياً، قاله السدي. وقال مقاتل: من كان مهتدياً في عِلْم الله. والرابع: من كان مؤمنا، قاله يحيى بن سلام وهذا على المعنى الذي قد سبق في قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ «1» ، ويجوز أن يريد: إِنما يَنفع إِنذارُك مَنْ كان مؤمِناً في علم الله. قوله تعالى: وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ معناه: يجب. وفي المراد بالقول قولان: أحدهما: أنه العذاب. والثاني: الحجّة.

_ صحيح. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 2496 والطبري 29229 عن قتادة عن عائشة، ورجاله ثقات لكنه منقطع، قتادة لم يدرك عائشة. وورد موصولا من وجه آخر، أخرجه أحمد 6/ 156 والبخاري في «الأدب المفرد» 867 والترمذي 2852 والطحاوي في «المعاني» 4/ 297 والبغوي في «معالم التنزيل» 1790 عن شريح بن هانئ عن عائشة، وإسناده حسن في الشواهد لأجل شريك. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» 292 وابن سعد 1/ 290 من طريق الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عكرمة عن عائشة، وإسناده ضعيف لضعف الوليد، وسماك مضطرب في عكرمة. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه البزار 2106 والطبراني 11763 وقال الهيثمي في «المجمع» 13346: رجالهما رجال الصحيح. الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشاهده، وانظر «معالم التنزيل» للبغوي 1790 و «أحكام القرآن» 1876 بتخريجنا، والله الموفق. - وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره 3/ 708: يقول تعالى مخبرا عن نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه أنه ما علّمه الشعر، وَما يَنْبَغِي لَهُ أي: وما هو في طبعه، فلا يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يحفظ بيتا على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأحاديث السابقة- قال ابن كثير رحمه الله: وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلّم ما علّم شعرا ولا ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علّمه القرآن العظيم الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وهو ليس بشعر كما زعمه طائفة من جهلة قريش، ولا كهانة ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهّال. وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلّم تأبى صناعة الشعر طبعا وشرعا، ثم قال ابن كثير رحمه الله: على أن الشعر فيه ما هو مشروع، وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت. وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأحزابهم رضي الله عنهم أجمعين، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية.

[سورة يس (36) : الآيات 71 إلى 76]

[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 76] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) ثم ذكَّرهم قُدرته فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً قال ابن قتيبة: يجوز أن يكون المعنى: ممّا عَمِلْناه بقوَّتنا وقدرتنا، وفي اليد القُدرةُ والقُوَّةُ على العمل، فتُستعارُ اليدُ فتُوضَع موضعها، هذا مَجازٌ للعرب يحتملُه هذا الحرف، والله أعلم بما أراد. وقال غيره: ذِكْر الأيدي ها هنا يدلُّ على انفراده بما خَلَق، والمعنى: لم يشاركْنا أحد في إِنشائنا والواحدُ مِنّا إِذا قال: عملتُ هذا بيدي، دلَّ ذلك على انفراده بعمله. وقال أبو سليمان الدمشقي: معنى الآية: ممّا أَوجدْناه بقُدرتنا وقوَّتنا وهذا إجماع أنه لم يرد ها هنا إلا ما ذكرْنا. قوله تعالى: فَهُمْ لَها مالِكُونَ فيه قولان: أحدهما: ضابطون، قاله قتادة ومقاتل. قال الزجاج: ومثله في الشِّعر: أَصبحتُ لا أَحملُ السِّلاحَ ولا ... أملكُ رأسَ البعيرِ إِنْ نَفَرا «1» أي: لا أَضبِط رأس البعير. والثاني: قادرون عليها بالتسخير لهم، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ أي: سخَّرْناها، فهي ذليلة لهم فَمِنْها رَكُوبُهُمْ قال ابن قتيبة: الرَّكُوب: ما يَرْكَبون، والحَلوب: ما يَحْلُبُون. قال الفرّاء: ولو قرأ قارئ: «فمنها رُكُوبُهم» ، كان وجهاً، كما تقول: منها أكلهم وشُربهم ورُكوبهم. وقد قرأ بضم الراء الحسن، وأبو العالية، والأعمش، وابن يعمر في آخرين. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وعائشة: «رَكُوبَتُهم» بفتح الراء والباء وزيادة تاء مرفوعة. قال المفسرون: يركبون من الأنعام الإِبل، ويأكلون الغنم، وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الأصواف والأوبار والأشعار والنَّسْل وَمَشارِبُ من ألبانها، أَفَلا يَشْكُرُونَ ربَّ هذه النِّعم فيوحِّدونه؟! ثم ذكر جهلهم فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي: لتمنَعهم من عذاب الله ثم أخبر أن ذلك لا يكون بقوله: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أي: لا تَقْدِرُ الأصنام على منعهم من أَمْرٍ أراده اللهُ بهم وَهُمْ يعني الكفّار ولَهُمْ يعني الأصنام جُنْدٌ مُحْضَرُونَ وفيه أربعة أقوال: أحدها: جُنْدٌ في الدنيا مُحْضَرونَ في النار، قاله الحسن. والثاني: مُحْضَرونَ عند الحساب، قاله مجاهد. والثالث: المشركون جُنْدٌ للأصنام، يَغضبون لها في الدنيا، وهي لا تسوق إِليهم خيراً ولا تدفع عنهم شرّاً، قاله قتادة. وقال مقاتل: الكفار يَغضبون للآلهة ويَحْضُرونها في الدنيا. وقال الزجاج: هم للأصنام ينتصرون، وهي لا تستطيع نصرهم. والرابع: هم جُنْدٌ مُحْضَرون عند الأصنام يعبدونها، قاله ابن السائب. قوله تعالى فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني قول كفار مكة في تكذيبك إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في ضمائرهم من تكذيبك وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم من ذلك والمعنى: إنا نثيبك ونجازيهم. [سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83] أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

_ (1) البيت للربيع بن منيع الفزاري، كما في «روح المعاني» 23/ 47، قاله بعد ما أسن، وجاوز المائة.

قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية والتي بعدها على خمسة أقوال: (1204) أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي، أخذ عَظْماً من البطحاء ففتَّه بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أيُحْيي اللهُ هذا بعد ما أرى؟ فقال: «نعم، يُميتُكَ الله ثُمَّ يُحْييكَ ثُم َّيُدخلكَ نار جهنَّم» ، فنزلت هذه الآيات، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. (1205) والثاني: أنه عبد الله بن أبيّ ابن سلول، جرى له نحو هذه القصة، رواه العوفي عن ابن عباس. (1206) والثالث: أنه أبو جهل بن هشام، وأن هذه القصة جرت له، رواه الضحاك عن ابن عباس. (1207) والرابع: أنه أُميَّةُ بن خَلَف، قاله الحسن. (1208) والخامس: أنه أُبيُّ بن خَلَف الجُمَحي، وهذه القصة جرت له، قاله مجاهد وقتادة والجمهور، وعليه المفسِّرون. ومعنى الكلام: التعجُّب مِنْ جهل هذا المخاصِم في إِنكاره البعث والمعنى: ألا يَعلم أنه مخلوق فيتفكر في بدء خلقه فيترك خصومته؟! وقيل: هذا تنبيه له على نعمة الله عليه حيث أنشأه من نطفة فصار مجادلاً. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا في إِنكار البعث بالعَظْم البالي حين فتَّه بيده، وتعجَّب ممن يقول: إِن الله يُحْييه وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي: نَسِيَ خَلْقَنا له، أي: تَرَكَ النَّظَر في خَلْق نفسِه إذ خلق من نطفة قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أي: بالية، يقال: رَمَّ العَظْمُ، إِذا بَلِيَ، فهو رَمِيمٌ، لأنه معدول عن فاعله، وكلّ

_ حسن. أخرجه الحاكم 2/ 429 من حديث ابن عباس، وإسناده حسن، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري 29243 عن سعيد بن جبير مرسلا. وانظر «أحكام القرآن» 1882. باطل، أخرجه الطبري 29244 بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي، وهو واه عن ابن عباس، وهذا باطل لأن السورة مكية بإجماع، وعبد الله بن أبي ابن سلول إنما كانت أخباره في العهد المدني. ضعيف جدا. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك. عزاه المصنف للحسن البصري، وهذا مرسل، ومراسيل الحسن واهية. أخرجه الطبري 29240 عن مجاهد مختصرا، وهذا مرسل. وكرره 29242 عن قتادة مرسلا. وذكره الواحدي في «الأسباب» 721 عن أبي مالك مرسلا. والخلاصة: ورد في شأن العاص وابن خلف من وجوه متساوية، فأصل الخبر محفوظ، وإن كان اضطرب المفسّرون في تعيين أحدهما، والله أعلم. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 5181 و «فتح القدير» 2103 بتخريجنا، والله الموفق.

معدول عن وجهه ووزنه فهو مصروف عن إِعرابه كقوله: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «1» فأسقط الهاء لأنها مصروفة، عن «باغية» فقاس هذا الكافر قُدرة الله تعالى بقُدرة الخَلْق، فأنكر إِحياء العظم البالي لأن ذلك ليس في مقدور الخَلْق. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أي: ابتدأ خَلْقها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ من الابتداء والإِعادة عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً قال ابن قتيبة: أراد الزُّنُودَ التي تُورِي بها الأَعرابُ من شجر المَرْخِ والعَفَار. فإن قيل: لم قال: «الشَّجَرِ الأَخضرِ» . ولم يقل: الشَّجَرِ الخُضْر. فالجواب: أن الشجر جمع، وهو يؤنَّث ويذكَّر، قال الله تعالى: فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ «2» ، وقال: فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. ثم ذكر ما هو أعظم من خَلْق الإِنسان، فقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وعاصم الجحدري: «يَقْدِرُ» بياء من غير ألف عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وهذا استفهام تقرير والمعنى: مَنْ قَدَرَ على ذلك العظيم، قَدَرَ على هذا اليسير. وقد فسرنا معنى «أن يَخْلُقَ مِثْلَهم» في بني إسرائيل «3» ثم أجاب عن هذا الاستفهام فقال: بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ يخلُق خَلْقاً بَعْدَ خَلْق. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وعاصم الجحدري: «وهو الخَالِقُ» الْعَلِيمُ بجميع المعلومات. والمَلَكوتُ والمُلْكُ واحد. وباقي السورة قد تقدّم شرحه «4» . والله أعلم بالصّواب.

_ (1) مريم: 28. (2) الواقعة: 53. (3) الإسراء: 99. (4) البقرة: 32- 117، الأنعام: 75.

سورة الصافات

سورة الصّافّات وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) قوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فيها قولان: أحدهما: أنها الملائكة، قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور. قال ابن عباس: هم الملائكة صفُوفٌ في السماء، لا يَعْرِفُ مَلَكٌ منهم مَنْ إلى جانبه، لم يَلْتَفِتْ منذ خَلَقَه اللهُ عزّ وجلّ. وقيل: هي الملائكة تصُفُّ أجنحتها في الهواء واقفة إلى أن يأمرها الله تعالى بما يشاء. والثاني: أنها الطّير، كقوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ «1» ، حكاه الثعلبي. وفي الزاجرات قولان: أحدهما: أنها الملائكة التي تزجُر السَّحاب، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: أنها زواجر القرآن وكلُّ ما ينهى ويزجُر عن القبيح، قاله قتادة. وفي التّاليات ذِكْراً ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الملائكة تقرأ كتب الله تعالى، قاله ابن مسعود والحسن والجمهور. والثاني: أنهم الرسل، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: ما يُتلى في القرآن من أخبار الأمم، قاله قتادة. وهذا قَسَم بهذه الأشياء، وجوابه: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. وقيل معناه: ورب هذه الأشياء إِنّه واحد. قوله تعالى: وَرَبُّ الْمَشارِقِ قال السدي: المَشارق ثلاثمائة وستونَ مَشْرِقاً، والمغارب مِثْلُها، على عدد أيام السَّنة. فإن قيل: لِمَ ترك ذِكْر المَغارب؟ فالجواب: أن المشارق تَدُلُّ على المَغارب، لأنّ الشّروق قبل الغروب. [سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 10] إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا يعني التي تلي الأرض، وهي أدنى السموات إلى الأرض بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو، والكسائي: «بزينةِ الكواكب» مضافاً، أي: بحُسنها وضوئها. وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «بزينة» منوّنة وخفض «الكواكب» فجعل

_ (1) النور: 41.

[سورة الصافات (37) : الآيات 11 إلى 26]

«الكواكب» بدلاً من الزينة لأنها هي، كما تقول: مررتُ بأبي عبد الله زيدٍ فالمعنى: إنا زيَّنَّا السماء الدُّنيا بالكواكب. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «بزينةٍ» بالتنوين وبنصب «الكواكبً» والمعنى: زيَّنّا السَّماء الدُّنيا بأن زيَّنّا الكواكب فيها حين ألقيناها في منازلها وجعلناها ذات نور. قال الزجاج: ويجوز أن يكون «الكواكبَ» في النَّصْب بدلاً من قوله: «بزينة» لأن قوله: «بزينة» في موضع نصب. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو حصين الأسدي في آخرين: «بزينةٍ» بالتنوين «الكواكبُ» برفع الباء قال الزجاج: والمعنى: إنّا زيَّنّا السَّماء الدُّنيا بأن زيَّنتْها الكواكبُ وبأن زيّنتِ الكواكب. وَحِفْظاً أي: وحَفِظْناها حفْظاً. فأمّا المارد، فهو العاتي، وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: شَيْطاناً مَرِيداً «1» . قوله تعالى: لا يَسَّمَّعُونَ قال الفراء: «لا» ها هنا كقوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ «2» ، ويصلح في «لا» على هذا المعنى الجزم، والعرب تقول: ربطت فرسي لا يَنْفَلِتْ. وقال غيره: لكي لا يَسَّمَّعوا إِلى الملأِ الأعلى، وهم الملائكة الذين في السماء. وقرأ حمزة، والكسائيّ وخلف، وحفص عن عاصم: لا يَسَّمَّعُونَ بتشديد السين، وأصله: يتسمَّعون، فأُدغمت التاء في السين. وإنما قال: إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى لأن العرب تقول: سمعتُ فلاناً، وسمعتُ من فلان، وإلى فلان. وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ بالشًّهُب دُحُوراً قال قتادة: أي قذفاً بالشُّهُب. وقال ابن قتيبة: أي: طَرْداً، يقال: دَحَرْتُه دَحْراً وُدُحوراً، أي: دفعتُه. وقرأ عليّ بن أبي طالب، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن، والضحاك، وأيوب السختياني، وابن أبي عبلة: «دَحُوراً» بفتح الدال. وفي «الواصب» قولان: أحدهما: أنه الدائم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة. والثاني: أنه المُوجِع، قاله أبو صالح، والسدي. وفي زمان هذا العذاب قولان: أحدهما: أنه في الآخرة. والثاني: أنه في الدنيا، فهم يُخْرَجون بالشُّهُب ويُخبَلُون إِلى النَّفْخة الأولى في الصُّور. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ قرأ ابن السميفع: «خَطِّفَ» بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها. وقرأ أبو رجاء، والجحدري: بكسر الخاء والطاء جميعا والتّخفيف. وقال الزجاج: خََطَفَ وخَطِفَ، بفتح الطاء وكسرها، يقال: خَطَفْتُ أَخْطِفُ، وخَطِفْتُ أَخْطَفُ: إِذا أخذت الشيء بسرعة، ويجوز «إلاّ مَنْ خَطَّف» بفتح الخاء وتشديد الطاء، ويجوز «خِطَفَ» بكسر الخاء وفتح الطاء والمعنى: اختطف، فأدغمت التاء في الطاء، وسقطت الألف لحركة الخاء فمن فتح الخاء ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في «اختطف» ، ومن كسر الخاء، فلِسكونها وسُكون الطاء. فأما من روى «خِطِف» بكسر الخاء والطاء، فلا وجه لها إلا وجهاً ضعيفاً جداً، وهو أن يكون على إِتباع الطاء كسرة الخاء. قال المفسّرون: والمعنى: إلّا من اختلس الكلمة من كلام الملائكة مُسارَقةً فَأَتْبَعَهُ أي: لَحِقَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ قال ابن قتيبة: أي كوكبٌ مُضيءُ، يقال: أثْقِِبْ نارَك، أي: أضِئْها، والثّقوب: ما تذكى به النّار. [سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 26] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)

_ (1) النساء: 117. (2) الشعراء: 200، 201.

قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أي: فَسَْلهُمْ سؤالَ تقرير أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي: أَحْكَمُ صَنْعةً أَمْ مَنْ خَلَقْنا فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: أَمْ مَنْ عدَدْنا خَلْقه من الملائكة والشياطين والسّموات والأرض، قاله ابن جير. والثاني: أَمْ مَنْ خَلَقْنا قبلهم من الأمم السالفة، والمعنى: إنهم ليسوا بأقوى من أولئك وقد أهلكناهم بالتكذيب، فما الذي يؤمن هؤلاء؟. ثم ذكر الناس فقال: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال الفراء، وابن قتيبة: أي: لاصقٍ لازمٍ، والباء تُبدَلُ من الميم لقُربِ مَخْرَجَْيهما. قال ابن عباس: هو الطيّن الحُرُّ الجيِّد اللَّزِقُ. وقال غيره: هو الطِّين الذي يَنْشَف عنه الماءُ وتبقى رطوبتُه في باطنه فيَلْصَق باليد كالشمع. وهذا إِخبار عن تساوي الأصل في خَلْقهم وخَلْق مَن قَبْلَهم فمن قدَر على إِهلاك الأقوياء، قَدرَ على إهلاك الضُّعفاء. قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ «بل» معناه: تركُ الكلام في الأول والأخذُ في الكلام الآخر، كأنه قال: دع يا محمد ما مضى. وفي «عَجِبْتَ» قراءتان قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «بل عَجِبْتَ» بفتح التاء. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، وقتادة، وأبو مجلز، والنخعي، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وابن أبي ليلى، وحمزة، والكسائي في آخرين: «بل عَجِبْتُ» بضم التاء، واختارها الفراء. فمن فتح أراد: بل عَجِبْتَ يا محمد، وَيَسْخَرُونَ هم. قال ابن السائب: أنتَ تَعْجَبُ منهم، وهم يَسْخَرون منك. وفي ما عجبَ منه قولان «1» : أحدهما: من الكفار إِذ لم يؤمِنوا بالقرآن. والثاني: إذ كفروا بالبعث. ومن ضمّ، أراد الإخبار عن الله عزّ وجلّ أنه عَجِبَ، قال الفراء: وهي قراءة عليّ وعبد الله وابن عباس وهي أحبُّ إليّ، وقد أنكر هذه القراءة قوم، منهم شريح القاضي، قال: إن الله لا يَعْجَب، إِنما يَعْجَبَ مَنْ لا يَعْلَم، قال الزجاج: وإنكار هذه القراءة غلط، لأن العَجَبَ من الله خلاف العجب من الآدميين، وهذا كقوله تعالى: وَيَمْكُرُ اللَّهُ «2» وقوله: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ «3» ، وأصل العَجَب في اللغة: أن الإِنسان إِذا رأى ما يُنْكرِهُ ويَقَلُّ مِثْلُه، قال: قد عَجَبتُ من كذا، وكذلك إِذا فَعَلَ الآدميُّون ما ينكره الله عزّ وجلّ، جاز أن يقول عَجِبْتُ. واللهُ قد عَلِم الشيءَ قبل كونه. وقال ابن الأنباري: المعنى: جازيتُُهم على عجبهم من الحق، فسمّى الجزاء على الشيء باسم الشيء الذي له الجزاء، فسمّى فعله عَجَباَ وليس بعَجَب في الحقيقة، لأن المتعَجِّب يدهش ويتحيَّر، واللهُ عزَ وجَلَّ قد جَلّ عن ذلك وكذلك سُمِّي تعظيم الثواب عجبا،

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 476: والصواب من القول أن يقال: أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب، فإن قال قائل: وكيف يكون مصيبا القارئ بهما مع اختلاف معنيهما؟ إنهما وإن اختلف معنياهما فكل واحد من معنييه صحيح، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل، وسخر منه أهل الشرك بالله، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله، وسخر المشركون بما قالوه. (2) الأنفال: 30. (3) التوبة: 79.

لأنه إنما يُتعجَّب من الشيء إِذا كان في النهاية، والعرب تسمي الفعل باسم الفعل إِذا داناه من بعض وجوهه وإن كان مخالفاً له في أكثر معانيه، قال عديّ: ثمّ أضحوا لعب الدّهر بهم «1» فجعل إهلاك الدهر وإفساده لعبا، قال ابن جرير: من ضم التاء، فالمعنى: بل عَظُم عندي وكَبُر اتِّخاذُهم لي شريكاً وتكذيبُهم بتنزيلي. وقال غيره: إضافة العجب إلى الله عزّ وجلّ على ضربين: أحدهما: بمعنى الإِنكار والذمِّ، كهذه الآية. والثاني: بمعنى الاستحسان والإِخبار عن تمام الرّضا، كقوله عليه السلام: (1209) «عَجِبَ ربُّكَ مِنْ شابٍ ليست له صَبوةٌ» . قوله تعالى: وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي: إِذا وُعِظوا بالقرآن لا يَذْكُرون ولا يَتَّعظون. وقرأ سعيد بن جبير، والضحاك، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: «ذُكِروا» بتخفيف الكاف. وَإِذا رَأَوْا آيَةً قال ابن عباس: يعني انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ قال أبو عبيدة: يَسْتَسْخِرونَ ويَسْخَرونَ سواء. قال ابن قتيبة. يقال: سَخِرَ واسْتَسْخَرَ، كما يقال: قَرَّ واسْتَقَرَّ، وعَجِبَ واسْتَعْجَبَ، ويجوز أن يكون: يسألون غيرَهم من المشركين أن يَسْخَروا من رسول الله، كما يقال: اسْتَعْتَبْتُه، أي: سألتُه العُتْبَى، واسْتَوْهَبْتُه، أي: سألتُه الهِبَة، واسْتَعْفَيْتُه: سألتُه العَفْوَ. وَقالُوا إِنْ هذا يعنون انشقاق القمر إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: بَيْنٌ لِمَنْ تأمَّله أنه سِحْر. أَإِذا مِتْنا قد سبق بيان هذه الآية «2» . أَوَآباؤُنَا هذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف، كقوله: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى «3» . وقرأ نافع، وابن عامر: «أوْ آباؤنا الأَوَّلُونَ» بسكون الواو ها هنا وفي الواقعة «4» . قُلْ نَعَمْ أي: نَعَمْ تُبْعَثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي: صاغِرونَ. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي: فإنّما قِصَّة البعث صيحةٌ واحدة من إسرافيل، وهي نفخة البعث، وسُمِّيتْ زجرةً، لأن مقصودها الزَّجْر فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ قال الزجاج: أي: يُحْيَوْن ويُبعَثونَ بُصَراءَ ينْظرون، فإذا عايَنوا بعثهم، ذكروا إِخبار الرُّسل عن البعث، وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي: يوم الحساب والجزاء، فتقول الملائكة: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي: يوم القضاء الذي يُفْصَل فيه بين المحسن والمسيء ويقول الله عزّ وجلّ يومئذ للملائكة: احْشُرُوا أي: اجْمَعوا الَّذِينَ ظَلَمُوا من حيث هم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: أنه عامٌّ في كل ظالم. وفي أزواجهم أربعة أقوال: أحدها: أمثالهم وأشباههم، وهو قول عمر وابن عباس، والنعمان بن بشير، ومجاهد في أخرين. وروي عن عمر قال: يُحْشَر صاحبُ الرِّبا مع صاحب الرِّبا وصاحبُ الزِّنا مع صاحب الزِّنا وصاحب الخمر مع

_ ضعيف. أخرجه أحمد 4/ 151 وأبو يعلى 1749 والطبراني 17/ 309 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 993 من طريق ابن لهيعة عن أبي عشانة عن عقبة بن عامر مرفوعا. وإسناده ضعيف، لضعف ابن لهيعة. وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 270 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وإسناده حسن! كذا قال رحمه الله، ومداره على ابن لهيعة، وهو ضعيف لا يحتج به، وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» 349 موقوفا وهو أصح.

[سورة الصافات (37) : الآيات 27 إلى 49]

صاحب الخمر. والثاني: أن أزواجَهم: المشركاتُ، قاله الحسن. والثالث: أشياعهم، قاله قتادة. والرابع: قُرَناؤهم من الشيَّاطين الذين أضلُّوهم، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى: وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: الأصنام، قاله عكرمة، وقتادة. والثاني: إبليس وحده، قاله مقاتل. والثالث: الشياطين، ذكره الماوردي وغيره. قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي: دُلُّوهم على طريقها والمعنى: اذهبوا بهم إِليها. قال الزجاج: يقال: هَدَيْتُ الرَّجُل: إِذا دَلَلْتَه، وهَدَيْتُ العروس إِلى زوجها، وأهديتُ الهديَّة، فإذا جعلتَ العروس كالهدية، قلتَ: أهديتُها. قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ أي: احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ وقرأ ابن السميفع: «أنَّهم» بفتح الهمزة. قال المفسرون: لمَّا سِيقوا إلى النار حُبِسوا عند الصراط، لأن السؤال هناك. وفي هذا السؤال ستة أقوال: أحدها: أنهم سئلوا عن أعمالهم وأقوالهم في الدنيا. والثاني: عن «لا إِله إِلا الله» ، رويا جميعاً عن ابن عباس. والثالث: عن خطاياهم، قاله الضحاك. والرابع: سَألَهُمْ خزَنةُ جهنم أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ «1» ونحو هذا، قاله مقاتل. والخامس: أنهم يُسألون عمّا كانوا يعملون، ذكره ابن جرير. والسادس: أن سؤالهم قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ، ذكره الماوردي. قال المفسّرون: المعنى: ما لكم لا ينصُر بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدنيا؟! وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «2» ، فقيل لهم ذلك يومئذ توبيخاً. والمُسْتَسْلِم: المُنقاد الذَّليل والمعنى أنهم منقادون لا حيلة لهم. [سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 49] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ فيهم قولان: أحدهما: الإِنس على الشياطين. والثاني: الأتباع على الرؤساء يَتَساءَلُونَ تسآل توبيخ وتأنيب ولَومْ، فيقول الأتباع للرؤساء: لِمَ غررتمونا؟ ويقول الرؤساء: لم قبلتم منّا؟ فذلك قوله تعالى: قالُوا يعنى الأتباع للمتبوعين إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كنتم تَقْهَروننا بقُدرتكم علينا، لأنّكم كنتم أعزّ منّا، رواه الضّحّاك. والثاني: من قِبَل الدِّين فتُضِلوُّنا عنه، قاله الضحاك، وقال الزجاج: تأتوننا من قِبَل الدِّين فتخدعونا

_ (1) الملك: 80. (2) القمر: 44.

بأقوى الأسباب. والثالث: كنتم تُوثِّقون ما كنتم تقولون بَأيْمانكم، فتأتوننا من قِبَل الأيْمان التي تَحْلِفونها، حكاه عليّ بن أحمد النيسابوري. فيقول المتبوعون لهم: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي: لم تكونوا على حَقّ فنُضلِّكم عنه، إِنما الكفر من قبلكم. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ فيه قولان: أحدهما: أنه القَهْر. والثاني: الحُجَّة. فيكون المعنى على الأول: وما كان لنا عليكم من قُوَّة نَقْهَرُكم بها ونُكْرِهِكُم على مُتابعتنا، وعلى الثاني: لم نأتكم بحُجَّة على ما دعَوْناكم إٍليه كما أتت الرُّسل. قوله تعالى: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا أي: فوجبت علينا كلمةُ العذاب، وهي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1» إِنَّا لَذائِقُونَ العذاب جميعاً نحن وأنتم، فَأَغْوَيْناكُمْ أي: أضلَلْناكم عن الهُدى بدعائكم إلى ما نحن عليه، وهو قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. ثم أخبر عن الأَتباع والمتبوعين بقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ، والمجرمون ها هنا: المشركون، إِنَّهُمْ كانُوا في الدُّنيا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي: قولوا هذه الكلمة يَسْتَكْبِرُونَ أي: يَتَعَظَّمُون عن قولها، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا المعنى: أَنَتْرُكُ عبادة آلهتنا لِشاعِرٍ أي: لاتباع شاعر؟! يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فردّ الله تعالى عليهم فقال: بَلْ أي: ليس الأمر على ما قالوا، بل جاءَ بِالْحَقِّ وهو التوحيد والقرآن، وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الذين كانوا قبله والمعنى أنه أتى بما أتَوْا به. ثم خاطب المشركين بما بعد هذا إلى قوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الموحِّدين. قال أبو عبيدة: والعرب تقول: إنَّكم لَذاهبون إلاّ زيداً. وفي ما استثناهم منه قولان: أحدهما: من الجزاء على الأعمال، فالمعنى: إنّا لا نؤاخذهم بسوء أعمالهم، بل نَغْفِرُ لهم، قاله ابن زيد. والثاني: من دون العذاب، فالمعنى: فإنهم لا يذوقون العذاب، قاله مقاتل. قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الجنة، قاله قتادة. والثاني: أنه الرِّزق في الجنة، قاله السدي، فعلى هذا، في معنى «معلوم» قولان: أحدهما: أنه بمقدار الغداة والعشيّ، قاله ابن السّائب. والثاني: أنهم حين يشتهونهُ يؤتَون به، قاله مقاتل. ثم بيَّن الرِّزق فقال: فَواكِهُ وهي جمع فاكهة وهي الثِّمار كلُّها، رَطْبها ويابسها وَهُمْ مُكْرَمُونَ بما أعطاهم الله. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره «2» إلى قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ قال الضحاك: كلُّ كأس ذُكِرتْ في القرآن، فإنما عُنيَ بها الخمر، قال أبو عبيدة: الكأس: الإناء بما فيه والمَعين: الماء الطَّاهر الجاري. قال الزّجّاج: الكأس: الإناء الذي فيه الخمر، وتقع الكأسُ على كل إناءٍ مع شرابه، فإن كان فارغا فليس بكأس. والمعين: الخمر يجري كما يجري الماء على وجه الأرض من العُيون. قوله تعالى: بَيْضاءَ قال الحسن: خمر الجنة أشدُّ بياضاً من اللَّبَن، قال أبو سليمان الدمشقي: ويدل على أنه أراد بالكأس الخمر، أنه قال: «بيضاءَ» فأنَّث ولو أراد الإناء على انفراده، أو الإِناء والخمر، لقال: أبيض. وقال ابن جرير: إنما أراد بقوله: «بيضاءَ» الكأس، ولتأنيث الكأس أنّثت البيضاء. قوله تعالى: لَذَّةٍ قال ابن قتيبة: أي: لذيذة، يقال: شراب لِذاذ: إِذا كان طَيِّباً. وقال

_ (1) الأعراف: 18. (2) الحجر: 47.

[سورة الصافات (37) : الآيات 50 إلى 61]

الزجاج: أي: ذات لَذَّة. لا فِيها غَوْلٌ فيه سبعة أقوال: أحدها: ليس فيها صُداع، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: ليس فيها وجع بطن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وابن زيد. والثالث: ليس فيها وجع ولا صُداع رأس، قاله قتادة. والرابع: ليس فيها أذى ولا مكروه، قاله سعيد بن جبير. والخامس: لا تَغتال عقولهم، قاله السدي. وقال الزجاج: لا تَغْتالُ عقولَهم فتذهب بها ولا يُصيبهم منها وجع. والسادس: ليس فيها إثم، حكاه ابن جرير. والسابع: ليس فيها شيء من هذه الآفات، لأن كُلَّ مَنْ ناله شيء من هذه الآفات قيل: قد غالَتْه غُوْل، فالصواب أن يكون نفي الغَوْل عنها يَعُمُّ جميع هذه الأشياء، هذا اختيار ابن جرير. قوله تعالى: وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قرأ حمزة، والكسائي: بكسر الزاي ها هنا وفي الواقعة، وفتح عاصم الزاي ها هنا، وكسرها في الواقعة «1» . وقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، بفتح الزّاي في السُّورتين، قال الفراء: فمن فتح، فالمعنى: لا تِذهبُ عقولهم بُشربها. يقال للسكران: نَزيف ومَنزوف ومن كسر، ففيه وجهان: أحدهما: لا يُنْفِدون شرابهم، أي: هو دائم أبداً. والثاني: لا يَسْكَرون، قال الشاعر: لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ ... لَبِئْسَ النَّدامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا «2» قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ فيه قولان: أحدهما: أنهنّ نساء قد قصرن طَرْفهنَّ على أزواجهنَّ فلا يَنْظُرْنَ إلى غيرهم. وأصل القَصْر: الحبس، قال ابن زيد: إنَّ المرأة منهنَّ لَتقولُ لزوجها: وعِزَّةِ ربِّي ما أرى في الجنَّة شيئاً أحسنَ منكَ، فالحمد لله الذي جعلني زوجكَ وجعلكَ زوجي. والثاني: أنهنَّ قد قَصَرن طَرْف الأزواج عن غيرهنَّ، لكمال حُسنهنّ، سمعتُه من الشيخ أبي محمد بن الخشّاب النحوي. وفي العِين ثلاثة أقوال: أحدها: حِسانُ العُيون، قاله مجاهد. والثاني: عِظام الأعيُن، قاله السدي. وابن زيد. والثالث: كِبار العُيون حِسانُها، وواحدتُهنَّ عَيْناء، قاله الزجاج. قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ في المراد بالبيض ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اللؤلؤ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة. والثاني: بَيْضُ النَّعام، قاله الحسن، وابن زيد، والزجاج. قال جماعة من أهل اللغة: والعرب تُشَبِّه المرأةَ الحسناءَ في بياضها وحُسْن لونها بِبَيْضَة النَّعامة، وهو أحسن ألوان النساء، وهو أن تكون المرأة بيضاءَ مُشَرَّبَةٍ صُفْرَةً. والثالث: أنه البَيْض حين يُقْشَر قبل أن تَمَسَّه الأيدي، قاله السدي، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير، وقتادة، وابن جرير. فأما المكنون، فهو المصون. فعلى القول الأول: هو مكنون في صَدَفِهِ، وعلى الثاني: هو مكنون بريش النَّعام، وعلى الثالث: هو مكنون بقشره. [سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 61] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)

_ (1) الواقعة: 19. (2) البيت للأبيرد الرياحي من بني محجل كما في «اللسان» - نزف-.

[سورة الصافات (37) : الآيات 62 إلى 74]

قوله تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني أهل الجنة يَتَساءَلُونَ عن أحوال كانت في الدنيا. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الصّاحب في الدنيا. والثاني: أنه الشريك، رويا عن ابن عباس. والثالث: أنه الشيطان، قاله مجاهد. والرابع: أنه الأخ قال مقاتل: وهما الأَخوان المذكوران في سورة الكهف «1» في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ والمعنى: كان لي صاحب أو أخ ينكر البعث، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ قال الزجاج: هي مخففة الصاد، من صدَّق يصدِّق فهو مصدِّق، ولا يجوز ها هنا تشديد الصاد، قال المفسّرون: والمعنى: أإنّك لَمِن المُصَدِّقِين بالبعث؟ وقرأ بكر بن عبد الرحمن القاضي عن حمزة: «المُصَّدِقِينَ» بتشديد الصاد. قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي: مَجْزِيُّون بأعمالنا، يقال: دِنْتُهُ بما صنع، أي: جازيته. فأحَبَّ المؤمِنُ أن يَرى قرينَه الكافر، فقال لأهل الجنَّة: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أي: هل تحبُّون الاطِّلاع إِلى النَّار لتَعْلَمُوا أين منزلتُكم من منزلة أهلها؟ وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو عمران، وابن يعمر: «هل أنتم مُطْلِعُونَ» بإسكان الطاء وتخفيفها «فأطْلِعَ» بهمزة مرفوعة وسكون الطاء. وقرأ أبو رزين وابن أبي عبلة: «مُطلِعونِ» بكسر النون، قال ابن مسعود: اطَّلع ثم التفت إلى أصحابه فقال: لقد رأيتُ جماجم القوم تغلي قال ابن عباس: وذلك أن في الجنة كُوىً ينظُر منها أهلُها إِلى النار. قوله تعالى: فَرَآهُ يعني قرينة الكافر فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي: في وسَطها. وقيل: إِنما سمي الوسَط سَواءً، لاستواء المسافة منه إلى الجوانب. قال خُليد العَصْري: واللهِ لولا أنَّ الله عرَّفه إَيَّاه، ما عرفه، لقد تغيَّر حَبْرُه وسِبْرُه. فعند ذلك قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ قال المفسرون: معناه: واللهِ ما كِدْتَ إلاّ تُهْلِكني يقال: أرديتُ فلاناً، أي: أهلكْته. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي أي: إنعامه عليَّ بالإِسلام لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في النّار. قوله تعالى: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا ذُبح الموت، قال أهل الجنة: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فيقال لهم: لا فعند ذلك قالوا: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فيقول الله تعالى: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، قاله ابن السائب. وقيل: يقول ذلك للملائكة. والثاني: أنه قول المؤمن لأصحابه، فقالوا له: إنك لا تموت، فقال: «إنْ هذا لَهُوَ الفوز العظيم» ، قاله مقاتل. وقال أبو سليمان الدمشقي: إِنما خاطب المؤمنُ أهلَ الجنة بهذا على طريق الفرح بدوام النَّعيم، لا على طريق الاستفهام، لأنه قد عَلِمَ أنَّهم ليسوا بميِّتين، ولكن أعاد الكلام ليزداد بتكراره على سمعه سروراً. والثالث: أنه قول المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ بما كان يُنْكِره، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: لِمِثْلِ هذا يعنى النعيم الذي ذَكَره في قوله: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ «2» ، فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، وهذا ترغيب في طلب ثواب الله عزّ وجلّ بطاعته. [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)

_ (1) الكهف: 32. (2) الصافات: 41.

أَذلِكَ خَيْرٌ يشير إلى ما وصف لأهل الجنة نُزُلًا قال ابن قتيبة: أي: رزقاً، ومنه: إقامةُ الأنْزال، وأنزال الجنود: أرزاقُها، وقال الزّجّاج: النّزل ها هنا: الرّيع والفضل، تقول: هذا طعام نُزْل ونُزُل، بتسكين الزاي وضمها والمعنى: أذلك خير في باب الأنزال التي تُتَقوَّت ويمكن معها الإِقامة، أم نُزُل أهل النار؟! وهو قوله تعالى: أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. واختلف العلماء هل هذه الشجرة في الدنيا، أم لا؟ فقال قطرب: هي شجرة مُرَّة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: الزَّقُّوم: ثمرة شجرة كريهة الطَّعم. وقيل: إِنها لا تُعرف في شجر الدنيا، وإنما هي في النار، يُكرَه أهلُ النار على تناولها. قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ يعني للكافرين، وفي المراد بالفتنة ثلاثة أقْوال: أحدها: أنه لما ذكر أنها في النار، افتُتنوا وكذَّبوا، فقالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تأكل الشجر؟، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة «1» ، وقال السدي: فتنة لأبي جهل وأصحابه. والثاني: أن الفتنة بمعنى العذاب، قاله ابن قتيبة. والثالث: أن الفتنة بمعنى الاختبار، اختُبروا بها فكذَّبوا، قاله الزجاج. قوله تعالى: تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي: في قَعْر النّار. قال الحسن: أصلُها في قَعْر النّار، وأغصانها ترتفع إلى دَرَكاتها. طَلْعُها أي: ثمرها، وسُمِّي طَلْعاً، لطلوعة كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ. فإن قيل: كيف شبَّهها بشيءٍ لم يُشاهَد؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه قد استقرَّ في النفوس قُبح الشياطين- وإِن لم تُشاهَد- فجاز تشبيهها بما قد عُلِمَ قُبحه، قال امرؤ القيس: أيَقْتُلُنِي والمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأَنْيَاب أغْوالِ قال الزجاج: هو لم ير الغُول ولا أنيابها، ولكن التمثيل بما يُستقبَح أبلغ في باب المذكّر أن يُمثَّل بالشياطين، وفي باب المؤنَّث أن يشبَّه بالغُول. والثاني: أنّ بين مكّة واليمن شجرا يسمى رؤوس الشياطين، فشبَّهها بها، قاله ابن السائب. والثالث: أنه أراد بالشياطين: حيّات لها رؤوس ولها أعراف، فشبّه طلعها برءوس الحيّات، ذكره الزجاج. قال الفراء: والعرب تسمِّي بعض الحيّات شيطاناً، وهو حيّة ذو عُرْف قبيحُ الوجه. قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي: من ثمرها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ وذلك أنهم يُكْرَهون على أكَلها حتى تمتلئ بطونهم. ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ قال ابن قتيبة: أي: لَخلْطاً من الماء الحارِّ يشربونه عليها. قال أبو عبيدة: تقول العرب: كلُّ شيء خَلَطْتَه بغيره فهو مشوب. قال المفسرون: إذا أَكلوا الزَّقُّوم ثم شربوا عليه الحميم، شابَ الحميمُ الزَّقُّوم في بطونهم فصار شَوْباً له. ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أي: بعد أكل الزَّقُّوم وشُرب الحميم لَإِلَى الْجَحِيمِ وذلك أنّ الحميم خارج من الجحيم، فهم يوردونه

_ (1) مرسل. أخرجه الطبري 29398 عن قتادة مرسلا، وتقدم في سورة الإسراء: 60.

[سورة الصافات (37) : الآيات 75 إلى 82]

كما تورَد الإبلُ الماءَ، ثم يُرَدُّونَ إلى الجحيم ويدُلُّ على هذا قولُه: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «1» . وأَلْفَوْا بمعنى وجدوا. ويُهْرَعُونَ مشروح في هود «2» ، والمعنى أنهم يتَّبعون آباءَهم في سرعة. وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي: قَبْلَ هؤلاء المشركين أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم الخالية. قوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الموحِّدين، فإنهم نجوا من العذاب. قال ابن جرير: وإِنما حَسُن الاستثناء، لأن المعنى: فانْظُر كيف أهلكنا المنذرين إلّا عباد الله. [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82] وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ أي: دعانا. وفي دعائه قولان: أحدهما: أنه دعا مستنصِراً على قومه. والثاني: أن ينجيَه من الغرق فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن والمعنى: إِنَّا أَنجيناه، وأهلكنا قومه. وفي الْكَرْبِ الْعَظِيمِ قولان: أحدهما: أنه الغرق. والثاني: أذى قومه. وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وذلك أن نسل أهل السفينة انقرضوا غير نسل ولده، فالناس كلهُّم من ولد نوح، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ أي: تَرَكْنا عليه ذِكْراً جميلاً فِي الْآخِرِينَ وهم الذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة. قال الزجاج: وذلك الذّكر الجميل قوله تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ وهم الذين جاءوا من بعده، والمعنى: تَرَكْنا عليه أن يُصَلَّى عليه في الآخرين إلى يوم القيامة. قوله تعالى: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثّناء الحسن في العالمين. [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 101] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ أي: من أهل دِينه ومِلَّته. والهاء في «شِيعته» عائدة على نوح في قول الأكثرين وقال ابن السّائب: تعود إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم، واختاره الفراء. فإن قيل: كيف يكون من شيعته وهو قبله؟ فالجواب: أنه مِثل قوله تعالى: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ «3» فجعلها ذُرِيَّتهم وقد سبقَتْهم، وقد شرحنا هذا فيما مضى «4» . قوله تعالى: إِذْ جاءَ رَبَّهُ أي: صدَّقَ اللهَ وآمَنَ به بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشِّرك وكلِّ دَنَس، وفيه أقوال ذكرناها في الشعراء «5» .

_ (1) الرحمن: 44. (2) هود: 78. [.....] (3) يس: 41. (4) يس: 41. (5) الشعراء: 89.

قوله تعالى: ماذا تَعْبُدُونَ هذا استفهام توبيخ، كأنه وبَّخهم على عبادة غير الله. أَإِفْكاً أي: أتأفِكون إِفْكاً وتعبُدون آلهةً سِوى الله؟! فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ إِذا لقِيتمُوه وقد عَبَدتُم غيره؟! كأنه قال: فما ظنُّكم أن يصنع بكم؟ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فيه قولان: أحدهما: أنه نظر في عِلم النجوم، وكان القومُ يتعاطَوْن عِلْم النُّجوم، فعاملهم من حيث هم، وأراهم أنِّي أَعلمُ من ذلك ما تعلَمونَ، لئلا يُنْكِروا عليه ذلك. قال ابن المسيّب: رأى نجماً طالعاً، فقال: إِنِّي مريض غداً. والثاني: أنه نظر إلى النجوم، لا في عِلْمها. فإن قيل: فما كان مقصوده؟ فالجواب أنه كان لهم عيد، فأراد التخلُّف عنهم لِيَكِيدَ أصنامَهم، فاعْتَلَّ بهذا القول. قوله تعالى: إِنِّي سَقِيمٌ من معاريض الكلام، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: سأَسْقُمُ، قاله الضحاك. قال ابن الأنباري: أَعْلَمَه الله عزّ وجلّ أنَّه يَمْتَحِنُهُ بالسقم إِذا طلع نجمٌ يعرفه، فلما رأى النَّجم، عَلِم أنه سيَسْقُم. والثاني: إِنِّي سقيم القلب عليكم إِذ تكهَّنتم بنجوم لا تضُرُّ ولا تَنْفَع، ذكره ابن الأنباري. والثالث: أنه سَقُمَ لِعِلَّةٍ عرضتْ له، حكاه الماوردي. وذكر السديّ أنه خرج معهم إلى يوم عيدهم، فلمّا كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إِني سقيم أشتكي رجلي، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي: مال إِليها- وكانوا قد جعلوا بين يديها طعاماً لتبارك فيه على زعمهم- فَقالَ إبراهيم استهزاءً بها أَلا تَأْكُلُونَ. وقوله تعالى: ضَرْباً بِالْيَمِينِ في اليمين ثلاثة أقوال: أحدها: أنها اليد اليمنى، قاله الضحاك. والثاني: بالقُوَّة والقُدرة، قاله السدي، والفراء. والثالث: باليمين التي سبقت منه، وهي قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «1» . حكاه الماوردي. قال الزجاج: «ضَرْباً» مصدر والمعنى: فمال على الأصنام يضربها ضَرْباً باليمين وإِنما قال: «عليهم» ، وهي أصنام، لأنهم جعلوها بمنزلة ما يُمَيِّز. فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «يَزِفُّونَ» بفتح الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ حمزة، والمفضَّل عن عاصم: «يُزِفُّونَ» برفع الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ ابن السّميفع وأبو المتوكل والضحاك: «يَزِفُونَ» بفتح الياء وكسر الزاء وتخفيف الفاء. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو نهيك: «يَزْفُونَ» بفتح الياء وسكون الزاي وتخفيف الفاء. قال الزجاج: أَعربُ القراءات فتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النَّعام، وهو ابتداء عَدْوِ النَّعام، يقال: زَفَّ النَّعام يَزِفُّ وأمَّا ضم الياء، فمعناه: يصيرون إِلى الزَّفيف، وأنشدوا: فأضحى حُصَيْنٌ قد أَذَلَّ وأَقْهَرَا «2» أي: صار إِلى القَهْر. وأمّا كَسْرُ الزّاي مع تخفيف الفاء، فهو من: وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى أَسْرَعَ يُسْرِع، ولم يَعْرِفه الكسائي ولا الفراء، وعَرَفه غيرهما. قال المفسِّرون: بلغهم ما صنع إبراهيم، فأسرعوا، فلمّا انتَهَوْا إِليه، قال لهم محتجّاً عليهم: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ بأيديكم وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ، قال ابن جرير: في «ما» وجهان «3» : أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر، فيكون المعنى: والله

_ (1) الأنبياء: 57. (2) هو عجز بيت للمخبّل السعدي كما في «اللسان» - قهر-. وصدره: تمنّى حصين أن يسود جذاعه. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 4/ 18: وكلا القولين متلازم، والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب «أفعال العباد» عن حذيفة مرفوعا: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته» .

[سورة الصافات (37) : الآيات 102 إلى 113]

خَلَقَكم وَعمَلَكم. والثاني: أن تكون بمعنى «الذي» ، فيكون المعنى: واللهُ خَلَقَكم وَخلَقَ الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام، وفي هذه الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه. فلمّا لَزِمَتْهم الحُجَّة قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً وقد شرحنا قصته في سورة الأنبياء «1» ، وبيَّنَّا معنى الجحيم في البقرة «2» ، والكّيْدُ الذي أرادوا به: إحراقه. ومعنى قوله تعالى: فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ أن إبراهيم علاهم بالحُجَّة حيث سلَّمه الله من كيدهم وحلَّ الهلاكُ بهم. وَقالَ يعني إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي في هذا الذَّهاب قولان: أحدهما: أنه ذاهب حقيقة، ثم في وقت قوله هذا قولان: أحدهما: أنه حين أراد هِجرة قومه فالمعنى: إنِّي ذاهب إلى حيث أمرني ربّي عزّ وجلّ سَيَهْدِينِ إلى حيث أمرني، وهو الشام، قاله الأكثرون. والثاني: حين أُلقي في النّار، قاله سليمان بن صُرَد فعلى هذا، في المعنى قولان: أحدهما: ذاهب إِلى الله بالموت، سيَهدينِ إلى الجنّة. والثاني: ذاهب إلى ما قضى به ربي سيَهدين إِلى الخَلاص من النّار. والقول الثاني: إِنِّي ذاهب إلى ربِّي بقلبي وعملي ونيَّتي، قاله قتادة. فلما قَدِم الأرض المقدَّسة، سأل ربَّه الولدَ فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي: ولداً صالحاً من الصَّالحينِ، فاجتزأ بما ذكر عمّا ترك، ومثله: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ «3» ، فاستجاب له، وهو قوله تعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وفيه قولان «4» : أحدهما: أنه إِسحاق. والثاني: أنه إِسماعيل. قال الزجاج. هذه البِشارة تَدُلُّ على أنه مبشَّر بابنٍ ذَكَر، وأنه يبقى حتى ينتهيَ في السنّ ويوصَف بالحلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 113] فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ المراد بالسّعي ها هنا: العمل، قاله ابن عباس. والثاني: أنه المشي، والمعنى: مشى مع أبيه، قاله قتاده. قال ابن قتيبة: بلغ أن ينصرف معه

_ (1) الأنبياء: 52- 74. (2) البقرة: 119. (3) يوسف: 20. (4) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 4/ 19: يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم- عليه السلام- أنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة هاجر من بين أظهرهم وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: أولادا مطيعين عوضا عن قومه وعشيرته الذين فارقهم. قال الله تعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام وهو أكبر من إسحاق باتّفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل نصّ كتابهم أن إسماعيل ولد لإبراهيم عليه السلام وعمره ست وثمانون سنة وولد إسحاق وعمر إبراهيم تسع وتسعون سنة. وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بكره.

ويُعِينَه. قال ابن السائب: كان ابن ثلاث عشرة سنة. والثالث: أن المراد بالسعي: العبادة، قاله ابن زيد فعلى هذا، يكون قد بلغ. قوله تعالى: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أكثر العلماء على أنه لم ير أنه ذبحه في المنام. وإنما المعنى أنه أُمِرََ في المنام بذبحه، ويدُل عليه قوله تعالى: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. وذهب بعضهم إلى أنه رأى أنه يعالج ذبحه، ولم يَرَ إِراقة الدَّم. قال قتادة: ورؤيا الأنبياء حَقٌّ، إِذا رأَوا شيئاً، فعلوه. وذكر السدي عن أشياخه أنه لمّا بشَّر جبريلُ سارة بالولد، قال إبراهيم: هو إِذاً لله ذبيح، فلمّا فَرَغ من بُنيان البيت، أُتي في المنام، فقيل له: أَوْف بنَذْرك. واختلفوا في الذَّبيح على قولين «1» : أحدهما: أنه إِسحاق، قاله عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والعبّاس بن عبد المطلب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأنس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبّه، ومسروق، وعبيد بن عمير، والقاسم بن أَبي بَزّة، ومقاتل بن سليمان، واختاره ابن جرير. وهؤلاء يقولون: كانت هذه القصة بالشام. وقيل: طويت له الأرضُ حتى حمله إلى المَنْحَر بمِنىً في ساعة. والثاني: أنه إسماعيل، قاله ابن عمر، وعبد الله بن سلام، والحسن البصري، وسعيد بن المسيّب، والشعبي، ومجاهد، ويوسف بن مهران، وأبو صالح، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن سابط. واختلفت الرواية عن ابن عباس، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق، وروى عنه عطاء، ومجاهد، والشعبي، وأبو الجوزاء، ويوسف بن مهران أنه إسماعيل، وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين. وعن سعيد بن جبير، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والسدي روايتان. وكذلك عن أحمد رضي الله عنه روايتان. ولكلِّ قومٍ حُجَّة ليس هذا موضعها، وأصحابنا ينصرون القول الأول.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 4/ 19- 21: نصّ في كتاب أهل الكتاب أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة: بكره، فأقحموا ها هنا كذبا وبهتانا «إسحاق» ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا «إسحاق» لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادوا ذلك وحرّفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى جنب مكة وهذا تأويل وتحريف باطل. فإنه لا يقال: وحيد إلا لمن ليس له غيره، وأيضا فإن أول ولد له معزّة ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقّي إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلّما من غير حجة. وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ وقال تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي: يولد له في حياتهما ولد يسمّى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل. ولا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير، لأن الله وعدهما بأنه سيعقب، ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا. وإسماعيل وصف ها هنا بالحلم، لأنه مناسب لهذا المقام. وقوله: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه. وقد كان إبراهيم عليه السلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فارن وينظر في أمرهما وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك. والله أعلم. والصحيح أنه إسماعيل، وهو المقطوع به اه.

الإشارة إلى قصة الذبح

الإشارة إلى قصّة الذّبح ذكر أهل السّير والتفسير «1» أن إِبراهيم لمَّا أراد ذبح ولده، قال له: انطلِق فنُقرِّب قرباناً إلى الله عزّ وجلّ، فأخذ سِكِّيناً وحَبْلاً، ثم انطلق، حتى إِذا ذهبا بين الجبال، قال له الغلام: يا أبتِ أين قُربانُك؟ قال: يا بُني إِنِّي رأيتُ في المنام أني أذبحُك، فقال له: اشْدُد رِباطي حتى لا أضطرب، واكْفُف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليك من دمي فتراه أُمِّي فتحزن، وأَسْرِع مَرَّ السِّكِّين على حَلْقِي ليكون أهون للموت عليَّ، فإذا أتيتَ أُمي فاقرأ عليها السلام منِّي فأقبل عليه إبراهيم يقبِّله ويبكي ويقول: نِعْمِ العونُ أنت يا بنيّ على أمر الله عزّ وجلّ، ثم إنه أَمَرَّ السِّكِّين على حَلْقه فلم يَحْكِ شيئاً. وقال مجاهد: لمّا أَمَرَّها على حلقه انقلبت، فقال: ما لك؟ قال: انقلبتْ، قال: اطْعَنْ بها طَعْناً. وقال السدي: ضرب اللهُ على حَلْقِِهِ صفيحة من نُحاس وهذا لا يُحتاج إِليه، بل منعُها بالقُدرة أَبلَغ. قالوا: فلمّا طَعَنَ بها، نَبَتْ، وعَلِم اللهُ منهما الصِّدق في التسليم، فنودي: يا إبراهيمُ قد صَدَّقْتَ الرُّؤيا، هذا فداءُ ابنك فنظر إِبراهيم، فإذا جبريل معه كبش أملح. قوله تعالى: فَانْظُرْ ماذا تَرى لَمْ يَقًل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله عزّ وجلّ، ولكن أراد أن يَنْظُر ما عنده من الرَّأي. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ماذا تُرِي» بضمّ التاء وكسر الراء فيها قولان: أحدهما: ماذا تُريني من صبرك أو جَزَعك، قاله الفراء. والثاني: ماذا تُبِين، قاله الزجاج. وقال غيره: ماذا تُشير. قوله تعالى: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ قال ابن عباس: افْعَلْ ما أُوحي إِليك من ذبحي سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على البلاء. قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما أي: استسلمَا لأمر الله عزّ وجلّ فأطاعا ورضيا. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والأعمش وابن أبي عبلة: «فلمّا سَلَّما» بتشديد اللام من غير همز قبل السين والمعنى: سَلَّما لأمر الله عزّ وجلّ. وفي جواب قوله: «فلمّا أَسلَما» قولان: أحدهما: أن جوابه: «وناديناه» ، والواو زائدة، قاله الفراء. والثاني: أن الجواب محذوف لأن في الكلام دليلاً عليه والمعنى: فلمّا فعل ذلك، سَعِدَ وأُجْزِلَ ثوابُه، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ قال ابن قتيبة: أي: صَرَعه على جبينه فصار أحد جبينيه على الأرض، وهما جبينان، والجبهة بينهما، وهي ما أصاب الأرضَ في السجود، والناس لا يكادون يفرِّقون بين الجبين والجبهة، فالجبهة مسجد الرجل الذي يصيبه نَدَبُ السُّجود، والجبينان يكتنفانها، من كل جانب جبين. قوله تعالى: وَنادَيْناهُ قال المفسرون: نودي من الجبل: يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وفيه قولان: أحدهما: قد عَمِلْتَ ما أَمَرْتُ، وذلك أنه قصد الذَّبح بما أمكنه، وطاوعه الابن بالتمكين من الذَّبح، إلّا أنّ الله تعالى صرف ذلك كما شاء، فصار كأنه قد ذَبَح وإِن لم يتحقَّق الذَّبح. والثاني: أنه رأى في المنام معالجة الذَّبح، ولم ير إراقة الدَّم، فلمّا فَعَلَ في اليقظة ما رأى في المنام، قيل له: «قد صدَّقْتََ الرُّؤيا» . وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، والجحدري: «قد صَدَقْتَ الرُّؤيا» بتخفيف الدال، وها هنا تم الكلام. ثم قال تعالى: إِنَّا كَذلِكَ أي: كما ذَكَرْنا من العفو من ذبح ولده

_ (1) هو موقوف على ابن عباس، انظر «تفسير البغوي» 4/ 33.

[سورة الصافات (37) : الآيات 114 إلى 132]

نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ فيه قولان: أحدهما: النِّعمة البيِّنة، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: الاختبار العظيم، قاله ابن زيد، وابن قتيبة. فعلى الأول، يكون قوله هذا إِشارة إلى العفو عن الَّذبح. وعلى الثاني، يكون إشارة إِلى امتحانه بذبح ولده. قوله تعالى: وَفَدَيْناهُ يعني الذَّبيح بِذِبْحٍ وهو بكسر الذال اسم ما ذُبِحَ، وبفتح الذال مصدر ذَبَحْتُ، قاله ابن قتيبة. ومعنى الآية: خلَّصْناه من الذَّبح بأن جعلنا الذّبح فداءً له. وفي هذا الذِّبح ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه كان كبشاً أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عاماً، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقال في رواية سعيد بن جبير: هو الكبش الذي قرَّبه ابنُ آدم فتُقُبِّل منه، كان في الجنة حتى فُدي به. والثاني: أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين، رواه أبو الطفيل عن ابن عباس. والثالث: أنه ما فُدي إِلاّ بتيس من الأَرْوَى، أهبط عليه من ثَبِير، قاله الحسن. وفي معنى عَظِيمٍ أربعة أقوال: أحدها: لأنه كان قد رعى في الجنّة، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. والثاني: لأنه ذُبح على دِين إبراهيم وسُنَّته، قاله الحسن. والثالث: لأنه مُتَقَبَّلٌ، قاله مجاهد. وقال أبو سليمان الدمشقي: لمّا قرَّبَه ابنُ آدم رُفِع حيّاً فرعى في الجنة ثم جُعل فداء للذّبيح، فقُبِل مرتين. والرابع: لأنه عظيم الشَّخص والبَرَكة، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ ... قد فسّرناه في هذه السّورة «2» . قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ من قال: إن إسحاق الذَّبيحُ، قال: بُشِّر إبراهيم بنبوَّة إسحاق، وأُثيب إسحاق بصبره النبوَّةَ، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة، وبه قال قتادة، والسدي. ومن قال: الذَّبيح إسماعيل، قال: بشَّر اللهُ إبراهيم بولد يكون نبيّاً بعد هذه القصة، جزاءً لطاعته وصبره، وهذا قول سعيد بن المسيب. قوله تعالى: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ يعني بكثرة ذُرِّيَّتهما، وهم الأسباط كلًّهم وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ أي: مطيع لله وَظالِمٌ وهو العاصي له. وقيل: المُحْسِنُ: المؤمِن، والظالم: الكافر. [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 132] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) قوله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أي: أنعمنا عليهما بالنبوّة. وفي الْكَرْبِ

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 4/ 22: والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فدي بكبش. اه. (2) الصافات: 78. [.....]

الإشارة إلى القصة

الْعَظِيمِ قولان: أحدهما: استعباد فرعون وبلاؤه، وهو معنى قول قتادة. والثاني: الغرق، قاله السدي. قوله تعالى: وَنَصَرْناهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى موسى وهارون وقومهما. والثاني: أنه يرجع إليهما فقط، فجُمعا، لأن العرب تذهب بالرئيس إلى الجمع، لجنوده وأتباعه، ذكرهما ابن جرير. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «1» ، إلى قوله: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فيه قولان: أحدهما: أنه نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، قاله الأكثرون. والثاني: أنه إِدريس، قاله ابن مسعود، وقتادة، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: «وإِن إِدريس» مكان «إِلياس» . قوله تعالى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أي: ألا تخافون الله فتوحِّدونه وتعبدونه؟! أَتَدْعُونَ بَعْلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى الرّبّ، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال الضحاك: كان ابن عباس قد أعياه هذا الحرف، فبينا هو جالس، إذ مَرَّ أعرابيّ قد ضَلَّت ناقتُه وهو يقول: من وجد ناقة أنا بعلُها؟ فتبعه الصّبيان يصيحون به: يا زوج النّاقة، يا زوج النّاقة، فدعاه ابن عباس فقال: ويحك، ما عنيتَ ببعلها؟ قال: أنا ربُّها، فقال ابن عباس: صدق الله: «أَتَدْعون بَعْلاً» : ربّاً. وقال قتادة: هذه لغة يمانية. والثاني: أنه اسم صنم كان لهم، قاله الضحاك، وابن زيد. وحكى ابن جرير أنه به سُمِّيت «بعلبكّ» . والثالث: أنها امرأه كانوا يعبدونها، حكاه محمد بن إِسحاق. قوله تعالى: اللَّهَ رَبَّكُمْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: «اللهُ ربُّكم» بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف ويعقوب: «الله» بالنصب. قوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ النارَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين لم يكذِّبوه، فإنهم لا يُحْضَرونَ النّار. الإشارة إلى القصة ذكر أهل العلم بالتفسير والسِّيَر أنه لما كَثُرت الأحداث بعد قبض حزقيل، وعُبِدت الأوثانُ، بَعَثَ اللهُ تعالى إِليهم إِلياس. قال ابن إِسحاق: وهو إلياس بن تشبي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، فجعل يدعوهم فلا يسمعون منه، فدعا عليهم بحبس المطر، فجُهدوا جَهداً شديداً، واستخفى إِلياس خوفاً منهم على نفسه. ثم إنه قال لهم يوماً: إِنكم قد هَلَكْتُم جَهْداً، وهَلَكَت البهائمُ والشجر بخطاياكم، فاخرُجوا بأصنامكم وادْعُوها، فإن استجابت لكم، فالأمر كما تقولون، وإن لم تفعل، عَلِمتم أنكم على باطل فنَزَعْتُم عنه، ودعوتُ الله ففرَّج عنكم، فقالوا: أنصفتَ، فخرجوا بأوثانهم، فدعوا فلم تستجب لهم، فعرفوا ضلالهم، فقالوا: ادْعُ اللهَ لنا، فدعا لهم فأرسل المطر وعاشت بلادهم، فلم يَنْزِعوا عمّا كانوا عليه، فدعا إلياس ربَّه أن يَقْبِضه إِليه ويًريحَه منهم، فقيل له: اخْرُج يومَ كذا إِلى مكان كذا، فما جاءك من شيء فاركبْه ولا تَهَبْهُ، فخرج فأقبل فَرَسٌ من نار، فوثب عليه، فانطلق به، وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذَّة المَطْعم والمَشْرَب، فطار في الملائكة، فكان إنسيّاً مَلَكيّاً، أرضيّاً سماويّاً «2» . قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ:

_ (1) الأنبياء: 48. (2) هذا من حماقات الإسرائيليين. وهو باطل.

[سورة الصافات (37) : الآيات 133 إلى 138]

«إِلياسينَ» موصولة مكسورة الألف ساكنة اللام، فجعلوها كلمة واحدة وقرأ الحسن مثلهم، إلاّ أنه فتح الهمزة، وقرأ نافع، وابن عامر، وعبد الوارث، ويعقوب إلاّ زيداً: «إِلْ ياسينَ» مقطوعة، فجعلها كلمتين. وفي قراءة الوصل قولان: أحدهما: أنه جَمْعٌ لهذا النبيّ وأمَّته المؤمنين، به، وكذلك يُجمع ما يُنْسَب إِلى الشيء بلفظ الشيء، فتقول: رأيت المهالبة، تريد: بني المهلَّب، والمسامعة، تريد: بني مسمع. والثاني: أنه اسم النبيّ وحده، وهو اسم عبرانيٌّ، والعجمي من الأسماء قد يفعل به هذا، كما يقال: ميكال وميكائيل، ذكر القولين الفراء والزجاج. فأمّا قراءة من قرأ: «إِلْ ياسينَ» مفصولة، ففيها قولان: أحدهما: أنهم آل هذا النبي المذكور، وهو يدخل فيهم، كقوله صلى الله عليه وسلّم: (1210) «اللهم صَلِّ على آل أَبي أَوفى» ، فهو داخل فيهم، لأنه هو المراد بالدعاء. والثاني: أنهم آل محمّد صلى الله عليه وسلّم قاله الكلبي. وكان عبد الله بن مسعود يقرأ: «سلامٌ على إِدْراسينَ» وقد بيَّنّا مذهبه في أن إلياس هو إدريس. فإن قيل: كيف قال: «إدراسين» وإنما الواحد إدريس، والمجموع إِدريسيُّ، لا إِدراسٌ ولا إِدراسيّ؟. فالجواب: أنه يجوز أن يكون لغة، كإبراهيم وإبراهام، ومثله: قدني من نصر الخُبَيْبَيْنِ قَدِي «1» وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو نهيك: «سلام على ياسين» بحذف الهمزة واللام. [سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138] وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) قوله تعالى: إِذْ نَجَّيْناهُ «إذ» ها هنا لا يتعلق بما قبله، لأنه لم يُرْسَل إِذ نُجِّيَ، ولكنه يتعلق بمحذوف، تقديره: واذكرُ يا محمّد إِذ نجَّيناه. وقد تقدم تفسير ما بعد هذا «2» إلى قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ هذا خطاب لأهل مكّة، كانوا إذا ذهبوا إلى الشّام وجاءوا، مَرُّوا على قرى قوم لوط صباحاً ومساءً، أَفَلا تَعْقِلُونَ فتعتبرون؟!

_ صحيح. أخرجه البخاري 1497 و 4166 ومسلم 1078 وأبو داود 1590 والنسائي 5/ 31 وأبو نعيم في «الحلية» 5/ 96 والطيالسي 819 والبيهقي في «السنن» 2/ 152 و 4/ 157 وابن حبان 917 من طرق عن شعبة، به. وكلهم من حديث ابن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقة، قال: «اللهم صلّ عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» . لفظ البخاري في الرواية الثانية.

[سورة الصافات (37) : الآيات 139 إلى 148]

[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) قوله تعالى: إِذْ أَبَقَ قال المبرّد: تأويل «أبَقَ» : تباعد وقال أبو عبيدة: فَزِعَ وقال الزجّاج: هرب وقال بعض أهل المعاني: خرج ولم يؤذَن له، فكان بذلك كالهارب من مولاه. قال الزجاج: والفُلْك: السفينة، والمشحون: المملوء، وساهم بمعنى قارع، مِنَ الْمُدْحَضِينَ أي: المغلوبِين قال ابن قتيبة: يقال: أَدْحَضَ اللهُ حُجَّتَهُ، فَدَحَضَتْ، أي: أزالها فزالت، وأصل الدَّحْض: الزَّلَق. الإِشارة إِلى قصته قد شرحنا بعض قصته في آخر يونس وفي الأنبياء «1» على قدر ما تحتمله الآيات، ونحن نذكر ها هنا ما تحتمله. قال عبد الله بن مسعود: لمّا وعد يونس قومه العذاب بعد ثلاث، جأروا إلى الله عزّ وجلّ واستغفروا، فكفّ عنهم العذاب، فانطلق مغاضباً حتى انتهى إلى قوم في سفينة، فعرفوه فحملوه، فلمّا رَكِبَ السفينةَ وقَفَتْ، فقال: ما لسفينتكم؟ قالوا: لا ندري، قال: لكنِّي أدري، فيها عبد آبق من ربِّه، وإِنها والله لا تسير حتى تُلْقُوه، فقالوا: أمّا أنت يا نبيّ الله فو الله لا نُلْقِيك، قال: فاقترِعوا، فمن قرع فَلْيَقَع، فاقترَعوا، فقرع يونس، فأبَوا أن يَُمكِّنوه من الوُقوع، فعادوا إلى القُرعة حتى قرع يونس ثلاث مرّات. وقال طاوس: إن صاحب السفينة هو الذي قال: إنَّما يمنعُها أن تسير أنّ فيكم رجلاً مشؤوما فاقترِعوا لنَلقيَ أحدنا، فاقترعوا فقرع يونس ثلاث مرات. قال المفسرون: وكَّل اللهُ به حوتاً، فلمّا ألقى نفسه في الماء التقمه، وأمر أن لا يضُرَّه ولا يَكْلِمَه، وسارت السفينة حينئذ. ومعنى التقمه: ابتلعه. وَهُوَ مُلِيمٌ قال ابن قتيبة: أي: مُذْنِبٌ، يقال: ألامَ الرجلُ: إِذا أتى ذَنْباًَ يُلامُ عليه، قال الشاعر: ومَنْ يَخْذُلْ أَخَاهُ فَقَدْ ألاَمَا «2» قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ فيه ثلاثة أقوال «3» : أحدها: مِنَ المُصَليِّن، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: من العابدِين، قاله مجاهد، ووهب بن منبه. والثالث: قول لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «4» ، قاله الحسن. وروى عمران القطّان عن الحسن قال: والله ما كانت إلاّ صلاة أَحدثَها في بطن الحوت فعلى هذا القول، يكون تسبيحه في بطن الحوت.

_ (1) الأنبياء: 86. (2) هو عجز بيت لأم عمير بن سلمى الحنفي كما في «اللسان» - لوم-. وصدره: تعدّ معاذرا لا عذر فيها. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 27: لولا ما تقدّم له من العمل في الرخاء وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك. واختاره ابن جرير. (4) الأنبياء: 87.

وجمهور العلماء على أنه أراد: لولا ما تقدَّم له قبل التقام الحوت إيّاه من التسبيح، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال قتادة: لصار بطن الحوت له قبراً إِلى يوم القيامة، ولكنه كان كثير الصلاة في الرّخاء، فنجاه الله تعالى بذلك. وفي قَدْر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال «1» : أحدها: أربعون يوماً، قاله أنس بن مالك، وكعب، وأبو مالك، وابن جريج، والسدي. والثاني: سبعة أيام، قاله سعيد بن جبير، وعطاء. والثالث: ثلاثة أيام، قاله مجاهد، وقتادة. والرابع: عشرون يوماً، قاله الضحاك. والخامس: بعض يوم، التقمة ضُحىً، ونبذه قبل غروب الشمس، قاله الشعبي. قوله تعالى: فَنَبَذْناهُ قال ابن قتيبة: أي ألْقَيْناه بِالْعَراءِ وهي الأرضُ التي لا يتوارى فيها بشجر ولا غيره، فكأنّه مِنْ عَرِيَ الشَّيءُ. قوله تعالى: وَهُوَ سَقِيمٌ أي: مريض قال ابن مسعود: كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس له ريش. وقال سعيد بن جبير: أوحى الله تعالى إلى الحوت أن ألْقهِ في البَرّ، فألقاه لا شَعْر عليه ولا جِلْد ولا ظُفر. قوله تعالى: وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ قال ابن عباس: هو القرع، وقد قال أميَّة بن أبي الصلت قبل الإِسلام: فأنْبَتَ يَقْطِيناً عَلَيْهِ بِرَحْمَةٍ ... مِنَ اللهِ لَوْلا اللهُ أُلْفِيَ ضَاحِيا قال الزجاج: كل شجرة لا تنبت على ساق وإنما تمتدُّ على وجه الأرض نحو القرع والبطيخ والحنظل، فهي يقطين، واشتقاقه من: قَطَنَ بالمكان: إذا أقام، فهذا الشجر ورقه كلُّه على وجه الأرض، فلذلك قيل له: يقطين. قال ابن مسعود: كان يستظلُّ بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها، فأوحى الله إليه: أتبكي على شجرة أن يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم؟ وقال يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط: قيَّض الله له أروية من الوحش تروح عليه بُكرة وعشيّاً فيشرب من لبنها حتى نبت لحمه. فإن قيل: ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟ فالجواب: أنه خرج كالفرخ على ما وصفنا، وجلده قد ذاب، فأدنى شيء يَمرُّ به يؤذيه، وفي ورق اليقطين خاصيّة، وهي أنه إِذا تُرك على شيء، لم يَقربه ذباب، فأنبته الله عليه ليغطيَه ورقُها ويمنع الذبابَ ريحه أن يسقط عليه فيؤذيَه. قوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ اختلفوا، هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إيّاه، أم بعد ذلك؟ على قولين: أحدهما: أنها كانت بعد نبذ الحوت إيّاه، على ما ذكرنا في سورة يونس «2» ، وهو مروي عن ابن عباس. والثاني: أنها كانت قبل التقام الحوت له، وهو قول الأكثرين، منهم الحسن، ومجاهد، وهو الأصح، والمعنى: وكنَّا أرسلناه إِلى مائة ألف، فلمّا خرج من بطن الحوت، أُمِر أن يرجع إِلى قومه الذين أُرسِل إِليهم. وفي قوله: أَوْ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «بل» ، قاله ابن عباس، والفراء. والثاني: أنها بمعنى الواو، قاله ابن قتيبة، وقد قرأ أبيّ بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني: «ويزيدون» من غير ألف. والثالث: أنها على أصلها، والمعنى: أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون. وفي زيادتهم أربعة أقوال:

_ (1) هذا الخلاف ليس بشيء لأن مرجعه كتب الإسرائيليات، والله أعلم بمقدار ذلك. (2) يونس: 98.

[سورة الصافات (37) : الآيات 149 إلى 163]

(1211) أحدها: أنهم كانوا مائة ألف يزيدون عشرين ألفاً، رواه أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والثاني: أنهم كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا. والثالث: مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفاً، رويا عن ابن عباس. والرابع: أنهم كانوا يزيدون سبعين ألفا، قاله سعيد بن جبير، ونوف. قوله تعالى: فَآمَنُوا في وقت إِيمانهم قولان: أحدهما: عند معاينة العذاب. والثاني: حين أُرسل إليهم يونس فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ إِلى منتهى آجالهم. [سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 163] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أي: سل أهل مكة سؤال توبيخ وتقرير، لأنهم زعموا أن الملائكة بنات الله وَهُمْ شاهِدُونَ أي: حاضرون. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي: كذبهم لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ حين زعموا أن الملائكة بناته. قوله تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ قال الفراء: هذا استفهام فيه توبيخ لهم، وقد تُطرح ألف الاستفهام من التّوبيخ، ومثله: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ و «أذهبتم» يُستفهم بها ولا يُستفهم، ومعناهما واحد. وقرأ أبو هريرة وابن المسيّب والزهري وابن جماز عن نافع، وأبو جعفر، وشيبة: «لكاذبون اصْطفى» بالوصل غير مهموز ولا ممدود وقال أبو علي: وهو على وجه الخير، كأنه قال: اصطفى البنات على البنين فيما يقولون كقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «1» . قوله تعالى: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ لله بالبنات ولأنفُسكم بالبنين؟! أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي: حُجَّة بيِّنة على ما تقولون، فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الذي فيه حُجَّتكم. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا: هو وإِبليس أخَوان، رواه العوفي عن ابن عباس قال الماوردي: وهو قول الزنادقة والذين يقولون: الخير مِنَ الله، والشَّرُّ من إِبليس. والثاني: أن كفار قريش قالوا: الملائكة بنات الله، والجِنَّة صِنف من الملائكة يقال لهم: الجِنَّة، قاله مجاهد. والثالث: أن اليهود قالت: إنّ الله تعالى

_ ضعيف جدا. أخرجه الترمذي 3229 من طريق الوليد عن زهير به. وأخرجه الطبري 29635 من طريق عمرو بن أبي سلمة قال: سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية قال: حدثني أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال: يزيدون عشرين ألفا. وإسناده ضعيف جدا، وله علتان: فيه راو لم يسم، فهذه علة، والثانية زهير روى عنه أهل الشام مناكير كثيرة، وهذا الحديث من رواية أهل الشام عنه، وحسبه الوقف، والله أعلم.

[سورة الصافات (37) : الآيات 164 إلى 182]

تزوّج إِلى الجن فخرجت من بينهم الملائكة، قاله قتادة، وابن السائب. فخرج في معنى الجِنَّة قولان: أحدهما: أنهم الملائكة. والثاني: الجن. فعلى الأول، يكون معنى قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أي: عَلِمَت الملائكةُ إِنَّهُمْ أي: إِن هؤلاء المشركين لَمُحْضَرُونَ النّار. وعلى الثاني: «ولقد عَلِمت الجِنَّةُ إنهم» أي: إِن الجن أنفسها «لَمُحْضَرونَ» الحساب. قوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الموحِّدين. وفيما استُثنوا منه قولان: أحدهما: أنهم استُثنوا من حضور النار، قاله مقاتل. والثاني: ممّا يصف أولئك، وهو معنى قول ابن السائب. قوله تعالى: فَإِنَّكُمْ يعني المشركين وَما تَعْبُدُونَ من دون الله، ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي: على ما تعبُدونَ بِفاتِنِينَ أي: بمُضِلِّينَ أحداً، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي: مَنْ سبق له في علم الله أنه يدخل النّار. [سورة الصافات (37) : الآيات 164 الى 182] وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) ثم أخبر عن الملائكة بقوله تعالى: وَما مِنَّا والمعنى: ما مِنّا مَلَك إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي: مكان في السموات مخصوص يعبُد اللهَ فيه وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ قال قتادة: صفوف في السماء. وقال السدي: هو الصلاة. وقال ابن السائب: صفوفهم في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض. قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ فيه قولان: أحدهما: المصلّون. والثاني: المنزّهون لله عزّ وجلّ عن السُّوءِ. وكان عمر بن الخطاب إذا أُقيمت الصلاة أقبل على الناس بوجهه وقال: يا أيها الناس استوُوا، فإنما يريد اللهُ بكم هَدْي الملائكة، وإِنّا لَنَحْنُ الصّافُّون، وإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحون. ثم عاد إلى الإِخبار عن المشركين، فقال: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ اللام في «لَيَقُولونَ» لام توكيد والمعنى: وقد كان كفار قريش يقولون قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلّم: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أي: كتاباً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: مثل كتب الأولين، وهم اليهود والنصارى، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: لأَخلصْنا العبادة لله عزّ وجلّ. فَكَفَرُوا بِهِ فيه اختصار تقديره: فلمّا آتاهم ما طلبوا كفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم، وهذا تهديد لهم. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا أي: تقدَّم وَعْدُنا للمرسَلِين بنصرهم، والكلمة قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ بالحجّة، إِنَّ جُنْدَنا يعني حزبنا المؤمنين هُمُ الْغالِبُونَ بالحُجَّة أيضاً والظَّفَر. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: أعرِض عن كفار مكة حَتَّى حِينٍ أي: حتى تنقضيَ مُدَّةُ إِمهالهم. وقال مجاهد: حتى نأمرَك بالقتال فعلى هذا، الآيةُ محْكَمة. وقال في رواية: حتى

_ (1) المجادلة: 21.

الموت، وكذلك قال قتادة. وقال ابن زيد: حتى القيامة فعلى هذا، يتطرَّق نسخُها. وقال مقاتل بن حيّان: نسختها آية السّيف. قوله تعالى: وَأَبْصِرْهُمْ أي: انظُر إِليهم إِذا نزل بهم العذاب. قال مقاتل بن سليمان، هو العذاب ببدر وقيل: أَبْصِر حالَهم بقلبك فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما اْنكروا، وكانوا يستعجلون بالعذاب تكذيباً به، فقيل: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ. فَإِذا نَزَلَ يعني العذاب. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر: «فإذا نُزِّل» برفع النون وكسر الزاي وتشديدها بِساحَتِهِمْ أي: بفِنائهم وناحيتهم. والساحة: فِناء الدّار. قال الفراء: العرب تكتفي بالساحة والعَقْوة من القوم، فيقولون: نزل بك العذاب، وبساحتك. قال الزجاج: فكان عذابُ هؤلاء القتل فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي: بِئْسَ صباحُ الذين أًنذروا بالعذاب. ثم كرَّر ما تقدم توكيداً لوعده بالعذاب، فقال: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ الآيتين. ثم نزَّه نفسَهُ عن قولهم بقوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ قال مقاتل: يعني عِزَّةَ مَنْ يتعزَّز من ملوك الدنيا. قوله تعالى: عَمَّا يَصِفُونَ أي: من اتِّخاذ النساء والأولاد. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ فيه وجهان: أحدهما: تسليمُه عليهم إكراماً لهم. والثاني: إِخباره بسلامتهم. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاك المشركين ونصرة الأنبياء والمؤمنين. والله أعلم بالصّواب.

سورة ص

سورة ص ويقال لها: سورة داود، وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم. (1212) فأمّا سبب نزولها: فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قريشا شكوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: «يا عمّ، إنما أريد منهم كلمة تذلّ لهم بها العرب وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم» ، قال: كلمة؟ قال: «كلمة واحدة» ، قال: ما هي؟ قال: «لا إله إلّا الله» ، فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا، فنزلت فيهم: ص وَالْقُرْآنِ إلى قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) واختلفوا في معنى «ص» على سبعة أقوال «1» :. أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه بمعنى: صَدَقَ محمدٌ صلى الله عليه وسلّم، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: صَدَقَ اللهُ، قاله الضحاك، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: معناه: صادق فيما وَعََدَ. وقال الزجاج: معناه: الصادقُ اللهُ تعالى. والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، أَقسَمَ اللهُ به، قاله قتادة. والخامس: أنه اسم حَيَّة رأسُها تحت العرش وذَنَبُها تحت الأرض السُّفلى، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وقال: أظنه عن عكرمة. والسادس: أنه بمعنى: حادِثِ القرآن، أي: انظُر فيه، قاله الحسن، وهذا على قراءة من كسروا، منهم ابن عباس، والحسن، وابن أبي عبلة، قال ابن جرير: فيكون المعنى: صاد

_ حديث حسن بطرقه وشواهده. أخرجه أحمد 1/ 227 وأبو يعلى 2583 والترمذي 3232 والنسائي في «التفسير» 456 والحاكم 2/ 432 والبيهقي 9/ 188 والواحدي في «أسباب النزول» 722 عن ابن عباس به، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، مع أن فيه يحيى بن عمارة، وهو مقبول. وتوبع في رواية ثانية للنسائي 457 وأحمد 2/ 362. وفيه أيضا عباد بن جعفر، وهو مجهول. وورد من وجه ثالث، أخرجه الحاكم 2/ 432 وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وهو حسن لأجل ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث.

بِعَمَلِكَ القرآن، أي: عارِضْه. وقيل: اعْرَضْه على عملك، فانظُر أين هو منه. والسابع: أنه بمعنى: صادَ محمدٌ قلوبَ الخَلْق واستمالها حتى آمَنوا به وأَحَبُّوه، حكاه الثعلبي، وهذا على قراءة من فتح، وهي قراءة أبي رجاء، وأبي الجوزاء، وحميد، ومحبوب عن أبي عمرو. قال الزجاج: والقراءة «صادْ» بتسكين الدال، لأنها من حروف التَّهجِّي. وقد قُرئتْ بالفتح وبالكسر، فمن فتحها، فعلى ضربين: أحدهما: لالتقاء الساكنين. والثاني: على معنى: أتل «صاد» ، وتكون صاد اسما للسّورة لا ينصرف ومن كسر، فعلى ضربين: أحدهما: لالتقاء الساكنين أيضاً. والثاني: على معنى: صادِ القرآن بعملك، من قولك: صَادَى يُصَادِي: إِذا قابَل وعادَل، يقال: صادَيْتُه: إِذا قابَلْته. قوله تعالى: ذِي الذِّكْرِ في المراد بالذِّكْر ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه الشَّرَف، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي. والثاني: البيان، قاله قتادة. والثالث: التذكير، قاله الضحاك. فإن قيل: أين جواب القسم بقوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ؟ فعنه خمسة أجوبة: أحدها: أن «ص» جواب لقوله: «والقرآن» ، ف «ص» في معناها، كقولك: وَجَبَ واللهِ، نَزَلَ واللهِ، حَقٌّ واللهِ، قاله الفراء، وثعلب. والثاني: أنّ جواب «ص» قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ومعناه: لَكَمْ، فلمّا طال الكلام، حُذفت اللامُ، ومثله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... قَدْ أَفْلَحَ «2» ، فإن المعنى: لقد أَفْلَحَ، غير أنه لمّا اعترض بينهما كلام، تبعه قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ، حكاه الفراء وثعلب أيضاً. والثالث: أنه قوله تعالى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ «3» ، حكاه الأخفش. والرابع: أنه قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ «4» قاله الكسائي، وقال الفراء: لا نجده مستقيماً في العربية، لتأخّره جدّا عن قوله تعالى: وَالْقُرْآنِ. والخامس: أن جوابه محذوف تقديره: والقرآنِ ذي الذِّكْر ما الأَمْرُ كما يقول الكُفَّار، ويدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ، ذكره جماعة من المفسرين، وإِلى نحوه ذهب قتادة. والعِزَّةُ: الحَمِيَّةُ والتكبُّر عن الحَقّ. وقرأ عمرو بن العاص وأبو رزين وابن يعمر وعاصم الجحدري ومحبوب عن أبي عمرو: «في غِرَّةٍ» بغين معجمة وراء غير معجمة. والشِّقاق: الخِلاف والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد سبق بيان الكلمتين مشروحا «5» . ثم خوَّفهم بقوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعنى الأُمم الخالية فَنادَوْا عند وقوع الهلاك بهم. وفي هذا النداء قولان: أحدهما: أنه الدُّعاء. والثاني: الاستغاثة. قوله تعالى «6» : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ وقرأ الضحاك، وأبو المتوكّل، وعاصم الجحدري، وابن

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 546: الصواب قول من قال: معناه: ذي التذكير لكم، لأن الله أتبع ذلك قولُه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ فكان معلوما بذلك أنه إنما أخبر عن القرآن أنه أنزله ذكرا لعباده ذكرهم به، وأن الكفار من الإيمان به في عزة وشقاق. [.....] (2) الشمس: 1، 9. (3) ص: 14. (4) ص: 64. (5) البقرة: 206- 138. (6) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 33: في قوله تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ وهذه الكلمة وهي «لات» هي «لا» التي للنفي، زيدت معها التاء، كما تزاد في ثمّ فيقولون: «ثمت» ، و «رب» فيقولون: «ربت» وهي مفصولة، والوقف عليها، ومنهم من حكى عن المصحف الإمام فيما ذكره ابن جرير أنها متصلة بحين: «ولا تحين مناص» والمشهور الأول. ثم قرأ الجمهور بنصب «حين» تقديره: وليس الحين حين مناص. ومنهم من جوز النصب بها، وأهل اللغة يقولون: النّوص: التأخر، والبوص: التقدم. ولهذا قال تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ، أي: ليس الحين حين فرار ولا ذهاب اه.

[سورة ص (38) : الآيات 4 إلى 11]

يعمر: «ولاتَ حينُ» بفتح التاء ورفع النون. قال ابن عباس: ليس حين يروه فِرار. وقال عطاء: في لغة أهل اليمن «لاتَ» بمعنى «ليس» . وقال وهب بن منبه: هي بالسّريانيّة. وقال الفرّاء: «لات» بمعنى «ليس» ، فالمعنى: ليس بحينِ فِرار. ومن القرّاء من يَخْفضُ «لاتِ» ، والوجه النَّصْب، لأنها في معنى «ليس» أنشدني المفضَّل: تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لاتَ حِينا ... وأضْحَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ القَرِينا قال ابن الأنباري: كان الفراء والكسائي والخليل وسيبويه والأخفش وأبو عبيدة يذهبون إلى أن التاء في قوله تعالى: «ولاتَ» منقطعة من «حين» ، قال: وقال أبو عبيدة: الوقف عندي على هذا الحرف «ولا» ، والابتداء «تحين» لثلاث حُجج: إِحداهن: أن تفسير ابن عباس يشهد لها، لأنه قال: ليس حِينَ يَرَوْه فِرار فقد عُلِمَ أنّ «ليس» هي أخت «لا» وبمعناها. والحُجة الثانية: أنّا لا نَجِدُ في شيء من كلام العرب «ولات» ، إنما المعروفة «لا» . والحجة الثالثة: أن هذه التاء، إنما وجدناها تلحق مع «حين» ومع «الآن» ومع ال «أوان» ، فيقولون: كان هذا تحين كان ذلك، وكذلك: «تأوان» ، ويقال: اذهب تَلانَ، ومنه قول أبي وجزة السعدي: العَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ ... والمَطْعِمُونَ زَمَانَ مَا مِنْ مُطْعِمِ وذكر ابن قتيبة عن ابن الأعرابي أن معنى هذا البيت: «العاطفونه» بالهاء، ثم تبتدئ: «حين ما من عاطِفٍ» قال ابن الأنباري: وهذا غلط، لأن الهاء إنما تُقْحَم على النُّون في مواضع القَطْعُ والسُّكون، فأمّا مع الاتصال، فإنه غير موجود، وقال عليّ بن أحمد النيسابوري: النحويُّون يقولون في قوله تعالى: «ولاتَ» : هي «لا» زيدت فيها التاء كما قالوا: ثُمَّ وثُمَّتْ، ورُبَّ ورُبَّتْ، وأصلها هاءٌ وُصِلَتْ ب «لا» ، فقالوا: «لاه» فلمّا وَصَلُوها، جعلوها تاءً والوقف عليها بالتاء عند الزجاج وأبي عليّ، وعند الكسائي بالهاء، وعند أبي عبيد الوقف على «لا» . فأما المَناص، فهو الفرار. قال الفراء: النَّوْص في كلام العرب: التأخُّر، والبَوْصُ: التقدّم، قال إمرؤ القَيْس: أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى إِذْ نأَتْكَ تَنُوصُ ... فتَقْصُرُ عَنْها خطوة وتبوص وقال أبو عبيدة: المناص: مصدر ناص ينوص، وهو المنجى والفوز. [سورة ص (38) : الآيات 4 الى 11] وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)

قوله تعالى: وَعَجِبُوا يعني الكفار أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعني رسولاً من أَنْفُسهم يُنْذِرُهم النَّارَ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً لأنه دعاهم إلى الله وحده وأبطل عبادة آلهتهم. (1213) وهذا قولهم لمّا اجتمعوا عند أبي طالب، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «أتُعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، وهي «لا إِله إِلا الله» ، فقاموا يقولون: «أَجَعَلَ الآلهةَ إِلهاً واحداً» ، ونزلت هذه الآية فيهم. إِنَّ هذا الذي يقول محمد من أن الآلهة إِله واحد لَشَيْءٌ عُجابٌ أي: لأمرٌ عَجَبٌ. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن السميفع: «عُجّابٌ» بتشديد الجيم. قال اللغويون: العجاب والعجّاب والعجيب بمعنى واحد، كما يقال: كَبِيرٌ وكُبَارٌ وكُبَّارٌ، وكَرِيمٌ وكُرامٌ وكُرَّامٌ، وطَوِيلٌ وطوال وطوّال، وأنشد الفرّاء: جاءوا بصيد عَجَبٍ مِنَ العَجَبْ ... أُزَيْرِقِ العينينِ طُوَّالِ الذَّنَبْ قال قتادة: عجب المشركون أن دُعي اللهُ وَحْدَه وقالوا: أَيَسْمَعُ لِحاجاتنا جميعاً إِلهٌ واحد! قوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ قال المفسرون: لمّا اجتمع أشراف قريش عند أبي طالب وشَكَوا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ما سبق بيانه، نفروا من قول: «لا إِله إِلا الله» ، وخرجوا من عند أبي طالب، فذلك قوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ. والانطلاق: الذّّهَابُ بسهولة، ومنه طَلاَقَةُ الوَجْه. والملأُ: أشراف قريش. فخرجوا يقول بعضهم لبعض: امْشُوا. وأَنِ بمعنى «أي» فالمعنى: أي: امْشُوا. قال الزجاج: ويجوز أن يكون المعنى: انْطَلِقوا بأن امْشُوا، أي: انْطَلَقوا بهذا القول. وقال بعضهم: المعنى: انْطَلَقوا يقولون: امْشُوا إِلى أبي طالب فاشْكُوا إليه ابنَ أخيه، وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي: اثبُتوا على عبادتها إِنَّ هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد لَشَيْءٌ يُرادُ أي: لأمرٌ يُرادُ بِنَا. ما سَمِعْنا بِهذا الذي جاء به محمدٌ من التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: النصرانية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وإِبراهيم بن المهاجر عن مجاهد، وبه قال محمد بن كعب القرظي، ومقاتل. والثاني: أنها مِلَّة قريش، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة. والثالث: اليهودية والنصرانية، قاله الفراء، والزجاج والمعنى أن اليهود أشركت بعُزَير، والنصارى، قالت: ثالث ثلاثة، فلهذا أنْكَرَتِ التوحيدَ. إِنَّ هذا الذي جاء به محمّد صلى الله عليه وسلّم إِلَّا اخْتِلاقٌ أي: كذب. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ يعنون القرآن. «عليه» يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، مِنْ بَيْنِنا أي: كيف خُصَّ بهذا دونَنَا وليس بأعلانا نَسَباَ ولا أعظمَنا شَرَفاَ؟! قال الله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي: من القرآن والمعنى أنهم ليسوا على يقين ممّا يقولون، إِنما هم شاكُّون بَلْ لَمَّا قال مقاتل: «لمّا» بمعنى «لم» كقوله تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ. وقال غيره: هذا تهديد لهم والمعنى أنه لو نزل بهم العذاب، علموا أن ما قاله محمّد حقّ. وأثبت ياء عَذابِ في الحالين يعقوب. قال الزجاج: ولما دَلَّ قولُهم: «أَأُنْزِلَ عليه الذِّكْرُ» على حسدهم له، أعلم الله عزّ وجلّ أنّ الملك

_ هو الحديث المتقدم 1212.

[سورة ص (38) : الآيات 12 إلى 15]

والرِّسالة إِليه، فقال: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ؟! قال المفسرون: ومعنى الآية: أبأيديهم مفاتيحُ النُّبوَّة فيضعونها حيث شاؤوا؟! والمعنى: ليست بأيديهم، ولا مُلْكُ السموات والأرض لهم، فإن ادّعَوْا شيئاً من ذلك فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ قال سعيد بن جبير: أي في أبواب السماء. وقال الزجاج: فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء. قوله تعالى: جُنْدٌ أي: هُمْ جُنْدٌ. والجُند: الأَتباع فكأنه قال: هُمْ أَتباعٌ مقلّدون ليس فيهم عالم راشد. وما زائدة، وهُنالِكَ إِشارة إِلى بدر. والأحزاب: جميع مَنْ تقدَّمهم من الكفّار الذي تحزَّبوا على الأنبياء. قال قتادة: أخبر اللهُ نبيَّه وهو بمكة أنه سيَهْزِمُ جُند المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر. [سورة ص (38) : الآيات 12 الى 15] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ قال أبو عبيدة: قَوْمٌ من العرب يؤنِّثون «القوم» ، وقوم يذكِّرون، فإن احتُجَّ عليهم بهذه الآية، قالوا: وقع المعنى على العشيرة، واحتَجُّوا بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ «1» ، قالوا: والمُضْمَر مذكَّر. قوله تعالى: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ فيه ستة أقوال «2» : أحدها: أنه كان يعذِّب الناس بأربعة أوتاد يَشُدُّهم فيها، ثُمَّ يرفع صخرة فتُلقى على الإِنسان فتَشْدَخُه، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وكذلك قال الحسن، ومجاهد: كان يعذِّب الناسَ بأوتاد يُوتِدُها في أيديهم وأرجُلهم. والثاني: أنه ذو البِناء المُحْكَم، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضحاك، والقرظي، واختاره ابن قتيبة، قال: والعرب تقول: هُمْ في عزٍّ ثابتِ الأوتاد، ومُلكٍ ثابتِ الأوتاد، يريدون أنه دائم شديد، وأصل هذا، أن البيت من بيوتهم يثبتُ بأوتاد، قال الأسود بن يعفر: في ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتادِ «3» والثالث: أن المراد بالأوتاد: الجنودُ، رواه عطية عن ابن عباس، وذلك أنهم كانوا يَشُدُّونَ مُلكه ويُقَوُّون أمره كما يقوِّي الوَتِدُ الشيءَ. والرابع: أنه كان يبني مَناراً يذبح عليها الناس. والخامس: أنه كان له أربع أسطوانات، فيأخذ الرَّجُلَ فيمُدُّ كلَّ قائمة إِلى أُسْطوانة فيعذِّبه، روي القولان عن سعيد بن جبير. والسادس: أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يُلعَب له عليها، قاله عطاء، وقتادة. ولمّا ذكر المكذّبين، قال: أُولئِكَ الْأَحْزابُ فأعَلمنا أن مشركي قريش من هؤلاء «4» ، وقد عذّبوا

_ (1) عبس: 11. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 556: وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك الأوتاد، إما لتعذيب الناس، وإما للعب كان يلعب له بها، وذلك أن ذلك هو المعروف من معنى الأوتاد. (3) هو عجز بيت وصدره: ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة. (4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 557: وقوله تعالى: أُولئِكَ الْأَحْزابُ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الجماعات المجتمعة، والأحزاب المتحزبة على معاصي الله والكفر به، الذين منهم يا محمد مشركو قومك وهم مسلوك بهم سبيلهم، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ يقول: ما كل هؤلاء الأمم إلا كذب لرسل الله فحق عليهم العذاب. وقال ابن كثير رحمه الله: فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر، لأن الله تعالى جعل علة هلاكهم هو تكذيبهم بالرسل.

[سورة ص (38) : الآيات 16 إلى 20]

وأهلكوا. فَحَقَّ عِقابِ أثبت الياء فيها في الحالين يعقوب. وَما يَنْظُرُ أي: وما يَنتظر هؤُلاءِ يعني كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وفيها قولان: أحدهما: أنها النفخة الأولى، قاله مقاتل. والثاني: النفخة الأخيرة، قاله ابن السائب. وفي الفَواق قراءتان. قرأ حمزة، وخلف، والكسائي: بضم الفاء. وقرأ الباقون: بفتحها. وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد، وهو معنى قول الفراء، وابن قتيبة، والزجاج. قال الفراء: والمعنى: ما لها من راحة ولا إِفاقة، وأصله من الإِفاقة في الرضاع إذا ارتضعت البهيمة أُمَّها ثم تركتْها حتى تنزل شيئاً من اللَّبَن، فتلك الإفاقة. (1214) وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «العِيادةُ قَدْرُ فُواق ناقة» . ومن يفتح الفاء، فهي لغة جيدة عالية. وقال ابن قتيبة: الفُواق والفَواق واحد، وهو أن تُحْلَبَ النّاقةُ وتُتركَ ساعةً حتى تُنزل شيئاً من اللَّبَن، ثم تُحْلَب، فما بين الحَلْبتين فواق. فاستعير الفواق في موضع المكث والانتظار. وقال الزجاج: الفُواق: ما بين حلبتَي النّاقة، وهو مشتق من الرُّجوع، لأنه يَعُودُ اللَّبَن إلى الضّرع بين الحَلْبتين، يقال: أفاق من مرضه، أي: رَجَع إِلى الصِّحَّة. والثاني: أن من فتحها، أراد: ما لها مِنْ راحة. ومن ضمَّها، أراد: فُواق الناقة، قاله أبو عبيدة. وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال «1» : أحدها: ما لها من رجعة، ثم فيه قولان: أحدهما: ما لها من ترداد، قاله ابن عباس، والمعنى أن تلك الصّيحة لا تكرّر. والثاني: ما لها من رجوع إلى الدنيا، قاله الحسن، وقتادة، والمعنى أنهم لا يعودون بعدها إلى الدنيا. والثاني: ما لهم منها من إفاقة، بل تهلكهم، قاله ابن زيد. والثالث: ما لها من فُتور ولا انقطاع، قاله ابن جرير. والرابع: ما لها من راحة، حكاه جماعة من المفسّرين. [سورة ص (38) : الآيات 16 الى 20] وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) قوله تعالى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا في سبب قولهم هذا قولان: أحدهما: أنه لمّا ذُكِر لهم ما في الجنّة، قالوا هذا، قاله سعيد بن جبير، والسدي: والثاني: أنه لمّا نزل قوله تعالى:

_ ذكره ابن الأثير في «النهاية» 3/ 479، ولم أره مسندا، ولعله من كلام بعض السلف. وانظر «تفسير القرطبي» 5236 بتخريجنا.

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ... الآيات «1» ، قالت قريش: زعمتَ يا محمد أنّا نُؤتَى كتبنا بشمائلنا؟! فعجِّل لنا قِطَّنا، يقولون ذلك تكذيباً له، قاله أبو العالية ومقاتل. وفي المراد بالقِطِّ أربعة أقوال «2» : أحدها: أنه الصحيفة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال الفراء: القِطُّ في كلام العرب: الصَّكّ. وقال أبو عبيدة: القِطُّ: الكتاب، والقُطُوط: الكتب بالجوائز وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ومقاتل وابن قتيبة. والثاني: أن القِطَّ: الحساب، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه القضاء، قاله عطاء الخراساني، والمعنى أنهم لمّا وُعِدوا بالقضاء بينهم، سألوا ذلك. الرابع: أنه النصيب، قاله سعيد بن جبير. قال الزجاج: القِطُّ: النصيب، وأصله: الصحيفة يُكْتَب للإنسان فيها شيء يصل إليه، واشتقاق القطّ من قَطَطْتُ، أي: قَطَعْتُ، فالنَّصيب: هو القطعة من الشيء. ثم في هذا القول للمفسرين قولان: أحدهما: أنهم سألوه نصيبهم من الجنة، قاله سعيد بن جبير. والثاني: سألوه نصيبهم من العذاب، قاله قتادة. وعلى جميع الأقوال، إنما سألوا ذلك استهزاءً، لتكذيبهم بالقيامة. اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي: من تكذيبهم وأذاهم وفي هذا قولان: أحدهما: أنه أُمِر بالصبر، سلوكاً لطريق أًولي العزم، وهذا مُحْكَم. والثاني: أنه منسوخ بآية السيف فيما زعم الكلبي. قوله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ في وجه المناسبة بين قوله: «إِصبر» وبين قوله: «واُذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ» قولان: أحدهما: أنه أمِرَ أن يتقوّى على الصَّبر بذِكْر قُوَّة داوُد على العبادة والطاعة. والثاني: أن المعنى: عرِّفهم أن الأنبياء عليهم السلام- مع طاعتهم- كانوا خائفين منِّي، هذا داوُد مع قوَّته على العبادة، لم يزل باكياً مستغفراً، فكيف حالُهم مع أفعالهم؟! فأما قوله: ذَا الْأَيْدِ فقال ابن عباس: هي القُوَّة في العبادة. وفي «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو قال: (1215) قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أَحَبُّ الصِّيام إلى الله صيامُ داوُدَ، كان يصومُ يوماً ويُفْطِر يوماً، وأَحَبُّ الصَّلاة إِلى الله صلاةُ داوُد، كان ينام نِصْفَ الليل ويقومُ ثُلثه وينامَ سُدسه» . وفي الأوّاب أقوال قد ذكرناها في بني اسرائيل «3» . إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ قد ذكرنا تسبيح الجبال معه في سورة الأنبياء «4» ، وذكرنا معنى العَشِيّ في مواضع مما تقدّم «5» ، وذكرنا معنى الإشراق في الحجر «6» عند قوله تعالى مُشْرِقِينَ. قال الزجاج: الإِشراق: طلوعُ الشمس وإِضاءتُها. وروي عن ابن عباس أنه قال: طَلَبْتُ صلاةَ الضُّحى، فلم أَجِدْها إِلاّ في هذه الآية. وقد ذكرنا عنه أن صلاة الضُّحى مذكورة في النّور «7» في قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ.

_ صحيح. أخرجه البخاري 1131 ومسلم 1159 ح 189 من طرق عن سفيان بن عيينة به.

[سورة ص (38) : الآيات 21 إلى 26]

قوله تعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً وقرأ عكرمة، وأبو الجوزاء، والضحاك، وابن أبي عبلة: «والطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ» بالرفع فيهما، أي: مجموعة إليه، تسبِّح اللهَ معه كُلٌّ لَهُ في هاء الكناية قولان: أحدهما: ترجع إِلى داوُد، أي: كُلٌّ لداود أَوَّابٌ أي: رَجّاعٌ إِلى طاعته وأَمْره، والمعنى: كُلٌّ له مُطِيع بالتسبيح معه، هذا قول الجمهور. والثاني: أنها ترجع إلى الله تعالى، فالمعنى: كُلٌّ مسبِّحٌ لله، قاله السدي. قوله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي: قوَّيناه. وفي ما شُدَّ به مُلْكُه قولان: أحدهما: أنه الحَرَسُ والجنود قال ابن عباس: كان يحرسُه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل. والثاني: أنه هَيْبَةٌ ألقيت له في قلوب الناس وهذا المعنى مرويٌّ عن ابن عباس أيضاً. قوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها الفَهْم، قاله ابن عباس، والحسن وابن زيد. والثاني: الصَّواب، قاله مجاهد. والثالث: السُّنَّة، قاله قتادة. والرابع: النُّبُوَّة، قاله السدي. وفي فصل الخطاب أربعة أقوال: أحدها: عِلْمُ القضاء والعدلُ، قاله ابن عباس والحسن. والثاني: بيان الكلام، روي عن ابن عباس أيضاً. وذكر الماوردي أنه البيان الكافي في كل غرض مقصود. والثالث: قوله: «أما بعد» ، وهو أول من تكلَّم بها، قاله أبو موسى الأشعري والشعبي. والرابع: تكليف المدَّعي البيِّنة، والمدَّعَى عليه اليمين، قاله شريح وقتادة وهو قولٌ حسنٌ لأن الخُصومة إنما تفصل بهذا. [سورة ص (38) : الآيات 21 الى 26] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ قال أبو سليمان: المعنى: قد أتاكَ فاسْتَمِعْ له نَقْصُصْ عليكَ. واختلف العلماء في السبب الذي امتُحِن لأجْله داوُد عليه السلام بما امتُحن به على خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه قال: يا ربّ قد أعطيتَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذِّكْر ما لو وددت أنّك

_ (1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 51: قد قدمنا لكم وأوضحنا أن الأنبياء معصومون عن الكبائر إجماعا، وفي الصغائر اختلاف وأنا أقول إنهم معصومون عن الصغائر والكبائر، لوجوه بيناها في كتاب «النبوات» من أصول الدين. وقد قال جماعة: لا صغيرة في الذنوب وهو صحيح، وتحقيقه أن الكفر معصية ليس فوقها معصية كما أن النظرة معصية ليس دونها معصية، وبينهما ذنوب إن قرنتها بالكفر والقتل والزنا والعقوق كانت صغائر، وإن أضفتها إلى ما يليها في القسم الثاني الذي بعده من جهة النظر كانت كبائر. والذي أوقع الناس في ذلك رواية المفسّرين وأهل التقصير من المسلمين في قصص الأنبياء مصائب لا قدر عند الله لم اعتقدها روايات ومذاهب، ولقد كان من حسن الأدب مع الأنبياء صلوات الله عليهم ألا تبث عثراتهم لو عثروا، ولا تبث فلتاتهم لو استفلتوا، فإن إسبال الستر على الجار والولد والأخ فضيلة أكرم فضيلة، فكيف سترت على جارك حتى لم تقص نبأه في أخبارك، وعكفت على أنبيائك وأحبارك تقول عنهم ما لم يفعلوا، وتنسب إليهم ما لم يتلبسوا به، ولا تلوّثوا به، نعوذ بالله من هذا التعدّي والجهل بحقيقة الدين في الأنبياء والمسلمين والعلماء والصالحين. وقد وصيناكم إذا كنتم لا بد آخذين في شأنهم ذاكرين قصصهم ألا تعدوا ما أخبر الله عنهم، وتقولوا ذلك بصفة التعظيم لهم والتنزيه عن غير ما نسب الله إليهم، ولا يقولن أحدكم: قد عصى الأنبياء فكيف نحن، فإن ذكر ذلك كفر. - قلت: لو لم يذكر المصنف هذه الآثار لكان أولى، وقد أطال في ذلك رحمه الله وإنما هذه الآثار من ترّهات الإسرائيليين وأساطيرهم.

الإشارة إلى قصة ابتلائه

أعطيتني مِثْلَه، فقال الله تعالى: إِنِّي ابتليتُهم بما لم أَبْتَلِكَ به، فإن شئت ابتليتُكَ بِمثْلِ ما ابتليتُهم به وأعطيتُك كما أعطيتُهم؟ قال: نعم، فبينما هو في محرابه إذ وقعتْ عليه حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت، فذهب ليأخذها، فرأى امرأة تغتسل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال السدي. والثاني: أنه ما زال يجتهد في العبادة حتى بَرَزَ له قرناؤه من الملائكة وكانوا يصلُّون معه ويُسْعِدونه بالبُكاء، فلمّا استأنس بهم، قال: أَخْبِروني بأيِّ شيء أنتم موكّلون؟ قالوا: ما نكتب عليكَ ذَنْباً، بل نكتب صالح عملك ونثبِّتُك ونوفِّقُك ونَصْرِف عنك السُّوء، فقال في نفسه: ليت شِعري كيف أكون لو خلّوني ونفسي وتمنَّى أن يُخَلّى بينه وبين نفسه ليَعْلَم كيف يكون، فأمر اللهُ تعالى قُرَناءَه أن يعتزلوه ليَعْلَم أنه لا غَناءَ به عن الله عزّ وجلّ فلما فقدهم، جَدَّ واجتهد ضِعْفَ عبادته إلى أن ظَنَّ أنه قد غَلَب نَفْسَه، فأراد اللهُ تعالى أن يُعَرِّفَه ضَعْفَه، فأَرسَل إِليه طائراً من طيور الجنة، فسقط في محرابه، فقطع صلاته ومَدَّ يده إليه، فتنحّى عن مكانه، فأَتْبَعَه بَصَرَه، فإذا امرأة أوريا، هذا قول وهب بن منبّه. والثالث: أنه تَذاكرَ هو وبنو إسرائيل، فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذَنْباً؟ فأضمر داودُ في نفسه أنه سيُطيق ذلك، فلمّا كان يوم عبادته، أغلق أبوابه وأَمَرَ أن لا يدخُل عليه أحد وأكبَّ على قراءه الزَّبور، فإذا حمامة من ذهب، فأهوى إليها فطارت، فتَبِعها فرأى المرأة، رواه مطر عن الحسن. والرابع: أنه قال لبني إسرائيل حين ملك: واللهِ لأَعْدِلَنَّ بينكم، ولم يستثن، فابتُليَ، رواه قتادة عن الحسن. والخامس: أنه أعجبه كثرة عمله، فابتُليَ، قاله أبو بكر الورّاق. الإِشارة إلى قصة ابتلائه قد ذكرنا عن وهب أنه قال: كانت الحمامة من طيور الجنة. وقال السدي تصوَّر له الشيطان في صورة حمامة. قال المفسرون: إِنه لمّا تبع الحمامة رأى امرأة من بستان على شطِّ بِرْكَة لها تغتسل، وقيل: بل على سطح لها فعجب من حسنها، فحانت منها التفاتة فرأت ظله، فنفضت شعرها، فغطىّ بدنها فزاده ذلك إِعجاباً بها، فسأل عنها فقيل: هذه امرأة أوريا، وزوجها في غزاة فكتب داود إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وكذا، وقدِّمه قبل التابوت، وكان مَنْ قُدِّم على التابوت لا يَحِلُّ له أن يرجع حتى يُفْتَح عليه أو يستشهد، ففعل ذلك، ففُتِح عليه فكتب إلى داود يخبره فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، ففُتح له، فكتب إليه أن ابعثه إِلى عدو كذا وكذا، فقُتل في المرَّة الثالثة، فلمّا انقضت عِدَّة المرأة تزوَّجها داوُد، فهي أُمُّ سليمان، فلمّا دخل بها لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله

عز وجل مَلَكين في صورة إنسيَّين، وقيل: لم يأته المَلَكان حتى جاء منها سليمان وشَبَّ، ثم أتياه فوجداه في محراب عبادته، فمنعهما الحرس من الدخول، فتسوروا المحراب عليه، وعلى هذا الذي ذكرناه من القصة أكثر المفسرين، وقد روى نحوه العوفي عن ابن عباس، وروي عن الحسن وقتادة والسدي، ومقاتل في آخرين. وذكر جماعة من المفسرين «1» أن داوُد لمّا نظر إلى المرأة، سأل عنها، وبعث زوجَها إلى الغَزاة مَرَّة بعد مَرَّة إلى أن قُتل، فتزوََّجَها وروي مِثْلُ هذا عن ابن عباس، ووهب، والحسن في جماعة. وهذا لا يصح من طريق النقل، ولا يجوز من حيث المعنى، لأن الأنبياء منزَّهون عنه. وقد اختلف المحقِّقون في ذَنْبه الذي عُوتب عليه على أربعة أقوال: أحدها: أنه لمَا هَويهَا، قال لزوجها: تحوَّل لي عنها، فعُوتب على ذلك. وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما زاد داوُد على أن قال لصاحب المرأة: أكْفِلْنِيهَا وتحوّلْ لي عنها ونحو ذلك روي عن ابن مسعود «2» . وقد حكى أبو سليمان الدمشقي أنه بعث إلى أوريا فأقدمه من غَزاته، فأدناه وأكرمه جدّاً، إلى أن قال له يوماً: أنْزِلْ لي عن امرأتك وانظُر أيَّ امرأة شئتَ في بني إسرائيل أزوِّجكها، أو أيَّ أَمَةٍ شئتَ أبتاعُها لكَ، فقال: لا أُريد بامرأتي بديلاً فلمّا لم يُجِبْه إِلى ما سأل، أمَرَه أن يَرْجِع إلى غَزاته. والثاني: أنه تمنّى تلك المرأة حلالاً، وحدَّث نفسه بذلك، فاتّفق غزو أوريا من غير أن يسعى في سبب قتله ولا في تعريضه للهلاك، فلمّا بلغة قتلُه، لم يَجْزَعْ عليه كما جَزِع على غيره مِنْ جُنْده، ثُمَّ تزوَّج امرأتَه، فعُوتب على ذلك. وذُنوبُ الأنبياء عليهم السلام وإن صَغُرَتْ، فهي عظيمة عند الله عزّ وجلّ. والثالث: أنه لمّا وقع بصرُه عليها، أشبع النَّظر إليها حتى عَلِقَتْ بقلبه «3» . والرابع: أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة، فخطبها داودُ مع عِلْمه بأن أوريا قد خطبها، فتزوَّجَها، فاغتمَّ أوريا، وعاتب اللهُ تعالى داوَُدَ إذْ لم يترُكْها لخاطبها الأوَّل «4» واختار القاضي أبو يعلى هذا القول، واستدل عليه بقوله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ، قال: فدلَّ هذا على أن الكلام إنما كان بينهما في الخِطْبة، ولم يكن قد تقدَّم تزوُّج الآخَر، فعُوتب داوُدُ عليه السلام لشيئين ينبغي للأنبياء التَّنَزُّه عنهما: أحدهما: خطبته على خطبة غيره. والثاني: إِظهار الحِرْص على التزويج مع كثرة نسائه، ولم يعتقد ذلك معصية، فعاتبه الله تعالى عليها قال: فأمّا ما روي أنه نظر إِلى المرأة فهَويَها وقدَّم زَوْجَها للقتل، فإنه وجهٌ لا يجوز على الأنبياء، لأن الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العِلْم بها. قال الزجاج: إنما قال: «الخَصْمِ» بلفظ الواحد، وقال: «تسوّروا» بلفظ الجماعة، لأنّ قولك:

_ (1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 54: وأما قولهم: إنه أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله، فهذا باطل قطعا، لأن داود لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وليس في القرآن أن ذلك كان، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها، فعن من يروى هذا ويسند؟ وعلى من في نقله يعتمد، وليس يؤثره عن الثقات الأثبات أحد؟ (2) لا يصح عن ابن مسعود، وقد ذكره المصنف بصيغة التمريض وهو متلقى عن أهل الكتاب. (3) قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 56: لا يجوز ذلك عندي بحال، لأن طموح البصر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة، فكيف بالأنبياء الذين هم الوسائط المكاشفون بالغيب. (4) قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 57: هذا باطل يردّه القرآن والآثار التفسيرية كلها.

خصم، يَصْلحُ للواحد والاثنين والجماعة والذكر والأنثى، تقول، هذا خصم، وهي خصم، وهما خصم، وهم خصم وإنما يصلح لجميع ذلك لأنه مصدر، تقول: خصمته أخصمه خصما. والمحراب ها هنا كالغُرفة، قال الشاعر: ربَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها ... لَمْ ألْقَها أَوْ أرَتَقي سُلَّماً «1» و «تسوّروا» يدل على علوّ. قال المفسرون: كانا مَلَكين، وقيل: هما جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياه لينبِّهاه على التوبة وإنما قال: «تسوَّروا» وهما اثنان، لأن معنى الجمع ضمُّ شيء إلى شيء، والاثنان فما فوقهما جماعة. قوله تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ قال الفراء: يجوز أن يكون معنى «تسوَّرُوا» : دَخَلوا، فيكون تكراراً ويجوز أن يكون «إذ» بمعنى «لمّا» ، فيكون المعنى: إذ تسوَّروا المحراب لمّا دَخَلوا، ولمّا تسوَّروا إِذ دخلوا. قوله تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ وذلك أنهما أتيا على غير صفة مجيء الخُصوم، وفي غير وقت الحُكومة، ودخلا تَسَوُّراً من غير إذن «2» . وقال أبو الأحوص: دَخَلا عليه وكُلُّ واحد منهما آخذ برأس صاحبه. وخَصْمانِ مرفوع بإضمار «نَحْنُ» ، قال ابن الأنباري: المعنى: نحن كخصمين، ومِثْلُ خصمين، فسقطت الكاف، وقام الخصمان مقامهما، كما تقول العرب: عبد الله القمرُ حُسْناً، وهم يريدون: مِثْل القمر، قالت هند بنت عتبة ترثي أباها وعمَّها: مَنْ حَسَّ لِي الأخوين كالغصنين ... أو من راهما أسدين في غيل يحيد القوم ... عن عرواهما صقرين لا يتذلّلان ... ولا يُباحُ حِماهُما رُمْحَيْنِ خَطِّيِّيْنِ في ... كَبِدِ السَّماءِ تَراهُما أرادت: مِثْل أسدين، ومثل صقرين، فأسقطت مِثْلاً وأقامت الذي بعده مقامه. ثم صرف الله عزّ وجلّ النون والألف في «بَعْضُنا» إلى «نحن» المضمر، كما تقول العرب: نحن قوم شَرُف أبونا، ونحن قوم شَرُف أبوهم، والمعنى واحد. والحق ها هنا: العدل. وَلا تُشْطِطْ أي: لا تَجُرْ، يقال: شَطَّ وأَشَطَّ: إذا جار. وقرأ ابن أبي عبلة: «ولا تَشْطُطْ» بفتح التاء وضم الطاء قال الفرّاء: بعض العرب يقول: شَطَطْتَ عليَّ في السَّوْم، وأكثر الكلام «أشططتَ» بالألف، وشَطَّت الدّارُ: تباعدتْ. قوله تعالى: وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي: إلى قَصْد الطَّريق والمعنى: احْمِلْنا على الحق. فقال داوُد: تَكَلَّما، فقال أحدُهما: إِنَّ هذا أَخِي قال ابن الأنباري: المعنى: قال أحد الخصمين اللَّذين شُبِّه المَلَكان بهما: إنَّ هذا أخي، فأضمر القول لوضوح معناه لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً قال الزجاج: كُني عن المرأة بالنَّعْجة.

_ (1) البيت لوضاح اليمن كما في «الأغاني» 6/ 237 و «اللسان» - حرب- وقد سبق البيت في «الجزء الأول» . (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 38: وقوله: فَفَزِعَ مِنْهُمْ، إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه، وهو أشرف مكان في داره، وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم، فلم يشعر إلا بشخصين قد تسوّرا عليه المحراب، أي: احتاطا به يسألانه عن شأنهما. وقوله وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي: غلبني. يقال: عزّ يعزّ: إذا قهر وغلب. وقوله: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي اختبرناه. وقوله وَخَرَّ راكِعاً أي: ساجدا وَأَنابَ يحتمل أنه ركع أولا، ثم سجد بعد ذلك.

وقال غيره: العرب تشبِّه النِّساء بالنعاج، وتورِّي عنها بالشاء والبقر. قال ابن قتيبة: ورّى عن ذِكر النساء بذِكر النعاج، كما قال عنترة: يا شاة ما قَنْصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... حَرُمَتْ عَلَيَّ ولَيْتَها لَمْ تَحْرُمِ يعرِّض بجارية، يقول: أيّ صيد أنتِ لِمَنْ حَلَّ له أن يَصيدَكِ! فأمّا أنا، فإنَّ حُرْمَةَ الجوار قد حرَّمْتكِ عَلَيَّ. وإِنما ذَكرَ المَلَكُ هذا العدد لأنه عدد نساء داوُد. قوله تعالى: وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فتح الياء حفص عن عاصم، وأسكنها الباقون. فَقالَ أَكْفِلْنِيها قال ابن قتيبة: أي: ضُمَّها إِليّ واجعلْني كافِلَها. وقال الزجاج: انْزِلْ أنتَ عَنها واجعلْني أنا أَكْفُلُها. قوله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي: غَلَبني في القول. وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رزين العقيلي والضحاك وابن يعمر وابن أبي عبلة: «وعَازَّنِي» بألف، أي: غالبَنَي. قال ابن مسعود وابن عباس في قوله: «وعَزَّني في الخطاب» : ما زاد على أن قال: انْزِلْ لي عنها. وروى العوفي عن ابن عباس قال: إن دعوتُ ودعا كان أكثر، وإن بَطَشْتُ وبَطَشَ كان أَشدَّ مني. فإن قيل: كيف قال المَلَكان هذا، وليس شيء منه موجوداً عندهما؟ فالجواب: أن العلماء قالوا: إنما هذا على سبيل المَثَل والتشبيه بقصة داوُد، وتقدير كلامهما: ما تقولُ إن جاءك خصمان فقالا كذا وكذا؟ وكان داوُد لا يرى أن عليه تَبِعَةً فيما فَعَلَ، فنبَّهه اللهُ بالمَلَكين. وقال ابن قتيبة: هذا مَثَل ضربه اللهُ له ونبًّهه على خطيئته. وقد ذكرنا آنفاً أن المعنى: نحنُ كخَصْمَين. قوله تعالى: قالَ يعني داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ قال الفراء: أي: بسؤاله نعجتك، فإذا ألقيتَ الهاء من السؤال، أضفتَ الفعل إِلى النَّعْجة، ومِثْلُه: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ «1» ، أي: من دعائه بالخير، فلمّا ألقى الهاء، أضاف الفعل إِلى الخير، وألقى من الخير الباء، وأنشدوا: فَلَسْتُ مُسَلِّماً ما دُمْتُ حَيّاً ... على زَيْدٍ بتسليمِ الأميرِ أي: بتسليم على الأمير. قوله تعالى: إِلى نِعاجِهِ أي: لِيَضُمَّها إلى نِعاجه. قال ابن قتيبة: المعنى: بسؤال نعجتك مضمومةً إِلى نعاجه، فاختُصر. قال: ويقال «إلى» بمعنى «مع» . فإن قيل: كيف حكم داود قبل أن يَسمع كلامَ الآخر؟ فالجواب: أن الخصم الآخر اعترف، فحكم عليه باعترافه، وحذف ذِكر الاعتراف اكتفاءً بفهَم السامع، والعرب تقول: أمرتُك بالتجارة فكسبتَ الأموال، أي: فاتجَّرتَ فكسبتَ، ويدُلُّ عليه قولُ السدي: إِن داوُد قال للخصم الآخر: ما تقول؟ قال: نعم، أريد أن آخذها منه فأُكمل بها نعاجي وهو كاره، قال: إِذاً لا ندعُك، وإِن رُمْتَ هذا ضربْنا منكَ هذا- ويشير إلى أنفه وجبهته- فقال: أنت يا داود أَحَقُّ أن يُضرب هذا منكَ حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لأوريا إِلا واحدة، فنظر داوُد فلم ير أحداً، فعَرَف ما وقع فيه «2» . قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ يعني الشركاء، واحدهم: خليط، وهو المُخالِط في المال، وإِنما قال هذا، لأنه ظنَّهما شريكين، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أي: فإنهم لا يظلمون أحدا، وَقَلِيلٌ ما هُمْ «ما» زائدة، والمعنى: وقليل هم، وقيل: المعنى: هم قليل، يعني الصالحين الذين لا يَظلِمونَ.

_ (1) فصلت: 49. (2) تقدم أن هذه الآثار إسرائيلية.

قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أي: أيقن وعَلِم أَنَّما فَتَنَّاهُ فيه قولان: أحدهما: اختبرناه. والثاني: ابتليناه بما جرى له من نظره إلى المرأة وافتتانه بها «1» . وقرأ عمر بن الخطاب: «أنّما فتَّنَّاهُ» بتشديد التاء والنون جميعاً. وقرأ أنس بن مالك، وأبو رزين، والحسن، وقتادة، وعليّ بن نصر عن أبي عمرو: «أنَّما فَتَنَاهُ» بتخفيف التاء والنون جميعاً، يعني المَلَكين، قال أبو علي الفارسي: يريد صَمَدا له. وفي سبب علمه وتنبيه على ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن المَلَكين أفصحا له بذلك، على ما ذكرناه عن السدي. والثاني: أنهما عَرَّجا وهما يقولان: قضى الرجلُ على نفسه، فعَلِم أنه عُني بذلك، قاله وهب. والثالث: أنه لمَا حكم بينهما، نظر أحدُهما إِلى صاحبه وضحك، ثم صَعِدا إِلى السماء وهو ينظُر، فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ قال المفسرون: لمّا فطن داوُدُ بذَنْبه خَرّ راكعاً، قال ابن عباس: أي: ساجداً، وعبَر عن السجود بالركوع، لأنهما بمعنى الانحناء. وقال بعضهم: المعنى: فخَرَّ بعد أن كان راكعاً. فصل: واختلف العلماء هل هذه من عزائم السجود؟ على قولين: أحدهما: ليست من عزائم السجود، قاله الشافعي. والثاني: أنها من عزائم السجود، قاله أبو حنيفة وعن أحمد روايتان. قال المفسرون: فبقي في سجوده أربعين ليلة، لا يرفع رأسه إلاّ لوقت صلاة مكتوبة أو حاجة لا بُدَّ منها، ولا يأكل ولا يشرب، فأكلتِ الأرضُ من جبينه، ونَبَتَ العُشْبُ من دموعه، ويقول في سجوده: ربَّ داود، زَلَّ داودُ زَلَّة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب. وقال مجاهد: نبت البقلُ من دموعه حتى غطَّى رأسَه، ثم نادى: ربِّ قَرِح الجبين وجَمَدت العينُ وداوُدُ لم يَرْجِع إِليه في خطيئته شيء، فنودي: أجائع فتُطْعَم، أم مريض فتُشْفَى، أم مظلومٌ فيُنتصَر لك؟ فنَحَبَ نَحيباً هاج كلَّ شيء نَبَتَ، فعند ذلك غفر له. وقال ثابت البناني: اتخذ داوُدُ سبع حشايا من شَعْر وحشاهُنَّ من الرَّماد، ثم بكى حتى أنفذها دموعاً، ولم يشرب شراباً إلا ممزوجاً بدموع عينيه. وقال وهب بن منبه: نودي: يا داود ارفع رأسك فإنّا قد غَفَرْنا لكَ، فرفع رأسه وقد زَمِن وصار مرعشاً «2» . فأمّا قوله: وَأَنابَ فمعناه: رَجَع مِنْ ذَنْبه تائباً إلى ربِّه، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ يعني الذَّنْب وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى قال ابن قتيبة: أي: تقدَّمُ وقُرْبة. قوله تعالى: وَحُسْنَ مَآبٍ قال مقاتل: حُسْن مَرْجِع، وهو ما أعدَّ الله له في الجنة. قوله تعالى: يا داوُدُ المعنى: وقلنا له يا داود إِنَّا جَعَلْناكَ أي: صيّرْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي: تُدَبِّرُ أَمْرَ العباد مِنْ قِبَلنا بأمرنا، فكأنك خليفة عنّا فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي: بالعدل وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي: لا تَمِلْ مع ما تشتهي إِذا خالف أمر الله عزّ وجلّ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: عن دينه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ وقرأ أبو نهيك، وأبو حيوة، وابن يعمر: «يُضِلُّونَ» بضم الياء. قوله تعالى: بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ فيه قولان: أحدهما: بما تَرَكُوا العمل ليوم الحساب، قاله السدي. قال الزجاج: لمّا تركوا العمل لذلك اليوم، صاروا بمنزلة الناسين. والثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: لهم عذاب شديد يوم

_ (1) تقدم الكلام في أن مثل ذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام والصواب هو القول الأول: اختبرناه كما جاء في «تفسير» ابن كثير رحمه الله. (2) في «اللسان» رعش: بالكسر، يرعش، وارتعش: ارتعد. [.....]

[سورة ص (38) : الآيات 27 إلى 29]

الحساب بما نَسُوا، أي: تَرَكُوا القضاء بالعدل، وهو قول عكرمة. [سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي: عَبَثاَ ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أن ذلك خُلِقَ لِغَيْرِ شيء، وإنما خُلِقَ للثواب والعقاب. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا قال مقاتل: (1216) قال كفار قريش للمؤمنين: إنّا نُعْطَى في الآخرة مثل ما تُعْطَوْن، فنزلت هذه الآية. (1217) وقال ابن السائب: نزلت في السّتة الذين تبارزوا يوم بدر، عليّ رضي الله عنه، وحمزة رضي الله عنه، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، فذكر أولئك بالفساد في الأرض لِعَمَلهم فيها بالمعاصي، وسمَّى المؤمنين بالمتَّقِين لاتِّقائهم الشِّرك، وحُكْمُ الآية عامٌّ. قوله تعالى: كِتابٌ أي: هذا كتاب، يعني القرآن، وقد بيَّنّا معنى بَرَكَته في سورة الأنعام «1» . لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وقرأ عاصم في رواية: «ليتدبّروا آياتِه» بالتاء خفيفة الدال، أي: ليتفكروا فيها فيتقرر عندهم صِحَّتُها وَلِيَتَذَكَّرَ بما فيه من المواعظ أُولُوا الْأَلْبابِ، وقد سبق بيان هذا. [سورة ص (38) : الآيات 30 الى 44] وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) قوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ يعني به سليمان. وفي الأوّاب أقوال قد تقدمت في بني إسرائيل «2» ، ألْيَقُها بهذا المكان أنه رَجّاعٌ بالتَّوبة إِلى الله تعالى ممّا يقع منه من السَّهو والغَفْلة. قوله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ وهو ما بعد الزَّوال الصَّافِناتُ وهي الخيل، وفي معنى

_ رواه المصنف عن مقاتل، ومقاتل متهم بالوضع. رواه المصنف عن ابن السائب الكلبي، وكذا السيوطي في «أسباب النزول» . وابن السائب متهم بالوضع.

الصّافنات قولان: أحدهما: أنها القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رِجْل وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وابن زيد، واختاره الزجاج، وقال: هذا أَكثرُ قيام الخيل إذا وقفت كأنَّها تراوح بين قوائمها، قال الشاعر: أَلِفَ الصُّفُونَ فما يَزالُ كأنَّهُ ... مِمّا يَقومُ على الثَّلاثِ كَسِيرا والثاني: أنها القائمة، سواء كانت على ثلاث أو غير ثلاث، قال الفراء: على هذا رأيت العرب، وأشعارهم تَدُلُّ على أنه القيام خاصة. وقال ابن قتيبة: الصافن في كلام العرب: الواقفُ من الخيلِ وغيرها، (1218) ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يقوم له الرّجال صُفُوناً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّار» ، أي: يُديمون القيام له. فأمّا الجِيادُ، فهي السِّراعُ في الجَرْيِ. وفي سبب عرضها عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه عَرَضَها لأنه أراد جهاد عدوٍّ له، قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. والثاني: أنها كانت من دوابّ البحر. قال الحسن: بلغني أنها كانت خيلاً خرجتْ من البحر لها أجنحة. وقال إبراهيم التيمي: كانت عشرين فرساً ذات أجنحة. وقال ابن زيد: أخرجتْها له الشياطين من البحر. والثالث: أنه وَرِثَها من أبيه داود عليه السلام، فعُرِضَتْ عليه، قاله وهب بن منبّه، ومقاتل. والرابع: أنه غزا جيشاً، فظَفِر به وغنمها، فدعا بها فعُرضَتْ عليه، قاله ابن السائب. وفي عددها أربعة أقوال: أحدها: ثلاثة عشر ألفاً، قاله وهب. والثاني: عشرون ألفاً، قاله سعيد بن مسروق. والثالث: ألف فرس، قاله ابن السائب ومقاتل. والرابع: عشرون فرساً، وقد ذكرناه عن إبراهيم التيمي. قال المفسرون: ولم تزل تُعْرَض عليه إِلى أن غابت الشمس، ففاتته صلاة العصر، وكان مَهِيباً لا يبتدئه أحد بشيء، فلم يذكِّروه، ونسي هو، فلمّا غابت الشمسُ ذكر الصلاة، فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ فتح الياء أهل الحجاز وأبو عمرو حُبَّ الْخَيْرِ وفيه قولان: أحدهما: أنه المال، قاله سعيد بن جبير والضحاك. والثاني: حُبُّ الخيل، قاله قتادة والسدي. والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لأنه أراد بالخير الخيلَ، وهي مال. وقال الفراء: العرب تسمِّي الخيل: الخير. (1219) قال الزجاج: وقد سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد الخيل: زيد الخير.

_ لا أصل له بلفظ «صفونا» وإنما هو من تصرف بعض الرواة أو أهل اللغة. فهو عند أبي داود 5229 والترمذي 5756 وأحمد 4/ 91- 94 من حديث معاوية بن أبي سفيان بلفظ «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار» هذا هو الصحيح الوارد في هذا المتن. وإسناده جيد، وصححه المنذري في «الترغيب» 3/ 431. وفي الباب من حديث أبي أمامة أخرجه أبو داود 5230 وأحمد 5/ 253 وحسنه المنذري في «ترغيبه» 3/ 431. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 91 عن الحديث المذكور: لم أجده هكذا، وفي غريب الحديث لأبي عبيد من حديث البراء رضي الله عنه «كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فرفع رأسه قمنا معه صفونا» . قلت: هو في «الغريب» 1/ 379 بدون إسناد. ضعيف. أخرجه ابن عدي 2/ 22 وابن شاهين كما في الإصابة 2941 من حديث ابن مسعود، ومداره على بشير مولى بني هاشم، وهو منكر الحديث، وبه أعله ابن عدي، وقال الذهبي في ترجمته: أتى بخبر منكر، ومراده هذا الحديث. وانظر «تفسير القرطبي» 5271 بتخريجنا.

ومعنى «أَحَبْبْتُ» : آثرتُ حُبَّ الخَيْر على ذِكْر ربِّي وكذلك قال غير الزجاج: «عن» بمعنى «على» . وقال بعضهم: يحتمل المعنى: فشَغَلَني عن ذكر ربّي. وقال أبو عبيدة: معنى الكلام: أَحْبَبْتُ حُبّاً، ثم أضاف الحُبَّ إلى الخير. وقال ابن قتيبة: سمَّى الخَيْل خَيْراً، لما فيها من الخَيْر. والمفسرون على أن المراد بذِكْر ربِّه: صلاةُ العصر، قاله عليّ وابن مسعود وقتادة في آخرين. وقال الزجاج: لا أدري هل كانت صلاةُ العصر مفروضةً أم لا!، إلا أنّ اعتراضه الخيل شَغَلَه عن وقتٍ كان يذكُر الله فيه حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ قال المصنف: وأهل اللغة يقولون: يعني الشمس، ولم يجر لها ذِكْر، ولا أحسبهم أعطَوا في هذا الفِكْر حَقَّه، لأن في الآية دليلاً على الشمس، وهو قوله: «بالعشيِّ» ومعناه: عُرِضَ عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب، ولا يجوز الإِضمار إلا أن يجريَ ذِكْر أو دليل ذِكْر فيكون بمنزلة الذِّكْر وأما الحِجَاب، فهو ما يحجُبها عن الأبصار. قوله تعالى: رُدُّوها عَلَيَّ قال المفسرون: لمّا شغله عَرْضُ الخَيْل عليه عن الصلاة، فصلاّها بعد خروج وقتها، اغتمَّ وغضب، وقال: رُدُّوها عَلَيَّ، يعني: أعيدوا الخَيْل عَلَيَّ فَطَفِقَ قال ابن قتيبة: أي أقبل مَسْحاً قال الأخفش: أي: يَمْسَحُ مَسْحاً. فأمّا السُّوق، فجمع ساق، مثل دُور ودار. وهمز السُّؤق ابن كثير، قال أبو علي: وغيرُ الهمز أحسنُ منه. وقرأ أبو عمران الجوني، وابن محيصن: «بالسُّؤوق» مثل الرُّؤوس. وفي المراد بالمسح ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ضربها بالسيف. (1220) روى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله: «فطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوق والأعناق» قال: «بالسيف» . وروى مجاهد عن ابن عباس قال: مسح أعناقها وسوقها بالسيف. وقال الحسن، وقتادة، وابن السائب: قطع أعناقها وسُوقها، وهذا اختيار السدي، ومقاتل، والفراء، وأبي عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة، وأبي سليمان الدمشقي، والجمهور. والثاني: أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حُبّاً لها، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: مسحها بيده، وهذا اختيار ابن جرير، والقاضي أبو يعلى. والثالث: أنه كَوَى سُوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله تعالى، حكاه الثعلبي. والمفسِّرون على القول الأول، وقد اعترضوا على القول الثاني، وقالوا: أيّ مناسبة بين شغْلِها إيّاه عن الصلاة وبين مَسْح أعرافها حُبّاً لها؟! ولا أعلم قوله: «حُبّاً لها» يثبت عن ابن عباس. وحملوا قول مجاهد: «مَسَحها بيده» أي: تولىَّ ضَرْبَ أعناقها. فإن قيل: فالقول الأول يفسُد بأنه لا ذَنْب للحيوان، فكيف وجّه العقوبة إليه وقصد التَّشفِّي بقتله، وهذا يشبه فِعْلَ الجبّارِين، لا فِعْلَ الأنبياء؟ فالجواب: أنه لم يكن لِيَفْعَلَ ذلك إلا وقد أُبيح له، وجائز أن يُباح له ما يُمنَع منه في شرعنا، على أنه إذا ذبحها كانت قرباناً، وأكلُ لحمها جائز، فما وقع تفريط. قال وهب بن منبّه: لمّا ضَرَبَ سوقها وأعناقها، شكر اللهُ تعالى له ذلك، فسخَّر له الرِّيح مكانها، وهي أحْسَنُ في المنظر، وأَسْرَعُ في السَّيْر، وأَعْجَبُ في الأحدوثة.

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبراني في «الأوسط» 6993 من حديث أبي بن كعب، وإسناده ضعيف لضعف سعيد بن بشير وبخاصة عن قتادة، قال ابن نمير: يروي عن قتادة المنكرات، وفيه أيضا مروان بن محمد تكلم فيه لكن لا يحتمل مثل هذا بل الحمل في هذا الحديث على سعيد، فإنه منكر الحديث عن قتادة، وهذا منها.

قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي: ابتليناه وامْتَحَنّاه بِسَلْبِ مُلْكه وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ أي: على سريره جَسَداً وفيه قولان «1» : أحدهما: أنه شيطان، قاله ابن عباس، والجمهور. وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال: أحدها: صخر، رواه العوفي عن ابن عباس. وذكر العلماء أنه كان شيطاناً مَرِيداً لم يُسَخَّر لسليمان. والثاني: آصف، قاله مجاهد: إلاّ أنه ليس بالمُؤْمِن الذي عنده الاسم الأعظم، إِلاّ أنّ بعض ناقِلِي التفسير حكى أنه آصف الذي عنده عِلْمٌ من الكتاب، وأنه لمّا فُتن سليمان سقط الخاتم من يده فلم يثبُت، فقال آصف: أنا أقوم مقامَك إِلى أن يتوبَ الله عليك، فقام في مقامه، وسار بالسِّيرة الجميلة، وهذا لا يَصِحُّ، ولا ذكره مَنْ يوثَق به. والثالث: حبقيق، قاله السدي والمعنى: أجلسْنا على كرسيِّه في مُلْكه شيطاناً. ثُمَّ أَنابَ أي: رَجَع: وفيما رجع إِليه قولان: أحدهما: تاب من ذَنْبه، قاله قتادة. والثاني: رَجَع إَلى مُلْكه، قاله الضحاك. وفي سبب ابتلاء سليمان بهذا خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه كانت له امرأة يقال لها: جرادة، فكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق، إلا أنه وَدَّ أن الحق كان لأهلها، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً، وأوحى اللهُ تعالى إِليه أنه سيُصيبك بلاءٌ، فكان لا يدري أيأتيه من السماء، أو من الأرض، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن زوجته جرادة كانت آثَرَ النِّساءِ عنده، فقالت له يوماً: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وإنِّي أُحِبُ أن تَقْضِيَ له، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتُليَ لأجل ما قال، قاله السدي. والثالث: أن زوجته جرادة كان قد سباها في غَزاةٍ له، وكانت بنتَ مَلِك فأسلمتْ، وكانت تبكي عنده بالليل والنهار، فسألها عن حالها، فقالت: أذْكُر أبي وما كنتُ فيه، فلو أنك أَمَرْتََ الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلىَّ بها، ففعل، فكانت إذا خرج سليمان، تسجد له هي وولائدها أربعين صباحاً، فلمّا عَلِم سليمان، كسر تلك الصورة، وعاقب المرأة وولائدها ثم تضرَّع إِلى الله تعالى مستغفراً ممّا كان في داره، فسُلِّط الشيطانُ على خاتمه، هذا قول وهب بن منبّه «3» . والرابع: أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيّام، فأوحى الله تعالى إليه: يا سليمان، احتجبتَ عن الناس ثلاثةَ أيّام فلم تنظرُ في أُمور عبادي ولم تُنْصِف مظلوماً من ظالم؟! فسلّط الشيطان على خاتمه، قاله سعيد بن المسيب. والخامس: أنه قارَبَ امرأةً من نسائه في الحيض أو غيره، قاله الحسن «4» . والقول الثاني: أن المراد بالجسد الذي أُلقي على كرسيّه: أنه وُلد له ولد فاجتمعت الشياطين، فقال بعضهم لبعض: إِن عاش له ولد، لم ننفكَّ من البلاء، فسبيلُنا أن نقتُلَ ولده أو نخبله، فعلم بذلك

_ (1) قال أبو حيان في «البحر المحيط» : نقل المفسّرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد، أقوالا يجب براءة الأنبياء منها، وهي إما من وضع اليهود، أو الزنادقة، ولم يبين الله الفتنة ولا الجسد الذي ألقاه، ويستحيل عقلا تمثل الشيطان بصورة نبي، فلو أمكن ذلك لم يوثق بإرسال نبي، وإنما هذه المقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية اه. ولو لم يذكر المصنف مثل هذا لكان أولى. (2) هذه الأقوال جميعا من الإسرائيليات. وقال الحافظ ابن كثير 4/ 44: في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر النساء، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب. (3) عامة روايات وهب إسرائيلية. (4) هذا من الإسرائيليات الباطلة، وهذا القول أنكر الأقوال لما فيه من النيل من كرامة الأنبياء عليه السلام.

الإشارة إلى ذلك

سليمان، فأمر السَّحاب فحمله، وعدا ابنه في السّحاب خوفا من الشياطين، فعاتبه الحقّ تعالى على تخوُّفه من الشياطين، ومات الولد، فأُلقي على كرسيه ميتاً جسداً، قاله الشعبي «1» . والمفسرون على القول الأول. ونحن نذكُر قصة ابتلائه على قول الجمهور. الإِشارة إلى ذلك اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين: أحدهما: أنه كان جالساً على شاطئ البحر، فوقع منه في البحر، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أن شيطاناً أخذه، وفي كيفية ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه دخل ذات يوم الحمّام ووضع الخاتم تحت فِراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر، وجعل الشيطانُ يقول: أنا نبيّ الله، قاله سعيد بن المسيّب. والثاني: أن سليمان قال للشيطان: كيف تَفْتِنون النّاسَ؟ قال: أَرِني خاتمك أُخْبِرْكَ، فأعطاه إيّاه فنبذه في البحر فذهب مُلك سليمان وقعد الشيطان على كرسيه، قاله مجاهد. والثالث: أنه دخل الحمّام ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه، فأتاها الشيطان فتمثَّل لها في صورة سليمان وأخذ الخاتم منها، فلمّا خرج سليمانُ طلبه منها فقالت: قد دفعتُه إِليك، فهرب سليمان وجاء الشيطان فجلس على مُلكه. قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنه دخل الحمّام وأعطى الشيطانَ خاتمه، فألقاه الشيطان في البحر فذهب مُلك سليمان وأُلقي على الشيطان شِبْهُه قاله قتادة. فأمّا قِصَّةُ الشيطان، فذكر أكثر المفسرين أنه لمّا أخذ الخاتم رمى به في البحر، وأُلقي عليه شِبْهُ سليمان، فجلس على كرسيّه، وتحكَّم في سُلطانه. وقال السدي: لم يُلْقِه في البحر حتى فرّ من مكان سليمان. وهل كان يأتي نساءَ سليمان؟ فيه قولان «2» : أحدهما: أنه لم يَقْدِر عليهنّ، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أنه كان يأتيهنّ في زمن الحيض، فأنكرنه، قاله سعيد بن المسيب والأول أصحّ. قالوا: وكان يقضي بقضايا فاسدة، ويحكُم بما لا يجوز، فأنكره بنو إسرائيل، فقال بعضُهم لبعض: إما أن تكونوا قد هَلَكتم أنتم، وإمّا أن يكون مَلكُكم قد هَلَكَ، فاذْهَبوا إِلى نسائه فاسألوهُنَّ، فذهبوا، فقلن: إنّا والله قد أنكرناه فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء. وفي كيفيَّة بُعْدِ الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال: أحدها: أن سليمان وجد خاتمه فتختَّم به، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان، قاله سعيد بن المسيّب. والثاني: أن سليمان لمّا رَجَع إلى مُلْكه وجاءته الرِّيح والطَّير والشياطين، فرّ الشيطان حتى دخل البحر، قاله مجاهد. والثالث: أنه لمّا مضى أربعون

_ (1) هذه الآثار من سخافات الإسرائيليين. (2) هذا وأمثاله من الإسرائيليات الباطلة المزورة، قبح الله واضعه، والعجب أن بعض المفسّرين يذكر مثل هذه الأخبار دون أن يبين بطلانها. قال الآلوسي: ومن أقبح ما في هذه الأخبار متسلط الشيطان على نساء نبيه حتى وطأهن وهنّ حيّض الله أكبر!! هذا بهتان عظيم، وخطب جسيم اه ملخصا، راجع روح المعاني 23/ 199. - وقال ابن كثير 4/ 44: إن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة التفسير أن ذلك الجني لم يسلّط على نساء سليمان، بل عصمهن الله عز وجل منه تشريفا وتكريما لنبيه، قال: وقد رويت هذه القصة عن جماعة من السلف، ثم قال: وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب اه.

يوماً، طار الشيطان من مجلسه، قاله وهب. والرابع: أن بني إسرائيل لمّا أنكروه، أتوه فأحدقوا به، ثم نَشَروا التَّوراة فقرؤوا فطار من بين أيديهم حتى ذهب إِلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت، قاله السدي. وفي قدر مكث الشيطان قولان: أحدهما: أربعون يوماً، قاله الأكثرون. والثاني: أربعة عشر يوماً، حكاه الثعلبي. وأما قصة سليمان عليه السلام، فإنه لما سُلب خاتمه، ذهب ملكه، فانطلق هارباً في الأرض، قال مجاهد: كان يَسْتَطْعِمُ فلا يُطْعَم، فيقول: لو عَرَفْتُموني أعطيتُموني، أنا سليمان، فيطردونه، حتى أعطته امرأةٌ حوتاً، فوجد خاتمه في بطن الحوت. وقال سعيد بن جبير: انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر، فوجد صيّادين قد صادوا سمكاً كثيرا وقد أنتن عليهم بعضُه، فأتاهم يَسْتَطعِم، فقالوا: اذهبْ إلى تلك الحيتان فخُذْ منها، فقال: لا، أطْعِموني من هذا، فأبَوا عليه، فقال: أّطْعِموني، فإنِّي سليمان، فوثب إِليه رجُلٌ منهم فضربه بالعصا غَضَباً لسليمان، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئاً، فشّقَّ بطنَ حوت، فإذا هو بالخاتم. وقال الحسن: ذُكِر لي أنه لم يُؤْوِه أَحدٌ من الناس، ولم يُعْرَف أربعينَ ليلةً، وكان يأوي إِلى امرأة مسكينة، فبينا هو يوما على شطّ نهر، وجد سمكة، فأتى بها المرأة فشقتَّها فإذا بالخاتم. وقال الضحاك: اشترى سمكة من امرأة فشقَّ بطنَها فوجد خاتمه. وفي المدة التي سُلب فيها الملك قولان: أحدهما: أربعون ليلة، كما ذكرنا عن الحسن. والثاني: خمسون ليلة، قاله سعيد بن جبير. قال المفسرون: فلمّا جعل الخاتم في يده، ردَّ اللهُ عليه بهاءَه ومُلْكه، فأظلَّته الطَّير، وأقبل لا يستقبله جنيّ ولا طائر ولا حجر ولا شجر إِلا سجد له، حتى انتهى إِلى منزله، قال السدي: ثم أرسل إلى الشيطان، فجيء به، فأَمر به فجُعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وأقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فأُلقي في البحر، فهو فيه إلى أن تقوم الساعة. وقال وهب: جابَ صخرةً فأدخله فيها، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم قذفه في البحر. قوله تعالى: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فتح الياء نافع، وأبو عمرو، وفيه قولان: أحدهما: لا يكون لأحد بعدي، قاله مقاتل، وأبو عبيدة. (1221) وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّ عفريتا من الجِنّ تفلَّت عليّ البارحةَ ليَقْطَعَ عَلَيَّ صلاتي، فأمكنني اللهُ منه، فأخذتُه، فأردتُ أن أَربطه إِلى سارية من سواري المسجد حتى تنظُروا إِليه كلُّكم، فذكرتُ دعوة أخي سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرددتُه خاسئاً» . والثاني: لا ينبغي لأحد أن يسلبُه مِنِّي في حياتي، كما فعل الشيطان الذي جلس على كرسيه، قاله الحسن، وقتادة. وإنما طلب هذا المُلك، ليَعلم أنه قد غُفر له، ويعرف منزلته بإجابة دعوته، قاله الضحاك. ولم يكن في مُلْكه حين دعا بهذا الرّيحُ ولا الشياطينُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو جعفر، وأبو المتوكّل: «الرّياح» على الجمع.

_ صحيح. أخرجه البخاري 461 ومسلم 541 وأحمد 2/ 298 والنسائي في «التفسير» 460 والبغوي في «شرح السنة» 747 وابن حبان 6419 والبيهقي 2/ 219 كلهم من حديث أبي هريرة.

قوله تعالى: رُخاءً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مُطيعة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن والضحاك. والثاني: أنها الطيِّبة، قاله مجاهد. والثالث: اللَّيِّنة، مأخوذ من الرَّخاوة، قاله اللُّغويُّون. فإن قيل: كيف وصفها بهذا بعد أن وصفها في سورة الأنبياء «1» بأنها عاصفة؟ فالجواب: أن المفسرين قالوا: كان يأمُر العاصفَ تارةً ويأمُر الرُّخاءَ أُخرى. وقال ابن قتيبة: كأنَّها كانت تشتدُّ إذا أراد، وتَلَينَ إذا أراد. قوله تعالى: حَيْثُ أَصابَ أي: حيث قصد وأراد. قال الأصمعي: تقول العرب: أصابَ فلانٌ الصَّوابَ فأَخطأَ الجوابَ، أي: أراد الصَّوابَ. قوله تعالى: وَالشَّياطِينَ أي: وسخَّرْنا له الشياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ يبنون له ما يشاء وَغَوَّاصٍ يغوصون له في البحار فيَستخرِجون الدُّرَّ، وَآخَرِينَ أي: وسخَّرْنا له آخَرِين، وهم مَرَدَةُ الشياطين، سخَّرهم له حتى قَرَّنهم في الأصفاد لِكُفرهم، قال مقاتل: أَوثَقَهم في الحديد. وقد شرحنا معنى مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ في سورة نبي الله إبراهيم «2» عليه السلام. هذا عَطاؤُنا المعنى: قُلنا له: هذا عطاؤنا. وفي المشار إليه قولان: أحدهما: أنه جميع ما أُعطي، فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ أي: أَعْطِ مَنْ شئتَ من المال، وامْنَعْ مَنْ شئتَ. والمَنَّ: الإِحسان إِلى من لا يطلب ثوابه. والثاني: أنه إِشارة إلى الشياطين المسخَّرِين له فالمعنى: فامْنُنْ على مَنْ شئتَ بإطلاقه، وأَمْسِكْ مَنْ شئتَ منهم. وقد روي معنى القولين عن ابن عباس. قوله تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ قال الحسن: لا تَبِعَةَ عليك في الدُّنيا ولا في الآخرة. وقال سعيد بن جبير: ليس عليك حسابٌ يومَ القيامة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: هذا عطاؤنا بغير حساب فامْنُنْ أو أمْسِكْ. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «3» إِلى قوله: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ وذلك أن الشيطان سُلِّط عليه، فأضاف ما أصابه إليه. قوله تعالى: بِنُصْبٍ قرأ الأكثرون بضم النون وسكون الصاد وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة، وابن السميفع، والجحدري، ويعقوب: بفتحهما، وهل بينهما فرق؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما سواء، قال الفراء: هما كالرُّشْد والرَّشَد والعُدْم، والعَدَم، والحُزْن والحَزَن، وكذلك قال ابن قتيبة، والزّجّاج. وقال المفسرون: والمراد بالنصب: الضُّرُ الذي أصابه. والثاني: أن النُّصْب بتسكين الصاد: الشرُّ. وبتحريكها: الإِعياء، قاله أبو عبيدة. وقرأ عائشة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة عن حفص: «بنُصُب» بضم النون والصاد جميعاً. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو الجوزاء، وهبيرة بن حفص: «بنَصْب» بفتح النون وسكون الصاد. وفي المراد بالعذاب قولان: أحدهما: أنه العذاب الذي أصاب جسده. والثاني: أنه أخْذ ماله وولده وأهله. قوله تعالى: ارْكُضْ أي: اضْرِب الأرضَ بِرِجْلِكَ، ومنه: رَكَضْتُ الفَرَس، فرَكَضَ فنبعتْ عَيْنُ ماءٍ، فذلك قوله تعالى: هذا مُغْتَسَلٌ قال ابن قتيبة: المُغْتَسَلُ: الماءُ، وهو الغسول أيضاً. قال الحسن: رَكَضَ برِجله فنبعتْ عَيْنٌ فاغتَسلَ منها، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعا، ثم ركض برجله

_ (1) الأنبياء: 81. (2) إبراهيم: 49. (3) سبأ: 37، الرعد: 29، الأنبياء: 83.

فصل:

فنبعتْ عَيْنٌ فشَرِب منها وعلى هذا جمهور العلماء أنه رَكَضَ ركضتين فنبعتْ له عينان، فاغتسل من واحدة، وشرب من الأُخرى. قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً كان قد حَلَفَ لئن شفاه الله لَيَجْلِدَنَّ زوجتَه مائةَ جَلْدة. وفي سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أن إٍبليس جلس في طريق زوجة أيُّوبَ كأنه طبيب، فقالت له: يا عبد الله، إنّ ها هنا إِنساناً مبتلىً، فهل لكَ أن تداويَه؟ قال: نعم، إِن شاء شفيتُه، على أن يقول إٍذا بَرَأَ: أنت شفيتَني، فجاءت فأخبرتْه، فقال: ذاك الشيطان، للهِ عَلَيَّ إن شفاني أن أجْلِدَكِ مائةَ جَلْدة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس. والثاني: أن إِبليس لَقِيَها فقال: إنّي أنا الذي فعلت بأيّوب ما به، وأنا آله الأرض، وما أخذتُه منه فهو بيدي، فانطلِقي أًريكِ، فمشى بها غيرَ بعيدٍ، ثم سَحَر بَصَرَها، فأراها وادياً عميقاً فيه أهلُها وولدُها ومالُها، فأتت أيُّوبَ فأخبرتْه، فقال: ذاكَ الشيطان، ويحكِ كيفَ وعَى قولَه سَمْعُكِ، والله لئن شفاني الله عزّ وجلّ لأَجْلِدَنَّكِ مائةً، قاله وهب بن منبّه. والثالث: أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة، فقال: لِيَذْبَحْ لي هذه وقد بَرَأَ فأخبرتْه فحَلَفَ لَيَجْلِدَنَّها، وقد ذكرنا هذا القول في سورة الأنبياء عن الحسن. فأمّا الضِّغْث، فقال الفراء: هو كُلُّ ما جمعتَه من شيءٍ مثل الحِزْمة الرَّطْبة، قال: وما قام على ساق واستطال ثم جمعتَه، فهو ضِغْث. وقال ابن قتيبة: هو الحُزْمَةُ من الخِلال والعيدان. قال الزجاج: هو الحُزْمَةُ من الحشيش والرَّيْحان وما أشبهه. قال المفسرون: جزى اللهُ زوجتَه بحُسْن صبرها أن أفتاه في ضربها فسهّل الأمر، فجمع لها مائة عود، وقيل: مائة سنبلة، وقيل: كانت أَسَلاً، وقيل: من الإِذْخرِ، وقيل: كانت شماريخ، فضربها بها ضربةً واحدةً ولم يَحْنَثْ في يمينه. وهل ذلك خاصٌّ له، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه عامٌّ، وبه قال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح وابن أبي ليلى. والثاني: أنه خاصٌّ لأيوب، قاله مجاهد. فصل: وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يَضْرِبَ عبده عشرة أسواط فجمعها كلَّها وضربه بها ضربة واحدة، فقال مالك، والليث بن سعد: لا يَبَرُّ، وبه قال أصحابنا. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا أصابه في الضربة الواحدة كلُّ واحدٍ منها، فقد بَرَّ واحتجوا بعموم قصّة أيّوب عليه الصلاة والسلام.

_ (1) هذه الأقوال باطلة، والخبر بطوله من الإسرائيليات. وقال ابن العربي: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين الأولى قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ الأنبياء: 83 والثانية في ص: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وأما النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: «نبيا أيوب يغتسل إذ خرّ عليه رجل من جراد من ذهب» الحديث- أخرجه البخاري 279 و 3393 وغيره من حديث أبي هريرة. وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، واصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا. وفي «الصحيح» واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال: يا معشر المسلمين! تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله، تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدّلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب فقالوا: هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا ولا ينهاكم عما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلّم في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة.

[سورة ص (38) : الآيات 45 إلى 54]

قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً أي: على البلاء الذي ابتليناه به. [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 54] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) قوله تعالى وَاذْكُرْ عِبادَنا وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد، وابن محيصن، وابن كثير: «عبدَنا» إِشارة إِلى إِبراهيم، وجعلوا إِسحاق ويعقوب عطفاً عليه، لأنه الأصل وهما ولداه، والمعنى: اذْكُر صبرهم، فإبراهيم أُلقي في النار، وإِسحاق أُضجع للذبح، ويعقوب صبر على ذهاب بصره وابتُلي بفقد ولده ولم يُذْكَر إِسماعيل معهم، لأنه لم يُبْتَلَ كما ابتُلوا. أُولِي الْأَيْدِي يعني القوة في الطاعة وَالْأَبْصارِ البصائر في الدِّين والعِلْم. قال ابن جرير: وذِكْر الأيدي مَثَلٌ، وذلك لأن باليد البطش، وبالبطش تُعرف قُوَّة القويِّ، فلذلك قيل للقويِّ: ذو يدٍ وعنى بالبصر: بصر القلب، وبه تُنال معرفة الأشياء. وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وابن أبي عبلة: «أُولي الأيدِ» بغير ياءٍ في الحالين. قال الفراء: ولها وجهان: أحدهما: أن يكون القارئ لهذا أراد الأيدي، فحذف الياء، وهو صواب، مثل الجَوارِ والمناد. والثاني: أن يكون من القوّة والتأييد، من قوله تعالى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ «1» . قوله تعالى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي: اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين، فأفردناهم بمُفْرَدة من خصال الخير ثم أبان عنها بقوله تعالى: ذِكْرَى الدَّارِ. وفي المراد بالدّار ها هنا قولان: أحدهما: الآخرة. والثانية: الجنة. وفي الذكرى قولان: أحدهما: أنها من الذِّكْر، فعلى هذا يكون المعنى: أَخْلَصْناهم بذِكْر الآخرة، فليس لهم ذِكْر غيرها، قاله مجاهد، وعطاء، والسّدّيّ. وكان الفضيل بن عياض يقول: هو الخوف الدائم في القلب. والثاني: أنها التذكير، فالمعنى أنهم يَدْعُون الناس إِلى الآخرة وإِلى عبادة الله تعالى، قاله قتادة. وقرأ نافع: «بخالصةِ ذِكْرَى الدَّارِ» فأضاف «خالصة» إِلى «ذِكْرَى الدار» قال أبو علي: تحتمل قراءة من نوَّن وجهين: أحدهما: أن تكون «ذكرى» بدلاً من «خالصة» ، والتقدير: أخلصناهم بذكر الدار. والثاني: أن يكون المعنى: أخلصناهم بأن يذكُروا الدَّار بالتأهُّب للآخرة والزُّهد في الدنيا. ومن أضاف، فالمعنى: أخْلَصْناهم بإخلاصهم ذِكْرى الدَّار بالخوف منها. وقال ابن زيد أخلصناهم بأفضل ما في الجنة. قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ أي: من الذين اتخذهم اللهُ صَفْوَةً فصفَّاهم من الأدناس الْأَخْيارِ الذين اختارهم. وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ أي: اذْكُرْهم بفضلهم وصبرهم لِتَسْلُكَ طريقَهم، والْيَسَعُ نبيُّ، واسمه أعجميّ معرّب، وقد ذكرناه في سورة الأنعام «2» ، وشرحنا في سورة الأنبياء «3» قصة ذي الكفل، وتكلّمنا في سورة البقرة «4» في اسم إِسماعيل. وزعم مقاتل أن إسماعيل هذا ليس بابن إبراهيم.

_ (1) البقرة: 78. (2) الأنعام: 85. [.....] (3) الأنبياء: 85. (4) البقرة: 125.

[سورة ص (38) : الآيات 55 إلى 66]

قوله تعالى: هذا ذِكْرٌ أي: شرف وثناءٌ جميل يُذْكَرون به أبداً. وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي: حُسْنَ مَرْجِعٍ يرجعون إِليه في الآخرة. ثم بيَّن ذلك المَرْجِع، فقال: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ قال الفراء: إنما رُفعت «الأبوابُ» لأن المعنى: مفتحةً لهم أبوابُها، والعرب تجعل الألف واللام خَلَفاً من الإِضافة، فيقولون: مررت على رجل حسن العين، قبيح الأنف، والمعنى: حسنةٌ عينُه، قبيحٌ أنفُه، ومنه قوله تعالى: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى «1» والمعنى: مأواه. وقال الزجاج: المعنى: مُفتَّحة لهم الأبواب منها، فالألف واللام للتعريف، لا للبدل. قال ابن جرير: والفائدة في ذكر تفتح الأبواب، أنّ الله تعالى أخبر عنها أن أبوابها تُفتَح لهم بغير فتح سُكَّانها لها بيد، ولكن بالأمر، قال الحسن: هي أبواب تَكلّم، فتُكلّم: انفتحي، انغلقي. قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ قد مضى بيانه في سورة الصافات «2» . قال الزجاج: والأتراب: اللواتي أسنانُهُنَّ واحدةٌ وهُنَّ في غاية الشباب والحُسْن. قوله تعالى: هذا ما تُوعَدُونَ قرأ أبو عمرو، وابن كثير بالياء، والباقون بالتاء. قوله تعالى: لِيَوْمِ الْحِسابِ اللام بمعنى «في» . والنَّفاد: الانقطاع. قال السدي: كلَّما أُخِذ من رزق الجنة شيءٌ، عاد مثله. [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 66] هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قوله تعالى: هذا المعنى: هذا الذي ذكرناه وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ يعني الكافرين لَشَرَّ مَآبٍ، ثم بيّن ذلك بقوله تعالى: جَهَنَّمَ والمِهاد: الفِراش. هذا فَلْيَذُوقُوهُ قال الفراء: في الآية تقديم وتأخير، تقديرها: هذا حميمٌ وغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقوه وإن شئتَ جعلتَ الحميم مستأنَفاً، كأنَّكَ قُلْتَ: هذا فلْيَذُوقوه، ثم قلت: منه حَميمٌ، ومنه غَسّاقٌ، كقول الشاعر: حتَّى إِذَا مَا أَضَاءَ الصُّبْحُ في غَلَسٍ ... وغودر البقل ملويّ ومحصود «3» فأمّا الحميم، فهو الماء الحارّ. وأما الغَسّاق، ففيه لغتان، قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: بالتشديد، وكذلك في عَمَّ يَتَساءَلُونَ، تابعهم المفضّل في عَمَّ يَتَساءَلُونَ وقرأ الباقون بالتخفيف، وفي الغَسّاق أربعة أقوال «4» : أحدها: أنه الزَّمهرير، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

_ (1) النازعات: 39. (2) الصافات: 48. (3) البيت من شواهد الفرّاء، وهو في «معاني القرآن» : 193. وفي «اللسان» : الغلس: ظلام آخر الليل، والملويّ: ما ذبل وجف من البقل. (4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 599: وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: هو ما يسيل من صديدهم، لأن ذلك هو الأغلب من معنى الغسوق، وإن كان للآخر وجه صحة.

وقال مجاهد: الغَسّاق لا يستطيعون أن يذوقوه من برده. والثاني: أنه ما يجري من صديد أهل النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطيّة، وقتادة، وابن زيد. والثالث: أنّ الغسّاق: عين في جهنّم تسيل إِليها حُمَةُ كلِّ ذاتِ حُمَة من حَيَّة أو عقرب أو غيرها، فيستنقع، فيؤتى بالآدميّ فيُغْمَس فيها غَمْسةً، فيخرج وقد سقط جِلْدُه ولحمه عن العظام، ويَجُرُّ لحمَه جَرَّ الرجُل ثوبه، قاله كعب. والرابع: أنه ما يَسيل من دموعهم، قاله السدي. قال أبو عبيدة: الغَسّاق: ما سال، يقال: غَسَقَت العين والجرح. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن قتيبة قال: لم يكن أبو عبيدة يذهب إلى أن في القرآن شيئا من غير لغة العرب، وكان يقول: هو اتفاق يقع بين اللغتين، وكان غيرُه يزعُم أن الغَسّاق: البارد المُنْتِن بلسان الترك. وقيل: فَعّال، من غَسَقَ يَغْسِقُ فعلى هذا يكون عربيّاً، وقيل في معناه: إِنه الشديد البّرْد، يحْرِق من بَرْده. وقيل: هو ما يَسيل من جلود أهل النار من الصديد. قوله تعالى: وَآخَرُ قرأ أبو عمرو والمفضّل: «وأَخَرُ» بضم الهمزة من غير مدٍّ، فجمعا لأجل نعته بالأزواج، وهي جمع. وقرأ الباقون بفتح الألف ومدِّه على التوحيد، واحتجُّوا بأن العرب تنعت الاسم إِذا كان فعلاً بالقليل والكثير قال الفراء: تقول: عذابُ فلانٍ ضُروبٌ شتَّى، وضَرْبان مختلفان وإِن شئتَ جعلتَ الأزواج نعتاً للحميم والغَسّاق والآخر، فهُنَّ ثلاثةٌ، والأشبه أن تجعله صفة لواحد. وقال الزجاج: من قرأ «وآخرُ» بالمدِّ فالمعنى: وعذاب آخر مِنْ شَكْلِهِ أي: مِثْلِ الأول. ومن قرأ: «وأُخَرُ» فالمعنى: وأنواعٌ أُخَر، لأن قوله: أَزْواجٌ بمعنى أنواع. وقال ابن قتيبة: «مِنْ شَكْلِهِ» أي مِنْ نَحوِه، «أَزْوَاجٌ» أي أصنافٌ. وقال ابن جرير: «مِنْ شَكْلِهِ» أي: مِنْ نَحوِ الحَميم: قال ابن مسعود في قوله: «وآخرُ مِنْ شَكْلِهِ» : هو الزَّمهرير. وقال الحسن: لمّا ذكر اللهُ تعالى العذابَ الذي يكون في الدنيا قال: «وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ» أي وآخرَ لم يُرَ في الدنيا. قوله تعالى: هذا فَوْجٌ هذا قول الزّبانية للقادة المتقدّمين في الكفر إذا جاءوهم بالأتباع. وقيل: بل هو قول الملائكة لأهل النّار كلّما جاءوهم بأمَّة بعد أُمَّة. والفوج: الجماعة من الناس وجمعه: أفواج. والمُقْتَحِمُ: الداخل في الشيء رمياً بنفسه. قال ابن السائب: إِنهم يُضْرَبونَ بالمَقامع، فيُلْقُونَ أنفُسهم في النار ويَثِبون فيها خوفاً من تلك المقامع. فلمّا قالت الملائكة ذلك لأهل النار، قالوا: لا مَرْحَباً بِهِمْ، فاتصل الكلام كأنه قول واحد، وإنما الأول من قول الملائكة، والثاني من قول أهل النار وقد بيَّنّا مِثْلَ هذا في قوله: لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ «1» . والرّحب والرُّحْبُ: السَّعَةُ. والمعنى: لا اتَّسعت بهم مساكنُهم. قال أبو عبيدة: تقول العرب للرجل: لا مَرْحَباً بك أي: لا رَحُبَتْ عليك الأرض. وقال ابن قتيبة: معنى قولهم: «مَرْحَباً وأهْلاً» أي: أتيتَ رُحْباً أي: سَعَة، وأَهْلاً أي: أتيتَ أهلاً لا غُرباء فائنس ولا تستوحش، وسهلاً، أي: أَتيتَ سَهْلاً لا حَزْناً، وهو في مذهب الدُّعاء، كما تقول: لَقِيتَ خَيْراً. قال الزجاج: و «مَرْحَباً» منصوب بقوله: رَحُبَت بلادُك مَرْحَباً، وصادفتَ مَرْحَباً، فأُدخلت «لا» على ذلك المعنى. قوله تعالى: إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي: داخِلُوها كما دخلْناها ومُقاسون حَرَّها. فأجابهم القوم،

_ (1) يوسف: 52.

[سورة ص (38) : الآيات 67 إلى 88]

ف قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا إن قلنا: إن هذا قول الأتباع للرؤساء فالمعنى: أنتم زيَّنتم لنا الكفر، وإن قلنا: إنه قول الأمَّة المتأخرة للأمَّة المتقدِّمة، فالمعنى: أنتم شرَّعتم لنا الكفر وبدأتم به قبلنا، فدخلتم النار قبلنا فَبِئْسَ الْقَرارُ أي: بئس المُسْتَقَرّ والمنزل. قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا أي: مَنْ سنَّه وشرعه فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ وقد شرحناه في الأعراف «1» . وفي القائلين لهذا قولان: أحدهما: أنه قول جميع أهل النار، قاله ابن السائب. والثاني: قول الأتباع. قاله مقاتل. قوله تعالى: وَقالُوا يعني أهل النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ قال المفسرون: إذا دخلوا النار، نظروا فلم يَرَوْا مَنْ كان يخالفُهم من المؤمنين، فيقولون ذلك. قال مجاهد: يقول أبو جهل في النار: أين صُهَيب، أين عمّار، أين خبّاب، أين بلال؟! قوله تعالى: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «من الأشرار اتَّخَذْناهم» بالوصل على الخبر، أي: إِنّا اتَّخَذْناهم، وهؤلاء يبتدئون بكسر الهمزة. وقرأ الباقون بقطع الألف وفتحها على معنى الاستفهام، وهؤلاء يبتدئون بفتح الهمزة. وقال الفراء: وهذا استفهام بمعنى التعجُّب والتوبيخ، والمعنى أنهم يوبِّخون أنفسهم على ما صنعوا بالمؤمنين. و «سخريّا» يُقرأ بضم السين وكسرها. وقد شرحناها في آخر سورة المؤمنون «2» أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي: وهم مَعَنا في النار ولا نراهم؟! وقال أبو عبيدة: «أم» ها هنا بمعنى «بَلْ» . قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ قال الزجاج: أي: إِن الذي وصفْناه عنهم لَحَقٌّ، ثم بيَّن ما هو، فقال: هو تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو الشعثاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: «تَخَاصُمَ» برفع الصاد وفتح الميم، وكسر اللام من «أَهْلِ» . وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وأبو المتوكل، وابن السميفع: «تَخَاصَمَ أَهْلَ» بفتح الصاد والميم ورفع اللام. [سورة ص (38) : الآيات 67 الى 88] قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) قوله تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ النَّبأُ: الخَبَر. وفي المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور. والثاني: أنه البعث بعد الموت، قاله قتادة. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي:

_ (1) الأعراف: 38. (2) المؤمنون: 110.

لا تتفكَّرون فيه فتعلمونَ صِدْقي في نُبوَّتي، وأن ما جئتُ به من الأخبار عن قصص الماضين لم أَعْلَمْه إِلاّ بوحي من الله تعالى. ويدلّ على هذا المعنى قوله تعالى: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأن آدمَ حين قال الله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» والمعنى: إِنِّي ما عَلِمْتُ هذا إلاّ بوحي، إِنْ يُوحى إِلَيَّ أي: ما يوحى إليَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ أي: إِلاّ أنِّي نبيٌّ أُنْذرِكم وأبيِّن لكم ما تأتونه وتجتنبونه. إِذْ قالَ رَبُّكَ هذا متصل بقوله: «يختصمونَ» وإنما اعترضت تلك الآية بينهما. قال ابن عباس: اختصَموا حين شُوورِوا في خَلْق آدم، فقال الله تعالى لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وهذه الخصومة منهم إنما كانت مُناظَرةً بينهم. وفي مُناظَرتهم قولان: أحدهما: أنه قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «2» ، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم قالوا: لن يَخْلُقَ اللهُ خَلْقاً إِلاّ كُنّا أكرمَ منه وأعلم، قاله الحسن هذا قول أكثر المفسّرين. (1222) وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «رأيت ربّي عزّ وجلّ، فقال لي: فيم يختصم الملأ

_ صحيح بمجموع طرقه وشواهده. رجاله ثقات معروفون، لكن عبد الرحمن بن عائش مختلف في صحبته، والراجح أنه تابعي، وقد نفى البخاري صحبته ويدل عليه كونه رواه بواسطة عن معاذ كما سيأتي، فالإسناد ضعيف لإرساله، لكن ورد موصولا، وله شواهد. أخرجه الدارمي 2/ 126 وابن خزيمة في «التوحيد» 215- 216 والحاكم 1/ 520- 521 والآجري في «الشريعة» 1055 من طرق عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر به. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأخرجه أحمد 4/ 66 من هذا الوجه عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 176- 177 وقال: رجاله ثقات اه. وجهالة الصحابي لا تضر. وأخرجه الترمذي 3235 والحاكم 1/ 21 من حديث عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ مرفوعا. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: حسن صحيح. وورد من حديث ابن عباس. وأخرجه ابن خزيمة ص 217 والآجري في «الشريعة» 1054 من طريق أيوب عن أبي قلابة عن خالد بن الجلاح عن ابن عباس، ورجاله ثقات. وورد من حديث ثوبان أخرجه البزّار 2129 وفيه أبو يحيى الراوي عن أبي أسماء الرحبي لا يعرف قال الهيثمي في «المجمع» 7/ 178 وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عمرو، وفيه سعيد بن سنان واه. وورد من حديث أبي أمامة أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 7/ 178 وفيه ليث بن أبي سليم غير قوي. وللحديث شواهد أخرى، وإن كانت ضعيفة، إلا أنها تتقوى بمجموعها، والله أعلم. الخلاصة: هو حديث حسن صحيح كما قال البخاري، والله أعلم. واللفظ عند الترمذي، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي، عن مالك بن يخامر السككي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا فثوّب بالصلاة، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتجوّز في صلاته فلما سلّم دعا بصوته قال لنا على مصافّكم كما أنتم ثم انفتل إلينا ثم قال: «أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدّر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، قالها ثلاثا، قال فرأيته وضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلّى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك ربي، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفّارات، قال: ما هنّ؟ قلت: مشي الأقدام إلى الحسنات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات، قال: فيم، قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام قال: سل، قال: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب-

الأعلى؟ قلت: أنتَ أَعْلَمُ يا ربّ، قال: في الكفّارات والدرجات، فأمّا الكفّارات، فإسباغ الوُضوء في السَّبَرات، ونقل الأقدام إِلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. وأمّا الدَّرَجات فإفشاء السَّلام، وإِطعامُ الطَّعام، والصَّلاةُ باللَّيل والنّاس نيام» . قوله تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أي: أَسْتَكْبَرْتَ بنفسكَ حين أبَيْتَ السُّجودَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي: من قوم يتكبَّرونَ؟! قوله تعالى: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي: مَرْجُومٌ بالذَّمِّ واللَّعْن. قوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو وقت النَّفخة الأُولى، وهو حين موت الخلائق. وقوله: فَبِعِزَّتِكَ يمين بمعنى: فو عزّتك. وما أخللنا به في هذه القصة فهو مذكور في الأعراف «1» والحجر «2» وغيرهما مما تقدم. قوله تعالى: قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ قرأ عاصم إِلا حَسْنون عن هبيرة، وحمزة، وخلف، وزيد عن يعقوب: «فالحَقُّ» بالرفع في الأول ونصب الثاني، وهذا مروي عن ابن عباس. ومجاهد، قال ابن عباس في معناه: فأنا الحقُّ وأقولُ الحَقُّ وقال غيره: خبر الحقِّ محذوف، تقديره: الحَقُّ مِنِّي. وقرأ محبوب عن أبي عمرو بالرفع فيهما قال الزجّاج: من رفعهما جميعاً، كان المعنى: فأنا الحقُّ والحَقُّ أقولُ. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: بالنصب فيهما. قال الفراء: وهو على معنى قولك: حَقّاً لآتِيَنَّكَ، ووجودُ الألف واللام وطرحُهما سواءٌ، وهو بمنزلة قولك: حمداً لله، وقال مكّيّ بن أبي طالب: انتصب الحق الأول على الإِغراء، أي: اتَّبِعوا الحَقَّ واسمَعوا والزَموا الحَقَّ. وقيل: هو نصب على القَسَم، كما تقول: اللهَ لأَفْعَلَنَّ، فتَنْصِب حين حذفتَ الجارّ، لأن تقديره وبالحقّ وأمّا الحَقُّ الثاني، فيجوز أن يكون الأولَ، وكرَّره توكيداً، ويجوز أن يكون منصوباً ب «أقولُ» كأنه قال: وأقولُ الحَقَّ. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو رجاء، ومعاذ القارئ، والأعمش: «فالحَقِّ» بكسر القاف «والحَقَّ» بنصبها. وقرأ أبو عمران الجوني بكسر القافين. جميعاً. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو نهيك: «فالحَقَّ» بالنصب «والحَقُّ» بالرفع. قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أي: مِنْ نَفْسِكَ وذريتك. قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي: على تبليغ الوحي وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي: لم أتكلَّف إِتيانَكم من قِبَلِ نَفْسي إنما أُمرتُ أن آتيَكم، ولم أَقُل القرآنَ من تِلْقاء نفسي إنّما أوحي إليّ. إِنْ هُوَ أي: ما هو، يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أي: موعظة لِلْعالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ يا معاشر الكُفّار نَبَأَهُ أي: خبر صِدق القرآن بَعْدَ حِينٍ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: بعد الموت. والثاني: يوم القيامة، رويا عن ابن عباس، وبالأول يقول قتادة، وبالثاني يقول عكرمة «3» . والثالث: يوم بدر، قاله السدي ومقاتل. وقال ابن السائب: من بقي إِلى أن ظَهَرَ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عَلِمَ ذلك، ومن مات عَلِمَه بعد الموت. وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بآية السّيف، ولا وجه لذلك.

_ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون، أسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّها حق فادرسوها ثم تعلّموها» .

الجزء الرابع

الجزء الرابع فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة 39- تفسير سورة الزمر 7 40- تفسير سورة غافر 29 41- تفسير سورة فصلت 45 42- تفسير سورة الشورى 58 43- تفسير سورة الزخرف 72 44- تفسير سورة الدخان 87 45- تفسير سورة الجاثية 96 46- تفسير سورة الأحقاف 102 47- تفسير سورة محمّد 115 48- تفسير سورة الفتح 125 49- تفسير سورة الحجرات 141 50- تفسير سورة ق 156 51- تفسير سورة الذاريات 167 52- تفسير سورة الطور 175 53- تفسير سورة النجم 183 54- تفسير سورة القمر 196 55- تفسير سورة الرحمن 205 56- تفسير سورة الواقعة 218 57- تفسير سورة الحديد 232 58- تفسير سورة المجادلة 241 الموضوع الصفحة 59- تفسير سورة الحشر 253 60- تفسير سورة الممتحنة 266 61- تفسير سورة الصف 276 62- تفسير سورة الجمعة 280 63- تفسير سورة المنافقون 286 64- تفسير سورة التغابن 291 65- تفسير سورة الطلاق 295 66- تفسير سورة التحريم 304 67- تفسير سورة الملك 313 68- تفسير سورة القلم 318 69- تفسير سورة الحاقة 328 70- تفسير سورة المعارج 335 71- تفسير سورة نوح 341 72- تفسير سورة الجن 346 73- تفسير سورة المزمل 352 74- تفسير سورة المدثر 358 75- تفسير سورة القيامة 368 76- تفسير سورة الإنسان 374 77- تفسير سورة المرسلات 382 78- تفسير سورة النبإ 387

الموضوع الصفحة 79- تفسير سورة النازعات 393 80- تفسير سورة عبس 399 81- تفسير سورة التكوير 405 82- تفسير سورة الانفطار 410 83- تفسير سورة المطففين 413 84- تفسير سورة الانشقاق 419 85- تفسير سورة البروج 423 86- تفسير سورة الطارق 428 87- تفسير سورة الأعلى 431 88- تفسير سورة الغاشية 434 89- تفسير سورة الفجر 437 90- تفسير سورة البلد 446 91- تفسير سورة الشمس 450 92- تفسير سورة الليل 453 93- تفسير سورة الضحى 456 94- تفسير سورة الشرح 460 95- تفسير سورة التين 463 96- تفسير سورة العلق 466 الموضوع الصفحة 97- تفسير سورة القدر 469 98- تفسير سورة البينة 475 99- تفسير سورة الزلزلة 477 100- تفسير سورة العاديات 480 101- تفسير سورة القارعة 483 102- تفسير سورة التكاثر 485 103- تفسير سورة العصر 487 104- تفسير سورة الهمزة 488 105- تفسير سورة الفيل 490 106- تفسير سورة قريش 493 107- تفسير سورة الماعون 495 108- تفسير سورة الكوثر 497 109- تفسير سورة الكافرون 499 110- تفسير سورة النصر 501 111- تفسير سورة المسد 502 112- تفسير سورة الإخلاص 505 113- تفسير سورة الفلق 507 114- تفسير سورة الناس 510

سورة الزمر

سورة الزّمر وتسمّى سورة الغرف فصل في نزولها: روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكِّيَّة، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وجابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنه قال: فيها آيتان نزلتا بالمدينة: قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ «1» وقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا «2» وقال مقاتل: فيها من المدنيّ: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية، وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ «3» . وفي رواية أخرى عنه قال: فيها آيتان مدنيّتان: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا وقوله: يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ «4» . وقال بعض السّلف: فيها ثلاث آيات مدنيّات: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى قوله: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «5» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ قال الزجاج: الكتاب هاهنا القرآن، ورفع «تنزيلُ» من وجهين: أحدهما: الابتداء، ويكون الخبر مِنَ اللَّهِ، فالمعنى: نزل من عند الله. والثاني: على إضمار: هذا تنزيل الكتاب ومُخْلِصاً منصوب على الحال فالمعنى: فاعبُدِ الله موحِّداً لا تُشْرِكْ به شيئاً. قوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ يعني: الخالص من الشِّرك، وما سِواه ليس بِدِين الله الذي أَمر به وقيل: المعنى: لا يَستحِقُّ الدِّينَ الخالصَ إِلاّ اللُهُ «6» . وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني آلهة، ويدخل

_ (1) الزمر: 23. (2) الزمر: 53. (3) الزمر: 10. (4) الزمر: 10. (5) الزمر: 53- 55. (6) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» : 15/ 205: قال ابن العربي: هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان إن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطره ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية.

[سورة الزمر (39) : آية 5]

في هؤلاء اليهودُ حين قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ والنصارى لقولهم: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «1» ، وجميعُ عُبَّاد الأصنام، ويدُلُّ عليه قولُه بعد ذلك: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. قوله تعالى: ما نَعْبُدُهُمْ أي: يقولون: ما نعبُدُهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي: إِلاّ لِيَشْفَعوا لنا إِلى الله. والزُّلْفى: القُرْبى، وهو اسم أُقيم مقامَ المصدر، فكأنه قال: إلاّ لِيُقَرِّبونا إِلى الله تقريباً. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي: بين أهل الأديان فيما كانوا يختلفون فيه من أمر الدّين. وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي: لا يُرْشِد مَنْ هُوَ كاذِبٌ في قوله: إِن الآلهه تشفع كَفَّارٌ أي: كافر باتِّخاذها آلهة، وهذا إِخبار عمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية. لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي: على ما يزعم من ينسُب ذلك إِلى الله لَاصْطَفى أي: لاختار ممّا يخلُق. قال مقاتل: أي: من الملائكة. [سورة الزمر (39) : آية 5] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: لم يخلقهما لغير شيء. قوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ قال أبو عبيدة: يُدْخِلُ هذا على هذا. قال ابن قتيبة: وأصلُ التَّكْوِير: اللَّفُّ، ومنه كَوْرُ العِمامة. وقال غيره. التَّكْويرُ: طَرْحُ الشيء بعضه على بعض. قوله تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي: ذلَّلهما للسَّير على ما أراد كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي: إِلى الأجَلَ الذي وقَّت اللهُ للدُّنيا. وقد شرحنا معنى العزيز في البقرة «2» ومعنى الغفَّار في طه «3» . [سورة الزمر (39) : آية 6] خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي: قَبْلَ خَلْقِكم جعل منها زوجها، لأنّ حَوّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الذُّرِيَّة، ومِثْلُه في الكلام أن تقول: قد أعطيتُكَ اليوم شيئاً، ثُمَّ الذي أعطيتُكَ أمس أكثر هذا اختيار الفراء. وقال غيره: ثم أَخبركم أنه خَلَق منها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ أي: خَلَق ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ، وقد بيّنّاها في سورة الأنعام «4» . قوله تعالى: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أي: نُطَفاً ثُمَّ عَلَقاً ثم مُضَغاً ثم عَظْماً ثم لَحْماً ثم أنبت الشَّعر، إِلى غير ذلك من تقلُّب الأحوال إِلى إِخراج الأطفال، هذا قول الجمهور. وقال ابن زيد: خَلْقاً في البُطون مِنْ بَعْدِ خَلْقِكم في ظَهْر آدم. قوله تعالى: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظُلْمة البَطْن، وظُلْمة الرّحم،

_ (1) التوبة: 30. (2) البقرة: 129. (3) طه: 82. (4) الأنعام: 143.

[سورة الزمر (39) : آية 7]

وظُلْمة المَشيمة «1» ، قاله الجمهور، وابن زيد معهم. وقال أبو عبيدة: إِنها ظُلْمة صُلْب الأب، وظُلْمة بَطْن المرأة، وظُلْمة الرَّحِم. قوله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي: من أين تُصْرَفون عن طريق الحقّ بعد هذا البيان؟! [سورة الزمر (39) : آية 7] إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) قوله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي: عن إِيمانكم وعبادتكم وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فيه قولان: أحدهما: لا يرضاه للمؤمِنين، قاله ابن عباس. والثاني: لا يرضاه لأحَد وإِن وقع بإرادته، وفرقٌ بين الإِرادة والرِّضى، وقد أشرنا إِلى هذا في البقرة عند قوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ «2» . وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي: يرضى ذلك الشُّكر لكم، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما في القلوب. [سورة الزمر (39) : آية 8] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: في عتبة ابن ربيعة، قاله عطاء. والثاني: في أبي حذيفة بن المغيرة، قاله مقاتل. والضُرُّ: البلاء والشِّدَّة. مُنِيباً إِلَيْهِ أي: راجعاً إليه من شِركه. ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي: أعطاه وملَّكه نِعْمَةً مِنْهُ بعد البلاء الذي أصابه، كالصِّحَّة بعد المرض، والغنى بعد الفقر نَسِيَ أي: ترك ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: نسي الدُّعاء الذي كان يتضرَّع به إلى الله تعالى. والثاني: نَسِيَ الضُّرَ الذي كان يدعو الله إٍلى كَشْفه. والثالث: نَسِيَ الله الذي كان يتضرَّع إِليه. قال الزجّاج: وقد تَدُلُّ «ما» على الله عزّ وجلّ، كقوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وقال الفراء: تَرَكَ ما كان يدعو إِليه. وقد سبق معنى الأنداد «3» ومعنى لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «4» . قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ لفظُه لفظُ الأمر ومعناه التهديد، ومثله: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ «5» . [سورة الزمر (39) : الآيات 9 الى 10] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)

_ (1) في «اللسان» : المشيمة: هي للمرأة التي فيها الولد، والجمع مشيم، وقال ابن الأعرابي: يقال لما يكون فيه الولد المشيمة، والكيس والحوران والقميص. (2) البقرة: 205، وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع» 15/ 208: وهذا مذهب أهل السنة أن الله تعالى لا يرضى الكفر وإن أراده، فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا. (3) البقرة: 22. (4) الحج: 9. [.....] (5) النحل: 55.

[سورة الزمر (39) : الآيات 11 إلى 18]

قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وأبو جعفر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب: «أَمَنْ» بالتخفيف وقرأ الباقون: بالتشديد. فأما المشدَّدة، فمعناها: أهذا الذي ذَكَرْنا خيرٌ، أمَّن هو قانتٌ؟ والأصل في «أمَّن» : أَمْ مَنْ، فأدغمت الميم في الميم. وأما المخفَّفة، ففي تقديرها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بمعنى النداء. قال الفراء: فسَّرها الذين قرءوا بها فقالوا: يا من هو قانتٌ، وهو وجه حسن، والعرب تدعو بالألف كما تدعو بياء، فيقولون: يا زيد أقبل، و: أزيد أَقْبِل، فيكون المعنى: أنه ذَكَر النّاسيَ الكافرَ، ثمَ قصَّ قِصِّةَ الصّالح بالنِّداء، كما تقول: فلان لا يصوم ولا يصلّي، فيا من يصوم أبْشِرْ. والثاني: أن تقديرها: أمَّن هو قانت كمن ليس بقانت؟! والثالث: أمَّن هو قانت كمن جعل لله أنداداً؟! وقد ذكرنا معنى القنوت في سورة البقرة «1» ومعنى آناءَ اللَّيْلِ في آل عمران «2» . قوله تعالى: ساجِداً وَقائِماً يعني في الصلاة. وفيمن نزلت فيه هذه الآية خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه أبو بكر الصِّدِّيق، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: عثمان بن عفان، قاله ابن عمر. والثالث: عمّار بن ياسر، قاله مقاتل. والرابع: ابن مسعود، وعمّار، وصُهَيب، وأبو ذَرّ، قاله ابن السائب. والخامس: أنه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم، حكاه يحيى بن سلام. قوله تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي: عذاب الآخرة. وقد قرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن عباس، وعروة، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأبو عمران: «يحذر عذاب الآخرة» بزيادة «عذاب» . وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ فيها قولان: أحدهما: أنها المغفرة، قاله ابن السائب. والثاني: الجنة، قاله مقاتل. قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أنَّ ما وعدَ اللهُ من الثواب والعقاب حَقٌّ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. وباقي الآية قد تقدم في الرعد «4» ، وكذلك قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ قد تقدم في النحل «5» . وفي قوله: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ قولان: أحدهما: أنه حَثٌّ لهم على الهِجرة من مكَّة إِلى حيث يأمنون. والثاني: أنها أرض الجَنَّة رغَّبهم فيها. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ الذين صبروا لأجل الله تعالى على ما نالهم بِغَيْرِ حِسابٍ أي: يُعْطَون عطاءً كثيراً أوسعَ من أن يُحْسَب وأعظمَ من أن يُحاطَ به، لا على قدر أعمالهم. [سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 18] قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)

_ (1) البقرة: 116. (2) آل عمران: 113. (3) الصواب أن الآية عامة. (4) الرعد: 19. (5) النحل: 30.

قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ. (1223) قال مقاتل: وذلك أن كُفّار قريش قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما حَمَلك على الذي أتيتَنا به؟! ألا تنظُر إِلى مِلَّة آبائك فتأخذ بها؟! فنزلت هذه الآية. والمعنى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي: أُمِرْتُ أن أعبُدَه على التوحيد والإِخلاص السالم من الشّرك، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأُمَّة. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالرجوع إلى دين آبائي، عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وقد اختلفوا في نسخ هذه الآية كما بيَّنّا في نظيرتها في الأنعام «1» . قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي بالتوحيد، فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ، وهذا تهديد، وبعضهم يقول: هو منسوخ بآية السيف، وهذا باطل، لأنه لو كان أمراً كان منسوخاً، فأمّا أن يكون بمعنى الوعيد، فلا وجه لِنَسْخه. قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن صاروا إلى النّار وَخسروا أَهْلِيهِمْ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم خَسِروا الحُور العين اللَّواتي أُعْدِدْنَ لهم في الجنة لو أطاعوا، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: خَسِروا الأهل في النَّار، إِذ لا أهَل لهم فيها، قاله مجاهد، وابن زيد. والثالث: خَسِروا أهليهم الذين كانوا في الدنيا، إِذ صاروا إلى النّار بكفرهم، وصار أهلوهم إِلى الجَنَّة بإيمانهم، قاله الماوردي. قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وهي الأطباق من النار. وإِنما قال: وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ لأنَّها ظُلَلٌ لِمَنْ تحتَهم ذلِكَ الذي وصف اللهُ من العذاب يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ المؤمنين. قوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ. (1224) روى ابن زيد عن أبيه أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في ثلاثة نَفَرٍ كانوا في الجاهلية يوحِّدون الله تعالى: زيدِ بن عمرو بن نُفَيل، وأبي ذَرّ، وسلمان الفارسي، رضى الله عنهم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ بغير كتاب ولا نبيّ. وفي المراد بالطّاغوت هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: الشياطين، قاله مجاهد. والثاني: الكهنة، قاله ابن السائب. والثالث: الأوثان، قاله مقاتل، فعلى قول مقاتل هذا: إنما قال: «يعبُدوها» لأنها مؤنَّثة. وقال الأخفش: إنما قال: «يعبُدوها» لأن الطّاغوت في معنى جماعة، وإن شئت جعلته واحدا مؤنّثا.

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يصنع الحديث، فخبره هذا لا شيء. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 30108 عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد، حدثني أبي ... وهذا مرسل، وابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو متروك، والمتن منكر جدا، والصحيح عموم الآية. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 724 وكذلك ابن كثير 4/ 59 بدون سند. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 59: والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن. فهؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

[سورة الزمر (39) : الآيات 19 إلى 20]

قوله تعالى: وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي: رجَعوا إِليه بالطّاعة لَهُمُ الْبُشْرى بالجنة «فبَشِّر عبادي» بياء، وحرّك الياء أبو عمرو. ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ وفيه قولان: أحدها: أنه القرآن، قاله الجمهور. فعلى هذا، في معنى فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أقوال قد شرحناها في الأعراف «1» عند قوله: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها. والثاني: أنه جميع الكلام. ثم في المعنى قولان. أحدهما: أنه الرَّجُل يَجْلِس مع القوم فيَسْمَع كلامهم، فيَعمل بالمحاسن ويحدِّث بها، ويكفّ عن المساوئ ولا يظهرها، قاله ابن السائب. والثاني: أنه لمّا ادَّعى مسيلمة أنه قد أتى بقرآن، وأتت الكهنة بالكلام المزخرَف في الأباطيل، فرَّق المؤمنون بين ذلك وبين كلام الله، فاتَّبَعوا كلامَ الله، ورفضوا أباطيل أولئك، قاله أبو سليمان الدمشقي. [سورة الزمر (39) : الآيات 19 الى 20] أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) قوله تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ قال ابن عباس: سبق في عِلْم الله أنَّه في النّار. فإن قيل: كيف اجتمع في هذه الآية استفهامان بلا جواب؟ قيل: أمّا الفراء، فإنه يقول: هذا ممّا يُراد به استفهام واحد، فسبق الاستفهامُ إِلى غير موضعه فَرُدّ إِلى موضعه الذي هو له، فيكون المعنى: أفأنتَ تُنْقِذ مَنْ في النارِ مَنْ حَقَّت عليه كلمة العذاب؟ ومثله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «2» فردّ «أَنَّكُمْ» مرتين، والمعنى: أَيَعِدُكُم أنكم مُخْرَجون إِذا مِتُّم؟ ومثله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ثم قال: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ «3» فرَدَّ «تَحْسَبَنَّ» مرتين، والمعنى: لا تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بمفازة من العذاب. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في الكلام محذوف، تقديره: أفمن حَقَّ عليه كلمةُ العذاب فيتخلَّص منه أو ينجو، أفأنت تنقذه؟ قال المفسِّرون: أفأنت تخلّصه ممّا قُدِر له فتجعله مؤمناً؟ والمعنى: ما تقدر على ذلك. قال عطاء: يريد بهذه الآية أبا لهب وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الإِيمان. قوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا وقرأ أبو المتوكّل، وأبو جعفر «لكِنَّ» بتشديد النون وفتحها. قال الزجاج: والغُرَف: هي المنازل الرفيعة في الجنة، مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ أي: منازل أرفع منها. وَعْدَ اللَّهِ منصوب على المصدر فالمعنى: وعَدَهم اللهُ غُرَفاً وَعْداً. ومن قرأ: «وَعْدُ الله» بالرفع فالمعنى: ذلك وعد الله. [سورة الزمر (39) : آية 21] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً قال الشّعبي: كلّ ما في الأرض فمن السَّماء ينزل فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ قال ابن قتيبة: أي: أدَخَلَه فجعله ينابيعَ، أي: عُيوناً تَنْبُعُ، ثُمَّ يَهِيجُ أي: يَيْبَسُ. قال الأصمعي: يقال للنَّبت إِذا تَمَّ جَفافُه: قد هاجَ يَهِيجُ هَيْجاً. فأمّا الحُطام، فقال أبو عبيد: هو ما يبس

_ (1) الأعراف: 145. (2) المؤمنون: 35. (3) آل عمران: 188.

[سورة الزمر (39) : آية 22]

فتَحاتَّ من النَّبات، ومثله الرُّفات. قال مقاتل: هذا مثل ضرب للدنيا، بينا ترى النبت أخضر، إذ تغيَّر فَيبِسَ ثُمَّ هَلَكَ، وكذلك الدُّنيا وزينتُها. وقال غيره: هذا البيان للدّلالة على قدرة الله عزّ وجلّ. [سورة الزمر (39) : آية 22] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ قال الزجاج: جوابه متروك، لأنَّ الكلام دالٌّ عليه، تقديره: أفمن شَرَحَ اللهُ صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يَهْتَد؟ ويُدلُّ على هذا قوله: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ. (1225) وقد روى ابن مسعود أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية، فقلنا: يا رسول الله، وما هذا الشَّرْحُ؟ فذكر حديثا قد ذكرناه في قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «1» . قوله تعالى: فَهُوَ عَلى نُورٍ فيه أربعة أقوال. أحدها: اليقين، قاله ابن عباس. والثاني: كتاب الله يأخذ به وينتهي إليه، قاله قتادة. والثالث: البيان، قاله ابن السائب. والرابع: الهُدى، قاله مقاتل. وفيمن نزلت هذه الآية؟ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق، وأًبيّ بن خَلَف، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: في عليّ وحمزة وأبي لهب وولده، قاله عطاء. والثالث: في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي أبي جهل، قاله مقاتل.

_ متن منكر بأسانيد واهية، وهو شبه موضوع. إسناده ضعيف جدا، محمد بن يزيد بن سنان وأبوه ضعيفان، وفي الإسناد مجاهيل. وبهذا الإسناد أخرجه البغوي في «التفسير» 1817. وأخرجه الحاكم 4/ 311 من طريق محمد بن بشر بن مطر، والبيهقي في «الشعب» 10552 من طريق ابن أبي الدنيا كلاهما عن محمد بن جعفر الوركاني عن عدي بن الفضل عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود به. وإسناده ضعيف، لضعف عدي بن الفضل، وقد سكت عليه الحاكم، وأعله الذهبي بوهن ابن الفضل. هذا وله علة ثانية، المسعودي صدوق إلا أنه اختلط. وأخرجه الطبري 13859 من وجه آخر عن أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود مرفوعا، وإسناده ضعيف، ففي الإسناد مجاهيل، وعلة ثانية: وهي الإرسال بين أبي عبيدة، وابن مسعود. وأخرجه الطبري أيضا 13861 من وجه آخر عن عبد الرحمن بن عتبة عن ابن مسعود به مرفوعا وهذا إسناد ضعيف، عبد الرحمن عن ابن مسعود معضل. وقد ورد من مرسل أبي جعفر، أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 852 ومن طريقه الطبري 13856 و 13857 و 13858. وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» 315 من وجه آخر عن أبي جعفر به، هذا مرسل، ومع إرساله، أبو جعفر هذا متهم بالوضع. قال أحمد: أحاديثه موضوعة. راجع «الميزان» 4608. وأخرجه الطبري 13860 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 326 من وجه آخر عن عبد الله بن المسور. وعبد الله هذا هو أبو جعفر المدائني المتقدم ذكره، وهو متروك متهم، فالحديث ضعيف، ولا يصح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحسبه أن يكون من كلام من دون ابن مسعود، والله أعلم. وأخرجه البيهقي 325 من وجه آخر عن أبي جعفر فجعله من قوله، ولم يرفعه وقال: وقد روي في هذا خبر مرفوع. وانظر الحديث المتقدم في سورة الأنعام عند آية: 125. الخلاصة: المتن منكر كونه مرفوعا، وحسبه أن يكون موقوفا، أو من كلام أبي جعفر المدني فإنه لا يشبه كلام النبوة، بل الأشبه أنه من كلام الصوفية والوعاظ، والله أعلم.

[سورة الزمر (39) : آية 23]

قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ قد بيَّنّا معنى القساوة في البقرة «1» . فإن قيل: كيف يقسو القلب من ذِكْر الله عزّ وجلّ؟ فالجواب: أنه كُلَّما تُلِيَ عليهم ذِكْرُ الله الذي يكذِّبونَ به، قَسَت قلوبُهم عن الإيمان به. وذهب مقاتل في آخَرِين إِلى أنَّ «مِنْ» هاهنا بمعنى «عَنْ» قال الفراء: كما تقول: أُتْخِمْتُ عن طعام أكلتُه، ومِنْ طعام أكلتُه وإِنما قَسَت قلوبُهم مِنْ ذِكْر الله، لأنهم جعلوه كذباً فأقسى قلوبَهم ومن قال: قست قلوبهم عنه، أراد: أعرضت عنه. وقد قرأ أبيّ بن كعب، وابن أبي عبلة، وأبو عمران: «قُلوبُهم عن ذكر الله» مكان قوله: «من» . [سورة الزمر (39) : آية 23] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن وقد ذكرنا سبب نزولها في أول يوسف «2» . قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً فيه قولان: أحدهما: أن بَعْضهُ يشْبِه بَعْضاً في الآي والحروف، فالآية تُشْبِه الآية، والكَلِمَة تُشْبِه الكَلِمة، والحَرْفُ يُشْبِه الحَرْفَ. والثاني: أن بَعْضَه يصدِّق بَعْضاً، فليس فيه اختلاف ولا تناقض. وإنما قيل له: مَثانِيَ لأنه كُرِّرت فيه القصص والفرائض والحدود والثَّواب والعقاب. فإن قيل: ما الحكمة في تكرار القصص، والواحدة قد كانت تكفي؟ فالجواب: أن وفود العرب كانت تَرِدُ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيُقرئهم المسلمون شيئاً من القرآن، فيكون ذلك كافياً لهم، وكان يَبْعَثُ إلى القبائل المتفرِّقة بالسُّوَر المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثنّاة مكرَّرة، لوقعتْ قصةُ موسى إِلى قوم، وقصةُ عيسى إِلى قوم، وقصةُ نوح إِلى قوم، فأراد الله تعالى أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويُلْقِيَها إِلى كل سَمْع. فأمّا فائدة تكرار الكلام من جنس واحد، كقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «3» ، وقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ «4» ، وقوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «5» وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ «6» فسنذكرها في سورة الرّحمن عزّ وجلّ. قوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: تأخذُهم قشعريرة، وهو تغيُّر يحدُث في جِلْد الإِنسان من الوَجَل. (1226) وروى العباس بن عبد المطّلب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِذا اقشعرَّ جِلْد العَبْد من

_ ضعيف. أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 578 والبيهقي في «الشعب» 803 والبغوي في «تفسيره» 1818 من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني من حديث العباس وإسناده ضعيف جدا، يحيى الحماني متروك، متهم بسرقة الحديث، وعبد العزيز هو الدراوردي روى مناكير، وأم كلثوم مجهولة لا تعرف، وقد توبع الحماني، وعلة الحديث جهالة أم كلثوم. وأخرجه البزار 4/ 74 «كشف» والبيهقي 803 من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 310: وفيه أم كلثوم بنت العباس، ولم أعرفها، وبقية رجاله ثقات. قلت: الدراوردي، وإن وثقه غير واحد، فقد روى مناكير، راجع «الميزان» .

خَشْية الله، تَحاتَّتْ ذُنوبُه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقُها» . وفي معنى الآية ثلاثة أقوال «1» : أحدها: تَقْشَعِرُّ من وَعيده، وتَلين عندَ وعْده، قاله السدي. والثاني: تَقْشَعِرُّ من الخَوْف، وتَلِينُ من الرَّجاء. والثالث: تَقْشَعِرُّ الجُلود لإِعظامه، وتَلِينُ عند تلاوته، ذكرهما الماوردي. وقال بعض أهل المعاني: مفعول الذّكر في قوله تعالى: إِلى ذِكْرِ اللَّهِ محذوف، لأنه معلوم والمعنى: تَطْمَئنُّ قلوبُهم إِلى ذِكْر اللهِ الجنةَ والثوابَ. قال قتادة: هذا نَعْتُ أولياء الله، تقشَعِرُّ جلودُهم وتَلِينُ قلوبُهم، ولم يَنْعَتْهم بذَهاب عُقولهم والغِشْيان عليهم، إنَّما هذا في أهل البِدَع، وهذا من الشَّيطان. (1227) وقد روى أبو حازم، قال: مَرَّ ابنُ عمر برجُل ساقط من أهل العراق، فقال: ما شأنُه؟ فقالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن يُصيبه هذا، قال: إِنّا لنَخشى اللهَ عزّ وجلّ، وما نَسْقُط. (1228) وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: جئتُ أبي، فقال لي: أين كنتَ؟ فقلت: وجدتُ قوماً، ما رأيت خيراً منهم قَطٌّ، يذكُرون الله عزّ وجلّ فيُرعَد واحدهم حتى يُغْشَى عليه من خَشْية الله عزّ وجلّ، فقعدتُ معهم، فقال: لا تقعُد معهم بعدها أبداً، قال: فرآني كأني لم يأخذ ذلك فيّ، فقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتلو القرآن، ورأيتُ أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يُصيبُهم هذا من خَشْية الله

_ وأخرجه أبو يعلى 6703 ومن طريقه البيهقي في «الشعب» 804 عن موسى بن محمد عن محمد بن عمر بن عبد الله الرومي قال: حدثني جابر بن يزيد بن رفاعة عن هارون بن أبي الجوزاء. هارون وبقية رجاله وثقوا، على ضعف في محمد بن عمر، وثقه ابن حبان. وأورده الحافظ في «المطالب العالية» 3/ 218 و 219 ونسبه إلى أبي يعلى، ونقل الشيخ حبيب الرحمن عن البوصيري قوله: رواه أبو يعلى والبيهقي بسند ضعيف اه. وكذا ضعفه العراقي في «تخريج الإحياء» 4/ 163، وانظر «الضعيفة» 2342. موقوف. أخرجه البغوي في «تفسيره» 1821، بإسناد ضعيف، فيه سعيد الجمحي لم يدرك ابن عمر. انظر ما بعده.

[سورة الزمر (39) : الآيات 24 إلى 28]

تعالى، أفتَرَى أنهم أخشى لله من أبي بكر وعمر؟ قال: فرأيت ذلك كذلك. وقال عكرمة: سُئلتْ أسماءُ بنت أبي بكر: هل كان أحد من السَّلَف يُغشى عليه من الخوف؟ قالت: لا، ولكنهم كانوا يبكون. (1229) وقال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجَدَّتي أسماءَ بنتِ أبي بكر، كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم اللهُ تعالى، تَدْمَعْ أعيُنُهم وتَقْشَعِرُّ جلودهم. فقلت لها: إنّا ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن، خَرَّ أحدُهم مَغْشِيّاً عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وكان جَوّاب يُرْعَدُ عند الذِّكْر، فقال له إبراهيم النخعي: إن كنت تملكه، فما أُبالي أن لا أعتدَّ بك، وإن كنتَ لا تملكه، فقد خالفتَ من كان قبلك. قوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله مقاتل. والثاني: أنه ما يَنْزِلُ بالمؤمنين عند تلاوة القرآن من اقشعرار الجلود عند الوعيد، ولينها عند الوعد، قاله ابن الأنباري. [سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 28] أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) قوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ أي: شِدَّتَه. قال الزجاج: جوابه محذوف، تقديره: كَمَنْ يدخُل الجنة؟ وجاء في التفسير أن الكافر يُلقى في النار مغلولاً، ولا يتهيَّأ له أن يتّقيها إلّا بوجهه. ثم أخبر عمّا يقول الخَزَنة للكفار بقوله تعالى: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ يعني الكافرين ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: جزاء كَسْبِكم. قوله تعالى: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: من قبْل كفار مكة فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي: وهم آمنون غافلون عن العذاب، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ يعني الهوان والعذاب، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ممّا أصابهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، ولكنهم لا يعلمون ذلك. وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ أي: وَصَفْنا لهم مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: من كل شبه يشبه أحوالهم. قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا قال الزجاج: «عَرَبِيًّا» منصوب على الحال، المعنى: ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيَّته وبيانه، فذكر «قُرْآناً» توكيداً، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، وجاءني عمرو إِنساناً عاقلاً، فذكر رجلاً وإنساناً توكيداً. قوله تعالى: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: غير مخلوق. وقال غيره: مستقيم غير مختلف.

_ موقوف. أخرجه البغوي في «التفسير» 1820 بسند فيه خلف بن سالم فمن فوقه رجال الصحيح، ومن دونه بعضهم معروف، وبعضهم لم أجد له ترجمة، لكن توبعوا عند سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» 5/ 610 فالخبر صحيح.

[سورة الزمر (39) : الآيات 29 إلى 31]

[سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 31] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ثم بيَّنه فقال: رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال ابن قتيبة: أي: مختلِفون، يَتَنازعُون ويَتَشاحُّون فيه، يقال: رجُلٌ شَكِسٌ. وقال اليزيدي: الشَّكسِ من الرجال: الضَّيِّق الخُلُق. قال المفسِّرون: وهذا مَثَل ضربه اللهُ للمؤمِن والكافر، فإن الكافر يعبُد آلهةً شتّى، فمثّله بعبد يملكه جماعة يتنافسون في خدمته، ولا يقدر أن يبلُغ رضاهم أجمعين والمؤمن يعبُد اللهَ وحده، فمثَّله بعبدٍ لرجل واحد، قد عَلِم مقاصدَه وعَرَفَ الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاكس الخُلَطاء فيه، فذلك قوله تعالى: سَلَماً لِرَجُلٍ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو إٍِلاّ عبد الوارث في غير رواية القزَّاز، وأبان عن عاصم: «ورجُلا سالِماً» بألف وكسر اللام وبالنصب والتنوين فيهما والمعنى: ورجُلاً خالصاً لرجُل قد سَلِم له من غير مُنازِع. ورواه عبد الوارث إلاّ القزاز كذلك، إلاّ أنه رفع الاسمين، فقال: «ورجُلٌ سالِمٌ لرجُلٍ» ، وقرأ ابن أبي عبلة: «سِلْمُ لِرَجُلٍ» بكسر السين ورفع الميم. وقرأ الباقون: وَرَجُلًا سَلَماً بفتح السين واللام وبالنصب فيهما والتنوين. والسَّلَم، بفتح السين واللام، معناه الصُّلح، والسِّلم، بكسرِ السين مثله. قال الزجاج: من قرأ: «سِلْماً» و «سَلْماً» فهما مصدران وُصِفَ بهما، فالمعنى، ورجُلاً ذا سِلْمٍ لرجُل وذا سَلْمٍ لرجُل فالمعنى: ذا سِلْم والسَّلْم: الصُّلح، والسِّلْم، بكسر السين مِثْلُه. وقال ابن قتيبة: من قرأ «سَلَماً لِرَجُلٍ» أراد: سلَّم إليه فهو سِلْمٌ له. وقال أبو عبيدة: السِّلْم والسَّلم الصُّلح. قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا هذا استفهام معناه الإِنكار، أي: لا يستويان، لأن الخالص لمالك واحدٍ يَستحقُّ من معونته وإِحسانه ما لا يستحقُّه صاحب الشُّركاء المتشاكسين. وقيل: لا يستويان في باب الرّاحة، لأنّ هذا قد عرف الطريق إِلى رضى مالكه، وذاك متحيّر بين الشُّركاء. قال ثعلب: وإِنما قال: «هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا» ولم َيُقْل: مَثَلَيْنِ، لأنهما جميعاً ضُرِبا مَثَلاً واحداً، ومِثْلُه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «1» ، ولم يَقُلْ: آيتين، لأن شأنهما واحد. وتم الكلام هاهنا، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: له الحمد دون غيره من المعبودِين بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ والمراد بالأكثر الكُلّ. ثم أخبر نبيَّه بما بعد هذا الكلام أنه يموت، وأنّ الذين يكذّبون يموتون، وأنهم يجتمعون للخصومة عند الله عزّ وجلّ، المحقّ والمبطل، والمظلوم والظالم «2» .

_ (1) المؤمنون: 50. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 63: وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق عند موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم حتى تحقق الناس موته، مع قوله وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ومعنى هذه الآية: ستنقلون من هذه الدار لا محالة، وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل فيفصل بينكم، ويفتح بالحقّ وهو الفتاح العليم. فينجي المؤمنين المخلصين الموحّدين، ويعذّب الكافرين الجاحدين المشركين المكذّبين، ثم إن هذه الآية، وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.

[سورة الزمر (39) : الآيات 32 إلى 35]

(1230) وقال ابن عمر: نزلتْ هذه الآية وما ندري ما تفسيرها، وما نرى أنها نزلتْ إلاّ فينا وفي أهل الكتابين، حتى قُتِل عثمان، فعرفتُ أنها فينا نزلتْ. وفي لفظ آخر: حتى وقعت الفتنة بين عليّ ومعاوية. [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 35] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بأن دعا له ولداً وشريكاً وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ وهو التوحيد والقرآن أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي: مَقَامٌ للجاحِدِين؟! وهذا استفهام بمعنى التقرير يعني: إِنه كذلك. قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله عليّ بن أبي طالب، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد. ثم في الصِّدق الذي جاء به قولان: أحدهما: أنه «لا إِله إِلا الله» ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد ابن جبير. والثاني: القرآن، قاله قتادة. وفي الذي صدَّق به ثلاثة أقوال: أحدها: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضاً، هو جاء بالصِّدق، وهو صدَّق به، قاله ابن عباس، والشعبي. والثاني: أنه أبو بكر، قاله علي بن أبي طالب. والثالث: أنهم المؤمنون، قاله قتادة، والضحاك، وابن زيد. والقول الثاني: أن الذي جاء بالصِّدق: أهل القرآن، وهو الصِّدق الذي يُجيبونَ به يوم القيامة، وقد أدّوا حَقّه، فَهُم الذين صدَّقوا به، قاله مجاهد. والثالث: أن الذي جاء بالصِّدق الأنبياء، قاله الربيع، فعلى هذا، يكون الذي صدَّق به: المؤمِنون. والرابع: أن الذي جاء بالصِّدق: جبريل، وصدَّق به: محمد، قاله السدي. قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أي: الذين اتَّقّوْا الشرك وإِنما قيل: «هُم» ، لأن معنى «الذي» معنى الجمع، كذلك قال اللغويون، وأنشد أبو عبيدة، والزّجّاج:

_ حسن، أخرجه النسائي في «التفسير» 467 والطبري 30139 كلاهما عن ابن عمر، وإسناده حسن، رجاله ثقات معروفون، ويشهد له خبر عن أبي سعيد الخدري مثله. عزاه الشوكاني في «فتح القدير» 4/ 532 لسعيد بن منصور، وعزاه ابن حجر في «تخريجه» 4/ 27 للثعلبي.

[سورة الزمر (39) : الآيات 36 إلى 38]

فإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ، كُلُّ القَوْمِ، يا أُمَّ خالِدِ «1» قوله تعالى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ المعنى: أعطاهم ما شاؤوا ليكفِّر عنهم أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، أي: لِيَسْتُر ذلك بالمغفرة وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بمحاسن أعمالهم، لا بمساوئها. [سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 38] أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ. (1231) ذكر المفسِّرون أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، ما تزال تذكرُ آلهتنا وتَعِيبُها، فاتَّق أن تصيبك بسوءٍ، فنزلت هذه الآية. والمراد بعبده هاهنا: محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ حمزة، والكسائي: «عِبَادَهُ» على الجمع، وهم الأنبياء، لأن الأمم قصدتْهم بالسُّوء فالمعنى أنه كما كفى الأنبياءَ قَبْلَكَ يكفيك، وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عمران الجوني: «بِكافي» مثبتة الياء «عَبْدِهِ» بكسر الدال والهاء من غير ألف. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو العالية، وأبو الجوزاء، والشعبي مِثْلَه، إِلاّ أنهم أثبتوا الألف في «عِبادِهِ» وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش: «بِكافٍ» بالتنوين، «عِبادَهُ» على الجمع. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء العطاردي: «يُكافِيْ» بياء مرفوعة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء «عِبادَهُ» على الجمع. وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي: بالذين يَعْبُدون مِن دونِهِ، وهم الأصنام. ثُمَّ أَعْلَمَ بما بعد هذا أن الإِضلال والهداية إليه تعالى، وأنه منتقم ممن عصاه. ثم أخبر أنهم مع عبادتهم، يُقِرُّونَ أنه الخالق. ثم أمر أن يُحْتَج عليهم بأن ما يعبُدون لا يَمْلِكُ كَشْفَ ضُرٍّ ولا جَلْبَ خَيْرِ. وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «كاشفاتٌ ضُرَّه» و «ممسكاتٌ رحمته» منوَّناً. والباقون: «كاشفاتُ ضُرِّه» و «ممسكات رحمته» على الإضافة. [سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 41] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) قوله تعالى: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا ذكر بعض المفسرين أنها والآية التي تليها نُسخت بآية السيف. قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن لِلنَّاسِ أي: لجميع الخَلْقِ بِالْحَقِّ ليس فيه

_ ضعيف. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 2634 عن قتادة قال: قال لي رجل ... فذكره، وهو ضعيف لجهالة الرجل.

[سورة الزمر (39) : آية 42]

باطل. وتمام الآية مفسَّر في آخر يونس «1» ، وذكروا أنه منسوخ بآية السيف. [سورة الزمر (39) : آية 42] اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها أي: يَقْبِضُ الأرواحَ حين موت أجسادها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ أي: ويتوفَّى التي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها. فَيُمْسِكُ أي: عن الجسد والنفس الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وقرأ حمزة، والكسائي: «قُضِيَ» بضم القاف وفتح الياء، «الموتُ» بالرفع. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى الجسد إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو انقضاءُ العُمُر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في أمر البعث «2» . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تلتقي أرواح الأحياء وأرواحُ الأموات في المنام، فيتعارفون ويتساءلون، ثم تُرَدُّ أرواحُ الأَحياءِ إلى أجسادها، فلا يُخطأُ بشيء منها، فذلك قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وقال ابن عباس في رواية أخرى: في ابنِ آدم نَفْسٌ وروحٌ، فبالنَّفس العقلُ والتمييزُ، وبالرُّوح النَّفَس والتحريك، فإذا نام العبدُ، قَبَضَ اللهُ نَفْسَه ولم يَقْبِض روحه «3» . وقال ابن جريج: في الإِنسان روح ونَفْسٌ، بينهما حاجز، فهو تعالى يقبض النّفس عند النّوم ثم يَرُدُّها إِلى الجسد عند الانتباه، فإذا أراد إِماتةَ العبد في نومه، لم يَرُدَّ النَّفْسَ وقَبَض الرُّوح. وقد اختلف العلماء، هل بين النَّفْس والرُّوح فَرْقٌ «4» ؟ على قولين: قد ذكرتُهما في «الوجوه والنظائر» ، وزدتُ هذه الآية شرحاً في

_ (1) يونس: 108. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 10: وقوله تعالى ذكره: إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعد نفس هذا ترجع إلى جسمها، وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرة وعظة لمن تفكر وتدبّر، وبيانا له أن الله يحيى من يشاء من خلقه إذا شاء، ويميت من شاء إذا شاء. (3) أثر ابن عباس، قال عنه الحافظ في «تخريجه» 4/ 131: لم أجده. قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 15/ 228: قال القشيري أبو النصر- رحمه الله-: وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ولهذا قال: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فإذا يقبض الله الروح في حالين: في حالة النوم وحالة الموت، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة. وقوله: وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان. فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك. وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية. (4) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع» 15/ 229: والأظهر أنهما شيء واحد، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب، من ذلك: حديث أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي سلمة وقد شقّ بصره فأغمضه، ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» أخرجه مسلم 920. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره» قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه» أخرجه مسلم 921. وحديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا: اخرجي أيها النفس الطيبة كانت في الجسر الطيب اخرجي حميدة وابشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء» . وإسناده صحيح. أخرجه أحمد 2/ 264- 288 وابن ماجة 4262. وفي صحيح مسلم 2872 عنه رضي الله عنه قال: «إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها» . وقال بلال في حديث الوادي الذي أخرجه مسلم 2872: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي بنفسك. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي- متفق عليه-: «يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردّها إلينا في حين غير هذا» . [.....]

[سورة الزمر (39) : الآيات 43 إلى 44]

«باب التوفّي» في كتاب «النظائر» . وذهب بعض العلماء إِلى أَن التوفيّ المذكور في حق النّائم هو نَوْمُه. وهذا اختيار الفراء وابن الأنباري فعلى هذا، يكون معنى توفّي النائم: قبضُ نَفْسِه عن التصرُّف، وإِرسالُها: إِطلاقُها باليَقَظَة للتّصرّف. [سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 44] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا يعني كُفَّارَ مكَّةَ «1» . وفي المراد بالشُّفعاءِ قولان: أحدهما: أنَّها الأصنام، زعموا أنها تشفع لهم في حاجاتهم، قاله الأكثرون. والثاني: الملائكة، قاله مقاتل. قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من الشفاعة وَلا يَعْقِلُونَ أنَّكم تعبُدونهم؟! وجواب هذا الاستفهام محذوف، تقديره: أوَلَو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم؟!. قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي: لا يَمْلِكُها أَحَدٌ إِلاّ بتمليكه، ولا يشفع عنده أَحَدٌ إلاّ بإذنه. [سورة الزمر (39) : الآيات 45 الى 48] وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) قوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: انقبضتْ عن التوحيد، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: استكبرتْ، قاله قتادة. والثالث: نَفَرتْ، قاله أبو عبيدة، والزجاج. قوله تعالى: إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره «2» إلى قوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. قال السدي: ظَنَّوا أنّ أعمالَهم حسناتٍ، فبدت لهم سيئات. وقال غيره: عَمِلوا أعمالاً ظنُّوا أنَّها تنفعُهم، فلم تنفع مع شِركهم. قال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنّه نازل بهم فهذا

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «جامع البيان» 11/ 10: يقول تعالى ذكره: أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم. وقوله: قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم قل يا محمد لهم: أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا ولا يعقلون شيئا، قل لهم: إن تكونوا تعبدونها لذلك، وتشفع لكم عند الله، فأخلصوا عبادتكم لله. وأفردوه بالألوهة، فإن الشفاعة جميعا له لا يشفع عنده إلا من أذن له، ورضي له قولا، وأنتم متى أخلصتم له العبادة، فدعوتموه، شفعكم لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فاعبدوا الذي له سلطان السموات والأرض وملكها ثم إلى الله مصيركم، وهو معاقبكم على إشراككم به، إن متم على شرككم. (2) البقرة: 113، الأنعام: 14- 73، الرعد: 18.

[سورة الزمر (39) : الآيات 49 إلى 52]

القول يحمل وجهين: أحدهما: أنَّهم كانوا يرجون القُرْبَ من الله بعبادة الأصنام، فلمّا عُوقِبوا عليها، بدا لهم ما لم يكونوا يحتَسِبون. والثاني: أنَّ البعثَ والجزاءَ لم يكن في حسابهم. وروي عن محمد بن المنكدر أنه جَزِع عند الموت وقال: أخشى هذه الآية أن يبدو لي ما لا أحتَسِب. قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ أي: نزل بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: ما كانوا ينكرونه ويكذّبون به. [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قوله تعالى: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا قال مقاتل: هو أبو حذيفة بن المغيرة، وقد سبق في هذه السورة نظيرها «1» . وإنما كنّى عن النّعمة بقوله تعالى: أُوتِيتُهُ، لأن المراد بالنِّعمة: الإنعام. عَلى عِلْمٍ عندي، أي: على خيرٍ عَلِمَهُ اللهُ عندي. وقيل: على عِلْمٍ مِنَ الله بأنِّي له أهلٌ، قال الله تعالى: بَلْ هِيَ يعني النِّعمة التي أنعم اللهُ عليه بها فِتْنَةٌ أي: بلوى يُبْتَلى بها العبدُ لِيَشْكُرَ أو يكفُر، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك استدراج لهم وامتحان. وقيل: «بل هي» أي: المقالة التي قالها «فتنةٌ» . قَدْ قالَهَا يعني تلك الكلمة، وهي قوله عزّ وجلّ: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وفيهم قولان: أحدهما: أنَّهم الأًمم الماضية، قاله السدي. والثاني: قارون، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ أي: ما دفع عنهم العذاب ما كانُوا يَكْسِبُونَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: من الكفر. والثاني: من عبادة الأصنام. والثالث: من الأموال. فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي: جزاءُ سيِّئاتهم، وهو العذاب. ثم أوعد كُفَّار مكَّة، فقال: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: إِنهم لا يُعْجِزونَ الله ولا يَفوتونه. قال مقاتل: ثم وعظهم لِيَعْلَموا وحدانيتَّه حين مُطِروا بعد سبع سنين، فقال: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في بَسْطِ الرِّزق وتقتيره لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 55] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في سبب نزولها أربعة أقوال: (1232) أحدها: أن ناساً من المشركين كانوا قد قَتلوا فأكثَروا، وزنَوا فأكثَروا، ثم أتَوا رسولَ

_ صحيح. أخرجه البخاري 4810 عن إبراهيم بن موسى بن عن ابن عباس وأخرجه مسلم 122 وأبو داود

[سورة الزمر (39) : الآيات 56 إلى 59]

الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إِنّ الذي تدعو إِليه لَحَسَنٌ، لو تُخبرنا أنّ لِمَا عَمِلنا كفّارةً، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. (1233) والثاني: أنها نزلت في عَيّاش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونَفَرٍ من المسلمين كانوا قد أسلموا، ثم عُذِّبوا فافتُتِنوا، فكان أصحاب رسول الله يقولون: لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ هؤلاء صَرْفاً ولا عَدْلاً، قومُ تركوا دينهم بعذاب عُذِّبوه فنزلت هذه الآية، فكتبها عمر إلى عَيّاش والوليد وأولئك النَّفَر، فأسلموا وهاجروا وهذا قول ابن عمر. والثالث: أنها نزلتْ في وحشي وهذا القول ذكرناه مشروحاٍ في آخر الفرقان «1» عن ابن عباس. (1234) والرابع: أنَّ أهل مكَّةَ قالوا: يزعُم محمدٌ أنَّ مَنْ عَبَدَ الأوثانَ وقَتَلَ النَّفْسَ التي حرَّم اللهُ لم يُغْفَر له، فكيف نُهاجِر ونُسْلِم وقد فَعَلْنا ذلك؟! فنزلت هذه الآية وهذا مرويُّ عن ابن عباس أيضاً. ومعنى أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ارتكَبوا الكبائر. والقنوط بمعنى اليأس. وَأَنِيبُوا بمعنى ارجِعوا إِلى الله من الشِّرك والذًّنوب، وَأَسْلِمُوا لَهُ أي: أخِلصوا له التوحيد. و «تُنْصَرون» بمعنى تُمْنَعون. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ قد بيَّنّاه في قوله عزّ وجلّ: يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها «2» . [سورة الزمر (39) : الآيات 56 الى 59] أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) قوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ قال المبرِّد: المعنى: بادِروا قَبْلَ أن تقول نَفْسٌ، وحَذَراً من أن تقول نَفْسٌ. وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول. ومعنى يا حَسْرَتى يا

_ 4274 والنسائي في «التفسير» 469 والحاكم في «المستدرك» 2/ 403 والبيهقي 9/ 98 والواحدي في «أسباب النزول» 658 كلهم من طريق يعلى بن مسلم به. وأخرجه الطبري 26512 من طريق منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير به. حسن. أخرجه الحاكم 2/ 435 والطبري 20182 و 20183 والواحدي 730 من حديث ابن عمر عن عمر به، صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو حسن لأجل ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث فانتفت شبهة التدليس. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 5314 بتخريجنا. أخرجه الواحدي 727 معلقا، ووصله ابن أبي حاتم كما في أسباب النزول للسيوطي 955 عن ابن عباس، وصححه السيوطي. والحديث 1232 أصح منه. وانظر «تفسير القرطبي» 5316 بتخريجنا. قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 17: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك، لأن الله عمّ بقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ جميع المسرفين، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف. وقال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 70: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت مثل زبد البحر. ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر ما لم يتب منه.

[سورة الزمر (39) : الآيات 60 إلى 61]

ندامتا ويا حزنا. والتحسُّر: الاغتمام على ما فات. والألِف في «يا حسرتا» هي ياء المتكلم، والمعنى: يا حسرتي، على الإِضافة. قال الفراء: والعرب تحوِّل الياء إلى الألِف في كل كلام معناه الاستغاثة ويخرج على لفظ الدُّعاء، وربما أدخلت العربُ الهاء بعد هذه الألف، فيَخْفِضونها مَرَّةً، ويرفعونها أخرى. وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو عمران، وأبو الجوزاء: «يا حسرتي» بكسر التاء، على الإِضافة إِلى النَّفْس. وقرأ معاذ القارئ، وأبو جعفر: «يا حسرتايَ» ، بألف بعد التاء وياء مفتوحة، قال الزجاج: وزعم الفراء أنه يجوز «يا حسرتاهَ على كذا» بفتح الهاء، و «يا حسرتاهُِ» بالضم والكسر، والنحويّون أجمعون لا يُجيزون أن تُثْبَتَ هذه الهاءُ مع الوصل. قوله تعالى: فِي جَنْبِ اللَّهِ فيه خمسة أقوال: أحدها: في طاعة الله تعالى، قاله الحسن. والثاني: في حق الله، قاله سعيد بن جبير. والثالث: في أمْر الله، قاله مجاهد، والزجاج. والرابع: في ذِكْر الله، قاله عكرمة، والضحاك. والخامس: في قٌرْب الله روي عن الفراء أنه قال: الجَنْب: القُرْب، أي: في قُرْب الله وجِواره، يقال: فلان يعيش في جَنْبِ فلان، أي: في قُرْبه وجواره فعلى هذا يكون المعنى: على ما فرَّطْتُ في طلب قُرْب الله تعالى، وهو الجنة. قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي: وما كنتُ إِلاّ من المستهزِئين بالقرآن وبالمؤمنين في الدُّنيا. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أي: أرشَدني إِلى دينه لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الشِّرك فيقال لهذا القائل: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي قال الزجاج: و «بلى» جواب النفي، وليس في الكلام لفظ النفي، غير أن معنى «لو أن الله هداني» : ما هُديتُ، فقيل: «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي» . وروى ابن أبي سريج عن الكسائي: «جاءتكِ» ، «فكذَّبْتِ» ، «واسْتَكْبَرْتِ» ، «وكُنْتِ» ، بكسر التاء فيهنّ، مخاطَبة للنفْس. ومعنى «اسْتَكْبَرْتَ» : تكبَّرتَ عن الإِيمان بها. [سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 61] وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فزعموا أن له ولداً وشريكاً وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ. وقال الحسن: هم الذين يقولون: إن شئنا فَعَلْنا، وإِن شئنا لم نَفْعَل. وباقي الآية قد ذكرناه آنفا. قوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «بِمَفازَتِهِمْ» . قال الفراء. وهو كما قد تقول: قد تبيَّن أمرُ القوم وأمورهم، وارتفع الصوت والأصوات، والمعنى واحد. وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال: أحدها: بفضائلهم، قاله السدي. والثاني: بأعمالهم، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثالث: بفوزهم من النار. قال المبرِّد: المَفازة: مَفْعَلة من الفوز، وإن جُمع فحسن، كقولك: السعادة والسعادات، والمعنى: ينجيهم الله بفوزهم، أي: بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة. [سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 63] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن قتيبة: أي: مفاتيحُها وخزائنُها، لأن مالِكَ المفاتيح مالِك الخزائن، واحدها: إِقليد، وجُمع على غير واحد، كما قالوا: مَذاكير جمع ذَكَر، ويقال: هو

[سورة الزمر (39) : الآيات 64 إلى 66]

فارسيّ معرَّب. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: الإِقليد: المفتاح، فارسي معرَّب، قال الراجز: لَمْ يُؤْذِها الدِّيكُ بصوتِ تَغْرِيدْ ... ولَمْ تُعالِجْ غَلَقاً باقْليدْ والمِقْلِيدُ: لغةٌ في الإِقْلِيدِ، والجمع: مَقَالِيد. وللمفسرين في المقاليد قولان: أحدهما: المفاتيح، قاله ابن عباس. والثاني: الخزائن، قاله الضحاك. وقال الزجاج: تفسيره أن كل شيء في السموات والأرض، فهو خالقه وفاتح بابه. قال المفسرون: مفاتيح السموات: المطر، ومفاتيح الأرض: النبات. [سورة الزمر (39) : الآيات 64 الى 66] قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ قرأ نافع، وابن عامر: «تأمُرُونِي أعْبُدُ» مخفَّفةً، غير أن نافعاً فتح الياء، ولم يفتحها ابن عامر. وقرأ ابن كثير: «تأمرونّيَ» بتشديد النون وفتح الياء، وقرأ الباقون بسكون الياء. وذلك حين دعَوْه إلى دين آبائه أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي: فيما تأمُرون. قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولقد أُوحِيَ إِليكَ لئن أشركتَ لَيَحْبَطَنَّ عملُكَ، وكذلك أُوحيَ إِلى الذين مِنْ قَبْلِكَ. قال أبو عبيدة: ومجازها مجاز الأمرين اللَّذَين يُخْبَرُ عن أحدهما ويُكَفُّ عن الآخر. قال ابن عباس: هذا أدبٌ من الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم وتهديد لغيره، لأنّ الله عزّ وجلّ قد عصمه من الشِّرك. وقال غيره: إِنما خاطبه بذلك، لِيَعْرِفَ مَنْ دونَه أن الشِّرك يُحبِطُ الأعمال المتقدِّمة كلَّها ولو وقع من نبيٍّ. وقرأ أبو عمران وابن السميفع ويعقوب: «لَنُحْبِطَنَّ» بالنون، «عَمَلَكَ» ، بالنصب. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ أي: وحّد. [سورة الزمر (39) : آية 67] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. (1235) سبب نزولها أن رجلاً من أهل الكتاب أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أبا القاسم، بلغك أن الله تعالى يَحْمِلُ الخلائقَ على إِصْبع والأَرَضِينَ على إِصْبَع والشَّجَر على إِصْبَع والثَّرى على إِصْبع؟ فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذُه، فأنزل اللهُ تعالى هذه الآية، قاله ابن مسعود. وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين نحوه عن ابن مسعود.

_ صحيح. وليس فيه سبب نزول الآية. وورد عند الواحدي في «أسباب النزول» 731 وفيه سبب نزول الآية. وأخرجه البخاري 4811 والبغوي في شرح السنة 4199 بإسنادهما من حديث ابن مسعود، وأحمد 1/ 457 والآجري في «الشريعة» 751 والبيهقي في «الاعتقاد» ص 334 من طريق شيبان به. وأخرجه البخاري 7513 ومسلم 2786 ح 20 والنسائي في «التفسير» 470 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 78 والآجري في «الشريعة» 750 وابن حبان 7326 وابن أبي عاصم في «السنة» 541 والبيهقي ص 335 من طرق عن جرير به. وأخرجه البخاري 7414 ومسلم 2786 ح 19 والترمذي 3238 و 3239 والنسائي في «التفسير» 471 والطبري 30217 وابن خزيمة ص 77 والآجري 753 وابن أبي عاصم 542 والبيهقي ص 335 من طرق عن منصور به. وأخرجه البخاري 7415 ومسلم 2786 ح 21 و 22 والنسائي 472 من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة به.

[سورة الزمر (39) : الآيات 68 إلى 70]

وقد فسَّرنا أول هذه الآية في الأنعام «1» . قال ابن عباس: هذه الآية في الكفار، فأمّا مَنْ آمن بأنه على كل شيء قدير، فقد قَدَرَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ. ثم ذكر عظمته بقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ. (1236) وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يَقْبِضُ اللهُ الأرض يومَ القيامة ويَطْوي السماءَ بيمينه، ثم يقول: أنا الملِك، أين ملوكُ الأرض؟» . (1237) وأخرجا من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يطوي الله عزّ وجلّ السموات يومَ القيامة، ثم يأخذُهُنَّ بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملِك، أين الجبّارون، أين المتكبِّرون؟» . قال ابن عباس: الأرضُ والسموات كلُّها بيمينه. وقال سعيد بن جبير: السموات قَبْضَةٌ والأرضون قبضة. [سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 70] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «فصُعِقَ» بضم الصاد مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي: ماتوا من الفزع وشِدَّة الصَّوت. وقد بيَّنّا هذه الآية والخلاف في الذين استُثنوا في سورة النمل «2» . ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى وهي نفخة البعث فَإِذا هُمْ يعني الخلائق قِيامٌ يَنْظُرُونَ. قوله تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي: أضاءت. والمراد بالأرض: عَرَصات القيامة. قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فيه قولان: أحدهما: كتاب الأعمال، قاله قتادة، ومقاتل. والثاني: الحساب، قاله السدي. وفي الشهداء قولان: أحدهما: أنهم الذين يَشْهَدونَ على الناس بأعمالهم، قاله الجمهور. ثم فيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم المُرْسَلون من الأنبياء. والثاني: أمَّة محمد يَشهدونَ للرُّسل بتبليغ الرِّسالة، وتكذيبِ الأُمم إيّاهم، رويا عن ابن عباس رضي الله عنه. والثالث: الحفظه، قاله عطاء. الرابع: النّبيّون والملائكة وأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم والجوارح، قاله ابن زيد. والثاني: أنهم الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، قاله قتادة، والأول أصح. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي: جزاء عملها وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ أي: لا يَحتاجُ إلى كاتب ولا شاهد.

_ صحيح. أخرجه البخاري 6519 ومسلم 2787 وأبو يعلى 5850 من طريق ابن المبارك به عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري 7382 والنسائي في «التفسير» 475 وابن ماجة 192 من طريق ابن وهب عن يونس به. وأخرجه البخاري 4812 والدارمي 2/ 325 من طريقين عن الزهري: سمعت أبا سلمة، سمعت أبا هريرة ... صحيح. أخرجه مسلم 2788 ح 24 وأبو داود 4732 وأبو يعلى 5558 وابن أبي عاصم في «السنة» 547 والطبري 30228 وأبو الشيخ في «العظمة» 139 من طرق عن أبي أسامة به. وذكره البخاري 7413 تعليقا عن عمر بن حمزة به. وأخرجه مسلم 2788 وابن ماجة 198 و 4275 والطبري 30223 والطبراني 13327 وأبو الشيخ في «العظمة» 131 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 72- 73 وابن حبان 7324 من طرق عن أبي حازم عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر به.

[سورة الزمر (39) : الآيات 71 إلى 75]

[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 75] وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً قال أبو عبيدة: الزُّمَر: جماعاتٌ في تفرقة بعضُهم على إِثر بعض، واحدها: زُمْرة. قوله تعالى: رُسُلٌ مِنْكُمْ أي: أنفسكم. وكَلِمَةُ الْعَذابِ هي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1» . قوله تعالى: فُتِحَتْ أَبْوابُها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «فتّحت» «وفتّحت» مشدَّدتين، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بالتخفيف. وفي هذه الواو ثلاثة أقوال: أحدها: أنها زائدة، روي عن جماعة من اللُّغويين منهم الفراء. والثاني: أنها واو الحال فالمعنى: جاءوها وقد فُتحتْ أبوابُها، فدخلت الواو لبيان أن الأبواب كانت مفتَّحةٍ قبل مجيئهم، وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مُغْلَقةً قبل مجيئهم، ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ أهل الجنّة جاءوها وقد فُتحت أبوابُها ليستعجلوا السُّرور والفرح إِذا رأَوا الأبواب مفتَّحةً، وأهل النار يأتونها وأبوابُها مُغلَقة ليكون أشدَّ لحرِّها، ذكره أبو إِسحاق ابن شاقْلا من أصحابنا. والثاني: أن الوقوف على الباب المغلق نوعُ ذُلٍّ، فصِينَ أهلُ الجنة عنه، وجعل في حق أهل النار، ذكره لي بعض مشايخنا والثالث: أنه لو وَجَدَ أهلُ الجنة بابها مُغلَقاً لأثَّر انتظارُ فَتْحه في كمال الكَرَم، ومن كمال الكَرَم غَلْقُ باب النّار إِلى حين مجيء أهلها، لأن الكريم يعجِّل المثوبة، ويؤخِّر العقوبة، وقد قال عزّ وجلّ: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ «2» قال المصنف: هذا وجهٌ خطر لي. والقول الثالث: أن الواو زِيدتْ، لأنَّ أبواب الجنة ثمانيةٌ، وأبواب النار سبعةٌ، والعرب تَعْطِفُ في العدد بالواو على ما فوق السبعة على ما ذكرناه في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «3» ، حكى هذا القول والذي قبله الثعلبي. واختلف العلماء أين جوابُ هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الجواب محذوف، قاله أبو عبيدة، والمبرِّد، والزجّاج في آخرين. وفي تقدير هذا المحذوف قولان: أحدهما: أن تقديره: حَتَّى إِذا جاؤُها إِلى آخر الآية ... سُعِدوا، قاله المبرِّد. والثاني: حَتَّى إِذا جاؤُها إلى قوله تعالى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ.. دخلوها، وإِنما حُذف، لأن في الكلام دليلاًَ عليه، وهذا اختيار الزجاج. والقول الثاني: أن الجواب: قال لهم خزنتُها، والواو زائدة، ذكره الأخفش، قال: ومثله في الشِّعر.

_ (1) الأعراف: 18. (2) النساء: 147. (3) الكهف: 22.

فإذا وذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ ... إِلاَ كَلَمَّةِ حالِمٍ بخَيالِ «1» أي: فإذا ذلك. والثالث: الجواب: حتى إذا جاءوها فُتحتْ أبوابُها، والواو زائدة، حكاه الزجاج عن قوم من أهل اللغة. وفي قوله تعالى: طِبْتُمْ خمسة أقوال: أحدها: أنهم إذا انْتَهَوا إِلى باب الجنة وَجدوا عند بابها شجرةً يَخرج من تحت ساقها عينان، فيَشربون من إِحداهما، فلا يبقى في بطونهم أذىً ولا قذىً إِلاّ خرج، ويغتَسلون من الأُخرى، فلا تَغْبَرُّ جلودُهم ولا تَشَعَّثُ أشعارُهم أبداً. حتى إِذا انتَهَوْا إِلى باب الجنة قال لهم عند ذلك خزنتها: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ» ، رواه عاصم بن ضمرة عن علي رضى الله عنه «2» ، وقد ذكرنا في الأعراف «3» نحوه عن ابن عباس. والثاني: طاب لكم المقام، قاله ابن عباس. والثالث: طِبْتُم بطاعة الله، قاله مجاهد. والرابع: أنهم طُيِّبوا قَبْلَ دخول الجنة بالمغفرة، واقتُصَّ من بَعْضِهم لِبَعْض، فلمّا هُذِّبوا قالت لهم الخََزَنَةُ: طِبْتُم، قاله قتادة «4» . والخامس: كنتم طيّبين في الدُّنيا، قاله الزجاج. فلمّا دخَلوها قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة نتبوَّأ منها حيثُ نشاء منها أي: نَتَّخِذُ فيها من المنازل ما نشاء. وحكى أبو سليمان الدمشقي أن أُمَّة محمد صلّى الله عليه وسلّم يدخلون الجنة قبل الأمم، فينزلون منها حيث شاؤوا، ثم تنزل الأُمم بعدهم فيها، فلذلك قالوا: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ يقول الله عزّ وجلّ: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي: نِعْمَ ثوابُ المُطِيعِينَ في الدُّنيا الجنة. قوله تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ: أي مُحْدِقِينَ به، يُقال: حَفَّ القومُ بفلانٍ: إِذا أَحْدَقوا به ودخلتْ «مِنْ» للتوكيد، كقولك: ما جاءني من أحدٍ. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قال السدي، ومقاتل: بأَمْرِ ربِّهم. وقال بعضهم: يُسَبِّحونَ بالحمد له حيث دخل الموحِّدون الجنة. وقال ابن جرير: التَّسبيح هاهنا بمعنى الصَّلاة. قوله تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: بينَ الخلائق بِالْحَقِّ أي: بالعَدْلِ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا قول أهل الجنة شُكْراً لله تعالى على إِنعامه. قال المفسِّرون: ابتدأ اللهُ ذِكْرَ الخَلْق بالحَمْدِ فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «5» وختم غاية الأمر- وهو استقرار الفريقين في منازلهم- بالحمد لله بهذه الآية، فنبَّه على تحميده في بداية كلّ أمر وخاتمته.

_ (1) البيت لتميم بن مقبل، وهو في ديوانه 259. (2) أخرجه الطبري 30254 وابن المبارك في «الزهد» ص 509- 510 والبيهقي في «البعث» 272 عن عاصم عن علي، وإسناده لا بأس به. (3) الأعراف: 44. (4) ورد في هذا المعنى حديث أخرجه البخاري 2440 و 6535 وابن أبي عاصم 85 وابن مندة في «الإيمان» 838 واستدركه الحاكم 2/ 354 وابن حبان 7434 كلهم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يخلص المؤمنون من النار منحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا أذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدكم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا» لفظ البخاري. وانظر «تفسير القرطبي» 5340 بتخريجنا. [.....] (5) الأنعام: 1.

سورة الغافر

سورة الغافر قال أبو سليمان الدّمشقي: ويقال لها: سورة الطّول «1» . وهي مكّيّة! قاله ابن عباس، والحسن: ومجاهد، وعكرمة، وقتادة. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنّ فيها آيتين نزلتا بالمدينة: قوله: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ والتي بعدها «2» . قال الزّجّاج: وذكر أنّ الحواميم كلّها نزلت بمكّة. قال ابن قتيبة: يقال: إنّ «حم» اسم من أسماء الله أضيفت هذه السّورة إليه. كأنه قيل: سورة الله، لشرفها وفضلها، فقيل: آل حاميم، وإن كان القرآن كلّه سور الله، وإنّ هذا كما يقال: بيت الله، وحرم الله، وناقة الله، قال الكميت: وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأوّلها منّا تقيّ ومعرب «3» وقد تجعل «حم» اسما للسّورة، ويدخل الإعراب ولا يصرف، ومن قال هذا في الجميع: الحواميم، كما يقال: «طس» والطّواسين. وقال محمّد بن القاسم الأنباري: العرب تقول: وقع في الحواميم، وفي آل حميم، أنشد أبو عبيدة: حلفت بالسّبع اللّواتي طوّلت ... وبمئين بعدها قد أمئيت وبمثان ثنّيت فكررت ... وبالطّواسين اللّواتي ثلّثت وبالحواميم اللّواتي سبّعت فمن قال: وقع في آل حاميم، جعل حاميم اسما لكلّهنّ ومن قال: وقع في الحواميم، جعل «حم» كأنه حرف واحد بمنزلة قابيل وهابيل. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: من الخطأ أن تقول: قرأت الحواميم، وليس من كلام العرب، والصّواب أن تقول: قرأت آل حاميم. وفي حديث ابن مسعود: «إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات» «4» ، وقال الكميت: وجدنا لكم في آل حاميم آية

_ (1) ويقال لها: سورة المؤمن. (2) غافر: 35- 36. (3) البيت في «الكتاب» 2/ 30 و «مجاز القرآن» 2/ 193 و «اللسان» - عرب-. (4) في «اللسان» الدّمث: المكان اللين ذو رمل.

[سورة غافر (40) : الآيات 1 إلى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وفي (حم) أربعة أقوال «1» : أحدها: قَسَم أَقْسَمَ الله به وهو من أسمائه عزّ وجلّ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس: قال أبو سليمان: وقد قيل: إن جواب القسم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ «2» . والثاني: أنها حروف من أسماء الله عزّ وجلّ، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن «آلر» و «حم» و «ن» حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أن الحاء مفتاح اسمه «حميد» ، والميم مفتاح اسمه «مجيد» ، قاله أبو العالية. والثالث: أن الحاء مفتاح كل اسم لله ابتداؤه حاء، مثل «حكيم» ، و «حليم» ، و «حيّ» ، والميم مفتاح كلِّ اسمٍ له ابتداؤه ميم مثل «ملك» ، و «متكبِّر» ، و «مَجيد» ، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وروي نحوه عن عطاء الخراساني. والثالث: أن معنى «حم» : قُضِيَ ما هو كائن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. ورُوي عن الضحاك والكسائي مثل هذا، كأنهما أرادا الإِشارة إلى حُمَّ، بضم الحاء وتشديد الميم. قال الزجاج: وقد قيل في «حم» : حُمَّ الأمر. والرابع: أن «حم» اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وقرأ ابن كثير: «حم» بفتح الحاء وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: بكسرها واختلف عن الباقين. قال الزجاج: أمّا الميم فساكنة في قراءة القُرّاء كلّهم إلّا عيسى بن عمر، فإنه فتحها وفتحها على ضربين. أحدهما: أن يجعل «حم» اسماً للسُّورة، فينصبه ولا ينوِّنه، لأنه على لفظ الأسماء الأعجمية نحو هابيل وقابيل. والثاني: على معنى: اتْلُ حم والأجود أن يكون فتح لالتقاء الساكنين حيث جعله اسماً للسُّورة، ويكون حكاية حروف الهجاء. قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي: هذا تنزيلُ الكتاب. والتَّوْبُ: جمع تَوْبَة، وجائز أن يكون مصدراً من تاب يَتُوب تَوْبا. والطوَّل: الفَضْل. قال أبو عبيدة: يقال: فلان ذو طَوْل على قومه، أي: ذو فَضْل. وقال ابن قتيبة: يقال: طُلْ عليَّ يرحمك الله، أي: تَفَضَّلْ. قال الخطابي: ذو: حرف النِّسبة، والنّسبة في كلامهم على ثلاثة أوجه: بالياء، كقولهم: أسديّ، وبكريّ. والثاني: على الجمع، كقولهم: المَهالبة، والمسامعة، والأزارقة. والثالث: ب «ذي» و «ذات» ، كقولهم: رجُل مال، أي: ذو مال، وكبش صاف، أي: ذو صوف، وناقة ضامر، أي: ذات ضُمر، فقوله: ذو الطَّوْل، معناه: أهْل الطّول والفضل.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 38: والقول عندي في ذلك نظير القول في أخواتها، وقد بيّنا ذلك في قوله تعالى (الم) ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع، إذ كان القول في (حم) وجميع ما جاء في القرآن على هذا الوجه، أعني حروف التهجي قولا واحدا. اه. (2) غافر: 10.

[سورة غافر (40) : الآيات 4 إلى 6]

[سورة غافر (40) : الآيات 4 الى 6] ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) قوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي: ما يُخاصم فيها بالتكذيب لها ودفعها بالباطل إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وباقي الآية في آل عمران «1» والمعنى: إنّ عاقبة أمرهم إلى العذاب كعاقبة مَنْ قَبْلَهم. قوله تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ فيه قولان: أحدهما: ليقتُلوه، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: ليحبِسوه ويعذِّبوه، ويقال للأسير: أخيذٌ، حكاه ابن قتيبة. قال الأخفش: وإِنما قال: «ليأخُذوه» فجمع على الكلِّ، لأن الكلَّ مذكَّر ومعناه معنى الجماعة. وما بعد هذا مفسَّر في الكهف «2» إلى قوله تعالى: فَأَخَذْتُهُمْ أي: عاقبتهم وأهلكتم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم وَكَذلِكَ أي: مِثْل الذي حَقَّ على الأُمم المكذِّبة حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بالعذاب، وهي قوله عزّ وجلّ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «3» ، عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك. وقرأ نافع، وابن عامر: «حَقَّتْ كَلِماتُ ربِّكَ» ، أَنَّهُمْ قال الأخفش: لأنهم أو بأنّهم أَصْحابُ النَّارِ. [سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) ثم أخبر بفضل المؤمنين فقال: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهم أربعة أملاك، فإذا كان يوم القيامة جُعلوا ثمانيةً وَمَنْ حَوْلَهُ قال وهب بن منبِّه: حَوْلَ العرش سبعون ألف صفٍّ من الملائكة يطوفون به، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صفٍّ من الملائكة ليس فيِهم أحد إلاّ وهو يسبِّح بما لا يسبِّحه الآخر. وقال غيره: الذين حول العرش هم الكروبيّون وهم سادة الملائكة. وقد ذكرنا في السّورة المتقدّمة معنى قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ «4» . قوله تعالى: رَبَّنا أي يقولون: ربَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً قال الزجاج: هو منصوب على التمييز. وقال غيره: المعنى: وَسِعَتْ رحمتُك وعِلْمُك كلَّ شيء فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا من الشِّرك وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وهو دين الإِسلام. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ قال قتادة: يعني العذاب. [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ قال المفسّرون «5» : لمّا رأوا أعمالهم

_ (1) آل عمران: 196. (2) الكهف: 56. (3) الأعراف: 18. (4) الزمر: 75. (5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 87: يقول تعالى مخبرا عن الكفار: أنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظّون، وذلك عند ما باشروا من عذاب الله ما لا قبل لأحد به، فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة، التي كانت سبب دخولهم إلى النار: فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا نادوهم نداء بأن مقت الله لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الإيمان، فيكفرون، أشد من مقتكم، أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة.

[سورة غافر (40) : الآيات 13 إلى 17]

وأُدخِلوا النّارِ مَقَتُوا أنفُسَهم لِسُوءِ فِعْلِهم، فناداهم مُنادٍ: لَمَقْتُ الله إيّاكم في الدُّنيا: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أكبرُ مِنْ مقتكم أنفُسكم. ثم أخبر عما يقولون في النار بقوله تعالى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ وهذا مثل قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «1» وقد فسَّرناه هنالك. قوله تعالى: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ أي: من النار إِلى الدنيا لنعملَ بالطاعة مِنْ سَبِيلٍ؟ وفي الكلام اختصار، تقديره: فَأُجيبوا أن لا سبيل إِلى ذلك وقيل لهم: ذلِكُمْ يعني العذاب الذي نزل بهم بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أي: إِذا قيل «لا إله إلا الله» أنكرَتم، وإن جُعل له شريكٌ آمنتم، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ فهو الذي حكم على المشركين بالنار، وقد بيَّنَّا في سورة البقرة «2» معنى العليّ، وفي الرّعد «3» معنى الكبير. [سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 17] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ أي: مصنوعاته التي تَدُلُّ على وَحدانيَّته وقُدرته، والرِّزق هاهنا: المطر، سمِّي رزقاً، لأنه سبب الأرزاق. و «يتذكَّر» بمعنى يَتَّعظ، و «يُنيب» بمعنى يَرْجِع إِلى الطاعة. ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: موحِّدين. قوله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ قال ابن عباس: يعني رافع السموات، وحكى الماوردي عن بعض المفسِّرين قال: معناه: عظيم الصِّفات. قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ أي: خالِقُه ومالِكُه. قوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه القرآن. والثاني: النُّبوّة. والقولان مرويّان عن ابن عباس. وبالأول قال ابن زيد، وبالثاني قال السدي. والثالث: الوحي قاله قتادة، وإِنما ُسمِّي القرآن والوحي روحاً، لأن قِوام الدِّين به كما أن قِوام البدن بالرُّوح. والرابع: جبريل، قاله الضحاك. والخامس: الرَّحمة، حكاه إبراهيم الحربي. قوله تعالى: مِنْ أَمْرِهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مِنْ قضائه، قاله ابن عباس. والثاني: بأمره، قاله مقاتل. والثالث: من قوله تعالى، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني الأنبياء. لِيُنْذِرَ في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ. والثاني: النَّبيُّ الذي يوحى إليه. والمراد ب يَوْمَ التَّلاقِ: يوم القيامة وأثبت ياء «التلاقي» في الحالين ابن كثير ويعقوب، وأبو جعفر وافقهما في الوصل والباقون بغير ياءٍ في الحالَيْن. وفي سبب تسميته بذلك خمسة أقوال: أحدها: أنه يلتقي فيه أهل السماء والأرض، رواه يوسف بن مهران عن ابن

_ (1) البقرة: 28. (2) البقرة: 255. [.....] (3) الرعد: 9.

[سورة غافر (40) : الآيات 18 إلى 19]

عباس: والثاني: يلتقي فيه الأوَّلون والآخِرون، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: يلتقي فيه الخلق والخالق، قاله قتادة ومقاتل. والرابع: يلتقي المظلوم والظالم، قاله ميمون بن مهران. والخامس: يلتقي المرءُ بعمله، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي: ظاهِرون من قُبورهم لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ. فإن قيل: فهل يَخْفَى عليه منهم اليوم شيء؟. فالجواب: أنْ لا، غير أن معنى الكلام التهديد بالجزاء وللمفسِّرين فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يَخْفَى عليه ممّا عَمِلوا شيءٌ، قاله ابن عباس. والثاني: لا يَستترونَ منه بجبل ولا مَدَر، قاله قتادة. والثالث: أن المعنى: أَبْرَزهم جميعاً، لأنه لا يَخْفَى عليه منهم شيء، حكاه الماوردي. قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ اتفقوا على أن هذا يقوله الله عزّ وجلّ بعد فَناء الخلائق. واختلفوا في وقت قوله عزّ وجلّ له على قولين: أحدهما: أنه يقوله عند فَناء الخلائق إِذا لم يبق مجيب. فيَرُدّ هو على نفسه فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، قاله الأكثرون. والثاني: أنه يقوله يوم القيامة. وفيمن يُجيبه حينئذ قولان: أحدهما: أنه يُجيب نفسه وقد سكت الخلائق لقوله تعالى قاله عطاء. والثاني: أن الخلائق كلَّهم يُجيبونه فيقولون: «للهِ الواحدِ القهارِ» ، قاله ابن جريج. [سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 19] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ فيه قولان: أحدهما: أنه يومُ القيامة، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة: وسميت القيامة بذلك لقُربها، يقال: أَزِفَ شُخوص فلان، أي: قَرُبَ. والثاني: أنه يومُ حُضور المنيَّة، قاله قطرب. قوله تعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ وذلك أنها ترتقي إِلى الحناجر فلا تخرُج ولا تعود، هذا على القول الأول، وعلى الثاني: القلوب هي النُّفوس تبلغ الحناجرَ عند حضور المنيَّة قال الزّجّاج: وكاظِمِينَ منصوب على الحال، والحال محمولة على المعنى لأن القلوب لا يقال لها: كاظمين، وإِنما الكاظمون أصحاب القلوب فالمعنى: إِذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كَظْمهم. قال المفسِّرون: «كاظِمِين» أي: مغمومين ممتلئين خوفاً وحزناً، والكاظم: المُمْسِك للشيء على ما فيه، وقد أشرنا إلى هذا عند قوله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «1» . ما لِلظَّالِمِينَ يعني الكافرين مِنْ حَمِيمٍ أي: قريب ينفعُهم وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فيهم فتُقْبَل شفاعتُه. يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ قال ابن قتيبة: الخائنة والخيانة واحد. وللمفسرين فيها أربعة أقوال: أحدها: أنه الرجُل يكون في القوم فتمرُّ به المرأة فيُريهم أنه يغُضُّ بصره، فإذا رأى منهم غفلةً لَحَظَ إِليها، فإن خاف أن يَفْطنُوا له غَضَّ بصره، قاله ابن عباس. والثاني: أنه نظر العين إِلى ما نُهي عنه، قاله مجاهد. والثالث: الغمز بالعين، قاله الضحاك والسدي. قال قتادة: هو الغمز بالعين فيما لا يُحِبُّه الله ولا يرضاه. والرابع: النظرة بعد النظرة، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَما تُخْفِي الصُّدُورُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما تُضْمِره من الفعل أن لو قَدَرْتَ على ما نَظَرْتَ إِليه، قاله ابن عباس. والثاني: الوسوسة، قاله السدي. والثالث: ما

_ (1) آل عمران: 134.

[سورة غافر (40) : الآيات 20 إلى 25]

يُسِرُّه القلب من أمانة أو خيانة، حكاه الماوردي. [سورة غافر (40) : الآيات 20 الى 25] وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي: يحكمُ به فيَجزي بالحسنة والسَّيِّئة. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الآلهة. وقرأ نافع، وابن عامر: «تَدْعُونَ» بالتاء، على معنى: قُلْ لهم: لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ أي: لا يَحْكُمونَ بشيء ولا يجازون به وقد نبّه الله عزّ وجلّ بهذا على أنه حَيٌّ، لأنه إِنما يأمُر ويَقضي من كان حيّاً، وأيَّد ذلك بذِكْر السَّمع والبصر، لأنهما إنما يثبُتان لحيٍّ، قاله أبو سليمان الدمشقي. وما بعد هذا قد تقدّم بعضه «1» . وبعضه ظاهر إلى قوله تعالى: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وقرأ ابن عامر: «أشَدَّ مِنْكُمْ» بالكاف، وكذلك هو في مصاحفهم، وهو على الانصراف من الغَيْبَة إلى الخطاب، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ أي: من عذاب الله مِنْ واقٍ يقي العذاب عنهم. ذلِكَ أي: ذلك العذاب الذي نزل بهم بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ... إلى آخر الآية. ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا. وأراد بقوله تعالى: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أعيدوا القتل عليهم كما كان أوّلاً، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كان فرعون قَدْ كف َّعن قتل الوِلْدانِ، فلمّا بَعَثَ اللهُ موسى، أعاد عليهم القتل لِيصُدَّهم بذلك عن متابعة موسى. قوله تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: إنه يَذْهَب باطلاً ويَحيق بهم ما يريده الله عزّ وجلّ. [سورة غافر (40) : الآيات 26 الى 34] وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)

_ (1) يوسف: 109.

وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وإنما قال هذا، لأنه كان في خاصَّة فرعونَ مَنْ يَمْنَعُه مِنْ قَتْله خوفاً من الهلاك وَلْيَدْعُ رَبَّهُ الذي يزعُم أنه أرسله فلْيمنعه من القتل إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أي: عبادتكم إيّاي أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «وأن» بغير ألف. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «أو أن» بألف قبل الواو، على معنى: إن لم يبدِّل دِينَكم أوْقَعَ الفسادَ، إلاّ أن نافعاً وأبا عمرو قرآ: «يُظْهِرَ» بضم الياء «الفسادَ» بالنصب. وقرأ الباقون: «يَظْهَرَ» بفتح الياء «الفسادُ» بالرفع، والمعنى: يظهر الفساد بتغيير أحكامنا، فجعل ذلك فساداً بزعمه وقيل: يقتل أبناءَكم كما تفعلون بهم. فلمّا قال فرعونُ هذا، استعاذ موسى بربّه فقال: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر: «عُذْتُ» مبيَّنة الذّال، وأدغمها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي: متعظّم عن الإِيمان. فقصد فرعونُ قتل موسى، فقال حينئذ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وفي الآل هاهنا قولان «1» : أحدهما: أنه بمعنى الأهل والنَّسب، قال السدي ومقاتل: كان ابنَ عمّ فرعون، وهو المراد بقوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى «2» . والثاني: أنه بمعنى القبيلة والعشيرة، قال قتادة ومقاتل: كان قبطيّاً. وقال قوم: كان إسرائيليّاً، وإنما المعنى: قال رجل مؤمن يكتُم إيمانَه من آل فرعون. وفي اسمه خمسة أقوال: أحدها: حزبيل، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: حبيب، قاله كعب. والثالث: سمعون، بالسين المهملة، قاله شعيب الجبّائي. الرابع: جبريل. والخامس: شمعان، بالشين المعجمة، رويا عن ابن إسحاق، وكذلك حكى الزجاج «شمعان» بالشين، وذكره ابن ماكولا بالشين المعجمة أيضاً. والأكثرون على أنه آمن بموسى لمّا جاء. وقال الحسن: كان مؤمناً قبل مجيء موسى. وكذلك امرأة فرعون، قال مقاتل: كتم إيمانه من فرعون مائة سنة. قوله تعالى: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ أي: لأن يقولَ رَبِّيَ اللَّهُ وهذا استفهام إنكار وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بما يدُلُّ على صِدقه وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أي لا يضرُّكم ذلك وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ من العذاب. وفي «بَعْض» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «كُلّ» ، قاله أبو عبيدة، وأنشد للبيد:

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 92: المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطيا من آل فرعون قال السدي: كان ابن عم فرعون، ويقال: إنه الذي نجا مع موسى، واختاره ابن جرير، ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيليا، لأن فرعون انفعل لكلامه واستحقه، وكف عن قتل موسى عليه السلام، ولو كان إسرائيليا لأوشك أن يعاجل له بالعقوبة، لأنه منهم. (2) القصص: 20.

تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذا لَمْ أَرْضَها ... أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها أراد: كُلَّ النفُّوس. والثاني: أنها صِلَة، والمعنى: يُصِبْكم الذي يَعِدُكم، حُكي عن الليث. والثالث: أنها على أصلها، ثم في ذلك قولان أحدهما: أنه وعدهم النجاةَ إن آمنوا، والهلاكَ إن كفروا، فدخل ذِكْر البعض لأنهم على أحد الحالين. والثاني: أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، فصار هلاكُهم في الدنيا بعضَ الوَعْد، ذكرهما الماوردي. قال الزجاج: هذا باب من النظر يذهب فيه المُناظِر إلى إلزام الحُجَّة بأيسر ما في الأمر، وليس في هذا نفي إصابة الكلِّ، ومثله قول الشاعر: قَدْ يُدْرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مِنَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ «1» وإنما ذكر البعض ليوجبَ الكلَّ، لأن البعض من الكلّ، ولكن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزَّلل، فقد أبان فَضْلَ المتأنِّي على المستعجِل، بما لا يَقْدِر الخصم أن يدفعه، فكأنَّ المؤمن قال لهم: أَقَلْ ما يكون في صِدقه أن يُصيبَكم بعضُ الذي يَعِدُكم وفي بعض ذلك هلاككم، قال: وأما بيت لبيد: فإنه أراد ببعض النفوس: نَفْسَه وحدها. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي: لا يوفِّق للصَّواب مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ وفيه قولان: أحدهما: أنه المشرك، قاله قتادة. والثاني: أنه السَّفَّاك الدّم، قاله مجاهد. قوله تعالى: ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي: عالِين في أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا أي: من يَمْنَعُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ أي: من عذابه والمعنى: لا تتعرَّضوا للعذاب بالتكذيب وقَتْل النَّبيِّ فقال فرعونُ عند ذلك: ما أَراكُمْ من الرّأي والنّصيحة إِلَّا ما أَرى لنفسي وَما أَهْدِيكُمْ أي: أدعوكم إلاّ إلى طريق الهُدى في تكذيب موسى والإيمان بي، وهذا يَدُلُّ على أنه انقطع عن جواب المؤمِن. وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ قال الزجّاج: أي: مِثْلَ يَوْمِ حزب حزب والمعنى: أخاف أن تُقيموا على كفركم فينزلَ بكم من العذاب مِثْلُ ما نزل بالأُمم المكذِّبة رسلهم. قوله تعالى: يَوْمَ التَّنادِ قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «التَّنادِ» بغير ياءٍ. وأثبت الياء في الوصل والوقف ابن كثير، ويعقوب، وافقهم أبو جعفر في الوصل. وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وأبو العالية، والضحاك: «التَّنادِّ» بتشديد الدال. قال الزجاج: أمّا إثبات الياء فهو الأصل، وحذفها حسن جميل، لأن الكسرة تدُلُّ على الياء، وهو رأس آية، وأواخر هذه الآيات على الدَّال، ومن قرأ بالتشديد، فهو من قولهم: نَدَّ فلان، ونَدَّ البعير: إِذا هرب على وجهه، ويدل على هذا قوله: «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» وقوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ «2» قال أبو علي: معنى الكلام: إنِّي أخاف عليكم عذاب يوم التَّناد. قال الضحاك: إذا سمع الناسُ زفير جهنم وشهيقها نَدُّوا فِراراً منها في الأرض، فلا يتوجَّهونُ قطراً من أقطار الأرض إلا رأوْا ملائكة، فيرجعون من حيث جاءوا. وقال غيره: يُؤمَر بهم إلى النار فيَفِرُّون ولا عاصم لهم. فأمّا قراءة التخفيف، فهي من النّداء، وفيها للمفسرين أربعة أقوال: أحدها: أنه عند نفخة الفزع ينادي الناسُ بعضهم بعضا.

_ (1) البيت للقطامي، واسمه عمير. (2) عبس: 34.

(1238) روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يأمر الله عزّ وجلّ إِسرافيلَ بالنَّفخة الأولى فيقول: انفُخْ نفخةَ الفزع، فيفزَعُ أهلُ السموات والأرض إِلاّ من شاء الله، فتُسيَّر الجبالُ، وتُرَجُّ الأرض، وتَذْهَلُ المراضعُ، وتضع الحواملُ، ويولِّي الناس مُدْبِرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو قوله: «يَوْمَ التَّنادِ» . والثاني: أنه نداء أهل الجنة والنار بعضهم بعضاً كما ذكر في الأعراف «1» ، وهذا قول قتادة. والثالث: أنه قولهم: يا حسرتنا، يا ويلتنا، قاله ابن جريج. والرابع: أنه ينادى فيه كلُّ أُناس بإمامهم بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء. قوله تعالى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ فيه قولان: أحدهما: هرباً من النار. والثاني: أنه انصرافهم إلى النّار. قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي: من مانع. قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ وهو يوسف بن يعقوب، ويقال: إنه ليس به، وليس بشيء. قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قَبْلِ موسى بِالْبَيِّناتِ وهي الدّلالات على التوحيد، كقوله تعالى: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ ... الآية «2» ، وقال ابن السائب: البيِّنات: تعبير الرُّؤيا وشَقُّ القميص،

_ هو بعض حديث الصور الطويل: أخرجه الطبراني في «الطوال» 36 وأبو الشيخ في «العظمة 388 و 389 و 390 والبيهقي في «البعث» 668 و 669 والطبري 2/ 330 و 331 و 17/ 10 و 24/ 30 و 61 و 30/ 26 31- 32. وإسحاق بن راهوية كما في «المطالب العالية» 2991 من طرق عن إسماعيل بن رافع، وهو واه، فرواه تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، وتارة عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد، وهو واه. جاء في «الميزان» 872: ضعفه أحمد ويحيى وجماعة، وقال الدارقطني وغيره: متروك وقال ابن عدي: أحاديثه كلها مما فيه نظر اه باختصار وقد اضطرب فيه فرواه عن مجهول عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، ومرة عن محمد بن كعب عن مجهول عن أبي هريرة، وتارة بدون واسطة وقد نص الحفاظ على وهن هذا الحديث بطوله. فقال الحافظ في «المطالب العالية» 2991: فيه ضعف اه وقال البوصيري في 1/ 21: تابعيه مجهول، وجاء في «الفتح» 11/ 368- 369 عقب حديث 6518 ما ملخصه: وأخرجه عبد بن حميد وأبو يعلى في «الكبير» وعلي بن معبد في «الطاعة والمعصية» ومداره على إسماعيل بن رافع، واضطرب في سنده مع ضعفه، فرواه تارة عن القرظي بلا واسطة، وتارة بذكر رجل مبهم بينهما، وتارة عن القرظي عن أبي هريرة، وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في «تفسيره» عن محمد بن عجلان عن محمد القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع، وخفي عليه أن الشامي أضعف منه، ولعله سرقه من إسماعيل، فلزقه بابن عجلان وقد قال الدارقطني: يضع الحديث. وقال الحافظ ابن كثير: جمعه إسماعيل بن رافع من عدة آثار فساقه كله مساقا واحدا. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع: القاضي: أبو بكر العربي في «سراجه» وتبعه القرطبي في «التذكرة» وقول عبد الحقّ في تضعيفه أولى، وضعفه قبله البيهقي اه كلام الحافظ. وتكلم عليه أيضا ابن كثير رحمه الله في «نهاية البداية» 2/ 223- 224 وخلاصة القول أنه حديث ضعيف بتمامه، وبعض ألفاظه في الصحيحين، وغيرهما، وبعضه في الكتب المعتبرة. وبعضه الآخر منكر لا يتابع عليه. وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 190 بتخريجنا.

[سورة غافر (40) : الآيات 35 إلى 37]

وقيل: بل بعثه الله تعالى بعد موت ملِك مصر إلى القبط. قوله تعالى: فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ أي: من عبادة الله وحده حَتَّى إِذا هَلَكَ أي: مات قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أي: إنكم أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدِّد إِيجابَ الحجة عليكم كَذلِكَ أي: مِثْل هذا الضَّلال يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ أي: مُشْرِكٌ مُرْتابٌ أي: شاكّ في التوحيد وصدق الرّسل. [سورة غافر (40) : الآيات 35 الى 37] الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) قوله تعالى: الَّذِينَ يُجادِلُونَ قال الزجاج: هذا تفسير المسرف المرتاب، والمعنى: هُمْ الذين يجادِلونَ في آيات الله. قال المفسرون: يجادِلونَ في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان، أي: بغير حُجَّة أتتهم من الله. كَبُرَ مَقْتاً أي: كَبُرَ جدالُهم مَقْتاً عند الله وعند الذين آمنوا، والمعنى: يَمْقُتهم الله ويَمْقُتهم المؤمنون بذلك الجدال. كَذلِكَ أي: كما طَبَع اللهُ على قلوبهم حتى كذَّبوا وجادلوا بالباطل، يَطْبع عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ عن عبادة الله وتوحيده. وقد سبق بيان معنى الجبّار في هود «1» . وقرأ أبو عمرو: «على كلِّ قلبٍ» بالتنوين، وغيرُه من القرّاء السبعة يُضيفه. وقال أبو علي: المعنى: يطبع على جملة القلب من المتكبِّر. واختار قراءة الإِضافة الزجاج، قال: لأن المتكبِّر هو الإِنسان لا القلب. فإن قيل: لو كانت هذه القراءة أصوب لتقدَّم القلبُ على الكُلِّ؟ فالجواب: أن هذا جائز عند العرب، قال الفراء: تقدُّم هذا وتأخُّره واحد، سمعتُ بعض العرب يقول: هو يرجِل شعره يومَ كل جمعة، يريد: كلَّ يوم جمعة، والمعنى واحد. وقد قرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني: «على قلبِ كلِّ متكبِّر» بتقديم القلب. قال المفسرون: فلمّا وعظ المؤمنُ فرعونَ وزجره عن قتل موسى، قال فرعونُ لوزيره: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً وقد ذكرناه في القصص «2» . قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ قال ابن عباس وقتادة: يعني أبوابها. وقال أبو صالح: طرقها. وقال غيره: المعنى: لعلِّي أبلُغُ الطُّرق من سماءٍ الى سماءٍ. وقال الزجاج: لعلِّي أبلُغ ما يؤدِّيني إلى السموات. وما بعد هذا مفسَّر في القصص «3» إلى قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومِثْلُ ما وصفْنا زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عن سبيل الهدى. قرأ عاصم، وحمزة والكسائي: «وَصُدَّ» بضم الصاد، والباقون بفتحها، وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ في إبطال آيات موسى إِلَّا فِي تَبابٍ أي: في بطلان وخسران. [سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 40] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)

_ (1) هود: 59. (2) القصص: 38. (3) القصص: 38.

[سورة غافر (40) : الآيات 41 إلى 46]

ثم عاد الكلامُ إلى نصيحة المؤمن لقومه، وهو قوله: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أي: طريق الهدى، يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ يعني: الحياة في هذه الدار متاع يُتمتَّع بها أياماً ثم تنقطع وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ التي لا زوال لها. مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فيها قولان: أحدهما: أنها الشِّرك، ومثلها جهنم، قاله الأكثرون. والثاني: المعاصي، ومثلُها: العقوبةُ بمقدارها، قاله أبو سليمان الدمشقي. فعلى الأول، العمل الصالح: التوحيد، وعلى الثاني، هو علىٍ الإطلاق. قوله تعالى: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يُدخَلونَ» بضم الياء. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالفتح، وعن عاصم كالقراءتين. وفي قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ قولان: أحدهما: أنهم لا تَبِعَةَ عليهم فيما يُعْطَون في الجنة، قاله مقاتل. والثاني: أنه يُصَبُّ عليهم الرِّزق صَبّاً بغير تقتير، قاله أبو سليمان الدّمشقي. [سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 46] وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) قوله تعالى: وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ أي ما لكم، كما تقول: ما لي أراك حزيناً، معناه: ما لك، ومعنى الآية: أخبِروني كيف هذه الحال، أدعوكم إِلَى النَّجاةِ من النار بالإِيمان وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ أي إلى الشِّرك الذي يوجب النّار؟! ثم فسَّر الدَّعوتَين بما بعد هذا. ومعنى لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي: لا أعلم هذا الذي ادَّعَوْه شريكاً له. وقد سبق بيان ما بعد هذا «1» إلى قوله تعالى: لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ وفيه قولان: أحدهما: ليس له استجابة دعوة، قاله السدي. والثاني: ليس له شفاعة، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي: مَرْجِعنا والمعنى أنه يجازينا بأعمالنا. وفي المُسْرِفين قولان قد ذكرناهما عند قوله عزّ وجلّ: مُسْرِفٌ كَذَّابٌ «2» . قوله تعالى: فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني، وأبو رجاء: «فستَذَكَّرونَ» بفتح الذال وتخفيفها وتشديد الكاف وفتحها وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأيوب السختياني بفتح الذال والكاف وتشديدهما جميعاً. أي: إَذا نزل العذاب بكم، ما أقول لكم في الدنيا من النصيحة؟! وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي: أَرُدُّه، وذلك أنهم تواعدوه لمخالَفَتِهِ دينَهم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي: بأوليائه وأعدائه. ثم خرج المؤمن عنهم، فطلبوه فلم يقدروا عليه، ونجا مع

_ (1) البقرة: 129، طه: 82. (2) غافر: 28. [.....]

موسى لمّا عبر البحر، فذلك قوله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا أي: ما أرادوا به من الشَّرِّ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ لما لجوا في البحر سُوءُ الْعَذابِ قال المفسِّرون: هو الغرق. قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «1» ، قال ابن مسعود وابن عباس: إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يُعْرَضُونَ على النار كُلَّ يوم مرَّتين فيقال: يا آل فرعون هذه داركم. وروى ابن جرير قال: حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: حدثنا حماد بن محمد البلخي قال: سمعت الأوزاعي، وسأله رجل، فقال: رأينا طيوراً تخرج من البحر فتأخذ ناحية الغرب بِيْضاً، فَوْجاً فَوْجاً، لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشيّ رجع مثلها سُوداً، قال: وفَطَنْتم إلى ذلك؟ قال: نعم، قال: إن تلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يُعْرَضُونَ على النار غدوّاً وعشيّاً، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداء، فينبُت عليها من الليل رياش بِيض، وتتناثر السود، ثم تغدو ويعرضون على النار غدوّاً وعشيّا، فذلك دأبها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله عزّ وجلّ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «2» . (1239) وقد روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقْعَدُه بالغَداة والعشيّ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك اللهُ إليه يوم القيامة» . وهذه الآية تدل على عذاب القبر، لأنه بيَّن ما لهم في الآخرة فقال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا

_ صحيح. أخرجه البخاري 1379 ومسلم 2866 ح 65 والنسائي 4/ 107- 108 وأحمد 2/ 113 ومالك 1/ 239 والبغوي في «شرح السنة 1518 والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» 48 من طرق عن مالك به. وأخرجه البخاري 3240 و 6515 والترمذي 1072 والنسائي 4/ 107 وابن ماجة 4270 وأحمد 2/ 16 و 51 و 123 والطيالسي 1832 من طرق عن نافع به. وأخرجه مسلم 2866 ح 66 والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» 49 من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر به.

[سورة غافر (40) : الآيات 47 إلى 52]

قرأ ابن كثير، وابن عامر وأبو عمرو، وأبو بكر وأبان عن عاصم: «الساعةُ ادْخُلوا» بالضم، وضم الخاء على معنى الأمر لهم بالدخول، والابتداءُ على قراءة هؤلاء بضم الألف. وقرأ الباقون: بالقطع مع كسر الخاء على جهة الأمر للملائكة بإدخالهم، وهؤلاء يبتدئون بفتح الألف. [سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 52] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) قوله تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ المعنى: واذكر لقومك يا محمد إذ يختصمون، يعني أهل النّار، والآية مفسّرة في إبراهيم «1» . والذين استكبروا هم القادة. ومعنى إِنَّا كُلٌّ فِيها أي: نحن وأنتم، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي: قضى هذا علينا وعليكم. ومعنى قول الخَزَنة لهم: فَادْعُوا أي: نحن لا نَدْعو لكم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: إن ذلك يَبْطُل ولا يَنْفَع. إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك بإثبات حُججهم. والثاني: بإهلاك عدوِّهم. والثالث: بأن العاقبة تكون لهم. وفصلُ الخطاب: أنّ نصرهم حاصل لا بدّ منه، فتارة يكون بإعلاءِ أمرهم كما أعطى داود وسليمان من المُلك ما قهرا به كلّ كافر، وأظهر محمّدا صلّى الله عليه وسلّم على مكذِّبيه، وتارة يكون بالانتقام من مكذِّبيهم بانجاء الرسل وإهلاك أعدائهم، كما فعل بنوح وقومه وموسى وقومه، وتارة يكون بالانتقام من مكذِّبيهم بعد وفاة الرُّسل، كتسليطه بختنصر على قَتَلَة يحيى بن زكريا. وأمّا نصرهم يوم يقوم الأشهاد، فإن الله منجيهم من العذاب، وواحد الأشهاد شاهد، كما أن واحد الأصحاب صاحب. وفي الأشهاد ثلاثة أقوال: أحدها: الملائكة، شهدوا للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأُمم بالتكذيب، قاله مجاهد، والسدي. قال مقاتل: وهم الحَفَظة من الملائكة. والثاني: الملائكة والأنبياء، قاله قتادة. والثالث: أنهم أربعة: الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح، قاله ابن زيد. قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «تَنْفَعُ» بالتاء، والباقون بالياء لأن المعذرة والاعتذار بمعنى الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ أي: لا يُقْبَلُ منهم إن اعتذروا وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي: البُعد من الرَّحمة. وقد بيَّنّا في الرعد «2» أن «لهم» بمعنى «عليهم» ، وسُوءُ الدَّارِ: النّار. [سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 68] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

_ (1) إبراهيم: 21. (2) الرعد: 25.

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى من الضلالة، يعني التوراة وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ بعد موسى، وهو التوراة أيضا في قول الأكثرين، وقال ابن السائب: التوراة والإنجيل والزَّبور، والذِّكرى بمعنى التذكير. فَاصْبِرْ على أذاهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ في نصرك، وهذه الآية في هذه السّورة في موضعين «1» ، وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف. ومعنى «سَبّح» : صَلِّ. وفي المراد بصلاة العشيّ والإبكارِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس. والثاني: صلاة الغداة وصلاة العصر، قاله قتادة. والثالث: أنها صلاة كانت قبل أن تُفرض الصلوات، ركعتان غُدوةً، وركعتان عشيَّةً، قاله الحسن. وما بعد هذا قد تقدم آنفا «2» إلى قوله: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ الآية، نزلت في قريش والمعنى: ما يَحْمِلُهم على تكذيبك إلاّ ما في صدورهم من التكبُّر عليك، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكِبْر، لأن الله تعالى مُذِلُّهم، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرِّهم ثم نبَّه على قدرته بقوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أي: من إعادتهم، وذلك لكثرة أجزائها وعظم جِرْمها، فنبَّههم على قُدرته على إعادة الخَلْق. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني الكفار حين لا يستدلّون بذلك على

_ (1) غافر: 55، 77. (2) غافر: 4.

[سورة غافر (40) : الآيات 69 إلى 74]

التوحيد. وقال مقاتل «1» . عظمَّت اليهودُ الدجّالَ وقالوا: إن صاحبنا يُبعَث في آخر الزمان وله سلطان، فقال الله: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ لأن الدجّال من آياته، بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي: بغير حجة، فاستعذ بالله من فتنة الدجّال. قال: والمراد ب «خَلْق الناس» : الدجّال، وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والأول أصح «2» . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فيه قولان: أحدهما: وحِّدوني واعبُدوني أثِبْكم، قاله ابن عباس. والثاني: سلوني أُعْطِكم، قاله السدي. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي فيه قولان: أحدهما: عن توحيدي. والثاني: عن دعائي ومسألتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو: «سيُدْخَلونَ» بضم الياء، والباقون بفتحها، والدّاخر: الصّاغر. وما بعد هذا قد سبق في مواضع متفرّقة «3» إلى قوله: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وهو أجل الحياة إلى الموت وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ توحيدَ الله وقدرته. [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 74] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يعني القرآن، يقولون: ليس من عند الله، أَنَّى يُصْرَفُونَ أي: كيف صُرِفوا عن الحق إلى الباطل؟! وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم القَدَريَّة، ذكره جماعة من المفسرين، وكان ابن سيرين يقول: إن لم تكن نزلت في القَدَريَّة فلا أدري فيمن نزلت. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: «والسلاسلَ يَسحبونَ» بفتح اللام والياء. وقال ابن عباس: إذا سحبوها كان أشدَّ عليهم. قوله تعالى: يُسْجَرُونَ قال مجاهد: توقدَ بهم النار فصاروا وَقودَها. قوله تعالى: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مفسَّر في الأعراف «4» . وفي قوله: لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً قولان: أحدهما: أنهم أرادوا أن الأصنام لم تكن شيئاً، لأنها لم تكن تضُر ولا تنفع، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنهم قالوه على وجه الجحود، قاله أبو سليمان الدمشقي، كَذلِكَ أي: كما أضلَّ الله هؤلاء يضلّ الكافرين.

_ (1) عزاه لمقاتل، وهو متروك متهم. (2) مراد المصنف، أنها نزلت في قريش، هو الأصح. والله أعلم. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 100: وقال كعب وأبو العالية: نزلت هذه الآية في اليهود. وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه، والله أعلم. (3) يونس: 67، القصص: 73، الأنعام: 95، النمل: 61، الأعراف: 29، الحج: 5. (4) الأعراف: 190.

[سورة غافر (40) : الآيات 75 إلى 85]

[سورة غافر (40) : الآيات 75 الى 85] ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) ذلِكُمْ العذاب الذي نزل بكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: بالباطل وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ وقد شرحنا المَرَح في بني إسرائيل «1» ، وما بعد هذا قد تقدَّم بتمامه «2» إلى قوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وذلك لأنهم كانوا يقترِحون عليه الآيات فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وهو قضاؤه بين الأنبياء وأممهم، والْمُبْطِلُونَ: أصحاب الباطل. قوله تعالى: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي: حوائجكم في البلاد. قوله تعالى: أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ استفهام توبيخ. قوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ في «ما» قولان: أحدهما: أنها للنفي. والثاني: أنها للاستفهام، ذكرهما ابن جرير. قوله تعالى: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الأُمم المكذِّبة، قاله الجمهور، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنهم قالوا: نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نُحَاسَبَ، قاله مجاهد. والثاني: فرحوا بما كان عندهم أنه عِلْم، قاله السدي. والقول الثاني: أنهم الرُّسل، والمعنى: فرح الرُّسل لمّا هلك المكذِّبون ونَجَوْا بما عندهم من العِلْم بالله إذ جاء تصديقُه، حكاه أبو سليمان وغيره. قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ يعني بالمكذِّبين العذاب الذي كانوا به يستهزئون. والبأس: العذاب. ومعنى سُنَّتَ اللَّهِ: أنه سَنَّ هذه السُّنَّة في الأُمم، أي: أن إيمانهم لا ينفعُهم إذا رأوا العذاب، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ. فإن قيل: كأنهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك؟ فعنه جوابان. أحدهما: أن «خسر» بمعنى «هلك» ، قاله ابن عباس. والثاني: أنه إنما بيَّن لهم خُسرانهم عند نزول العذاب، قاله الزّجّاج.

_ (1) الإسراء: 37. (2) النحل: 29، يونس: 109، النساء: 164.

سورة فصلت

سورة فصّلت مكية كلها بإجماعهم، ويقال لها: سجدة المؤمن، ويقال لها: المصابيح. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قوله تعالى: تَنْزِيلٌ قال الفراء: يجوز أن يرتفع «تنزيلٌ» ب حم، ويجوز أن يرتفع بإضمار «هذا» . وقال الزجاج: «تَنْزِيلٌ» مبتدأ، وخبره «كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ» ، هذا مذهب البصريّين، وقُرْآناً منصوب على الحال، المعنى: بُيِّنَتْ آياتُه في حال جَمْعِه، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لِمَن يَعلم. قوله تعالى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ يعني أهل مكة فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ تكبُّراً عنه، وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي: في أغطية فلا نفقه قولك. وقد سبق بيان «الأكنَّة» و «الوَقْر» في الأنعام «1» . ومعنى الكلام: إنّا في تَرْكِ القبول منكَ بمنزلة من لا يَسمع ولا يَفهم، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ أي: حاجزٌ في النّحلة والدّين. قال الأخفش: «ومن» هاهنا للتوكيد. قوله تعالى: فَاعْمَلْ فيه قولان: أحدهما: اعمل في إبطال أمرنا إنا عاملون على إبطال أمرك. والثاني: اعْمَلْ على دِينكَ إنا عاملون على ديننا. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي: لولا الوحي لَمَا دعوتُكم. فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ أي: توجَّهوا إِليه بالطاعة. واستغفِروه من الشرك. قوله تعالى: الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ فيه خمسة أقوال «2» : أحدها: لا يشهدون أن «لا إله إلّا

_ (1) الأنعام: 25. (2) قال الطبري رحمه الله في «التفسير» 11/ 86: والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: معناه: لا يؤدون زكاة أموالهم، وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة. - وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 109: قال قتادة: يمنعون زكاة أموالهم. وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير. وفيه نظر. لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة، على ما ذكره غير واحد، وهذه الآية مكية، اللهم إلا أن يقال: لا يبعد أن يكون أصل الصدقة والزكاة مأمورا به في ابتداء البعثة، كقوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بيّن أمرها بالمدينة، ويكون هذا جمعا بين القولين، كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف فرض الله على رسوله الصلوات الخمس، وفصّل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك شيئا فشيئا، والله أعلم. [.....]

[سورة فصلت (41) : الآيات 9 إلى 12]

الله» ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والمعنى: لا يطهِّرون أنفُسَهم من الشرك بالتوحيد. والثاني: لا يؤمِنون بالزكاة ولا يُقِرُّون بها، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: لا يزكُّون أعمالهم، قاله مجاهد، والربيع. والرابع: لا يتصدَّقون، ولا يُنفِقون في الطاعات، قاله الضحاك، ومقاتل. والخامس: لا يُعطُون زكاة أموالهم، قال ابن السائب: كانوا يحُجُّون ويعتمرون ولا يزكُّون. قوله تعالى: غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع ولا منقوص. [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) قوله تعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ قال ابن عباس: في يوم الأحد والاثنين، وبه قال عبد الله بن سلام، والسدي، والأكثرون. وقال مقاتل: في يوم الثلاثاء والأربعاء. (1240) وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي، فقال: «خلق الله عزّ وجلّ التربة يومَ السبت، وخلق الجبال فيها يومَ الأحد، وخلق الشجر فيها يومَ الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النُّور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يومَ الخميس» ، وهذا الحديث يخالِف ما تقدَّم وهو أصح. قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً قد شرحناه في البقرة «1» ، وذلِكَ الذي فعل ما ذُكر رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي: جبالاً ثوابت من فوق الأرض، وَبارَكَ فِيها بالأشجار والثمار والحبوب والأنهار، وقيل: البَرَكة فيها: أن ينميَ فيها الزرع، فتخرج الحبّة حبّات، والنواة نخلةً وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قال أبو عبيدة: هي جمعُ قوت، وهي الأرزاق وما يُحتاج إليه. وللمفسرين في هذا التقدير خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه شقَّق الأنهار وغرس الأشجار، قاله ابن عباس. والثاني: أنه قسم أرزاق العباد والبهائم، قاله الحسن. والثالث: أقواتها من المطر، قاله مجاهد. والرابع: قدّر لكلّ بلدة ما لم

_ تقدم تخريجه في الجزء الأول، وهو أحد الأحاديث التي تكلم فيها، وهو في صحيح مسلم 2789.

يجعله في الأخرى كما أنَّ ثياب اليمن لا تصلح إلا ب «اليمن» والهرويَّة ب «هراة» ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة، قاله عكرمة والضحاك. والخامس: قدَّر البُرَّ لأهل قُطْرٍ، والتَّمْر لأهل قُطْرٍ، والذُّرَة لأهل قُطْرٍ، قاله ابن السائب. قوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي: في تتمة أربعة أيّام. قال الأخفش: ومثله أن تقول: تزوجت أمس امرأة، واليومَ ثنتين، وإحداهما التي تزوجتها أمس. قال المفسرون: يعني: الثلاثاء والأربعاء، وهما مع الأحد والإثنين أربعة أيام. قوله تعالى: سَواءً قرأ أبو جعفر: «سواءٌ» بالرفع. وقرأ يعقوب، وعبد الوارث: «سواءٍ» بالجر. وقرأ الباقون من العشرة: بالنصب. قال الزجاج: من قرأ بالخفض، جعل «سواءٍ» من صفة الأيّام فالمعنى: في أربعة أيّامٍ مستوِياتٍ تامَّاتٍ ومن نصب، فعلى المصدر فالمعنى: استوت سواءً واستواءً ومن رفع، فعلى معنى: هي سواءٌ. وفي قوله: لِلسَّائِلِينَ وجهان: أحدهما: للسائلين القوت، لأن كلاًَ يطلُب القوت ويسألُه. والثاني: لمن يسأل: في كم خُلقت الأرضُ؟ فيقال: خُلقتْ في أربعة أيّام سواء، لا زيادة ولا نقصان. قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قد شرحناه في البقرة «1» وَهِيَ دُخانٌ وفيه قولان: أحدهما: أنه لمّا خلق الماء أرسل عليه الريح فثار منه دخان فارتفع وسما، فسمّاه سماءً. والثاني: أنه لمّا خلق الأرض أرسل عليها ناراً، فارتفع منها دخان فسما. قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ قال ابن عباس: قال للسماء: أظْهِري شمسكِ وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شقِّقي أنهاركِ، وأخْرِجي ثمارك، طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ قال الزجاج: هو منصوب على الحال، وإنما لم يقل: طائعات، لأنهنَّ جَرَيْنَ مجرى ما يَعْقِل ويميِّز، كما قال في النجوم: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «2» ، قال: وقد قيل: أتينا نحن ومَنْ فينا طائعين. فَقَضاهُنَّ أي: خلقهنّ وصنعهنّ، قال أبو ذؤيب الهذلي: وعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... داوُدُ أَو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ «3» معناه: عَمِلَهما وصَنَعهما. قوله تعالى: فِي يَوْمَيْنِ قال ابن عباس وعبد الله بن سلام: وهما يوم الخميس ويوم الجمعة. وقال مقاتل: الأحد والإثنين، لأن مذهبه أنها خُلقتْ قبل الأرض. وقد بيَّنّا مقدار هذه الأيام في الأعراف «4» . وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فيه قولان: أحدهما: أوحى ما أراد، وأمر بما شاء، قاله مجاهد، ومقاتل. والثاني: خَلَقَ في كل سماءٍ خَلْقَها، قاله السدي. قوله تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي: القُرْبى إلى الأرض بِمَصابِيحَ وهي النًّجوم، والمصابيح: السُّرُج، فسمِّي الكوكب مصباحاً، لإضاءته وَحِفْظاً قال الزجاج: معناه: وحفظناها من استماع الشياطين بالكواكب حِفْظاً.

_ (1) البقرة: 29. (2) يس: 40. (3) في «اللسان» يقال: رجل صنع وامرأة صناع، إذا كان لهما صنعة يعملانها بأيديهما ويكسبان بها. (4) الأعراف: 54.

[سورة فصلت (41) : الآيات 13 إلى 18]

[سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً الصاعقة: المُهلِكُ من كل شيء والمعنى: أنذرتُكم عذاباً مثلَ عذابهم. وإنما خَصَّ القبيلتين، لأن قريشاً يمُرُّون على قرى القوم في أسفارهم. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي: أتت آباءهم ومَنْ كان قبلهم وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي: من خلف الآباء، وهم الذين أُرسلوا إلى هؤلاء الُمهلَكين أَلَّا تَعْبُدُوا أي بأن لا تعبُدوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا أي لو أراد دعوة الخلْق لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً. قوله تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا أي: تكبَّروا عن الإِيمان وعَمِلوا بغير الحقِّ. وكان هود قد تهدَّدهم بالعذاب فقالوا: نحن نقدر على دفعه بفضل قوَّتنا. والآيات هاهنا: الحُجج. وفي الرِّيح الصَّرصر أربعة أقوال: أحدها: أنها الباردة، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. وقال الفراء: هي الرِّيح الباردة تحرق كالنار، وكذلك قال الزجاج: هي الشديدة البرد جداً فالصَّرصر متكرِّر فيها البرد، كما تقول: أقللتُ الشيء وقلقلتُه، فأقللتُه بمعنى رفعتُه، وقلقلتُه: كرَّرتُ رفعه. والثاني: أنها الشديدةُ السَّموم، قاله مجاهد. والثالث: الشديدة الصَّوت، قاله السدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. والرابع: الباردة الشديدة، قاله مقاتل. قوله تعالى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «نَحْساتٍ» بإسكان الحاء وقرأ الباقون: بكسرها. قال الزجاج: من كسر الحاء، فواحدُهن «نَحِس» ، ومن أسكنها، فواحدُهن «نَحْس» والمعنى: مشؤومات. وفي أوَّل هذه الأيّام ثلاثة أقوال «1» : أحدها: غداة يوم الأحد، قاله السدي. والثاني: يوم الجمعة، قاله الربيع بن أنس. والثالث: يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام. والخِزْي: الهوان. قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بيَّنَّا لهم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقال قتادة: بَيَّنَّا لهم سبيل الخير والشر. والثاني: دَعَوْناهم، قاله مجاهد. والثالث: دَللْناهم على مذهب الخير، قاله الفراء. قوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى أي اختاروا الكفر على الإِيمان فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي ذي الهوان، وهو الذي يهينهم.

_ (1) وهذا من الشؤم المنهي عنه، حيث لا دليل عليه، وإنما هي روايات إسرائيلية، ولا يصح تعيين اسم هذا اليوم، والقرآن لم يذكر ذلك. قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 112: وقوله فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أي متتابعات، سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً: أي ابتدءوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم، واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام، حتّى أبادهم عن آخرهم، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة.

[سورة فصلت (41) : الآيات 19 إلى 25]

[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 25] وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) قوله تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ وقرأ نافع: «نَحْشُرُ» بالنون «أعداءً» بالنصب. قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: يُحْبَس أوَّلهم على آخرِهم ليتلاحقوا. حَتَّى إِذا ما جاؤُها يعني النار التي حُشروا إليها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، وفي المراد بالجلود ثلاثة أقوال: أحدها: الأيدي والأرجل. والثاني: الفروج، رويا عن ابن عباس. والثالث: أنه الجلود نفسها، حكاه الماوردي. وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال: (1241) كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك فقال: «هل تدرون مِمَّ أضحك؟» قال: قلنا: اللهُ ورسولهُ أعلم. قال: «من مخاطبة العبد ربّه، يقول: يا ربّ ألم تُجِرْني من الظُّلْم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإنّي لا أُجيزُ عليَّ إلا شاهداً منِّي، قال: فيقول: كفى بنفْسك اليومَ عليكَ شهيداٍ، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيُخْتَمُ على فِيه، فيقال لأركانه: انْطِقي، قال: فتَنْطقُ بأعماله، قال: ثُمَّ يُخَلَّى بينَه وبينَ الكلام، فيقول: بُعْداً لَكُنَّ وسُحْقاً، فعنكُنَّ كنتُ أًناضِل» . قوله تعالى: قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي: ممّا نطق. وهاهنا تم الكلام. وما بعده ليس من جواب الجلود. قوله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ. (1242) روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود قال: كنتُ مستتراً بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفرٍ، قرشيٌّ وخَتْناه ثقفيَّان، أو ثقفيٌّ وختَنْاه قرشيّان، كثيرٌ شّحْمُ بُطونهم، قليلٌ فِقْهُ قُلوبهم، فتكلَّموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أتُرَوْنَ اللهَ يَسْمَعُ كلامَنا هذا؟ فقال الآخران: إنّا إذا

_ صحيح. أخرجه مسلم 2969 عن أبي بكر بن أبي النضر من حديث أنس. وأخرجه أبو يعلى 3977 وابن حبان 7358 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 467 من طرق عن أبي بكر بن أبي النضر به. صحيح. أخرجه البخاري 4817 والبغوي في «التفسير» 1864 عن الحميدي من حديث ابن مسعود. وأخرجه البخاري 4816 و 7521 ومسلم 2775 والترمذي 3245 والطيالسي 1972 والنسائي في «التفسير» 488 والطبري 30496 والبيهقي في «الأسماء الصفات» 177 والواحدي في «أسباب النزول» 732 من طرق عن منصور به. وأخرجه مسلم 2775 وأحمد 1/ 381 و 426 و 442 و 444 وأبو يعلى 5204 والطبري 30497 والواحدي في «أسباب النزول» 733 من طريق الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود به. وأخرجه الحميدي 87 من طريق سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به.

[سورة فصلت (41) : الآيات 26 إلى 28]

رفعنا أصواتنا سَمِعَه، وإن لم نَرفع لم يَسمع، وقال الآخر: إن سمع منه شيئاً سمعه كلّه، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ إلى قوله: مِنَ الْخاسِرِينَ. ومعنى «تستترون» : تَسْتَخْفون «أن يَشهد» أي: من أن يشهد «عليكم سَمْعُكم» لأنكم لا تَقدرون على الاستخفاء من جوارحكم، ولا تظُنُّون أنها تَشهد وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ قال ابن عباس: كان الكفار يقولون: إن الله لا يَعلم ما في أنفُسنا، ولكنه يعلم ما يَظهر، وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ أي: أن الله لا يَعلم ما تعملون، أَرْداكُمْ أهلككم. فَإِنْ يَصْبِرُوا أي: على النّار فهي مسكنهم، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي: يَسألوا أن يُرجَع لهم إلى ما يحبُّون، لم يُرْجَع لهم، لأنهم لا يستحقُّون ذلك. يقال: أعتبني فلان، أي: أرضاني بعد إسخاطه إيّاي. واستعتبتُه، أي: طلبتُ منه أن يُعْتِب، أي: يَرضى. قوله تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي: سبَّبنا لهم قرناء من الشياطين فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا جنَّة ولا نار ولا بعث ولا حساب، وما خَلْفَهم من أمر الدنيا، فزيَّنوا لهم اللذّات وجمع الأموال وترك الإنفاق في الخير. والثاني: ما بين أيديهم من أمر الدنيا، وما خلفهم من أمر الآخرة، على عكس الأول. والثالث: ما بين أيديهم: ما فعلوه، وما خلفهم: ما عزموا على فعله. وباقي الآية قد تقدم تفسيره «1» . [سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 28] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ أي: لا تسمعوه وَالْغَوْا فِيهِ أي: عارِضوه باللَّغو، وهو الكلام الخالي عن فائدة. وكان الكفَّار يوصي بعضُهم بعضاً: إذا سمعتم القرآن من محمد وأصحابه فارفعوا أصواتكم حتى تُلبِّسوا عليهم قولهم. وقال مجاهد: والغَوْا فيه بالمكاء والصفير والتخليط من القول على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فيسكُتون. قوله تعالى: ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ يعني العذاب المذكور. وقوله: النَّارُ بدل من الجزاء لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي: دار الإقامة. قال الزجاج: النار هي الدّار، ولكنه كما تقول: لك في هذه الدّار دار السُّرور، وأنت تعني الدّار بعينها، قال الشاعر: أخو رغائبَ يُعطيها ويسألها ... يأبى الظُّلامَةَ منه النَّوْفَلُ الزّفر «2»

_ (1) الأعراف: 38، الإسراء: 16. (2) البيت لأعشى باهلة كما في «الأصمعيات» 89 و «خزانة الأدب» 1/ 89. والرغائب: العطايا الواسعة. والنّوفل: السيد المعطاء. والزفر: السيد. وقال في «اللسان» لأنه يزدفر بالأموال في الحمالات مطيقا له، والمعنى: يأبى الظلامة لأنه النوفل الزفر.

[سورة فصلت (41) : الآيات 29 إلى 32]

[سورة فصلت (41) : الآيات 29 الى 32] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لمّا دخلوا النّار رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «أَرْنا» بسكون الراء. قال المفسرون: يعنون إبليس وقابيل، لأنهما سنّا المعصية، نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ أي: في الدَّرْك الأسفل، وهو أشدُّ عذاباً من غيره. ثم ذكر المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي: وحَّدوه ثُمَّ اسْتَقامُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: استقاموا على التوحيد، قاله أبو بكر الصِّدِّيق، ومجاهد. والثاني: على طاعة الله وأداء فرائضه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة. والثالث: على الإِخلاص والعمل إِلى الموت، قاله أبو العالية، والسدي. (1243) وروى عطاء عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصِّدِّيق، وذلك أن المشركين قالوا: ربُّنا الله، والملائكة بناتُه، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا، وقالت اليهود: ربُّنا الله، وعزيرٌ ابنُه، ومحمد ليس بنبيّ، فلم يستقيموا، وقالت النصارى: ربُّنا الله، والمسيح ابنه، ومحمد ليس بنبيّ، فلم يستقيموا، وقال أبو بكر: ربنا الله وحده، ومحمدٌ عبدُه ورسولُه، فاستقام. قوله تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا أي: بأن لا تخافوا. وفي وقت نزولها عليهم قولان «1» : أحدهما: عند الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد فعلى هذا في معنى «أَلَّا تَخافُوا» قولان: أحدهما: لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم، قاله مجاهد. والثاني: لا تخافوا ما أمَامكم، ولا تحزنوا على ما خَلْفكم، قاله عكرمة، والسدي. والقول الثاني: تتنزَّل عليهم إذا قاموا من القبور، قاله قتادة فيكون معنى «أَلَّا تَخافُوا» : أنهم يبشِّرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة. قوله تعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ قال المفسرون: هذا قول الملائكة لهم، والمعنى: نحن الذين كنّا نتوّلاكم في الدُّنيا، لأن الملائكة تتولَّى المؤمنين وتحبُّهم لِما ترى من أعمالهم المرفوعة إلى السماء، وَفِي الْآخِرَةِ أي: ونحن معكم في الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. وقال السدي: هم الحَفظة على ابن آدم، فلذلك قالوا: «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ» وقيل: هم الملائكة الذين يأتون لقبض الأرواح. قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها أي: في الجنة. نُزُلًا قال الزجاج: معناه: أبشروا بالجنة تنزلونها نُزُلاً. وقال الأخفش: لكم فيها ما تشتهي أنفسكم أنزلناه نزلا. [سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 36] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

_ ذكره الواحدي بدون إسناد في «أسباب النزول» 734، ولم أره مسندا، فهو لا شيء، لخلوه عن الإسناد، والصحيح عموم الآية، وذكر اليهود والنصارى في هذا الخبر منكر جدا.

قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ فيمن أُريد بهذا ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم المؤذِّنون. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (1244) «نزلت في المؤذنين» ، وهذا قول عائشة، ومجاهد، وعكرمة. (1245) والثاني: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد. والثالث: أنه المؤمن أجابَ اللهَ إلى ما دعاه، ودعا الناسَ إلى ذلك وَعَمِلَ صالِحاً في إجابته، قاله الحسن. وفي قوله تعالى: وَعَمِلَ صالِحاً ثلاثة أقوال: أحدها: صلّى ركعتين بعد الأذان، وهو قول عائشة، ومجاهد، وروى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ» قال: الأذان «وَعَمِلَ صالِحاً» قال: الصلاة بين الأذان والإِقامة. والثاني: أدَّى الفرائض وقام لله بالحقوق، قاله عطاء. والثالث: صام وصلَّى، قاله عكرمة. قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ قال الزجاج: «لا» زائدة مؤكِّدة والمعنى: ولا تستوي الحسنة والسَّيِّئة، وللمفسرين فيهما ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحسنة: الإِيمان، والسَّيِّئة: الشِّرك، قاله ابن عباس.. والثاني: الحِلْم والفُحْش، قاله الضحاك. والثالث: النُّفور والصَّبر، حكاه الماوردي. قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وذلك كدفع الغضب بالصبر، والإِساءة بالعفو، فإذا فعلتَ ذلك صار الذي بينك وبينه عداوة كالصَّديق القريب «2» . وقال عطاء. هو السَّلام على من تعاديه إذا

_ لم أره في شيء من كتب التفسير والأثر، والأشبه أن المصنف أخذه من تفسير الكلبي أو مقاتل أو نحوهما، فإن المتن باطل. والصحيح العموم في كل داع يدعو إلى الله تعالى. أثر واه. أخرجه الطبري 30542 عن ابن زيد، واسمه عبد الرحمن، وهو متروك، ليس بشيء. وأخرجه 30541 عن السدي به، ولم أره عن ابن عباس. ولا يصح، وانظر التعليق المتقدم.

[سورة فصلت (41) : الآيات 37 إلى 39]

لَقِيتَه. قال المفسرون: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. قوله تعالى: وَما يُلَقَّاها أي: ما يُعْطاها. قال الزجاج: ما يُلَقَّى هذه الفَعْلَة: وهي دفع السَّيَّئة بالحسنة إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على كظم الغيظ وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الخير. وقال السدي: إلاّ ذو جَدٍّ. وقال قتادة: الحظُّ العظيم: الجنة فالمعنى: ما يُلَقَّاها إلاّ مَنْ وجبت له الجنة. قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ قد فسّرناه في الأعراف «1» . [سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 39] وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) قوله تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أي: تكبَّروا عن التوحيد والعبادة فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة يُسَبِّحُونَ أي: يصلُّون. و «يَسأمون» بمعنى يَمَلُّون. وفي موضع السجدة قولان «2» : أحدهما: أنه عند قوله: «يَسأمون» ، قاله ابن عباس، ومسروق، وقتادة، واختاره القاضي أبو يعلى، لأنه تمام الكلام. والثاني: أنه عند قوله: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، روي عن أصحاب عبد الله، والحسن، وأبي عبد الرحمن. قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً قال قتادة: غبراء متهشّمة، قال الأزهري: إذا يَبِست الأرضُ ولم تُمْطَر، قيل: خَشَعَتْ. قوله تعالى: اهْتَزَّتْ أي: تحرَّكَتْ بالنَّبات وَرَبَتْ أي عَلَتْ، لأن النبت إذا أراد أن يَظْهَر ارتفعت له الأرضُ وقد سبق بيان هذا «3» . [سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 42] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وقد شرحنا معنى الإِلحاد في النحل «4» وفي المراد به هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه وَضْع الكلام على غير موضعه،

_ (1) الأعراف: 200. (2) قال القرطبي في «تفسيره» 15/ 317: وقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... الآية، هذه الآية آية سجدة بلا خلاف، واختلفوا في موضع السجود منها فقال مالك: موضعه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لأنه متصل بالأمر وكان علي وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهم يسجدون عند قوله: تَعْبُدُونَ. وقال ابن وهب والشافعي: موضعه وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال وبه قال أبو حنيفة، وكان ابن عباس يسجد عند قوله: «يَسْأَمُونَ» . وقال ابن عمر: اسجدوا بالآخرة منهما. وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي قال ابن العربي: والأمر قريب. [.....] (3) الحج: 5. (4) النحل: 103.

[سورة فصلت (41) : الآيات 43 إلى 44]

رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه المُكاء والصفير عند تلاوة القرآن، قاله مجاهد. والثالث: أنه التكذيب بالآيات، قاله قتادة. والرابع: أنه المُعانَدة، قاله السدي. والخامس: أنه المَيْل عن الإِيمان بالآيات، قاله مقاتل. قوله تعالى: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا هذا وعيد بالجزاء أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ وهذا عامّ، غير أن المفسرين ذكَروا فيمن أُريدَ به سبعةَ أقوال: أحدها: أنه أبو جهل وأبو بكر الصِّدِّيق، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أبو جهل وعمّار بن ياسر، قاله عكرمة. والثالث: أبو جهل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن السائب، ومقاتل. والرابع: أبو جهل وعثمان بن عفّان، حكاه الثّعلبي. والخامس: أبو جهل وحمزة، حكاه الواحدي. والسادس: أبو جهل وعمر بن الخطاب. والسابع: الكافر والمؤمن، حكاهما الماوردي. قوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد والتهديد. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ يعني القرآن ثم أخذ في وصف الذِّكر وتَرَكَ جواب «إِنَّ» ، وفي جوابها هاهنا قولان: أحدهما: أنه «أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» ، ذكره الفراء. والثاني: أنه متروك، وفي تقديره قولان: أحدهما: إن الذين كفروا بالذِّكْر لمّا جاءهم كفروا به. والثاني: إن الذين كفروا يجازَون بكفرهم. قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: مَنيعٌ من الشيطان لا يجد إِليه سبيلاً، قاله السدي. والثاني: كريمُ على الله، قاله ابن السائب. والثالث: مَنيعٌ من الباطل، قاله مقاتل. والرابع: يمتنع على الناس أن يقولوا مِثْلَه، حكاه الماوردي. قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ فيه ثلاثة أقوال. أحدها: التكذيب، قاله سعيد بن جبير. والثاني: الشيطان. والثالث: التبديل، رويا عن مجاهد. قال قتادة: لا يستطيع إبليس أن ينقص منه حقاً ولا يَزيد فيه باطلاً، وقال مجاهد: لا يدخل فيه ما ليس منه. وفي قوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ثلاثة اقوال: أحدها: بين يَدَي تنزيله وبعد نزوله. والثاني: أنه ليس قَبْلَه كتاب يُبْطِله ولا يأتي بعده كتاب يُبْطِله. والثالث: لا يأتيه الباطل في إخباره عمّا تقدّم ولا في إخباره عمّا تأخّر. [سورة فصلت (41) : الآيات 43 الى 44] ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) قوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فيه قولان: أحدهما: أنه قد قيل فيمن أًرْسِلَ قَبْلَكَ: ساحر وكاهن ومجنون. وكُذِّبوا كما كًذِّبتَ، هذا قول الحسن، وقتادة، والجمهور. والثاني: ما تُخْبَر إلاّ بما أًخْبِر الأنبياءُ قَبْلَك من أن الله غفور، وأنه ذو عقاب، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ يعني الكتاب الذي أُنزلَ عليه قُرْآناً أَعْجَمِيًّا أي: بغير لغة العرب لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي: هلاّ بيّنت آياته بالعربية حتى نفهمه؟! ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «آعجمي» بهمزة ممدودة، وقرأ حمزة، والكسائي وأبو بكر

[سورة فصلت (41) : الآيات 45 إلى 46]

عن عاصم: «أأعجمي» بهمزتين، والمعنى: أكِتابٌ أعجميٌّ ونبيٌّ عربي؟! وهذا استفهام إنكار أي: لو كان كذلك لكان أشدَّ لتكذيبهم. قُلْ هُوَ يعني القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً من الضلالة وَشِفاءٌ للشُّكوك والأوجاع. و «الوَقْر» : الصَّمم فهُم في ترك القبول بمنزلة مَنْ في أُذنه صمم. وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أي: ذو عمىً. قال قتادة: صَمُّوا عن القرآن وعَمُوا عنه، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي: إِنهم لا يسمعون ولا يفهمون كالذي يُنادي من بعيد. [سورة فصلت (41) : الآيات 45 الى 46] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ هذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمعنى: كما آمن بكتابك قومٌ وكذَّب به قومٌ. فكذلك كتاب موسى، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب إلى أجل مسمّىً وهو القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالعذاب الواقع بالمكذِّبين وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْ صِدقك وكتابك، مُرِيبٍ أي: موقع لهم الرّيبة. [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 48] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) قوله تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ سبب نزولها أنّ اليهود قالوا للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أَخْبِرنا عن السّاعة إن كنتَ رسولاً كما تزعم، قاله مقاتل «1» . ومعنى الآية: لا يَعْلَم قيامَها إلا هو، فإذا سُئل عنها فِعلْمُها مردود إليه. وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «من ثمرةٍ» . وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «من ثمراتٍ» على الجمع مِنْ أَكْمامِها أي: أوعيتها. قال ابن قتيبة: أي: من المواضع التي كانت فيها مستترةً، وغلاف كل شيء: كُمُّه، وإِنما قيل: كُمُّ القميص، من هذا. قال الزجاج: الأكمام: ما غَطَّى، وكلُّ شجرة تُخْرِج ما هو مُكَمَّم فهي ذات أكمام، وأكمامُ النخلة: ما غطَّى جُمَّارَها من السَّعَفِ والليف والجِذْع، وكلُّ ما أخرجتْه النخلة فهو ذو أكمام، فالطَّلْعة كُمُّها قشرها، ومن هذا قيل للقَلَنْسُوة: كُمَّة، لأنها تُغَطِّي الرأْس، ومن هذا كُمّا القميص، لأنهما يغطِّيان اليدين. قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي: ينادي اللهُ تعالى المشركين أَيْنَ شُرَكائِي الذين كنتم تزعُمون قالُوا آذَنَّاكَ قال الفراء، وابن قتيبة: أعلمناكَ، وقال مقاتل: أسمعناكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ فيه قولان: أحدهما: أنه من قول المشركين والمعنى: ما مِنّا مِنْ شهيد بأنَّ لكَ شريكاً، فيتبرَّؤون يومئذ ممّا كانوا يقولون، هذا قول مقاتل. والثاني: أنه من قول الآلهة التي كانت تُعبد والمعنى: ما مِنّا من شهيد لهم بما قالوا، قاله الفرّاء، وابن قتيبة.

_ (1) باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والمتن باطل فإن السورة مكية بإجماع، وأخبار يهود وسؤالاتهم كانت في المدينة.

[سورة فصلت (41) : الآيات 49 إلى 52]

قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ أي بََطَلَ عنهم في الآخرة ما كانُوا يَدْعُونَ أي يعبُدون في الدنيا وَظَنُّوا أي أيقنوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ وقد شرحنا المحيص في سورة النّساء «1» . [سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 52] لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) قوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ قال المفسرون: المراد به الكافر فالمعنى: لا يَمَلُّ الكافرُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ أي: من دعائه بالخير، وهو المال والعافية. وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ وهو الفقر والشِّدة، والمعنى: إذا اختُبر بذلك يئس من روح الله وقَنْط من رحمته. وقال أبو عبيدة: اليؤوس، فَعُول من يأس، والقَنُوط، فَعُول من قَنَط. قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا أي: خيراً وعافية وغِنىً، لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي: هذا واجب لي بعملي وأنا محقوق به، ثم يشُكُّ في البعث فيقول: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي: لست على يقين من البعث وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى يعني الجنة، أي: كما أعطاني في الدنيا يعطيني في الآخرة فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: لَنُخْبِرَنَّهم بمساوئ أعمالهم. وما بعده قد سبق «2» إلى قوله تعالى: وَنَأى بِجانِبِهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، «ونأى» مثل «نعى» ، وقرأ ابن عامر: «وناء» مفتوحة النون، ممدودة والهمزة بعد الألف. وقرأ حمزة: «نئى» مكسورة النون والهمزة. فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ قال الفراء، وابن قتيبة: معنى العريض: الكثير، وإن وصفته بالطول أو بالعَرْض جاز في الكلام. قُلْ يا محمّد لأهل مكة أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ أي خلاف للحق بَعِيدٍ عنه؟ وهو اسم والمعنى: فلا أحدٌ أَضَلّ منكم. وقال ابن جرير: معنى الآية: ثُمَّ كفرتم به، ألستُم في شقاقٍ للحق وبُعد عن الصواب؟! فجعل مكان هذا باقي الآية. [سورة فصلت (41) : الآيات 53 الى 54] سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ فيه خمسة أقوال «3» : أحدها: في الآفاق:

_ (1) النساء: 121. (2) إبراهيم: 17، الإسراء: 83. (3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 125: إن الله وعد نبيه أن يري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذبين آيات في الآفاق، وغير معقول أن يكون تهديدهم بأن يريهم ما هم راؤوه، بل الواجب أن يكون ذلك وعدا منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا أراءوه قبل من ظهور نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» 4/ 123 وقال: ويحتمل أيضا أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركّب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة. كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع- تبارك وتعالى- وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة. من حسن وقبيح وبين ذلك. وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يحوزها ولا يتعدّاها.

فتح أقطار الأرض، وفي أنفسهم: فتح مكة، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنها في الآفاق: وقائع الله في الأمم الخالية، وفي أنفسهم: يوم بدر، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: أنها في الآفاق: إمساك القَطْر عن الأرض كلِّها، وفي أنفسهم: البلايا التي تكون في أجسادهم، قاله ابن جريج. والرابع: أنها في الآفاق: آيات السماء كالشمس والقمر والنجوم، وفي أنفسهم: حوادث الأرض، قاله ابن زيد. وحكي عن ابن زيد أن التي في أنفُسهم: سبيل الغائط والبول، فإن الإنسان يأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج من مكانين. والخامس: أنها في الآفاق: آثار مَنْ مضى قَبْلَهم من المكذِّبين، وفي أنفسهم: كونهم خُلِقوا نُطَفاً ثم عَلَقاَ ثم مُضَغاً ثم عظاماً إلى أن نُقِلوا إلى العقل والتمييز، قاله الزجاج. قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن. والثاني: إلى جميع ما دعاهم إِليه الرسول. وقال ابن جرير: معنى الآية: حتى يعلموا حقيقة ما أَنزلْنا على محمد وأوحينا إليه من الوعد له بأنّا مظهر ودينه على الأديان كلِّها. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: أو لم يكفِ به أنه شاهدٌ على كل شيء؟! قال الزجاج: المعنى: أو لم يكفِهم شهادةُ ربِّك؟! ومعنى الكفاية هاهنا: أنه قد بيَّن لهم ما فيه كفاية في الدّلالة على توحيده وتثبيت رسله.

سورة الشورى

سورة الشّورى وتسمى: سورة حم، عسق. وهي مكّيّة، رواه العوفي وغيره عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة قالا: إلّا أربع آيات نزلن بالمدينة، أوّلها: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً «1» وقال مقاتل: فيها من المدنيّ قوله: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله: بِذاتِ الصُّدُورِ «2» وقوله: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ إلى قوله: مِنْ سَبِيلٍ «3» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) قوله تعالى: حم قد سبق تفسيره. قوله تعالى: عسق فيه ثلاثة أقوال «4» . أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه حروف من أسماء ثم فيه خمسة أقوال: أحدها: أن العين عِلْم الله، والسين سناؤه، والقاف قُدرته، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثاني: أن العين فيها عذاب، والسين فيها مسخ، والقاف فيها قذف، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثالث: أن الحاء من حرب، والميم من تحويل مُلك، والعين من عدوّ مقهور، والسين استئصال بسِنين كسِنيّ يوسف، والقاف من قُدرة الله في ملوك الأرض، قاله عطاء. والرابع: أن العين من عالم، والسين من قُدُّوس، والقاف من قاهر، قاله سعيد بن جبير. والخامس: أن العين من العزيز، والسين من السلام، والقاف من القادر، قاله السدي. والثالث: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.

_ (1) الشورى: 23. (2) الشورى: 23- 24. (3) الشورى: 39- 41. (4) قال الشوكاني رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602: قد تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح، واختلفوا في (حم عسق) وقيل فيها، مما هو متكلف متعسف لم يدل عليه دليل ولا جاءت به حجة ولا شبهة حجة، وقد ذكرنا قبل ذلك ما روي من ذلك مما لا أصل له.

[سورة الشورى (42) : الآيات 7 إلى 9]

قوله تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه كما أوحيتُ «حم عسق» إلى كلِّ نبيّ، كذلك نوحيها إليك، قاله أبو صالح عن ابن عباس «2» . والثاني: كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى مَنْ قَبْلَكَ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أن «حم عسق» نزلت في أمر العذاب، فقيل: كذلك نُوحِي إليكَ أن العذاب نازلٌ بمن كذَّبك كما أوحينا ذلك إلى مَنْ كان قَبْلَكَ، قاله مقاتل. والرابع: أن المعنى: هكذا نوحي إليكَ، قاله ابن جرير. وقرأ ابن كثير: «يُوحَى» بضم الياء وفتح الحاء كأنه إذا قيل: مَن يوحي؟ قيل: الله. وروى أبان عن عاصم: «نوحي» بالنون وكسر الحاء. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة: «تكاد» بالتاء «يَتَفَطَّرْنَ» بياء وتاء مفتوحة وفتح الطاء وتشديدها. وقرأ نافع، والكسائي، «يكاد» بالياء «يَتَفَطِّرْنَ» مثل قراءة ابن كثير. وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «تكاد» بالتاء «يَنْفَطِرْنَ» بالنون وكسر الطاء وتخفيفها، أي: يَتَشَقَّقْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي: من فوق الأَرضِين من عَظَمة الرحمن وقيل: من قول المشركين: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» . ونظيرها التي في مريم «3» . وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قال بعضهم: يصلُّون بأمر ربِّهم وقال بعضهم: ينزِّهونه عمّا لا يجوز في صفته وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فيه قولان: أحدهما: أنه أراد المؤمنين، قاله قتادة، والسدي. والثاني: أنهم كانوا يستغفرون للمؤمنين، فلمّا ابتُليَ هاروت وماروت استغفروا لِمَن في الأرض. ومعنى استغفارهم: سؤالهم الرِّزق لهم، قاله ابن السائب. وقد زعم قوم منهم مقاتل أن هذه الآية منسوخة بقوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا «4» ، وليس بشيءٍ، لأنهم إنَّما يَستغفرون للمؤمنين دون الكفار، فلفظ هذه الآية عامّ، ومعناها خاصّ، ويدل على التخصيص قوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا لأن الكافر لا يستحق أن يُستغفَر له. قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني كفار مكة اتَّخَذوا آلهة فعبدوها من دونه اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي: حافِظٌ لأعمالهم ليجازيَهم بها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي: لم نوكِّلْكَ بهم فتؤخَذَ بهم. وهذه الآية عند جمهور المفسرين منسوخة بآية السيف، ولا يصحّ. [سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 9] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)

_ (1) قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» 4/ 213: (كذلك يوحى إليك) أي مثل ذلك الوحي. أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك وإلى الرسل (من قبلك) يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور، وأوحاه من قبلك إلى رسله، على معنى: أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده في الأولين والآخرين، ولم يقل: أوحي إليك، ولكن على لفظ المضارع، ليدل على أن إيحاء مثله عادته. (2) أبو صالح غير ثقة وبخاصة في ابن عباس، وروايته الكلبي، وهو وضاع. (3) مريم: 90. (4) غافر: 7. [.....]

[سورة الشورى (42) : الآيات 10 إلى 14]

قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومثل ما ذكرنا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا ليفهموا ما فيه لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى يعني مكة، والمراد: أهلها، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي: وتُنذِرهم يوم الجمع، وهو يوم القيامة، يَجمع اللهُ فيه الأوَّلِين والآخرِين وأهل السموات والأرضِين لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شكَّ في هذا الجمع أنه كائن، ثم بعد الجمع يتفرَّقون، وهو قوله: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. ثم ذكر سبب افتراقهم فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي على دين واحد، كقوله: لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «1» وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي في دينه وَالظَّالِمُونَ وهم الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ يدفع عنهم العذاب وَلا نَصِيرٍ يمنعهم منه. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي بل اتخذ الكافرون من دون الله أَوْلِياءَ يعني آلهة يتولَّونهم فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ أي وليُّ أوليائه، فليتَّخذوه وليّاً دون الآلهة وقال ابن عباس: وليُّك يا محمد ووليُّ من اتّبعك. [سورة الشورى (42) : الآيات 10 الى 14] وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ أي: من أمر الدِّين وقيل: بل هو عامّ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: علمه عند الله. والثاني: هو يحكُم فيه. قال مقاتل: وذلك أن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن بعضهم، فقال الله: أنا الذي أحكُم فيه ذلِكُمُ اللَّهُ الذي يحكُم بين المختلفين هو رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في مهمّاتي وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجِع في المَعاد. فاطِرُ السَّماواتِ قد سبق بيانه «2» ، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من مِثل خَلْقكم أَزْواجاً نساءً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أصنافاً ذكوراً وإناثاً، والمعنى أنه خلق لكم الذَّكر والأنثى من الحيوان كلِّه يَذْرَؤُكُمْ فيها ثلاثة أقوال: أحدها: يخلُقكم، قاله السدي. والثاني: يُعيِّشكم، قاله مقاتل. والثالث: يكثّركم، قاله الفرّاء. وفي قوله فِيهِ قولان: أحدهما: أنها على أصلها، قاله الأكثرون. فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدم ذكر الأزواج، قاله زيد بن أسلم. فعلى هذا يكون المعنى: يخلُقكم في بطون النساء، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة، فقال: يخلُقكم في الرَّحِم أو في الزَّوج وقال ابن جرير: يخلُقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ويعيِّشكم فيما جعل لكم من الأنعام.

_ (1) الأنعام: 35. (2) الأنعام: 14.

[سورة الشورى (42) : الآيات 15 إلى 16]

والثاني: أنها ترجع إلى الأرض، قاله ابن زيد فعلى هذا يكون المعنى: يذرؤكم فيما خلق من السموات والأرض. والثالث: أنها ترجع إلى الجَعْل المذكور، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: يعيِّشكم فيما جعل من الأنعام، قاله مقاتل، والثاني: يخلُقكم في هذا الوجه الذي ذكر مِنْ جَعْلِ الأزواج، قاله الواحدي. والقول الثاني: أن «فيه» بمعنى «به» والمعنى: يكثرِّكم بما جعل لكم، قاله الفراء والزجاج. قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ قال ابن قتيبة: أي: ليس كَهُوَ شيء، والعرب تُقيم المِثْلَ مُقام النَّفْس، فتقول: مِثْلي لا يُقال له هذا، أي: أنا لا يُقال لي هذا. وقال الزجاج: الكاف مؤكِّدة والمعنى: ليس مِثْلَه شيءٌ، وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله: شَرَعَ لَكُمْ أي: بيَّن وأوضح مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام، قاله قتادة. والثاني: تحريم الأخوات والأُمَّهات، قاله الحكم. والثالث: التوحيد وترك الشِّرك. قوله تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي: من القرآن وشرائع الإِسلام. قال الزجاج: المعنى: وشرع الذي أوحينا إليك وشرع لكم ما وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى. وقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ تفسير قوله: وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى وجائز أن يكون تفسيراً ل ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ولقوله: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ولقوله: وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى، فيكون المعنى: شرع لكم ولِمَن قبلكم إقامة الدِّين وترك الفُرقة، وشرع الاجتماع على اتِّباع الرُّسل. وقال مقاتل: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يعني التوحيد وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي لا تختلفوا كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أي عَظُمَ على مشركي مكة ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يا محمد من التوحيد. قوله تعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ أي: يَصطفي من عباده لِدِينه مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلى دِينه، مَنْ يُنِيبُ أي: يَرجع إِلى طاعته. ثم ذكر افتراقهم بعد أن أوصاهم بترك الفُرقة، فقال: وَما تَفَرَّقُوا يعني أهل الكتاب إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من بعد كثرة عِلْمهم للبغي. والثاني: من بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال. والثالث: من بعد ما جاءهم القرآن، بغياً منهم على محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير المكذِّبين من هذه الأُمَّة إلى يوم القيامة، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنزال العذاب على المكذِّبين وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد أنبيائهم لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي: من محمّد صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الشورى (42) : الآيات 15 الى 16] فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) قوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ قال الفراء: المعنى، فالى ذلك، تقول: دعوتُ إلى فلان، ودعوت

_ (1) الرعد: 26، الزمر: 63.

[سورة الشورى (42) : الآيات 17 إلى 20]

لفلان، و «ذلك» بمعنى «هذا» ، وللمفسّرين فيه قولان «1» : أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن السائب. والثاني: أنه التوحيد، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني أهل الكتاب، لأنهم دعَوه إلى دينهم. قوله تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ قال بعض النحويِّين: المعنى: أًمِرْتُ كي أَعْدِلَ. وقال غيره: المعنى: أُمِرْتُ بالعَدْل. وتقع «أُمِرْتُ» على «أن» ، وعلى «كي» ، وعلى «اللام» يقال: أُمِرْتُ أن أعدل، وكي أعدل، ولأعدل. ثم في ما أُمِرَ أن يَعْدِلَ فيه قولان: أحدهما: في الأحكام إذا ترافعوا إليه. والثاني: في تبليغ الرسالة. قوله تعالى: اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي: هو آلهنا وإن اختلفنا، فهو يجازينا بأعمالنا، فذلك قوله: لَنا أَعْمالُنا أي: جزاؤها. لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ قال مجاهد: لا خصومة بينَنا وبينَكم. فصل: وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنها اقتضت الاقتصار على الإنذار، وذلك قبل القتال، ثم نزلت آية السيف فنسختْها، قاله الأكثرون. والثاني: أن معناها: إن الكلام- بعد ظُهور الحُجج والبراهين- قد سقط بيننا، فعلى هذا هي مُحْكَمة، حكاه شيخنا عليّ بن عبيد الله عن طائفة من المفسرين. قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي: يُخاصِمون في دِينه. قال قتادة: هم اليهود، قالوا: كتابُنا قَبْلَ كتابكم، ونبيُّنا قبل نبيِّكم، فنحن خيرٌ منكم. وعلى قول مجاهد: هم المشركون، طمعوا أن تعود الجاهلية. قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي: من بعد إجابة الناس إلى الإسلام حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي: خصومتهم باطلة. [سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 20] اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ يعني القرآن بِالْحَقِّ أي: لم ينزله لغير شيء وَالْمِيزانَ فيه قولان: أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة، والجمهور. والثاني: أنه الذي يوزَن به، حكي عن مجاهد. ومعنى إِنزاله إلهامُ الخَلْق أن يَعملوا به، وأمرُ الله عزّ وجلّ إيّاهم بالإِنصاف. وسمِّي العَدْلُ ميزاناً لأن الميزان آلة الإِنصاف والتسوية بين الخَلْق. وتمام الآية مشروح في الأحزاب «2» .

_ (1) قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» 4/ 220: فلأجل ذلك التفرق ولما حدث سببه من تشعب الكفر شعبا (فَادْعُ) إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفة القديمة (وَاسْتَقِمْ) عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المختلفة الباطلة بما أنزل الله من كتاب، أي كتاب صح أن أنزله، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 129: اشتملت هذه الآية على عشر كلمات مستقلة، كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسه، قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه. (2) الأحزاب: 63.

فصل:

قوله تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها لأنهم لا يخافون ما فيها، إذْ لم يؤمنوا بكونها، فهم يطلبُون قيامها استبعاداً واستهزاءً وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ أي: خائفون مِنْها لأنهم يعلمون أنهم مُحاسَبون ومَجزيُّون، ولا يدرون ما يكون منهم وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي: أنها كائنة لا مَحالة أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ أي: يخاصِمون في كونها لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ حين لم يتفكَّروا، فيَعلموا قدرة الله على إقامتها. اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ قد شرحنا معنى اسمه «اللطيف» في الأنعام «1» ، وفي عباده ها هنا قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون. والثاني: أنه عامّ في الكُلّ. ولطفُه بالفاجر: أنه لا يُهلِكه. يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أي: يوسِّع له الرِّزق. قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ قال ابن قتيبة: أي عَمَلَ الآخرة، يقال: فلان يحرث للدّنيا، أي: يعمل لها ويجمع المال فالمعنى من أراد بعمله الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي: نُضاعِف له الحسنات. قال المفسرون: من أراد العمل لله بما يُرضيه، أعانه الله على عبادته، ومن أراد الدُّنيا مُؤْثِرا لها على الآخرة لأنه غير مؤمن بالآخرة، يؤته منها، وهو الذي قسم له، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ لأنه كافر بها لم يعمل لها. فصل: اتفق العلماء على أن أول هذه الآية إلى «حرثه» مُحْكَم، واختلفوا في باقيها على قولين: أحدهما: أنه منسوخ بقوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ «2» ، وهذا قول جماعة منهم مقاتل. والثاني: أن الآيتين مُحكَمتان متَّفقتان في المعنى، لأنه لم يقل في هذه الآية: نؤته مُراده، فعُلِم أنه إنما يؤتيه الله ما أراد، وهذا موافق لقوله: «لِمَنْ نُريد» ، ويحقِّق هذا أن لفظ الآيتين لفظ الخبر ومعناهما معنى الخبر، وذلك لا يدخُله النسخ، وهذا مذهب جماعة منهم قتادة. [سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 24] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يعني كفار مكة والمعنى: ألَهُمْ آلهةٌ شَرَعُوا أي ابتدعوا لَهُمْ دِيناً لم يأذن به الله؟! وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ وهي: القضاء السابق بأن الجزاء يكون في القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا بنزول العذاب على المكذِّبين. والظالمون في هذه الآية والتي تليها: يراد بهم المشركون. والإشفاق: الخوف. والذي كَسَبوا: هو الكفر والتكذيب، وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ يعني جزاءه. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: ذلِكَ يعني: ما تقدم ذِكْره من الجنّات الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ قال أبو سليمان الدمشقي: «ذلك» بمعنى: هذا الذي أخبرتُكم به بشرى يبشّر الله بها عباده. وقرأ

_ (1) الأنعام: 103. (2) الإسراء: 18.

ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «يَبْشَرُ» بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين. قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال: (1246) أحدها: أن المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس. (1247) والثاني: أنه لما قَدِم المدينةَ كانت تَنُوبه نوائبُ وليس في يده سَعَةٌ، فقال الأنصار: إن هذا الرجُل قد هداكم اللهٌ به، وليس في يده سَعَةٌ، فاجْمَعوا له من أموالكم ما لا يضرُّكم، ففعلوا ثم أتَوْه به، فنزلت هذه الآية، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. (1248) والثالث: أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أتُرَون محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. والهاء في «عليه» كناية عمّا جاء به من الهُدى. وفي الاستثناء هاهنا قولان: أحدهما: أنه من الجنس، فعلى هذا يكون سائلاً أجراً. وقد أشار ابن عباس في رواية الضحاك إلى هذا المعنى، ثم قال: نُسخت هذه بقوله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ الآية «1» ، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل. والثاني: أنه استثناء من غير الأول، لأن الأنبياء لا يَسألون على تبليغهم أجراً، وإنما المعنى: لكنِّي أُذكّرُكم المَوَدَّةَ في القُرْبى، وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس، منهم العوفي، وهذا اختيار المحقِّقين، وهو الصحيح، فلا يتوجَّه النسخ أصلاً. وفي المراد بالقُربى خمسة أقوال: أحدها: أن معنى الكلام: إلاّ أن تَوَدُّوني لقرابتي منكم، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد في الأكثرين. قال ابن عباس: ولم يكن بطنٌ من بطون قريش إلاّ ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم قرابة. والثاني: إلاّ أن تَوَدُّوا قرابتي، قاله عليّ بن الحسين، وسعيد بن جبير، والسدي. ثم في المراد بقرابته قولان: (1249) أحدهما: عليّ وفاطمة وولدها، وقد رووه مرفوعاً إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أنهم الذين تَحْرُم عليهم الصدقة ويُقْسَم فيهم الخُمُس وهم بنو هاشم وبنو المطَّلِب.

_ أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر» 5/ 700 عن الضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس. ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «الأسباب» 735 عن ابن عباس بدون إسناد، وقال الحافظ في «تخريجه» 4/ 221 ذكره الثعلبي والواحدي في «الأسباب» عن ابن عباس بغير سند، ويشبه أن يكون عن الكلبي وعن أبي صالح اه. وهذا هو الراجح فإن الواحدي إذا وجد الكلبي في إسناد ما. فإنه يحذف الإسناد فيذكره تعليقا ليبين أنه حديث واه. واه، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 736 عن قتادة مرسلا، ولم أره عن غيره، فهو واه. تقدم في سورة آل عمران.

[سورة الشورى (42) : الآيات 25 إلى 27]

والثالث: أن المعنى: إلاّ أن تَوَدَّدوا إلى الله تعالى فيما يقرِّبكم إليه من العمل الصالح، قاله الحسن، وقتادة. والرابع: إلاّ أن تَوَدُّوني، كما تَوَدُّون قرابتَكم، قاله ابن زيد. والخامس: إلاّ أن تَوَدُّوا قرابتَكم وتصِلوا أرحامَكم، حكاه الماوردي. والأول: أصح. قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ أي: مَنْ يَكْتَسِبْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي: نُضاعفْها بالواحدة عشراً فصاعداً. وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «يَزِدْ له» بالياء إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذُّنوب شَكُورٌ للقليل حتى يضاعفَه. أَمْ يَقُولُونَ أي: بل يقول كفار مكة افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً حين زعم أن القرآن من عند الله! فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فيه قولان: أحدهما: يَخْتِم على قلبك فيُنسيك القرآن، قاله قتادة. والثاني: يَرْبِط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يَشُقّ عليك قولهم: إنك مفترٍ، قاله مقاتل، والزجاج. قوله تعالى: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ قال الفراء: ليس بمردود على «يَخْتِمْ» فيكونَ جزماً، وإنما هو مستأنَف، ومثله ممّا حُذفتْ منه الواو وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ «1» . وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير. تقديره: والله يمحو الباطل. وقال الزجاج: الوقف عليها «ويمحوا» بواو وألف والمعنى: واللهُ يمحو الباطل على كل حالٍ، غير أنها كُتبتْ في المصاحف بغير واو، لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين، فكُتبتْ على الوصل، ولفظ الواو ثابت والمعنى: ويمحو اللهُ الشِّرك ويُحِقُّ الحق بما أنزله من كتابه على لسان نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الشورى (42) : الآيات 25 الى 27] وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ قد ذكرناه في براءة «2» . قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي: من خير وشرّ. قرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم بالتاء، وقرأ الباقون بالياء، على الإِخبار عن المشركين والتهديد لهم. و «يَسْتَجِيبُ» بمعنى يُجيب، وفيه قولان: أحدهما: أن الفعل فيه لله، والمعنى: يُجيبهم إذا سألوه وقد روى قتادة عن أبي إبراهيم اللخمي وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا قال: يُشَفَّعون في إِخوانهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال: يُشَفَّعون في إِخوان إِخوانهم. والثاني: أنه للمؤمنين فالمعنى: يجيبونه. والأول أصح. قوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ. (1250) قال خبّاب بن الأرتّ: فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنّا نَظَرْنا إلى أموال بني قريظة والنَّضير فتمنَّيناها، فنزلت هذه الآية.

_ ذكره الواحدي في «الأسباب» 737 عن خباب بدون إسناد فلا يحتج به، ولا يصح فالسورة مكية، والخبر مدني. وانظر «تفسير القرطبي» 5400 بتخريجنا.

[سورة الشورى (42) : الآيات 28 إلى 31]

ومعنى الآية: لو أوسَع اللهُ الرِّزق لعباده لبَطِروا وعَصَوْا وبغى بعضُهم على بعض، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ أي: ينزل أمره بتقدير ما يشاء مما يُصلح أمورَهم ولا يُطغيهم إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ فمنهم من لا يُصلحه إلا الغنى، ومنهم من لا يصلحه إلّا الفقر. [سورة الشورى (42) : الآيات 28 الى 31] وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ يعني المطر وقت الحاجة مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أي: يئسوا، وذلك أدعى لهم إلى شكر مُنزله وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ في الرحمة هاهنا قولان: أحدهما: المطر، قاله مقاتل. والثاني: الشمس بعد المطر، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وقد ذكرنا «الوليَ» في سورة النساء «1» و «الحميد» في البقرة «2» . قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ وهو ما يلحق المؤمن من مكروهٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ من المعاصي. وقرأ نافع، وابن عامر: «بما كسَبَتْ أيديكم» بغير فاء، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من السَّيّئات فلا يُعاقِبُ بها. وقيل لأبي سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللَّوم عمَّن أساء إليهم؟ قال: إنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، وقرأ هذه الآية. وقوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ إن أراد الله عقوبتكم، وهذا يدخل فيه الكفار والعصاة كلّهم. [سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 36] وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ والمراد بالجوارِ: السفن. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «الجواري» بياء في الوصل، إِلاّ أن ابن كثير يقف أيضاً بياءٍ، وأبو عمرو بغير ياء، ويعقوب يوافق ابن كثير، والباقون بغير ياءٍ في الوصل والوقف قال أبو علي: والقياس ما ذهب إليه ابن كثير، ومن حذف فقد كَثُر حذف مثل هذا في كلامهم. كَالْأَعْلامِ قال ابن قتيبة: كالجبال، واحدها: عَلَم. وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال: كل شيء مرتفع عند العرب فهو عَلَم. قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ التي تُجريها فَيَظْلَلْنَ يعني الجواري رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي: سواكن على ظهر البحر لا يَجْرِينْ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي: يُهْلِكْهُنَّ ويُغْرِقْهُنَّ، والمراد أهل السّفن،

_ (1) النساء: 45. (2) البقرة: 267.

[سورة الشورى (42) : الآيات 37 إلى 43]

ولذلك قال: بِما كَسَبُوا أي: من الذُّنوب وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ من ذنوبهم، فيُنجيهم من الهلاك. وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ قرأ نافع، وابن عامر: «وَيَعْلَمَ» بالرفع على الاستئناف وقطعه من الأول: وقرأ الباقون بالنصب، قال الفراء: هو مردود على الجزم إِلاّ أنه صُرف، والجزم إِذا صُرف عنه معطوفه نُصب. وللمفسرين في معنى الآية قولان: أحدهما: ويعلم الذين يخاصِمون في آيات الله حين يؤخَذون بالغرق أنه لا ملجأَ لهم. والثاني: أنهم يعلمون بعد البعث أنه لا مهرب لهم من العذاب. قوله تعالى: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أُعطيتم من الدنيا فهو متاع تتمتَّعون به، ثم يزول سريعاً، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا لا للكافرين، لأنه إنما أعدّ لهم في الآخرة العذاب. [سورة الشورى (42) : الآيات 37 الى 43] وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وقرأ حمزة، والكسائي: «كبيرَ الإِثم» على التوحيد من غير ألف، والباقون بألف. وقد شرحنا الكبائر في سورة النساء «1» . وفي المراد بالفواحش هاهنا قولان: أحدهما: الزنا. والثاني: موجبات الحدود. قوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أي: يَعْفُون عمَّن ظَلَمهم طلباً لثواب الله تعالى. وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أي: أجابوه فيما دعاهم إليه. وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ قال ابن قتيبة: أي يتشاورون فيه بينهم، وقال الزجاج: المعنى أنهم لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه. قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ اختلفوا في هذا البَغْي على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بَغْيُ الكفار على المسلمين، قال عطاء: هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبَغَوْا عليهم، ثم مَكنَّهم الله منهم فانتصروا. وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرقتين بمكة، فرقة كانت تُؤذَى فتَعفو عن المشركين، وفرقة كانت تُؤذَى فتنتصر، فأثنى اللهُ عزّ وجلّ عليهم جميعاً، فقال في الذين لم ينتصروا: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وقال في المنتصرين: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي: من المشركين. وقال ابن زيد: ذكر المهاجرين، وكانوا صنفين، صنفاً عفا، وصنفاً انتصر، فقال: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، فبدأ بهم، وقال في المنتصرين: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي: من المشركين وقال: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ إلى قوله: «يُنْفِقُونَ» وهم الأنصار: ثم ذكر الصِّنف الثالث فقال: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ من المشركين. والثاني: أنه بَغْيُ المسلمين على المسلمين خاصة. والثالث: أنه عامّ في جميع البُغاة، سواء كانوا مسلمين أو كافرين. فصل: واختلف في هذه الآية علماء الناسخ والمنسوخ، فذهب بعض القائلين بأنها في المشركين

_ (1) النساء: 31.

[سورة الشورى (42) : الآيات 44 إلى 46]

إلى أنها منسوخة بآية السيف، فكأنهم يشيرون إلى أنها أثبتت الانتصار بعد بَغْي المشركين، فلمّا جاز لنا أن نبدأَهم بالقتال، دَلَّ على أنها منسوخة. وللقائلين بأنها في المسلمين قولان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ «1» فكأنها نبَّهتْ على مدح المنتصِر، ثم أعلمنا أن الصبر والغفران أمدح، فبان وجه النسخ. والثاني: أنها محكَمة، لأن الصبر والغفران فضيلة، والانتصار مباح، فعلى هذا تكون محكمة، وهو الأصح. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية- وظاهرُها مدح المنتصِر- وبين آيات الحَثِّ على العفو؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه انتصار المسلمين من الكافرين، وتلك رتبة الجهاد كما ذكرنا عن عطاء. والثاني: أن المنتصِر لم يَخرج عن فعل أُبيح له، وإن كان العفو أفضل، ومَنْ لم يَخرج من الشرع بفعله، حَسُنَ مدحُه. قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين! صنفٌ يعفو، فبدأ بذكره، وصنفٌ ينتصر. والثالث: أنه إذا بغي على المؤمن فاسقٌ، فلأنَّ له اجتراءَ الفُسَّاق عليه، وليس للمؤمن أن يُذِلَّ نَفْسه، فينبغي له أن يَكْسِر شوكة العُصاة لتكون العِزَّة لأهل الدِّين. قال إبراهيم النخعي: كانوا يَكرهون للمؤمنين أن يُذِلًّوا أنفُسَهم فيجترئَ عليهم الفُسّاق، فإذا قَدَروا عَفَوْا، وقال القاضي أبو يعلى: هذه الآية محمولة على من تعدَّى وأصرَّ على ذلك، وآيات العفو محمولة على أن يكون الجاني نادماً. قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها قال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح، إذا قال له كلمة إجابة بمثْلها من غير أن يعتديَ. وقال مقاتل: هذا في القصاص في الجراحات والدماء. فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فلم يقتصّ وَأَصْلَحَ العمل فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ يعني من بدأَ بالظُّلم. وإنما سمَّى المجازاةَ سيِّئةً، لما بيَّنَّا عند قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ «2» قال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مُنادٍ: لِيَقُم مَنْ كان أجْرُه على الله، فلا يقوم إلاّ من عفا. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي: بعد ظُلم الظّالم إيَّاه والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول، ونظيره: مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ «3» وبِسُؤالِ نَعْجَتِكَ «4» ، فَأُولئِكَ يعني المنتصرين ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي: من طريق إلى لَوْم ولا حَدِّ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي: يبتدئون بالظُّلم وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: يعملون فيها بالمعاصي. قوله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ فلم ينتصرِ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وقد شرحناه في آل عمران «5» . [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ أي: من أحدٍ يلي هدايته بعد إضلال الله إيّاه. وَتَرَى الظَّالِمِينَ يعني المشركين لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ في الآخرة يسألون الرّجعة إلى الدنيا

_ (1) الشورى: 43. [.....] (2) البقرة: 194. (3) فصلت: 49. (4) ص: 24. (5) آل عمران: 186.

[سورة الشورى (42) : الآيات 47 إلى 50]

يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي: على النار خاشِعِينَ أي: خاضعين متواضعين مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وفيه أربعة أقوال: أحدها: من طَرْفٍ ذليل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقال الأخفش: ينظُرون من عين ضعيفة. وقال غيره: «مِنْ» بمعنى «الباء» . والثاني: يسارِقون النظر، قاله قتادة، والسدي. والثالث: ينظُرون ببعض العَيْن، قاله أبو عبيدة. والرابع: أنهم ينظُرون إلى النار بقلوبهم، لأنهم قد حُشروا عُمْياً، فلم يَرَوها بأعيُنهم، حكاه الفراء، والزجاج، وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله: يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: يمنعونهم من عذاب الله. [سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 50] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) قوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أي: أجيبوه، فقد دعاكم برسوله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ وهو يوم القيامة لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي: لا يَقدر أحد على رَدِّه ودفعه ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ تلجؤون إليه، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ قال مجاهد: من ناصر ينصُركم، وقال غيره: من قُدرة على تغيير ما نزل بكم. فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإِجابة فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً لحفظ أعمالهم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أي: ما عليك إلاّ أن تبلِّغهم. وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف. قوله تعالى: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها قال المفسرون: المراد به: الكافر والرحمة: الغنى والصحة والمطر ونحو ذلك، والسَّيِّئة: المرض والفقر والقحط ونحو ذلك، والإنسان هاهنا: اسم جنس، فلذلك قال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي: بما سلف من مخالفتهم فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ بما سلف من النّعم. لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: له التصرُّف فيها بما يريد، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني البنات ليس فيهنّ ذكر، كما وهب للوط صلّى الله عليه وسلّم، فلم يولَد له إلاَ البنات وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ يعني البنين ليس معهم أُنثى، كما وهب لإبراهيم عليه الصّلاة والسلام، فلم يولد له إِلا الذًّكور. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ يعني الإناث والذُّكور، قال الزجاج: ومعنى «يُزَوِّجُهُمْ» : يَقْرُنُهم، وكل شيئين يقترن أحدهما بالآخر، فهما زوجان، ويقال لكل واحد منهما: زوج، تقول: عندي زوجان من الخِفاف، يعني اثنين. وفي معنى الكلام للمفسرين قولان: أحدهما: أنه وضْعُ المرأة غلاماً ثم جارية ثم غلاماً ثم جارية، قاله مجاهد، والجمهور. والثاني: أنه وضْعُ المرأة جاريةً وغلاماً توأمين، قاله ابن الحنفية. قالوا: وذلك كما جمع لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم فإنه وهب له بنين وبنات، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً لا يولد له، كيحيى بن زكريا عليهما السلام. وهذه الأقسام موجودة في سائر الناس، وإنما ذكروا الأنبياء تمثيلا.

_ (1) الأنعام: 12، هود: 39.

[سورة الشورى (42) : الآيات 51 إلى 53]

[سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً. قال المفسرون: (1251) سبب نزولها أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألا تكلِّم الله وتنظرُ إليه إن كنتَ نبيّاً صادقاً كما كلَّمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم: «لم ينظرُ موسى إِلى الله» ، ونزلت هذه الآية. والمراد بالوحي هاهنا: الوحي في المنام. أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ كما كلَّم موسى. أَوْ يُرْسِلَ قرأ نافع، وابن عامر: «يُرْسِلُ» بالرفع فَيُوحِيَ بسكون الياء. وقرأ الباقون: «يُرْسِلْ» بنصب اللام «فيوحيَ» بتحريك الياء، والمعنى: «أو يرسِل رسولاً» كجبرائيل «فيوحي» ذلك الرسول إلى المرسَل إليه بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ. قال مكي بن أبي طالب: من قرأ «أو يرسِلَ» بالنصب، عطفه على معنى قوله: «إِلَّا وَحْياً» لأنه بمعنى: إلاّ أن يوحيَ. ومن قرأ بالرفع، فعلى الابتداء، كأنه قال: أو هو يرسِل. قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلِّم بشراً إلاّ من وراء حجاب في دار الدنيا. قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: وكما أوحينا إلى الرُّسل أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وقيل: الواو عطف على أول السورة، فالمعنى: كذلك نوحي إِليك وإلى الذين مِنْ قبلك. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا قال ابن عباس: هو القرآن، وقال مقاتل: وَحْياً بأمرنا. قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وذلك أنه لم يكن يَعرف القرآن قبل الوحي وَلَا الْإِيمانُ فيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه بمعنى الدعوة إلى الإِيمان، قاله أبو العالية. والثاني: أن المراد به: شرائع الإيمان ومعالمه، وهي كلُّها إيمان، وقد سمَّى الصلاة إيماناً بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «2» هذا اختيار ابن قتيبة، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة. والثالث: أنه ما كان يَعرف الإِيمان حين كان في المهد وإذْ كان طفلاً قبل البلوغ، حكاه الواحدي. والقول ما اختاره ابن قتيبة، وابن خزيمة، وقد اشتُهر في الحديث عنه عليه السلام أنه كان قبل النبوَّة يوحِّد الله، ويُبْغِض اللاّتَ والعُزَّى، وَيحُجُّ ويعتمر، ويتَّبع شريعةَ إِبراهيم عليه السلام «3» . قال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله: من زعم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان على دين قومه، فهو قول سوءٍ، أليس كان لا يأكل ما ذُبح على النّصب؟ وقال ابن قتيبة:

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 739 بدون إسناد، ومن غير عزو لأحد، فهو ساقط. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 234: لم أجده. وانظر «تفسير القرطبي» 5420 بتخريجنا.

قد جاء في الحديث أنه كان على دين قومه أربعينَ سنةً «1» . ومعناه: أن العرب لم يزالوا على بقايا مِنْ دين إسماعيل، من ذلك حِجُّ البيت، والختانُ، وِإيقاعُ الطلاق إذا كان ثلاثاً، وأن للزوج الرَّجعة في الواحدة والاثنتين، ودِيَة النَّفْس مائة من الإبل، والغُسل من الجنابة، وتحريمُ ذوات المحارم بالقرابة والصّهر، وكان عليه الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإِيمان بالله والعمل بشرائعهم في الختان والغُسل والحج، وكان لا يقرب الأوثان، ويَعيبُها. وكان لا يَعرف شرائعَ الله التي شَرَعها لعباده على لسانه، فذلك قوله: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ يعني القرآن وَلَا الْإِيمانُ يعني شرائع الإِيمان ولم يُرِدِ الإِيمانَ الذي هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشِّرك كانوا يؤمِنون بالله ويحجُّون له البيت مع شِركهم. قوله تعالى: وَلكِنْ جَعَلْناهُ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن. والثاني: إلى الإِيمان. نُوراً أي: ضياءً ودليلاً على التوحيد نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا إلى دِين الحق. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي أي: لَتَدعو إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام.

_ (1) ليس بحديث، وإنما هو رأي لبعض أهل العلم، وهو مرجوح، بل الصواب أنه على دين إبراهيم عليه السلام، لأن قومه كانوا على الشرك كما نطق القرآن بذلك في آيات كثيرة فمن ذلك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ... والمراد بالمشركين هنا قريش وما والاها، فتنبه، والله أعلم.

سورة الزخرف

سورة الزّخرف وهي مكية بإجماعهم. وقال مقاتل: هي مكّيّة، إلّا آية، وهي قوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) قوله تعالى: حم قد تقدّم بيانه. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قسمٌ بالقرآن. إِنَّا جَعَلْناهُ قال سعيد بن جبير: أنزَلْناه. وما بعد هذا قد تقدّم بيانه «2» إلى قوله: وَإِنَّهُ يعني القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ قال الزجاج: أي: في أصل الكتاب، وأصل كلِّ شيء: أُمُّه، والقرآن مُثْبَتٌ عند الله عزّ وجلّ في اللوح المحفوظ. قوله تعالى: لَدَيْنا أي: عندنا لَعَلِيٌّ أي: رفيع. وفي معنى الحكيم قولان: أحدهما: مُحْكَم، أي: ممنوعٌ من الباطل، قاله مقاتل. والثاني: حاكمٌ لأهل الإِيمان بالجنة ولأهل الكفر بالنار، ذكره أبو سليمان الدمشقي، والمعنى: إن كذَّبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريفٌ عظيمُ المَحَلِّ. قوله تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً قال ابن قتيبة: أي: نُمْسِكُ عنكم فلا نذكُركم صفحاً، أي: إِعراضاً، يقال: صَفَحْتُ عن فلان: إذا أعرضت عنه، والأصل في ذلك أن تُولِّيه صَفْحةَ عنقك، قال كُثَيِّر يصف امرأة: صَفُوحاَ فما تَلْقاكَ إلاّ بَخِيلَةً ... فمَنْ مَلَّ منها ذلك الوَصْلَ مَلَّتِ «3» أي: مُعْرِضَة بوجهها، يقال ضَرَبْتُ عن فلان كذا: إِذا أمسكتَه، وأضربتَ عنه. أَنْ كُنْتُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «أن كنتم» بالنصب، أي: لأِن كنتم قوماً مسرفين. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: «إِن كنتم» بكسر الهمزة. قال الزجاج: وهذا على معنى الاستقبال،

_ (1) الزخرف: 45. (2) النساء: 82، يوسف: 2. (3) البيت لكثير عزة كما في «اللسان» - صفح-

[سورة الزخرف (43) : الآيات 11 إلى 14]

أي: إِن تكونوا مسرفين نَضْرِبْ عنكم الذِّكْر. وفي المراد بالذِّكْر قولان «1» : أحدهما: أنه ذِكْر العذاب، فالمعنى: أفنُمْسِكُ عن عذابكم ونترُكُكم على كفركم؟! وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنه القرآن، فالمعنى: أفنُمْسِكُ عن إنزال القرآن من أجل أنكم لا تؤمِنون به؟! وهو معنى قول قتادة، وابن زيد. وقال قتادة: «مُسْرِفِينَ» بمعنى مشركين. ثم أعلم نبيَّه أنِّي قد بعَثتُ رُسُلاً فكُذِّبوا فأهلكتُ المكذِّبين بالآيات التي تلي هذه. قوله تعالى: أَشَدَّ مِنْهُمْ أي: من قريش بَطْشاً أي: قُوَّةً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي: سبق وصفُ عِقابهم فيما أُنزل عليك. وقيل: سبق تشبيه حال أولئك بهؤلاء في التكذيب، فستقع المشابهة بينهم في الإِهلاك. ثم أخبر عن جهلهم حين أقَرُّوا بأنه خالق السموات والأرض ثم عبدوا غيره بالآية التي تلي هذه ثم التي تليها مفسَّرة في طه «2» إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لكي تهتدوا في أسفاركم إلى مقاصدكم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 11 الى 14] وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) قوله تعالى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ قال ابن عباس: يريد أنه ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قَدَرٍ فأغرقهم، بل هو بقَدَرٍ ليكون نافعاً. ومعنى «أنشَرْنا» أحيَيْنا. قوله تعالى: كَذلِكَ تُخْرَجُونَ قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر: «تَخْرُجُونَ» بفتح التاء وضم الراء، والباقون بضم التاء وفتح الراء. وما بعد هذا قد سبق «3» إلى قوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ قال أبو عبيدة: هاء التذكير ل «ما» . ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذ سخَّر لكم ذلك المَركب في البَرِّ والبحر، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال ابن عباس ومجاهد: أي: مُطيقين، قال ابن قتيبة: يقال: أنا مُقْرن لك، أي: مُطيق لك، ويقال: هو من قولهم: أنا قِرْنٌ لفلان: إذا كنتَ مثله في الشِّدة، فإن قلتَ: أنا قَرْنٌ لفلان- بفتح القاف- فمعناه: أن تكون مثله بالسِّنّ. وقال أبو عبيدة: «مُقْرِنِينَ» أي: ضابِطِين، يقال: فلان مُقْرِنٌ لفلان: أي: ضابط له. قوله تعالى: وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي: راجعون في الآخرة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 18] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) قوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أمّا الجَعْل هاهنا، فمعناه: الحُكم بالشيء، وهم الذين

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 167: وأولى التأولين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله: أفنضرب عنكم العذاب فنترككم ونعرض عنكم، لأن كنتم قوما مسرفين لا تؤمنون بربكم. (2) طه: 53. [.....] (3) يس: 36، 42.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 19 إلى 25]

زعموا أن الملائكةَ بناتُ الله والمعنى: جَعلوا له نصيباً من الولد، قال الزجاج: وأنشدني بعض أهل اللغة بيتاً يدل على أن معنى «جزءٍ» معنى الإِناث- ولا أدري البيت قديم أو مصنوع: إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ، يَوْماً، فلا عجب ... قد تجزئ الحُرَّةُ المِذْكارُ أَحْيانا أي: آنثت، ولدت أُنثى. قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ يعني الكافر لَكَفُورٌ أي: جحود لنعم الله عزّ وجلّ مُبِينٌ أي: ظاهرُ الكُفر. ثم أنكر عليهم فقال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وهذا استفهام توبيخ وإِنكار وَأَصْفاكُمْ أي: أخلَصَكم بِالْبَنِينَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي: بما جعل لله شبها، وذلك أن ولد كلِّ شيء شبهه وجنسه. والآية مفسرة في النّحل «1» . قوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: «يُنَشَّأُ» بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين وقرأ الباقون: بفتح الياء وسكون النون. قال المبرِّد: تقديره: أو يَجَعلون من ينشأ فِي الْحِلْيَةِ قال أبو عبيدة: الحِلْية: الحِلَى. قال المفسرون: والمراد بذلك: البنات، فإنهنُ ربِّين في الحُلِيِّ. والخصام بمعنى المُخاصَمة، غَيْرُ مُبِينٍ حُجَّةً. قال قتادة: قلَّما تتكلَّم امرأة بحُجَّتها إلاّ تكلَّمتْ بالحُجَّة عليها. وقال بعضهم: هي الأصنام. [سورة الزخرف (43) : الآيات 19 الى 25] وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ قال الزجاج: الجَعْل هاهنا بمعنى القول والحكم على الشيء، تقول: قد جعلتُ زيداً أعلَم الناسِ، أي: قد وصفته بذلك وحكمت به. قال المفسرون: وجَعْلُهم الملائكة إِناثاً قولُهم: هُنَّ بناتُ الله. قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب، وأبان عن عاصم، والشيزري عن الكسائي: «عِنْدَ الرحمن» بنون من غير ألف، وقرأ الباقون: «عِبادُ الرحمن» ومعنى هذه القراءة: جعلوا له من عباده بنات. والقراءة الأُولى موافقة لقوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «2» ، وإِذا كانوا في السماء كان أَبْعَدَ للعِلْم بحالهم. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ قرأ نافع، والمفضل عن عاصم: «أَأُشْهِدوا» بهمزتين، الأولى مفتوحة والثانية مضمومة. وروى المسيّبي عن نافع: «أَوُ شْهِدوا» ممدودة من أشْهدْتُ، والباقون لا يُمدُّون. «أشَهِدوا» من شَهِدْتُ، أي: أحَضَروه فعرَفوا أنهم إِناث؟! وهذا توبيخ لهم إِذ قالوا فيما يُعْلَم بالمشاهَدة من غير مشاهَدة. سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ على الملائكة أنها بنات الله.

_ (1) النحل: 58. (2) الأعراف: 206.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 إلى 30]

(1252) وقال مقاتل: لمّا قال الله عزّ وجلّ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ، سُئلوا عن ذلك فقالوا: لا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فما يُدريكم أنها إِناث؟» فقالوا: سمعنا من آبائنا، ونحن نَشهد أنهم لم يَكذبوا، فقال الله: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ عنها في الآخرة. وقرأ أبو رزين، ومجاهد: «سنَكْتُبُ» بنون مفتوحة «شهادتَهم» بنصب التاء، ووافقهم ابن أبي عبلة في «سنَكْتُبُ» وقرأ: «شهاداتِهم» بألف. قوله تعالى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ في المكنيِّ عنهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، قاله قتادة، ومقاتل في آخرين. والثاني: الأوثان، قاله مجاهد. وإِنما عَنَوْا بهذا أنه لو لم يَرْضَ عبادتَنا لها لعجَّل عقوبتنا، فردَّ عليهم قولهم بقوله: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ. وبعض المفسرين يقول: إِنما أشار بقوله: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» إلى ادِّعائهم أنَّ الملائكة إِناث، قال: ولم يتعرَّض لقولهم: «لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ» لأنه قول صحيح والذي اعتمدنا عليه أصح، لأن هذه الآية كقوله: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا «1» ، وقوله: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «2» ، وقد كشفنا عن هذا المعنى هنالك. و «يَخْرُصُونَ» بمعنى: يكذبون. وإنما كذَّبهم، لأنهم اعتقدوا أنه رضي منهم الكفر ديناً. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي: مِنْ قَبْلِ هذا القرآن، أي: بأن يعبدوا غير الله فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يأخذون بما فيه. بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي: على سُنَّة ومِلَّة ودِين وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ فجعلوا أنفُسهم مهتدين بمجرد تقليد الآباء من غير حُجَّة ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذا القول، فقال: وَكَذلِكَ أي: وكما قالوا قال مُتْرَفو القُرى مِنْ قَبْلهم، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ بهم. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: «قال أَوَلَوْ جِئتُكم» بألف. قال أبو علي: فاعل «قالَ» النذير، المعنى: فقال لهم النذير. وقرأ أبو جعفر: «أَوَلَوْ جئناكم» بألف ونون بِأَهْدى أي: بأصوب وأرشد. قال الزجاج: ومعنى الكلام: قُلْ: أتَّتبعونَ ما وجدتم عليه آباءكم وإِن جئتكم بأهدى منه؟! وفي هذه الآية إِبطال القول بالتقليد. قال مقاتل: فرَدُّوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ثم رجع إِلى الأُمم الخالية، فقال: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ الآية. [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 30] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) قوله تعالى: إِنَّنِي بَراءٌ قال الزجاج: البَراء بمعنى البَريء، والعرب تقول للواحد: أنا البَراء منك، وكذلك للإثنين والجماعة، وللذكر والأنثى، يقولون: نحن البَراء منك والخلاء منك، لا يقولون: نحن البَراءان منك، ولا البَراءون منك، وإِنما المعنى: أنا ذو البَراء منك، ونحن ذو البراء

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث. وعزاه الواحدي في «الوسيط» 4/ 68 للكلبي ومقاتل، والكلبي كذاب أيضا، فهذا الخبر لا شيء.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 إلى 35]

منك، كما يقال: رجل عَدْل، وامرأة عَدْل. وقد بيّنّا استثناء إبراهيم ربّه عزّ وجلّ مما يعبدون عند قوله: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ «1» . قوله تعالى: وَجَعَلَها يعني كلمة التوحيد، وهي: «لا إِله إِلا الله» ، كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي: فيمن يأتي بعده من ولده، فلا يزال فيهم موحِّد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إَلى التوحيد كلُّهم إِذا سمعوا أن أباهم تبرَّأ من الأصنام ووحّد الله عزّ وجلّ. ثم ذكر نعمته على قريش فقال: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ والمعنى: إِنِّي أجزلتُ لهم النِّعَم ولم أُعاجلهم بالعقوبة حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وهو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ وهو محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فكان ينبغي لهم أن يقابِلوا النِّعَم بالطاعة للرسول، فخالفوا. وَلَمَّا جاءَهُمُ يعني قريشاً في قول الأكثرين. وقال قتادة: هم اليهود. والْحَقُّ القرآن. [سورة الزخرف (43) : الآيات 31 الى 35] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أي: هلاّ نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أمّا القريتان، فمكَّة والطائف، قاله ابن عباس، والجماعة وأمّا عظيم مكَّة، ففيه قولان «2» : أحدهما: الوليد بن المغيرة القرشي، رواه العوفي وغيره عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسدي. والثاني: عُتبة بن ربيعة، قاله مجاهد. وفي عظيم الطائف خمسة أقوال: أحدها: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: مسعود بن عمرو بن عبيد الله، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال قتادة. والرابع: أنه ابن عَبْد ياليل، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس: كنانة بن عبد بن عمرو بن عمير الطائفي، قاله السّدّيّ. فقال الله عزّ وجلّ ردّا عليهم وإنكارا: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني النُّبوَّة، فيضعونها حيث شاؤوا، لأنهم اعترضوا على الله بما قالوا. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ المعنى أنه إِذا كانت الأرزاق بقَدَر الله، لا بحول المحتال- وهو دون النُّبوَّة- فكيف تكون النًّبوَّة؟! قال قتادة: إِنك لَتَلْقَى ضعيفَ الحِيلة عَييَّ اللِّسان قد بُسِطَ له الرِّزْقُ، وتَلْقَى شديدَ الحِيلة بسيط اللسان وهو مقتور عليه. قوله تعالى: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فيه قولان: أحدهما: بالغنى والفقر. والثاني: بالحرية والرق لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن: «سِخْرِيّاً» بكسر السين. ثم فيه قولان: أحدهما: يستخدم الأغنياء الفقراء بأموالهم، فَيَلْتَئِمُ قِوامَ العالَم، وهذا على القول الأول. والثاني: ليملك بعضُهم بعضاً بالأموال فيتَّخذونهم عبيداً، وهذا على الثاني. قوله تعالى: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ فيها قولان: أحدهما:

_ (1) الشعراء: 77. (2) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 150: والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان. وبه قال الطبري.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 إلى 40]

النًّبوَّة خير من أموالهم التي يجمعونها، قاله ابن عباس. والثاني: الجنة خير ممّا يجمعون في الدنيا، قاله السدي. قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فيه قولان: أحدهما: لولا أن يجتمعوا على الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: على إِيثار الدنيا على الدِّين، قاله ابن زيد. قوله تعالى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ لهوان الدنيا عندنا. قال الفراء: إن شئتَ جعلت اللّام في «لبيوتهم» مكرّرة، كقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ «1» وإِن شئتَ جعلتَها بمعنى «على» ، كأنه قال: جَعَلْنا لهم على بُيوتهم، تقول للرجل: جعلتُ لك لقومك الأُعطية، أي: جعلتُها من أجلك لهم. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «سَقْفاً» على التوحيد. وقرأ الباقون: «سُقُفاً» بضم السين والقاف جميعاً «2» . قال الزجاج: والسَّقف واحد يدلُّ على الجمع فالمعنى: جعلْنا لبيتِ كلِّ واحد منهم سقفاً من فِضَّة وَمَعارِجَ وهي الدَّرَج والمعنى: وجعلْنا معارج من فِضَّة، وكذلك «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً» أي من فِضَّة وَسُرُراً أي من فِضَّة. قوله تعالى: عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال ابن قتيبة: أي: يَعْلُون، يقال: ظَهَرْتُ على البيت: إذا علَوْت سطحه. قوله تعالى: وَزُخْرُفاً وهو الذهب والمعنى: ويجعل لهم مع ذلك ذهباً وغنىً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا المعنى: لَمَتاع الحياة الدنيا، و «ما» زائدة. وقرأ عاصم، وحمزة: «لَمّا» بالتشديد، فجعلاه بمعنى «إِلاّ» والمعنى: إِنّ ذلك يُتمتَّع به قليلاً ثم يزول وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ خاصّة لهم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 40] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)

_ (1) البقرة: 217. (2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 16/ 74: استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن السقف لاحق لرب العلو، لأن الله تعالى جعل السقوف للبيوت كما جعل الأبواب لها. وهذا مذهب مالك رحمه الله. قال ابن العربي: وذلك لأن البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب. فمن له البيت فله أركانه ولا خلاف أن العلو له إلى السماء. واختلفوا في السفل، فمنهم من قال: هو له ومنهم من قال: ليس له في باطن الأرض شيء. وفي مذهبنا القولان. ومن أحكام العلو والسفل: إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه فذكر سحنون عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة. ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو، لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لربّ العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل. وحجة مالك وأشهب، حديث النعمان بن بشير عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» . أخرجه البخاري 2493 وغيره. وفيه دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يُعْرَضْ، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والفراء، والزجاج. والثاني: يَعْمَ، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال عطاء، وابن زيد. والثالث: أنه البَصَر الضعيف، حكاه الماوردي. وقال أبو عبيدة: تُظْلِمْ عينه عنه. وقال الفراء: من قرأ: «يَعْشُ» ، فمعناه: يُعْرِضْ، ومن نصب الشين، أراد: يَعْمَ عنه قال ابن قتيبة: لا أرى القول إلاّ قولَ أبي عبيدة، ولم نر أحداً يجيز «عَشَوْتُ عن الشيء» : أعرضتُ عنه، إِنما يقال: «تَعاشَيْتُ عن كذا» ، أي: تغافلتُ عنه، كأنِّي لم أره، ومثلُه: تعامَيْتُ، والعرب تقول: «عَشَوْتُ إِلى النار» : إِذا استدللتَ إِليها ببصر ضعيف، قال الحطيئة: متَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ ومنه حديث ابن المسّيب: «أن إحدى عينَيْه ذهبتْ، وهو يَعْشُو بالأًخرى» ، أي: يُبْصِر بها بصراً ضعيفاً. قال المفسرون: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ فلم يَخَف عِقابه ولم يلتفت إِلى كلامه نقيِّضْ له أي: نسبب له شيطاناً فنجعل ذلك جزاءَه فهو له قرين لا يفارقه. وَإِنَّهُمْ يعني الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ يعني الكافرين، أي: يمنعونهم عن سبيل الهدى وإِنما جمع، لأن «مَنْ» في موضع جمع، وَيَحْسَبُونَ يعني كفار بني آدم إِنَّهُمْ على هدىً. حَتَّى إِذا جاءَنا وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «جاءنا» واحد، يعني الكافر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «جاءانا» بألفين على التثنية، يعنون الكافر وشيطانه. وجاء في التفسير أنهما يُجعلان يومَ البعث في سلسلة، فلا يفترقان حتى يًصَيِّرَهما الله إِلى النار، قال الكافر للشيطان: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي: بُعْدَ ما بين المَشْرِقَيْن وفيهما قولان: أحدهما: أنهما مَشْرِقُ الشمس في أقصر يوم في السنة، ومَشْرِقُها في أطول يوم، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: أنه أراد المَشْرِق والمَغْرِب، فغلَّب ذِكْر المَشْرِق، كما قالوا: سُنَّة العُمَرَيْن، يريدون: أبا بكر وعمر، وأنشدوا من ذلك: أَخَذْنا بِآفاقِ السَّماءِ عَلَيْكُمُ ... لَنا قَمراها والنُّجُومُ الطَّوالِعُ «1» يريد: الشمس والقمر وأنشدوا: فَبَصْرَةُ الأزّدِ مِنَّا والعِراقُ لَنا ... والمَوْصِلانِ ومِنَّا مِصْرُ والحَرَمُ يريد: الجزيرة والموصل، وهذا اختيار الفراء، والزجاج. قوله تعالى: فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي: أنتَ أيُّها الشَّيطان. ويقول الله عزّ وجلّ يومئذ للكفار: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أي: أشركتم في الدنيا أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي: لن ينفعكم الشِّركة في العذاب، لأن لكل واحد منه الحظَّ الأوفر. قال المبرِّد: مُنِعوا روح التَّأسِّي، لأن التَّأسِّيَ يُسهِّل المُصيبة، وأنشد للخنساء أخت صخر بن مالك في هذا المعنى: ولَوْلا كَثْرَةُ الباكينَ حَوْلِي ... على إِخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخي ولكِنْ ... أُعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي وقرأ ابن عامر: «إِنَّكم» بكسر الألف. ثم أخبر عنهم بما سبق لهم من الشَّقاوة بقوله: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ... الآية.

_ (1) البيت للفرزدق، ديوانه: 519، و «الكامل» 124.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 41 إلى 44]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 41 الى 44] فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) قوله تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ قال أبو عبيدة: معناها: فإن نَذْهَبَنَّ وقال الزجاج: دخلت «ما» توكيداً للشرط، ودخلت النون الثقيلة في «نَذْهَبَنَّ» توكيداً أيضاً والمعنى: إنّا ننتقِم منهم إِن تُوفيِّتَ َأوْ نُرِيَنَّكَ ما وَعَدْناهم ووعَدْناك فيهم من النَّصر. قال ابن عباس: ذلك يومَ بدر. وذهب بعض المفسرين إِلى أن قوله: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ منسوخ بآية السيف، ولا وجه له. قوله تعالى: وَإِنَّهُ يعني القرآن لَذِكْرٌ لَكَ أي شَرَفٌ لَكَ بما أعطاكَ اللهُ وَلِقَوْمِكَ في قومه ثلاثة أقوال: أحدها: العرب قاطبة. والثاني: قريش. والثالث: جميع من آمن به. (1253) وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إِذا سئل: لِمَنْ هذا الأمرُ من بعدك؟ لم يُخْبِر بشيء، حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: «لقريش» وهذا يدلّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَهِم من هذا أنه يَلِي على المسلمين بحُكْم النًّبوَّة وشَرَفِ القرآن، وأن قومه يَخْلُفونه من بعده في الوِلاية لشرف القرآن الذي أُنزلَ على رجُلٍ منهم. ومذهب مجاهد أن القوم هاهنا: العرب، والقرآن شَرَفٌ لهم إِذْ أُنزلَ بلُغتهم. قال ابن قتيبة: إنما وُضع الذِّكر موضعَ الشَّرَف لأن الشَّريف يُذْكَر. وفي قوله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ قولان. أحدهما: عن شُكر ما أُعطيتم من ذلك. والثاني: عمّا لزمكم فيه من الحقوق. [سورة الزخرف (43) : الآيات 45 الى 56] وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إن قيل: كيف يسأل الرُّسل وقد ماتوا قبله؟ فعنه ثلاثة أجوبة «1» : أحدها: أنه لمّا أُسري به جُمع له الأنبياءُ فصلَّى بهم، ثم قال له جبريل: سل من أرسلنا

_ لا أصل له ذكره المصنف تعليقا، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، حيث روى تفسيرا كاملا عن الضحاك عن ابن عباس، وهو مصنوع، والضحاك لم يلق ابن عباس.

قَبْلَك ... الآية. فقال: لا أَسألُ، قد اكتَفَيْتُ، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا قول سعيد بن جبير، والزهري، وابن زيد، قالوا: جُمع له الرُّسل ليلةَ أُسري به، فلقَيهم، وأُمر أن يسألَهم، فما شَكّ ولا سأل. والثاني: أن المراد: اسأل مؤمني أهل الكتاب من الذين أرسلت إِليهم الأنبياء، روي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. قال ابن الأنباري: والمعنى سَلْ أتباع مَنْ أرسَلْنا قَبْلَكَ، كما تقول: السخاء حاِتم، أي: سخاء حاتِم، والشِّعر زهير، أي: شِعر زهير. وعند المفسرين أنه لم يسأل على القولين. وقال الزجاج: هذا سؤال تقرير، فإذا سأل جميع الأمم، لم يأتوا بأن في كتبهم: أن اعبدوا غيري. والثالث: أن المراد بخطاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: خطابُ أُمَّته، فيكون المعنى سَلُوا، قاله الزجاج. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ استهزاءً بها وتكذيباً. وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها يعني ما ترادف عليهم من الطُّوفان والجراد والقُمَّل والضَّفادع والدَّم والطَّمْس «1» ، فكانت كُلُّ آية أكبرَ من التي قَبْلَها، وهي العذاب المذكور في قوله: وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، فكانت عذاباً لهم، ومعجزات لموسى عليه السلام. قوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ، في خطابهم له بهذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا: يا أيها العالِم، وكان الساحر فيهم عظيماً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم قالوه على جهة الاستهزاء، قاله الحسن. والثالث: أنهم خاطبوه بما تقدَّم له عندهم من التَّسمية بالسّاحر، قاله الزجّاج. قوله تعالى: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي: مؤمنون بك. فدعا موسى، فكُشف عنهم، فلم يؤمِنوا. وقد ذكرنا ما تركناه هاهنا في الأعراف «2» . قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي: من تحت قصوري أَفَلا تُبْصِرُونَ عظَمتي وشِدَّةَ مُلكي؟! أَمْ أَنَا خَيْرٌ قال أبو عبيدة: أراد: بل أنا خَيْرٌ. وحكى الزجاج عن سيبويه والخليل أنهما قالا: عطف «أنا» ب «أمْ» على «أَفَلا تُبْصِرُونَ» فكأنه قال: أفلا تُبْصِرون أم أنتم بُصَراء؟! لأنهم إِذا قالوا: أنتَ خيرٌ منه، فقد صاروا عنده بُصَراءَ. قال الزجاج: والمَهينِ: القليل يقال: شيء مَهِين، أي: قليل. وقال مقاتل: «مَهِين» بمعنى ذليل ضعيف. قوله تعالى: وَلا يَكادُ يُبِينُ أشار إِلى عُقدة لسانه التي كانت به ثم أذهبها الله عنه، فكأنه عيَّره بشيءٍ قد كان وزال، ويدل على زواله قوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «3» ، وكان في سؤاله وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي «4» . وقال بعض العلماء: ولا يكاد يُبِين الحُجَّة ولا يأتي ببيان يُفْهم. فَلَوْلا أي: فهلاّ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وقرأ حفص عن عاصم: «أسْوِرةٌ» بغير ألف. قال الفراء: واحد الأساوِرة إِسْوار، وقد تكون الأساوِرة جمع أسْوِرة، كما يقال في جمع الأسْقِية: الأساقي، وفي جمع الأكْرُع: الأكارِع. وقال الزجاج: يصلُح أن تكون الأساوِرة جمع الجمع، تقول: أسْوِرَة وأساوِرة، كما تقول: أقوال وأقاويل، ويجوز أن تكون جمع إسْوار، وإنما صرفتَ أساوِرة، لأنك ضممتَ الهاء إِلى أساوِر، فصار اسماً واحداً، وصار له مثال في الواحد، نحو «علانية» .

_ (1) في «اللسان» : الطموس: الدّروس والانمحاء، وطموس البصر: ذهاب نوره وضوئه. (2) الأعراف: 135. (3) طه: 36. [.....] (4) طه: 27.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 إلى 66]

قال المفسرون: إِنما قال فرعون هذا، لأنهم كانوا إذا سوَّدوا الرجل منهم سوَّروه بِسِوار. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فيه قولان: أحدهما: متتابعين، قاله قتادة: والثاني: يمشون معه، قاله الزجاج. قوله تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ قال الفراء: استفزَّهم وقال غيره: استخَفَّ أحلامَهم وحملهم على خِفَّة الحِلْم بكيده وغُروره فَأَطاعُوهُ في تكذيب موسى. فَلَمَّا آسَفُونا قال ابن عباس: أغضبونا. قال ابن قتيبة: الأسَف: الغَضَب، يقال: أسِفْتُ آسَفُ أسَفاً، أي: غَضِبْتُ. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي: قوماً تقدَّموا. وقرأها أبو هريرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وحميد الأعرج: «سُلَفاً» بضم السين وفتح اللام، كأن واحدته سُلْفَةٌ من الناس، مثل القِطعة، يقال: تقدمتْ سُلْفَةٌ من الناس، أي: قِطعة منهم. وقرأ حمزة، والكسائي: «سُلُفاً» بضم السين واللام، وهو جمع «سَلَف» ، كما قالوا: خَشَب وخُشُب، وثَمَر وثُمُر، ويقال: هو جمع سَلِِيفٍ، وكلُّه من التقدُّم. وقال الزجاج: السَّلِيف جمعٌ قد مضى والمعنى: جعلْناهم سَلَفاً متقدِّمين ليتعظ بهم الآخرون. قوله تعالى: وَمَثَلًا أي: عبرة وعظة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 66] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزّبعرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين نزل قوله: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية «1» . وقد شرحنا القصة في سورة الأنبياء «2» . والمشركون هم الذين ضربوا عيسى مَثَلاً لآلهتهم وشبَّههوه بها، لأن تلك الآية إنما تضمنت ذِكْر الأصنام، لأنها عُبِدَتْ مِنْ دون الله، فألزموه عيسى، وضربوه مَثلاً لأصنامهم، لأنه معبود النصارى، والمراد بقومه: المشركون. فأمّا يَصِدُّونَ فقرأ ابن عامر، ونافع، والكسائي: بضم الصاد، وكسرها الباقون قال الزجاج: ومعناهما جميعاً: يَضِجُّون، ويجوز أن يكون معنى المضمومة: يُعْرِضون. وقال أبو عبيدة: من كسر الصاد، فمجازها: يَضِجُّون، ومن ضمَّها، فمجازها: يَعْدِلون. قوله تعالى: وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ المعنى: ليست خيراً منه، فإن كان في النار لأنه عُبِدَ مِنْ دون الله، فقد رضينا أن تكون آلهتُنا بمنزلته. ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي: ما ذَكَروا عيسى إَلاّ ليجادلوك به، لأنهم قد عَلِموا أن المراد ب حَصَبُ جَهَنَّمَ «3» ما اتخذوه من الموات بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي: أصحاب خصومات.

_ (1) الأنبياء: 98. (2) الأنبياء: 101. (3) الأنبياء: 101.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 إلى 73]

قوله تعالى: وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أي: آية وعبرة لِبَنِي إِسْرائِيلَ يعرِفون به قُدرة الله على ما يريد، إِذ خلَقه من غير أب. ثم خاطب كفار مكة، فقال: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: لَجَعَلْنا بدلاً منكم ملائكةً ثم في معنى «يَخْلُفُونَ» ثلاثة أقوال: أحدها: يخلُف بعضُهم بعضاً، قاله ابن عباس. والثاني: يخلُفونكم ليكونوا بدلاً منكم، قاله مجاهد. والثالث: يخلُفون الرُّسل فيكونون رسلاً إِليكم بدلاً منهم، حكاه الماوردي. والقول الثاني: أن المعنى: «ولو نشاء لجَعَلْنا منكم ملائكة» أي: قَلَبْنَا الخِلقة فجَعَلْنا بعضَكم ملائكةً يخلُفون مَنْ ذهب منكم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها تَرْجِع إِلى عيسى عليه السلام. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: نزولُ عيسى من أشراط الساعة يُعْلَم به قُربها، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي. والثاني: أن إحياءَ عيسى الموتى دليلٌ على الساعة وبعث الموتى، قاله ابن إِسحاق. والقول الثاني: أنها تَرْجِع إلى القرآن، قاله الحسن وسعيد بن جبير. وقرأ الجمهور: «لَعِلْمٌ» بكسر العين وتسكين اللام وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن وقتادة وحميد وابن محيصن بفتحهما. قال ابن قتيبة: من قرأ بكسر العين فالمعنى أنه يُعْلَم به قُرْبُ الساعة، ومن فتح العين واللام فإنه بمعنى العلامة والدليل. قوله تعالى: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أي: فلا تَشُكُّنًّ فيها وَاتَّبِعُونِ على التوحيد هذا الذي أنا عليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قد شرحنا هذا في سورة البقرة «1» . قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وفيها قولان: أحدهما: النُّبوَّة، قاله عطاء، والسدي. والثاني: الإِنجيل، قاله مقاتل. وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي: من أمر دينكم وقال مجاهد: «بعضَ الذي تختلفون فيه» من تبديل التوراة وقال ابن جرير: من أحكام التوراة. وقد ذهب قوم إِلى أن البعض هاهنا بمعنى الكُلّ. وقد شرحنا ذلك في حم المؤمن «2» قال الزجاج: والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكُلّ، وإِنما بيَّن لهم عيسى بعض الذي اختلَفوا فيه ممّا احتاجوا إِليه وقد قال ابن جرير: كان بينهم اختلاف في أمر دينهم ودنياهم، فبيَّن لهم أمر دينهم فقط. وما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إلى قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ يعني كفار مكة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 73] الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ أي في الدنيا يَوْمَئِذٍ أي في القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأن الخُلَّة إِذا كانت في الكفر والمعصية صارت عداوةً يومَ القيامة وقال مقاتل: نزلت في أميّة بن خلف وعقبة بن

_ (1) البقرة: 87. (2) غافر: 28. (3) النساء: 175- مريم: 37.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 إلى 83]

أبي معيط إِلَّا الْمُتَّقِينَ يعني الموحِّدين. فإذا وقع الخوف يومَ القيامة نادى منادٍ يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، فيرفع الخلائق رؤوسهم، فيقول: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ، فينكِّس الكفار رؤوسهم. قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «يا عبادي» بإثبات الياء في الحالين وإِسكانها، وحذفها في الحالين ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص، والمفضل عن عاصم، وخلف. وفي أزواجهم قولان: أحدهما: زوجاتهم. والثاني: قرناؤهم. وقد سبق معنى تُحْبَرُونَ «1» . قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ قال الزجاج: واحدها صَحْفة، وهي القَصْعة. والأكواب، واحدها: كُوب، وهو إٍناء مستدير لا عُرْوَةَ له قال الفراء: الكُوب: الكوز المستدير الرأس الذي لا أُذُن له، وقال عديّ: مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أبوابُه ... يَسْعَى عليه العَبْدُ بالكُوبِ «2» وقال ابن قتيبة: الأكواب: الأباريق التي لا عُرى لها. وقال شيخنا أبو منصور اللغوي: وإنما كانت بغير عُرىً لِيَشرب الشارب من أين شاء، لأن العُروة تَرُدُّ الشارب من بعض الجهات. قوله تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «تشتهيه» بزيادة هاءٍ. وحذفُ الهاء كإثباتها في المعنى. قوله تعالى: وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ يقال: لَذِذْتُ الشيءَ، واستلذذتُه، والمعنى: ما من شيء اشتهتْه نَفْس أو استلذَّتْه عين إِلاّ وهو في الجنة، وقد جمع الله تعالى جميع نعيم الجنة في هذين الوصفين، فإنه ما من نِعمة إِلاّ وهي نصيب النَّفْس أو العين، وتمام النَّعيم الخلود، لأنه لو انقطع لم تَطِب. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ يعني التي ذكرها في قوله: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ» الَّتِي أُورِثْتُمُوها قد شرحنا هذا في الأعراف «3» عند قوله: أُورِثْتُمُوها. [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 83] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني الكافرين، لا يُفَتَّرُ أي: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ يعني في العذاب مُبْلِسُونَ قال ابن قتيبة: آيسون من رحمة الله. وقد شرحنا هذا في الأنعام «4» . وَما ظَلَمْناهُمْ أي: ما عذَّبْناهم على غير ذَنْبٍ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لأنفسهم بما جَنَوْا عليها. قال الزجاج: والبصريُّون يقولون: «هُم» هاهنا فصل، كذلك يسمُّونها، ويسمِّيها الكوفيّون: العماد. قوله تعالى:

_ (1) الروم: 15. (2) البيت لعدي بن زيد وهو في «مجاز القرآن» : 2/ 206 و «تفسير القرطبي» 16/ 99. (3) الأعراف: 43. (4) الأنعام: 44.

وَنادَوْا يا مالِكُ وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود، وابن يعمر: «يا مالِ» بغير كاف مع كسر اللام. قال الزجاج: وهذا يسميه النحويون: الترخيم، ولكني أكرهها لمخالفة المصحف. قال المفسرون: يَدْعُون مالكاً خازنَ النار فيقولون: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي: لِيُمِتْنا والمعنى: أنهم توسَّلوا به ليَسأل الله تعالى لهم الموتَ فيستريحوا من العذاب فيسكُت عن جوابهم مُدَّةً، فيها أربعة أقوال: أحدها: أربعون عاماً، قاله عبد الله بن عمرو، ومقاتل. والثاني: ثلاثون سنة، قاله أنس. والثالث: ألف سنة، قاله ابن عباس. والرابع: مائة سنة، قاله كعب. وفي سكوته عن جوابهم هذه المدة قولان. أحدهما: أنه سكت حتى أوحى الله إِليه أَن أَجِبْهم، قاله مقاتل. والثاني: لأن بُعْدَ ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذَلُّ. قال الماوردي: فردَّ عليهم مالك فقال: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي: مقيمون في العذاب. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ أي: أرسَلْنا رسلنا بالتوحيد وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ قال ابن عباس: يريد: كُلّكم كارِهُونَ لِما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً في «أَمْ» قولان: أحدهما: أنها للاستفهام. والثاني: بمعنى «بل» . والإِبرام: الإِحكام. وفي هذا الأمر ثلاثة أقوال: أحدها: المكر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليقتُلوه أو يُخْرِجوه حين اجتمعوا في دار النّدوة وقد سبق بيان القصة «1» ، قاله الأكثرون. والثاني: أنه إِحكام أمرهم في تكذيبهم، قاله قتادة. والثالث: أنه: إِبرامُ أمرهم يُنجيهم من العذاب، قاله الفراء. فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي: مُحْكِمون أمراً في مجازاتهم. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وهو ما يُسِرُّونه من غيرهم وَنَجْواهُمْ ما يتناجَوْن به بينهم بَلى والمعنى: إنّا نَسمع ذلك وَرُسُلُنا يعني من الحَفَظة لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ في «إِنْ» قولان «2» : أحدهما: أنها بمعنى الشرط، والمعنى: إِن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم، فعلى هذا في قوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أربعة أقوال: أحدها: فأنا أول الجاحدين، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن أعرابيَّين اختصما إليه، فقال أحدهما: إِن هذا كانت لي في يده أرض، فعبدنيها، فقال ابن عباس: الله أكبر، فأنا أوّل

_ (1) الأنفال: 30. (2) قال الطبري في «تفسيره» 11/ 216: وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معنى (إن) الشرط الذي يقتضي الجزاء وذلك أن «إن» لا تعدو في هذا الموضع أحد معنيين: إما أن يكون الحرف الذي هو بمعنى الشرط الذي يطلب الجزاء، أو تكون بمعنى الجحد، وهب إذا وجهت إلى الجحد لم يكن للكلام كبير معنى لأنه يصير بمعنى: قل ما كان للرحمن ولد، مع أنه لو كان ذلك معناه لقدر الذين أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أن يقولوا له: صدقت، وهو كما قلت ونحن لم نزعم أنه لم يزل له ولد، ولم يكن الله تعالى ذكره ليحتج لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وعلى مكذبيه من الحجة بما يقدرون على الطعن فيه، ذلك إذ كان في توجيهنا «إن» إلى معنى الجحد على ما ذكرنا، فالذي هو أشبه المعنيين بها الشرط، ومعنى الكلام: قل يا محمد لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات الله: إن كان للرحمن ولد فأنا أول عابديه بذلك منكم، ولكنه لا ولد له، فأنا أعبده بأنه لا ولد له، ولا ينبغي أن يكون له، وهذا لم يكن على وجه الشك، ولكن على وجه الإلطاف في الكلام وحسن الخطاب. ووافقه ابن كثير وقال في «تفسيره» 4/ 160: أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأني عبد من عبيده، مطيع لجميع ما يأمرني به، ليس عندي إباء عن عبادته، فلو فرض كان هذا، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا، كما قال تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 84 إلى 89]

العابدين الجاحدين أن لله ولداً. والثاني: فأنا أوَّل مَنْ عَبَدَ اللهَ مخالفاً لقولكم، هذا قول مجاهد. وقال الزجاج: معناه: إن كنتم تزعُمون للرحمن وَلَداً، فأنا أوَّل الموحِّدين. والثالث: فأنا أول الآنفين لله مما قُلتم، قاله ابن السائب، وأبو عبيدة «1» . قال ابن قتيبة: يقال: عَبِدْتُ من كذا، أَعبَدُ عَبَداً، فأنا عبد وعابد، قال الفرزدق: وأَعْبَدُ أنْ تُهْجَى تَمِيمٌ بِدارِمِ «2» أي: آنَفُ. وأنشد أبو عبيدة: وأَعْبَدُ أن أسُبَّهُمُ بقَوْمِي ... وأُوثِرُ دارِماً وبَنِي رَزاحِ والرابع: أن معنى الآية: كما أنِّي لستُ أول عابدٍ لله، فكذلك ليس له ولد وهذا كما تقول: إن كنتَ كاتباً فأنا حاسبٌ، أي: لستَ كاتباً ولا أنا حاسبٌ حكى هذا القول الواحدي عن سفيان بن عيينة. والقول الثاني: أنّ «إِنْ» بمعنى «ما» ، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد فيكون المعنى: ما كان للرحمن ولد، فأنا أولُ من عَبَدَ اللهَ على يقين أنه لا وَلَدَ له. وقال أبو عبيدة: الفاء على هذا القول بمعنى الواو. قوله تعالى: فَذَرْهُمْ يعني كفار مكة يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وابن محيصن وأبو جعفر: «حتَّى يَلْقَوا» بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف. والمراد: يلاقوا يوم القيامة، وهذه الآية عند الجمهور منسوخة بآية السّيف. [سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 89] وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ قال مجاهد، وقتادة: يُعْبَد في السماء ويُعْبَد في الأرض. وقال الزجاج: هو الموحَّد في السماء وفي الأرض. وقرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، وابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «في السماء اللهُ وفي الأرض الله» بألف ولام من غير تنوين ولا همز فيهما. وما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إِلى قوله: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ. (1254) سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفراً معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث.

نتولّى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمدٍ، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. وفي معنى الآية قولان «1» : أحدهما: أنه أراد بالذين يَدْعَون مِنْ دونه: آلهتهم، ثم استثنى عيسى وعزيرَ والملائكةَ، فقال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله وَهُمْ يَعْلَمُونَ بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم، وهذا مذهب الأكثرين، منهم قتادة. والثاني: أن المراد بالذين يَدْعُون: عيسى وعزيرُ والملائكةُ الذين عبدهم المشركون بالله لا يَمْلِك هؤلاء الشفاعةَ لأحد إِلَّا مَنْ شَهِدَ أي: إلاَ لِمَنْ شَهِد بِالْحَقِّ وهي كلمة الإِخلاص وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنّ الله عزّ وجلّ خلق عيسى وعزير والملائكة، وهذا مذهب قوم، منهم مجاهد. وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به. قوله تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ قال قتادة: هذا نبيُّكم يشكو قومَه إِلى ربِّه. وقال ابن عباس: شكا إلى الله تخلُّف قومه عن الإِيمان. قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو: «وقِيلَه» بنصب اللام وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أضمر معها قولاً، كأنه قال: وقال قيلَه، وشكا شكواه إِلى ربِّه. والثاني: أنه عطف على قوله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وقِيلَه فالمعنى: ونَسمع قِيلَه، ذكر القولين الفراء، والأخفش. والثالث: أنه منصوب على معنى: وعنده عِلْم الساعة ويَعْلَم قِيلَه، لأن معنى «وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» : يَعْلَم الساعة ويَعْلَم قِيلَه، هذا اختيار الزجاج. وقرأ عاصم وحمزة: «وقِيلهِ» بكسر اللام والهاء حتى تبلغ إِلى الياء والمعنى: وعنده عِلْم الساعة وعِلْمُ قِيلِه. وقرأ أبو هريرة وأبو رزين وسعيد بن جبير وأبو رجاء والجحدري وقتادة وحميد برفع اللام والمعنى: ونداؤه هذه الكلمة: يا ربّ ذكر عِلَّة الخفض والرفع الفراء والزجاج. قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي: فأعْرِض عنهم وَقُلْ سَلامٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: قُلْ خيراً بدلاً من شرِّهم، قاله السدي. والثاني: ارْدُد عليهم معروفاً، قاله مقاتل. والثالث: قُلْ ما تَسْلَم به من شرِّهم، حكاه الماوردي. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يَعْلَمون عاقبة كفرهم. والثاني: أنك صادق. والثالث: حلول العذاب بهم، وهذا تهديد لهم: «فسوف يعلمون» . وقرأ نافع، وابن عامر: «تعلمون» بالتاء. ومن قرأ بالياء، فعلى الأمر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن يخاطبهم بهذا، قاله مقاتل فنَسختْ آيةُ السيف الإعراض والسّلام.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 161: قوله تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي من الأصنام، والأوثان (الشفاعة) أي لا يقدرون على الشفاعة لهم، إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، هذا استثناء منقطع، أي: لكن من شهد بالحقّ على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. وقال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 219: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد، إلا من شهد بالحق، وشهادته بالحق: هو إقراره بتوحيد الله، يعني بذلك: إلا من آمن بالله، وهم يعلمون حقيقة توحيده، فأثبت جل ثناؤه للملائكة وعيسى وعزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الآلهة والأوثان باستثنائه الذي استثناه. ووافقهما القرطبي في «تفسيره» 16/ 106 وقال: وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يدل على معنيين: أحدهما- أن الشفاعة بالحقّ غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني- أي شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها.

سورة الدخان

سورة الدّخان وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) قوله عزّ وجلّ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قد تقدّم بيانه، وجواب القسم إِنَّا أَنْزَلْناهُ والهاء كناية عن الكتاب، وهو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وفيها قولان «1» . أحدهما: أنها ليلة القدر، وهو قول الأكثرين. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: أُنزلَ القرآنُ من عند الرحمن ليلة القدر جُملةً واحدةً، فوُضع في السماء الدنيا، ثم أُنزِلَ نجوماً. وقال مقاتل: نزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إِلى السماء الدنيا. والثاني: أنها ليلة النصف من شعبان، قاله عكرمة. قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي: مخوِّفين عقابنا. فِيها أي: في تلك الليلة يُفْرَقُ كُلُّ أي: يُفْصَل. وقرأ أبو المتوكّل، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: «يْفِرقُ» بفتح الياء وكسر الراء «كُلَّ» بنصب اللام أَمْرٍ حَكِيمٍ أي: مُحْكَم. قال ابن عباس: يُكتَب من أُمِّ الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشرِّ والأرزاق والآجال، حتى الحاج، وإِنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وعلى ما روي عن عكرمة أن ذلك في ليلة النصف من شعبان، والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي لها، فروي عن عكرمة أنه قال: في ليلة القَدْر، وعلى هذا المفسرون. قوله تعالى: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا قال الأخفش: «أمراً» و «رحمةً» منصوبان على الحال المعنى: إِنّا أنزِلْناه آمرِين أمراً وراحمين رحمة. قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوباً ب «يُفْرَقُ» بمنزلة يُفْرَقُ فَرْقاً، لأن «أمراً» بمعنى «فَرْقاً» . قال الفراء: ويجوز أن تُنصب الرحمة بوقوع «مرسلين» عليها، فتكون الرحمة هي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال مقاتل: «مرسِلِين» بمعنى منزِلِين هذا القرآن، أنزلناه رحمة لمن آمن به. وقال

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 223: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر. وهذا اختيار ابن كثير والقرطبي.

[سورة الدخان (44) : الآيات 10 إلى 16]

غيره: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا» أي: إِنا نأمر بنَسخ ما يُنسخ من اللوح إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ الأنبياء، رَحْمَةً منّا بخلقنا. رَبِّ السَّماواتِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «ربُّ» بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ربِّ» بكسر الباء. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: بَلْ هُمْ يعني الكفار فِي شَكٍّ مما جئناهم به يَلْعَبُونَ يهزئون به. [سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 16] فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) فَارْتَقِبْ أي: فانتطر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ اختلفوا في هذا الدخان ووقته على ثلاثة أقوال «1» أحدها: أنه دخان يجيء قبل قيام الساعة. (1255) فروي عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الدُّخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزّكام. وروى عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوتُ على ابن عباس ذاتَ يوم، فقال: ما نمتُ الليلة حتى أصبحتُ، قلت: لم؟ قال: طلع الكوكب ذو الذَّنَب، فخشيتُ أن يطرق الدخان، وهذا المعنى مروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن. والثاني: أن قريشاً أصابهم جوع، فكانوا يرون بينهم وبين السماء دخانا من الجوع.

_ لم أره عن ابن عباس سواء مرفوعا أو موقوفا، ولعله سبق قلم. وورد من حديث جماعة من الصحابة فمن ذلك: حديث حذيفة بن اليمان: أخرجه الطبري 31061 وفيه رواد بن الجراح واه. وورد من حديث أبي مالك الأشعري، أخرجه الطبري 31062 وإسناده حسن في الشواهد. وله شواهد متعددة تراجع في كتب أشراط الساعة.

(1256) فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث مسروق، قال: كنا عند عبد الله، فدخل علينا رجل، فقال: جئتُكَ من المسجد وتركتُ رجلاً يقول في هذه الآية يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ: يغشاهم يومَ القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبَهم منه كهيئة الزكام فقال عبد الله: من عَلِم عِلْماً فلْيَقُل به، ومن لم يَعْلَم فلْيَقُل: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشاً لمّا استعصت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم بسنين كسنيِّ يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة، وجعل الرجلُ ينظُر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فقالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، فقال الله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، فكشف عنهم، ثم عادوا إِلى الكفر، فأخذوا يومَ بدر، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، وإِلى نحو هذا ذهب مجاهد وأبو العالية والضحاك وابن السائب ومقاتل. والثالث: أنه يوم فتح مكة لمّا حُجبت السماءُ بالغبرة، حكاه الماوردي. قوله تعالى: هذا عَذابٌ أي: يقولون: هذا عذابٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ فيه قولان: أحدهما: الجوع. والثاني: الدّخان إِنَّا مُؤْمِنُونَ بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: من أين لهم التذكُّر والاتِّعاظ بعد نزول هذا البلاء، وحالهم أنه قد جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي: ظاهر الصِّدق؟! ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: أعرضوا ولم يقبلوا قوله وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: هو معلَّم يعلِّمه بشر، مجنون بادعائه النُّبوَّة قال الله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: زماناً يسيراً «1» . وفي العذاب قولان: أحدهما: الضُّرُّ الذي نزل بهم كُشف بالخِصب، هذا على قول ابن مسعود. قال مقاتل: كشفه إِلى يوم بدر. والثاني: أنه الدخان، قاله قتادة. قوله تعالى: إِنَّكُمْ عائِدُونَ فيه قولان: أحدهما: إلى الشّرك، قاله ابن

_ صحيح الإسناد. أخرجه البخاري 4774 عن محمد بن كثير عن سفيان ثنا منصور والأعمش عن أبي الضحى عن مسروق به. وأخرجه ابن حبان 6585 والطبراني 9048 وأبو نعيم في «الدلائل» 369 من طريق محمد بن كثير به. وأخرجه البخاري 4693 والحميدي 116 من طريق سفيان به. وأخرجه البخاري 4824 والترمذي 3254 وأحمد 1/ 441 من طريق شعبه عن الأعمش ومنصور به. وأخرجه البخاري 1007 و 4821 و 4822 و 4823 ومسلم 2798 ح 40 والطبري 31043 والطبراني 9046 و 9047 وأحمد 1/ 380 و 431 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 324 و 325 و 326 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه مسلم 2798 والطبري 31045 والبيهقي 2/ 326 من طرق عن جرير عن منصور به.

[سورة الدخان (44) : الآيات 17 إلى 29]

مسعود. والثاني: إلى عذاب الله، قاله قتادة. قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى وقرأ الحسن، وابن يعمر، وأبو عمران: «يومَ تُبْطَشُ» بتاء مرفوعة وفتح الطاء «البَطْشَةُ» بالرفع. قال الزجاج: المعنى: واذكر يومَ نَبْطِش، ولا يجوز أن يكون منصوباً بقوله: «مُنْتَقِمُونَ» ، لأن ما بعد «إنّا» لا يجوز أن يعمل فيما قبلها. وفي هذا اليوم قولان: أحدهما: يوم بدر، قاله ابن مسعود وأُبيُّ بن كعب وأبو هريرة وأبو العالية ومجاهد والضحاك. والثاني: يوم القيامة، قاله ابن عباس والحسن. والبَطْش: الأخذ بقوّة. [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 29] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا أي: ابتَلَينا قَبْلَهُمْ أي: قَبْلَ قومك قَوْمَ فِرْعَوْنَ بارسال موسى إِليهم وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ وهو موسى بن عمران. وفي معنى «كريم» ثلاثة أقوال: أحدها: حسن الخُلُق، قاله مقاتل. والثاني: كريم على ربِّه، قاله الفراء. والثالث: شريفٌ وسيطُ النسب، قاله أبو سليمان. قوله تعالى: أَنْ أَدُّوا أي: بان أدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ وفيه قولان: أحدهما: أدُّوا إلى ما أدعوكم إليه من الحق باتِّباعي، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. فعلى هذا ينتصب «عبادَ الله» بالنداء. قال الزجاج: ويكون المعنى: أن أدُّوا إِليَّ ما آمُركم به يا عباد الله. والثاني: أرسِلوا معي بني إِسرائيل، قاله مجاهد، وقتادة، والمعنى: أطلِقوهم من تسخيركم، وسلِّموهم إِليَّ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تفتروا عليه، قاله ابن عباس. والثاني: لا تعتوا عليه، قاله قتادة. والثالث: لا تعظَّموا عليه، قاله ابن جريج إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: بحجة تدل على صدقي. فلمّا قال هذا تواعدوه بالقتل فقال: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وفيه قولان: أحدهما: أنه رجم القول، قاله ابن عباس فيكون المعنى: أن يقولوا: شاعر أو مجنون. والثاني: القتل، قاله السدي. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي: فاتركوني لا معي ولا علَيَّ، فكفروا ولم يؤمنوا، فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قال الزجاج: من فتح «أنَّ» ، فالمعنى: بأن هؤلاء ومن كسر، فالمعنى: قال: إنّ هؤلاء، و «إنّ» بعد القول مكسورة. وقال المفسرون: المجرمون هاهنا: المشركون. فأجاب اللهُ دعاءه، وقال: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا يعني بالمؤمنين «1» إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وقومه فأعلمهم أنهم يتبعونهم، وأنه سيكون

_ (1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 118: السرى: سير الليل. والإدلاج: سير السحر والإسآد: سيره كله. والتأويب: سير النهار. وقوله تعالى: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أمر بالخروج بالليل، وسير الليل يكون من الخوف، والخوف يكون من وجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا، فهو من أستار الله تعالى، وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بحرّ أو جدب. فيتخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسري ويدلج ويترقق ويستعجل قدر الحاجة وحسب العجلة، وما تقتضيه المصلحة. وفي «جامع الموطأ» : « «إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدّوابّ العجم فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض جدبة فانجوا عليها بنقيها، وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق فإنه طرق الدّوابّ ومأوى الحيّات» . قلت: حديث صحيح. أخرجه مالك 2/ 979 عن خالد بن معدان مرسلا. وورد من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا، أخرجه مسلم 1926.

سبباً لغرقهم. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي: ساكناً على حاله بعد أن انفرق لك، ولا تأمره أن يرجع كما كان حتى يدخُلَه فرعون وجنوده. والرَّهْو: مشيٌ في سُكون. قال قتادة: لمّا قطع موسى عليه السلام البحر، عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي كما هو طريقاً يابساً. قوله تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أخبره الله عزّ وجلّ بغرقهم لِيَطْمَئِنَّ قلبُه في ترك البحر على حاله. كَمْ تَرَكُوا أي: بعد غرقهم مِنْ جَنَّاتٍ وقد فسرنا الآية في الشعراء «1» . فأما «النَّعمة» فهو العيش اللَّيِّن الرغد. وما بعد هذا قد سبق بيانه «2» إِلى قوله: وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني بني إسرائيل. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ أي على آل فرعون، وفي معناه ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنه على الحقيقة. (1257) روى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما مِنْ مُسْلِمٍ إٍلاّ وله في السماء بابان، باب يصعَدُ فيه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه» وتلا صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية. وقال عليّ رضي الله عنه: إِن المؤمن إذا مات بكى عليه مُصَلاّه من الأرض ومَصْعَد عمله من السماء، وإِن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مُصَلّى ولا في السماء مَصْعَد عمل، فقال الله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، وإِلى نحو هذا ذهب ابن عباس والضحاك ومقاتل. وقال ابن عباس: الحُمرة التي في السماء

_ ضعيف جدا. أخرجه الترمذي 3255 وأبو يعلى 4133 وأبو نعيم 3/ 53 من طريق موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عن أنس به مرفوعا، وهذا إسناد ضعيف جدا، موسى بن عبيدة ضعيف ليس بشيء، وشيخه يزيد ضعيف روى مناكير كثيرة عن أنس، وهذا منها. وضعفه الترمذي بقوله: موسى ويزيد يضعفان، وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع» 7/ 104 والحافظ في «المطالب العالية» 3/ 369. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» 3/ 53 من طريق صفوان بن سليم عن يزيد بن أبان به والراوي عن صفوان هو إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، وهو ضعيف. ولعجزه شاهد مرسل، أخرجه الطبري 31129 ومع ذلك المتن منكر، وحسبه الوقف، وانظر «تفسير القرطبي» 5469 بتخريجنا.

[سورة الدخان (44) : الآيات 30 إلى 42]

بكاؤها. وقال مجاهد: ما مات مؤمن إِلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فقيل له: أو تَبكي؟ قال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دَويّ كَدَويَّ النحل؟!. والثاني: أن المراد: أهل السماء وأهل الأرض، قاله الحسن، ونظير هذا قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «1» ، أي: أهل الحرب. والثالث: أن العرب تقول إِذا أرادت تعظيمَ مَهِلكِ عظيمٍ: أظلمت الشمسُ له، وكَسَفَ القمرُ لفقده، وبكتْه الرّيحُ والبرقُ والسماءُ والأرضُ، يريدون المبالغة في وصف المصيبة، وليس ذلك بكذب منهم، لأنهم جميعاً متواطئون عليه، والسّامِعُ له يَعرف مذهبَ القائل فيه ونيَّتُهم في قولهم: أظلمت الشمسُ كادت تُظْلِم، وكَسَفَ القمرُ: كاد يَكْسِف، ومعنى «كاد» : هَمَّ أن يَفعَل ولم يفعل قال ابن مُفَرِّغ يرثي رجلاً: الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ ... والبَرْقُ يَلْمَعُ في غَمامَهْ «2» وقال الآخر: الشَّمْسُ طالِعَةٌ لَيْسَتْ بكاسِفةٍ ... تَبْكِي عَلَيْكَ- نُجُومَ اللَّيْلِ والْقَمَرا «3» أراد: الشمسُ طالعةٌ تبكي عليه، وليست مع طلوعها كاسِفةً النجومَ والقمرََ، لأنها مُظْلِمةٌ، وإِنما تَكْسٍفُ بضوئها، فنجُومُ الليل باديةٌ بالنهار، فيكون معنى الكلام: إن الله لمّا أهلك قوم فرعون لم يبك عليهم باكٍ، ولم يَجْزَعْ جازعٌ، ولم يوجد لهم فَقْدٌ، هذا كلُّه كلامُ ابن قتيبة. [سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 42] وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) قوله تعالى: مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والتعب في أعمال فرعون، إِنَّهُ كانَ عالِياً أي: جبَّاراً. وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ يعني بني إِسرائيل عَلى عِلْمٍ عَلِمه اللهُ فيهم على عالَمي زمانهم، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كانفراق البحر، وتظليل الغمام، وإِنزال المَنِّ والسَّلْوى، إلى غير ذلك ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي: نِعمة ظاهرة. ثم رجع إلى ذِكْر كفار مكة، فقال إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يعنون التي تكون في الدنيا وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي: بمبعوثين، فَأْتُوا بِآبائِنا أي: ابعثوهم لنا

_ (1) محمد: 4. (2) البيت ليزيد بن مفرّغ الحميري، وهو في «الأغاني» 18/ 187 و «الأضداد» 424 للأنباري. (3) البيت لجرير يرثي عمر بن عبد العزيز، ديوانه: 304 و «اللسان» - بكى-

[سورة الدخان (44) : الآيات 43 إلى 59]

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في البعث. وهذا جهل منهم من وجهين: أحدهما: أنهم قد رأوا من الآيات ما يكفي في الدلالة فليس لهم أن يتنطّعوا «1» . والثاني: أن الإِعادة للجزاء وذلك في الآخرة، لا في الدنيا. ثم خوَّفهم عذابَ الأُمَم قَبْلَهم، فقال: أَهُمْ خَيْرٌ أي: أشَدُّ وأقوى أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟! أي: ليسوا خيراً منهم. (1258) روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أدري تُبَّعاً، نبيّ، أو غير نبيّ» . وقالت عائشة: لا تسُبُّوا تُبَّعاً فإنه كان رجلاً صالحاً، ألا ترى أن الله تعالى ذَمَّ قومَه ولم يذُمَّه. وقال وهب: أسلَم تُبَّع ولم يُسْلِم قومُه، فلذلك ذُكر قومه ولم يُذكر. وذكر بعض المفسرين أنه كان يعبدُ النار، فأسلم ودعا قومَه- وهم حِمْيَر- إِلى الإِسلام، فكذَّبوه. فأمّا تسميته ب «تُبَّع» فقال أبو عبيدة: كل ملِك من ملوك اليمن كان يسمّى: تُبَّعاً، لأنه يَتْبَع صاحبَه، فموضعُ «تُبَّع» في الجاهلية موضعُ الخليفة في الإِسلام، وقال مقاتل: إنما سمِّي تُبَّعاً لكثرة أتباعه، واسمه: مَلْكَيْكَرِب. وإِنما ذكر قوم تُبَّع، لأنهم كانوا أقربَ في الهلاك إِلى كفار مكة من غيرهم. وما بعد هذا قد تقدّم «2» إِلى قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ وهو يوم يفصل الله عزّ وجلّ بين العباد مِيقاتُهُمْ أي: ميعادهم أَجْمَعِينَ يأتيه الأوّلون والآخرون. يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً فيه قولان: أحدهما: لا يَنْفَع قريبٌ قريباً، قاله مقاتل. وقال ابن قتيبة: لا يُغْنِي وليٌّ عن وليِّه بالقرابة أو غيرها. والثاني: لا يَنْفَع ابنُ عمٍّ ابنَ عمِّه، قاله أبو عبيدة. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي، لا يُمْنَعون من عذاب الله، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ وهم المؤمنون، فإنه يشفع بعضهم في بعض. [سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 59] إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

_ صحيح. أخرجه أبو داود 4674 والبيهقي 8/ 329 من طريق عبد الرزاق ثنا معمر عن ابن أبي ذئب المقبري عن أبي هريرة. لكن بلفظ. «ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبيّ هو أم لا؟» . وأخرجه الحاكم 2/ 450 من طريق آخر عن ابن أبي ذئب به، بلفظ أبي داود لكن عنده «ذو القرنين» بدل «عزير» . وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في «الصحيحة» 2217 على شرط البخاري فقط، فإن في إسناده آدم بن أبي إياس لم يرو له مسلم.

إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ قد ذكرناها في الصافات «1» . و «الْأَثِيمِ» : الفاجر وقال مقاتل: هو أبو جهل. وقد ذكرنا معنى «المُهْل» في الكهف «2» . قوله تعالى: يَغْلِي فِي الْبُطُونِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «يغلي» بالياء والباقون: بالتاء. فمن قرأ «تغلي» بالتاء، فلتأنيث الشجرة ومن قرأ بالياء، حمله على الطعام، قال أبو علي الفارسي: ولا يجوز أن يُحْمَل الغَلْيُ على المُهْل، لأن المهْل ذُكِر للتشبيه في الذَّوْب، وإٍنما يغلي ما شُبِّه به كَغَلْيِ الْحَمِيمِ وهو الماء الحارُّ إِذا اشْتَدَّ غَلَيانُه. قوله تعالى: خُذُوهُ أي: يقال للزبانية: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب: بضم التاء وكسرها الباقون قال ابن قتيبة: ومعناه: قُودوه بالعُنف، يقال: جيء بفلان يُعْتَلُ إِلى السلطان، و «سواء الجحيم» : وسط النار. قال مقاتل: الآيات في أبي جهل يضربه الملَك من خُزّان جهنم على رأسه بمقمعة من حديد فتنقُب عن دماغه، فيجري دماغُه على جسده، ثم يصُبُّ الملَك في النَّقْب ماءً حميماً قد انتهى حَرُّه، فيقع في بطنه، ثم يقول له الملَك: ذُقْ العذاب إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ هذا توبيخ له بذلك وكان أبو جهل يقول: أنا أعَزًّ قريش وأكرمُها. وقرأ الكسائي: «ذُقْ أنَّكَ» بفتح الهمزة والباقون: بكسرها. قال أبو علي: من كسرها، فالمعنى: أنت العزيز في زعمك، ومن فتح، فالمعنى: بأنَّكَ. فإن قيل: كيف سُمِّي بالعزيز وليس به؟! فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قيل ذلك استهزاءً به، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والثاني: أنت العزيز الكريم عند نَفْسك، قاله قتادة. والثالث: أنت العزيز في قومك، الكريم على أهلك، حكاه الماوردي. ويقول الخزّان لأهل النار: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي: تَشُكُّون في كونه. ثم ذكر مستقَرَّ المُتَّقِين فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ قرأ نافع وابن عامر: «في مُقام» بضم الميم والباقون: بفتحها. قال الفراء: المَقام، بفتح الميم: المكان، وبضمها: الإِقامة. قوله تعالى: أَمِينٍ أي: أمِنوا فيه الغِيَر والحوادث. وقد ذكرنا «الجنّات» في البقرة «3» ، وذكرنا معنى «العُيون» ومعنى «متقابِلين» في الحجر «4» ، وذكرنا «السُّندُس والإِستبرق» في الكهف «5» . قوله تعالى: كَذلِكَ أي: الأمر كما وَصَفْنا وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ قال المفسرون: المعنى: قَرَنّاهم بِهِنّ، وليس من عقد التزويج. قال أبو عبيدة: المعنى: جَعَلْنا ذكور أهل الجنة أزواجاً بِحُورٍ عِينٍ من النساء، تقول للرجل: زوِّج هذه النَّعل الفرد بالنَّعل الفرد، أي: اجعلهما زَوْجاً، والمعنى: جَعَلْناهم اثنين اثنين. وقال يونس: العرب لا تقول: تزوَّج بها، إِنما يقولون: تزوجَّها. ومعنى وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ: قَرَنّاهم. وقال ابن قتيبة: يقال: زوّجته امرأة، وزوّجته بامرأة. وقال أبو عليّ الفارسي: والتنزيل على ما قال يونس، وهو قوله تعالى: زَوَّجْناكَها «6» ، وما قال: زَوَّجْناك بها. فأمّا الحُور، فقال مجاهد: الحُور: النساء النقيّات البياض. وقال الفراء: الحَوْراء: البيضاء من الإِبل قال: وفي «الحُور العِين» لغتان: حُور عِين، وحِير عين، وأنشد:

_ (1) الصافات: 62. (2) الكهف: 29. (3) البقرة: 25. (4) الحجر: 45- 47. (5) الكهف: 31. (6) الأحزاب: 37.

أزمانَ عيناء سرور المسير ... وحَوْراء عيناء مِنَ العِين الحِير وقال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض بياض العَيْن، الشديدة سواد سوادها. وقد بيَّنّا معنى «العِين» في الصافات «1» . قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ فيه قولان: أحدهما: آمنين من انقطاعها في بعض الأزمنة. والثاني: آمنين من التُّخَم والأسقام والآفات. قوله تعالى: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «سوى» ، فتقدير الكلام: لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا ومثله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «2» ، وقوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «3» أي: سوى ما شاء لهم ربُّك من الزيادة على مقدار الدنيا، هذا قول الفراء، والزجاج. والثاني: أن السُّعداء حين يموتون يصيرون إِلى الرَّوح والرَّيحان وأسباب من الجنة يَرَوْنَ منازلهم منها، وإِذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنّة، لاتّصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إيّاها، قاله ابن قتيبة. والثالث: أن «إلاّ» بمعنى «بَعْد» ، كما ذكرنا في أحد الوجوه في قوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «4» ، وهذا قول ابن جرير. قوله تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي: فعل اللهُ ذلك بهم فَضْلاً منه. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي: سهَّلْناه، والكناية عن القرآن بِلِسانِكَ أي: بِلُغة العرب لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: لكي يتَّعِظوا فيُؤْمِنوا، فَارْتَقِبْ أي: انْتَظِرْ بهم العذاب إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ هلاكك وهذه عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح.

_ (1) الصافات: 48. (2) النساء: 22. (3) هود: 107. (4) النساء: 22.

سورة الجاثية

سورة الجاثية وتسمّى: سورة الشريعة. روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكّيّة، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور. وقال مقاتل: هي مكّيّة كلّها. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: هي مكّيّة إلّا آية، وهي قوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قوله تعالى: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ قد شرحناه في أول المؤمن. قوله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ أي: من تراب ثم من نُطْفة إِلى أن يتكامل خَلْق الإِِنسان وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ أي: وما يُفرِّق في الأرض من جميع ما خلق على اختلاف ذلك في الخَلْق والصُّوَر آياتٌ تدُلُّ على وحدانيَّته. قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «آياتٌ» رفعاً «وتصريفِ الرِّياحِ آياتٌ» رفعاً أيضاً. وقرأ حمزة، والكسائي: بالكسر فيهما. والرِّزق هاهنا بمعنى المطر. قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أي: هذه حُجج الله نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ أي: بعد حديثه وَآياتِهِ يؤمن هؤلاء المشركون؟!

_ (1) الجاثية: 14.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 14 إلى 22]

قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ روى أبو صالح عن ابن عباس أنها نزلت في النضر بن الحارث. وقد بيَّنّا معناها في الشعراء «1» ، والآية التي تليها مفسَّرة في لقمان «2» . قوله تعالى: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً قال مقاتل: معناه: إِذا سمع. وقرأ ابن مسعود: «وِإذا عُلِّمَ» برفع العين وكسر اللام وتشديدها. قوله تعالى: اتَّخَذَها هُزُواً أي: سَخِر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ «3» فدعا بتمر وزُبْد، وقال: تَزَقَّموا فما يَعِدُكم محمد إِلاَّ هذا، وإِنما قال: أُولئِكَ لأنه ردَّ الكلام إلى معنى «كُلّ» . مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ قد فسَّرناه في إبراهيم «4» وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً من الأموال، ولا ما عبدوا من الآلهة. قوله تعالى: هذا هُدىً يعني القرآن وَالَّذِينَ كَفَرُوا به، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: «أليمٌ» بالرفع على نعت العذاب. وقرأ الباقون: بالكسر على نعت الرِّجز. والرِّجز بمعنى العذاب، وقد شرحناه في الأعراف «5» . قوله تعالى: جَمِيعاً مِنْهُ أي: ذلك التسخير منه لا مِنْ غيره، فهو مِنْ فضله. وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: «جميعاً مِنَّةً» بفتح النون وتشديدها وتاء منصوبة منوَّنة. وقرأ سعيد بن جبير: «مَنُّهُ» بفتح الميم ورفع النون والهاء مشددة النون. [سورة الجاثية (45) : الآيات 14 الى 22] قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ... الآية، في سبب نزولها أربعة أقوال: أحدها: أنهم نزلوا في غَزاة بني المصطلق على بئر يقال لها: «المريسيع» ، فأرسل عبدُ الله بن أُبيّ غلامَة ليستقيَ الماء، فأبطأ عليه، فلمّا أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر، ما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقُرَبَ أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مَثَلُنا ومَثَلُ هؤلاء إِلاّ كما قيل: سمِّن كلبك يأكلك، فبلغ قولُه عمر، فاشتمل سيفَه يريد التوجُّه إِليه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء

_ (1) الشعراء: 222. (2) لقمان: 7. [.....] (3) الدخان: 43- 44. (4) إبراهيم: 16. (5) الأعراف: 134.

فصل:

عن ابن عباس «1» . (1259) والثاني: أنها لمّا نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «2» قال يهوديُّ بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج ربُّ محمد. فلما سمع بذلك عمر، اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في طلب عمر، فلمّا جاء، قال: «يا عمر، ضَعْ سيفَك» وتلا عليه الآية، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس. (1260) والثالث: أنّ ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة كانوا في أذىً شديدٍ من المشركين قبل أن يؤمَروا بالقتال، فشكَوْا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله القرظي، والسدي. والرابع: أن رجلاً من كفار قريش شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ عمر أن يبطش به، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «3» . ومعنى الآية: قُلْ للذين آمنوا: اغْفِروا، ولكن شبِّه بالشرط والجزاء، كقوله: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ «4» ، وقد مضى بيان هذا. وقوله: لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أي: لا يَخافون وقائع الله في الأُمم الخالية، لأنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه. وقيل: لا يَدْرُون أنْعَمَ اللهُ عليهم، أم لا. وقد سبق بيان معنى «أيّام الله» في سورة إبراهيم «5» . فصل: وجمهور المفسرين على أن هذه الآية منسوخة، لأنها تضمَّنت الأمر بالإِعراض عن المشركين. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «6» ، رواه معمر عن قتادة. والثاني: أنه قوله في الأنفال: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ «7» ، وقوله في براءة: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «8» ، رواه سعيد عن قتادة. والثالث: أنه قوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «9» ، قاله أبو صالح. قوله تعالى: لِيَجْزِيَ قَوْماً وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لِنَجْزِيَ» بالنون «قوماً» يعني الكفار، فكأنه قال: لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن. وما بعد هذا قد سبق «10» إلى قوله:

_ ضعيف جدا، أخرجه الواحدي 743 م في «أسباب النزول» عن ميمون عن ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا محمد بن زياد اليشكري متروك متهم. عزاه المصنف للقرظي وهو محمد بن كعب، وللسدي، ولم أقف على إسناده، وكلاهما مرسل. وأخرج الطبري 31185 بسند فيه مجاهيل عن ابن عباس نحوه. وهذا القول أقرب للصواب، وإن لم يصح بوجه من الوجوه. وكون السورة نزلت في عمر، واه بمرة.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 23 إلى 31]

وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ يعني التوراة وَالْحُكْمَ وهو الفَهْم في الكتاب، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني المَنَّ والسَّلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي: عالَمي زمانهم. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فيه قولان: أحدهما: بيان الحلال والحرام، قاله السّدّيّ. والثاني: العلم بمبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وشواهد نبوَّته، ذكره الماوردي. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «1» إِلى قوله: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ «2» سبب نزولها أن رؤساء قريش دعَوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلى مِلَّة آبائه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. فأمّا قوله: عَلى شَرِيعَةٍ فقال ابن قتيبة: أي على مِلَّة ومذهب، ومنه يقال: شَرَعَ فلان في كذا: إِذا أخَذ فيه، ومنه «مَشارِعُ الماء» وهي الفُرَض التي شرع فيها الوارد. قال المفسرون: ثم جعلناك بعد موسى على طريقة من الأمر، أي: من الدّين فَاتَّبِعْها. والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كفار قريش. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ أي: لن يَدْفَعوا عنك عذاب الله إِن اتبَّعتَهم، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يعني المشركين. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الشرك. والآية التي بعدها مفَّسرة في آخر الأعراف «3» . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للمؤمنين: إنّا نُعطى في الآخرة مثلما تُعْطَون من الأجر، قاله مقاتل «4» . والاستفهام هاهنا استفهام إِنكار. و «اجترحوا» بمعنى اكتسبوا. سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وزيد عن يعقوب: «سواءً» نصباً وقرأ الباقون: بالرفع. فمن رفع، فعلى الابتداء ومن نصب، جعله مفعولاً ثانياً، على تقدير: أن نجعل مَحياهم ومماتَهم سواءً والمعنى: إِن هؤلاء يَحْيَون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وهؤلاء يَحْيَون كافرين ويموتون كافرين وشتّان ما هم في الحال والمآل ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي: بئس ما يَقْضُون. ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السموات والأرض بالحق، أي: للحق والجزاء بالعدل، لئلاّ يظُن الكافرُ أنه لا يجزى بكفره. [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 31] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)

_ (1) آل عمران: 19. [.....] (2) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 123: ظن بعض من تكلم في العلم أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، ولا ننكر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء والعظة هل يلزم اتباعه أم لا؟ ولا إشكال في لزوم ذلك، ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع بحسب ما علمه سبحانه. (3) الأعراف: 203. (4) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، لا حجة فيه البتة.

قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قد شرحناه في الفرقان «1» . وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السهمي. قوله تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي: على عِلْمه السابق فيه أنه لا يَهتدي وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ أي: طَبَع عليه فلم يسمع الهدى وَعلى قَلْبِهِ فلم يَعْقِل الهُدى، وقد ذكرنا الغِشاوة والخَتْم في (البقرة) «2» . فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي: مِنْ بَعْدِ إِضلاله إِيّاه أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتَعْرِفوا قُدرته على ما يشاء؟!. وما بعد هذا مفسَّر في سورة المؤمنون «3» إلى قوله: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي: اختلاف الليل والنهار وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي: ما قالوه عن عِلْم، إِنَّما قالوه شاكِّين فيه. ومن أجل هذا قال نبيُّنا عليه الصلاة والسلام: (1261) «لا تَسُبُّوا الدَّهْر فإنَّ الله هو الدَّهْر» ، أي: هو الذي يهلككم، لا ما تتوهّمونه من مرور الزمان. وما بعد هذا ظاهر، وقد تقدّم بيانه «4» إِلى قوله: يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ يعني المكذِّبين الكافرين أصحابَ الأباطيل والمعنى: يظهر خسرانُهم يومئذ. وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ قال الفراء ترى أهل كل دين جاثِيَةً قال الزجاج: أي: جالسة على الرُّكَب، يقال: قد جثا فلان جُثُواً: إِذا جلس على ركبتيه، ومِثْلُه: جَذا يَجْذو. والجُذُوُّ أشد استيفازاً من الجُثُوِّ، لأن الجُذُوَّ: أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه. قال ابن قتيبة: والمعنى أنها غير مطمئنَّة. قوله تعالى: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كتابها الذي فيه حسناتها وسيِّئاتها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه حسابها، قاله الشعبي، والفراء، وابن قتيبة. والثالث: كتابها الذي أنزل على رسوله، حكاه الماوردي. ويقال لهم: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كتاب الأعمال الذي تكتبه الحَفَظة، قاله ابن السائب. والثاني: اللوح المحفوظ، قاله مقاتل. والثالث: القرآن، والمعنى أنهم يقرءونه فيَدُلُّهم ويُذكِّرُهم، فكأنه يَنْطِق عليهم، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي بكَتْبها وإِثباتها. وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ، من اللوح المحفوظ، تَسْتَنْسِخُ الملائكةُ كلّ عام ما

_ صحيح. أخرجه البخاري 4826 و 7491 ومسلم 2246 والحميدي 1096 وأبو داود 5274 وأحمد 2/ 238 وابن حبان 5715 والبغوي 3389 والبيهقي في «السنن 3/ 365 والطبري 31207 كلهم من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم ورواه البخاري بمعناه. قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 179: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة، قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله فكأنهم إنما سبّوا الله عز وجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال. هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدّهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذا من هذا الحديث.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 32 إلى 37]

يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقاً ما يعملونه. قالوا: والاستنساخ لا يكون إِلاّ مِنْ أصلٍ. قال الفراء: يرفع الملَكان العملَ كلَّه، فيُثْبِتُ اللهُ منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللَّغو. وقال الزجاج: نستنسخ ما تكتبه الحَفَظة، ويثبت عند الله عزّ وجلّ. قوله تعالى: فِي رَحْمَتِهِ قال مقاتل: في جنَتَّه. قوله تعالى: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي فيه إضمار، تقديره: فيقال لهم ألم تكن آياتي، يعني آيات القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإِيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ قال ابن عباس: كافرين. [سورة الجاثية (45) : الآيات 32 الى 37] وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ أي: كائن وَالسَّاعَةُ قرأ حمزة: «والساعةَ» بالنصب لا رَيْبَ فِيها أي: كائنة بلا شك قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي أنكرتموها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أي: ما نعلم ذلك إلا ظنّاً وحَدْساً، ولا نَسْتْيِقنُ كونَها. وما بعد هذا قد تقدم «1» إِلى قوله: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ أي: نتركُكم في النار كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: كما تَركتُم الإِيمانَ والعملَ للقاء هذا اليوم. ذلِكُمْ الذي فَعَلْنا بكم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً أي: مهزوءاً بها وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا حتى قلتم: إِنه لا بَعْثَ ولا حساب فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ وقرأ حمزة، والكسائي: «لا يَخْرُجُونَ» بفتح الياء وضم الراء. وقرأ الباقون: «لا يُخْرَجُونَ» بضم الياء وفتح الراء مِنْها أي: من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يُطلب منهم أن يَرْجِعوا إلى طاعة الله عزّ وجلّ، لأنه ليس بحين توبة ولا اعتذار. قوله تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: السُّلطان، قاله مجاهد. والثاني: الشَّرَف، قاله ابن زيد. والثالث: العَظَمة، قاله يحيى بن سلام، والزّجّاج.

_ (1) الزمر: 48.

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) فصل في نزولها «1» : روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكِّيَّة، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: فيها آية مدنيّة، وهي قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «2» . وقال مقاتل: نزلت بمكة غير آيتين: قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وقوله: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «3» . نزلتا بالمدينة. وقد تقدّم تفسير فاتحتها «4» إلى قوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى وهو أجَل فَناء السموات والأرض، وهو يوم القيامة. قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مفسَّر في فاطر «5» إلى قوله: ائْتُونِي بِكِتابٍ «6» ، وفي الآية اختصار، تقديره: فإن ادَّعَواْ أن شيئاً من المخلوقات صنعةُ آلهتهم، فقل لهم: ائتوني بكتاب مِنْ قَبْلِ هذا أي: مِنْ قَبْلِ القرآن فيه برهانُ ما تدَّعون من أن الأصنام شركاءُ الله، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ وفيه ثلاثة أقوال «7» : أحدها: أنه الشيء يثيره مستخرجه، قاله الحسن. والثاني: بقيَّة مِنْ عِلْمٍ تؤثر عن

_ (1) سورة الأحقاف مكية في قول جميعهم، كما في «تفسير القرطبي» 16/ 154 و «تفسير ابن كثير» 4/ 182، و «تفسير الشوكاني» 5/ 16. (2) الأحقاف: 10. (3) الأحقاف: 35. (4) المؤمن: 1- 2. (5) فاطر: 40. (6) قال ابن العربي في «أحكام القرآن» 4/ 124: وهي أشرف آية في القرآن، فإنها استوفت أدلة الشرع عقليها وسمعيّها، لقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ فهذه بيان لأدلة العقل المتعلقة بالتوحيد، وحدوث العالم، وانفراد الباري سبحانه بالقدرة والعلم والوجود والخلق، ثم قال: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا على ما تقولون وهذه بيان لأدلة السمع فإن مدرك الحقّ إنما يكون بدليل العقل أو بدليل الشرع حسبما بيناه من مراتب الأدلة في كتب الأصول. [.....] (7) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 273: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأثارة: البقية من علم، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب. وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأه «أو أثرة» بسكون الثاء، وإذا وجه ذلك إلى ما قلنا فيه من أنه بقية من علم، جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط، ومن علم استثير من كتب الأولين ومن خاصة علم أوثروا به.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 5 إلى 8]

الأوَّلِين، قاله ابن قتيبة، وإِلى نحوه ذهب الفراء، وأبو عبيدة. والثالث: علامة مِنْ عِلْم، قاله الزجاج. وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأيوب السختياني، ويعقوب: «أثَرَةٍ» بفتح الثاء، مثل شجرة. ثم ذكروا في معناها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الخَطُّ، قاله ابن عباس وقال: هو خَط كانت العرب تخُطُّه في الأرض، قال أبو بكر بن عيّاش: الخَطُّ هو العِيافة. والثاني: أو عِلْم تأثُرونه عن غيركم، قاله مجاهد. والثالث: خاصَّة مِنْ عِلْم، قاله قتادة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والضحاك، وابن يعمر: «أثْرَةٍ» بسكون الثاء من غير ألف بوزن نَظْرَةٍ. وقال الفراء: قرئت «أثارةٍ» و «أثَرَةٍ» ، وهي لغات، ومعنى الكل: بقيَّة مِنْ عِلْم، ويقال: أو شيء مأثور من كتب الأولين، فمن قرأ «أثارةٍ» فهو المصدر، مثل قولك: السماحة والشجاعة، ومن قرأ «أثَرَةٍ» فإنه بناه على الأثَر، كما قيل: قَتَرة، ومن قرأ «أثرة» فكأنه أراد قوله: «الخطفة» «1» و «الرّجفة» «2» . وقال اليزيدي: الأثارة: البقيَّة والأثَرَة، مصدر أثَرَه يأثُرُه، أي: يذكُره ويَرويه، ومنه: حديثٌ مأثور. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 5 الى 8] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قوله تعالى: مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ يعني الأصنام وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ لأنها جماد لا تَسمع، فإذا قامت القيامة صارت الآلهة أعداءً لعابديها في الدنيا. ثم ذكر بما بعد هذا أنهم يسمُّون القرآن سِحْراً وأن محمداً افتراه. قوله تعالى: فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا تقدِرون على أن ترُدُّوا عني عذابَه، أي: فكيف أفتري مِنْ أجِلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عذابه عنِّي؟! هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي: بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب والقول بأنه سِحْر كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أن القرآن جاء مِنْ عندِ الله وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ في تأخير العذاب عنكم. وقال الزجاج: إنما ذكر هاهنا الغُفران والرَّحمة ليُعْلِمَهم أنَّ من أتى ما أَتَيْتُم ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 9 الى 10] قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قوله تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي: ما أنا بأوَّل رسولٍ. والبِدْع والبديع من كل شيء: المبتدأ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة: «ما يَفْعَلُ» بفتح الياء ثم فيه

_ (1) الصافات: 10. (2) الأعراف: 78.

قولان: أحدهما: أنه أراد بذلك ما يكون في الدنيا. ثم فيه قولان «1» : (1262) أحدهما: أنه لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رأى في المنام أنه هاجر إلى أرضٍ ذاتِ نخلٍ وشجرٍ وماءٍ، فقصَّها على أصحابه، فاستبشَروا بذلك لما يلقَون من أذى المشركين. ثم إِنهم مكثوا بُرهة لا يرَوْن ذلك، فقالوا: يا رسول الله متى تُهاجِر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ يعني لا أدري، أخرُجُ إِلى الموضع الذي رأيتُه في منامي أم لا؟ ثم قال: إِنما هو شيء رأيتُه في منامي، وما أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكذلك قال عطية: ما أدري هل يتركني بمكة أو يُخرجني منها. والثاني: ما أدري هل أُخْرَج كما أُخْرج الأنبياءُ قَبْلي، أو أُقْتَل كما قُتِلوا، ولا أدري ما يُفْعَل بكم، أتعذَّبونَ أم تؤخَّرونَ؟ أتُصدَّقونَ أم تُكذَّبونَ؟ قاله الحسن. والقول الثاني: أنه أراد ما يكون في الآخرة. (1263) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لمّا نزلتْ هذه الآية، نزل بعدها لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2» وقال: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ... الآية «3» ، فأُعلم ما يُفْعَل به وبالمؤمنين. وقيل: إن المشركين فرحوا عند نزول هذه الآية وقالوا: ما أمْرُنا وأمْرُ محمد إلاّ واحد، ولولا أنه ابتدع ما يقوله لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزل قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ... الآية، فقال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، فماذا يُفْعَل بنا؟ فنزلت: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ... الآية وممن ذهب إِلى هذا القول أنس وعكرمة وقتادة. وروي عن الحسن ذلك. قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني القرآن وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وفيه قولان «4» : أحدهما: أنه عبد الله بن سلام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال

_ واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 744 معلقا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا ساقط، الكلبي متروك كذاب، والخبر واه بمرة ليس بشيء. أخرجه الطبري 31239 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مختصرا، وفيه إرسال بينهما.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 إلى 16]

الحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. والثاني: أنه موسى بن عمران عليه السلام، قاله الشعبي، ومسروق. فعلى القول الأول يكون ذكر المثل صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد من بني إِسرائيل عليه، أي: على أنه من عند الله، فَآمَنَ الشاهد، وهو ابن سلام وَاسْتَكْبَرْتُمْ يا معشر اليهود. وعلى الثاني يكون المعنى: وشَهِد موسى على التوراة التي هي مِثْل القرآن أنها من عند الله، كما شهد محمد على القرآن أنه كلام الله، «فآمن» مَنْ آمن بموسى والتوراة «واستَكْبرتُم» أنتم يا معشر العرب أن تؤمِنوا بمحمد والقرآن. فإن قيل: أين جواب «إِنْ» قيل: هو مُضْمَر وفي تقديره ستة أقوال: أحدها: أن جوابه: فَمنْ أَضَلُّ منكم، قاله الحسن. والثاني: أن تقدير الكلام: وشَهِدَ شاهدٌ من بني إِسرائيل على مثله فآمن، أتؤمِنون؟ قاله الزجاج. والثالث: أن تقديره: أتأمنون عقوبة الله؟ قاله أبو علي الفارسي. والرابع: أن تقديره: أفما تهلكون؟ ذكره الماوردي. والخامس: مَن المُحِقُّ مِنّا ومِنكم ومَن المُبْطِل؟ ذكره الثعلبي. والسادس: أن تقديره: أليس قد ظَلَمْتُمْ؟ ويدُلُّ على هذا المحذوف قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، ذكره الواحدي. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 16] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا الآية، في سبب نزولها خمسة أقوال «1» : أحدها:

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 185: وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي: قالوا عن المؤمنين بالقرآن: لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه، يعنون المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، وأخطئوا خطأ بينا، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي: يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة، لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.

أن الكفار قالوا: لو كان دين محمد خيراً ما سبقَنا إِليه اليهودُ، فنزلت هذه الآية، قاله مسروق «1» . والثاني: أن امرأة ضعيفة البصر أسلمت، وكان الأشراف من قريش يهزئون بها ويقولون: واللهِ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتْنا هذه إِليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الزناد «2» . والثالث: أن أبا ذر الغفاري أسلم واستجاب به قومه إِلى الإِسلام، فقالت قريش: لو كان خيراً ما سبقونا إِليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو المتوكل «3» . والرابع: أنه لمّا اهتدت مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةُ وأسلمتْ، قالت أسَد وغَطَفان: لو كان خيراً ما سبقنا إِليه رِعاءُ الشَّاء، يعنون مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب «4» . والخامس: أن اليهود قالوا: لو كان دين محمد خيراً ما سبقتْمونا إِليه، لأنه لا عِلْمَ لكم بذلك، ولو كان حَقّاً لدخَلْنا فيه، ذكره أبو سليمان الدمشقي وقال: هو قول مَنْ يقول: إِن الآية نزلت بالمدينة ومن قال: هي مكية، قال: هو قول المشركين. فقد خرج في «الذين كفروا» قولان: أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: اليهود. وقوله: لَوْ كانَ خَيْراً أي: لو كان دين محمد خيراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ. فمن قال: هم المشركون، قال: أرادوا: إنّا أعَزُّ وأفضل ومن قال: هم اليهود، قال: أرادوا: لأنّا أعلم. قوله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بالقرآن فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي: كذب متقدِّم، يعنون أساطير الأولين. وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي: من قَبْلِ القرآن التوراةُ. وفي الكلام محذوف، تقديره: فلَمْ يهتدوا، لأن المشركين لم يهتدوا بالتوراة. إِماماً قال الزجاج: هو منصوب على الحال وَرَحْمَةً عطف عليه وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ المعنى: مصدِّقُ للتوراة لِساناً عَرَبِيًّا منصوب على الحال المعنى: مصدِّقُ لما بين يديه عربيّاً وذكر «لساناً» توكيداً، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، تريد: جاءني زيدٌ صالحاً. قوله تعالى: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: «لِيُنْذِرَ» بالياء. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب: «لِتُنْذِرَ» بالتاء. وعن ابن كثير كالقراءتين. «والذين ظلموا» المشركون وَبُشْرى أي وهو بُشرى لِلْمُحْسِنِينَ وهم الموحِّدون يبشِّرهم بالجنة. وما بعد هذا قد تقدم تفسيره «5» إلى قوله: بِوالِدَيْهِ حُسْناً وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ:

_ (1) عزاه المصنف لمسروق: ولم أقف على إسناده، وهو مرسل. - وأخرج الطبري 31261 عن قتادة نحوه وليس فيه ذكر اليهود وإنما بنو فلان. (2) قال السيوطي في «الدر» 6/ 8: أخرج ابن المنذر عن عون بن شداد قال كان لعمر أمة أسلمت قبله، يقال لها زيزة ... فذكره بنحوه وعزاه المصنف لأبي الزناد، ولم أقف عليه. (3) عزاه المصنف لأبي المتوكل، واسمه علي بن دؤاد، وهو في عداد التابعين، فالخبر مرسل، ولم أقف على إسناده. (4) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم بالكذب. (5) فصلت: 30.

إِحْساناً بألف. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «كَرْهاً» بفتح الكاف، وقرأ الباقون بضمها. قال الفراء: والنحويُّون يستحبُّون الضَّمَّ هاهنا، ويكرهون الفتح، للعلَّة التي بيَّنّاها عند قوله: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ «1» ، قال الزجاج: والمعنى: حملته على مشقَّة وَوَضَعَتْهُ على مشقَّة. وَفِصالُهُ أي: فِطامُه. وقرأ يعقوب: «وفصله» بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف ثَلاثُونَ شَهْراً. قال ابن عباس: «ووضعتْه كُرْهاً» يريد به شِدَّةَ الطَّلْق. واعلم أن هذه المُدَّة قُدِّرتْ لأقلِّ الحَمْل وأكثرِ الرَّضاع فأمّا الأشُدّ، ففيه أقوال قد تقدَّمت واختار الزجاج أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، لأنه وقت كمال الإِنسان في بدنه وقوَّته واستحكام شأنه وتمييزه. وقال ابن قتيبة: أشُدُّ الرجُل غير أشُدِّ اليتيم، لأن أشُدَّ الرجُل: الاكتهال والحُنْكَةُ وأن يشتدَّ رأيُه وعقلُه، وذلك ثلاثون سنة، ويقال: ثمان وثلاثون سنة، وأشُدُّ الغُلام: أن يشتدَّ خَلْقُه ويتناهى نَبَاتُه. وقد ذكرنا بيان الأَشُد في الانعام «2» وفي يوسف «3» وهذا تحقيقه. واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال: (1264) أحدها: أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وذلك أنه صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة، فنزلوا منزلاً فيه سِدْرَة، فقعد رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم في ظِلِّها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له: مَن الرَّجُل الذي في ظِلِّ السِّدْرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال: هذا واللهِ نبيٌّ، وما استَظَلَّ تحتَها أحدٌ بعد عيسى إِلاّ محمدٌ نبيُّ الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أسفاره وحضره، فلمّا نبّئ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة- صدّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا بلغ أربعين سنة قال: رب أَوْزِعْني أن أشكُرََ نِعمتَكَ التي أنعمت عليَّ، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون: قالوا: فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة، دعا الله عزّ وجلّ بما ذكره في هذه الآية، فأجابه الله، فأسلم والداه وأولاده ذكورُهم وإناثُهم، ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة. والقول الثاني: أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد شرحنا قصته في العنكبوت «4» ، وهذا مذهب الضحاك، والسدي. والثالث: أنها نزلت على العموم، قاله الحسن. وقد شرحنا في سورة النمل «5» معنى قوله: أَوْزِعْنِي. قوله تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ قال ابن عباس: أجابه الله- يعني أبا بكر- فأعتق تسعةً من المؤمنين كانوا يُعذَّبون في الله عزّ وجلّ، ولم يُرِدْ شيئاً من الخير إِلاّ أعانه اللهُ عليه، واستجاب له في ذُرِّيته فآمنوا، إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ أي: رَجَعْتَ إِلى كل ما تحبّ.

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 745 عن ابن عباس من رواية عطاء بدون إسناد، ولم أقف عليه، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد، وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 10 لابن مردويه لكن ساقه مختصرا، وتفرد ابن مردويه به دليل وهنه.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 إلى 20]

قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «يُتَقَبَّلُ» «ويُتَجَاوَزُ» بالياء المضمومة فيهما. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف: «نَتَقَبَّلُ» و «نَتَجَاوَزُ» بالنون فيهما، وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو عمران الجوني: «يتقبّل» «ويتجاوز» بياء مفتوحة فيهما، يعني أهل هذا القول، والأحسن بمعنى الحَسَن. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي: في جملة من يُتجاوز عنهم، وهم أصحاب الجنة. وقيل: «في» بمعنى «مع» . وَعْدَ الصِّدْقِ قال الزجاج: هو منصوب، لأنه مصدر مؤكِّد لِمَا قَبْله، لأن قوله: «أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عنهم» بمعنى الوعد، لأنه وعدهم القبول بقوله: «وعد الصّدق» ، يؤكّد ذلك قوله: الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي: على ألسنة الرُّسل في الدنيا. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20] وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما «1» قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي. وأبو بكر عن عاصم: «أُفِّ لكما» بالخفض من غير تنوين. وقرأ ابن كثير، وابن عامر: بفتح الفاء. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: «أُفٍّ» بالخفض والتنوين. وقرأ ابن يعمر: «أُفٌّ» بتشديد الفاء مرفوعة منوَّنة. وقرأ حميد، والجحدري: «أُفّاً» بتشديد الفاء وبالنصب والتنوين. وقرأ عمرو بن دينار: «أُفُّ» بتشديد الفاء وبالرفع من غير تنوين. وقرأ أبو المتوكل، وعكرمة، وأبو رجاء: «أُفْ لكما» باسكان الفاء خفيفة. وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: «أُفِّيْ» بتشديد الفاء وياءٍ ساكنة مُمالة. (1265) وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قَبْلَ إِسلامه، كان أبواه يدعُوانه إِلى الإِسلام، وهو يأبى، وعلى هذا جمهور المفسرين. (1266) وقد روي عن عائشة أنها كانت تُنْكِر أن تكون الآية نزلت في عبد الرّحمن، وتخلف

_ أخرجه الطبري 31275 عن ابن عباس برواية عطية العوفي، قال: هذا ابن لأبي بكر. ولا يصح هذا، فإن رواية عطية العوفي ضعيف، وعنه من لا يعرف. أخرجه النسائي في «التفسير» 511 والحاكم 4/ 481 والخطابي في «غريب الحديث» 2/ 517 عن محمد بن زياد عن عائشة، وهذا منقطع، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: محمد لم يسمع من عائشة. وللقصة طريق أخرى عند البزار 1624 «كشف» وفيه عبد الله البهي، وثقه قوم، وضعفه أبو حاتم الرازي، وقال الهيثمي في «المجمع» 5/ 241 إسناد البزار حسن. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» 8/ 89: لا يصح هذا عن عائشة. قلت: الذي صح في ذلك هو ما أخرجه البخاري 4827 عن يوسف بن ماهيك. قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي فقالت عائشة من وراء الحجاب: «ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري» .

على ذلك وتقول: لو شئت لسمَّيتُ الذي نزلتْ فيه. قال الزجاج: وقول من قال: إِنها نزلت في عبد الرحمن، باطل بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فأعلَمَ اللهُ أن هؤلاء لا يؤمِنون، وعبد الرحمن مؤمن، والتفسير الصّحيح أنها نزلت في الكافر العاقِّ. وروي عن مجاهد أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر، وعن الحسن أنها نزلت في جماعة من كفار قريش قالوا ذلك لآبائهم. قوله تعالى: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فيه قولان: أحدهما: مضت القُرون فلم يرجع منهم أحد، قاله مقاتل. والثاني: مضت القُرون مكذِّبة بهذا، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي: يَدعُوَان اللهَ له بالهدى ويقولان له: وَيْلَكَ آمِنْ أي: صدِّق بالبعث، فَيَقُولُ ما هذا الذي تقولان إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وقد سبق شرحها. قوله تعالى: أُولئِكَ يعني الكفار الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: وجب عليهم قضاء الله أنهم من أهل النار فِي أُمَمٍ أي: مع أُمم. فذكر الله تعالى في الآيتين قَبْلَ هذه مَنْ بَرَّ والدَيْه وعَمِل بوصيَّة الله عزّ وجلّ، ثم ذكر مَنْ لم يَعْمَل بالوصيَّة ولم يُطِعْ ربَّه ولا والدَيْه، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: «أنَّهم» بفتح الهمزة. ثم قال: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إِيمان وكفر، فيتفاضل أهلُ الجنة في الكرامة، وأهل النار في العذاب وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: «ولِيُوَفِّيَهُمْ» بالياء، وقرأ الباقون: بالنون أي: جزاء أعمالهم. قوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ المعنى: واذكُرْ لهم يومَ يُعْرَض الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ أي: ويقال لهم: أذهبتم، قرأ ابن كثير: «آذْهَبْتُمْ» بهمزة مطوَّلة. وقرأ ابن عامر: «أأذْهَبْتُمْ» بهمزتين. وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «أذْهَبْتُمْ» على الخبر، وهو توبيخ لهم. قال الفراء والزجاج: العرب توبِّخ بالألف وبغير الألف، فتقول: أذَهَبْتَ وفعلت كذا؟! وذهبتَ ففعلت؟! قال المفسرون: والمراد بطيِّباتهم: ما كانوا فيه من اللذَّات مشتغلين بها عن الآخرة مُعرِضين عن شُكرها. ولمّا وبَّخهم اللهُ بذلك، آثر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتنابَ نعيم العيش ولذَّته ليتكامل أجرُهم ولئلا يُلهيَهم عن مَعادهم. (1267) وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مضطجع على خَصَفة وبعضُه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوَّة ليفاً، فقال: يا رسول الله، أنتَ نبيُّ الله وصفوتُه، وكسرى وقيصر على سُرُر الذَّهب وفُرُش الدِّيباج والحرير؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر، إنّ أولئك قوم عجّلت

_ صحيح. أخرجه البخاري 2468 ومسلم 1479 والترمذي 3318 وابن حبان 4268 من حديث ابن عباس في خبر مطوّل. وانظر «تفسير القرطبي» 5497.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 إلى 25]

لهم طيِّباتُهم، وهي وشيكة الانقطاع، وإِنّا أُخِّرتْ لنا طيِّباتُنا» . وروى جابر بن عبد الله قال: رأى عمر بن الخطاب لحماُ معلَّقاً في يدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ فقلت: اشتهيت لحماً فاشتريتُه، فقال: أوَ كلمَّا اشتّهيت اشتريت يا جابر؟! أما تخاف هذه الآية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا. وروي عن عمر أنه قيل له: لو أمرتَ أن نصنع لك طعاما ألين من هذا، فقال: إني سمعت الله عيَّر أقواما فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا. قوله تعالى: تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ أي: تتكبَّرون عن عبادة الله والإيمان به. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 25] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هوداً إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال الخليل: الأحقاف: الرِّمال العِظام، وقال ابن قتيبة: واحد الأحقاف: حِقْف، وهو من الرَّمْل: ما أشرَفَ من كُثبانه واستطال وانحنى. وقال ابن جرير: هو ما استطال من الرَّمْل ولم يبلُغ أن يكون جَبَلاً. واختلفوا في المكان الذي سمَّي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جبل بالشام، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: أنه وادٍ، ذكره عطية. وقال مجاهد: هي أرض. وحكى ابن جرير أنه وادٍ بين عُمان ومَهْرة. وقال ابن إِسحاق: كانوا ينزِلون ما بين عمان وحضر موت، واليمن كلُّه. والثالث: أن الأحقاف: رمال مشرِفة على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر، قاله قتادة. قوله تعالى: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي: قد مضت الُّرُّسل مِنْ قَبْلِ هود ومِنْ بَعده بإنذار أُممها أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ والمعنى: لم يُبعَث رسولٌ قَبْلَ هود ولا بعده إِلاّ بالأمر بعبادة الله وحده. وهذا كلام اعترض بين إِنذار هود وكلامه لقومه، ثم عاد إِلى كلام هود فقال إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ. قوله تعالى: لِتَأْفِكَنا أي: لِتَصْرِفَنا عن عبادة آلهتنا بالإِفك. قوله تعالى: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو يَعْلَم متى يأتيكم العذاب. فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني ما يوعَدون في قوله: «بما تَعِدُنا» عارِضاً أي: سحاب يعرُض من ناحية السماء. قال ابن قتيبة: العارض: السحاب. قال المفسرون: كان المطر قد حُبِس عن عاد، فساق اللهُ إِليهم سحابةً سوداء، فلمّا رأوها فرحوا وقالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا فقال لهم هود: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، ثم بيَّن ما هو فقال: رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، فنشأت الرِّيح من تلك السحابة، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أي: تُهٍلِك كلَّ شيءٍ مَرَّت به من الناس والدوابّ والأموال. قال عمرو بن ميمون: لقد كانت الرِّيح تحتمل الظّعينة فترفعُها حتى تُرى كأنها جرادة، فَأَصْبَحُوا يعني عاداً لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ قرأ عاصم، وحمزة: «لا يُرَى» برفع الياء «إِلاَّ مَسَاكِنُهم» برفع النون. وقرأ علي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والجحدري: «لا

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 إلى 28]

تُرَى» بتاء مضمومة. وقرأ أبو عمران، وابن السميفع: «لا تَرَى» بتاء مفتوحة «إلاّ مسكنهم» على التوحيد. وهذا لأن السُّكّان هلكوا، فقيل: أصبحوا وقد غطتَّهم الرِّيح بالرَّمْل فلا يُرَوْن. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 الى 28] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) ثم خوّف كفّار مكّة، فقال عزّ وجلّ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ في «إِنْ» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «لَمْ» فتقديره: فيما لم نمكِّنْكم فيه، قاله ابن عباس، وابن قتيبة. وقال الفراء: هي بمنزلة «ما» في الجحد، فتقدير الكلام: في الذي لم نمكِّنْكم فيه. والثاني: أنها زائدة والمعنى: فيما مكَّنّاكم فيه، وحكاه ابن قتيبة أيضاً. ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم، فلم يتدبَّروا بها، ولم يتفكّروا فيما يدلُّهم على التوحيد، قال المفسرون: والمراد بالأفئدة: القلوب وهذه الآلات لم ترُدَّ عنهم عذابَ الله. ثم زاد كفَّارَ مكة في التخويف، فقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى كديار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من الأُمم المُهْلَكة وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي: بيَّنّاها لَعَلَّهُمْ يعني أهل القُرى يَرْجِعُونَ عن كفرهم. وهاهنا محذوف، تقديره: فما رَجَعوا عن كفرهم. فَلَوْلا أي: فهلاّ نَصَرَهُمُ أي: منعهم من عذاب الله الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً يعني الأصنام التي تقرَّبوا بعبادتها إِلى الله على زعمهم وهذا استفهام إِنكار، معناه: لم ينصروهم بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي: لم ينفعوهم عند نزول العذاب وَذلِكَ يعني دعاءَهم الآلهةَ إِفْكُهُمْ أي: كذبهم، وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن يعمر وأبو عمران: «وذلك أفَّكَهم» بفتح الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف. وقرأ أًبيُّ بن كعب وابن عباس وأبو رزين والشعبي وأبو العالية والجحدري: «أفَكَهم» بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء وتخفيفها. قال ابن جرير: أي: أضلَّهم. وقال الزجاج: معناها: صَرَفهم عن الحق فجعلهم ضُلاّلاً. وقرأ ابن مسعود وأبو المتوكل: «آفِكُهم» بفتح الهمزة ومدِّها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف، أي: مضلّهم. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وبّخ الله عزّ وجلّ بهذه الآية كُفّارَ قريش بما آمنتْ به

الجنّ. وفي سبب صرفهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم صُرِفوا إِليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشُّهُب. روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس قال: (1268) انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلتْ عليهم الشُّهُب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء وأُرسلْت علينا الشُّهُب، قالوا: ما ذاك إِلاّ من شيءٍ حدث، فاضرِبوا مشارق الأرض ومغاربَها فانظروا ما هذا الأمر، فمرَّ النَّفرُ الذين توجّهوا نحو تهامة بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو ب «نَخْلةَ» وهو يصلِّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمَّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجَعوا إِلى قومهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ «1» ، فأنزل اللهُ على نبيِّه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ «2» . (1269) وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجن، ولا رآهم، وإِنما أتَوْه وهو ب «نخلة» فسمعوا القرآن. والثاني: أنهم صُرِفوا إِليه لِيُنْذِرهم وأمر أن يقرأ عليهم القرآن هذا مذهب جماعة، منهم قتادة. (1270) وفي أفراد مسلم من حديث علقمة قال: قلت لعبد الله: من كان منكم مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلةَ الجن؟ فقال: ما كان منَّا معه أحد، فقدْناه ذاتَ ليلة ونحن بمكة، فقلنا: اغتيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو استُطير، فانطلقْنا نطلبه في الشِّعاب، فلقِيناهُ مُقْبِلاً من نحو حِراء، فقلنا: يا رسول الله، أين كنتَ؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بِتْنا الليلةَ بِشَرِّ ليلةٍ بات بها قوم حين فَقَدْناكَ، فقال: «إِنه أتاني داعي الجن، فذهبت أُقْرِئهم القرآن» ، فذهبَ بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. (1271) وقال قتادة: ذُكِر لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنِّي أُمِرْتُ أن أقرأ على الجن، فأيُّكم يَتبعُني؟» فاطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثةَ فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل

_ صحيح. أخرجه البخاري 773 عن مسدد ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه البخاري 3320 ومسلم 449 والترمذي 3320 وأحمد 1/ 252 و 270 وأبو يعلى 2369 من طرق عن أبي عوانة به. وأخرجه أحمد 1/ 274 وأبو يعلى 2502 من طريق أبي إسحاق عن سعيد به. هو صدر الحديث المتقدم. صحيح. أخرجه مسلم 450 عن محمد بن المثنى ثنا عبد الأعلى ثنا داود قال سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود. وأخرجه أبو داود 85 مختصرا والترمذي 18 و 4258 وابن أبي شيبة 1/ 155 وابن خزيمة 82 وأبو عوانة 1/ 219 وابن حبان 1432 والبيهقي 1/ 108- 109 وفي «دلائل النبوة» 2/ 229 والبغوي في «شرح السنة» 178 مختصرا من طرق عن داود بن أبي هند به. هذا الخبر هو عند الطبري منجما 31315 من طريق سعيد عن قتادة مرسلا. و 31316 من طريق معمر عن قتادة و 31317 من طريق عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود و 31318 من طريق عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي عن ابن مسعود. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها من جهة الإسناد، لكن هي معارضة بالحديث الصحيح المتقدم.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 إلى 35]

نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شِعْباً يقال له: «شِعْبُ الحَجون» ، وخطَّ على عبد الله خطّاً ليُثبته به، قال: فسمعت لغطاً شديداً حتى خِفْتُ على نبيِّ الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رجَع قلت: يا نبي الله، ما اللغط الذي سمعتُ؟ قال: «اجتَمعوا إِليَّ في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحق» . والثالث: أنهم مَرُّوا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن. (1272) فذكر بعض المفسرين أنه لمّا يئس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إِلى الطائف ليدعوَهم إِلى الإِسلام- وقيل: ليلتمس نصرهم- وذلك بعد موت أبي طالب، فلمّا كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمرَّ به نفرٌ من أشراف جِنِّ نصيبين، فاستمعوا القرآن. فعلى هذا القول والقول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى وعلى القول الثاني: عَلِمَ بهم حين جاءوا. وفي المكان الذي سمِعوا فيه تلاوةَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قولان: أحدهما: الحَجون، وقد ذكرناه عن ابن مسعود، وبه قال قتادة. والثاني: بطن نخلة، وقد ذكرناه عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. وأما النَّفَر، فقال ابن قتيبة: يقال: إِنَّ النَّفَر ما بين الثلاثة إِلى العشرة. وللمفسرين في عدد هؤلاء النَّفَر ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن مسعود وزِرُّ بن حبيش ومجاهد، ورواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: تسعةً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: اثني عشر ألفاً، روي عن عكرمة، ولا يصح، لأن النَّفَر لا يُطلَق على الكثير. قوله تعالى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي: حضروا استماعه، وقُضِيَ يعني: فُرِغَ من تلاوته وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي: محذّرين عذاب الله عزّ وجلّ إن لم يؤمِنوا. وهل أنذَروا قومَهم مِنْ قبل أنفسهم، أم جعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسُلاً إِلى قومهم؟ فيه قولان. قال عطاء: كان دِينُ أولئك الجِنِّ اليهوديةَ، فلذلك قالوا: مِنْ بَعْدِ مُوسى. قوله تعالى: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ يعنون محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. وهذا يدُلُّ على أنه أُرسِلَ إِلى الجن والإِنس. قوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ «مِنْ» هاهنا صلة. قوله تعالى: فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي لا يُعْجِزُ اللهَ تعالى وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أي أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى أُولئِكَ الذين لا يجيبون الرّسل فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) ثم احتج على إحياء الموتى بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا ... إِلى آخر الآية. والرُّؤية هاهنا بمعنى العِلْم. وَلَمْ يَعْيَ أي: لم يَعْجَزْ عن ذلك يقال: عَيَّ فلانٌ بأمره، إِذا لم يَهتد له ولم يَقدر عليه. قال الزجاج: يقال: عَيِيتُ بالأمر، إِذا لم تعرف وجهه، وأعييت، إذا تعبت.

_ ضعيف. رواه ابن هشام في «السيرة» 2/ 21- 23 من طريق ابن إسحاق حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي ... فذكره. وهذا مرسل، فهو ضعيف، ويزيد غير قوي.

قوله تعالى: بِقادِرٍ قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة مؤكِّدة. وقال الفراء: العرب تُدخل الباءَ مع الجحد، مثل قولك: ما أظُنُّك بقائم، وهذا قول الكسائي، والزجاج: وقرأ يعقوب: «يَقْدْرُ» بياء مفتوحة مكان الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ أي: ذَوو الحَزْم والصَّبْر وفيهم عشرة أقوال «1» : أحدها: أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد صلّى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن السائب. والثاني: نوح، وهود، وإبراهيم، ومحمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية الرياحي. والثالث: أنهم الذين لم تُصِبْهم فتنةٌ من الأنبياء، قاله الحسن. والرابع: أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد، والشعبي. والخامس: أنهم إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله السدي. والسادس: أن منهم إِسماعيل، ويعقوب وأيُّوب، وليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان، قاله ابن جريج. والسابع: أنهم الذين أُمروا بالجهاد والقتال، قاله ابن السائب، وحكي عن السدي. والثامن: أنهم جميع الرُّسل، فإن الله لم يَبْعَثْ رسولاً إِلاّ كان من أُولي العزم، قاله ابن زيد، واختاره ابن الأنباري، وقال: «مِنْ» دخلتْ للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: قد رأيتُ الثياب من الخَزِّ والجِباب من القَزِّ. والتاسع: أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في سورة (الأنعام) ، قاله الحسين بن الفضل. العاشر: أنهم جميع الأنبياء إِلاّ يونس، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ يعني العذاب، قال بعض المفسّرين: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضَجِر بعض الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأُمر بالصَّبر. قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ أي: من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلاً. وقيل: لأن مقدار مَكْثهم في الدُّنيا قليلٌ في جَنْبِ مَكْثهم في عذاب الآخرة. وهاهنا تم الكلام. ثم قال: بَلاغٌ أي: هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغٌ عن الله إِليكم. وفي معنى وَصْفِ القرآنِ بالبلاغ قولان: أحدهما: أن البلاغ بمعنى التبليغ. والثاني: أن معناه: الكفاية، فيكون المعنى: ما أخبرناهم به لهم فيه كفايةٌ وغِنىً. وذكر ابن جرير وجهاً آخر، وهو أن المعنى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعةً من نهار، ذلك لُبْث بلاغ، أي: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إِلى آجالهم، ثُمَّ حُذفتْ «ذلك لُبْث» اكتفاءً بدلالة ما ذُكِر في الكلام عليها. وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: «بَلِّغْ» بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير ألف. قوله تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ وقرأ أبو رزين وأبو المتوكل وابن محيصن: «يَهْلِكُ» بفتح الياء وكسر اللام، أي عند رؤية العذاب إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن أمر الله عزّ وجلّ؟!.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 302: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم مثبته على المضي لما قلّده من عبء الرسالة، وثقل أحمال النبوة صلّى الله عليه وسلّم، وآمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لقوا من قومهم من المكاره، ونالهم فيه من الأذى والشدائد (فاصبر) يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم بالإنذار (كما صبر أولو العزم) على القيام بأمر الله والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره ما نالهم فيه من شدة. وقيل: إن أولي العزم منهم، كانوا الذين امتحنوا في ذات الله في الدنيا بالمحن، فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر الله، كنوح وإبراهيم وموسى ومن أشبههم.

سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم

سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الأكثرون، منهم مجاهد، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس وقتادة أنها مدنيّة، إلّا آية منها نزلت عليه بعد حجّه حين خرج من مكّة وجعل ينظر إلى البيت، وهي قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ «1» . والثاني: أنّها مكّيّة، قاله الضّحّاك، والسّدّيّ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا أي: بتوحيد الله وَصَدُّوا الناس عن الإِيمان به، وهم مشركو قريش، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: أبطلها، ولم يجعل لها ثواباً، فكأنَّها لم تكن، وقد كانوا يُطْعِمُون الطَّعامَ، ويَصِلون الأرحام، ويتصدّقون، ويفعلون ما يعتقدونه قُرْبَةً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني أصحاب محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وقرأ ابن مسعود: «نَزَّلَ» بفتح النون والزَّاي وتشديدها. وقرأ أبيّ بن كعب ومعاذ القارئ: «أُنْزِلَ» بهمزة مضمومة مكسورة الزَّاي. وقرأ أبو رزين وأبو الجوزاء وأبو عمران: «نَزَلَ» بفتح النون والزاي وتخفيفها، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي غفرها لهم وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالَهم، قاله قتادة، والمبرِّد. قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: معناه: الأمرُ ذلك، وجائز أن يكون: ذلك الإِضلال، لاتِّباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفّارات باتِّباع المؤمنين الحقَّ، كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي: كذلك يبيِّن أمثال حسنات المؤمنين وسيِّئات الكافرين كهذا البيان. قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إغراء،

_ (1) محمد: 13.

فصل:

والمعنى: فاقتُلوهم «1» ، لأن الأغلب في موضع القتل ضربُ العُنق حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي: أكثرتُم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ يعني في الأسر وإِنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل. و «الوَثاق» اسم من الإِيثاق تقول: أوثقتُه إِيثاقاً ووَثاقاً، إِذا شددتَ أسره لئلا يُفْلِت فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ قال أبو عبيدة: إِمّا أن تُمنُّوا، وإِمّا أن تفادوا، ومثلُه: سَقْياً، ورَعْياً، وإِنما هو سُقِيتَ ورُعِيتَ. وقال الزجاج: إِمَّا منَنَتُم عليهم بعد أن تأسِروهم مَنّاً، وإِمّا أطلقتُموهم بِفِداء. فصل: وهذه الآية محكَمة عند عامَّة العلماء. وممَّن ذهب إِلى أنَّ حُكم المَنِّ والفداء باقٍ لم يُنْسَخ ابنُ عمر، ومجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ سيرين، وأحمدُ، والشافعيُّ. وذهب قوم إلى نسخ المَنِّ والفداء بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» ، وممن ذهب إلى هذا ابن جريح، والسدي، وأبو حنيفة وقد أشرنا إِلى القولين في براءة. قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين. وقال مجاهد: حتى لا يكون دِينُ إِلاّ دين الإِسلام. وقال سعيد بن جبير: حتى يخرُج المسيح. وقال الفراء: حتى لا يبقى إلاّ مُسْلِم أو مُسالِم. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: حتى يضعَ أهلُ الحرب سلاحَهم قال الأعشى: وَأًَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا: ... رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراَ وأصل «الوِزْرِ» ما حملته، فسمّى السلاح «أوزاراً» لأنه يُحْمل، هذا قول ابن قتيبة. والثاني: حتى تضعَ حربُكم وقتالكم أوزارَ المشركين وقبائح أعمالهم بأن يُسْلِموا ولا يعبُدوا إِلاَّ الله، ذكره الواحدي. قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذَكَرْنا وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ بإهلاكهم أو تعذيبهم بما شاء وَلكِنْ أمركم بالحرب لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فيُثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب. قوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم: «قٌتِلُوا» بضم القاف وكسر التاء والباقون: «قاتَلُوا» بألف. قوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها:

_ (1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 131: اعلموا وفقكم الله أن هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها، أمر الله سبحانه فيها بالقتال، وبين كيفيته كما في قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ فإذا تمكّن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه، وإذا تمكن من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه ويتناول قتال غيره فعل ذلك به، فإن لم يتمكن إلا ضرب فرسه التي يتوصل بها إلى مراده فيصير حينئذ راجلا مثله أو دونه، والمآل إعلاء كلمة الله تعالى، وذلك لأن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولا، وعلم أن ستبلغ إلى الإثخان والغلبة بيّن سبحانه حكم الغلبة بشدّ الوثاق، فيتخير حينئذ المسلمون بين المن والفداء وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إنما لهم القتل والاسترقاق، وهذه الآية عنده منسوخة. والصحيح إحكامها، فإن شروط النسخ معدومة فيها من المعارضة، وتحصيل المتقدم من المتأخر. وقد عضدت السنة ذلك كله، فروى مسلم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها ناسا من المسلمين، وقد هبط على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة قوم، فأخذهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومنّ عليهم. وقال الحسن وعطاء: المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وليس للإمام أن يقتل الأسير. (2) التوبة: 5.

[سورة محمد (47) : الآيات 7 إلى 14]

يَهديهم إِلى أرشد الأمور، قاله ابن عباس. والثاني: يحقق لهم الهداية، قاله الحسن. والثالث: إِلى مُحاجَّة منكَر ونكير. والرابع: إِلى طريق الجنة، حكاهما الماوردي. وفي قوله: عَرَّفَها لَهُمْ قولان: أحدهما: عرَّفهم منازلهم فيها فلا يستدِلُّون عليها ولا يُخطِئونها، هذا قول الجمهور، منهم مجاهد وقتادة واختاره الفراء، وأبو عبيدة. والثاني: طيَّبها لهم، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: وهو قول أصحاب اللغة، يقال: طعامٌ معرَّف، أي مطيَّب. وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء وابن محيصن: «عَرَفَها لهم» بتخفيف الراء. [سورة محمد (47) : الآيات 7 الى 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) قوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي: تنصُروا دينه ورسوله يَنْصُرْكُمْ على عدوِّكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ عند القتال. وروى المفضل عن عاصم: «ويُثْبِتْ» بالتخفيف. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ قال الفراء: المعنى: فأتْعَسَهم اللهُ، والدُّعاء قد يجري مَجرى الأمر والنهي. قال ابن قتيبة: هو من قولك: تَعَسْتُ، أي: عَثَرْتُ وسَقَطْتُ. وقال الزجاج: التَّعْسُ في اللغة: الانحطاط والعُثُور. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: أهلكهم اللهُ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها أي: أمثالُ تلك العاقبة. ذلِكَ الذي فعله بالمؤمنين من النصر، وبالكافرين من الدَّمار بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي: ولِيُّهم. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ أي: إِن الأنعام تأكُل وتشرب، ولا تَدري ما في غدٍ، فكذلك الكفار لا يلتفتون إِلى الآخرة. و «المثوى» : المَنْزِل. وَكَأَيِّنْ مشروح في آل عمران «2» . والمراد بقريته: مكة وأضاف القوة والإخراج إِليها، والمراد أهلُها ولذلك قال: أَهْلَكْناهُمْ. قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فيه قولان: أحدهما: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله أبو العالية. والثاني: أنه المؤمن، قاله الحسن. وفي «البيِّنة» قولان: أحدهما: القرآن، قاله ابن زيد. والثاني: الدِّين، قاله ابن السائب. كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ يعني عبادة الأوثان، وهو الكافر وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بعبادتها.

_ (1) الكهف: 105، يوسف: 109. (2) آل عمران: 146.

[سورة محمد (47) : آية 15]

[سورة محمد (47) : آية 15] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي: صِفَتُها، وقد شرحناه في الرعد «1» . و «المتَّقون» عند المفسرين: الذين يَتَّقون الشِّرك. و «الآسِن» المتغيِّر الرِّيح، قاله أبو عبيدة، والزجاج. وقال ابن قتيبة: هو المتغير الرِّيح والطَّعم، و «الآجِن» نحوه. وقرأ ابن كثير: «غيرِ أسِنٍ» بغير مد. وقد شرحنا قوله: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ في الصافات «2» : قوله تعالى: مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى أي: من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا. قوله تعالى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ قال الفراء: أراد: مَنْ كان في هذا النعيم، كمن هو خالد في النار؟!. قوله تعالى: ماءً حَمِيماً أي: حارا شديد الحرارة. و «الأمعاء» جميع ما في البطن من الحوايا. [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 18] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني المنافقين. وفيما يستمعون قولان: أحدهما: أنه سماع خطبة رسول صلّى الله عليه وسلّم يومَ الجمعة. والثاني: سماع قوله على عموم الأوقات. فأمّا الذين أُوتُوا الْعِلْمَ، فالمراد بهم: علماء الصحابة. قوله تعالى: ماذا قالَ آنِفاً قال الزجاج: أي: ماذا قال الساعة، وهو من قولك: استأنفتُ الشيء: إذا ابتدأتَه، وروضة أنف: لم تُرْعَ، أي: لها أوَّل يُرْعى فالمعنى: ماذا قال في أوَّل وقت يَقْرُبُ مِنّا. وحُدِّثْنا عن أبي عمر غلامِ ثعلب أنه قال: «آنفاً» مُذْ ساعة. وقرأ ابن كثير، في بعض الروايات عنه: «أَنِفاً» بالقصر، وهذه قراءة عكرمة، وحميد، وابن محيصن. قال أبو علي: يجوز أن يكون ابن كثير توهَّم، مثل حاذِر وحَذِر، وفاكِه وفَكِه. وفي استفهامهم قولان: أحدهما: لأنهم لم يَعْقِلوا ما يقول، ويدُلُّ عليه باقي الآية. والثاني: أنهم قالوه استهزاءً. قوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا فيهم قولان: أحدهما: أنهم المسلمون، قاله الجمهور. والثاني: قومٌ من أهل الكتاب كانوا على الإِيمان بأنبيائهم وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا بعث محمّد صلّى الله عليه وسلّم آمَنوا به، قاله عكرمة. وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله عزّ وجلّ. والثاني: قول الرسول. والثالث: استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هُدىً، ذكرهن الزجاج. وفي معنى الهُدى قولان: أحدهما: أنه العِلْم. والثاني: البصيرة. وفي قوله: وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي. والثاني: اتِّقاء المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. والثالث: أعطاهم التقوى مع الهُدى، فاتَّقَوْا معصيته خوفاً من عقوبته، قاله أبو سليمان الدّمشقي. ويَنْظُرُونَ بمعنى ينتظِرون، أَنْ تَأْتِيَهُمْ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الأشهب، وحميد: «إِنْ تَأْتِهم» بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء. والأشراط: العلامات قال أبو عبيدة: الأشراط: الأعلام، وإِنما سمِّي الشُّرط- فيما تَرى- لأنهم أعلموا أنفُسهم. قال المفسّرون: ظهور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أشراط الساعة، وانشقاقُ القمر والدخانُ وغير ذلك. فَأَنَّى لَهُمْ

_ (1) الرعد: 35. [.....] (2) الصافات: 46.

[سورة محمد (47) : الآيات 19 إلى 21]

أي: فمِن أين لهم إِذا جاءَتْهُمْ الساعة ذِكْراهُمْ؟! قال قتادة: أنَّى لهم أن يَذَّكَّروا ويتوبوا إذا جاءت؟! [سورة محمد (47) : الآيات 19 الى 21] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ قال بعضهم: اثْبُتْ على عِلْمك، وقال قوم: المراد بهذا الخطاب غيره وقد شرحنا هذا في فاتحة الأحزاب. وقيل: إِنه كان يَضيق صدرُه بما يقولون، فقيل له: اعْلَمْ أنه لا كاشفِ لما بِكَ إِلاّ اللهُ. فأمّا قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فإنه كان يَستغفر في اليوم مائة مرة، وأُمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات إِكراماً لهم لأنه شفيعٌ مُجابٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مُتقلَّبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني: مُتقلَّبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء، ومقامكم في القبور، قاله عكرمة. والثالث: «مُتقلَّبكم» بالنهار و «مثواكم» أي: مأواكم بالليل، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ قال المفسرون: سألوا ربَّهم أن يُنزل سُورةً فيها ثواب القتال في سبيل الله، اشتياقاً منهم إلى الوحي وحِرصاً على الجهاد، فقالوا: «لولا» أي: هلا وكان أبو مالك الأشجعي يقول: «لا» هاهنا صلة، فالمعنى: لو أُنزلتْ سورة، شوقاً منهم إِلى الزيادة في العِلْم، ورغبةً في الثواب والأجر بالاستكثار من الفرائض. وفي معنى «مُحكَمة» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التي يُذْكَر فيها القتال، قاله قتادة. والثاني: أنها التي يُذْكَر فيها الحلال والحرام. والثالث: التي لا منسوخ فيها، حكاهما أبو سليمان الدمشقي. ومعنى قوله: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي: فُرِضَ فيها الجهاد. وفي المراد بالمرض قولان: أحدهما: النفاق، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور. والثاني: الشكّ، قاله مقاتل. قوله تعالى: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي: يَشْخَصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظراً شديداً كما ينظُر الشاخص ببصره عند الموت، لأنهم يكرهون القتال، ويخافون إِن قعدوا أن يتبيَّن نفاقُهم. فَأَوْلى لَهُمْ قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد: «أَوْلَى لكَ» أي: وَلِيَكَ وقارَبَك ما تَكْره. وقال ابن قتيبة: هذا وَعِيدُ وتهديد، تقولُ للرجُل- إذا أردتَ به سوءاً، فَفَاتَكَ- أوْلَى لكَ، ثم ابتدأ، فقال: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ.... وقال سيبويه والخليل: المعنى: طاعةُ وقولٌ معروفٌ أمثل. وقال الفراء: الطاعةُ معروفةٌ في كلام العرب، إِذا قيل لهم: افعلوا كذلك، قالوا: سَمعٌ وطاعةٌ، فوصف اللهُ قولَهم قبل أن تنزل السُّورة أنهم يقولون: سمعٌ وطاعة، فإذا نزل الأمر كرهوا. وأخبرني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: فَأَوْلى، ثم قال: لَهُمْ أي: للذين آمنوا منهم (طاعةٌ) ، فصارت «أَوْلَى» وعيداً لِمَن كَرِهها، واستأنف الطاعة ب «لهم» والأول عندنا كلام

[سورة محمد (47) : الآيات 22 إلى 28]

العرب، وهذا غير مردود، يعني حديث أبي صالح. وذكر بعض المفسرين أن الكلام متصل بما قبله والمعنى: فأَوْلَى لهم أن يُطيعوا وأن يقولوا معروفاً بالإِجابة. قوله تعالى: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ قال الحسن: جَدَّ الأمْرُ. وقال غيره: جدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابُه في الجهاد، ولَزِمَ فرضُ القتال، وصار الأمر معروفاً عليه. وجواب «إذا» محذوف، تقديره: فإذا عَزَمَ الأمْرُ نَكَلُوا يدُلُّ على المحذوف فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ أي: في إِيمانهم وجهادهم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من المعصية والكراهة. [سورة محمد (47) : الآيات 22 الى 28] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ في المخاطَب بهذا أربعة أقوال: أحدها: المنافقون، وهو الظاهر. والثاني: منافقو اليهود، قاله مقاتل. والثالث: الخوارج، قاله بكر بن عبد الله المزني. والرابع: قريش، حكاه جماعة منهم الماوردي. وفي قوله: تَوَلَّيْتُمْ قولان «1» : أحدهما: أنه بمعنى الإِعراض. فالمعنى: إِن أعرضتم عن الإِسلام أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بأن تعودوا إِلى الجاهلية يقتل بعضكم بعضاً، ويُغِير بعضكم على بعض، ذكره جماعة من المفسرين. والثاني: أنه من الوِلاية لأُمور الناس، قاله القرظي. فعلى هذا يكون معنى «أن تُفْسِدوا في الأرض» : بالجَوْر والظُّلم. وقرأ يعقوب: «وتَقْطَعوا» بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف، ثم ذَمَّ من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه. وما بعد هذا قد سبق «2» إِلى قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «أَمْ» بمعنى «بَلْ» ، وذِكْر الأقفال استعارة، والمراد أن القَلْب يكون كالبيت المُقفَل لا يَصِلُ إِليه الهُدى. قال مجاهد: الرّان أيسرُ من الطَّبْع، والطَّبْع أيسرُ من الإِقفال، والإِقفال أشَدُّ ذلك كلّه. وقال خالد بن معدان: ما من آدميٍّ إِلاّ وله أربعُ أعيُنٍ، عَيْنان في رأسه لدُنياه وما يُصْلِحه من معيشته، وعَيْنان في قَلْبه لِدِينه وما وَعَد اللهُ من الغَيْب، فإذا أراد اللهُ بعبد خيراً أبصرتْ عيناه اللتان في قلبه، وإِذا أراد به غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله: «أَمْ على قُلوب أقفالُها» . قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي: رجَعوا كُفّاراً وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المنافقون، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة، ومقاتل مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى أي: مِنْ بَعْدِ ما وَضَحَ لهم الحقُّ. ومن قال: هم اليهود، قال: مِنْ بعد أن تبيّن لهم

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 211: وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قل أمر تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام. (2) النساء: 82.

[سورة محمد (47) : الآيات 29 إلى 34]

وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونعته في كتابهم. وسَوَّلَ بمعنى زيَّن. وَأَمْلى لَهُمْ قرأ أبو عمرو، وزيد عن يعقوب: «وأُمْلِيَ لهم» بضم الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء مفتوحة. وقرأ يعقوب إِلاّ زيداً، وأبان عن عاصم كذلك، إِلاّ أنهما أسكنا الياء. وقرأ الباقون بفتح الهمزة واللام. وقد سبق معنى الإملاء «1» . قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: المعنى: الأَمْرُ ذلك، أي: ذلك الإِضلال بقولهم: لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ وفي الكارهِين قولان: أحدهما: أنهم المنافقون، فعلى هذا في معنى قوله: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ثلاثة أقوال: أحدها: في القعود عن نصرة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله السدي. والثاني: في المَيْل إِليكم والمظاهرة على محمّد صلّى الله عليه وسلّم والثالث: في الارتداد بعد الإِيمان، حكاهما الماوردي. والثاني: أنهم اليهود، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان: أحدهما: في أن لا يصدّقوا شيئا من مقالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله الضحاك. والثاني: في كَتْم ما عَلِموه من نُبوَّته، قاله ابن جريج. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، والوليد عن يعقوب: بكسر الألف على أنه مصدر أسْرَرْتُ: وقرأ الباقون: بفتحها على أنه جمع سِرٍّ، والمعنى أنه يَعْلَم ما بين اليهود والمنافقين من السِّرِّ. قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؟ أي: فكيف يكون حالُهم حينئذ؟ وقد بيَّنّا في الأنفال «2» معنى قوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ. قوله تعالى: وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ أي: كَرِهوا ما فيه الرِّضوان، وهو الإيمان والطّاعة. [سورة محمد (47) : الآيات 29 الى 34] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: نفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ قال الفراء: أي لن يُبْدِيَ اللهُ عداوتهم وبغضهم لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقال الزجاج: أي: لن يُبْدِيَ عداوتَهم لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ويُظْهِرَهُ على نفاقهم. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي: لعرَّفْناكهم، تقول: قد أرَيْتُكَ هذا الأمر، أي: قد عرَّفْتُك إيّاه، المعنى: لو نشاء لجَعَلْنا على المنافقين علامة، وهي السّيماء فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أي: بتلك العلامة وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي: في فحوى القَوْل، فدلَّ بهذا على أن قول القائل وفعله يدُلُّ على نِيَّته. وقولُ الناس: قد لَحَنَ فلانٌ، تأويله: قد أَخذ في ناحية عن الصواب، وَعدَلَ عن الصواب إِليها. وقول الشاعر: مَنْطِقٌ صائِبٌ وتَلْحَنُ أحيانا ... ، وخير الحديث ما كان لحنا «3»

_ (1) آل عمران: 178، والأعراف: 183. (2) الأنفال: 50. (3) البيت لمالك بن أسماء بن خارجة الفزازي وهو في «اللسان» - لحن- قال في «اللسان» : ومعنى صائب: قاصد الصواب وإن لم يصب، وتلحن أحيانا أي تصيب وتفطن قال: فصار تفسير اللحن في البيت على ثلاثة أوجه: الفطنة والفهم، والتعرض، والخطأ في الإعراب.

[سورة محمد (47) : الآيات 35 إلى 38]

تأويله: خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا يعرفه كلُّ أحد، إِنما يُعْرََفُ قولها في أنحاء قولها. قال المفسرون: وَلتَعْرِفَنَّهم في فحوى الكلام ومعناه ومقْصَده، فإنهم يتعرَّضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين. قال ابن جرير: ثم عرَّفه اللهُ إيّاهم. قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: وَلنُعامِلَنَّكم معامَلةَ المُخْتَبِر بأن نأمرَكم بالجهاد حَتَّى نَعْلَمَ العِلْم الذي هو عِلْم وجود، وبه يقع الجزاء وقد شرحنا هذا في العنكبوت «1» . قوله تعالى: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي: نُظْهِرها وَنكْشِفها باباء من يأبى القتال ولا يَصْبِر على الجهاد. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «وَليَبْلُوَنَّكم» بالياء «حتى يَعْلَمَ» بالياء «ويبلو» بالياء فيهنّ. وقرأ معاذ القارئ، وأيوب السختياني: «أخياركم» بالياء جمع «خير» . قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية، اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها في المُطْعِمِين يومَ بدر، قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في الحارث بن سويد، ووحوح الأنصاري، أسلما ثم ارتدّا، فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبى صاحبه أن يَرْجِع حتى مات، قاله السدي «2» . والثالث: أنها في اليهود، قاله مقاتل. والرابع: أنها في قريظة والنضير، ذكره الواحدي. قوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ اختلفوا في مُبْطِلها على أربعة أقوال: أحدها: المعاصي والكبائر، قاله الحسن. والثاني: الشَّكّ والنِّفاق، قاله عطاء. والثالث: الرِّياء والسُّمعة، قاله ابن السائب. والرابع: بالمَنّ. (1273) وذلك أن قوماً من الأعراب قَدِموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أتيناك طائعين، فلنا عليك حق، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «3» ، هذا قول مقاتل. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدُلُّ على أن كُلُّ مَنْ دخل في قُرْبَة لم يَجُزْ له الخُروج منها قبل إِتمامها، وهذا على ظاهره في الحج، فأما في الصلاة والصيام، فهو على سبيل الاستحباب «4» . [سورة محمد (47) : الآيات 35 الى 38] فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم بالكذب.

قوله تعالى: فَلا تَهِنُوا أي: فلا تَضْعُفوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إِلى السَّلْم» بفتح السين وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر السين، والمعنى: لا تدعوا الكفّار إلى الصّلح ابتداء. وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصّلح من المشركين، ودلالة على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يدخل مكة صلحاً، لأنه نهاه عن الصُّلح. قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي: أنتم أعزُّ منهم، والحُجَّة لكم، وآخِرُ الأمر لكم وإِن غَلَبوكم في بعض الأوقات وَاللَّهُ مَعَكُمْ بالعَوْن والنُّصرة وَلَنْ يَتِرَكُمْ قال ابن قتيبة: أي لن يَنْقُصَكم ولن يَظْلِمَكم، يقال: وتَرْتَني حَقِّي، أي: بَخسْتَنِيه. قال المفسرون: المعنى: لن يَنْقُصَكم من ثواب أعمالكم شيئا. قوله تعالى: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي: لن يَسألَكُموها كُلَّها. قوله تعالى: فَيُحْفِكُمْ قال الفراء: يُجْهِدكم. وقال ابن قتيبة: يُلِحّ عليكم بما يوجبه في أموالكم تَبْخَلُوا، يقال: أحْفاني بالمسألة وألحْف: إِذا ألحَّ. وقال السدي: إِن يسألْكم جميعَ ما في أيديكم تبخلوا. وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن يعمر: «ويُخْرَج» بياء مرفوعه وفتح الراء «أضغانُكم» بالرفع. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رزين، وعكرمة، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: «وتَخْرُج» بتاء مفتوحة ورفع الراء «أضغانُكم» بالرفع. وقرأ ابن مسعود، والوليد عن يعقوب: «ونُخْرِج» بنون مرفوعة وكسر الراء «أضغانَكم» بنصب النون، أي: يُظهر بُغضَكم وعداوتَكم لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم ولكنه فرض عليكم يسيراً. وفيمن يضاف إِليه هذا الإخراج وجهان: أحدهما: إلى الله عزّ وجلّ. والثاني: البخل، حكاهما الفراء. وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وليس بصحيح لأنّا قد بيَّنّا أن معنى الآية: إن يسألْكم جميعَ أموالكم، والزكاة لا تنافي ذلك. قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني ما فرض عليكم في أموالكم فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بما فُرض عليه من الزكاة وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي: على نفسه بما ينفعٌها في الآخرة وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عنكم وعن أموالكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إليه وإلى ما عنده من الخير والرحمة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن طاعته يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أطوعُ له منكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بل خيراً منكم. وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال: أحدها: أنهم العجم، قاله الحسن، وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال: (1274) لمّا نزلت: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ كان سلمان إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،

_ عجزه صحيح، وتأويل الآية بأهل فارس لا يصح، فهو حديث ضعيف، فيه مسلم بن خالد الزنجي ضعيف أخرجه البغوي في «شرح السنة» 3895. وأخرجه الطبري 31443 وابن حبان 7123 وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» 1/ 3 من طرق عن ابن وهب ثنا مسلم بن خالد به. وأخرجه الطبري 31442 و 3144 وأبو نعيم 1/ 2 و 3 من طرق عن مسلم بن خالد به. وأخرجه الترمذي 3261 وأبو نعيم 1/ 3 والواحدي 4/ 131 من

فقالوا: يا رسول الله، مَنْ هؤلاء الذين إذا تولَّينا استُبْدِِلوا بنا؟ فضرب رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يدَه على مَنْكِب سلمان، فقال: «هذا وقومُه، والذي نفسي بيده! لو أن الدِّين معلَّق بالثُّريَّا لتناوله رجال من فارس» . والثاني: فارس والروم، قاله عكرمة. والثالث: من يشاء من جميع الناس، قاله مجاهد. والرابع: يأتي بخلق جديد غيركم. وهو معنى قول قتادة. والخامس: كندة والنخع، قاله ابن السائب. والسادس: أهل اليمن، قاله راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، وشريح بن عبيد. والسابع: الأنصار، قاله مقاتل. والثامن: أنهم الملائكة، حكاه الزجاج وقال: فيه بُعْدٌ لأنه لا يقال للملائكة «قَوْمٌ» إِنما يقال ذلك للآدميين، قال: وقد قيل: إن تولَّى أهلُ مكَّة استَبْدَلَ اللهُ بهم أهلَ المدينة، وهذا معنى ما ذكَرْنا عن مقاتل.

_ طريقين عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن جعفر بن نجيع عن العلاء به وعبد الله بن جعفر، ضعيف متروك. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 6/ 334 من طريق أبي الربيع سليمان بن داود الزهراني عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء به، والظاهر أنه منقطع بين إسماعيل وسليمان بدليل الواسطة بينهما. وأخرجه الترمذي 3260 من طريق عبد الرزاق عن شيخ من أهل المدينة عن العلاء به. قال الترمذي: هذا حديث غريب في إسناده مقال. قلت: هو ضعيف فيه من لم يسم، ولعل المراد إبراهيم المدني الآتي ذكره. وأخرجه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» 1/ 3- 4 من طريق عبد الله بن جعفر ومن طريق إبراهيم بن محمد المدني كلاهما عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وعبد الله بن جعفر ضعيف، والمدني أظنه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي ذاك المتروك المتهم. وعجزه دون ذكر الآية. أخرجه مسلم 2546 ح 230 وأحمد 2/ 309 وأبو نعيم 1/ 4 من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. ويشهد لعجزه حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري 4798 ومسلم 2546 ح 231 والنسائي في «فضائل الصحابة» 173 وأحمد 2/ 417 وابن حبان 7308 من طرق عن عبد العزيز الدارودي به. ورواية البخاري لعبد العزيز إنما هي متابعة، فقد تابعه سليمان بن بلال، وأخرجه البخاري 4897 والترمذي 3310 و 3933 من طريق ثور بن يزيد به. وأخرجه الترمذي 3261 وابن حبان 7123 والبيهقي في «الدلائل» 6/ 334 من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به. ولفظ البخاري في الرواية 4898 «لناله رجال من هؤلاء» . ولفظ البخاري في الرواية 4897 «عن أبي هريرة رضي عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزلت عليه سورة الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهم قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال- أو رجل- من هؤلاء» . وانظر «فتح القدير» 2281 بتخريجنا.

سورة الفتح

سورة الفتح وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الآية. (1275) سبب نزولها أنه لما نزل قوله: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ «1» ، قال اليهود: كيف نتَّبع رجُلاً لا يَدري ما يُفْعَلُ به؟! فاشتدَّ ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال «2» . أحدها: أنه كان يومَ الحديبية، قاله الأكثرون. قال البراء بن عازب: نحن نَعُدُّ الفتح بَيْعةَ الرِّضْوان. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأُطعموا نخل خيبر، وبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه، وظَهرت الرُّومَ على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. قال الزهري: لم يكن فتحٌ أعظمَ من صُلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكَّن الإِسلامُ في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خَلْقٌ كثير وكَثُر بهم سواد الإِسلامُ، قال مجاهد: يعني بالفتح ما قضى اللهُ له من نحر الهَدْي بالحديبية وحَلْق رأسه. وقال ابن قتيبة: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً أي: قَضَيْنا لك قضاءً عظيماً، ويقال للقاضي: الفتَّاح. قال الفراء: والفتح قد يكون صُلحاً، ويكون أَخْذَ الشيء عَنْوةً، ويكون بالقتال. وقال غيره: معنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصُّلْح الذي جُعل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذّرا حتى فتحه الله تعالى.

_ ذكره الواحدي 748 في «أسباب النزول» قاله عطاء عن ابن عباس بدون إسناد، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد، والمتن باطل، فإن الآية المذكورة في الخبر مكية، عند الجمهور وسورة الفتح مدينة.

الإشارة إلى قصة الحديبية

الإشارة إلى قصّة الحديبية (1276) روت عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في النَّوم كأن قائلاً يقول له: لتدخلن المسجد الحرام إِن شاء الله آمنين، فأصبح فحدَّث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج للعُمْرة فذكر أهلُ العِلْم بالسِّيَرِ أنَّه خرج واستنفر أصحابَه للعمرة، وذلك في سنة ست، ولم يخرج بسلاح إِلاّ السيوف في القُرُب «1» . (1277) وساق هو وأصحابُه البُدْنَ، فصلَّى الظُّهر ب «ذي الحُلَيْفة» ، ثم دعا بالبُدْنِ فجُلِّلَتْ، ثم أشعرها وقلّدها، وفعل ذلك أصحابه، وأحرم ولبَّى، فبلغ المشرِكينَ خروجُه، فأجمع رأيُهم على صدِّه عن المسجد الحرام، وخرجوا حتى عسكروا ب «بَلْدَح» ، وقدَّموا مائتي فارس إِلى كُراع الغميم «2» ، وسار رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دنا من الحديبية قال الزجاج: وهي بئر، فسمِّي المكان باسم البئر قالوا: وبينها وبين مكة تسعة أميال، فوقفت يَدَا راحلته، فقال المسلمون: حَلْ حَلْ «3» ، يزجرونها، فأبَتْ، فقالوا: خَلأَتْ القصْواءُ- والخِلاءُ في النّاقة مثل الحِران في الفَرَس- فقال: «ما خَلأَتْ، ولكن حَبَسها حابِسَ الفِيلِ، أما واللهِ لا يسألوني خُطَّةً فيها تعظيمُ حُرْمة اللهِ إِلاّ أعطيتُهم إِيّاها» ، ثم جرَّها فقامت، فولَّى راجعاً عَوْده على بَدْئه حتى نزل على ثمد «4» من أثماد الحديبية قليلِ الماء، فانتزع سهماً من كنانته فغرزه فيها، فجاشت لهم بالرَّواء، وجاءه بُدَيْل بن ورقاء في ركب فسلَّموا وقالوا: جئناك من عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، يُقْسِمون، لا يُخَلُّون بينك وبين البيت حتى تُبيد خَضْراءَهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَمْ نأتِ لقتال أحَد إِنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلْناه» . فرجعَ بديل فأخبر قريشاً، فبعثوا عروة بن مسعود، فكلَّمه بنحو ذلك، فأخبر قريشاً، فقالوا: نَرُدُّه مِن عامِنا هذا، ويَرْجِع من قابِل فيَدْخُل مكّة ويطوف بالبيت، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمانَ بن عفان، قال: «اذْهَبْ إِلى قريش فأَخْبِرْهم أنّا لَمْ نأتِ لقتالِ أحَدٍ، وإِنما جئنا زُوّاراً لهذا البيت، معنا الهدي ننحره وننصرف، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا: لا كان هذا أبداً، ولا يَدخُلها العامَ، وبَلَغَ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم أنَّ عثمان قد قُتل، فقال: «لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَهم» «5» ، فذاك حين دعا المسلمين إِلى بيعة الرّضوان، فبايعهم تحت

_ لم أره عن عائشة، وهو غريب هكذا، وقد نبه الحافظ على ذلك في تخريج «الكشاف» 4/ 345، وقد ورد منجما وبمعناه عند الطبري 31601 و 31602 و 31603 و 31604 وعامة هذه الروايات مراسيل. خبر الحديبية. صحيح. أخرجه البخاري 2731 و 2732 و 4178 و 4179 وأبو داود 2765 مختصرا وأحمد 4/ 328 والطبري 31566 وابن حبان 4872 والبيهقي في «دلائل النبوة» 4/ 99- 108.

الشجرة. وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال: (1278) أحدها: ألف وأربعمائة، قاله البراء، وسلمة بن الأكوع، وجابر، ومعقل بن يسار. (1279) والثاني: ألف وخمسمائة، روي عن جابر أيضاً، وبه قال قتادة. (1280) والثالث: ألف وخمسمائة وخمس وعشرون، رواه العوفي عن ابن عباس. (1281) والرابع: ألف وثلاثمائة، قاله عبد الله بن أبي أوفى. (1282) قال: وضَرَبَ يومئذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشماله على يمينه لعثمان، وقال: إِنه ذهب في حاجة الله ورسوله. وَجعَلَت الرُّسُل تختلف بينهم، فأجمعوا على الصُّلح، فبعثوا سهيل بن عمرو في عِدَّة رجال فصالحه كما ذكرنا في براءة «1» فأقام بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال: عشرين ليلة، ثم انصرف. (1283) فلمّا كان ب «ضَجَنَان» نزل عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، فقال جبريل: يَهنيك يا رسول الله، وهنّأه المسلمون. والقول الثاني: أن هذا الفتح فتح مكة، رواه مسروق عن عائشة، وبه قال السدي. وقال بعض مَن ذَهَب إِلى هذا: إِنما وُعِد بفتح مكة بهذه الآية. والثالث: أنه فتح خيبر، قاله مجاهد، والعوفي، وعن أنس بن مالك كالقولين. والرابع: أنه القضاء له بالإِسلام، قاله مقاتل. وقال غيره: حَكَمْنا لك بإظهار دِينك والنُّصرة على عدوِّك. قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ قال ثعلب: اللام لام «كي» ، والمعنى «2» : لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النِّعمة في الفتح، فلمّا انضمَّ إلى المغفرة شيءٌ حادِثٌ، حَسُنَ معنى «كي» ، وغلط من قال:

_ أخرجه البخاري 4150 و 4151 من حديث البراء بن عازب. وورد أيضا من حديث جابر، أخرجه البخاري 4154 ومسلم 1856 ح 71 و 72 و 74، ومن حديث سلمة بن الأكوع، أخرجه مسلم 1807. أخرجه الطبري 31524 عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قيل له «إن جابر بن عبد الله يقول: إن أصحاب الشجرة كانوا ألفا وخمس مائة، قال سعيد: نسي جابر، هو قال لي: كانوا ألفا وأربع مائة» . أخرجه الطبري 31526 عن ابن عباس بسند واه. أخرجه البخاري 4155 ومسلم 1857 عن عبد الله بن أبي أوفى. لم أره بهذا اللفظ، وخبر البيعة عن عثمان، أخرجه الترمذي 3702 من حديث أنس، وفيه الحكم بن عبد الملك، وهو ضعيف. لم أره بهذا اللفظ، وذكر جبريل غريب جدا. وانظر الآتي برقم 1285.

[سورة الفتح (48) : الآيات 4 إلى 10]

ليس الفتح سببَ المغفرة. قوله تعالى: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال ابن عباس: والمعنى: «ما تقدَّم» في الجاهلية و «ما تأخَّر» ما لم تعلمه، وهذا على سبيل التأكيد، كما تقول: فلان يَضْرِب من يلقاه ومن لا يلقاه. قوله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك في الجنة. والثاني: أنه بالنُبُوَّة والمغفرة، رويا عن ابن عباس. والثالث: بفتح مكة والطائف وخيبر، حكاه الماوردي. والرابع: بإظهار دِينك على سائر الأديان، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: ويُثبِّتك عليه وقيل: ويَهدي بك، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ على عدوِّك نَصْراً عَزِيزاً قال الزجاج: أي: نَصْراً ذا عزّ لا يقع معه ذلّ. [سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 10] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ أي: السُّكون والطمُّأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لئلاّ تنزعج قلوبُهم لِمَا يَرِد عليهم، فسلَّموا لقضاء الله، وكانوا قد اشتد عليهم صَدُّ المشركين لهم عن البيت، حتى قال عمر: علامَ نُعطي الدّنيّة في ديننا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (1284) «أنا عَبْدُ الله ورسوله، لن أُخالِف أمره ولن يُضَيِّعني» . ثم أَوْقَعَ اللهُ الرِّضى بما جرى في قلوب المسلمين، فسلَّموا وأطاعوا. لِيَزْدادُوا إِيماناً وذلك أنه كلَّما نزلت فريضة زاد إيمانهم. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يريد أن جميع أهل السموات والأرض مُلْكٌ له، لو أراد نُصرة نبيِّه بغيركم لَفَعَل، ولكنه اختاركم لذلك، فاشكُروه. قوله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ ... الآية. (1285) سبب نزولها أنه لمّا نزل قوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ قال أصحابُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هنيئا لك يا

_ صحيح. أخرجه البخاري 3182 ومسلم 1785 والنسائي في الكبرى 11504 من حديث أبي وائل عن سهل بن حنيف. وانظر «تفسير الشوكاني» 2302. صحيح. أخرجه البخاري 4172 و 4834 وأحمد 3/ 173 من طريق شعبة. وأخرجه مسلم 1786 وأحمد 3/ 122 و 134 والطبري 31454 من طريقين عن همام به. وأخرجه مسلم 1786 والبيهقي 5/ 217 من طريق شيبان. وأخرجه أحمد 3/ 252 عن عفان ثنا همام ثنا قتادة ثنا أنس رضي الله عنه. وهو في «شرح السنة» 3914 بهذا الإسناد. وأخرجه الترمذي 3263 وأحمد 3/ 197 عن طريق معمر. وأخرجه مسلم 1786 والطبري 31452 والواحدي في «الوسيط» 4/ 132- 133 من طريق سليمان بن طرخان. وأخرجه الطبري 31453 من طريق سعيد بن أبي عروبة. كلهم عن قتادة به. وأخرجه ابن حبان 371 من طريق سفيان عن الحسن عن أنس به.

رسول الله بما أعطاك الله، فما لَنا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك. (1286) قال مقاتل: فلمّا سمع عبد الله بن أُبيّ بذلك، انطلق في نَفَرٍ إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ما لَنا عند الله؟ فنزلت: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ ... الآية. قال ابن جرير كُرِّرت اللاّمُ في «لِيُدْخِلَ» على اللام في «لِيَغْفِرَ» ، فالمعنى: إَِنّا فَتَحْنا لك لِيَغْفِرَ لك اللهُ لِيُدْخِلَ المؤمنين، ولذلك لم يُدخِل بينهما واو العطف، والمعنى: لِيُدْخِل ولِيُعَذِّب. قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بفتحها. قوله تعالى: وَكانَ ذلِكَ أي: ذلك الوَعْد بإدخالهم الجنة وتكفير سيِّئاتهم عِنْدَ اللَّهِ أي في حُكمه فَوْزاً عَظِيماً لهم والمعنى: أنه حكم لهم بالفَوْز، فلذلك وعدهم إِدخال الجنة. قوله تعالى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنهم ظنُّوا أن لله شريكاً. والثاني: أن الله لا ينصُر محمداً وأصحابه. والثالث: أنهم ظنُّوا به حين خرج إِلى الحديبية أنه سيُقْتَل أو يهزم ولا يعود ظافراً. والرابع: أنهم ظنُّوا أنهم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة واحدة عند الله. والخامس: ظنُّوا أن الله لا يبعث الموتى. وقد بيَّنّا معنى «دائرة السّوء» في براءة «1» . وما بعد هذا قد سبق بيانه «2» إلى قوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «لِيُؤْمِنوا» بالياء «ويُعزِّروه ويُوقِّروه ويُسبِّحوه» كلُّهن بالياء، والباقون: بالتاء، على معنى: قل لهم: إِنّا أرسلناك، لتؤمنوا، وقرأ علي بن أبي طالب وابن السميفع: «ويُعَزٍّزوه» بزاءين. وقد ذكرنا في الأعراف «3» معنى «ويُعَزِّروه» عند قوله: «وعزَّروه ونصروه» . قوله تعالى: وَتُوَقِّرُوهُ أي: تعظّموه وتبجّلوه. واختار كثير من القرَّاء الوقف هاهنا، لاختلاف الكناية فيه وفيما بعده. قوله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ هذه الهاء ترجع إلى الله عزّ وجلّ. والمراد بتسبيحه هاهنا: الصلاةُ له. قال المفسرون: والمراد بصلاة البُكرة: الفجر، وبصلاة الأصيل: باقي الصلوات الخمس. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يعني بَيْعة الرّضوان بالحديبية. وعلى ماذا بايعوه؟ فيه قولان: (1287) أحدهما: أنهم بايعوه على الموت، قاله عبادة بن الصامت. (1288) والثاني: على أن لا يفِرًّوا، قاله جابر بن عبد الله. ومعناهما متقارب، لأنه أراد: على أن لا تفرّوا ولو متّم.

_ واه بمرة. مقاتل هو ابن سليمان كذبه غير واحد، والصحيح في هذا ما رواه البخاري ومسلم، وتقدم. انظر الحديث الآتي. هو عند مسلم 1856 عن جابر قال: «كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وقال: بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت» وفي رواية: فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره» فلم يبايع أصلا. وقد نبه على هذا الحافظ في تخريجه 4/ 335. وأما لفظ فبايعوه على

[سورة الفتح (48) : الآيات 11 إلى 14]

وسمِّيتْ بَيْعة، لأنهم باعوا أنفُسهم من الله بالجنّة، وكان العقد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكأنّهم بايعوا الله عزّ وجلّ، لأنه ضَمِن لهم الجنة بوفائهم. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم. والثاني: يد الله في الثواب فوق أيديهم. والثالث: يد الله عليهم في المنّة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة، ذكر هذه الأقوال الزجاج. والرابع: قُوَّة الله ونُصرته فوق قُوَّتهم ونُصرتهم، ذكره ابن جرير، وابن كيسان. قوله تعالى: فَمَنْ نَكَثَ أي: نقض ما عقده من هذه البَيْعة فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أي: يَرْجِع ذلك النَّقْضُ عليه وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ من البيعة فَسَيُؤْتِيهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر وأبان عن عاصم: «فسنُؤتيه» بالنون. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بالياء أَجْراً عَظِيماً وهو الجنة. قال ابن السائب: فلم ينكُث العهد منهم غير رجل واحد يقال له: الجدّ بن قيس، وكان منافقا. [سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 14] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) قوله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ (1289) قال ابن إِسحاق: لما أراد العمرة استنفرَ مَنْ حَوْلَ المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه، خوفاً من قومه أن يَعْرِضوا له بحرب أو بصَدٍّ، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عنى الله بقوله: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ، (1290) قال أبو صالح، عن ابن عباس: وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والدِّيل وأسلم. قال يونس النحوي: الدِّيل في عبد القيس ساكن الياء. والدُّول من حنيفة ساكن الواو، والدُّئِل في كنانة رهط أبي الأسود الدُّؤَلي. فأمّا المخلَّفون، فإنهم تخلَّفوا مخافة القتل. شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا أي: خِفْنا عليهم الضّيعة

_ الموت فقد ورد في خبر مرسل أخرجه الطبري 31516 عن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر وفيه «فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بايعهم على الموت، فكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يبايعنا على الموت ولكنه بايعنا على ألا نفرّ» . وورد من حديث معقل بن يسار عند مسلم 1858 ولفظه «لقد رأيتني يوم الشجرة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشر مائة. قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر» فهذا كله يرد ما ذكر من أنهم بايعوه على الموت. أخرجه البيهقي في «الدلائل» 4/ 165 عن مجاهد بنحوه، وهذا مرسل، وقد أخرجه الطبري 31484 عن مجاهد أيضا. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح ساقط الرواية وبخاصة عن ابن عباس.

[سورة الفتح (48) : آية 15]

فَاسْتَغْفِرْ لَنا أي: ادْعُ اللهَ أنْ يَغْفِر لنا تخلُّفنا عنك يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي: ما يبالون استغفرتَ لهم أم لم تستغفر لهم. قوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ضُراً» بضم الضاد والباقون: بالفتح. قال أبو علي: «الضَّرُّ» بالفتح: خلاف النفع، وبالضم: سوء الحال، ويجوز أن يكونا لغتين كالفَقْر والفُقْر، وذلك أنهم ظنُّوا أن تخلَّفهم يدفع عنهم الضَّرَّ. ويعجِّل لهم النفع بسلامة أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم الله تعالى أنه إِن أراد بهم شيئاً، لم يَقْدِر أحد على دفعه عنهم، بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً من تخلُّفهم وقولهم عن المسلمين أنهم سيهلكون، وذلك قوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أي: توهَّمتم أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أي لا يَرْجِعون إِلى المدينة، لاستئصال العدوِّ إِيّاهم، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وذلك من تزيين الشيطان. قوله تعالى: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً قد ذكرناه في الفرقان «1» . [سورة الفتح (48) : آية 15] سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ الذين تخلَّفُوا عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ وذلك أنهم لمّا انصرفوا عن الحديبية بالصُّلح وعَدَهم اللهُ فَتْحَ خيبر، وخصَّ بها من شَهد الحديبية فانطلقوا إِليها، فقال هؤلاء المخلَّفون: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ، قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «أن يبدِّلوا كَلِمَ الله» بكسر اللام. وفي المعنى قولان: أحدهما: أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة، قاله ابن عباس. والثاني: أمْرُ الله نبيَّه أن لا يسير معه منهم أحد، وذلك أن الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر، ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلِّفين، قاله مقاتل. وعلى القولين: قصدوا أن يجيز لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يخالِف أمْرَ الله، فيكون تبديلاً لأمره. قوله تعالى: كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فيه قولان: أحدهما: قال: إِن غنائم خيبر لِمَن شَهِد الحديبية، وهذا على القول الأول. والثاني: قال: لن تتَّبعونا، وهذا قول مقاتل. فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أي: يمنعُكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم. [سورة الفتح (48) : الآيات 16 الى 17] قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) قوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ المعنى: إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستُدْعََون إِلى جهاد قوم أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. وفي هؤلاء القوم ستة أقوال «2» : أحدها: أنهم فارس، رواه ابن أبي طلحة عن ابن

_ (1) الفرقان: 18. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 346: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المخلفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال، ونجدة في الحروب، ولم يوضح لنا الدليل على أن المعني بذلك أعيان بأعيانهم. - وقال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 135: وقوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ وهذا يدل على أنهم باليمامة لا بفارس ولا بالروم، لأن الذي تعين عليه القتال حتى يسلم من غير قبول جزية هم العرب في أصح الأقوال والمرتدون. وأما فارس والروم فلا يقاتلون حتى يسلموا، بل إن بذلوا الجزية قبلت منهم، وجاءت الآية معجزة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإخبارا بالغيب الآتي.

[سورة الفتح (48) : الآيات 18 إلى 24]

عباس، وبه قال عطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى، وابن جريج في آخرين. والثاني: فارس والروم، قاله الحسن، ورواه ابن أبي نجيج عن مجاهد. والثالث: أنهم أهل الأوثان، رواه ليث عن مجاهد. والرابع: أنهم الروم، قاله كعب. والخامس: أنهم هوازن وغطفان، وذلك يوم حنين، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. والسادس: بنو حنيفة يوم اليمامة، وهم أصحاب مسيلمة الكذَّاب، قاله الزهري، وابن السائب، ومقاتل. قال مقاتل: خِلافةُ أبي بكر في هذه بيِّنةٌ مؤكدة. وقال رافع بن خديج: كنّا نقرأ هذه الآية ولا نَعْلَم مَنْ هُمْ حتى دُعِيَ أبو بكر إِلى قتال بني حنيفة، فعَلِمنا أنهم هُمْ. وقال بعض أهل العِلْم: لا يجوز أن تكون هذه الآية إِلاّ في العرب، لقوله: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ، وفارس والروم إِنما يقاتَلون حتى يُسْلِموا أو يؤدُّوا الجزية. وقد استدلَّ جماعةٌ من العلماء على صِحَّة إِمامة أبي بكر وعمر بهذه الآية، لأنه إِن أُريدَ بها بنو حنيفة، فأبو بكر دعا إِلى قتالهم، وإِن أُريدَ بها فارس والروم، فعمر دعا إِلى قتالهم، والآية تُلْزِمهم اتباع طاعة من يدعوهم، وتتوعَّدهم على التخلُّف بالعقاب. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدلّ على صحّة إمامتهما إِذا كان المتولِّي عن طاعتهما مستحقاً للعقاب. قوله تعالى: فَإِنْ تُطِيعُوا قال ابن جريج: فإن تُطيعوا أبا بكر وعمر، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن طاعتهما كَما تَوَلَّيْتُمْ عن طاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم في المسير إِلى الحديبية. وقال الزجاج: المعنى: إِن تُبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم، يؤتكم اللهُ أجْراً حسناً، وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد كما تولَّيتم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعذِّبكم عذاباً أليماً. قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ قال المفسرون: عَذَرَ اللهُ أهل الزَّمانة الذين تخلَّفوا عن المسير إِلى الحديبية بهذه الآية. قوله تعالى: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ قرأ نافع، وابن عامر: «نُدْخِلْه» و «نُعْذِّبْه» بالنون فيهما والباقون: بالياء. [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 24] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) ثم ذكر الذين أخلصوا نِيَّتهم وشَهِدوا بَيْعة الرّضوان بقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وقد

ذكرنا سبب هذه البَيْعة آنفاً. وإِنما سمِّيتْ بَيْعةَ الرّضوان، لقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال: (1291) بينما نحن قائلون زمن الحديبية، نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيها الناس، البَيْعةَ، البَيْعةَ، نَزَل روح القُدُس، قال: فثرنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو تحت شجرة سَمُرة، فبايَعْناه. (1292) وقال عبد الله بن مغفّل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة يبايع الناس، وإِنِّي لأرفع أغصانَها عن رأسه. وقال بكير بن الأشج: كانت الشجرة بفجٍّ نحو مكة. قال نافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلُّون عندها، فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب، فأوعدهم فيها، وأمر بها فقُطِعتْ. قوله تعالى: فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي: من الصِّدق والوفاء، والمعنى: علم أنهم مُخْلِصون فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يعني الطُّمأنينة والرِّضى حتى بايَعوا على أن يقاتِلوا ولا يَفِرُّوا وَأَثابَهُمْ أي: عوَّضهم على الرِّضى بقضائه والصَّبر على أمره فَتْحاً قَرِيباً وهو خيبر، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها أي: من خيبر، لأنها كانت ذا عَقار وأموال. فأمّا قوله بعد هذا: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فقال المفسرون: هي الفُتوح التي تُفْتَح على المسلمين إِلى يوم القيامة. فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ فيها قولان: أحدهما: أنها غنيمة خيبر، قاله مجاهد وقتادة والجمهور. والثاني: أنه الصُّلح الذي كان بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين قريش، رواه العوفي عن ابن عباس. قوله تعالى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ فيهم ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم اليهود همُّوا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلّفوهم في المدينة، فكفَّهم اللهُ عن ذلك، قاله قتادة. والثاني: أنهم أسد وغطفان جاءوا لينصروا أهل خيبر، فقَذَفَ اللهُ في قلوبهم الرُّعب فانصرفوا عنهم، قاله مقاتل. وقال الفراء: كانت أسد وغطفان مع أهل خيبر، فقصدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصالحوه، وخلَّوا بينه وبين خيبر. وقال غيرهما: بل همَّت أسد وغطفان باغتيال أهل المدينة، فكفَّهم اللهُ عن ذلك. والثالث: أنهم أهل مكة كفَّهم اللهُ بالصلح، حكاهما الثعلبي وغيره. ففي قوله: «عنكم» قولان: أحدهما: أنه على أصله، قاله الأكثرون. والثاني: عن عيالكم، قاله ابن قتيبة، وهو مقتضى قول قتادة. وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ في المشار إليها قولان: أحدهما: أنها الفَعْلة التي فَعَلها بكم من كَفِّ أيديهم عنكم كانت آيةً للمؤمنين، فعَلِموا أن الله تعالى متولَّي حراستهم في مَشهدهم ومَغيبهم. والثاني: أنها خيبر كان فتحها علامةً للمؤمنين في تصديق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما وعدهم به.

_ ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 225 وفيه موسى بن عبيدة وهو الربذي ضعيف الحديث، والمتن غريب. وانظر «تفسير ابن كثير» 4/ 225 بتخريجنا. صحيح. أخرجه النسائي 531 في «التفسير» والطبري 31554 من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح على شرط مسلم. وورد من حديث معقل بن يسار عند مسلم 1858 كما سبق في الحديث 1288.

قوله تعالى: وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً فيه قولان: أحدهما: طريق التوكُّل عليه والتفويض إِليه، وهذا على القول الأول. والثاني: يَزيدكم هُدىً بالتصديق بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة. قوله تعالى: وَأُخْرى المعنى: وعدكم الله مَغانمَ أُخرى وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها ما فُتح للمسلمين بعد ذلك. روى سماك الحنفي عن ابن عباس: «وأُخرى لَمْ تَقْدِروا عليها» قال: ما فتح لكم من هذه الفتوح، وبه قال مجاهد. والثاني: أنها خيبر، رواه عطية، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد. والثالث: فارس والروم، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الحسن، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. والرابع: مكة، ذكره قتادة، وابن قتيبة. قوله تعالى: قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها فيه قولان: أحدهما: أحاط بها عِلْماً أنها ستكون من فُتوحكم. والثاني: حَفِظها لكم ومَنَعها من غيركم حتى فتحتموها. قوله تعالى: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا هذا خطاب لأهل الحديبية، قاله قتادة والذين كفروا مشركو قريش. فعلى هذا يكون المعنى: لو قاتلوكم يومَ الحديبية لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ لِما في قلوبهم من الرُّعب ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا لأنّ الله قد خذلهم. قال الزجاج: المعنى: لو قاتلك من لم يقاتِلْك لنُصِرْتَ عليه، لأن سُنَّة الله النُّصرةُ لأوليائه. و «سُنَّةَ الله» منصوبة على المصدر، لأن قوله: «لولَّوُا الأدبار» معناه: سنّ الله عزّ وجلّ خِذلانهم سُنَّةً. وقد مَرَّ مِثْلُ هذا في قوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «1» ، وقوله: صُنْعَ اللَّهِ «2» . قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ. (1293) روى أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهل مكّة هبطوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم متسلِّحين يريدون غِرَّة «3» النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابِه، فأخذهم سِلْماً، فاستحياهم، وأنزل الله هذه الآية. (1294) وروى عبد الله بن مغفَّل قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية في أصل الشجرة، فبينا نحن كذلك إِذ خرج علينا ثلاثون شابّاً، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل جئتم في عهد؟» أو «هل جعل لكم أحد أماناً؟» قالوا: اللهم لا، فخلَّى سبيلهم، ونزلت هذه الآية.

_ صحيح. أخرجه مسلم 1808 عن عمر بن محمد الناقد ثنا يزيد بن هارون أنا حماد بن أبي سلمة عن ثابت- وهو ابن أسلم البناني- عن أنس بن مالك به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 142 من طريق إبراهيم بن محمد بهذا الإسناد. وأخرجه أبو داود 2688 والترمذي 3264 والنسائي في «التفسير» 530 والطبري 31558 وأحمد 3/ 124 و 290 والطحاوي في «المشكل» 60 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 41 من طرق عن حمّاد بن سلمة به. وورد بنحوه في أثناء حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم 1807 وأحمد 4/ 49 والطحاوي 62. صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» 531 وأحمد 4/ 86- 87 والحاكم 2/ 460- والطبري 31554 والواحدي في «الوسيط» 4/ 142 والبيهقي 6/ 319 من طرق عن الحسين بن واقد عن ثابت عن عبد الله بن المغفل به. وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» 6/ 145: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وهو كما قالوا. وقال ابن حجر في «فتح الباري» 5/ 351: أخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بسند صحيح.

[سورة الفتح (48) : الآيات 25 إلى 26]

(1295) وذكر قتادة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث خَيْلاً، فأتَوه باثني عشر فارساً من الكفار، فأرسلهم. (1296) وقال مقاتل: خرجوا يقاتِلون رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، فهزمهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالطَّعن والنَّبل حتى أدخلهم بيوت مكة. قال المفسرون: ومعنى الآية: إِن الله تعالى ذكر مِنَّته إِذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تم الصلح بينهم. وفي بطن مكة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحديبية، قاله أنس. والثاني: وادي مكة، قاله السدي. والثالث: التنعيم، حكاه أبو سليمان الدمشقي. فأمّا «مكة» فقال الزجاج: «مكة» لا تنصرف لأنها مؤنَّثة، وهي معرفة، ويصلُح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق «بكة» ، والميم تُبدل من الباء، يُقال: ضَرْبة لازم، ولازب، ويصلُح أن يكون اشتقاقها من قولهم: امتكّ الفصيل ما في ضرع النّاقة: إِذا مَصَّ مَصّاً شديداً حتى لا يُبْقي فيه شيئاً، فيكون سمِّيتْ بذلك لشِدَّة الازدحام فيها، قال: والقول الأول أحسن. وقال قطرب: مكة من تَمَكَّكْتُ المُخَّ: إذا أكلتَه. وقال ابن فارس: تَمَكَّكْتُ العظم: إِذا أخرجتَ مُخَّه والتمكُّكُ: الاستقصاء. (1297) وفي الحديث: «لا تُمَكِّكوا على غُرَمائكم» . وفي تسمية «مكة» أربعة أقوال: أحدها: لأنها مَثَاَبَةٌ يؤمُّها الخَلْقُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وكأنها هي التي تجذِبُهم إِليها، وذلك من قول العرب: امْتَكَّ الفَصيلُ ما في ضَرْع النّاقة. والثاني: أنها سمِّيتْ (مكة) من قولك: بَكَكْتُ الرجُل: إِذا وضَعْتَ منه وَرَدَدْتَ نَخْوتَه، فكأنها تَمُكُّ مَنْ ظلم فيها، أي: تُهلكه وتُنْقِصه، وأنشدوا: يا مَكَّةُ، الفاجِرَ مُكِّي مَكَّا ... ولا تَمُكِّي مَذْحِجاً وعَكَّا «1» والثالث: أنها سمِّيتْ بذلك لجَهْد أهلها. والرابع: لِقلَّة الماء بها. وهل مكة وبكة واحد؟ قد ذكرناه في آل عمران «2» . قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي: بهم يقال: ظَفِرْتُ بفلان، وظَفِرْتُ عليه. قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً قرأ أبو عمرو: «يعملون» بالياء والباقون: بالتاء. [سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 26] هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)

_ أخرجه الطبري 31559 عن قتادة مرسلا. تقدم أن هذا الخبر غير صحيح، ومقاتل متروك متهم بالكذب. لم أقف عليه، والظاهر أنه لا أصل له لخلوه عن كتب الحديث والأثر.

قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أهل مكة وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن تطوفوا به وتحلّوا من عُمرتكم وَالْهَدْيَ قال الزَّجاج: أي: وصدُّوا الهدي مَعْكُوفاً أي: محبوساً أَنْ يَبْلُغَ أي: عن أن يبلُغَ مَحِلَّهُ قال المفسرون: «مَحِلّه» مَنْحَره، وهو حيث يَحِلُّ نَحْرُه وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ وهم المستَضعفون بمكة لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أي: لم تعرفوهم أَنْ تَطَؤُهُمْ بالقتل. ومعنى الآية: لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساءٌ مؤمنات بالقتل، وُتوقِعوا بهم ولا تعرفونهم، فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ وفيها أربعة أقوال: أحدها: إِثم، قاله ابن زيد. والثاني: غُرم الدِّيَة، قاله ابن إِسحاق. والثالث: كفّارة قتل الخطأ، قاله ابن السائب. والرابع: عيب بقتل مَنْ هو على دينكم، حكاه جماعة من المفسرين. وفي الآية محذوف، تقديره: لأدخلتُكم من عامكم هذا وإنما حُلْتُ بينكم وبينهم لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ أي: في دينه مَنْ يَشاءُ من أهل مكة، وهم الذين أسلموا بعد الصُّلح لَوْ تَزَيَّلُوا قال ابن عباس: لو تفرَّقوا. وقال ابن قتيبة، والزجاج: لو تميَّزوا. قال المفسرون: لو انماز المؤمنون من المشركين لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والسَّبْي بأيديكم. وقال قوم: لو تزيَّل المؤمنون من أصلاب الكُفّار لعذَّبْنا الكفار. وقال بعضهم: قوله: «لعذَّبْنا» جواب لكلامين، أحدهما: «لولا رجال» ، والثاني: «لو تزيَّلوا» وقوله: إِذْ جَعَلَ من صلة قوله: لَعَذَّبْنَا. والحميَّة: الأنَفَة والجَبَريَّة. (1298) قال المفسرون: وإنما أخذتهم الحميّة حين أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخول مكة، فقالوا: يدخلون علينا، وقد قتلوا أبناءنا وإِخواننا فتتحدَّث العربُ بذلك! واللهِ لا يكون ذلك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلم يَدخُلْهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم. (1299) وقيل: الحميَّةُ ما تداخل سهيلَ بن عمرو من الأنَفَة أن يكتُب في كتاب الصُّلح ذِكْر «الرحمن الرحيم» وذكر «رسول الله» صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى فيه خمسة أقوال: (1300) أحدها: «لا إله إلا الله» ، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة

_ عزاه المصنف للمفسرين. وذكره البغوي 4/ 204 وعزاه لمقاتل، وهو متروك متهم. أخرجه البيهقي في «الدلائل» 4/ 134 عن عروة أثناء خبر مطول، وهذا مرسل ومرسلات عروة جياد، وأصله في الصحيح من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وقد تقدم. المرفوع ضعيف، والصحيح موقوف. أخرجه الترمذي 3265 والطبري 31579 وعبد الله في «زوائد المسند» 5/ 138 والطبراني في «الكبير» 536 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 200 من طريق الحسن بن قزعة عن سفيان بن حبيب عن شعبة عن ثوير عن أبيه عن الطفيل عن أبيّ عن أبيه، وإسناده ضعيف جدا، ثوير بن أبي فاختة متروك الحديث بل قال الثوري: هو ركن من أركان الكذب. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا، إلا من حديث الحسن بن قزعة. قال الترمذي: وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث، فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه اه. تنبيه: وقد وهم الألباني في هذا الحديث حيث حكم بصحته في «صحيح الترمذي» 2603. وأخرجه الطبراني في «الدعاء» 1530 من حديث سلمة بن الأكوع، وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، ليس بشيء. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 6/ 80 من حديث أبي هريرة، وابن مردويه يروي الموضوعات، لا يحتج بما ينفرد، وقد تفرد به عن أبي هريرة، فهو لا شيء، وقد ورد موقوفا عن غير واحد من الصحابة والتابعين، وهو الصواب، وقد وهم ثوير وموسى الربذي فروياه مرفوعا.

[سورة الفتح (48) : الآيات 27 إلى 28]

والضحاك والسدي وابن زيد في آخرين، وقد روي مرفوعا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فعلى هذا يكون معنى: «ألزَمَهم» : حَكَمَ لهم بها، وهي التي تَنفي الشِّرك. والثاني: «لا إِله إلا الله والله أكبر» ، قاله ابن عمر. وعن علي بن أبي طالب كالقولين. والثالث: «لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» ، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع: «لا ِإله إِلا الله محمد رسول الله» ، قاله عطاء الخراساني. والخامس: «بسم الله الرحمن الرحيم» ، قاله الزهري. فعلى هذا يكون المعنى أنه لمّا أبى المشركون أن يكتُبوا هذا في كتاب الصُّلح، ألزمه اللهُ المؤمنين وَكانُوا أَحَقَّ بِها من المشركين وَكانوا أَهْلَها في علم الله تعالى. [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 28] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ. (1301) قال المفسرون. سبب نزولها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أُري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلاً يقول له: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِلى قوله: لا تَخافُونَ ورأى كأنه هو وأصحابه يدخُلون مكة وقد حَلَقوا وقصَّروا، فأخبر بذلك أصحابَه ففرِحوا، فلمّا خرجوا إِلى الحديبية حَسِبوا أنهم يدخُلون مكة في عامهم ذلك، فلمّا رجعوا ولم يدخُلوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟ فنزلت هذه الآية، فدخلوا في العام المقبل. وفي قوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ ستة أقوال «1» : أحدها: أن «إن» بمعنى «إذ» ، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: أنه استثناء من الله، وقد عَلِمه، والخَلْق يستثنون فيما لا يَعْلَمون، قاله ثعلب فعلى هذا يكون المعنى أنه عَلِم أنهم سيدخُلونه، ولكن استثنى على ما أُمر الخَلْق به من الاستثناء. والثالث: أن المعنى: لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إن أمركم الله به، قال الزجاج. والرابع: أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم، لأنه عَلِم أن بعضهم يموت، حكاه الماوردي. والخامس: أنه على وجه الحكاية. لما رآه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام أن قائلاً يقول: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» ، حكاه القاضي أبو يعلى. والسادس: أنه يعود إِلى الأمن والخوف، فأمّا الدُّخول، فلا شَكَّ فيه، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: آمِنِينَ من العَدُوِّ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ من الشّعر لا تَخافُونَ عدوّا.

_ غريب هكذا، وقد نبه الحافظ على ذلك في تخريجه 4/ 345 وقد ورد منجما وبمعناه عند الطبري 31601 و 31602 و 31603 و 31604 وعامة هذه الروايات مراسيل.

[سورة الفتح (48) : آية 29]

فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عَلِم أن الصَّلاح في الصُّلح. والثاني: أن في تأخير الدُّخول صلاحاً. والثالث: فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك. قوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً فيه قولان «1» : أحدهما: فتح خيبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: صلح الحديبية، قاله مجاهد والزهري وابن إِسحاق. وقد بيَّنّا كيف كان فتحاً في أول السورة. وما بعد هذا مفسر في براءة «2» : إِلى قوله وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وفيه قولان: أحدهما: أنه شَهِدَ على نَفْسه أنه يُظْهِره على الدِّين كُلِّه، قاله الحسن. والثاني: كفى به شهيداً أن محمّدا رسوله، قاله مقاتل. [سورة الفتح (48) : آية 29] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وقرأ الشعبي، وأبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري: «محمداً رسولُ الله» بالنصب فيهما. قال ابن عباس: شَهِد له بالرِّسالة. قوله تعالى: وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني أصحابه، والأشدّاء: جمع شديد. قال الزجاج: والأصل: أَشْدِدَاءُ، نحو نصيب وأنصباء، ولكن الدّالَين تحركتا، فأُدغمت الأولى في الثانية، ومثله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ «3» . قوله تعالى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ الرُّحَماء جمع رحيم، والمعنى أنهم يُغْلِظون على الكفار، وَيتوادُّون بينَهم تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَصِفُ كثرة صَلاتهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وهو الجنة وَرِضْواناً وهو رضى الله عنهم. وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجُمهور. (1302) وروى مبارك بن فضاله عن الحسن البصري أنه قال: «والذين معه» أبو بكر «أشداء على الكفار» عمر «رحماء بينهم» عثمان «تراهم رُكَّعاً سُجَّداً» عليّ بن أبي طالب «يبتغون فضلاً من الله ورضواناً» طلحة والزّبير وعبد الرّحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة. قوله تعالى: سِيماهُمْ أي: علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ، وهل هذه العلامة في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان «4» : أحدهما: في الدنيا. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها السّمت الحسن، قاله ابن

_ لا يصح هذا عن الحسن، مبارك غير قوي، والأثر من بدع التأويل.

عباس في رواية ابن أبي طلحة وقال في رواية مجاهد: أما إِنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإِسلام وسَمْتُه وخُشوعُه، وكذلك قال مجاهد: ليس بِنَدَبِ التراب في الوجه، ولكنه الخُشوع والوَقار والتواضع. والثاني: أنه نَدَى الطّهور وثرى الأرض، قاله سعيد بن جبير. وقال أبو العالية: لأنهم يسجُدون على التراب لا على الأثواب. وقال الأوزاعي: بلغني أنه ما حمَلَتْ جباهُهم من الأرض. والثالث: أنه السُّهوم، فإذا سهم وجه الرجُل من الليل أصبح مُصفارّاً. قال الحسن البصري: «سيماهم في وجوههم» : الصُّفرة وقال سعيد بن جبير: أثر السهر وقال شمر بن عطية: هو تهيُّج في الوجه من سهر الليل. والقول الثاني: أنها في الآخرة. ثم فيه قولان: أحدهما: أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشدَّ وجوههم بياضاً يوم القيامة، قاله عطية العوفي، وإِلى نحو هذا ذهب الحسن، والزهري. وروى العوفي عن ابن عباس قال: صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة. والثاني: أنهم يُبْعَثون غُراً محجَّلين من أثر الطَّهور، ذكره الزجاج. قوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُهُمْ أي: صِفَتُهم، والمعنى أن صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فِي التَّوْراةِ هذا. فأما قوله: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ففيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أن هذا المَثَل المذكور أنه في التوراة هو مَثَلُهم في الإِنجيل. قال مجاهد: مَثَلُهم في التوراة والإِنجيل واحد. والثاني: أن المتقدِّم مَثَلُهم في التوراة. فأمّا مَثَلُهم في الإِنجيل فهو قوله: كَزَرْعٍ، وهذا قول الضحاك وابن زيد. والثالث: أن مَثَلَهُم في التوراة والإِنجيل كزرع، ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: أَخْرَجَ شَطْأَهُ وقرأ ابن كثير، وابن عامر: «شَطَأَهُ» بفتح الطاء والهمزة. وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «شطْأه» بسكون الطاء. وكلهم يقرأ بهمزة مفتوحة. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: «شَطاءَهُ» بفتح الطاء وبالمد والهمزة وبألف. قال أبو عبيدة: أي: فِراخه، يقال: أشطأ الزَّرعُ فهو مشطئ: إِذا أفرخ فَآزَرَهُ أي: ساواه وصار مثل الأُمّ. وقرأ ابن عامر: «فأَزَرَهُ» مقصورة الهمزة مثل فَعَلَهُ. وقال ابن قتيبة: آزره: أعانه وقوّاه فَاسْتَغْلَظَ أي: غَلُظ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ وهي جمع «ساق» ، وهذا مَثَلٌ ضربه اللهُ عزّ وجلّ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم إِذ خرج وحده، فأيَّده بأصحابه، كما قوَّى الطَّاقة من الزَّرع بما نبت منها حتى كَبُرتْ وغَلُظت واستحكمت. وقرأ ابن كثير: «على سُؤْقه» مهموزة، والباقون: بلا همزة. وقال قتادة: في الإِنجيل: سيَخْرج قومٌ ينبتون نبات الزَّرع، وفيمن أُريدَ بهذا المثَل قولان «2» : أحدهما: أن أصل الزَّرع: عبد المطلب «أخرج شطأه» أخرج محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فَآزَرَهُ: بأبي بكر فَاسْتَغْلَظَ: بعمر فَاسْتَوى: بعثمان عَلى سُوقِهِ: عليّ بن أبي طالب، رواه سعيد بن جبير عن

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 373: الصواب قول من قال: مثلهم في التوراة غير مثلهم في الإنجيل وأن الخبر عن مثلهم في التوراة متناه عند قوله: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وذلك لو كان القول: أن مثلهم في التوراة والإنجيل واحد، لكان التنزيل، ومثلهم في الإنجيل وكزرع أخرج شطأه، فكان تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ وفي مجيء الكلام بغير واو في قوله: (كزرع) دليل بيّن على صحة ما قلنا. (2) لا يصح مثل هذا عن ابن عباس ولا عن سعيد بن جبير، بل هو من بدع التأويل.

ابن عباس. والثاني: أن المراد بالزَّرع: محمد صلّى الله عليه وسلّم «أخرج شطأه» : أبو بكر «فآزره» : بعمر «فاستغلظ» : بعثمان «فاستوى على سوقه» : بعليّ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ: يعني المؤمنين «لِيَغيظَ بهم الكُفّار» وهو قول عمر لأهل مكة: لا يُعْبَدُ اللهُ سِرَاً بعد اليوم، رواه الضحاك عن ابن عباس، ومبارك عن الحسن. قوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أي: إِنَّما كثَّرهم وقوَّاهم لِيَغيظ بهم الكُفّار، وقال مالك بن أنس «1» : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية. وقال ابن إِدريس لا آمَنُ أن يكونوا قد ضارعوا الكُفّار، يعني الرّافضة، لأن الله تعالى يقول: «لِيَغيظَ بهم الكُفّار» . قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً قال الزجاج: في «مِنْ» قولان: أحدهما: أن يكون تخليصاً للجنس من غيره، كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «2» ، ومثله أن تقول: أَنْفِقْ من الدَّراهم، أي: اجعل نفقتك من هذا الجنس، قال ابن الأنباري: معنى الآية: وَعَدَ اللهُ الذين آمَنوا من هذا الجنس، أي: من جنس الصحابة. والثاني: أن يكون هذا الوعْدُ لِمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصّالح.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسير» 4/ 241: ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم ثم قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ من هذه لبيان الجنس مَغْفِرَةً أي لذنوبهم، وَأَجْراً عَظِيماً أي ثوابا جزيلا ورزقا كريما. ووعد الله حقّ وصدق، لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مثواهم، وقد فعل. - وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 16/ 254: الصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله، وهذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر. وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلائهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم. وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة. وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخبارهم لهم بذلك، وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب قال صلّى الله عليه وسلّم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» متفق عليه. (2) الحج: 30.

سورة الحجرات

سورة الحجرات وهي مدنيّة بإجماعهم (1303) روى ثوبان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّ الله أعطاني السّبع الطّول مكان التّوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزّبور المثاني، وفضّلني ربّي بالمفصّل» . أمّا السّبع الطّول فقد ذكرناها «عند قوله» : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «1» . وأمّا المئون، فقال ابن قتيبة: هي ما ولي الطّول، وإنّما سمّيت بالمئين، لأنّ كلّ سورة تزيد على مائة آية أو تقاربها، والمثاني: ما ولي المئين من السّور التي دون المائة، كأنّ المئين مباد، وهذه مثان. وأمّا المفصّل فهو ما يلي المثاني من قصار السّور، وإنما سمّيت مفصّلا لقصرها وكثرة الفصول فيها بسطر: بسم الله الرّحمن الرّحيم. وقد ذكر الماوردي في أول «تفسيره» في المفصّل ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه من أول سورة (محمّد) إلى آخر القرآن، قاله الأكثرون. والثاني: من سورة (قاف) إلى آخره، حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة. والثالث: من (الضّحى) إلى آخره، قاله ابن عباس. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ في سبب نزولها أربعة أقوال: (1304) أحدها: أن رَكْباً من بني تميم قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن

_ جيد. أخرجه الطيالسي 1074 وأحمد 4/ 107 والطبري 126 والطحاوي في «المشكل» 1379 من حديث واثلة بن الأسقع، وإسناده حسن. وله طرق وشواهد ذكرتها في «معالم التنزيل» للبغوي برقم (11) والله الموفق. صحيح. أخرجه البخاري 4367 عن إبراهيم بن موسى به. وأخرجه أبو يعلى 6816 من طريق هشام بن-

معبد، وقال عمر: أَمِّرِ الأقرعَ بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردتَ إِلا خِلافي، وقال عمر: ما أردتُ خلافَك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا، فما كان عمرُ يسْمِع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، رواه عبد الله بن الزبير. (1305) والثاني: أن قوماً ذَبحوا قبل أن يصلّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النّحر، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعيدوا الذّبح، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن. (1306) والثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يقولون: لو أنزَلَ اللهُ فِيَّ كذا وكذا! فكَرِه اللهُ ذلك، وقدَّم فيه، قاله قتادة. (1307) والرابع: أنها نزلت في عمرو بن أميّة الضّمْري، وكان قد قتل رجُلين من بني سليم قبل أن يستأذن رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن السائب. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسّنّة. وروى العوفيّ عنه قال: نهوا أن يتكلمَّوا بين يَدَيْ كلامه، وروي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت: لا تصوموا قبل أن يصومَ نبيُّكم. ومعنى الآية على جميع الأقوال «1» : لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول

_ يوسف به. وأخرجه البخاري 4847 والنسائي 8/ 226 وفي «التفسير» 534 والواحدي في «أسباب النزول» 752 من طريق الحسن بن محمد عن حجاج بن محمد عن ابن جريج به. وأخرجه الترمذي 3262 والطبري 31673 من طريق مؤمن بن إسماعيل عن نافع عن عمر بن جميل عن ابن أبي مليكه به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب حسن، وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة- مرسلا، ولم يذكر عن عبد الله بن الزبير. ضعيف جدا. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 2923 عن الحسن مرسلا، وفيه انقطاع بين معمر والحسن، ومع ذلك مراسيل الحسن واهية كما هو مقرر عند علماء هذا الفن. وأخرجه الطبري 31660 و 31661 عن الحسن أيضا والصحيح في ذلك ما رواه البخاري وقد تقدم. فائدة: قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» 4/ 353: وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، إلا أن تزول الشمس. وعند الشافعي يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة. وقد تقدم الكلام عليه في سورة الحج. أخرجه الطبري 31661 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم بالوضع. والقول الأول هو الراجح.

الله صلّى الله عليه وسلم أو يفعل. قال ابن قتيبة: يقال فلانٌ يُقَدِّم بين يَدَيِ الإِمام وبين يَدَي أبيه، أي: يُعجِّل بالأمر والنهي دونه. فأمّا «تُقدِّموا» فقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو رزين، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والضحاك وابن سيرين، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب: بفتح التاء والدال وقرأ الباقون: بضم التاء وكسر الدال. قال الفراء: كلاهما صواب، يقال: قَدَّمْتُ، وتَقَدَّمْتُ وقال الزجاج: كلاهما واحد فأمّا «بينَ يَدَيِ اللهِ ورسولِهِ» فهو عبارة عن الأمام، لأن ما بين يَدَيِ الإِنسان أمامَه فالمعنى: لا تَقَدَّموا قُدّام الأمير. قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ في سبب نزولها قولان: (1308) أحدهما: أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفاً في حديث ابن الزبير، وهذا قول ابن أبي مليكة. (1309) والثاني: أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس، وكان جَهْوَرِيَّ الصَّوت، فربما كان إِذا تكلَّم تأذَّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصوته. قاله مقاتل. قوله تعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ فيه قولان. أحدهما: أن الجهر بالصَّوت في المخاطبة، قاله الأكثرون. والثاني: لا تَدْعوه باسمه يا محمد كما يدعو بعضُكم بعضاً ولكن قولوا: يا رسول الله، ويا نبيَّ الله، وهو معنى قول سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل. قوله تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ قال ابن قتيبة: لئلا تَحْبَطَ. وقال الأخفش: مَخافة أن تَحْبَطَ، قال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل معنى الإحباط هاهنا: نقص المَنْزِلة، لا إِسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ. (1310) قال ابن عباس: لمّا نزل قوله: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ تألَّى أبو بكر أن لا يكلّم رسول

_ انظر الحديث المتقدم 1304. غريب. قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 353: لم أجده اه. قلت: ويغني عنه حديث أنس. أخرجه البخاري 3613 و 4846 ومسلم 188 والنسائي في «التفسير» 533 والواحدي في «أسبابه» 753 والبغوي في «التفسير» 4/ 89. وله شواهد كثيرة راجع الطبري 31669- 31679- 3171. ولفظ البخاري في الرواية الأولى عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل يا رسول الله أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال: «ما شأنك» فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا فقال موسى بن أنس فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه فقل له: «إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة» . ذكره الواحدي في «الأسباب» 755 بدون إسناد عن ابن عباس. وأخرجه البزار 2257 «كشف» وابن عدي 2/ 396 والحاكم 3/ 74 من حديث أبي بكر، وإسناده ضعيف لضعف حصين بن عمر الأحمسي، فإنه

[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 إلى 5]

الله صلّى الله عليه وسلّم إِلاّ كأخي السّرار، فأنزل اللهُ في أبي بكر: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ» . والغَضُّ: النَّقْص كما بيَّنّا عند قوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا «1» . أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ قال ابن عباس: أخلصها لِلتَّقْوى من المعصية. وقال الزجاج: اختبر قلوبهم فوجدهم مُخلصين، كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب والفضة، أي: اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خَلَصا، فعلمت حقيقة كل واحد منهما. وقال ابن جرير: اختبرها بامتحانه إيّاها، فاصطفاها وأخلصها للتّقوى. [سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 5] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (1311) أحدها: أن بني تميم جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنادَوْا على الباب: يا محمد اخرُج إِلينا، فإنَّ مَدْحَنا زَيْن وإِن ذَمَّنا شَيْن، فخرج وهو يقول: «إنما ذلكم الله» فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال: «ما بالشعر بُعِثْتُ ولا بالفخَار أُمِرْتُ، ولكن هاتوا» ، فقال الزبرقان بن بدر لشابً منهم: قمُ ْفاذكُر فَضْلك وفَضْل قومك، فقام فذكر ذلك، فأمر رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ثابتَ بن قيس، فأجابه، وقام شاعرُهم، فأجابه حسان، فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر؟! تكلَّم خطيبُنا فكان خطيبُهم أحسنَ قولاَ، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعَر، ثم دنا فأسلم، فأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكساهم، وارتفعت الأصوات وكثر اللَّغَط عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين. (1312) وقال ابن اسحاق: نزلت في جُفاة بني تميم، وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن

_ متروك، وبه أعله ابن عدي، وأما الحاكم فقد صححه! وتعقبه الذهبي فقال: حصين بن عمر واه. وورد من حديث أبي هريرة، أخرجه الحاكم 2/ 462 وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقد ذهب ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 242 إلى أن هذا الحديث يتأيد بشواهده والله أعلم. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 759 من حديث جابر مطوّلا وفيه معلى بن عبد الرحمن ضعيف. وهذا الخبر أخرجه ابن سعد في «الطبقات 1/ 224- 225 من طريق الواقدي عن محمد بن عبد الله عن الزهري، وعن عبد الله بن يزيد عن سعيد بن عمرو مرسلا بنحوه، والواقدي متروك. وأخرجه ابن إسحاق وابن مردويه كما في «الدر» 6/ 90 من حديث ابن عباس بنحوه. وصدر الحديث ورد مسندا عند الترمذي 3267 والنسائي في «التفسير» 535 والطبري 31676 من طريق الحسين بن واقد عن أبي إسحاق عن البراء: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ فقال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن حمدي زين، وإن ذمي شين فقال: ذاك الله تبارك وتعالى» . قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال ابن كثير في «السيرة» بعد أن ذكر هذا الحديث 4/ 86: وهذا إسناد جيد متصل. وله شاهد من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس. أخرجه أحمد 3/ 488 و 6/ 393 و 394 والطبري 31679 والطبراني 878. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 108: وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، إن كان أبو سلمة سمع من الأقرع، وإلا فهو مرسل. وأخرجه الطبري 31681 عن قتادة مرسلا و 31684 عن الحسن مرسلا. عزاه المصنف لابن إسحاق، وهذا معضل انظر «الدرّ» 6/ 90.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 6 إلى 8]

حصن، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم المنقري، وخالد بن مالك، وسويد بن هشام، وهما نهشليّان، والقعقاع بن معبد، وعطاء ابن حابس، ووكيع بن وكيع. (1313) والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سريَّة إِلى بني العنبر، وأمَّر عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما عَلِموا بذلك هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، فجاء رجالُهم يَفْدون الذَّراري، فقَدِموا وقت الظهيرة ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلم قائل، فجعلوا ينادون: يا محمد اخْرُج إِلينا، حتى أيقظوه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. (1314) والثالث: أن ناساً من العرب قال بعضهم لبعض: انطلِقوا بنا إِلى هذا الرجُل، فإن يكن نبيّاً نكن أسعد الناس به، وإِن يكن ملِكاً نعش في جناحه، فجاؤوا، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فنزلت هذه الآية، قاله زيد بن أرقم. فأمّا «الحجرات» فقرأ أُبيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومجاهد وأبو العالية، وابن يعمر، وأبو جعفر، وشيبة: بفتح الجيم وأسكنها أبو رزين، وسعيد بن المسيب، وابن أبي عبلة وضمها الباقون. قال الفراء: وجه الكلام أن تُضمَّ الحاء والجيم، وبعض العرب يقول: الحُجُرات والرُّكبات، وربما خفَّفوا فقالوا: «الحُجْرات» والتخفيف في تميم، والتثقيل في أهل الحجاز. وقال ابن قتيبة: واحد الحُجُرات حُجرة، مثل ظُلْمة وظُلُمات، قال المفسرون: وإنما نادَوا من وراء الحُجرات، لأنهم لم يعلموا في أيّ الحُجَر رسولُ الله. قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ قال الزجاج: أي: لكان الصَّبر خيراً لهم، وفي وجه كونه خيراً لهم قولان: أحدهما: لكان خيراً لهم فيما قَدِموا له من فداء ذراريهم، فلو صَبَروا خلَّى سبيلهم بغير فداءٍ، قاله مقاتل. والثاني: لكان أحسنَ لآدابهم في طاعة الله ورسوله، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: لمن تاب منهم. [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

_ غريب: لم أقف عليه بهذا السياق. وهذا الخبر قد ورد في السّير. فقد أخرجه الواقدي في «المغازي» ص 973- 979 عن سعيد بن عمرو، والزهري مطولا. والواقدي متروك. وانظر «دلائل النبوة» للبيهقي 5/ 313- 315 و «سيرة ابن هشام» 4/ 203 و «سيرة ابن كثير» 4/ 79- 85. أخرجه الطبري 31678 من طريق داود الطفاوي عن أبي مسلم البجلي عن زيد بن أرقم به، وإسناده ضعيف، أبو مسلم مجهول، وداود ضعفه ابن معين، ووثقه ابن حبان، ومع ذلك يشهد له حديث جابر. الخلاصة: أكثر هذه الروايات يذكر فيها الأقرع بن حابس، والظاهر أنه قدم معه وفد فتارة يذكر الرواة الوفد، وتارة يذكرون الأقرع ويسمونه لأنه أمير الوفد من بني تميم، فالحديث أصله محفوظ، وقد جوّد ابن كثير أحد طرقه كما تقدم، وتقدم أيضا أسبابا أخرى لنزول هذه الآيات، والظاهر تعدد الأسباب، والله أعلم.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 إلى 10]

قوله عزّ وجلّ: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا. (1315) نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلى بني المصطلق ليِقَبْضِ صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهليّة، فلما سمع به القوم تلقّوه تعظيما لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنه رجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنّ بني المصطلق قد منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فصرف رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم البَعْثَ إِليهم، فنزلت هذه الآية. وقد ذكرتُ القصد في كتاب «المُغني» وفي «الحدائق» مستوفاة، وذكرتُ معنى «فتبيَّنوا» في سورة النساء «1» ، والنَّبأ: الخبر، و «أنْ» بمعنى «لئلاً» ، والجهالة هاهنا: أن يجهل حال القوم، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ من إِصابتهم بالخطأِ نادِمِينَ. ثم خوَّفهم فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي إِن كَذَبتموه أَخبره اللهُ فافتُضِحْتُم، ثم قال: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أي ممّا تخبرونه فيه بالباطل لَعَنِتُّمْ أي لَوَقَعْتُم في عَنََتٍ. قال ابن قتيبة: وهو الضَّرر والفساد. وقال غيره: هو الإِثم والهلاك. وذلك أن المسلمين لمّا سَمِعوا أن أولئك القوم قد كَفَروا قالوا: (1316) ابْعَثْ إِليهم يا رسولَ الله واغْزُهم واقْتُلهم. ثم خاطب المؤمنين فقال: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ إِلى قوله: وَالْعِصْيانَ، ثم عاد إِلى الخبر عنهم فقال: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي: المهتدون إِلى محاسن الأُمور، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ قال الزجاج: المعنى: ففعل بكم ذلك فضلاً، أي: للفضل والنّعمة. [سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

_ جيد. أخرجه أحمد 4/ 279 والطبراني في «الكبير» 3395 والواحدي في «أسباب النزول» من حديث الحارث بن ضرار. قال الهيثمي في «المجمع» 7/ 11352: رجال أحمد ثقات. وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 4/ 209 هذا الحديث أحسن ما روي في هذه القصة اه. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 3809 من حديث جابر، وإسناده ضعيف، لضعف عبد الله بن عبد القدوس وبه أعله الهيثمي في «المجمع» 7/ 11355. وورد من حديث علقمة بن ناجية: أخرجه الطبراني 17/ 6- 8 وإسناده ضعيف، لضعف يعقوب بن كاسب، لكن توبع كما ذكر الهيثمي في «المجمع» 11354. وورد من حديث أم سلمة: أخرجه الطبراني في «الكبير» 23/ 401 وقال الهيثمي 11357: فيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف. وورد عن قتادة مرسلا. أخرجه الطبري 31688. وورد من مرسل يزيد بن رومان: أخرجه الطبري 31692. وورد من مرسل ابن أبي ليلى. أخرجه الطبري 31690 و 31691. فالحديث بهذه الشواهد الموصولة والمرسلة يتقوى ويرقى إلى درجة الحسن الصحيح والله أعلم. وانظر مزيد الكلام عليه في «أحكام القرآن» لابن العربي 1986 و «تفسير القرطبي» 5561 بتخريجنا ولله الحمد والمنة. لم أجده بهذا اللفظ. وأخرجه الطبري 31692 عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان بنحوه.

قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ ... الآية، في سبب نزولها قولان: (1317) أحدهما: ما روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو أتيت عبد الله بن أُبيٍّ، فركب حماراً وانطلق معه المسلمون يمشون، فلمّا أتاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: إليك عني، فو الله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: واللهِ لحمارُ رسولِ الله أطيبُ ريحاُ منك، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابُه، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال، فبلغَنا أنه أُنزلت فيهم «وإِن طائفتان ... » الآية. (1318) وقد أخرجا جميعاً من حديث أسامة بن زيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج يعود سعد بن عبادة، فمرَّ بمجلس فيهم عبدُ الله بن أُبيّ، وعبدُ الله بن رواحة، فخمَّر ابنُ أُبيّ وجهه بردائه، وقال: لا تغبِّروا علينا، فذكر الحديث، وأن المسلمين والمشركين واليهود استَبُّوا. وقد ذكرت الحديث بطوله في «المغني» و «الحدائق» . (1319) وقال مقاتل: وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأنصار وهو على حمار له، فبال الحمار، فقال عبد الله بن أُبيٍّ: أف، وأمسك على أنفه، فقال عبد الله بن رواحة: واللهِ لَهُوَ أطيبُ ريحاً منك، فكان بين قوم ابن أُبيُّ وابن رواحة ضرب بالنِّعال والأيدي والسَّعَف، ونزلت هذه الآية. (1320) والقول الثاني: أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مُماراة في حقِّ بينهما، فقال أحدهما: لآخذنَّ حقي عَنوة، وذلك لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل الأمر بينهما حتى تناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال، قاله قتادة. وقال مجاهد: المراد بالطائفتين: الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصي بينهم. وقرأ أبي بن كعب، وابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «اقتتلا» على فعل اثنين مذكَّرين. وقرأ أبو المتوكل الناجي، وأبو الجون، وابن أبي عبلة: «اقتتلتا» بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنين مؤنثتين. وقال الحسن وقتادة والسدي فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما «1» بالدعاء إِلى حكم كتاب الله عزّ وجلّ والرضى بما فيه لهما وعليهما

_ صحيح. أخرجه البخاري 2691 عن مسدد ثنا معمر قال سمعت أبي يقول، وأخرجه مسلم 1799 وأحمد 3/ 157 و 219 وأبو يعلى 4083 والطبري 31699 والبيهقي 8/ 172 والواحدي في «أسباب النزول» 761 و «الوسيط» 4/ 153 من طرق عن المعتمر بن سليمان به. فالحديث صحيح، ولكن ذكر نزول الآية الظاهر أنه من كلام سليمان، وأنه مدرج في الحديث، والله أعلم. صحيح. أخرجه البخاري 4566 و 5663 و 6254 ومسلم 1798 وأحمد 5/ 203 وابن حبان 6581 من حديث أسامة بن زيد، وهو حديث مطول. عزاه المصنف لمقاتل، وهو واه، لكن ورد أيضا عن الزهري، أخرجه الطبري 31710 مع اختلاف يسير فيه ولأصله شواهد، لكن ذكر نزول الآية لا يصح. ضعيف. أخرجه الطبري 31707 و 31708 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.

[سورة الحجرات (49) : آية 11]

فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما طلبت ما ليس لها ولم ترجع إَلى الصلح فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ أي تَرْجِع إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي إِلى طاعته في الصلح الذي أمر به. قوله تعالى: وَأَقْسِطُوا أي: اعدلوا في الإِصلاح بينهما. قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ قال الزجاج: إِذا كانوا متفقين في دينهم رجَعوا باتفاقهم إِلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواءَ، فإذا اختلفت أديانهم افترقوا في النسب. قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ قرأ الأكثرون: «بين أخويكم» بياء على التثنية. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وقتادة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «بين إِخوتكم» بتاء مع كسر الهمزة على الجمع. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وابن سيرين: «بين إخوانكم» بالنون وألف قبلها. قال قتادة: ويعني بذلك الأوس والخزرج. [سورة الحجرات (49) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ هذه الآية نزلت على ثلاثة أسباب فأما أولها إلى قوله تعالى: خَيْراً مِنْهُمْ فنزلت على سبب، وفيه قولان: (1321) أحدهما: أن ثابت بن قيس بن شمَّاس جاء يوماً يريد الدّنوّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان به صمم، فقال لرجل بين يديه: افسح، فقال له الرجل: قد أصبتَ مجلساً، فجلس مُغْضَباً، ثم قال للرجل: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقال ثابت: أنت ابن فلانة!! فذكر أمّاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية، فأغضى الرجل ونَكَسَ رأسَه، ونزل قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. (1322) والثاني: أن وفد تميم استهزءوا بفقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِما رأَوا من رثاثة حالهم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك ومقاتل. وأما قوله تعالى: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:

_ لا أصل له، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 762 بدون إسناد. وقال الحافظ في «الكشاف» 4/ 370 ذكره الثعلبي ومن تبعه عن ابن عباس بدون إسناد. وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس. عزاه المصنف للضحاك ومقاتل، أما الضحاك فقد روى مناكير كثيرة، وأما مقاتل، فهو ممن يضع الحديث، فهذا الخبر لا شيء.

(1323) أحدها: أنّ نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيَّرن أًمَّ سَلَمة بالقِصَر، فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك. وزعم مقاتل أن عائشة استهزأت من قِصَر أًمِّ سَلَمة. (1324) والثاني: أنّ امرأتين من أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَخِرتا من أم سلمة زوجِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت أم سلمة قد خرجت ذات يوم وقد ربطت أحد طرفي جلبابها على حَقْوها، وأرخت الطرف الآخر خلفها، ولا تعلم، فقالت إِحداهما للأخرى: انظُري ما خَلْفَ أم سلمة كأنه لسان كلب، قاله أبو صالح عن ابن عباس. (1325) والثالث: أن صفيَّة بنت حُيَيّ بن أخطب أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إِن النساء يعيِّرنني ويقُلن: يا يهودية بنت يهوديّين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلاّ قُلْتِ: إِن أبي هارون، وإِن عمِّي موسى، وإن زوجي محمد» ، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. وأما قوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال: (1326) أحدها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَدِمَ المدينة ولهم ألقاب يُدْعَون بها، فجعل الرجل يدعو الرجل بلقَبه، فقيل له: يا رسول الله، إِنهم يكرهون هذا، فنزل قوله تعالى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ، قاله أبو جبيرة بن الضحاك. (1327) والثاني: أن أبا ذر كان بينه وبين رجل منازعة، فقال له الرجل: يا ابن اليهودية، فنزلت: «ولا تَنابزوا بالألقاب» ، قاله الحسن.

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 763 م عن أنس بدون إسناد، فهو لا شيء. وقول مقاتل واه فهو يضع الحديث. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وقد رويا عن ابن عباس تفسير موضوعا. وذكره الواحدي في «الأسباب» 763 بدون إسناد، ومن غير عزو لقائل، وذلك دليل أنه من رواية الكلبي، والأئمة ينأون عن ذكره، فإن وجد في إسناد أسقطوا الإسناد. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 764 عن عكرمة عن ابن عباس به معلقا بدون إسناد، وأخرج الترمذي 3894 وابن حبان 7211 وعبد الرزاق في «المصنف» 20921 وأحمد 6/ 135- 136 عن أنس قال: «بلغ صفية أن حفصة قالت لها: ابنة يهودي، فدخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تبكي، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: وما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة. إني بنت يهودي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي فبم تفخر عليك، ثم قال: اتق الله يا حفصة. وإسناده على شرط الشيخين، لكن ليس فيه ذكر نزول الآية كما ترى. فهذا الذي صح في شأن صفية، وذكر نزول الآية لا يصح. جيد. أخرجه أبو داود 4962 والترمذي 3268 والنسائي في «التفسير» 536 وابن ماجة 3741 وأحمد 4/ 260 والبخاري في «الأدب المفرد» 330 والحاكم 2/ 463 و 4/ 281- 282 والطبري 31717 و 31718 و 31719 و 31720 من حديث أبي جبيرة بن الضحاك، ورجاله رجال مسلم، لكن اختلف في صحبة أبي جبيرة وصححه الحاكم في الموضع الأول على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرجه أحمد 4/ 69 و 5/ 380 بإسناد جيد عن أبي جبيرة عن عمومة له، وهذا موصول قوي الإسناد. وانظر «فتح القدير» 2320 و «أحكام القرآن» 1999 بتخريجنا. عزاه المصنف للحسن، ولم أقف عليه، وهو مرسل، ومراسيل الحسن واهية. وورد بنحوه دون ذكر نزول الآية. أخرجه أحمد 5/ 158 عن أبي ذر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى» . قال الهيثمي في «المجمع» 8/ 83: رجاله ثقات إلا أن بكر بن عبد الله المزني لم يسمع من

(1328) والثالث: أن كعب بن مالك الأنصاري كان بينه وبين عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي كلام، فقال له: يا أعرابي، فقال له عبد الله: يا يهودي، فنزلت فيهما: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ، قاله مقاتل. وأمّا التفسير، فقوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ أي: لا يستهزئ غنيٌّ بفقير، ولا مستور عليه ذنْبُه بمن لم يُستَر عليه، ولا ذو حَسَب بلئيم الحَسَب، وأشباه ذلك ممّا يتنقَّصه به، عسى أن يكون عند الله خيراً منه. وقد بيَّنّا في البقرة «1» أن القوم اسم الرجال دون النساء، ولذلك قال: «ولا نساءٌ من نساء» و «تَلْمِزوا» بمعنى تَعيبوا، وقد سبق بيانه «2» . والمراد بالأنفُس هاهنا: الإِخوان. والمعنى: لا تَعيبوا إِخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم. والتنابز: التفاعل من النَّبْز، وهو مصدر، والنَّبَز الاسم. والألقاب جمع لقب، وهو اسم يُدعى به الإنسان سوى الاسم الذي سمِّي به. قال ابن قتيبة: «ولا تَنابزوا بالألقابَ» أي لا تتداعَوْا بها. والألقاب والأنباز واحد. (1329) ومنه الحديث: «نَبْزُهم الرافضة» أي: لقبُهم. وللمفسرين في المراد بهذه الألقاب أربعة أقوال «3» : أحدها: تعيير التائب بسيِّئات قد كان عملها، رواه عطية العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإِسلام، كقوله لليهودي إِذا أسلم: يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، والقرظي. والثالث: أنه قول الرجل للرجل: يا كافر، يا منافق، قاله عكرمة. والرابع: أنه تسميته بالأعمال السيئة، كقوله: يا زاني يا سارق، يا فاسق، قاله ابن زيد. قال أهل العلم: والمراد بهذه الألقاب: ما يكرهه المنادَى به، أو يُعَدُّ ذمَاً له. فأمّا الألقاب التي تكسب حمداً وتكون صدقاً، فلا تُكره، كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: فاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعليّ: أبو تراب: ولخالد:

_ أبي ذر. فالإسناد ضعيف. وذكر نزول الآية لم أره أصلا، وكذا قوله: «يا ابن اليهودية» . والذي صح في هذا الباب هو ما أخرجه البخاري 6050 ومسلم 1661 وأبو داود 157 والترمذي 1945 من حديث أبي ذر « ... كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية فنلت منها، فذكرني إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال لي: أساببت فلانا؟ قلت: نعم، قال: أفنلت من أمه؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية» . وانظر «أحكام القرآن» 2000 بتخريجنا. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، كذبة غير واحدة فهذا خبر ليس له أصل. وأصح هذه الأقوال هو الحديث 1326. باطل. أخرجه البغوي في «معالم التنزيل» 1988 من حديث علي، وإسناده ساقط، فيه فضيل بن مرزوق ضعيف، ومن فوقه مجاهيل. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه ابن عدي 5/ 153 وأعله بعمر بن المخرم، وقال: يروي عن ابن عيينة وغيره البواطيل.

[سورة الحجرات (49) : آية 12]

سيف الله، ونحو ذلك. وقوله: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ أي: تسميتُه فاسقاً أو كافراً وقد آمن، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ من التَّنابُز فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وفيه قولان: أحدهما: الضارُّون لأنْفُسهم بمعصيتهم، قاله ابن عباس. والثاني: هم أظلم من الذين قالوا لهم ذلك، قاله ابن زيد. [سورة الحجرات (49) : آية 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) قوله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ قال ابن عباس: نهى اللهُ تعالى المؤمنَ أن يظُنَّ بالمؤمن شرّاً. وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يسمع من أخيه كلاماً لا يريد به سوءاً، أو يدخُل مَدخلاً لا يريد به سوءاً، فيراه أخوه المسلم فيظُن به سوءاً. وقال الزجاج: هو أن يظُن بأهل الخير سوءاً. فأمّا أهل السوء والفسق، فلنا أن نظُنَّ بهم مِثْل الذي ظهر منهم. قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية تدل على أنه لم يُنْه عن جميع الظَّنّ والظَّنُّ على أربعة أضرب. محظور، ومأمور به، ومباح، ومندوب إِليه، فأمّا المحظور، فهو سوء الظن بالله تعالى، والواجب: حُسْنُ الظن بالله، وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرُهم العدالةُ محظور، وأما الظن المأمور به، فهو ما لم ينصب عليه دليل يوصل إِلى العِلْم به، وقد تُعُبِّدنا بتنفيذ الحُكم فيه، والاقتصار على غالب الظن، وإجراء الحُكم عليه واجب، وذلك نحو ما تُعُبِّدنا به من قبول شهادة العُدول، وتحرِّي القِبلة، وتقويم المستهلَكات، وأروش الجنايات التي لم يَرِدْ بمقاديرها توقيف، فهذا وما كان من نظائره قد تُعُبِّدنا فيه بأحكام غالب الظنُّون. فأمّا الظن المباح، فكالشّاكِّ في الصلاة إِذا كان إماماً، أمره النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالتحرِّي والعملِ على ما يَغْلِب في ظنِّه، وإن فعله كان مباحاً، وإِن عَدَلَ عنه إِلى البناء على اليقين كان جائزاً. (1330) وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إِذا ظَنَنْتُم فلا تحقّقوا» ، وهذا من الظن الذي يَعْرِض في قلب الإِنسان في أخيه فيما يوجب الرِّيبة، فلا ينبغي له أن يحقِّقه. وأما الظن المندوب إِليه، فهو إِحسان الظن بالأخ المسلم يُنْدَب إِليه ويُثاب عليه. (1331) فأمّا ما روي في الحديث: «احترِسوا من الناس بسوء الظن» ، فالمراد: الإحتراس بحفظ المال، مثل أن يقول: إن تركت بابي مفتوحاً خشيت السُّرّاق. قوله تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ قال المفسرون: هو ما تكلم به مما ظنَّه من السُّوءِ بأخيه المسلم، فإن لم يتكلَّم به فلا بأس، وذهب بعضهم إِلى أنه يأثم بنفس ذلك الظن وإِن لم يَنْطِق به. قوله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا وقرأ أبو رزين والحسن والضحاك وابن سيرين وأبو رجاء وابن يعمر: بالحاء. قال أبو عبيدة: التجسس والتحسس واحد، وهو التَّبحُّث، ومنه الجاسوس. وروي عن يحيى بن أبي

_ لم أره من حديث أبي هريرة. وورد من حديث حارثة بن النعمان، أخرجه الطبراني 3227 وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو ضعيف، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» 8/ 77. وورد من مرسل إسماعيل بن أمية، أخرجه عبد الرزاق 19504 فهو شاهد له. ضعيف جدا، أخرجه تمام في «فوائده» 1167 من حديث أنس، وفيه أبان بن أبي عياش متروك، وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 602 من وجه آخر، وفيه معاوية الصدفي واه.

[سورة الحجرات (49) : آية 13]

كثير أنه قال: التجسس، بالجيم: البحث عن عورات الناس، وبالحاء: الاستماع لحديث القوم. قال المفسرون: التجسس: البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم فالمعنى: لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطَّلع عليه إِذ ستره الله. وقيل لابن مسعود: هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً، فقال: إِنا نُهينا عن التجسس، فإن يَظهرْ لنا شيء نأخذْه به. قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي: لا يتناول بعضُكم بعضاً بظهَر الغَيْب بما يَسوؤُه. (1332) وقد روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ قال: «ذِكْرُكَ أخاك بما يََكره. قال: أرأيتََ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إِن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإِن لم يكن فقد بهتَّه» . ثم ضَرَبَ اللهُ للغِيبة مثلاً، فقال: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً وقرأ نافع «ميّتاً» بالتشديد. قال الزجاج: وبيانه أن ذِكرك بسوءٍ مَنْ لم يَحْضُر، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يُحِسُّ بذلك. قال القاضي أبو يعلى: وهذا تأكيد لتحريم الغيبة، لأن أكل لحم المسلم محظور، ولأن النُّفوس تَعافُه من طريق الطَّبع، فينبغي أن تكون الغِيبة بمنزلته في الكراهة. قوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: «فكُرّهتموه» برفع الكاف وتشديد الراء. قال الفراء: أي وقد كرهتموه فلا تفعلوه، ومن قرأ «فكُرّهتموه» أي: فقد بُغِّض إِليكم، والمعنى واحد. قال الزجاج: والمعنى: كما تكرهون أكل لحمه ميتاً فكذلك تجنَّبوا ذِكْره بالسُّوء غائباً. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في الغِيبة إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ على من تاب رَحِيمٌ به. [سورة الحجرات (49) : آية 13] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى في سبب نزولها ثلاثة أقوال: (1333) أحدها: نزلت في ثابت بن قيس وقولِه في الرجل الذي لم يفسح له: أنت ابن فلانة، وقد ذكرناه عن ابن عباس في قوله: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ. (1334) والثاني: أنه لمّا كان يوم الفتح أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذّن،

_ صحيح. أخرجه مسلم 2589 عن يحيى بن أيوب، وقتيبة، وعلي بن حجر عن إسماعيل بن العلاء به. وأخرجه البغوي في «شرح السنة» 3454 عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه ابن حبان 5759 والبيهقي 10/ 247 وفي «الآداب» 154 من طريق إسماعيل بن جعفر به. وأخرجه أبو داود 4874 والترمذي 1934 وأحمد 2/ 320 و 384 و 458 والدارمي 2/ 297 والواحدي في «الوسيط» 4/ 156 والأصبهاني في «الترغيب» 2229. وابن حبان 5758 من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن به. وقال الترمذي: حسن صحيح. لم أقف له على إسناد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 765 عن ابن عباس بدون إسناد، والظاهر أنه من رواية الكلبي الكذاب، وتقدم أن الذي صح في ثابت هو حديث أنس المتفق عليه، انظر تخريج الحديث 1309. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، يضع الحديث. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 765 م عن مقاتل بدون إسناد.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 إلى 18]

وأراد أن يُذِلَّ المشركين بذلك، فلما أذَّن، قال عتاب بن أَسِيد: الحمدُ لله الذي قبض أسيداً قبل اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسودِ مؤذِّناً؟! وقال سهيل بن عمرو: إن يَكْرَهِ اللهُ شيئاً يغيِّره، وقال أبو سفيان: أمّا أنا فلا أقول شيئاً، فإنِّي إن قُلتُ شيئاً لَتْشْهَدَنَّ عليَّ السماءُ، ولَتُخْبِرَنَّ عنِّي الأرض، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. (1335) والثالث: أن عبداً أسود مرض فعاده رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم، ثم قُبض فتولَّى غسله وتكفينه ودفنه، فأثَّر ذلك عند الصحابة، فنزلت هذه الآية، قاله يزيد بن شجرة. فأمّا المراد بالذَّكَر والأُنثى، فآدم وحوَّاء. والمعنى: إِنكم تتساوَوْن في النسب وهذا زجر عن التفاخر بالأنساب. فأمّا الشُّعوب، فهي جمع شَعب. وهو الحيُّ العظيم، مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها، كبَكر من ربيعة، وتميم من مضر، هذا قول الجمهور من المفسرين وأهل اللغة. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالشعوب الموالي، وبالقبائل العرب. وقال أبو رزين: الشعوب: أهل الجبال الذين لا يَعْتَزُون لأحد، والقبائل: قبائل العرب. وقال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل إِن القبائل هي الأصول، والشُّعوب هي البُطون التي تتشعَّب منها، وهذا ضد القول الأول. قوله تعالى: لِتَعارَفُوا أي: ليَعْرِفَ بعضُكم بعضاً في قُرب النسب وبُعده. قال الزجاج: المعنى: جعلْناكم كذلك لتَعارفوا، لا لتَفاخروا. ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلةً أتقاهم، وقرأ أًبيُّ بن كعب، وابن عباس، والضحاك، وابن يعمر، وأبان عن عاصم: «لِتَعْرِفوا» بإسكان العين وكسر الراء من غير ألف. وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل، وابن محيصن: «لِتَّعارَفوا» بتاء واحدة مشددة وبألف مفتوحة الراء مخففة. وقرأ أبو نهيك، والأعمش: «لِتتعرَّفوا» بتاءين مفتوحة الراء وبتشديدها من غيرَ ألف. قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي، ومجاهد، وأبو الجوزاء: «أنَّ» بفتح الهمزة. قال الفراء: من فتح «أنَّ» فكأنه قال: لتعارفوا أنَّ الكريمَ التَّقيُّ، ولو كان كذلك لكانت «لِتَعْرِفوا» ، غير أنه يجوز «لِتَعارفوا» على معنى: ليعرِّف بعضُكم بعضاً أن أكرمكم عند الله أتقاكم. [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا.

_ ذكره الواحدي في «الأسباب» 766 م هكذا بدون إسناد، وكذا الثعلبي كما في «تخريج الكشاف» 4/ 375، فهو خبر ساقط، ليس بشيء.

(1336) قال مجاهد: نزلت في أعراب بني أسد بن خزيمة. ووصف غيره حالهم، فقال: قَدِموا المدينةَ في سنة مُجْدِبة، فأظهروا الإِسلام ولم يكونوا مؤمنين، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلَوا أسعارهم، وكانوا يمنّون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيقولون: أتيناك بالأثقال والعيال، ولَمْ نُقاتِلْك، فنزلت فيهم هذه الآية. (1337) وقال السدي: نزلت في أعراب مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الفتح، وكانوا يقولون: آمنا بالله، ليأمنوا على أنفُسهم، فلما استُنفروا إِلى الحديبية تخلَّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية. (1338) وقال مقاتل: كانت منازلهم بين مكة والمدينة، فكانوا إِذا مرَّت بهم سريَّة من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالوا: آمنا، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فلمّا سار رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِلى الحديبية استنفرهم فلم يَنْفِروا معه. قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي: لَمْ تصدّقوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا قال ابن قتيبة: اسْتَسلمنا من خوف السيف، وانْقَدْنا. قال الزجاج: الإِسلام: إِظهار الخُضوع والقَبول لِما أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبذلك يُحْقَن الدَّم، فإن كان معه اعتقاد وتصديق بالقلب، فذلك الإِيمان، فأخْرَجَ اللهُ هؤلاء من الإِيمان بقوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي: لَمْ تُصَدِّقوا، إِنما أسلمتم تعوُّذاً من القتل، وقال مقاتل: «ولمّا» بمعنى «ولم» يدخُل التصديقُ في قلوبكم. قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن عباس: إِن تخلصوا الإيمان لا يَلِتْكُمْ قرأ أبو عمرو: «يَألِتْكُم» بألف وهمز وروي عنه بألف ساكنة مع ترك الهمزة. وقرأ الباقون: «يَلِتْكُم» بغير ألف ولا همز. فقراءة أبي عمرو من ألَتَ يألِتُ، وقراءة الباقين من لاتَ يَلِيتُ، قال الفراء: وهما لغتان، قال الزجاج: معناهما واحد. والمعنى: لا يَنْقُصكم. وقال أبو عبيدة: فيها ثلاث لغات: ألَتَ يألِتُ، تقديرها: أفَكَ يأفِكُ، وألاتَ يُلِيتُ، تقديرها: أقال يُقِيلُ، ولاتَ يَلِيتُ، قال رؤبة: وليلةٍ ذاتِ نَدىً سَرَيْتُ ... ولم يَلِتْنِي عن سُراها لَيْتُ قوله تعالى: مِنْ أَعْمالِكُمْ أي: من ثوابها. ثم نعت الصادقين في إِيمانهم بالآية التي تلي هذه، ومعنى: يَرْتابُوا يَشُكُّوا. وإِنما ذكر الجهاد، لأن الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان فرضا في ذلك

_ أخرجه الطبري 31775 عن مجاهد مختصرا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 767 بدون إسناد، وذكره البغوي في «تفسيره» 2017 تعليقا، ومن غير عزو لقائل. وورد بنحوه من حديث ابن عباس عند النسائي في «التفسير» 539 والبزار كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 258 من طريقين ضعيفين عن سعيد بن جبير به. وورد من حديث أبي قلابة مرسلا، أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 39. وورد عن قتادة مرسلا، أخرجه الطبري 31781. وورد عن عبد الله بن أبي أوفى، أخرجه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» كما في «المجمع» 7/ 112. قال الهيثمي: وفيه الحجاج بن أرطاة، وهو ثقة، ولكنه مدلس، وبقية رجاله رجال الصحيح. رووه بألفاظ متقاربة، والمعنى واحد، فالحديث حسن إن شاء الله. وانظر «فتح القدير» 2324 للشوكاني بتخريجنا. عزاه المصنف للسدي، ولم أقف عليه، وهو مرسل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، لكن هو موافق لما قبله في أكثر الخبر.

الوقت، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إِيمانهم، فلمّا نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحلفون أنهم مؤمنون صادقون، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ و «علَّم» بمعنى «أعلم» ولذلك دخلت الباء في قوله: «بدينكم» والمعنى: أتُخبرون اللهَ بالدِّين الذي أنتم عليه؟!، أي: هو عالِمٌ بذلك لا يحتاج إِلى أخباركم وفيهم نزل قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قالوا: أَسْلَمْنا ولم نقاتلك، والله تعالى أعلم.

سورة ق

سورة ق ويقال لها: سورة الباسقات. روى العوفيّ وغيره عن ابن عباس أنها مكّيّة، وكذلك قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنّ فيها آية مدنيّة، وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... الآية «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) قوله تعالى: ق قرأ الجمهور بإسكان الفاء. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «قافَ» بنصب الفاء. وقرأ أبو رزين، وقتادة: «قافُ» برفع الفاء. وقرأ الحسن، وأبو عمران: «قافِ» بكسر الفاء. وفي «ق» خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه قسم أقسم اللهُ به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه جبل من زَبَرْجَدة خضراء، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: خلق الله جبلا يقال له: «ق» محيط بالعالم،

_ (1) ق: 38. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 260: «ق» : حرف من حروف الهجاء التي تقدم ذكرها في أوائل السور بما أغنى عن إعادته. وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق: جبل محيط بجميع الأرض يقال له قاف وكأن هذا. والله أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما لا يصدّق ولا يكذّب. وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم كما افترى على هذه الأمة- مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها- أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم- وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى، وقلّة الحفّاظ النقّاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «وحدّثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج» فيما قد يجوزه العقل. فأما ما تحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل، والله أعلم. وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة.

[سورة ق (50) : الآيات 6 إلى 15]

وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد الله عزّ وجلّ أن يزلزل قرية، أمر ذلك الجبل فحرَّك العرق الذي يلي تلك القرية. وقال مجاهد: هو جبل محيط بالأرض. وروي عن الضحاك أنه من زمردة خضراء، وعليه كَنَفَا السماء، وخُضرة السماء منه. والثالث: أنه جبل من نار في النار، قاله الضحاك في رواية عنه عن ابن عباس. والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. والخامس: أنه حرف من كلمة. ثم فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه افتتاح اسمه «قدير» ، قاله أبو العالية. والثاني: أنه افتتاح أسمائه: القدير والقاهر والقريب ونحو ذلك، قاله القرظي. والثالث: أنه افتتاح «قُضي الأمرُ» وأنشدوا: قُلنا لها قِفِي فقالتْ قافْ معناه: أقف، فاكتفت بالقاف من «أقف» ، حكاه جماعة منهم الزجاج. والرابع: قف عند أمرنا ونهينا، ولا تَعْدُهُما، قاله أبو بكر الورّاق. والخامس: قُلْ يا محمد، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قال ابن عباس، وابن جبير: المَجيد: الكريم. وفي جواب هذا القسم أربعة أقوال: أحدها: أنه مُضمر، تقديره: لَيُبْعَثُنَّ بَعْدَ الموت. قاله الفراء، وابن قتيبة، ويدُلُّ عليه قولُ الكفار: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ. والثاني: أنه قوله: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، فيكون المعنى: قاف والقرآنِ المجيدِ لقد عَلِمْنا، فحُذفت اللاّمُ لأنّ ما قبْلَها عِوَضٌ منها، كقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... قَدْ أَفْلَحَ «1» أي: لقد أفلح، أجاز هذا القول الزجاج. والثالث: أنه قوله: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ «2» ، حكي عن الأخفش. والرابع: أنه في سورة أُخرى، حكاه أبو سليمان الدمشقي، ولم يبيِّن في أي سورة. قوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا مفسَّر في «ص» «3» إلى قوله: شَيْءٌ عَجِيبٌ أي: معجب. أَإِذا مِتْنا قال الأخفش: هذا الكلام على جواب، كأنه قيل لهم: إنّكم ترجعون، فقالوا: أإذا متنا وكنا ترابا؟ وقال غيره: تقدير الكلام: ق والقرآن ليبعثنّ، فقال: أإذا متنا وكنا تراباً والمعنى: أنُبْعَث إذا كنا كذلك؟! وقال ابن جرير: لمّا تعجَّبوا من وعيد الله على تكذيبهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلم فقالوا: هذا شيء عجيب، كان كأنه قال لهم: ستعلمون إذا بُعثتم ما يكون حالُكم في تكذيبكم محمّدا، فقالوا: أإذا متنا وكنا ترابا؟! قوله تعالى: ذلِكَ رَجْعٌ أي: ردٌّ إلى الحياة بَعِيدٌ قال ابن قتيبة: أيْ لا يكون. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل من لحومهم ودمائهم وأشعارهم إذا ماتوا، يعني أن ذلك لا يَعْزُب عن عِلْمه وَعِنْدَنا مع عِلْمنا بذلك كِتابٌ حَفِيظٌ أي حافظ لعددهم وأسمائهم ولِما تَنْقُص الأرضُ منهم، وهو اللوح المحفوظ قد أُثبت فيه ما يكون. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ وهو القرآن. والمَريج: المختلِط، قال ابن قتيبة: يقال مَرِج أمرُ الناس، ومَرِج الدِّينُ، وأصل هذا أن يَقْلَق الشيء ولا يستقر، يقال: مَرِج الخاتم في يدي: إذا قلق للهُزَال. قال المفسرون: ومعنى اختلاط أمرهم: أنهم كانوا يقولون للنبيّ صلّى الله عليه وسلم مَرَّة ساحر، ومرة شاعر، ومرة مُعَلمَّ، ويقولون للقرآن مرة سحر، ومرة مُفْتَرى، ومرة رَجَز، فكان أمرهم ملتبسا مختلطا عليهم. [سورة ق (50) : الآيات 6 الى 15] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

_ (1) الشمس: 1- 9. (2) ق: 18. (3) ص: 4.

[سورة ق (50) : الآيات 16 إلى 22]

ثم دلَّهم على قُدرته على البعث بقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها بالكواكب وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي: من صُدوع وشُقوق، والزَّوج: الجنس. والبهيج: الحَسَن، قاله أبو عبيدة. وقال ابن قتيبة: البهيج: الذي يُبْتَهَج به. قوله تعالى: تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ قال الزجاج: أي: فَعَلنا ذلك لِنُبَصِّر ونَدُلَّ على القُدرة. والمُنيب: الذي يَرْجِع إلى الله ويفكِّر في قُدرته. قوله تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماء وهو المطر مُبارَكاً أي: كثير الخير، فيه حياة كل شيء فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وهي البساتين وَحَبَّ الْحَصِيدِ أراد: الحَبَّ الحَصيدَ، فأضافه إلى نفسه، كقوله: لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «1» وقوله: مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «2» فالحَبْلُ هو الوَريد، وكما يقال: صلاةُ الأُولى، يراد: الصلاةُ الأُولى، ويقال: مسجدُ الجامع، يراد: المسجدُ الجامعُ، وإنما تضاف هذه الأشياء إلى أنفسها لاختلاف لفظ اسمها، وهذا قول الفراء، وابن قتيبة. وقال غيرهما: أراد حَبَّ النّبتِ الحَصيدِ. وَالنَّخْلَ أي: وأنْبَتْنا النخل باسِقاتٍ و «بُسوقها» : طُولها قال ابن قتيبة: يقال: بَسقَ الشيءُ يَبْسُقُ بُسوقاً: إذا طال، والنَّضيد: المنضود بعضُه فوق بعض، وذلك قبل أن يتفتَّح، فاذا انشقَّ جُفُّ طلْعه وتفرَّق فليس بنضيدٍ. قوله تعالى: رِزْقاً لِلْعِبادِ أي: أنْبَتْنا هذه الأشياء للرِّزق وَأَحْيَيْنا بِهِ أي: بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ من القُبور. ثم ذكر الأُمم المكذِّبة بما بعد هذا، وقد سبق بيانه إلى قوله: فَحَقَّ وَعِيدِ أي: وجب عليهم عذابي. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ هذا جواب لقولهم: ذلك رَجْعٌ بَعيدٌ. والمعنى: أعَجَزْنا عن ابتداء الخَلْق، وهو الخَلْق الأَوَّل، فنعيا بالبعث وهو الخلق الثاني؟! وهذا تقرير لهم، لأنهم اعترفوا أنه الخالق وأنكروا البعث بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ أي في شَكٍّ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو البعث. [سورة ق (50) : الآيات 16 الى 22] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

_ (1) الواقعة: 95. (2) ق: 16.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ابن آدم وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما تحدِّثه به نفسه. وقال الزجاج: نعلم ما يُكِنُّه في نَفْسه. قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أي بالعِلْم مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الحَبْل هو الوريد، وإنما أضافه إلى نفسه لِما شرحناه آنفا في قوله: «وحبّ الحصيد» «1» . قال الفراء: والوريد: عِرْقٌ بين الحُلْقوم والعِلْباوَيْن. وعنه أيضاً قال: عرق بين اللَّبَّة والعِلْباوَيْن. وقال الزجاج: الوريد: عِرْق في باطن العُنُق، وهما وريدان، والعِلْباوَان: العَصَبتان الصَّفراوان في مَتْن العُنُق، واللَّبَّتان: مَجرى القُرط في العُنُق. وقال ابن الأنباري: اللَّبَّة حيث يتذبذب القُرْط مِمّا يَقْرُبُ من شحمة الأُذن. وحكى بعض العلماء أن الوريد: عِرْقٌ متفرِّق في البدن مُخالِط لجميع الأعضاء، فلمّا كانت أبعاض الإِنسان يحجب بعضُها بعضاً، أَعْلَمَ أن عِلْمه لا يحجُبه شيءٌ. والمعنى: ونحن أقربُ إليه حين يَتلقَّى المتُلقِّيان، وهما الملَكان الموكَّلان بابن آدم يتلقيَّانِ عمله. وقوله: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ أي: يأخُذان ذلك ويُثْبِتانه عَنِ الْيَمِينِ كاتب الحسنات وَعَنِ الشِّمالِ كاتب السَّيِّئات. قال الزجاج: والمعنى: عن اليمين قَعيد، وعن الشِّمال قَعيد، فدلَّ أحدُهما على الآخر، فحذف المدلولُ عليه، قال الشاعر: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنت بما عندك ... رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وقال آخر: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوالِدِي ... بَريئاً، ومِنْ أَجْلِ الطَّوِىِّ رَمَانِي «2» المعنى: كنتُ منه بريئاً. وقال ابن قتيبة: القَعيد بمعنى قاعد، كما يقال: «قدير» بمعنى «قادر» ، ويكون القعيد بمعنى مُقاعِد، كالأكيل والشَّريب بمنزلة: المُؤاكِل والمُشارِب. قوله تعالى: ما يَلْفِظُ يعني الانسان، أي: ما يتكلَّم من كلام فيَلْفِظُه، أي يَرميه من فمه، إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ أي: حافظ، وهو الملَك الموكَّل به، إِمّا صاحب اليمين، وإِمّا صاحب الشمال عَتِيدٌ قال الزجاج: العَتيد: الثّابِت اللاّزم. وقال غيره: العَتيد: الحاضر معه أينما كان. (1339) وروى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كاتب الحسنات على يمين الرّجل، وكاتب

_ حديث ضعيف. في إسناده جعفر بن الزبير متروك متهم، والقاسم وإن وثقه ابن معين والترمذي، فقد ضعفه ابن حيان، وقال أحمد: روى عنه علي بن زيد أعاجيب، ولا أراها إلا من قبل القاسم، وقال ابن معين بعد أن وثقه: والثقات يروون عنه الأحاديث. أي الواهية- ولا يرفعونها ثم قال: يجيء من المشايخ الضعفاء ما يدل حديثهم على ضعفه. وأخرجه الطبراني في «الكبيرة» 7971 من طريق عبد القاهر بن شعيب، والبيهقي في «الشعب» 7049 من طريق مروان بن معاوية كلاهما عن جعفر بن الزبير عن القاسم بن محمد عن أبي أمامة. وأخرجه البيهقي في «الشعب» 7050 والواحدي في «الوسيط» 4/ 165- 166 من طريقين عن إسماعيل بن عيسى العطار عن المسيب بن شريك عن بشر بن نمير عن القاسم به دون صدره، وإسماعيل ضعيف ومثله القاسم. وورد بلفظ «إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتب واحدة» . أخرجه البيهقي 7051 وأبو نعيم 6/ 124 والواحدي 4/ 165 والطبراني 7765 من طريق إسماعيل بن عياش عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن عروة بن رويم عن القاسم به. وإسناده ضعيف، وعلته القاسم، وكذا إسماعيل ضعفه غير واحد مطلقا. وضعفه بعضهم في روايته خاصة عن-

السَّيِّئات على يساره، فكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة، وأراد صاحب الشمال أن يكتبها، قال صاحب اليمين: أَمْسِكْ، فيُمْسِك عنه سَبْعَ ساعات، فإن استغفر منها لم يُكتَب عليه شيءٌ، وإن لم يستغفر كُتِب عليه سيِّئة واحدة» . وقال ابن عباس: جَعَل اللهُ على ابن آدم حافظين في الليل، وحافظين في النهار. واختلفوا هل يكتُبان جميع أفعاله وأقواله على قولين «1» : أحدهما: أنهما يكتُبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، قاله مجاهد. والثاني: أنهما لا يكتبان إلاّ ما يؤجَر عليه أو يُوزَر، قاله عكرمة. فأمّا مجلسهما فقد نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشمال، وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة. (1340) وقد روى عليّ كرّم الله وجهه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إن مقعد ملَكَيك على ثنيَّتيك، ولسانُك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك» ، وروي عن الحسن والضحاك قالا: مجلسهما تحت الشعر على الحنك. قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وهي غَمرتُه وشِدَّتُه التي تَغشى الإِنسان وتَغْلِب على عقله وتدُلُّه على أنه ميت بِالْحَقِّ وفيه وجهان: أحدهما: أن معناه: جاءت بحقيقة الموت. والثاني: بالحق من أمر الآخرة، فأبانت للانسان ما لم يكن بيَّنّا له من أمر الآخرة. ذكر الوجهين الفراء، وابن جرير. وقرأ أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه: «وجاءت سَكْرةُ الحق بالموت» ، قال ابن جرير: ولهذه القراءة وجهان. أحدهما: أن يكون الحق هو الله تعالى، فيكون المعنى: وجاءت سَكْرة الله بالموت. والثاني: أن تكون السَّكْرة هي الموت، أضيفت إلى نفسها، كقوله: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «2» ، فيكون المعنى: وجاءت السَّكْرة الحَقُّ بالموت، بتقديم «الحَقّ» . وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: «وجاءت سكرات»

_ غير الشاميين. قال الهيثمي في «المجمع» 10/ 208: وفيه جعفر بن الزبير، وهو كذاب، ولكن ورد من وجه آخر رواه الطبراني بأسانيد رجال أحدها وثقوا! قلت: فيه القاسم كما تقدم، ولا يحتج بما ينفرد به، وتعيين ست ساعات أو سبع ساعات غريب جدا. وله شاهد من حديث أم عصمة فيه «ثلاث ساعات» وفي الإسناد سعيد بن سنان وهو متروك، أخرجه الطبراني في «الأوسط» 17، فهذا شاهد لا يفرح به، وهو يعارض الأول في تعيين الزمن. الخلاصة: لفظ المصنف ضعيف جدا، واللفظ المختصر عن إسماعيل بن عياش الذي أوردته ضعيف فقط، وشاهده ليس بشيء، وقد أورده الألباني في «الصحيحة» 1209 وحسنه وليس كما قال بل الإسناد ضعيف والمتن غريب، ولا يتدين بحديث ينفرد به القاسم، وفي الطريق إليه جعفر وهو متروك أو ابن عياش، وهو غير حجة. ضعيف جدا. أخرجه الثعلبي من رواية جميل بن الحسن عن أرطأة بن الأشعث العدوي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «مقعد مليكك ... » فذكره. كذا قاله الحافظ في تخريج الكشاف 4/ 384 وسكت عليه. وإسناده ضعيف جدا فيه جميل بن الحسن جرحه عبدان، ووثقه ابن حبان، وفيه أرطأة بن أشعث قال عنه في «الميزان» هالك. وهاه ابن حبان. ثم ذكر الذهبي له خبرا غير هذا وقال: هو المتهم به، ثم هو منقطع بين علي ومحمد الباقر. وانظر «تفسير القرطبي» 5631 بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.

[سورة ق (50) : الآيات 23 إلى 29]

على الجمع «الحَقِّ بالموتِ» بتقديم «الحَقّ» . وقرأ أبيّ بن كعب، وسعيد بن جبير: «وجاءت سَكَراتُ الموت» على الجمع «بالحق» بتأخير «الحق» . قوله تعالى: ذلِكَ أي فيقال للانسان حينئذ: «ذلك» : أي ذلك الموت ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تهرُب وتفِرّ. وقال ابن عباس: تَكره. قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني نفخة البعث ذلِكَ اليوم يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم وقوع الوعيد. قوله تعالى: مَعَها سائِقٌ فيه قولان: أحدهما: أن السائق ملَك يسوقها إلى مَحْشَرها، قاله أبو هريرة: والثاني: أنه قرينها من الشياطين، سمِّي سائقا لأنه يتبَعها وإِن لم يَحثَّها. وفي (الشهيد) ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ملَك يَشهد عليها بعملها، قاله عثمان بن عفان والحسن. وقال مجاهد: الملَكان سائق وشهيد. وقال ابن السائب: السائق الذي كان يكتب عليه السَّيَِئات، والشهيد الذي كان يكتب الحسنات. والثاني: أنه العمل يَشهد على الإنسان، قاله أبو هريرة. والثالث: الأيدي والأرجل تَشهد عليه بعمله، قاله الضحاك. وهل هذه الآيات عامّة، أم خاصَّة؟ فيها قولان: أحدهما: أنها عامة، قاله الجمهور. والثاني: خاصة في الكافر، قاله الضحاك ومقاتل. قوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ أي: ويقال له: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم، وفي المخاطَب بهذه الآيات ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكافر، قاله ابن عباس، وصالح بن كيسان في آخرين. والثاني: أنه عامّ في البَرِّ والفاجر، قاله حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، واختاره ابن جرير. والثالث: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن زيد. فعلى القول الأول يكون المعنى: لقد كنتَ في غفلة من هذا اليوم في الدنيا بكفرك به وعلى الثاني: كنتَ غافلاً عن أهوال القيامة فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك. وقيل معناه: أريناك ما كان مستوراً عنك وعلى الثالث: لقد كنتَ قبل الوحي في غفلة عمّا أُوحي إِليك، فكشفنا عنك غطاءك بالوحي فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وفي المراد بالبصر قولان: أحدهما: البصر المعروف، قاله الضحاك. والثاني: العِلمْ، قاله الزجاج. وفي قوله: «اليومَ» قولان: أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله الأكثرون. والثاني: أنه في الدنيا، وهذا على قول ابن زيد. فأمّا قوله: «حديدٌ» فقال ابن قتيبة: الحديد بمعنى الحادّ. أي: فأنت ثاقب البصر. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فبصرك حديدٌ إلى لسان الميزان حين تُوزَن حسناتُك وسيِّئاتُك، قاله مجاهد. والثاني: أنه شاخص لا يطرف لمعاينة الأخرة، قاله مقاتل. والثالث: أنه العلم النّافذ، قاله الزّجّاج. [سورة ق (50) : الآيات 23 الى 29] وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) قوله تعالى: وَقالَ قَرِينُهُ قال مقاتل: هو ملكه الذي كان يكتب عمله السّيئ في دار الدنيا، يقول لربِّه: قد كتبتُ ما وكَّلْتَني به، فهذا عندي مُعَدٌّ حاضرٌ من عمله الخبيث، فقد أتيتُك به وبعمله. وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «من» قاله مجاهد. والثاني: أنها بمعنى الشيء، فتقديره: هذا شيء لديَّ عتيدٌ، قاله الزجاج. وقد ذكرنا معنى العتيد في هذه السّورة «1» ، فيقول الله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ.

_ (1) ق: 18.

وفي معنى هذا الخطاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مخاطبة للواحد بلفظ الخطاب للاثنين، قال الفراء: والعرب تأمر الواحد والقوم بأمر الاثنين، فيقولون للرجُل: ويلك ارحلاها وازجُراها، سمعتها من العرب، وأنشدني بعضهم: فقُلْتُ لِصَاحِبِي لا تَحْبِسانا ... بِنَزْعِ أُصُولِهِ واجْتَزَّ شِيحا «1» وأنشدني أبو ثَرْوان: فإن تزجراني يا ابن عَفَّان أَنْزَجِرْ ... وإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّّعا ونرى أن ذلك منهم، لأن أدنى أعوان الرجُل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرُّفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى الكلام على صاحبيه، ألا ترى الشعر أكثر شيء قِيلاً: يا صَاحِبَيَّ ويا خليليَّ. قال امرؤ القيس: خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي على أُمِّ جُنْدَبٍ ... نُقَضِّي لبانات الفؤاد المعذّب «2» ثم قال: ألم تر أنّي كُلمَّا جِئْتُ طارِقاً ... وَجَدْتُ بها طِيباً وإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ فرجع إلى الواحد، وأول كلامه اثنان، وإِلى هذا المعنى ذهب مقاتل، وقال: «ألقيا» خطاب للخازن، يعني خازن النار. والثاني: أنه فِعل ثُنِّي توكيداً، كأنه لمّا قال: «ألقيا» ، ناب عن أَلْقِ أَلْقِ، وكذلك: قِفا نَبْكِ، معناه: قِفْ قِفْ، فلمّا ناب عن فعلين، ثُنِّي، قاله المبرد. والثالث: أنه أمر للملكين، يعني السائق والشهيد، وهذا اختيار الزجاج. فأمّا «الكَفّارُ» ، فهو أشَدُّ مُبالَغةً من الكافر. و «العنيد» قد فسرناه في هود «3» . قوله تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ في المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: الزكاة المفروضة، قاله قتادة. والثاني: أنه الإسلام، يمنع الناس من الدُّخول فيه، قاله الضحاك، ومقاتل، وذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، منع بني أخيه عن الإسلام. والثالث: أنه عامٌّ في كل خير من قول أو فعل، حكاه الماوردي. قوله تعالى: مُعْتَدٍ أي: ظالم لا يُقِرُّ بالتوحيد مُرِيبٍ أي: شاكّ في الحق، من قولهم: أرابَ الرجُلُ: إذا صار ذا رَيْب. قوله تعالى: قالَ قَرِينُهُ فيه قولان: أحدهما: شيطانه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور. وفي الكلام اختصار تقديره: إن الإنسان ادّعى على قرينه من الشياطين أنه أضلَّه فقال: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي لم يكن لي قُوَّة على إضلاله بالإكراه، وإنما طغى هو بضلاله. والثاني: أنه الملَك الذي كان يكتُب السَّيِّئات. ثم فيما يدَّعيه الكافرُ على الملَك قولان: أحدهما: أنه يقول: زاد عليَّ فيما كتب، فيقول الملَك: ما أطغيتُه، أي ما زدتُ عليه، قاله سعيد بن جبير. والثاني: أنه يقول: كان يُعْجِلني عن التَّوبة، فيقول: ربَّنا ما أطغيتُه، هذا قول الفراء. قوله تعالى: وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: بعيد من الهدى، فيقول الله تعالى:

_ (1) البيت لمضرس بن ربعي الأسدي وهو في «مشكل القرآن» 224 و «اللسان» جزز. واجتزّ: قطع، والشيح: نبت سهلي من الفصيلة المركبة وهو كثير الأنواع ترعاه الماشية. (2) في «المعجم الوسيط» اللبان: جمع اللبانة: الحاجة من غير فاقة ولكن من نهمة. (3) هود: 59.

[سورة ق (50) : الآيات 30 إلى 40]

لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ. في هذا الخصام قولان: أحدهما: أنه اعتذارهم بغير عذر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه خصامهم مع قرنائهم الذين أغوَوْهم، قاله أبو العالية. فأما اختصامهم فيما كان بينهم من المظالم في الدنيا، فلا يجوز أن يُهمَل، لأنه يوم التناصف. قوله تعالى: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي: قد أخبرتُكم على ألسُن الرُّسل بعذابي في الآخرة لمن كفر. ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فيه قولان: أحدهما: ما يبدَّل القول فيما وعدتُه من ثواب وعقاب، قاله الأكثرون. والثاني: ما يُكذَّب عندي ولا يغيَّر القول عن جهته، لأنِّي أعْلَمُ الغيب وأعْلَمُ كيف ضلُّوا وكيف أضللتموهم، هذا قول ابن السائب واختيار الفراء وابن قتيبة، ويدل عليه أنه قال تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ولم يقل: ما يُبَدَّل قولي وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأَزيدَ على إساءة المُسيء، أو أنقص من إحسان المحسن. [سورة ق (50) : الآيات 30 الى 40] يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر وحمزة، والكسائي: «يومَ نقول» بالنون المفتوحة وضم القاف. وقرأ نافع، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: «يومَ يقول» بالياء المفتوحة وضم القاف. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وعبد الوارث عن أبي عمرو: «يومَ يُقال» بياء مضمومة وفتح القاف وإثبات ألف. قال الزجاج: وانتصاب «يومَ» على وجهين، أحدهما: على معنى: ما يُبدَّل القولُ لديَّ في ذلك اليوم. والثاني: على معنى: وأَنْذِرْهم يومَ نقولُ لجهنم. فأمّا فائدة سؤاله إيّاها، وقد عَلِم هل امتلأتْ أم لا، فإنه توبيخ لمن أُدْخِلها، وزيادة في مكروهه، ودليل على تصديق قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1» . وفي قولها: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قولان عند أهل اللغة: أحدهما: أنها تقول ذلك بعد امتلائها، فالمعنى: هل بقي فيَّ موضعٌ لم يمتلئ؟ أي: قد امتلأتُ. والثاني: أنها تقول تغيُّظاً على من عصى اللهَ تعالى، وجَعَلَ اللهُ فيها أن تميِّز وتخاطِب، كما جَعَلَ في النّملة أن قالت: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «2» ، وفي المخلوقات أن تسبِّح بحمده. قوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ اي قًُرِّبَتْ للمُتَّقين الشركَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي جُعلتْ عن يمين العرش حيث يراها أهلُ الموقف، ويقال لهم: هذا الذي ترونه ما تُوعَدُونَ، وقرأ عثمان بن

_ (1) الأعراف: 18. (2) النمل: 18.

عفان، وابن عمر، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن: «يُوعَدونَ» بالياء لِكُلِّ أَوَّابٍ وفيه أقوال قد ذكرناها في بني إسرائيل «1» . وفي حَفِيظٍ قولان: أحدهما: الحافظ لذنوبه حتى يرجع عنها قاله ابن عباس. والثاني: الحافظ لأمر الله تعالى، قاله مقاتل. قوله تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ قد بيَّنّاه في (الأنبياء) «2» وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي: راجع إلى طاعة الله عن معصيته. ادْخُلُوها أي: يقال لهم: أُدخلوا الجنة بِسَلامٍ وذلك أنهم سَلِموا من عذاب الله، وسلموا فيها من الغُموم والتغيُّر والزَّوال، وسلَّم اللهُ وملائكتُه عليهم ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ في الجنة، لأنه لا موت فيها ولا زوال. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وذلك أنهم يَسألون الله حتى تنتهي مسائلُهم، فيُعْطَوْن ما شاؤوا، ثم يَزيدُهم ما لم يَسألوا، فذلك قوله: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ. وللمفسرين في المراد بهذا المزيد ثلاثة أقوال: (1341) أحدها: أنه النّظر إلى الله عزّ وجلّ روى عليّ رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في قوله: «ولدينا مَزيدٌ» قال: «يتجلَّى لهم» . وقال أنس بن مالك في قوله: «ولدينا مزيد» : يتجلَّى لهم الرب تعالى في كل جمعة. (1342) والثاني: أن السحاب يَمُرَّ بأهل الجنة، فيمطرهم الحورَ، فتقول الحور: نحن اللواتي قال الله عزّ وجل: «ولدينا مزيد» ، حكاه الزجاج. والثالث: أن الزِّيادة على ما تمنَّوه وسألوا ممّا لم تسمع به أذن ولم يخطُر على قلب بشر، ذكره أبو سليمان الدمشقي. ثم خوَّف كفار مكة بما بعد هذا إلى قوله: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ قرأ الجمهور «فنَقَّبوا» بفتح النون والقاف مع تشديدها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن عباس، والحسن، وابن السميفع، ويحيى بن يعمر كذلك، إلا أنهم كسروا القاف على جهة الأمر تهدُّداً. وقرأ عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وابن أبي عبلة، وعبيد عن أبي عمرو: «فنَقَبوا» بفتح القاف وتخفيفها. قال الفراء: ومعنى «فنقَّبوا» : ساروا في البلاد، فهل كان لهم من الموت مِنْ مَحِيصٍ فأُضمرت «كان» هاهنا، كقوله: أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ «3» أي: فلم يكن لهم ناصر. ومن قرأ «فنَقِّبوا» بكسر القاف، فإنه كالوعيد والمعنى: اذهبوا في البلاد وجيئوا فهل من الموت مِن مَحيص؟! وقال الزجاج: «نَقِّبوا» : طوِّقوا وفتِّشوا، فلم تَرَوا مَحيصاً من الموت. قال امرؤ القيس: لقَدْ نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الغنيمة بالإياب

_ لم أقف عليه، وهو غريب جدا. لم أره بهذا اللفظ، وصدره ليس له أصل، وأما عجزه فقد ورد مرفوعا بسند ضعيف. أخرجه أبو يعلى 1386 وأحمد 3/ 75 كلاهما عن أبي سعيد مرفوعا: «إن الرجل ليتكئ في الجنة مسيرة سبعين سنة قبل أن يتحول ثم تأتيه امرأة فتضرب على منكبيه ويسألها: من أنت؟ فتقول: أنا من المزيد ... » حسنه الهيثمي في «المجمع» 10/ 419 والسيوطي في «الدر» 6/ 127 مع أنّ فيه ابن لهيعة ضعيف، وشيخه درّاج في روايته عن أبي الهيثم ضعيف وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» 5645 بتخريجنا.

فأمّا المَحيص فهو الَمعْدلِ وقد استوفينا شرحه في سور النساء «1» . قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكره من إهلاك القرى لَذِكْرى أي: تذكرة وعِظَة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ قال ابن عباس: أي: عقل. قال الفراء: وهذا جائز في اللغة أن تقول: ما لَكَ قلب، وما معك قَلبُك، تريد العقل. وقال ابن قتيبة: لما كان القلب موضعاً للعقل كنى به عنه. وقال الزجاج: المعنى: لمن صرف قلبه إلى التفهُّم أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي: استَمَع مِنِّي وَهُوَ شَهِيدٌ أي: وقَلْبُه فيما يسمع. وقال الفراء: «وهو شهيد» أي: شاهد ليس بغائب. قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. (1343) ذكر المفسرون أن اليهود قالت: خَلَقَ اللهُ السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، آخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فلذلك لا نعمل فيه شيئا، فنزلت هذه الآيات، فأكذبهم الله عزّ وجلّ بقوله: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. قال الزجاج: واللُّغوب: التَّعب والإعياء. قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي: من بَهتهم وكذبهم. قال المفسرون: ونسخ معنى قوله: «فاصْبِر» بآية السيف وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: صَلِّ بالثَّناء على ربِّك والتنزيه له ممَّا يقول المُبْطِلون قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وهي صلاة الفجر. وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فيها قولان: أحدهما: صلاة الظهر والعصر، قاله ابن عباس. والثاني: صلاة العصر، قاله قتادة. (1344) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جرير بن عبد الله، قال: كُنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة البدر، فقال: «إنَّكم سَترُونَ ربَّكم عِيانا كما ترون هذا القمر، لا تُضَامُّونَ في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قَبْلَ طُلوع الشمس وقبل الغُروب فافعلوا» وقرأ: «فسبِّح بحمد ربِّك قبل طُلوع الشمس وقبل الغروب» . قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة الليل كلِّه، أيَّ وقت صلّى منه، قاله مجاهد. والثاني: صلاة العشاء، قاله ابن زيد. والثالث: صلاة المغرب والعشاء، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وخلف: بكسر الهمزة وقرأ الباقون بفتحها. قال الزجاج: من فتح ألف «أدبار» فهو جمع دُبُر، ومن كسرها فهو مصدر: أدبر يُدْبِر إدباراً. وللمفسرين في هذا التسبيح ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الرَّكعتان بعد صلاة المغرب، روي عن عمر، وعليّ، والحسن بن عليّ، رضي الله عنهم، وأبي هريرة، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنّخعيّ،

_ ضعيف جدا. أخرجه الواحدي في «أسباب النّزول» 769 من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس: أن اليهود أتت النّبي صلّى الله عليه وسلم ... فذكره. وإسناده ضعيف جدا لضعف أبي سعد، بل هو متروك. وأخرجه الطبري 31960 من طريق أبي سنان عن أبي بكر قال: جاءت اليهود النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: ... فذكره. وهذا معضل، وهو أصح من الموصول، والمتن منكر جدا بذكر نزول الآية، فإن السّورة مكية وسؤالات اليهود كانت في المدينة، وقد ورد نحو هذا الخبر بدون ذكر هذه الآية، وهو أصح. صحيح. أخرجه البخاريّ 4851 ومسلم 633 وأبو داود 4729 والتّرمذي 2551 وابن ماجة 177 والنسائي في «التفسير» 350 من حديث جرير، ولفظ «عيانا» ليس في «الصحيحين» .

[سورة ق (50) : الآيات 41 إلى 45]

وقتادة في آخرين، وهو رواية العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه النوافل بعد المفروضات، قاله ابن زيد. والثالث: أنه التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات، رواه مجاهد عن ابن عباس. وروي عن أبي الأحوص أنه قال في جميع التسبيح المذكور في هاتين الآيتين كذلك. [سورة ق (50) : الآيات 41 الى 45] وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «ينادي المُنادي» بياء في الوصل. ووقف ابن كثير بياءٍ، ووقف نافع وأبو عمرو بغير ياءٍ. ووقف الباقون ووصلوا بياءٍ. قال أبو سليمان الدمشقي: المعنى: واستمع حديث يوم ينادي المنادي. قال المفسرون: والمنادي: إسرافيل، يقف على صخرة بيت المقدس فينادي: يا أيها الناس هلُمُّوا إلى الحساب، إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء وهذه هي النفخة الأخيرة. والمكان القريب: صخرة بيت المقدس. قال كعب ومقاتل: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً. وقال ابن السائب باثني عشر ميلاً. قال الزجاج: ويقال: إن تلك الصخرة في وسط الأرض. قوله تعالى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ وهي هذه النَّفخة الثانية بِالْحَقِّ أي: بالبعث الذي لا شكَّ فيه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي: نُميت في الدنيا ونُحيي للبعث وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ بعد البعث، وهو قوله: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «تَشَّقَّقُ» بتشديد الشين وقرأ الباقون بتخفيفها سِراعاً أي: فيخرجون منها سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي: هَيِّنٌ. ثم عزَّى نبيَّه فقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ في تكذيبك، يعني كفار مكة وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ قال ابن عباس: لم تبعث لتجبرَهم على الاسلام إنما بُعثتَ مذكِّراً، وذلك قبل أن يؤمَر بقتالهم وأنكر الفراء هذا القول فقال: العرب لا تقول: «فَعَّال من أفْعَلتُ» ، لا يقولون: «خَرَّاج» يريدون «مُخْرِج» ولا «دخَّال» يريدون «مُدْخِل» ، إنما يقولون: «فَعَّال» من «فَعَلْتُ» ، وإنما الجَبَّار هنا في موضع السلطان من الجبرية، وقد قالت العرب في حرف واحد: «دَرَّاك» من «أدْرَكْتُ» وهو شاذ، فإن جعل هذا على هذه الكلمة فهو وجه. وقال ابن قتيبة: بِجَبَّارٍ أي: بمسلَّط. والجبَّار: الملِك، سمِّي بذلك لِتَجَبُّره، يقول: لستَ عليهم بملِك مُسَلَّط. قال اليزيدي: لستَ بمسلَّط فتَقْهَرهم على الإسلام. وقال مقاتل: لِتَقْتُلَهم. وذكر المفسرون أن قوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ منسوخ بآية السيف. قوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ أي: فَعِظْ به مَنْ يَخافُ وَعِيدِ وقرأ يعقوب: «وعيدي» بياءٍ في الحالين، أي: ما أَوعدتُ مَنْ عصاني من العذاب.

سورة الذاريات

سورة الذّاريات مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 23] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً يعني الرِّياح، يقال: ذَرَت الرِّيحُ الترابَ تَذْرُوه ذَرْواً: إذا فرَّقَتْه. قال الزجاج: يقال: ذَرَت فهي ذارية، وأذْرَت فهي مُذْرية، بمعنى واحد. وَالذَّارِياتِ، مجرورة على القَسَم، المعنى: أحْلفِ بالذّارياتِ وهذه الأشياء، والجواب إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، قال قوم: المعنى: وربِّ الذاريات، وربِّ الجاريات. قوله تعالى: فَالْحامِلاتِ وِقْراً يعني السحاب التي تحمل وِقْرها من الماء. فَالْجارِياتِ يُسْراً يعني السُّفن تجري ميسَّرة في الماء جَرياً سهلاً. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً يعني الملائكة تقسم الأمور على ما أمَر اللهُ به. قال ابن السائب: والمقسِّمات أربعة، جبريل، وهو صاحب الوحي والغِلظة، وميكائيل، وهو صاحب الرِّزق والرَّحمة، وإسرافيل، وهو صاحب الصُّور واللَّوح، وعزرائيل، وهو قابض الأرواح. وإنما أقسَم بهذه الأشياء لِما فيها من الدلالة على صُنعه وقُدرته. ثم ذكر المُقسَم عليه فقال: إِنَّما تُوعَدُونَ أي: من الثواب والعقاب يومَ القيامة لَصادِقٌ أي: لَحَقّ. وَإِنَّ الدِّينَ فيه قولان: أحدهما: الحساب. والثاني: الجزاء لَواقِعٌ أي: لَكائن. ثم ذكر قَسَماً آخر فقال: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين: «الحِبِكِ» بكسر الحاء والباء جميعاً. وقرأ عثمان بن عفان، والشعبي، وأبو العالية، وأبو حيوة: «الحِبْكِ» بكسر الحاء وإسكان الباء. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو رجاء، وابن أبي عبلة: «الحُبْكِ» برفع الحاء وإسكان الباء. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة: «الحَبَكِ» بفتح الحاء والباء جميعاً. وقرأ أبو الدرداء، وأبو الجوزاء، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «الحَبِكِ» بفتح الحاء وكسر الباء.

ثم في معنى «الحبك» أربعة أقوال: أحدها: ذات الخَلْق الحَسَن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: البُنيان المُتْقَن، قاله مجاهد. والثالث: ذات الزِّينة، قاله سعيد بن جبير. وقال الحسن: حُبُكها: نُجومها. والرابع: ذات الطرائق، قاله الضحاك واللغويون. وقال الفراء: الحُبُك: تَكَسُّر كلِّ شيء كالرَّمْل إذا مَرَّت به الرِّيح السّاكنة، والماء القائم إذا مَرّت به الرِّيح، والشَّعرةُ الجَعْدَة تكسُّرُها حُبُك، وواحد الحُبُك: حِباك وحَبِيكة. وقال الزجاج: أهل اللغة يقولون: الحُبُك: الطرَّائق الحَسَنة، والمَحْبُوك في اللغة: ما أُجيد عملُه، وكل ما تراه من الطَّرائق في الماء وفي الرَّمْل إذا أصابته الرِّيح فهو حُبُك. وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: هذه هي السماء السابعة. ثم ذكر جواب القَسَم الثاني، قال: إِنَّكُمْ يعني أهل مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم، بعضُكم يقول: شاعر، وبعضكم يقول: مجنون. وفي القرآن، بعضكم يقول: سِحْر، وبعضكم يقول: كَهانة ورَجَز، إلى غير ذلك. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: يُصْرَف عن الإيمان به مَن صُرِف فحُرِمَه. والهاء في «عنه» عائدة إلى القرآن، وقيل: يُصْرَف عن هذا القول، أي: من أجْله وسببه، عن الإيمان من صُرِف. وقرأ قتادة: «مَنْ أَفَكَ» بفتح الألف والفاء. وقرأ عمرو بن دينار: «مَنْ أَفِكَ» بفتح الألف وكسر الفاء. قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ قال الفراء: يعني: لُعن الكذّابون الذين قالوا: إن النبي صلّى الله عليه وسلم ساحر وكذَّاب وشاعر، خَرَصوا ما لا علم لهم به. وفي رواية العوفي عن ابن عباس: أنهم الكهنة. وقال ابن الأنباري: والقتل إذا أُخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي في عمىً وجهالة بأمر الآخرة ساهُونَ أي غافلون. والسَّهو: الغَفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه. يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء؟! تكذيبا منهم واستهزاء. ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ قال الزجاج: «اليومَ» منصوب على معنى: يقع الجزاء يومَ هُم على النّار يُفْتَنُونَ أي يُحرَقون ويعذَّبون، ومن ذلك يقال للحجارة السُّود التي كأنها قد أُحرقت بالنار: الفَتِين. قوله تعالى: ذُوقُوا المعنى: يقال لهم: ذوقوا فِتْنَتَكُمْ وفيها قولان: أحدهما: تكذيبكم، قاله ابن عباس. والثاني: حريقكم، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة: هاهنا تم الكلام، ثم ائتنف، فقال: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ قال المفسرون: يعني الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاء. ثم ذكر ما وعَد اللهُ لأهل الجنة فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وقد سبق شرح هذا «1» . قوله تعالى: آخِذِينَ قال الزجاج: هو منصوب على الحال، فالمعنى: في جنّات وعيون في حال أخذ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قال المفسرون: أي ما أعطاهم اللهُ من الكرامة إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ في أعمالهم. وفي الآية وجه آخر: «آخذين ما آتاهم ربُّهم» أي: عاملين بما أمرهم به من الفرائض «إنهم كانوا قبلَ» أن تفرض الفرائض عليهم، «محسِنين» أي: مطيعين، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مسلم البطين. ثم ذكر إحسانهم فقال: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ والهُجوع: النَّوم بالليل دون النهار. وفي «ما» قولان: أحدهما: النفي. ثم في المعنى قولان: أحدهما: كانوا يسهرون قليلاً من الليل. قال أنس بن مالك، وأبو العالية: هو ما بين المغرب والعشاء. والثاني: كانوا ما ينامون قليلا من اللّيل.

_ (1) البقرة: 25، الحجر: 45. [.....]

واختار قوم الوقف على قوله: «قليلاً» على معنى: كانوا من الناس قليلاً، ثم ابتدأ فقال: «من الليل ما يهجعون» على معنى نفي النوم عنهم البتَّة، وهذا مذهب الضحاك، ومقاتل. والقول الثاني: أن «ما» بمعنى الذي، فالمعنى: كانوا قليلاً من الليل الذي يهجعونه، وهذا مذهب الحسن، والأحنف بن قيس، والزهري. وعلى هذا يحتمل أن تكون «ما» زائدة. قوله تعالى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وقد شرحناه في آل عمران «1» . قوله تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي: نصيب، وفيه قولان: أحدهما: أنه ما يَصِلون به رَحِمًا، أو يَقْرون به ضيفاً، أو يحملون به كلاًّ، أو يُعينون به محروماً، وليس بالزَّكاة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الزكاة، قاله قتادة، وابن سيرين. قوله تعالى: لِلسَّائِلِ وهو الطالب. وفي «المحروم» ثمانية أقوال: أحدها: أنه الذي ليس له سهم في فيء المسلمين، وهو المُحارَف «2» ، قاله ابن عباس. وقال إبراهيم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة. والثاني: أنه الذي لا ينمى له شيء، قاله مجاهد، وكذلك قال عطاء: هو المحروم في الرِّزق والتجارة. والثالث: أنه المسلم الفقير، قاله محمد بن علي. والرابع: أنه المتعفِّف الذي لا يَسأل شيئاً، قاله قتادة، والزهري. والخامس: أنه الذي يجيء بعد الغنيمة، وليس له فيها سهم، قاله الحسن بن محمّد ابن الحنفية. والسادس: أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته، قاله ابن زيد. والسابع: أنه المملوك، حكاه الماوردي. والثامن: أنه الكَلْب، روي عن عمر بن عبد العزيز، وكان الشعبي يقول: أعياني أن أعلَم ما المحروم. وأظهر الأقوال قول قتادة والزهري، لأنه قرنه بالسائل، والمتعفِّف لا يَسأل- ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل- ثم يتحفظ بالتعفُّف من ظُهور أثر الفاقة عليه، فيكون محروما من قِبَل نفسه حين لم يَسأل، ومن قِبَل الناس حين لا يُعطونه، وإنما يفطن له متيقِّظ. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، ولا يصح. قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ كالجبال والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك لِلْمُوقِنِينَ بالله عزّ وجلّ الذين يعرفونه بصنعه. وَفِي أَنْفُسِكُمْ آياتٌ إذ كنتم نُطَفاً ثم عظاماً، ثم عَلَقاً، ثم مُضَغاً إلى غير ذلك من أحوال الاختلاف ثم اختلاف الصُّوَر والألوان والطبائع، وتقويم الأدوات، والسمع والبصر والعقل، وتسهيل سبيل الحدث، إلى غير ذلك من العجائب المودَعة في ابن آدم. وتمَّ الكلام عند قوله: وَفِي أَنْفُسِكُمْ، ثم قال: أَفَلا تُبْصِرُونَ قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خَلَقكم فتعرِفوا قُدرته على البعث. قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وحميد، وأبو حصين الأسدي: «أرْزاقُكم» براءٍ ساكنة، وبألف بين الزاي والقاف. وقرأ ابن مسعود، والضحاك، وأبو نهيك: «رازِقُكم» بفتح الراء وكسر الزّاي وبألف بينهما. وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين. وفيه قولان: أحدهما: أنه المطر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وليث عن مجاهد، وهو قول الجمهور. والثاني: الجنّة، رواه ابن نجيح عن مجاهد. وفي قوله: وَما تُوعَدُونَ قولان: أحدهما: أنه الخير والشر كلاهما يأتي من السماء، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني: الجنة، رواه ليث عن مجاهد. قال أبو

_ (1) آل عمران: 17. (2) في «القاموس» المحارف: المحدود والمحروم.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 إلى 37]

عبيدة: في هذه الآية مضمر مجازه: عند مَنْ في السماء رزقُكم، وعنده ما توعدون، والعرب تُضْمِر، قال نابغة ذبيان: كأنكَ مِنْ جِمالِ بَني أُقَيش ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ «1» أراد: كأنك جملٌ من جِمال بني أُقَيش. قوله تعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ قال الزجاج: يعني ما ذكره من أمر الآيات والرِّزق وما توعدون وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «مِثْلُ» برفع اللام. وقرأ الباقون بنصب اللام. قال الزجاج: فمن رفع «مِثْلُ» فهي من صفة الحق، والمعنى: إنه لَحَقٌ مِثْلُ نُطْقكم ومن نصب فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون في موضع رفع، إلا أنه لمّا أُضيف إلى «أنَّ» فُتح. والثاني: أن يكون منصوبا على التأكيد، على معنى: إنه لَحَقٌ حَقّاً مِثْلَ نُطقكم، وهذا الكلام كما تقول: إنه لَحَقٌ كما أنَّك تتكلّم. [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 37] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ «هل» بمعنى «قد» في قول ابن عباس، ومقاتل، فيكون المعنى: قد أتاك فاستمع نقصصه عليك، وضيفه: هم الّذين جاءوا بالبشرى. وقد ذكرنا عددهم في هود «2» ، وذكرنا هناك معنى الضَّيف. وفي معنى «المُكْرَمِينَ» أربعة أقوال: أحدهما: لأنه أكرمهم بالعِجْل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: بأن خدمهم هو وامرأته بأنفُسهما، قاله السدي. والثالث: أنهم مُكْرَمون عند الله، قاله عبد العزيز بن يحيى. والرابع: لأنهم أضياف، والأضياف مُكْرَمون، قاله أبو بكر الورَّاق. قوله تعالى: فَقالُوا سَلاماً قد ذكرناه في هود «3» . قوله تعالى: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قال الزجاج: ارتفع على معنى: أنتم قومٌ مُنْكَرونَ. وللمفسرين في سبب إنكارهم أربعة أقوال: أحدها: لأنه لم يعرفهم، قاله ابن عباس. والثاني: لأنهم سلَّموا عليه، فأنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض، قاله أبو العالية. والثالث: لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. والرابع: لأنه رأى فيهم صورة البشر وصورة الملائكة.

_ (1) في «القاموس» الشنّ: وبهاء القربة الخلق. (2) هود: 70. (3) هود: 70.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 إلى 51]

قوله تعالى: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ قال ابن قتيبة: أي: عَدَل إليهم في خُفْية، ولا يكون الرَّواغُ إلاَّ أن تُخْفِيَ ذهابَك ومَجيئك. قوله تعالى: فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ وكان مشويّاً فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قال الزجاج: والمعنى: فقرَّبه إليهم ليأكلوا منه، فلم يأكلوا، فقال: أَلا تَأْكُلُونَ؟! على النَّكير، أي: أمرُكم في ترك الأكل ممّا أُنْكِرُه. قوله تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قد شرحناه في هود «1» . وذكرنا معنى: «غلامٍ عليمٍ» في (الحجر) «2» . فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ وهي: سارة. قال الفراء وابن قتيبة: لم تُقْبِل مِن مَوضع إلى مَوضع، وإنما هو كقولك: أقبلَ يَشتُمني، وأقبل يَصيح ويتكلَّم أي: أخذ في ذلك، والصَّرَّة: الصَّيحة. وقال أبو عبيدة: الصَّرَّة: شِدة الصَّوت. وفيما قالت في صَيحتها قولان: أحدهما: أنها تأوّهت، قاله قتادة. والثاني: أنها قالت: يا ويلتا، ذكره الفراء. قوله تعالى: فَصَكَّتْ وَجْهَها فيه قولان: أحدهما: لطمتْ وجهها، قاله ابن عباس. والثاني: ضربتْ جبينها تعجُّباً، قاله مجاهد، ومعنى الصَّكِّ، ضَرْبُ الشيء بالشيء العريض. وَقالَتْ عَجُوزٌ قال الفراء: هذا مرفوع بإضمار «أتَلِدُ عجوزٌ» . وقال الزجاج: المعنى: أنا عجوز عقيمٌ، فكيف ألِدُ؟! وقد ذكرنا معنى «العقيم» في هود «3» . قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أنك ستَلِدين غُلاماً والمعنى: إنّما نخبرك عن الله عزّ وجلّ، وهو حكيم عليم يَقْدِر أن يَجعل العقيم وَلُوداً، فعَلِم حينئذ إبراهيمُ أنهم ملائكة. قالَ فَما خَطْبُكُمْ مفسر في الحجر «4» . قوله تعالى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ قال ابن عباس: هو الآجُرُّ. قوله تعالى: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ قد شرحناه في هود «5» . قوله تعالى: لِلْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس: للمشركين. قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها، أي: من قُرى لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وذلك قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ الآية «6» . فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وهو لوط وابنتاه، وصفهم الله عزّ وجلّ بالإيمان والإسلام، لأنه ما من مؤمِن إلا وهو مُسْلِم. وَتَرَكْنا فِيها آيَةً أي: علامة للخائفين من عذاب الله تَدُلُّهم على أن الله أهلكهم. وقد شرحنا هذا في العنكبوت «7» وبيّنّا المكني عنها. [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 51] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) قوله تعالى: وَفِي مُوسى اي وفيه ايضاً آية إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجّة ظاهرة

_ (1) هود: 70. (2) الحجر: 54. (3) هود: 72. (4) الحجر: 57. (5) هود: 83. (6) هود: 81. (7) العنكبوت: 35.

فَتَوَلَّى اي أعرَضَ بِرُكْنِهِ قال مجاهد: بأصحابه. وقال ابو عبيدة: «بِرُكْنه» و «بجانبه» سواء، إنما هي ناحيته وَقالَ ساحِرٌ اي وقال لموسى: هذا ساحر أَوْ مَجْنُونٌ وكان أبو عبيدة يقول: «أو» بمعنى الواو. فأمّا «الَيمُّ» فقد ذكرناه في الأعراف «1» و «مُليم» في الصافات «2» . قوله تعالى: وَفِي عادٍ اي في إهلاكهم آية ايضاً إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وهي التي لا خَير فيها ولا بَرَكة، لا تُلْقِح شجراً ولا تَحْمِل مطراً، وإنما هي للإهلاك. وقال سعيد بن المسيّب: هي الجَنُوب. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي من أنفُسهم وأموالهم إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ اي كالشيء الهالك البالي، قال الفراء: الرَّميم: نبات الأرض إذا يَبِس وَدِيس. وقال الزجاج: الرَّميم: الورَق الجافّ المتحطِّم مثل الهشيم. وَفِي ثَمُودَ آيةٌ ايضاً إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فيه قولان: أحدهما: أنه قيل لهم: تَمتَّعوا في الدُّنيا إلى وقت انقضاء آجالكم تهدُّداً لهم. والثاني: أن صالحاً قال لهم بعد عَقْر النّاقة: تَمتَّعوا ثلاثة أيام: فكان الحِين وقتَ فناء آجالهم، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ قال مقاتل: عصوا أَمْره فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ يعني العذاب، وهو الموت من صيحة جبريل. وقرأ الكسائي وحده: «الصَّعْقةُ» بسكون العين من غير الف وهي الصَّوت الذي يكون عن الصاعقة. قوله تعالى: وَهُمْ يَنْظُرُونَ فيه قولان: أحدهما: يَرَوْن ذلك عِياناً، والثاني: وهم ينتظرون العذاب فأتاهم صبيحة يومَ السبت. قوله تعالى: فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ فيه قولان: أحدهما: ما استطاعوا نُهوضاً من تلك الصَّرعة. والثاني: ما أطاقوا ثُبوتاً لعذاب الله وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين من العذاب. قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ قرأ أبو عمرو إلاّ عبد الوارث، وحمزة، والكسائي: بخفض الميم، وروى عبد الوارث رفع الميم. والباقون بنصبها. وقال الزجاج: من خفض (القوم) فالمعنى: وفي قومِ نوحٍ آيةٌ، ومن نصب فهو عطف على معنى قوله: «فأخذتْهم الصّاعقةُ» فإن معناه: أهلكْناهم، فيكون المعنى: وأهلَكْنا قومَ نوح، والأحسن- والله أعلم- أن يكون محمولاً على قوله: «فأخذْناه وجنوده فنبذنْاهم في اليمِّ» لأن المعنى: أغرقناه، وأغرقْنا قومَ نوح. وَالسَّماءَ بَنَيْناها المعنى: وبنينا السماء بنيناها بِأَيْدٍ أي بقْوَّة، وكذلك قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وسائر المفسرين واللغويين: «بأيد» اي: بقُوَّة. وفي قوله: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ خمسة أقوال: أحدها: لموسِعون الرِّزق بالمطر، قاله الحسن. والثاني: لموسِعون السماء، قاله ابن زيد. والثالث: لقادرون، قاله ابن قتيبة. والرابع: لموسِعون ما بين السماء والأرض، قاله الزجاج. والخامس: لذو سعة لا يضيق عمّا يريد، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ قال الزجاج: هذا عطفٌ على ما قبله منصوبٌ بفعل مُضْمر محذوف يدلُّ عليه قوله: «فرشْناها» فالمعنى فرشْنا الأرض فرشْناها «فنِعْم الماهدون» أي: فنِعْم الماهدون نحن. قال مقاتل: «فرشْناها» أي: بسطْناها مسيرة خمسمائة عام، وهذا بعيد، وقد قال قتادة: الأرضُ عشرون ألف فرسخ، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ اي: صِنفين ونَوعَين كالذكر والأنثى، والبرّ والبحر،

_ (1) الأعراف: 136. (2) الصافات: 142. [.....]

[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 إلى 60]

والليِّل والنَّهار، والحُلو والمُرِّ، والنُّور والظُّلمة، وأشباه ذلك لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلْموا أن خالق الأزواج واحد. فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بالتَّوبة من ذنوبكم والمعنى: اهْرُبوا ممّا يوجِب العِقاب من الكُفر والعِصيان إلى ما يوجِب الثَّواب من الطَّاعة والإيمان. [سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 60] كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) قوله تعالى: كَذلِكَ أي: كما كذَّبك قومُك وقالوا: ساحر أو مجنون كانوا من قبلك يقولون للأنبياء. قوله تعالى: أَتَواصَوْا بِهِ أي: أوْصى أوَّلُهم آخرَهم بالتكذيب؟، وهذا استفهام توبيخ. وقال أبو عبيدة: أتواطئوا عليه فأخذه بعضُهم من بعض؟!. قوله تعالى: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ اي: يحملُهم الطُّغيان فيا أُعطوا من الدُّنيا على التكذيب والمشار إِليهم اهل مكة. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فقد بلَّغْتَهم فَما أَنْتَ عليهم بِمَلُومٍ لأنَّك قد أدَّيت الرِّسالة. ومذهب أكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة ولهم في ناسخها قولان: أحدهما: أنه قوله: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. والثاني: آية السيف. وفي قوله: «وذكِّر» قولان: أحدهما: عِظْ، قاله مقاتل. والثاني: ذكِّرهم بأيّام الله وعذابه ورحمته، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أثبت الياء في «يعْبُدون» و «يُطْعِمون» و «لا يستعجِلون» في الحالين يعقوب. واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال: أحدها: إلاّ لآمُرهم أن يعبدوني، قاله عليُّ بن أبي طالب، واختاره الزجاج. والثاني: إلا لِيُقِرُّوا بالعُبودية طوْعاً وكرْهاً، قاله ابن عباس وبيان هذا قوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» . والثالث: أنه خاصّ في حقِّ المؤمنين. قال سعيد بن المسيّب: ما خلقتُ منْ يعبُدني إلا ليعبُدَني. وقال الضحاك والفراء وابن قتيبة: هذا خاصّ لأهل طاعته، وهذا اختيار القاضي ابي يعلى فإنه قال: معنى هذا الخصوصُ لا العمومُ، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخُلون تحت الخطاب وإن كانوا من الإنس فكذلك الكُفَّار يخرُجون من هذا بدليل قوله: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «2» ، فمن خُلق للشَّقاء ولجهنَّم لم يخلق للعبادة. والرابع: إلا ليخضعوا إليَّ ويتذللَّوا، ومعنى العبادة في اللغة: الذُّلُّ والانقياد. وكُلُّ الخلْق خاضعٌ ذليل لقضاء الله عزّ وجلّ، لا يملك خروجا عمّا قضاه الله عزّ وجلّ، هذا مذهب جماعة من أهل المعاني. قوله تعالى: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي: ما أُريدُ أن يرزُقوا أنفسهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي أن يُطْعِموا أحداً من خَلْقي، لأنِّي أنا الرَّزّاق. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيالُ الله، ومن أطعمَ عِيالَ أحد فقد أطعمه.

_ (1) الزخرف: 87. (2) الأعراف: 179.

(1345) وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عزّ وجلّ يوم القيامة. يا ابن آدم: استطعمتُكَ فلم تُطْعِمْني» ، اي: لم تُطْعِم عبدي. فأما الرَّزَّاقُ فقرأ الضحاك، وابن محيصن: «الرّازق» بوزن «العالِم» . قال الخطابي: هو المتكفِّل بالرِّزق القائمُ على كل نَفْس بما يُقيمها من قُوتها. والْمَتِينُ الشديد القُوَّة الذي لا تنقطع قُوَّته ولا يَلحقه في أفعاله مَشقَّة. وقد روى قتيبة عن الكسائي أنه قرأ: «المتينِ» بكسر النون. وكذا قرأ أبو رزين، وقتادة، وأبو العالية، والأعمش. قال الزجاج: ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ أي: ذو الاقتدار الشديد، ومن رفع «المتين» فهو صفة الله عزّ وجل، ومن خفضه جعله صفة للقُوة، لأن تأنيث القُوَّة كتأنيث المُوعظة، فهو كقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «1» . قوله تعالى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يعني مشركي مكة ذَنُوباً أي: نصيباً من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ الذين أُهلكوا، كقوم نوح وعاد وثمود. قال الفراء: الذَّنوب في كلام العرب: الدَّلْوُ العظيمة، ولكن العرب تذهب بها إلى النَّصيب والحظِّ، قال الشاعر: لَنا ذَنُوبٌ وَلكُمْ ذَنُوبُ ... فإِنْ أَبَيْتُم فَلَنا الْقَلِيبُ «2» والذَّنوب، يُذَكَّر ويؤنَّث. وقال ابن قتيبة، أصل الذَّنوب: الدَّلو العظيمة، وكانوا يَستقون، فيكون لكل واحدٍ ذَنوبٌ، فجُعل «الذَّنوب» مكان «الحظّ والنصيب» . قوله تعالى: فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي: بالعذاب إن أُخِّروا إلى يوم القيامة، وهو يومهم الذي يوعدون، ويقال: هو يوم بدر.

_ صحيح. وهذا اللفظ جزء من حديث طويل أخرجه مسلم 2569.

سورة الطور

سورة الطّور وهي مكّيّة كلها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) قوله تعالى: وَالطُّورِ هذا قَسم بالجبل الذي كلّم الله عزّ وجلّ عليه موسى عليه السلام، وهو بأرض مَدْين واسمه زَبير. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ أي: مكتوب، وفيه أربعة أقوال: أحدها: أنه اللوح المحفوظ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: كتب أعمال بني آدم، قاله مقاتل والزجاج. والثالث: التوراة. والرابع: القرآن، حكاهما الماوردي. قوله تعالى: فِي رَقٍّ قال أبو عبيدة: الرَّقُّ: الوَرَق. فأما المنشور فهو المبسوط. قوله تعالى: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فيه قولان: أحدهما: أنه بيت في السماء. وفي أي سماء هو؟ فيه ثلاثة أقوال: (1346) أحدها: أنه في السماء السابعة، رواه أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. (1347) وحديث مالك بن صعصعة الذي أُخرج في «الصحيحين» يدل عليه. والثاني: أنه في السماء السادسة، قاله عليّ رضي الله عنه. (1348) والثالث: أنه في السماء الدنيا، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: هو

_ أخرجه الحاكم 2/ 117 والبيهقي في «الشعب» 3993 والطبري 32301 من حديث أنس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، ويشهد له ما بعده. صحيح. أخرجه البخاري 3207 ومسلم 1/ 149 والطبري 32287 عن أنس عن مالك بن صعصعة مرفوعا، في أثناء حديث الإسراء المطوّل، وتقدّم في أوائل سورة الإسراء. لا أصل له في المرفوع. أخرجه العقيلي 2/ 59- 60 وابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» 4/ 282، وابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 147 من حديث أبي هريرة، ساقه العقيلي في ترجمة روح بن جناح، وقال: لا يتابع عليه، وقال ابن حبان في ترجمته: يروي عن الثقات ما إذا سمعها الإنسان الذي ليس

حيال الكعبة يحُجُّه كُلَّ يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون فيه حتى تقوم الساعة، يسمى الضُّراح. وقال الربيع بن أنس: كان البيت المعمور مكان الكعبة في زمان آدم، فلمّا كان زمن نوح أمر الناس بحجِّه، فعصوه فلمّا طغى الماءُ رُفع فجُعل بحذاء البيت في السماء الدنيا. والثاني: أنه البيت الحرام، قاله الحسن، وقال أبو عبيدة: ومعنى «المعمور» : الكثير الغاشية. قوله تعالى: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ فيه قولان: أحدهما: أنه السماء، قاله عليّ رضي الله عنه والجمهور. والثاني: العرش، قاله الربيع. قوله تعالى: وَالْبَحْرِ فيه قولان. أحدهما: أنه بحر تحت العرش ماؤه غليظ يُمْطَر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتُون في قبورهم، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أنه بحر الأرض، ذكره الماوردي. وفي الْمَسْجُورِ أربعة أقوال: أحدها: المملوء، قاله الحسن وأبو صالح وابن السائب وجميع اللغويين. والثاني: أنه المُوقد، قاله مجاهد، وابن زيد. وقال شمر بن عطية: هو بمنزلة التنور المسجور. والثالث: أنه اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب، قاله أبو العالية. وروي عن الحسن، قال: تسجر، يعني البحار، حتى يذهب ماؤها فلا يبقى فيها قطرة. وقول هذين يرجع إلى معنى قول مجاهد. (1349) وقد نقل في الحديث أن الله تعالى يجعل البحار كلَّها ناراً، فتزاد في نار جهنم. والرابع: أن «المسجور» المختلط عذْبه بمِلحه، قاله الربيع بن أنس. فأقسم اللهُ تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن تعذيب المشركين حق، فقال: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ أي: لكائن في الآخرة. ثم بيَّن متى يقع، فقال: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: تدور دَوْراً رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وهو اختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج. والثاني: تحرَّكُ تحرُّكاً، رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال أبو عبيدة «تمور» أي: تَكفّأُ، وقال الأعشى. كأنَّ مِشْيتَها مِنْ بيْتِ جارَتِها ... مَوْرُ السَّحابةِ لا ريْثٌ ولا عَجَلُ والثالث: يموج بعضها في بعض لأمر الله تعالى، قاله الضحاك. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله: الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) أي: يخوضون في حديث محمّد صلّى الله عليه وسلم بالتّكذيب والاستهزاء، ويلهون بذكره، فالويل لهم يَوْمَ يُدَعُّونَ قال ابن قتيبة: أي: يُدْفعون، يقال: دععْتُه أدُعُّه أي: دفعته، ومنه قوله يَدُعُّ الْيَتِيمَ «2» ، قال ابن عباس: يدفع في

_ بالمتبحر في صناعة الحديث شهد لها بالوضع. وقال ابن الجوزي رحمه الله: هذا حديث لا يتهم به إلا روح بن جناح، قال الحافظ عبد الغني: هذا حديث منكر، ليس له أصل عن الزهري، ولا عن سعيد ولا عن أبي هريرة، ولا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من هذه الطريق ولا من غيرها اه. ونقل الذهبي في «الميزان» 2799 عن أبي أحمد الحاكم قوله: حديث في البيت المعمور لا أصل له. غريب مرفوعا. وقد ذكره البغوي في «تفسيره» 237 بقوله وروي من غير عزو لأحد. وذكره الزمخشري في «الكشاف» 4/ 411 أيضا بقوله روي من غير عزو لأحد ولم يخرجه الحافظ، وهذا دليل على أنه غير مرفوع. والله أعلم.

[سورة الطور (52) : الآيات 17 إلى 20]

أعناقهم حتى يردوا النّار. وقال مقاتل: تُغلُّ أيديهم إلى أعناقهم وتُجْمعُ نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يُدفعون إلى جهنم على وجوههم، حتى إذا دَنوا منها قالت لهم خزنتُها: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) في الدنيا أَفَسِحْرٌ هذا العذاب الذي ترون؟ فإنكم زعمتم أن الرُّسل سحرةٌ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ النار؟ فلمّا أُلقوا فيها قال لهم خزنتُها: اصْلَوْها. وقال غيره: لمّا نسبوا محمّدا صلّى الله عليه وسلم إلى أنه ساحر يغطِّي على الأبصار بالسِّحر، وُبِّخوا عند رؤية النار بهذا التوبيخ، وقيل: اصْلَوْها أي: قاسوا شِدَّتها فَاصْبِرُوا على العذاب أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ الصَّبر والجزع إِنَّما تُجْزَوْنَ جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والتكذيب. [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 20] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) ثم وصف ما للمؤمنين بما بعد هذا، وقوله: فَكِهِينَ قرئت بألف وبغير ألف. وقد شرحناها في يس «1» ، وَوَقاهُمْ أي: صرف عنهم، والْجَحِيمِ مذكور في البقرة «2» . كُلُوا أي يقال لهم: كُلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً تأمنون حدوث المرض عنه. قال الزّجّاج: المعنى: لينهكم ما صِرتم إليه، وقد شرحنا هذا في سورة النساء. ثم ذكر حالهم عند أكلهم وشربهم، فقال: مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ وقال ابن جرير: فيه محذوف تقديره: على نمارق على سُرُر، وهي جمع سرير مَصْفُوفَةٍ قد وُضع بعضُها إلى جنْب بعض. وباقي الآية مفسَّر في سورة الدّخان «3» . [سورة الطور (52) : الآيات 21 الى 28] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) قوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي،: «واتَّبعْتهم» بالتاء «ذُرِّيَّتُهم» واحدة بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ واحدة أيضاً. وقرأ نافع: «واتَّبعتْهم ذُرِّيَّتُهم» واحدة «بهم ذُرِّيَّاتِهم» جمعاً. وقرأ ابن عامر: «وأَتْبعْناهم ذُرِّيَّاتِهم» «بهم ذُرِّيّاتِهم» جمعاً في الموضعين. واختلفوا في تفسيرها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها: واتَّبعتهم ذريتُهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم من المؤمنين في الجنة وإن كانوا لم يبلُغوا أعمال آبائهم تكرمةً من الله تعالى لآبائهم المؤمنين باجتماع أولادهم معهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: واتَّبعتهم ذريتُهم بإيمان، أي: بلغت أن آمنتْ، ألحقنا بهم ذُرِّيَّتهم الصِّغار الذين لم يبلُغوا الإيمان. وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. ومعنى هذا القول، أن أولادهم الكبار، تبعوهم بإيمان منهم، وأولادهم الصغار تبعوهم

_ (1) يس: 55. (2) البقرة: 119. (3) الدخان: 54.

بإيمان الآباء، لأن الولد يُحكم له بالإسلام تبعاً لوالده. والثالث: «وأتبَعْناهم ذُرِّياتهم» بإيمان الآباء فأدخلناهم الجنة، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. قوله تعالى: وَما أَلَتْناهُمْ قرأ نافع: وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم وحمزة، والكسائي: «وما ألَتْناهم» بالهمزة وفتح اللام. وقرأ ابن كثير: «ما ألِتْناهم» بكسر اللام. وروى ابن شنبوذ عن قنبل عنه «وما لتناهم» بإسقاط الهمزة مع كسر اللام. وقرأ أبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بإسقاط الهمزة مع فتح اللام. وقرأ ابن السميفع «وما آلَتْناهم» بمد الهمزة وفتحها. وقرأ الضّحّاك، وعاصم الجحدري: «وما ولتناهم» بواو مفتوحة من غير همزة وبنصب اللام. وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل: «وما أَلَتُّهُمْ» مثل: جَعلتُهم. وقد ذكرنا هذه الكلمة في الحجرات «1» ، والمعنى: ما نَقَصْنا الآباء بما أعطَيْنا الذّرّيّة. كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي: مُرْتَهَن بعمله لا يؤاخذ أحدٌ بذَنْب أحد، وقيل: هذا الكلام يختصُّ بصفة أهل النار، وذلك الكلام قد تَمَّ. قوله تعالى: وَأَمْدَدْناهُمْ قال ابن عباس: هي الزيادة على الذي كان لهم. قوله تعالى: يَتَنازَعُونَ قال أبو عبيدة: أي: يتعاطَون ويتداولون: وأنشد الأخطل: نازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الْشَّمُولِ وقَدْ ... صَاحَ الدَّجاجُ وحانَتْ وَقْعَةُ الْسّاري قال الزَّجَّاج: يتناول هذا الكأسَ من يد هذا، وهذا من يد هذا. فأمّا الكأس فقد شرحناها في الصافات «2» . قوله تعالى: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «لا لَغْوَ فيها ولا تأثيمَ» نصباً، وقرأ الباقون: «لا لَغْوٌ فيها ولا تأثيمٌ» رفعاً منوَّناً، قال ابن قتيبة: أي لا تَذهبُ بعقولهم فيَلْغُوا ويَرْفُثوا فيأثموا كما يكون ذلك في خمر الدنيا. وقال غيره: التأثيم: تفعيل من الإثم، يقال: آثمه: إذا جعله ذا إثم. والمعنى أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ في الحُسن والبياض لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي: مصونٌ لمْ تَمَسَّه الأيدي. (1350) وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقيل: يا نبيَّ الله، هذا الخادم، فكيف المخدوم؟ فقال: «إنَّ فَضْل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» . قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قال ابن عباس: يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من الخوف والتعب، وهو قوله: قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا أي: في دار الدنيا مُشْفِقِينَ أي: خائفين من العذاب، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ أي: عذاب النار. وقال الحسن: السَّموم من أسماء جهنم. وقال غيره: سَموم جهنم، وهو ما يوجد من نَفْحها وَحرِّها، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ أي: نوحِّده ونُخْلِص له إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ وقرأ نافع والكسائي: «أنَّه» بفتح الهمزة. وفي معنى «البَرِّ» ثلاثة أقوال: أحدها: الصادق فيما وعد، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: اللطيف، رواه

_ ضعيف جدا. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 3012 والطبري 3237 من طريق معمر عن قتادة مرسلا، وبصيغة التمريض. وعامة مراسيل قتادة في التفسير إنما هي عن الحسن، ومراسيل الحس واهية.

[سورة الطور (52) : الآيات 29 إلى 34]

ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عَمَّ بِبِرِّه جميع خَلْقه، قاله أبو سليمان الخطابي. [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 34] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) قوله تعالى: فَذَكِّرْ أي: فَعِظ بالقرآن فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي: بإنعامه عليك بالنبوَّة بِكاهِنٍ وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويُخْبِر عمّا في غد من غير وحي. والمعنى: إنما تَنْطِق بالوحي لا كما يقول فيك كفار مكة. أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ أي: هو شاعر. وقال أبو عبيدة: «أم» بمعنى «بل» ، قال الأخطل: كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلام مِنَّ الرَّبابِ خَيالاَ لم يستفهم، إنما أوجب أنه رأى. قوله تعالى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ فيه قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس. والثاني: حوادث الدهر، قاله مجاهد، قال ابن قتيبة: حوادث الدهر وأوجاعه ومصائبه، و «المَنون» الدهر، قال أبو ذؤيب: أمِنَ المَنُونِ ورَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... والدَّهْرُ ليْسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ هكذا أنشدنَاه أصحابُ الأصمعيّ عنه، وكان يذهب إلى أن المَنونَ الدَّهْرُ، قال: وقوله «والدَّهْرُ ليس بمُعْتِبٍ» يدُلُّ على ذلك، كأنه قال: «أمِنَ الدِّهْرُ ورَيْبِهِ تتَوَجَّعُ؟!» قال الكسائيُّ: العرب تقول: لا أكلِّمك آخِرَ المَنون، أي: آخِرَ الدَّهْر. قوله تعالى: قُلْ تَرَبَّصُوا أي: انتظِروا بي ذلك فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي: من المُنتظِرين عذابَكم، فعُذِّبوا يومَ بدر بالسيف. وبعض المفسرين يقول: هذا منسوخ بآية السيف، ولا يصح، إِذ لا تضادّ بين الآيتين. قوله تعالى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا قال المفسرون: كانت عظماء قريش توصَف بالأحلام، وهي العُقول، فأزرى اللهُ بحُلومهم، إذ لم تُثمِر لهم معرفةَ الحق من الباطل. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومِك لم يؤمِنوا وقد وصفهم اللهُ تعالى بالعُقول؟! فقال: تلك عُقول كادها بارئُها، أي: لمْ يَصْحَبْها التَّوفيقُ. وفي قوله: أَمْ تَأْمُرُهُمْ وقوله أَمْ هُمْ قولان: أحدهما: أنهما بمعنى «بل» قاله أبو عبيدة. والثاني: بمعنى ألف الاستفهام، قاله الزجاج: قال: والمعنى: أتأمُرُهم أحلامُهم بترك القَبول ممَّن يدعوهم إلى التوحيد ويأتيهم على ذلك بالدَّلائل، أم يكفُرون طُغياناً وقد ظهر لهم الحق؟! وقال ابن قتيبة: المعنى: أم تدُلُّهم عقولُهم على هذا؟! لأن الحِلم يكون بالعقل، فكني عنه به. قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي افتَعَل القرآنَ من تِلقاء نَفْسه؟ والتَّقوُّل: تكلُّف القول، ولا يستعمل إلاّ في الكذب بَلْ أي ليس الأمر كما زعموا لا يُؤْمِنُونَ بالقرآن استكباراً. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ في نَظْمه وحُسن بيانه. وقرأ أبو رجاء وأبو نهيك ومورّق العجلي وعاصم الجحدري: «بحديثِ مِثْلِه» بغير تنوين إِنْ كانُوا صادِقِينَ أنّ محمّدا تقوّله.

[سورة الطور (52) : الآيات 35 إلى 43]

[سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 43] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فيه أربعة أقوال: أحدها: أَمْ خُلقوا من غير ربٍّ خالق؟ والثاني: أَمْ خُلقوا من غير آباءٍ ولا أُمَّهات، فهم كالجماد لا يعقِلون؟ والثالث: أَمْ خُلقوا من غير شيء كالسماوات والأرض؟ أي: إنهم ليسوا بأشَدَّ خَلْقاً من السماوات والأرض. لأنها خُلقت من غير شيء، وهم خُلقوا من آدم، وآدم من تراب. والرابع: أَمْ خُلقوا لغير شيء؟ فتكون «مِنْ» بمعنى اللام. والمعنى: ما خُلقوا عَبَثاً فلا يؤمَرون ولا يُنْهَون. قوله تعالى: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ فلذلك لا يأتمرون ولا ينتهون؟ لأن الخالق لا يؤمر ولا يُنهى. قوله تعالى: بَلْ لا يُوقِنُونَ بالحق، وهو توحيدُ الله وقدرته على البعث. قوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: المطر والرِّزق، قاله ابن عباس. والثاني: النُّبوَّة، قاله عكرمة. والثالث: عِلْم ما يكون من الغيب، ذكره الثعلبي، وقال الزجاج: المعنى: أعندهم ما في خزائن ربِّك من العِلْم، وقيل: من الرِّزق، فهم مُعْرِضون عن ربِّهم لاستغنائهم؟!. قوله تعالى: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ قرأ ابن كثير: «المُسيطِرونَ» بالسين. وقال ابن عباس: المسلَّطون. قال أبو عبيدة: «المصيطرون» : الأرباب. يقال تسيطرت عليّ، اتَّخذتَني خَوَلاً، قال: ولم يأت في كلام العرب اسم على «مُفَيْعِل» إلا خمسة أسماء: مُهَيْمِن، ومُجَيْمِر ومُسَيْطِر ومُبَيْطِر ومُبَيْقِر. فالمُهيْمن: الله الناظر المُحصي الذي لا يفوته شيء. ومُجَيْمر: جبل: والمُسَيْطِر: المسلَّط ومُبَيْطِر: بَيْطار والمُبَيْقِر: الذي يخرُج من أرض إلى أرض، يقال: بَيْقَرَ: إذا خرج من بلد إلى بلد، قال امرؤ القيس: أَلا هَلْ أَتاهَا والحوادِثُ جَمَّةٌ ... بأنَّ امْرأَ القَيْس بنَ تَمْلِك بَيْقَرا؟ قال الزجّاج: المسيطِرون: الأرباب المسلَّطون، يقال: قد تسيطر علينا وتصيطر: بالسين والصاد، والأصل السين، وكل سين بعدها طاء، فيجوز أن تُقلب صاداً، تقول: سطر وصطر، وسطا علينا وصطا. قال المفسرون: معنى الكلام: أم هم الأرباب فيفعلون ما شاؤوا ولا يكونون تحت أمر ولا نهى؟! قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ أي: مَرْقَىً ومصْعدٌ إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي: عليه الوحي، كقوله: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «1» ، فالمعنى: يستمِعونَ الوحي فيعلمون أنَّ ما هُم عليه حق فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ إِن ادَّعى ذلك بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي، بحُجَّة واضحة كما أتى محمد بحُجَّة على قوله. أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ هذا إنكار عليهم حين جَعلوا لله البنات. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي: هل سألتهم أجراً على ما جئتَ به، فأثقلهم ذلك الذي تطلبه منهم فمنعهم عن الاسلام؟ والمَغْرمَ بمعنى الغُرْم، وقد شرحناه في براءة «2» .

_ (1) طه: 71. (2) التوبة: 98.

[سورة الطور (52) : الآيات 44 إلى 49]

قوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ هذا جواب لقولهم: «نَتربَّص به ريْبَ المَنون» والمعنى: أعندهم الغيب؟ وفيه قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه ويخبِرون الناس. قاله ابن عباس. والثاني: أعندهم عِلْم الغيب فيَعلمون أنّ محمّدا يموت قبلهم فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي، يحكُمون فيقولون: سَنقْهَرُك. والكتاب: الحكم. (1351) ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «سأقضي بينكما بكتاب الله» أي: بحُكم الله عزّ وجلّ وإلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة. قوله تعالى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً وهو ما كانوا عزموا عليه في دار النَّدوة وقد شرحنا ذلك في قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» ومعنى هُمُ الْمَكِيدُونَ هم المجزيّون بكيدهم، ولأنّ ضرر ذلك عاد عليهم فقُتلوا ببدر وغيرها. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ أي ألَهُم إله يرزقهم ويحفظهم غيرُ الله؟ والمعنى أن الأصنام ليست بآلهة لأنها لا تنفع ولا تدفع. ثم نزَّه نَفْسه عن شرِكهم بباقي الآية. [سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49] وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) ثم ذكر عنادهم فقال: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً والمعنى: لو سقط بعضُ السماء عليهم، لَمَا انتهوا عن كفرهم، ولَقالوا: هذه قطعة من السّحاب قد ركم بعضُه على بعض. فَذَرْهُمْ أي خَلِّ عنهم حَتَّى يُلاقُوا قرأ أبو جعفر «يَلْقَوا» بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف يَوْمَهُمُ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم موتهم. والثاني: يوم القيامة. والثالث: يوم النَّفخة الأولى. قوله تعالى: يُصْعَقُونَ قرأ عاصم، وابن عامر: «يُصْعَقُون» برفع الياء، من أصعَقَهم غيرُهم، والباقون بفتحها، من صعقوا هم. وفي قوله: يُصْعَقُونَ قولان: أحدهما: يموتون. والثاني: يغشى عليهم، كقوله: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً «2» ، وهذا يخرج على قول من قال: هو يوم القيامة، فإنهم يُغْشى عليهم من الأهوال. وذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا يصح، لأن معنى الآية الوعيد. قوله تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً هذا اليوم الأول: والمعنى: لا ينفعهم مكرهم، ولا يدفع عنهم العذاب وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي: يُمْنعون من العذاب: قوله تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي: قبْل ذلك اليوم وفيه أربعة أقوال «3» : أحدها: أنه عذاب القبر، قاله البراء، وابن عباس.

_ صحيح. أخرجه البخاري 2724 و 6633 ومسلم 1697 ومالك 2/ 882 من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في أثناء خبر العسيف. وتقدم في سورة النساء والنور.

والثاني: عذاب القتل يوم بدر، وروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل. والثالث: مصائبهم في الدنيا، قاله الحسن، وابن زيد. والرابع: عذاب الجوع، قاله مجاهد. قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: لا يعلمون ما هو نازلٌ بهم. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: لما يحكُم به عليك فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا قال الزجّاج: فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، فلا يصِلون إلى مكروهك. وذكر المفسرون: أن معنى الصبر نُسخ بآية السيف، ولا يصح، لأنه لا تضادَّ. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ فيه ستة أقوال: أحدها: صلِّ لله حين تقوم من منامك، قاله ابن عباس. والثاني: قُلْ: سبحانك اللهمَّ وبحمدك حين تقوم من مجلسك، قاله عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد في آخرين. والثالث: قل: سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جُّدك ولا إله غيرك حين تقوم في الصلاة، قاله الضحاك. والرابع: سبِّح الله إذا قُمْت من نومك، قاله حسّان بن عطيّة. والخامس: صلِّ صلاة الظُّهر إذا قُمْت من نوم القائلة، قاله زيد بن أسلم. والسادس: اذْكُر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخُل في الصلاة، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ قال مقاتل: صلِّ المغرب وصلِّ العِشاء وَإِدْبارَ النُّجُومِ قرأ زيد عن يعقوب، وهارون عن أبي عمرو، والجعفي عن أبي بكر: «وأدبار النُّجوم» بفتح الهمزة وقرأ الباقون بكسرها وقد شرحناها في «ق» «1» والمعنى: صلِّ له في إدبار النجوم، أي: حين تُدْبِر، أي: تغيب بضَوء الصُّبح. وفي هذه الصلاة قولان: (1352) أحدهما: أنها الرَّكعتان قَبْل صلاة الفجر، رواه عليّ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وهو قول الجمهور. والثاني: أنها صلاة الغداة، قاله الضّحّاك، وابن زيد.

_ لم أقف عليه في شيء من كتب الحديث والتفسير، فهو لا شيء لخلوه عن كتب الأصول. وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 152 لأبي هريرة قوله، ونسبه لابن مردويه.

سورة النجم

سورة النّجم وهي مكّيّة بإجماعهم، إلّا أنه قد حكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إِلا آية منها، وهي الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ «1» وكذلك قال مقاتل (1353) قال: وهذه أول سورة أعلنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكّة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى هذا قسم. وفي المراد بالنجم خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه الثُّريّا، رواه العوفي عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن قتيبة: والعرب تسمي الثريا- وهي ستة أنجُم- نجماً. وقال غيره: هي سبعة، فستة ظاهرة، وواحد خفي يمتحن به الناسُ أبصارَهم. والثاني: الرُّجوم من النُّجوم، يعني ما يرمى به الشياطين، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنه القرآن نزل نجوماً متفرِّقة، قاله عطاء عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد. وقال مجاهد: كان ينزل نجوماً ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك. والرابع: نجوم السماء كُلِّها، وهو مروي عن مجاهد أيضاً. والخامس: أنها الزُّهَرةُ: قاله السدي. فعلى قول من قال: النجم: الثريا، يكون «هوى» بمعنى «غاب» ومن قال: هو الرُّجوم، يكون هُوِيُّها في رمي الشياطين، ومن قال: القرآن، يكون معنى «هوى» : نزل، ومن قال: نجوم السماء كلِّها، ففيه قولان: أحدهما: أن هُوِيَّها أن تغيب. والثاني: أن تنتثر يوم القيامة. قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلَّها بفتح أواخر آياتها. وقرأ أبو عمرو ونافع بين الفتح والكسر. وقرأ حمزة والكسائي ذلك كلَّه بالإمالة.

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية. وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 153 لابن مردويه عن ابن مسعود، وابن مردويه يروي الواهيات والموضوعات.

[سورة النجم (53) : الآيات 5 إلى 18]

قوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ هذا جواب القَسَم والمعنى: ما ضَلَّ عن طريق الهُدى، والمراد به: رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي: ما يتكلَّم بالباطل. وقال أبو عبيدة: «عن) بمعنى الباء. وذلك أنهم قالوا: إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه. إِنْ هُوَ أي: ما القرآنُ إِلَّا وَحْيٌ من الله يُوحى وهذا ممّا يحتجّ به من لا يجيز للنبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يجتهد، وليس كما ظنُّوا، لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي، جاز أن ينسب إلى الوحي. [سورة النجم (53) : الآيات 5 الى 18] عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل عليه السلام علّم النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال ابن قتيبة: وأصل هذا من «قُوَى الحَبْل» وهي طاقاتُه، الواحدة: قُوَّةٌ ذُو مِرَّةٍ أي: ذو قُوَّة، وأصل المِرَّة: الفَتْلُ. قال المفسرون: وكان من قُوَّته أنه قلع قَرْيات لوط وحملها على جناحه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين. قوله تعالى: فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى فيه قولان: أحدهما: فاستوى جبريل، (وهو) يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لمّا أُسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله الفرّاء. والثاني: فاستوى جبريل، و (هو) يعني جبريل. بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية. (1354) لأنه كان يتمثّل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجُل، وأحبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يراه على حقيقته، فاستوى في أفق المَشْرِق، فملأ الأفق. فيكون المعنى: فاستوى جبريلُ بالأفق الأعلى في صورته، هذا قول الزجَّاج. قال مجاهد: والأفق الأعلى: هو مَطْلِع الشمس. وقال غيره: إنما قيل له: «الأعلى» لأنه فوق جانب المَغْرب في صعيد الأرض لا في الهواء. قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى قال الفراء: المعنى: ثم تَدلَّى فدنا، ولكنه جائز أن تقدِّم أيَّ الفعلين شئتَ إذا كان المعنى فيهما واحداً، فتقول: قد دنا فقَربُ، وقَرُبَ فدنا، وشتم فأساء، وأساء فشتم، ومنه قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «1» ، المعنى- والله أعلم-: انشق القمر واقتربت الساعة. قال

_ ساقه المصنف بمعناه. ورد من حديث مسروق عن عائشة: أخرجه البخاري 3235 ثنا أبي أسامة ثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشرع به. وأخرجه مسلم 177 ح 290 والطبري 32450 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 921 وأبو عوانة 1/ 155 من طريق أبي أسامة بهذا الإسناد. وأخرجه البخاري 4612 و 4855 و 7380 و 7531 ومسلم 177 ح 189 وأحمد 6/ 49 وأبو عوانة 1/ 154 من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي به. وأخرجه مسلم 177 ح 287 و 288 والترمذي 3068 والنسائي في «التفسير» 428 و 552 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 221- 224 وأبو يعلى 4900 وابن حبان 60 والطبري 32475 وابن مندة في «الإيمان» 763 و 766 وأبو عوانة 1/ 153 و 154 من طرق عن داود بن أبي هند عن الشعبي به. وأخرجه الترمذي 3278-

ابن قتيبة، المعنى: تَدلَّى فدنا، لأنه تَدَلَّى للدُّنُوِّ، ودنا بالتَّدلِّي، وقال الزجاج: دنا بمعنى قَرُبَ، وتدلى: زاد في القُرْب، ومعنى اللفظتين واحد. وقال غيرهم: أصل التَّدَلِّي: النُّزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوُضع موضع القُرْب. وفي المشار إليه بقوله: «ثُمَّ دنا» ثلاثة أقوال «1» : أحدها، أنه الله عزّ وجلّ. (1355) روى البخاري ومسلم في الصحيحين. من حديث شريك بن أبي نَمِر عن أنس بن مالك قال: دنا الجبّار ربُّ العِزَّة فتدلَّى حتى كان منه قابَ قوسين أو أدنى. (1356) وروى أبو سلمة عن ابن عباس: «ثم دنا» قال: دنا ربُّه فتدلَّى. وهذا اختيار مقاتل. قال: دنا الرَّبُّ من محمد ليلةَ أُسْرِي به، فكان منه قابَ قوسين أو أدنى. وقد كشفتُ هذا الوجه في كتاب المُغْني وبيَّنتُ أنه ليس كما يخطُر بالبال من قُرب الأجسام وقطع المسافة، لأن ذلك يختص بالأجسام، والله منزَّه عن ذلك. والثاني: أنه محمد دنا من ربِّه، قاله ابن عباس، والقرظي. والثالث: أنه جبريل. ثم في الكلام قولان: أحدهما: دنا جبريلُ بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: دنا جبريلُ من ربّه عزّ وجلّ فكان منه قابَ قوسين أو أدنى، قاله مجاهد. قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين: «فكان قاد قوسين» بالدال. وقال أبو عبيدة: القابُ والقادُ: القَدْر. وقال ابن فارس: القابُ: القدر. ويقال: بل القاب: ما بين

_ من طريق مجالد عن الشعبي به. وأخرجه البخاري 3234 من طريق ابن عون عن القاسم عن عائشة به. وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 225 من طريق أبي معشر عن إبراهيم عن مسروق به. وأخرجه أبو عوانة 1/ 155 من طريق بيان عن قيس عن عائشة به. ولفظ البخاري برقم 3235: عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: فأين قوله: ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، قالت: ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل، وإنما أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسدّ الأفق. شاذ، أخرجه البخاري 7517 ومسلم 162 ح 262 كلاهما من طريق شريك بن أبي نمر عن أنس، وشريك متكلم فيه، وقد تفرد في حديث الإسراء بعشرة أشياء لم يتابع عليها، ومنها هذه العبارة، وهي من منكراته. انظر ما ذكره الحافظ في «الفتح» 13/ 480- 483. صحيح. أخرجه مسلم 176 ح 286 والنسائي في «التفسير» 555 والطبري 32466 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه مسلم 176 ح 285 عن ابن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج به. وأخرجه الترمذي 3280 وابن خزيمة ص 200 والطبري 32489 وابن حبان 57 والطبراني 10727 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 933 من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن ابن عباس.

المَقْبِض والسِّية، ولكل قوس قابان. وقال ابن قتيبة: سِيَة القَوْس: ما عُطِفَ من طَرَفيْها. وفي المراد بالقوسين قولان: أحدهما: أنها القوس التي يُرمى بها، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة، فقال: قَدْر قوسين، وقال الكسائي: أراد بالقوسين: قوساً واحداً. والثاني: أن القوس: الذراع: فالمعنى: كان بينهما قَدْر ذراعين، حكاه ابن قتيبة وهو قول ابن مسعود، وسعيد بن جبير، والسدي. قال ابن مسعود: دنا جبريل منه حتى كان قَدْرَ ذراع أو ذراعين. قوله تعالى: أَدْنى فيه قولان: أحدهما: أنها بمعنى «بل» ، قاله مقاتل. والثاني: أنهم خوطبوا على لغتهم، والمعنى: كان على ما تقدِّرونه أنتم قَدْرَ قوسين أو أقلَّ، هذا اختيار الزجّاج. قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أَوْحى اللهُ إلى محمد كِفاحاً بلا واسطة، وهذا على قول من يقول: إنه كان في ليلة المعراج. والثاني: أوحى جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ما أَوحى اللهُ إليه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أَوحى اللهُ إلى جبريل ما يوحيه، روي عن عائشة رضي الله عنها، والحسن، وقتادة. قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قرأ أبو جعفر، وهشام عن ابن عامر، وأبان عن عاصم: «ما كَذَّب» بتشديد الذّال، وقرأ الباقون بالتخفيف. فمن شدَّد أراد: ما أَنكر فؤادُه ما رأته عينُه ومن خفَّف أراد: ما أوهمه فؤادُه أنه رأى، ولم ير بل صَدَّقَ الفؤاد رؤيته. وفي الذي رأى قولان «1» : أحدهما: أنه رأى ربّه عزّ وجلّ، قاله ابن عباس وأنس والحسن وعكرمة. والثاني: أنه رأى جبريلَ في صورته التي خُلق عليها، قاله ابن مسعود وعائشة. قوله تعالى: أَفَتُمارُونَهُ قرأ حمزة والكسائي والمفضل وخلف ويعقوب: «أفَتمْروُنه» . قال ابن قتيبة: معنى «أفَتُماروُنه» : أفتُجادِلونه، مِن المِراء، ومعنى «أفتَمْرُونه» : أفَتَجْحدونه. قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قال الزجّاج: أي رآه مَرَّةً أُخرى. قال ابن عباس: رأى محمدٌ ربَّه وبيان هذا أنه تردَّد لأجل الصلوات مراراً، فرأى ربَّه في بعض تلك المرّات مَرَّةً أُخرى. قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى، فرآه محمد مرتين، وكلَّمه موسى مرتين. (1357) وقد روي عن ابن مسعود أن هذه الرؤية لجبريل أيضاً، رآه على صورته التي خُلق عليها. فأمّا سِدْرة المُنتهى فالسِّدْرة: شجرة النَّبِق. (1358) وقد صح في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «نَبِقُها مِثْلُ قِلال هَجَر، ووَرَقُها مثل آذان الفيلة» . وفي مكانها قولان:

_ حديث صحيح. أخرجه البخاري 4856 ومسلم 174 ح 281 والترمذي 3277 والنسائي في «التفسير» 554 و 560 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 20 و 203 وأبو عوانة 1/ 153 من طرق عن الشيباني به. وأخرجه الترمذي 3283 وابن خزيمة ص 204 والحاكم 2/ 468- 469 وابن حبان 59 وأحمد 1/ 494 و 418 من طرق عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود به. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. صحيح. أخرجه البخاري 7517 ومسلم 162 ح 262 وقد تقدم في سورة الإسراء.

[سورة النجم (53) : الآيات 19 إلى 26]

(1359) أحدهما: أنها فوق السماء السابعة، وهذا مذكور في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة. قال مقاتل: وهي عن يمين العرش. (1360) والثاني: أنها في السماء السادسة، أخرجه مسلم في أفراده عن ابن مسعود، وبه قال الضحاك. قال المفسرون: وإنما سُمِّيتْ سِدْرة المُنتهى، لأنه إليها مُنتهى ما يُصْعَد به من الأرض، فيُقْبَض منها، وإليها ينتهي ما يُهبْطَ به من فوقها فيُقْبَض منها، وإليها ينتهي عِلْم جميع الملائكة. قوله تعالى: عِنْدَها وقرأ معاذ القارئ وابن يعمر وأبو نهيك: «عِنْدَهُ» بهاءٍ مرفوعة على ضمير مذكَّر جَنَّةُ الْمَأْوى قال ابن عباس: هي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة. وقال الحسن: هي التي يصير إليها أهل الجنة. وقال مقاتل: هي جَنَّة إليها تأوي أرواح الشهداء. وقرأ سعيد بن المسيّب والشعبي وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو العالية: «جَنَّهُ المأوى» بهاءٍ صحيحة مرفوعة. قال ثعلب: يريدون أَجنَّهُ، وهي شاذَّة. وقيل: معنى «عندها» : أدركه المبيت يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قوله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. (1361) روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: غَشِيَها فَراشٌ مِنْ ذهب. (1362) وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لمّا غَشِيَها مِنْ أمْر الله ما غَشِيَها، تغيَّرتْ، فما أحدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يستطيع أن يَصِفها مِنْ حُسْنها» . وقال الحسن ومقاتل: تَغْشاها الملائكةُ أمثالَ الغِرْبان حين يَقَعْنَ على الشجرة. وقال الضحاك: غَشِيها نور ربِّ العالمين. قوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما عدل بصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يميناً ولا شِمالاً وَما طَغى أي ما زاد ولا جاوز ما رأى: وهذا وصف أدبه صلّى الله عليه وسلم في ذلك المقام. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى فيه قولان «1» : أحدهما: لقد رأى من آياتِ ربِّه العِظامِ. والثاني: لقد رأى من آيات ربِّه الآية الكُبرى. وللمفسرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سَدَّ الأفق، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات، قاله ابن زيد. والثالث: أنه رأى من أعلام ربِّه وأدلَّته الأعلامَ والأدلةَ الكبرى، قاله ابن جرير. [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 26] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26)

_ صحيح. أخرجه البخاري 3207 ومسلم 1/ 149 والطبري 32287 عن أنس بن مالك بن صعصعة مرفوعا، وفي أثناء حديث الإسراء المطوّل وتقدّم في أول سورة الإسراء. صحيح. أخرجه مسلم 173 من حديث ابن مسعود. صحيح. أخرجه مسلم 173 من حديث ابن مسعود. انظر الحديث المتقدم 1359.

قال الزجاج: فلمّا قَصَّ اللهُ تعالى هذه الأقاصيص قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى المعنى: أخبِرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها هل لها من القُدرة والعظمة التي وُصف بها ربُّ العِزَّة شيءٌ؟!. فأمّا «اللاّت» فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وهو اسم صنم كان لثقيف اتَّخذوه مِن دون الله، وكانوا يَشتقُّون لأصنامهم من أسماء الله تعالى فقالوا من «الله» : اللات: ومن «العزيز» : العُزَّى. قال أبو سليمان الخطابي: كان المشركون يتعاطَون «الله» اسماً لبعض أصنامهم، فصرفه الله إلى اللاّت صيانةً لهذا الاسم وذَبّاً عنه. وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك وابن السميفع ومجاهد وابن يعمر والأعمش، وورش عن يعقوب: «اللاتّ» بتشديد التاء ورد في تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد أن رجلاً كان يلُتُّ السَّويق للحاجّ، فلمّا مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقال الزجاج: زعموا أن رجلاً كان يلُتُّ السَّويق ويبيعه عند ذلك الصنم، فسمّي الصّنم: اللّات. وكان الكسائيّ يقف عليها بالهاء، فيقول: «اللّاه» وهذا قياس، والأجود الوقف بالتاء، لاتباع المصحف. وأما «العُزَّى» ففيها قولان: أحدهما: أنها شجرة لغطفان كانوا يعبدونها، قاله مجاهد. والثاني: صنم لهم، قاله الضحاك. قال: وأمّا «مَناةَ» فهو صنم لهُذَيل وخُزاعة يعبُده أهلُ مكة. وقال قتادة: بل كانت للأنصار. وقال أبو عبيدة: كانت اللاّت والعُزَّى ومَناة أصناماً من حجارة في جوف الكعبة يعبدونها. وقرأ ابن كثير: «ومَناءَةَ» ممدودة مهموزة. فأمّا قوله: الثَّالِثَةَ فانه نعت ل «مَناة» ، هي ثالثة الصنمين في الذِّكر، و «الأُخرى» نعت لها. قال الثعلبي: العرب لا تقول للثالثة: الأُخرى، وإنما الأُخرى نعت للثانية فيكون في المعنى وجهان: أحدهما: أن ذلك لِوِفاق رؤوس الآية، كقوله مَآرِبُ أُخْرى «1» ولم يقل، أُخَر، قاله الخليل. والثاني: أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره: أفرأيتم اللاّت والعُزَّى الأخرى ومَناة الثالثة، قاله الحسين بن الفضل. قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ قال ابن السائب: إن مشركي قريش قالوا للأصنام والملائكة: بناتُ الله، وكان الرجُل منهم إذا بُشِّر بالأُنثى كرِه، فقال الله تعالى مُنْكِراً عليهم: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ يعني الأصنام وهي إناث في أسمائها. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي: «ضِيزى» بكسر الضاد من غير همز وافقهم ابن كثير في كسر الضاد لكنه همز. وقرأ أُبيُّ بن كعب ومعاذ القارئ: «ضَيْزى» بفتح الضاد من غير همز. قال الزجاج: الضِّيزى في كلام العرب: الناقصةُ الجائرة، يقال: ضازه يَضِيزُه: إذا نقصه حَقَّه، ويقال: ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز. وأجمع النحويُّون أن أصل ضِيزَى: ضُوزًى، وحُجَّتُهم أنها نُقلت من «فُعْلى» من ضْوزى إلى ضِيزى، لتَسلم الياء، كما قالوا: أبيض وبِيْض، وأصله: بُوضٌ، فنُقلت الضَّمَّة إلى الكسرة. وقرأت على بعض العلماء باللُّغة: في «ضيزى» لغات يقال: ضِيزَى وضُوزَى وضُؤْزَى وضأزى على «فعلى» مفتوحة ولا يجوز

_ (1) طه: 18.

[سورة النجم (53) : الآيات 27 إلى 30]

في القرآن إلاّ «ضِيزى» بياءٍ غير مهموزة وإنما لم يقُل النحويُّون: إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام «فِعْلى» صفة، إنما يعرفون الصِّفات على «فَعْلَى» بالفتح، نحو سَكُرَى وغَضْبى، أو بالضم نحو حُبْلى وفُضْلى. قوله تعالى: إِنْ هِيَ يعني الأوثان إِلَّا أَسْماءٌ والمعنى: إن هذه الأوثان التي سمَّوها بهذه الأسامي لا معنى تحتها، لأنها لا تضر ولا تنفع، فهي تسميات أُلقيت على جمادات، ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: لم يُنزل كتاباً فيه حُجّة بما يقولون: إِنها آلهة. ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد الخطاب لهم فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ في أنها آلهة إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وهو ما زيَّن لهم الشيطان، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى وهو البيان بالكتاب والرسول، وهذا تعجيب من حالهم إذ لم يتركوا عبادتها بعد وُضوح البيان. ثم أنكر عليهم تَمنِّيهم شفاعتَها فقال: أَمْ لِلْإِنْسانِ يعني الكافر ما تَمَنَّى من شفاعة الأصنام فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي لا يَملك فيهما أحد شيئاً إلاّ بإذنه، ثم أكَّد هذا بقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً فجمع في الكناية، لأن معنى الكلام الجمع إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى والمعنى أنهم لا يَشفعون إلاّ لِمن رضي الله عنهم. [سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 30] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وذلك حين زعموا أنها بنات الله، وَما لَهُمْ بذلك مِنْ عِلْمٍ أي ما يَستيقِنون أنها إناث إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي لا يقوم مقامَ العِلْم فالحقُّ هاهنا بمعنى العِلْم. فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا يعني القرآن، وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف. قوله تعالى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قال الزجّاج: إنَّما يعلمون ما يحتاجون إليه في معايشهم، وقد نبذوا أمر الآخرة. قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الآية: والمعنى أنه عالِمٌ بالفريقين فيجازيهم. [سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) قوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هذا إِخبار عن قُدرته وسَعَة مُلكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا لأن اللام في «ليجزي» متعلقة بمعنى الآية الأولى، لأنه إِذا كان أعلم بهما جازى كُلاًّ بما يستحقُّه، وهذه لام العاقبة، وذلك أن عِلْمه بالفريقين أدَّى إلى جزائهم باستحقاقهم، وإِنما يَقْدِر على مُجازاة الفريقين إذا كان واسع المُلك، فلذلك أخبر به في قوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. قال المفسرون: و «أساؤوا» بمعنى أشركوا، و «أحسنوا»

بمعنى وحَّدوا. والحُسنى: الجنَّة. والكبائر مذكورة في سورة النساء «1» . وقيل: كبائر الإثم. كُلُّ ذَنْب خُتم بالنّار، والفواحش كُلُّ ذَنْب فيه الحدّ. وقرأ حمزة والكسائي والمفضل وخلف: «يَجْتَنِبون كبِيرَ الإثم» واللَّمم في كلام العرب: المُقارَبة للشيء. وفي المراد به هاهنا ستة أقوال: أحدها: ما أَلمُّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية، فإنه يُغْفَر في الإسلام، قاله زيد بن ثابت. والثاني: أن يُلِمَّ بالذَّنْب مَرَّةً ثم يتوب ولا يعود، قاله ابن عباس والحسن والسدي. والثالث: أنه صِغار الذُّنوب، كالنَّظرة والقُبلة وما كان دون الزِّنا، قاله ابن مسعود وأبو هريرة والشعبي ومسروق. (1363) ويؤيِّد هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنا، فزِنا العينين النَّظر، وزِنا اللسان النُّطق، والنفس تشتهي وتتمنَّى، ويصدِّق ذلك ويكذِّبه الفَرْج» ، فإن تقدَّم بفَرْجه كان الزِّنا، وإلا فهو اللَّمم. والرابع: أنه ما يَهُمُّ به الإنسان، قاله محمّد ابن الحنفية. والخامس: أنه ألَّم بالقلب، أي: خَطَر، قاله سعيد بن المسيّب. والسادس: أنه النَّظر من غير تعمُّد، قاله الحسين بن الفضل. فعلى القولين الأولين يكون الاستثناء من الجنس، وعلى باقي الأقوال ليس من الجنس.. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن عباس: لِمَن فعل ذلك ثم تاب. وهاهنا تمَّ الكلام. ثم قال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ يعني قبل خَلْقكم إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني آدم عليه السلام وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جَنِين والمعنى أنه عَلِم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون، فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي: لا تَشهدوا لها أنَّها زكيَّة بريئة من المعاصي. وقيل: لا تمدحوها بحُسن أعمالها. وفي سبب نزول هذه الآية قولان: (1364) أحدهما: أن اليهود كانوا إذا هلك لهم صبيّ، قالوا: صِدِّيق، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة رضي الله عنها. والثاني: أن ناساً من المسلمين قالوا: قد صليَّنا وصُمنا وفعلنا، يُزَكُّون أنفُسَهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «2» . قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عمل حسنة وارعوى عن معصية، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أخلص العمل لله، قاله الحسن. الثالث: اتّقى الشّرك فآمن، قاله الثّعلبي.

_ صحيح. أخرجه البخاري 6612 عن محمود بن غيلان به. وأخرجه البخاري بإثر 6243 ومسلم 2657 ح 20 وأحمد 2/ 276 وابن حبان 4420 والبيهقي 7/ 89 و 10/ 185 والواحدي 4/ 201 من طريق عبد الرزاق به. لم أره من حديث عائشة مسندا. وورد هنا حديث ثابت بن الحارث الأنصاري، وهو ضعيف. أخرجه الواحدي 770 والطبراني 2/ 81 عن ثابت بن الحارث الأنصاري مرفوعا وفيه ابن لهيعة ضعيف الحديث، والسورة مكية ومجادلات اليهود كانت في المدينة، وانظر «تفسير الشوكاني» 2373 و «تفسير القرطبي» 5716 بتخريجنا.

[سورة النجم (53) : الآيات 33 إلى 41]

[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 41] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: (1365) أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، وكان قد تَبِع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على دينه، فعيَّره بعضُ المشركين، وقال: تركتَ دين الأشياخ وضللَّتَهم؟ قال: إنِّي خشيتُ عذابَ الله، فضَمِن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجَع إلى شِركه أن يتحمَّل عنه عذاب الله عزّ وجلّ، ففعل، فأعطاه بعضَ الذي ضَمِن له، ثم بَخِل ومنعه، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وابن زيد. (1366) والثاني: أنه النَّضر بن الحارث أعطى بعض فقراء المسلمين خمسَ قلائص حتى ارتدَّ عن إسلامه، وضَمِن له أن يَحْمِل عنه إثمه، قاله الضحاك. (1367) والثالث: أنه أبو جهل، وذلك أنه قال: واللهِ ما يأمُرُنا محمدٌ إلاّ بمكارم الأخلاق، قاله محمد بن كعب القرظي. والرابع: أنه العاص بن وائل السهمي، وكان رَّبما وافق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض الأُمور، قاله السدي «1» . ومعنى «تَولَّى» : أعرضَ عن الإيمان. وَأَعْطى قَلِيلًا فيه أربعة أقوال: أحدها: أطاع قليلاً ثم عصى. قاله ابن عباس. والثاني: أعطى قليلاً من نَفْسه بالاستماع ثم أكدى بالانقطاع. قال مجاهد. والثالث: أعطى قليلاً من ماله ثم مَنَع، قاله الضحاك. والرابع: أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع، قاله مقاتل. قال ابن قتيبة: ومعنى «أَكْدَى» : قَطَع، وهو من كُدْية الرَّكِيَّة، وهي الصَّلابة فيها، وإذا بلغها الحافر يئس من حَفْرها، فقطع الحَفْر، فقيل لكل من طلب شيئاً فلم يبلُغ آخِرَه، أو أعطَى ولم يُتِمَّ: أَكْدَىَ. قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى فيه قولان: أحدهما: فهو يرى حاله في الآخرة، قاله الفراء، والثاني: فهو يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وغيرها، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى يعني التوراة، وَإِبْراهِيمَ أي: وصحف إبراهيم. (1368) وفي حديث أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أن الله تعالى أَنزل على إبراهيمَ عشر صحائف، وأنزل

_ أخرجه الطبري 32595 عن مجاهد وبرقم 32596 عن ابن زيد، وذكره الواحدي في «الأسباب» 772 عن مجاهد وابن زيد بدون إسناد. عزاه المصنف للضحاك، ولم أقف على إسناده، وهو مرسل، والضحاك ذو مناكير، وهذا منها، وأثر مجاهد المتقدم أصح. عزاه المصنف للقرظي، وهذا مرسل، فهو واه. ضعيف جدا. أخرجه ابن حبان 361 وأبو نعيم 1/ 166 من حديث أبي ذر، وإسناده ضعيف جدا، فيه-

على موسى قَبْلَ التَّوراة عشر صحائف» . قوله تعالى: الَّذِي وَفَّى قرأ سعيد بن جبير، وأبو عمران الجوني، وابن السميفع اليماني «وَفَى» بتخفيف الفاء. قال الزجاج: قوله: «وَفَّى» أبلغ من «وَفَى» لأن الذي امتُحن به مِنْ أعظمِ المِحن. وللمفسرين في الذي وفَّى عشرة أقوال: (1369) أحدها: أنه وفَّى عملَ يومه بأربع ركعات في أول النهار، رواه أبو أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. والثاني: أنه وفَّى في كلمات كان يقولها. (1370) روى سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أُخْبِرُكم لِمَ سمَّى اللهُ إِبراهيمَ خليله الذي وفَّى؟ لأنه كان يقول كلمَّا أصبحَ وكلمَّا أمسى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ «1» وختم الآية. والثالث: أنه وفَّى الطاعة فيما فعل بابنه، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال القرظي. والرابع: أنه وفَّى ربَّه جميع شرائع الإسلام، روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس. والخامس: أنه وفَّى ما أُمر به من تبليغ الرِّسالة، روي عن ابن عباس أيضاً. والسادس: أنه عَمِل بما أُمر به، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وقال مجاهد: وفَّى ما فُرض عليه. والسابع: أنه وفَّى بتبليغ هذه الآيات، وهي: «ألاّ تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخْرى» وما بعدها، وهذا مروي عن عكرمة، ومجاهد، والنخعي. والثامن: وفَّى شأن المناسك، قاله الضحاك. والتاسع: أنه عاهد أن لا يَسأل مخلوقاً شيئاً، فلمّا قُذف في النار قال له جبريل، ألَكَ حاجةٌ؟ فقال: أمّا إليك فلا، فوفَّى بما عاهد، ذكره عطاء بن السّائب. العاشر: أنه أدَّى الأمانة، قاله سفيان بن عيينة. ثم بيَّن ما في صحفهما فقال: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي: لا تَحْمِل نَفْس حاملةٌ حِْملَ أُخْرى والمعنى: لا تؤخَذ بإثم غيرها. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى قال الزجّاج: هذا في صحفهما أيضاً ومعناه: ليس للإنسان إِلاّ جزاء سعيه، إِن عَمِل خيراً جُزِي عليه خيراً، وإِن عَمِل شَرّاً جزي شَرّاً. واختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال: أحدها: أنها منسوخة بقوله:

_ إبراهيم بن هشام الغساني، وهو متروك. وتقدم. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 32618 من طريق الحسن بن عطية عن إسرائيل. وإسناده ضعيف جدا، فيه جعفر بن الزبير متروك، والقاسم يروي مناكير عن أبي أمامة. قال الإمام أحمد: روى علي بن يزيد عن القاسم أعاجيب، ولا أراها إلا من قبل القاسم. وإسرائيل هو ابن يونس السّبيعي، والقاسم هو ابن عبد الرحمن. وقد ضعفه ابن كثير في «التفسير» 4/ 258 والسيوطي في «الدر» 186. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 32617 وأحمد 3/ 239 و 419 والطبراني في «الكبير» 20/ 192 وابن السني في «اليوم والليلة» 78 من حديث سهل بن معاذ عن أبيه مرفوعا، ومداره على زبان بن فائد، وهو ضعيف، وشيخه سهل بن معاذ روى مناكير كثيرة، وهذا منها وقال الهيثمي: في «المجمع» 10/ 107: وفيه ضعفاء وثقوا اه.

[سورة النجم (53) : الآيات 42 إلى 55]

وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ «1» فأُدخل الأبناء الجَنَّة بصلاح الآباء، قاله ابن عباس، ولا يصح، لأن لفظ الآيتين لفظ خبر، والأخبار لا تُنْسَخ. والثاني: أن ذلك كان لقوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمَّة فلهم ما سَعَوا وما سعى غيرُهم، قاله عكرمة. واستدلّ بقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته: (1371) إنَّ أبي مات ولم يحُجَّ، فقال: «حُجِّي عنه» . والثالث: أن المراد بالإنسان هاهنا: الكافر، فأمّا المؤمن، فله ما سعى وما سُعي له، قاله الربيع بن أنس. والرابع: أنه ليس للإنسان إلاّ ما سعى من طريق العدل، فأمّا مِنْ باب الفضل، فجائز أن يزيده الله عزّ وجلّ ما يشاء، قاله الحسين بن الفضل. والخامس: أن معنى «ما سعى» : ما نوى، قاله أبو بكر الورّاق. والسادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدُّنيا، فيُثاب عليه فيها حتى لا يبقى له في الآخرة خير، ذكره الثعلبي. والسابع: أن اللام بمعنى «على» ، فتقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى. والثامن: أنه ليس له إلاّ سعيه، غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة وولد يترحم عليه وصديق، وتارة يسعى في خِدمة الدِّين والعبادة، فيكتسب محبة أهل الدِّين، فيكون ذلك سببا حصل بسعيه، حكى القولين شيخنا علي بن عبيد الله الزاغوني. قوله تعالى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى فيه قولان: أحدهما: سوف يُعْلَم، قاله ابن قتيبة. والثاني: سوف يرى العبدُ سعيَه يومَ القيامة، أي: يرى عمله في ميزانه، قاله الزجاج. قوله تعالى: يُجْزاهُ الهاء عائدة على السعي الْجَزاءَ الْأَوْفى أي: الأكمل الأتمّ. [سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 55] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي: مُنتهى العباد ومَرجِعهُم. قال الزجاج: هذا كُلُّه في صحف إبراهيم وموسى. قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. قالت عائشة: (1372) مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقوم يضحكون، فقال: «لو تَعْلَمونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكتم قليلاً، ولبَكَيتم كثيراً» ، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فرجع إليهم، فقال «ما خطَوْتُ أربعينَ خطوة حتى أتاني جبريل، فقال: إئت هؤلاء فقُل لهم: إن الله يقول: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وفي هذا تنبيه على أن جميع الأعمال بقضاء الله وقدره حتى الضحك والبُكاء. وقال مجاهد: أضْحكَ أهلَ الجَنَّة. وأبكى أهل النّار. وقال الضحاك: أضْحَك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر.

_ هو حديث الخثعمية، خرّجه الشيخان، وتقدم. ضعيف جدا. أخرجه الواحدي 773 من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي الإسناد مجاهيل، ودلال بنت أبي المدلّ والصهباء لم أعثر لهما على ترجمة، والله أعلم، والمتن غريب جدا.

[سورة النجم (53) : الآيات 56 إلى 62]

قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ في الدُّنيا وَأَحْيا للبعث. وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ أي: الصِّنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى من جميع الحيوانات، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى فيه قولان: أحدهما: إذا تُراق في الرَّحِم، قاله ابن السائب. والثاني: إذا تُخْلق وتُقَدَّر. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى وهي الخَلْق الثاني للبعث يوم القيامة. وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى فيه أربعة أقوال: أحدها: أغنى بالكفاية، قاله ابن عباس. والثاني: بالمعيشة، قاله الضحاك. والثالث: بالأموال، قاله أبو صالح. والرابع: بالقناعة، قاله سفيان. وفي قوله: وَأَقْنى ثلاثة أقوال: أحدها: أرْضى بما أعطى، قاله ابن عباس. والثاني: أخْدم، قاله الحسن، وقتادة. وعن مجاهد كالقولين. والثالث: جعل للإنسان قِنْيَةً، وهو أصل مال. قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى قال ابن قتيبة: هو الكوكب الذي يطْلُع بعد الجَوْزاء، وكان ناس من العرب يعبُدونها. قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «عاداً الأولى» منوَّنة. وقرأ نافع، وأبو عمرو: «عاداً لُولى» موصولة مدغمة. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم قوم هود، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى، هذا قول الجمهور. والثاني: أن قوم هود هم عادٌ الأخرى، وهم من أولاد عادٍ الأولى، قاله كعب الأحبار، وقال الزجاج: وفي «الأولى» لغات، أجودها سكون اللام وإثبات الهمزة، والتي تليها في الجودة ضم اللام وطرح الهمزة، ومن العرب من يقول: لُولى، يريد: الأُولى، فتطرح الهمزة لتحرّك اللاّم. قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي: مِن قَبْل عادٍ وثمودَ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى من غيرهم، لطول دعوة نوح إيّاهم، وعتوّهم. وَالْمُؤْتَفِكَةَ قُرى قوم لوط أَهْوى أي: أسقط، وكان الذي تولَّى ذلك جبريل بعد أن رفعها، وأتبعهم اللهُ بالحجارة، فذلك قوله: فَغَشَّاها أي: ألبسها ما غَشَّى يعني الحجارة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى هذا خطاب للإنسان، لمّا عدَّد اللهُ ما فعله ممّا يَدلُّ على وحدانيَّته قال: فبأيِّ نِعم ربِّك التي تدُلُّ على وحدانيَّته تتشكَّك؟ وقال ابن عباس: فبأي آلاءِ ربِّك تكذِّب يا وليد، يعني الوليد ابن المغيرة. [سورة النجم (53) : الآيات 56 الى 62] هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) قوله تعالى: هذا نَذِيرٌ فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن، نذيرٌ بما أنذرتْ الكتبُ المتقدِّمة، قاله قتادة. والثاني: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، نذيرٌ بما أنذرتْ به الأنبياءُ، قاله ابن جريج. قوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي: دَنَت القيامة، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ فيه قولان: أحدهما: إذا غَشِيَت الخَلْقَ شدائدُها وأهوالُها لمْ يَكْشِفها أحد ولم يرُدَّها، قاله عطاء، وقتادة، والضحاك. والثاني: ليس لعِلْمها كاشف دونَ الله، أي: لا يَعلم عِلْمها إلاّ الله، قاله الفراء، قال: وتأنيث «كاشفة» كقوله: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ «1» يريد: مِن بقاءٍ والعافية والباقية والناهية كُلُّه في معنى المصدر. وقال غيره: تأنيث «كاشفة» على تقدير: «نفس كاشفة» .

_ (1) الحاقة: 8.

قوله تعالى: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ قال مقاتل: يعني القرآن تَعْجَبُونَ تكذيباً به وَتَضْحَكُونَ استهزاءً وَلا تَبْكُونَ ممّا فيه من الوعيد؟! ويعني بهذا كفار مكة. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ فيه خمسة أقوال. أحدها: لاهون، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الفّراء والزجّاج. قال أبو عبيدة: يقال: دَعْ عنك سُمودَك، أي: لَهْوك. والثاني: مُعْرِضون، قاله مجاهد. والثالث: أنه الغِناء، وهي لغة يمانية، يقولون: اسْمُد لنا، أي: تَغَنَّ لنا، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عكرمة: هو الغِناء بالحِمْيَريَّة. والرابع: غافلون، قاله قتادة. والخامس: أشِرون بَطِرون، قاله الضحاك. قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ فيه قولان «1» : أحدهما: أنه سُجود التلاوة، قاله ابن مسعود. والثاني: سُجود الفرض في الصلاة. قال مقاتل: يعني بقوله: «فاسْجُدوا» : الصلوات الخمس. وفي قوله: وَاعْبُدُوا قولان: أحدهما: أنه التّوحيد. والثاني: العبادة.

_ (1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 172: قال علماؤنا رضي الله عنهم: لم يختلف قول مالك إن سجدة النجم ليست من عزائم القرآن، وأما ابن وهب رآها من عزائمه، وكان مالك يسجدها في خاصة نفسه. وقال أبو حنيفة والشافعي: هي من عزائم السجود، وهو الصحيح.

سورة القمر

سورة القمر وهي مكيَّة بإجماعهم، وقال مقاتل: مكِّيَّة غير آية سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ «1» ، وحكي عنه أنه قال: إلاّ ثلاث آيات، أوّلها: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ إلى قوله: وَأَمَرُّ «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) (1373) قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت صادقاً فشُقَّ لنا القمر فرقتين، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن فعلتُ تؤمنون؟» قالوا: نعم، فسأل رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم ربَّه أن يُعطيَه ما قالوا، فانشقَّ القمر فرقتين، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ينادي: «يا فلان يا فلان اشْهَدوا» ، وذلك بمكة قبل الهجرة. (1374) وقد روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث ابن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شقّتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اشْهَدوا» . وقد روى حديث الانشقاق جماعةٌ منهم: عبد الله بن عمر وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عباس وأنس بن مالك.

_ أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 209 من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس بهذا اللفظ، وفي الطريق عن عطاء، ابن جريج، وهو مدلس، وقد عنعن، وفي الطريق عن الضحاك مقاتل. وقد ذكره السيوطي في «الدر» 6/ 177 فقال: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس بهذا اللفظ، ولم أره في «الحلية» . وضعفه الحافظ في «الفتح» 8/ 181. لكن أصل الحديث صحيح، انظر الآتي. وانظر «تفسير القرطبي» 5736 بتخريجنا. صحيح. أخرجه البخاري 4864 عن مسدد به، من حديث ابن مسعود. وأخرجه البخاري 3869 و 3871 ومسلم 2800 ح 44 والترمذي 3285 وأحمد 1/ 447 والطبري 32694 وابن حبان 6495 والطبراني 9996 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 265 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه البخاري 3636 و 4865 والترمذي 3287 وأبو يعلى 4968 وأحمد 1/ 377 وأبو يعلى 4968 والبيهقي 2/ 264 والواحدي في «الوسيط» 4/ 206 من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر به. وورد من حديث جبير بن مطعم أخرجه أحمد 4/ 81- 82 وابن حبان 6497 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 268 والطبري 32705. وورد من حديث ابن عمر أخرجه مسلم

وعلى هذا جميع المفسرين، إلاّ أن قوماً شذُّوا فقالوا: سيَنْشَقُّ يوم القيامة. وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك، وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع، ولأن قوله: وَانْشَقَّ لفظ ماض، وحَمْلُ لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل، وليس ذلك موجوداً. وفي قوله: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا» دليل على أنه قد كان ذلك. ومعنى اقْتَرَبَتِ: دنت والسَّاعَةُ القيامة. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، تقديره: انشقَّ القمر واقتربت الساعة. وقال مجاهد: انشقَّ القمر فصار فِرقتين، فثبتت فِرقة، وذهبت فِرقة وراء الجبل. وقال ابن زيد: لمّا انشقَّ القمر كان يُرى نصفُه على قُعيَقِعَانَ، والنصف الآخر على أبي قُبيس. (1375) قال ابن مسعود: لمّا انشقَّ القمر قالت قريش: سحركم ابن أَبي كبشة، فاسألوا السُّفَّار، فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل الله عزّ وجلّ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً أي: آية تدُلُّهم على صدق الرسول، والمراد بها هاهنا: انشقاق القمر يُعْرِضُوا عن التصديق وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ فيه ثلاثة أَقوال: أحدها: ذاهبٌ، من قولهم: مَرَّ الشيءُ واستمرَّ: إذا ذهب، قاله مجاهد وقتادة والكسائي والفراء فعلى هذا يكون المعنى: هذا سِحر، والسِّحر يذهب ولا يثبت. والثاني: شديدٌ قويٌّ، قاله أبو العالية والضحاك وابن قتيبة، قال: وهو مأخوذ من المِرَّة، والمِرَّة: الفَتْل. والثالث: دائمٌ، حكاه الزجّاج. قوله تعالى: وَكَذَّبُوا يعني كذّبوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم وما عاينوا من قُدرة الله تعالى وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ما زيَّن لهم الشيطانُ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن كُلَّ أمْر مستقِرٌّ بأهله، فالخير يستقِرُّ بأهل الخير، والشر يستقِرُّ بأهل الشر، قاله قتادة. والثاني: لكل حديثٍ مُنتهىً وحقيقةٌ، قاله مقاتل. والثالث: أن قرار تكذيبهم مستقِرّ، وقرار تصديق المصدِّقين مستقِرّ حتى يعلموا حقيقته بالثواب والعقاب، قاله الفراء. قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة مِنَ الْأَنْباءِ أي: من أخبار الأُمم المكذِّبة في القرآن ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ قال ابن قتيبة: أي: مُتَّعَظٌ ومُنتهىً. قوله تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ قال الزجّاج: هي مرفوعة لأنها بدل من «ما» ، فالمعنى: ولقد جاءهم حكمةٌ بالغةٌ. وإن شئت رفعتهما بإضمار: هو حكمة بالغة. و «ما» في قوله فَما تُغْنِ النُّذُرُ

_ 2801 والترمذي 3288 والطيالسي 1891 وابن حبان 6498 والطبراني 13473. ومن حديث حذيفة: أخرجه الحاكم 4/ 609 والطبري 32703، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. ومن حديث ابن عباس. أخرجه البخاري 4866 ومسلم 2803 عن ابن عباس: إن القمر انشق على زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن حديث أنس بن مالك: أخرجه البخاري 3868 عن عبد الله بن عبد الوهاب به. وأخرجه البخاري 3637 وأحمد 3/ 220 والطبري 32693 من طرق عن سعيد بن أبي عروبة به. وأخرجه مسلم 2802 والترمذي 3282 وأحمد 3/ 165 من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة به وأخرجه البخاري 4868 ومسلم 2802 ح 47 وأحمد 3/ 275 والطبري 32690 و 32692 وأبو يعلى 2929 والطيالسي 2449 من طرق عن شعبة عن قتادة به. وأخرجه البخاري 3637 و 4867 ومسلم 2802 وأحمد 3/ 207 وأبو يعلى 3113 من طرق عن شيبان عن قتادة به. صحيح. أخرجه الطبري 32699 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 266 والواحدي في «الأسباب» 774 من طريق المغيرة عن أبي الضحى به وإسناده على شرط الصحيح.

[سورة القمر (54) : الآيات 6 إلى 8]

جائز أن يكون استفهاماً بمعنى التوبيخ، فيكون المعنى: أيّ شيء تُغْني النُّذُر؟! وجائز أن يكون نفياً، على معنى، فليست تُغْني النُّذُر. قال المفسرون: والمعنى: جاءهم القرآن وهو حِكْمة تامَّة قد بلغت الغاية، فما تُغُني النُّذُر إذا لم يؤمنوا؟! [سورة القمر (54) : الآيات 6 الى 8] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قال الزجّاج: هذا وقف التمام، ويَوْمَ منصوب بقوله: «يخرُجون من الأجداث» . وقال مقاتل: فتولَّ عنهم إلى يوم يَدْعُ الدّاعي أثبت هذه الياء في الحالين يعقوب وافقه أبو جعفر، وأبو عمرو في الوصل، وحذفها الأكثرون في الحالين. و «الداعي» : إِسرافيل ينفُخ النفخة الثانية إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ وقرأ ابن كثير: «نُكْرٍ» خفيفة أي: إلى أمر فظيع. وقال مقاتل: «النُّكُر» بمعنى المُنْكَر، وهو القيامة، وإنما يُنْكِرونه إعظاماً له. والتَّولِّي المذكور في الآية منسوخ عند المفسرين بآية السيف. قوله تعالى: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ قرأ أهل الحجاز، وابن عامر، وعاصم: «خُشَّعاً» بضم الخاء وتشديد الشين من غير ألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «خاشِعاً» بفتح الخاء وألف بعدها وتخفيف الشين. قال الزجاج: المعنى: يخرُجون خُشَّعاً، و «خاشعاً» منصوب على الحال، وقرأ ابن مسعود: «خاشعةً» ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدَّمت على الجماعة التوحيد والتأنيث والجمع تقول: مررت بشُبّانٍ حَسَنٍ أوجُههم، وحِسانٍ أوجُههم، وحَسَنةٍ أوجُههم، قال الشاعر: وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إِياد بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ «1» قال المفسرون: والمعنى أن أبصارهم ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب. والأجداث: القبور، وإنما شبَّههم بالجراد المنتشِر، لأن الجراد لا جِهةَ له يَقْصِدها، فهو أبداً مختلف بعضه في بعض، فهم يخرُجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يَقْصِدها. والدّاعي: إِسرافيل. وقد أثبت ياء «الدّاعي» في الحالين ابن كثير، ويعقوب تابعهما في الوصل نافع، وأبو عمرو والباقون بحذفها في الحالين. وقد بيَّنّا معنى «مُهْطِعين» في سورة إبراهيم «2» . والعَسِر: الصَّعب الشَّديد. [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 22] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

_ (1) البيت للحارث بن دوس الإيادي كما في «تفسير القرطبي» 17/ 115. (2) إبراهيم: 43.

قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحاً وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ قال أبو عبيدة: افتُعِل مِن زُجِر. قال المفسرون: زجروه عن مقالته فَدَعا عليهم نوح رَبَّهُ ب أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي: فانتَقِم لي ممَّن كذَّبني. قال الزَّجاج: وقرأ عيسى بن عمر النحوي: «إنِّي» بكسر الألف، وفسرها سيبويه فقال: هذا على إِرادة القول، فالمعنى: قال: إني مغلوب ومن فتح، وهو الوجه، فالمعنى: دعا ربَّه ب أَنِّي مَغْلُوبٌ. قوله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ قرأ ابن عامر «ففَتَّحْنا» بالتشديد. فأما المُنهمِر، فقال ابن قتيبة: هو الكثير السريع الانصباب، ومنه يُقال: هَمَر الرجلُ: إذا أكثر من الكلام وأسرع. وروى عليّ رضي الله عنه أن أبواب السماء فُتحت بالماء من المَجَرَّة، وهي شَرَجُ السماء. وعلى ما ذكرنا من القصة في هود «1» أن المطر جاءهم، يكون هو المراد بقوله: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ. قال المفسرون: جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوماً، وفُجِّرت الأرض من تحتهم عيوناً أربعين يوماً. فَالْتَقَى الْماءُ وقرأ أُبيُّ بن كعب وأبو رجاء وعاصم الجحدري: «المآءان» بهمزة وألف ونون مكسورة. وقرأ ابن مسعود: «المايانِ» بياءٍ وألف ونون مكسورة من غير همز. وقرأ الحسن وأبو عمران: «الماوانِ» بواو وألف وكسر النون. قال الزجاج: يعني بالماء: ماء السماء وماء الأرض، ويجوز الماءان، لأن اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء. قوله تعالى: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ فيه قولان: أحدهما: كان قَدْر ماء السماء كقَدْر ماء الأرض، قاله مقاتل. والثاني: قد قُدر في اللوح المحفوظ، قاله الزجاج. فيكون المعنى: على أمر قد قُضي عليهم، وهو الغرق. قوله تعالى: وَحَمَلْناهُ يعني نوحاً عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ قال الزجاج. أي: على سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ. قال المفسرون: ألواحها: خشباتها العريضة التي منها جُمعت. وفي الدُّسُر أربعة أقوال: أحدها: أنها المسامير، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والقرظي، وابن زيد. وقال الزجاج: الدُّسُر: المسامير والشُّرُط التي تُشَدِّ بها الألواح، وكل شيء نحو السَّمْر أو إدخال شيء في شيءٍ بقوَّة وشِدة قَهر فهو دَسْر، يقال: دَسَرْتُ المسمار أدْسُرُه وأَدْسِرُه. والدُّسُر: واحدها دِسار، نحو حِمار، وحُمُر. والثاني: أنه صَدْر السفينة، سُمِّي بذلك لأنه يَدْسُر الماء، أي: يدفعه، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن وعكرمة ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر، أي: دفعه. والثالث: أن الدُّسُر: أضلاع السفينة، قاله مجاهد. والرابع: أن الدُّسُر: طرفاها وأصلها، والألواح: جانباها، قاله الضحاك. قوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي: بمَنْظَرٍ ومرأىً مِنّا جَزاءً قال الفراء: فعَلْنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثواباً لمن كُفِر به. وفي المراد ب «مَنْ» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله عزّ وجلّ، وهو مذهب مجاهد، فيكون المعنى: عوقبوا لله ولكُفرهم به. والثاني: أنه نوحٌ كُفِر به وجُحِد أمْرُه، قاله الفراء. والثالث: أن «مَنْ» بمعنى «ما» فالمعنى: جزاءً لِما كان كُفِر من نِعم الله عند الذين أغرقهم، حكاه ابن جرير. وقرأ قتادة: «لِمَنْ كان كَفَر» بفتح الكاف والفاء. قوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها في المشار إليها قولان: أحدهما: أَنها السفينة، قال قتادة: أبقاها الله على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة. والثاني: أنها الفَعْلة، فالمعنى: تركنا هذه الفعلة وأمر سفينة

_ (1) هود: 44.

[سورة القمر (54) : الآيات 23 إلى 32]

نوح «آية» ، أي: علامة ليُعتبر بها، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وأصله مُدتكِر، فأبدلت التاء دالاً على ما بيَّنّا في قوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «1» . قال ابن قتيبة: أصله: مذْتَكِر، فأْدغمت التاء في الذال ثم قُلبت دالاً مشدَّدة. قال المفسرون: والمعنى: هل من متذكِّر يعتبر بذلك؟ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وفي هذه السورة «ونُذُر» ستة مواضع، أثبت الياء فيهن في الحالين يعقوب، تابعه في الوصل ورش، والباقون بحذفها في الحالين. وقوله: «فكيف كان عذابي» استفهام عن تلك الحالة، ومعناه التعظيم لذلك العذاب. قال ابن قتيبة: والنُّذُر هاهنا جمع نذير، وهو بمعنى الإنذار، ومثله النَّكير بمعنى الإنكار. قال المفسرون: وهذا تخويف لمشركي مكة. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ أي سهَّلْناه لِلذِّكْرِ أي للحِفظ والقراءة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي من ذاكرٍ يذكره ويقرؤه والمعنى: هو الحث على قراءته وتعلُّمه، قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يُقرأ كُلُّه ظاهراً إلاّ القرآن. وأمّا الرِّيح الصَّرصر، فقد ذكرناها في حم السجدة «2» . قوله تعالى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ قرأ الحسن: «فِي يَوْمِ» بالتنوين، على أن اليوم منعوت بالنَّحْس. والمُستمِّر: الدائم الشؤم، استمر عليهم بنُحوسه. وقال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. وقيل: إنه كان يومَ أربعاء في آخر الشهر. تَنْزِعُ النَّاسَ أي: تقلعهُم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدُقّ رقابَهم فتُبِين الرّأسَ عن الجسد، ف كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن السميفع: «أعْجُزُ نَخْلٍ» برفع الجيم من غير ألف بعد الجيم. وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وأبو عمران: «كأنَّهم عُجُز نخل» بضم العين والجيم. ومعنى الكلام: كأنهم أصول نَخلٍ مُنْقَعِرٍ أَي: مُنْقَلِع. وقال الفراء: المُنْقَعِر: المُنْصَرِع من النَّخْل. قال ابن قتيبة: يقال: قَعَرْتُه فانْقَعَر، أي قلعته فسقط. قال أبو عبيدة: والنَّخْل يُذَكَّر ويؤنَّث، فهذه الآية على لغة من ذكَّر، وقوله: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «3» على لغة من أنَّث. وقال مقاتل: شبَّههم حين وقعوا من شِدَّة العذاب بالنَّخْل الساقطة التي لا رؤوس لها، وإنما شبَّههم بالنَّخْل لِطُولهم، وكان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعا. [سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فيه قولان: أحدهما: أنه جمع نذير. وقد بيَّنّا أن من كذَّب نبيّاً واحداً فقد كذَّب الكُلَّ. والثاني: أن النُّذُر بمعنى الإنذار كما بيَّنّا في قوله: «فكيف كان عذابي ونُذُرِ» فكأنهم كذّبوا الإنذار الذي جاءهم به صالح، فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا قال الزجاج: هو منصوب بفعل مُضْمَر والذي ظهر تفسيره، المعنى: أنتبع بَشَراً مِنّا واحِداً، قال المفسرون: قالوا: هو آدميّ مثلنا، وهو

_ (1) يوسف: 45. (2) فصلت: 160. (3) الحاقة: 7.

[سورة القمر (54) : الآيات 33 إلى 40]

واحد فلا نكون له تَبَعاً إِنَّا إِذاً إن فعلنا ذلك لَفِي ضَلالٍ أي: خطأٍ وذهاب عن الصواب وَسُعُرٍ قال ابن عباس: أي: جنون. قال ابن قتيبة: هو من تَسَعَّرتِ النّارُ: إذا التَهبتْ، يقال: ناقةٌ مَسْعُورةٌ، أي: كأنها مجنونة من النشاط. وقال غيره: لَفي شقاءٍ وعَناءٍ لأجل ما يلزمنا من طاعته. ثم أنْكَروا أن يكون الوحي يأتيه فقالوا: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ أي: أَنَزَل الوحيُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي: كيف خُصَّ من بيننا بالنُّبوَّة والوحي؟! بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ وفيه قولان: أحدهما: أنه المَرِح المتكبِّر، قاله ابن قتيبة. والثاني: البَطِر، قاله الزجاج. قوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً قرأ ابن عامر وحمزة: «ستَعلمون» بالتاء «غداً» فيه قولان: أحدهما: يوم القيامة، قاله ابن السائب. والثاني: عند نزول العذاب بهم، قاله مقاتل. قوله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ وذلك أنهم سألوا صالحاً أن يُظْهِر لهم ناقةً من صخرة، فقال الله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ أي: مُخرجوها كما أرادوا فِتْنَةً لَهُمْ أي: مِحنةً واختباراً فَارْتَقِبْهُمْ أي فانتظر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ على ما يُصيبُك من الأذى، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي: بين ثمود وبين الناقة، يوم لها ويوم لهم، فذلك قوله: كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ يحضُرُهُ صاحبُه ويستحقُّه. قوله تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ واسمه قُدار بن سالف فَتَعاطى قال ابن قتيبة: تعاطى عَقْر الناقة فَعَقَرَ أي: قتل وقد بيَّنا هذا في الأعراف «1» . قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم وقد أشرنا إلى قصتهم في هود «2» فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قال ابن عباس: هو الرجُل يجعل لغنمه حظيرة بالشَّجر والشوك دون السِّباع، فما سقط من ذلك وداسته الغنمُ، فهو الهَشيم. وقد بيَّنا معنى «الهشيم» في الكهف «3» . وقال الزجَّاج: الهَشيم: ما يَبِس من الورق وتكسَّر وتحطَّم، والمعنى: كانوا كالهَشِيم الذي يجمعه صاحبُ الحظيرة بعد أن بلغ الغاية في الجفاف، هو يُجمع لِيوقد. وقرأ الحسن: «المُحتظَرِ» بفتح الظاء، وهو اسم الحظيرة والمعنى: كهشيم المكان الذي يُحتظَر فيه الهشيم من الحطب. وقال سعيد بن جبير: هو التراب الذي يتناثر من الحيطان. وقال قتادة: كالعظام النَّخِرة المحترقة. والمراد من جميع ذلك: أنهم بادوا وهلكوا حتى صاروا كالشيء المتحطّم. [سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً قال المفسرون: هي الحجارة التي قُذِفوا بها إِلَّا آلَ لُوطٍ يعني لوط وابنتيه نَجَّيْناهُمْ من ذلك العذاب بِسَحَرٍ قال الفراء: «سَحَرٍ» هاهنا يجري لأنه نكرة، كقوله: نجَّيناهم بِلَيْلٍ، فإذا ألقت العرب منه الباء لم يَجر، لأن لفظهم به بالألف واللام، يقولون: ما

_ (1) الأعراف: 77. (2) هود: 61. (3) الكهف: 45. [.....]

[سورة القمر (54) : الآيات 41 إلى 46]

زال عندنا منذُ السَّحَرِ، لا يكادون يقولون غيره، فإذا حذفت منه الألف واللام لم يُصْرَف. وقال الزجاج: إِذا كان السَّحر نكرة يراد به سَحَرٌ من الأسحار، انصرف، فإذا أردتَ سَحَرَ يومِك، لم ينصرف. قوله تعالى: كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ قال مقاتل: من وحدَّ الله تعالى لم يُعَذَّب مع المشركين. قوله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي: طلبوا أن يسلِّم إليهم أضيافه، وهم الملائكة فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ وهو أن جبريل ضرب أعيُنَهم بجَناحه فأذهبها. وقد ذكرنا القصة في سورة هود «1» . وتم الكلام هاهنا، ثم قال: فَذُوقُوا أي: فقلنا لقوم لوط لما جاءهم العذاب: ذوقوا عَذابِي وَنُذُرِ أي: ما أنذركم به لوط، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أي: أتاهم صباحاً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي: نازل بهم. قال مقاتل: استقرَّ بهم العذابُ بُكْرةً. قال الفرّاء: والعرب تُجري «غُدوة» و «بُكرة» ولا تُجريهما، وأكثر الكلام في «غُدوة» ترك الإجراء، وأكثر في «بكرة» أن تُجرى، فمن لم يُجرها جعلها معرفة، لأنها اسم يكون أبداً في وقتٍ واحد بمنزلة «أمسِ» و «غدٍ» ، وأكثر ما تُجري العربُ «غُدوةً» إذا قُرنت بعشيَّةٍ، يقولون: إني لآتيهم غُدوةً وعشيَّةً، وبعضهم يقول: «غُدوة» فلا يُجريها و «عشيةً» فيُجريها، ومنهم من لا يُجري «عشيَّة» لكثرة ما صحبت «غُدوةً» . وقال الزجاج: الغُدوة والبُكرة إذا كانتا نكِرتين نُوِّنتا وصُرِفتا، فإذا أردتَ بهما بُكرة يومك وغداة يومك، لم تصرفهما، والبُكرة هاهنا نكِرة، فالصرف أجود، لأنه لم يثبُت رواية في أنه كان في يوم كذا في شهر كذا. [سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 46] وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ يعني القِبْطَ النُّذُرُ فيهم قولان: أحدهما: أنه جمع نذير، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى. والثاني: أن النُّذُر بمعنى الإنذار وقد بيَّناه آنفاً، فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب أَخْذَ عَزِيزٍ أي: غالبٍ في انتقامه مُقْتَدِرٍ قادر على هلاكهم. ثم خوَّف أهل مكة فقال: أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ أي: أشدُّ وأقوى مِنْ أُولئِكُمْ وهذا استفهام معناه الإنكار والمعنى: ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود، وقد أهلَكْناهم أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ من العذاب أنه لا يصيبكم ما أصابهم فِي الزُّبُرِ أي: في الكُتب المتقدِّمة، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ المعنى: أيقولون: نحن يدٌ واحدةٌ على مَنْ خالفنا فننتصر منهم؟ وإنما وحَّد المُنْتَصِر للفظ الجميع، فإنه على لفظ «واحد» وإن كان اسماً للجماعة سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وروى أبو حاتم بن يعقوب: «سنهزم» بالنون، «الجمعَ» بالنصب، «وتوّلون» بالتاء، ويعني بالجمع: جمع كفار مكة وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ولم يقل: الأدبار، وكلاهما جائز قال الفراء: مِثلُه أن يقول: إن فلانا لكثير الدِّينار والدِّرهم. وهذا مما أخبر اللهُ به نبيَّه من عِلم الغَيب، فكانت الهزيمة يومَ بدر. قوله تعالى: وَالسَّاعَةُ أَدْهى قال مقاتل: هي أفظع وَأَمَرُّ من القتل. قال الزجاج: ومعنى الدّاهية: الأمر الشديد الذي لا يُهتدى لدوائه ومعنى «أمَرُّ» : أشَدُّ مرارةً من القَتْل والأسر.

_ (1) هود: 81.

[سورة القمر (54) : الآيات 47 إلى 55]

[سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 55] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ في سبب نزولها قولان: (1376) أحدهما: أن مشركي مكّة جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يُخاصِمونَ في القدَرَ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، انفرد بإخراجه مسلم من حديث أبي هريرة. (1377) وروى أبو أُمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الآية نزلت في القَدَريَّة» . (1378) والثاني: أن أُسْقُف نَجران جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد تزعُم أن المعاصي بقَدر، وليس كذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنتم خُصَماءُ الله» ، فنزلت: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله: بِقَدَرٍ، قاله عطاء. قوله تعالى: وَسُعُرٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الجنون. والثاني: العَناء، وقد ذكرناهما في صدر السورة. والثالث: أنه نار تَسْتَعِرُ عليهم، قاله الضحاك. فأمّا سَقَرَ فقال الزجّاج: هي اسم من أسماء جهنَّم لا ينصرف لأنها معرفة، وهي مؤنَّثة. وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: سَقَر: اسم لنار الأخرة أعجميّ، ويقال: بل هو عربيّ، من قولهم: سَقَرَتْه الشمس: إذا أذابته، سمِّيتْ بذلك لأنها تُذيب الأجسام. وروى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: (1379) «إذا جَمَع اللهُ الخلائق يوم القيامة أمر منادياً فنادى نداءً يسمعُه الأوَّلون والآخرون: أين خُصَماءُ اللهِ؟ فتقوم القَدريَّة، فيؤمر بهم إلى النار، يقول الله تعالى: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. وإنما قيل لهم: «خُصَماء الله» لأنهم يُخاصمون في أنه لا يجوز أن يُقَدِّر المعصية على العَبْد ثم يعذِّبه عليها. وروى هشام بن حسان عن الحسن قال: واللهِ لو أنِّ قدريّاً صام حتى يصير كالحَبْل، ثم صلَّى حتى يصير كالوتر، ثم أخذ ظلماً وزُوراً حتى ذُبح بين الرُّكْن والمقام لكَبَّه اللهُ على وجهه في سقر

_ صحيح. أخرجه مسلم 2656 والترمذي 2157 و 3290 وابن ماجة 83 والطبري 32834 والبغوي في «شرح السنة» 80 من طرق عن سفيان الثوري من حديث أبي هريرة. وأخرجه الطبري 32833 والواحدي في «الأسباب» 775 من طريقين عن سفيان الثوري به. ضعيف جدا، أخرجه الواحدي في «الأسباب» 776 من حديث أبي أمامة، وإسناده ضعيف جدا، لأجل عفير بن معدان، فإنه متروك. باطل، أخرجه الواحدي 777 في «أسبابه» عن بحر السقاء عن شيخ من قريش عن عطاء مرسلا، وهو ضعيف جدا. بحر السقاء واه، وفيه شيخ لم يسمّ، وهو مرسل أيضا والمتن باطل، فالسورة مكية بإجماع، وأخبار اليهود والنصارى وسؤالاتهم مدنية. لم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه. وورد مختصرا من حديث عمر دون ذكر الآية، أخرجه ابن الجوزي في «العلل» 219 وفيه عنعنة بقية بن الوليد، فهذه علة وفي الإسناد من لم يسمّ.

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. (1380) وروى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّ شيء بقدرٍ حتى العَجْزُ والكَيْسُ» . وقال ابن عباس: كل شيء بقدرٍ حتى وضعُ يدك على خدِّك. وقال الزجّاج: معنى «بقَدَرٍ» أي: كل شيء خلقناه بقدرٍ مكتوبٍ في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، ونصب «كُلَّ شيءٍ» بفعل مضمر المعنى: إنّا خلقنا كلَّ شيء خلقناه بقَدرٍ. قوله تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ قال الفراء: أي: إلاّ مرَّة واحدة، وكذلك قال مقاتل: مرَّة واحدة لا مثنوّية لها. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد: إِن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وقال ابن السائب: المعنى: وما أمرنا بمجيء الساعة في السُّرعة إلاّ كلَمْح البصر. ومعنى اللَّمْح بالبصر: النَّظر بسرعة. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي: أشباهكم ونُظَراءكم في الكُفر من الأمم الماضية فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي مُتَّعظ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ يعني الأمم. وفي الزُّبُرِ قولان: أحدهما: أنه كُتُب الحَفَظة. والثاني: اللَّوح المحفوظ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أي: من الأعمال المتقدِّمة مُسْتَطَرٌ أي: مكتوب، قال ابن قتيبة: هو «مُفْتَعَلٍ من «سَطَرْتُ» : إذا كتبت، وهو مثل «مَسْطُور» . قوله تعالى: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ قال الزجّاج: المعنى: في جنّات وأنهار، والاسم الواحد يَدلُّ على الجميع، فيجتزأ به من الجميع. أنشد سيبويه والخليل: بِها جِيَفُ الْحَسْرَى، فأَمّا عِظامُها ... فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ يريد: وأمّا جلودها، ومثله: في حَلْقِكُم عَظْمٌ وقد شجينا ومثله: كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُمُ تَعِيشُوا وحكى ابن قتيبة عن الفراء أنه وُحِّد لأنه رأسُ آية، فقابل بالتوحيد رؤوس الآي، قال: ويقال: النَّهَر: الضِّياء والسَّعة، من قولك: أنْهَرْتُ الطعنة: إِذا وسَّعْتَها، قال قيس بن الخَطِيم يصف طعنة: مَلَكْتُ بها كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قائمٌ مِنْ دُونِها ما وراءَها أي: أوسعتُ فَتْقَها. قلت: وهذا قول الضحاك. وقرأ الأعمش «ونُهُرٍ» . قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي: مَجلِس حسن وقد نبَّهْنا على هذا المعنى في قوله: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ «1» . فأمّا المَلِيك، فقال الخطابي: المَلِيك: هو المالك، وبناء فَعِيل للمُبالغة في الوصف، ويكون المَلِيك بمعنى المَلِك، ومنه هذه الآية. والمُقْتَدِر مشروح في الكهف «2» .

_ صحيح. أخرجه مسلم 2655 والبخاري في «خلق أفعال العباد» 73 وأحمد 2/ 110 وابن حبان 6149 من طرق عن مالك به من حديث ابن عمر. وأخرجه مالك 2/ 899 في «الموطأ» عن زياد بن سعد به. وأخرجه البغوي في «شرح السنة» 72 عن أبي مصعب عن مالك به.

سورة الرحمن

سورة الرّحمن وفي نزولها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن وعطاء ومقاتل والجمهور، إلّا أنّ ابن عباس قال: سوى آية، وهي قوله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» . والثاني: أنها مدنيّة، رواه عطية عن ابن عباس. وبه قال ابن مسعود. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) قوله عزّ وجلّ: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ. قال مقاتل: (1381) لمّا نزل قوله: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ «2» ، قال كُفّار مكَّةَ: وما الرَّحْمنُ؟! فأَنكروه وقالوا: لا نَعرِفُ الرحْمنَ، فقال تعالى: «الرَّحْمنُ» الذي أَنكروه هو الذي «علَّم القُرآنَ» . وفي قوله: عَلَّمَ الْقُرْآنَ قولان «3» : أحدهما: علّمه محمّدا، وعلّمه محمدٌ أُمَّته، قاله ابن السائب. والثاني: يسَّر القرآن، قاله الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: خَلَقَ الْإِنْسانَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم جنس، فالمعنى: خلق الإنسان جميعاً، قاله الأكثرون. فعلى هذا، في «البيان» ستة أقوال: أحدها: النُّطق والتَّمييز، قاله الحسن. والثاني: الحلال والحرام، قاله قتادة. والثالث: ما يقول وما يُقال له، قاله محمد بن كعب. والرابع: الخير والشر، قاله الضحاك. والخامس: طرق

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والخبر منكر جدا، أمارة الوضع لائحة عليه.

الهُدى، قاله ابن جريج. والسادس: الكتابة والخط، قاله يمان. والثاني: أنه آدم، قاله ابن عباس، وقتادة. فعلى هذا في «البيان» ثلاثة أقوال: أحدها: أسماء كل شيء. والثاني: بيان كل شيء. والثالث: اللّغات. والقول الثالث: أنه محمّد صلّى الله عليه وسلم، علّمه بيان كلّ شيء ما كان وما يكون، قاله ابن كيسان. قوله عزّ وجلّ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي: بحساب ومنازل، لا يعدوانها، قاله ابن عباس وقتادة وأبو مالك وقد كشَفْنا هذا المعنى في الأنعام «1» . قال الأخفش: أضمر الخبر، وأظُنُّه- والله أعلَمُ- أراد: يَجريان بحُسبان. قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ في النَّجْم قولان: أحدهما: أنه كُلُّ نَبْتٍ ليس له ساق، وهو مذهب ابن عباس، والسدي، ومقاتل، واللُّغويين. والثاني: أنه نَجْم السَّماء، والمُراد به: جميعُ النُّجوم، قاله مجاهد. فأمّا الشّجر: فكلّ ماله ساق. قال الفراء: سُجودهما: أنَّهما يستقبِلان الشمسَ إذا أشرقت، ثم يَميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقد أشرت في النحل «2» إلى معنى سُجود ما لا يَعْقِل. قال أبو عبيدة: وإنّما ثني فعلهما على لفظهما. قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءَ رَفَعَها وإنما فعل ذلك ليحيا الحيوان وتمتدّ الأنفاس بينها وبين الأرض، وأجرى الرِّيح بينها وبين الأرض، كيما يتروحَ الخَلق. ولولا ذلك لماتت الخلائق كَرْباً.. قوله عزّ وجلّ: وَوَضَعَ الْمِيزانَ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه العَدْل، قاله الأكثرون، منهم مجاهد والسدي واللغويون. قال الزجّاج: وهذا لأن المعادلة: مُوازَنة الأشياء. والثاني: أنه الميزان المعروف، ليتناصف الناس في الحقوق، قاله الحسن، وقتادة، والضحاك. والثالث: أنه القرآن، قاله الحسن بن الفضل. قوله عزّ وجلّ: أَلَّا تَطْغَوْا ذكر الزجّاج في «أنْ» وجهين: أحدهما: أنها بمعنى اللام والمعنى: لئلاّ تَطْغَوْا. والثاني: أنها للتفسير، فتكون «لا» للنهي والمعنى أي لا تطغوا، أي لا تجاوزوا العدل. قوله عزّ وجلّ: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ قال ابن قتيبة، أي: لا تنقصوا الوزن. فأمّا الأنام، ففيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الناس، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: كل ذي رُوح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي، والفراء. والثالث: الإنس والجن، قاله الحسن، والزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: فِيها فاكِهَةٌ أي: ما يُتفكَّه به من ألوان الثمار وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ والأكمام: الأوعية والغُلُف وقد استوفينا شرح هذا في حم السّجدة «3» . قوله عزّ وجلّ وَالْحَبُّ يريد: جميع الحبوب، كالبُر والشعير وغير ذلك. وقرأ ابن عامر: «والحَبَّ» بنصب الباء «ذا العصف» بالألف «والرَّيْحانَ» بنصب النون. وقرأ حمزة، والكسائي إلاّ ابن أبي سُريج، وخلف: «والحَبُّ ذو العَصْفِ والرَّيْحانِ» بخفض النون وقرأ الباقون بضم النون. وفي «العَصفْ» قولان: أحدهما: أنه تِبن الزَّرع وورقه الذي تعصفه الرِّياح، قاله ابن عباس.

_ (1) الأنعام: 96. (2) النحل: 49. (3) فصلت: 47.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 إلى 25]

وكذلك قال مجاهد: هو ورق الزَّرع. قال ابن قتيبة: العَصْف: ورق الزَّرع، ثم يصير إذا جفَّ ويبِس ودِيس تبناً. والثاني: أن العَصْف: المأكول من الحبِّ، حكاه الفراء. وفي «الرّيحان» أربعة أقوال: أحدها: أنه الورق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي. قال الفراء: الرّيحان في كلام العرب: الرّزق، يقولون: خرجنا طلب رَيْحان الله، وأنشد الزجاج للَّنمِر بن تَوْلب: سلامُ الإلهِ ورَيْحانُه ... ورَحْمَتُه وسَماءٌ دِرَرْ والثاني: خُضرة الزَّرع، رواه الوالبي عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: فعلى هذا سُمِّي رَيْحاناً، لاستراحة النَّفْس بالنظر إِليه. والثالث: أنه رَيحانكم هذا الذي يُشَمُّ، روى العوفي عن ابن عباس قال: «الرَّيْحان» : ما أَنبتت الأرضُ من الرَّيْحان، وهذا مذهب الحسن والضحاك وابن زيد. والرابع: أنه ما لم يؤكل من الحَبّ، والعَصْف: المأكول منه، حكاه الفراء. قوله عز وجل: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن قيل: كيف خاطب اثنين، وإنما ذكر الإنسان وحده؟ فعنه جوابان ذكرهما الفراء: أحدهما: أن العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين كما بيَّنّا في قوله: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «1» . والثاني: أن الذِّكر أريد به: الإنسان والجانّ، فجرى مجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها. قال الزجاج: لمّا ذكر اللهُ تعالى في هذه السورة ما يدُلُّ على وحدانيته من خَلْق الإنسان وتعليم البيان وخَلْق الشمس والقمر والسماء والأرض، خاطب الجنّ والإنس، فقال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي: فبأيِّ نِعَم ربِّكما تُكذِّبان من هذه الأشياء المذكورة، لأنها كلَّها مُنْعَم بها عليكم في دلالتها إيّاكم على وحدانيَّته وفي رزقه إيّاكم ما به قِوامكم. وقال ابن قتيبة: الآلاء: النِّعم، واحدها: ألا، مثل: قفا، وإلا، مثل: معى. [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 25] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) قوله عزّ وجلّ: خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني آدم مِنْ صَلْصالٍ قد ذكرنا في الحجر «2» الصَلْصال والجانَّ. فأمّا قوله: كَالْفَخَّارِ فقال أبو عبيدة: خُلق من طينٍ يابس لم يُطْبَخ، فله صوتٌ إذا نُقِر، فهو من يابسه كالفخّار. والفخّار: ما طبخ بالنّار. وأمّا المارِج، فقال ابن عباس: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إِذا التهبت. وقال مجاهد: هو المختلِط بعضُه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أُوقِدَتْ. وقال مقاتل: هو لهب النار الصافي من غير دخان. وقال أبو عبيدة: المارج: خَلْط من النار. وقال ابن قتيبة: المارج: لهب النار، من قولك: قد مَرِجَ الشيءُ: إذا اضطرب ولم يستقرّ. وقال الزجاج: هو اللهب المختلط بسواد النّار. وإن قيل قد أخبر الله تعالى عن

_ (1) ق: 24. (2) الحجر: 26- 27.

خَلْق آدم عليه السلام بألفاظ مختلفة، فتارة يقول: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «1» ، وتارة: «مِن صَلْصالٍ» ، وتارة: «مِنْ طِينٍ لازِبٍ» «2» ، وتارة: «كالفخّار» ، وتارة: «من حمأ مسنون» «3» فالجواب: أن الأصل التراب فجُعل طيناً، ثم صار كالحمإِ المسنون، ثم صار صَلصالاً كالفَخّار، فهذه أخبار عن حالات أصله. فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله: «فبأيِّ آلاء ربِّكما تُكذِّبانِ» الجواب أن ذلك التكرير لتقرير النِّعم وتأكيد التذكير بها. قال ابن قتيبة: من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز لأن افتنان المتكلّم والخطيب في الفنون أحسن من اختصاره في المقام على فنٍّ واحدٍ، يقول القائل: واللهِ لا أفعله، ثم واللهِ لا أفعله، إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع مِنْ أنْ يفعله، كما تقول: واللهِ أفعلُه، بإضمار «لا» إذا أراد الاختصار، ويقول القائل للمستعجل: اعْجَل اعْجَل، وللرامي: ارمِ ارمِ، قال الشاعر: كَمْ نِعْمَةٍ كانَتْ له وَكمْ وَكمْ وقال الآخر: هلا سألت جموع كندة ... يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنا «4» وربَّما جاءت الصِّفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانيةً لأنها كلمة واحدةٌ، فغيَّروا منها حرفاً ثم أتبعوها الأولى، كقولهم، عَطْشَانُ نَطْشَان، وشَيطان لَيْطان، وحَسَنٌ بَسَنٌ. قال ابن دريد: ومن الإتباع: جائع نائع، ومليح قريح، وقبيح شَقِيح، وشَحيح نَحيح، وخبيث نبيث، وكثير نثير، وسيِّغ لَيِّغ، وسائغ لائغ، وحَقير نَقير، وضَئيل بئيل، وخضر مضر، وعقريب نقريب، وثِقَةٌ نِقَةٌ، وكِنٌّ إنٌّ، وواحدٌ فاحدٌ، وحائرٌ بائر، وسمج لمج. قال ابن قتيبة: فلمّا عَدَّد اللهُ تعالى في هذه السورة نعماءَه، وأذكَرَ عِبَادَه آلاءَه، ونبَّههم على قُدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل نِعمتين، ليُفَهِّمهم النِّعم ويُقَرِّرهم بها، كقولك للرجل: أَلم أُبَوِّئْكَ مَنْزِلاً وكنتَ طريداً؟ أفتُنْكِرُ هذا؟ ألم أحُجَّ بك وأنت صَرُورَةٌ؟ أفَتُنْكِرُ هذا؟. (1382) وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 3291 والحاكم 3766 من طريق عبد الرحمن بن واقد عن الوليد بن مسلم حدثنا زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر به. وإسناده واه، زهير منكر الحديث في رواية أهل الشام عنه، وصححه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي. وأخرجه الحاكم 3766 وابن عدي 3/ 219 وأبو الشيخ في «العظمة» 1123 والواحدي في «الوسيط» 4/ 219 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 232 من طريق هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم بالإسناد السابق. وأخرجه البيهقي 2/ 232 من طريق مروان بن محمد قال: حدثنا زهير بن محمد به. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. قال ابن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يروى عنه بالعراق كأنه رجل آخر قلبوا اسمه. يعني لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة اه. وله شاهد من حديث ابن عمر: أخرجه البزار

رسول الله صلّى الله عليه وسلم سورة الرّحمن حتى ختمها ثم قال: «ما لي أراكم سكوتاً؟! لَلْجِنُّ كانوا أحسنَ منكم ردّاً، ما قرأتُ عليهم هذه الآية من مَرَّة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إِلاّ قالوا: ولا بشيء من نِعمك ربَّنا نكذِّب فلك الحمد» . قوله عزّ وجلّ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ قرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة: «ربِّ المشْرِقَيْن وربِّ المَغْرِبَيْن» بالخفض، وهما مَشْرِق الصَّيف ومَشْرِق الشتاء ومَغْرِب الصَّيف ومَغْرِب الشتاء للشمس والقمر جميعاً. قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: أرسل العذبَ والمِلْحَ وخلاهما وجعلهما يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي: حاجز من قدرة الله تعالى لا يَبْغِيانِ أي: لا يختلطان. فيبغي أحدهما على الآخر. وقال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كلَّ عام. وقال الحسين: «مَرَجَ البحرين» يعني بحر فارس والروم، بينهما برزخ، يعني الجزائر وقد سبق بيان هذا في الفرقان «1» . قوله عزّ وجلّ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ قال الزجاج: إنما يخرُج من البحر المِلْحِ، وإنما جمعهما، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد أُخرج منهما، ومثله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «2» . وقال أبو علي الفارسي: أراد: يخرُج من أحدهما، فحذف المضاف. وقال ابن جرير: إنما قال «منهما» لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء. فأمّا اللُّؤلؤ والمرجان، ففيهما قولان: أحدهما: أن المرجان: ما صَغُر من اللُّؤلؤ، واللُّؤلؤ: العظام، قاله الأكثرون، منهم ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والفراء. وقال الزجاج: اللُّؤلؤ: اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر، والمرجان: صِغاره. والثاني: أن اللُّؤلؤ: الصِّغار، والمرجان: الكبار، قاله مجاهد، والسدي، ومقاتل. قال ابن عباس: إذا أمطرت السماء، فتحت الأصدافُ أفواهها، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ وقال ابن جريج. حيث وقعت قطرةٌ كانت لؤلؤة. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللُّغويّ قال: ذكر بعضُ أهل اللُّغة أن المَرجان أعجميّ معرَّب. قال أبو بكر،

_ 2269 من طريق عمرو بن مالك البصري عن يحيى بن سليم الطائفي عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر مرفوعا. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 4/ 301 والطبري 32928 من طريق محمد بن عباد بن موسى عن يحيى بن سليم الطائفي به. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 118: رواه البزار عن شيخه عمرو بن مالك الراسبي، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. قلت: جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه، وقال الذهبي في «الميزان» 3/ 285 ضعفه أبو يعلى، وقال ابن عدي: يسرق الحديث، وتركه أبو زرعة وذكره ابن حبان في الثقات اه والظاهر أن ابن حبان ما عرفه. وتابعه محمد بن عباد بن موسى عند الطبري والخطيب كما تقدم، ومحمد هذا ضعيف، والظاهر أنه سرقه من عمرو بن مالك. وقال ابن عدي 3/ 219: هذا حديث لا يعرف إلا بهشام بن عمار، وقد سرقه جماعة من الضعفاء ذكر منهم في كتابي هذا، فحدثوا به عن الوليد وهم سليمان بن أحمد الواسطي وعلي بن جميل السرّقي وعمرو بن مالك البصري وبركة بن محمد الحلبي، والحديث، فهشام. أي عن الوليد عن زهير بن محمد وبه يعرف. تنبيه: ولم يتنبه الألباني إلى هذا الوارد عن ابن عدي، فجعل حديث ابن عمر شاهدا لحديث جابر فحكم بحسنه في «الصحيحة» 2150 والصواب أنه غير شاهد وإنما سرقه عمرو بن مالك وغيره وركبوا له هذا الإسناد عن ابن عمر ولو كان كذلك لرواه الأئمة الثقات، ولكن كل ذلك لم يكن، والمتن منكر فمتى كان الجن أحسن فهما من الصحابة؟!! كما هو مدلول هذا الخبر.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 إلى 30]

يعني ابن دريد: ولم أسمع فيه بفعل منصرف، وأَحْرِ به أن يكون كذلك. قال ابن مسعود: المرجان: الخرز الأحمر. وقال الزجاج: المَرجان أبيض شديد البياض. وحكى القاضي أبو يعلى أن المرجان: ضرب من اللُّؤلؤ كالقضبان. قوله عزّ وجلّ: وَلَهُ الْجَوارِ يعني السفن الْمُنْشَآتُ قال مجاهد: هو ما قد رُفع قِلْعه من السفن دون ما لم يرفع قلعه، القلع مكسور القاف. وقال ابن قتيبة: هنّ اللواتي أنشئن، أي: ابتدئ بهنَّ فِي الْبَحْرِ، وقرأ حمزة: «المُنْشِئاتُ» ، فجعلهن اللواتي ابتدأن، يقال: أنشأت السحابةُ تُمطر: إذا ابتدأتْ، وأنشأ الشاعُر يقول. والأعلام: الجبال، وقد سبق هذا «1» . [سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 30] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) قوله عزّ وجلّ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أي: على الأرض، وهي كناية عن غير مذكور، «فانٍ» أي هالكٌ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي: ويبقى ربُّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قال أبو سليمان الخطابي: الجلال: مصدر الجليل، يقال: جليل بَيِّن الجلالة والجلال. والإكرام: مصدر أكرمَ يُكْرِم إكراما والمعنى أنه يكرم أهل ولايته وأنّ الله مستحقّ أن يجلّ ويكرم، ولا يجحدونه ولا يكفروا به وقد يحتمل أن يكون المعنى: أنه يُكرم أهلَ ولايته ويرفع درجاتهم وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين- وهو الجلال- مضافاً إلى الله تعالى بمعنى الصفة له، والآخر مضافاً إلى العبد بمعنى الفعل منه، كقوله تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فانصرف أحد الأمرين إلى الله تعالى وهو المغفرة، والآخر إلى العباد وهو التقوى. قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المعنى أن الكل يحتاجون إليه فيسألونه وهو غنيٌّ عنهم كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ مثل أن يُحيي ويُميت، ويُعِزّ ويُذِلّ، ويشفي مريضاً، ويُعطي سائلاً، إلى غير ذلك من أفعاله. وقال الحسين بن الفضيل: هو سَوق المقادير إِلى المواقيت. (1383) قال مقاتل: وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت: إن الله لا يقضي في يوم السبت شيئاً، فنزلت: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. (1384) عن عبد الله بن منيب «2» عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لمّا سئل عن ذاك الشأن: «يغفر ذنبا

_ باطل، عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يصنع الحديث، والمتن باطل. وانظر ما بعده. أخرجه الطبري 3312 والبزار 2266 «كشف» وأبو الشيخ 1510 من حديث عبد الله بن منيب، وإسناده ضعيف، فيه عمرو بن بكر السكسكي وهو ضعيف متروك. وله شاهد أخرجه ابن ماجة 202 وابن أبي عاصم في «السنة» 301 وابن حبان 689 والبزار 2267 «كشف» وأبو الشيخ 150 والديلمي 4775 والبيهقي في «الصفات» ص 98 وأبو نعيم 5/ 252 من حديث أبي الدرداء. ومداره على الوزير ابن صبيح، وهو لين الحديث ومن وجه آخر أخرجه ابن الجوزي في «العلل» 24 وفيه الوليد بن مسلم وهو مدلس. وقد عنعن. وصوب الدارقطني الوقف فيما نقل عنه ابن الجوزي. وكذا جعله البخاري من كلام أبي الدرداء. انظر «الفتح» 8/ 490، ومع ذلك صححه الألباني في «تخريج» السنة 301/ 130 فالله أعلم.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 إلى 36]

ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين» . [سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 36] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) قوله عزّ وجلّ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «سنَفْرُغُ» بنون مفتوحة. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وعبد الوارث: «سيَفْرُغُ» بياءٍ مفتوحة. وقرأ ابن السّميفع، وابن يعمر، وأبو عبيدة، وعاصم الجحدري والحلبيّ عن عبد الوارث: «سيُفْرَغُ» بضم الياء وفتح الراء. قال الفراء: هذا وعيد من الله تعالى، لأنه لا يشغَله شيء عن شيء، تقول للرجل الذي لا شغل له: قد فرغتَ لي، قد فرغت تشتمني؟! أي: قد أخذت في هذا وأقبلت عليه؟ وقال الزجاج: الفراغ في اللغة على ضربين. أحدهما: الفراغ من شغل. والآخر: القصد للشيء، تقول: قد فرغتُ مما كنتُ فيه، أي: قد زال شغلي به، وتقول: سأتفرَّغ لفلان، أي: سأجعله قصدي، ومعنى الآية: سنَقْصُد لحسابكم. فأمّا «الثَّقَلان» فهما الجن والإنس، سُمِّيا بذلك لأنهما ثقل الأرض. قوله عزّ وجلّ: أَنْ تَنْفُذُوا أي: تخرُجوا يقال: نفذ الشيء من الشيء: إذا خَلَص منه، كالسهم ينفُذ من الرَّمِيَّة والأقطار: النواحي والجوانب وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إِن استطعتم أن تعلَموا ما في السموات والأرض فاعلَموا، قاله ابن عباس. والثاني: إن استطعتم أن تهرُبوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهرُبوا واخرُجوا منها والمراد: أنكم حيثما كنتم أدرككم الموت، هذا قول الضحاك ومقاتل في آخرين. والثالث: إن استطعتم أن تَجُوزوا أطراف السموات والأرض فتُعجِزوا ربَّكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا وإنما يقال لهم هذا يوم القيامة، ذكره ابن جرير. قوله عزّ وجلّ: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تنفذون إِلا في سلطان الله عزّ وجلّ، لأنه مالك كل شيء، قاله ابن عباس. والثاني: لا تنفذون إِلاّ بحُجَّة، قاله مجاهد. والثالث: لا تنفُذون إِلا بمُلك، وليس لكم ملك، قاله قتادة. قوله عزّ وجلّ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما فثنَّى على اللفظ. وقد جمع في قوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ على المعنى. فأمّا «الشُّواظ» ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لهب النار، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار. والثاني: الدُّخان، قاله سعيد بن جبير. والثالث: النار المحضة، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: هي النار التي تأجّج لا دخان فيها، ويقال: شواط وشِواظ. وقرأ ابن كثير بكسر الشين وقرأ أيضاً هو وأهل البصرة: «ونُحاسٍ» بالخفض، والباقون برفعها. وفي «النُّحاس» قولان: أحدهما: أنه دخان النار، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير والفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج، ومنه قول الجعديّ يذكر امرأة: تضيء كضوء سراج السّليط ... لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فيه نُحاسا وذكر الفراء في السَّليط ثلاثة أقوال: أحدها: أنه دُهن السَّنام، وليس له دخان إِذا استُصبح به. والثاني: أنه دهن السّمسم. والثالث: أنه الزّيت. والقول الثاني: أنه الصُّفْر المُذاب يُصَبُّ على

[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 إلى 45]

رؤوسهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة. قال مقاتل: والمراد بالآية: كفار الجن والإنس، يرسل عليهما في الآخرة لهب النار والصُّفْر الذائب، وهي خمسة أنهار تجري على رؤوس أهل النّار، ثلاثة أنهار من تحت العرش على مقدار الليل، ونهران على مقدار أنهار الدنيا، فَلا تَنْتَصِرانِ أي: فلا تمتنعان من ذلك «1» . [سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) قوله تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي: انفرجتْ من المجرَّة لنُزول مَنْ فيها يومَ القيامة فَكانَتْ وَرْدَةً وفيها قولان: أحدهما: كلَوْن الفرس الوردة، قاله أبو صالح، والضحاك. وقال الفراء: الفرس الوردة، تكون في الربيع وردة إِلى الصُّفرة، فإذا اشتد الحر كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة من الخيل وكذلك قال الزّجّاج: «فكانت وردة» كلون فرس وردة، والكُميت: الورد يتلوَّن، فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصيف، ولونه في الصيف خلاف لونه في الشتاء، والسماء تتلوَّن من الفزع الأكبر. وقال ابن قتيبة: المعنى: فكانت حمراء في لون الفرس الورد. والثاني: أنها وردة النبات وقد تختلف ألوانها، إلا أن الأغلب عليها الحمرة، ذكره الماوردي. وفي الدِّهان قولان: أحدهما: أنه واحد، وهو الأديم الأحمر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه جمع دُهن، والدُّهن تختلف ألوانه بخُضرة وحُمرة وصُفرة، حكاه اليزيدي، وإلى نحوه ذهب مجاهد، وقال الفراء: شبّه تلوُّن السماء بتلوُّن الوردة من الخيل، وشبّه الوردة في اختلاف ألوانها بالدّهن. قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يسألون ليُعلم حالهم، لأن الله تعالى أعلم منهم بذلك. والثاني: لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لاشتغال كل واحد منهم بنفسه، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: لا يُسألون عن ذنوبهم لأنهم يُعرفون بسيماهم، فالكافر أسود الوجه، والمؤمن أغر الوجه محجَّل من أثر وضوئه، قاله الفراء. قال الزجاج: لا يُسأل أحد عن ذنْبه ليُستفهم، ولكنه يسأل سؤال توبيخ وتقريع. قوله عزّ وجلّ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ قال الحسن: بسواد الوجوه، وزَرَق الأعيُن فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فيه قولان: أحدهما: أن خزنة جهنم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظُهورهم ثم يدفعونهم على وجوههم في النار، قاله مقاتل. والثاني: يؤخذ بالنَّواصي والأقدام فيُسحبون إلى النار، ذكره الثعلبي. وروى مردويه الصائغ، قال: صلّى بنا الإمام صلاة الصبح فقرأ سورة «الرحمن» ومعنا علي بن الفضيل بن عياض، فلمّا قرأ «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم» خَرَّ عليٌّ مغشيّاً عليه حتى فرغنا من الصلاة، فلمْا كان بعد ذلك قلنا له: أما سمعتَ الإمام يقرأ «حور مقصورات في الخيام» ؟ قال:

_ (1) هذا الخبر من مناكير مقاتل وأباطيله، وإنما هو التحدي في الدنيا.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 إلى 53]

شغلني عنها «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم فيؤخذ بالنَّواصي والأقدام» . قوله عزّ وجلّ: هذِهِ جَهَنَّمُ أي يقال لهم: هذه جهنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يعني المشركين يَطُوفُونَ بَيْنَها وقرأ أبو العالية وأبو عمران الجوني: «يُطَوِّفون» بياءٍ مضمومة مع تشديد الواو، وقرأ الأعمش مثله إلّا أنه بالتاء. قوله عزّ وجلّ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قال ابن قتيبة: الحميم: الماء الحارّ، والآني: الذي قد انتهت شِدَّة حَرِّه. قال المفسرون: المعنى أنهم يسعَون بين عذاب الحميم وبين عذاب الجحيم، إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة. [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 53] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) قوله عزّ وجلّ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فيه قولان: أحدهما: قيامه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم الجزاء. والثاني: قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسبه. وجاء في التفسير، أن العبد يهُمُّ بمعصية فيتركها خوفا من الله عزّ وجلّ فله جنَّتان، وهما بستانان ذَواتا أَفْنانٍ فيه قولان: أحدهما: أنها الأغصان، وهي جمع فَنَن، وهو الغُصن المستقيم طولاً، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعطية، والفراء، والزجاج. والثاني: أنها الألوان والضّروب من كلّ شيء، وهي جمع فنّ، وهذا قول سعيد بن جبير. وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة. وجمع عطاء بين القولين، فقال: في كل غصن فُنون من الفاكهة. قوله تعالى: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ قال ابن عباس: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: السلسبيل، والأخرى: التسنيم. وقال عطية: إحداهما: من ماءٍ غير آسن، والأخرى: من خمر. وقال أبو بكر الورّاق: فيهما عينان تجريان لِمَن كانت له في الدنيا عينان تَجْرِيان من البكاء. قوله عزّ وجلّ: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي: صنفان ونوعان. قال المفسرون: فيهما من كل ما يُتفكَّه به نوعان، رطب ويابس، لا يقصر أحدهما عن الآخر في فضله. [سورة الرحمن (55) : الآيات 54 الى 61] مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) مُتَّكِئِينَ هذا حال المذكورين عَلى فُرُشٍ جمع فِراش بَطائِنُها جمع بِطانة، وهي التي تحت الظِّهارة. وقال أبو هريرة: هذه البطائن، فما ظنُّكم بالظهائر؟! وقال ابن عباس: إنما ترك وصف الظواهر، لأنه ليس أحدٌ يعلم ما هي. وقال قتادة: البطائن: هي الظواهر بلُغة قوم. وكان الفراء يقول: قد تكون البطانة ظاهرة، والظّهارة باطنة، لأن كل واحد منهما قد يكون وجهاً، والعرب تقول: هذا ظَهْرُ السماءِ، وهذا بَطْنُ السماء، لظاهرها، وهو الذي تراه، وقال ابن الزبير يَعيب قَتَلة عثمان: خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كلّ قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب. يعني هربوا ليلاً فجعلوا ظهور الكواكب بطوناً، وذلك جائز في العربيَّة. وأنكر هذا القول ابن قتيبة جداً، وقال:

إنما أراد الله أن يعرِّفنا- من حيث نَفهم- فضلَ هذه الفُرش وأن ما وليَ الأرض منها إستَبْرَقٌ، وإذا كانت البِطانة كذلك، فالظِّهارةُ أعلى وأشرفُ. وهل يجوز لأحد أن يقول لوجهِ مصَلٍّ: هذا بِطانتُه، ولِما وَلِيَ الأرض منه: هذا بطانته؟! وإنما يجوز هذا في ذي الوجهين المتساويين، تقول لِما وَلِيَك من الحائط: هذا ظَهْرُ الحائط، ويقول جارك لِما وَلِيَه: هذا ظَهْرُ الحائط، وكذلك السماء ما ولينا منها: ظَهْر، وهي لِمَن فَوْقَها: بَطْن. وقد ذكرنا الإستبرق في سورة الكهف «1» . قوله عزّ وجلّ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ قال أبو عبيدة: أي: ما يُجتنى قريبٌ لا يُعَنِّي الجانِيَ. قوله عزّ وجلّ فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ قد شرحناه في الصافات «2» . وفي قوله: «فِيهِنَّ» قولان: أحدهما: أنها تعود إلى الجَنَّتَين وغيرهما مما أُعدَّ لصاحب هذه القِصَّة، قاله الزجاج. والثاني: أنها تعود إلى الفُرُش، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ قرأ الكسائي بضم الميم، والباقون بكسرها، وهما لغتان: يَطْمِثُ ويَطْمُثُ، مثل يَعْكِفُ ويعكف. وفي معناه قولان: أحدهما: لم يفتضّهنّ والطَّمْثُ: النِّكاح بالتَّدمية، ومنه قيل للحائض: طامِثٌ، قاله الفراء. والثاني: لَمْ يَمْسَسْهُنَّ يقال: ما طَمَثَ هذا البعيرَ حَبْلٌ قَطٌ، أي: ما مسَّه، قاله أبو عبيدة. قال مقاتل: وذلك لأنهنَّ خُلِقْنَ من الجَنَّة فعلى قوله، هذا صفة الحُور. وقال الشعبي: هُنَّ من نساء الدنيا لَمْ يَمْسَسْهُنَّ مذ أُنشئن خَلْقٌ. وفي الآية دليل على أن الجِنِّيَّ يَغْشَى المرأة كالإنسيّ. قوله عزّ وجلّ: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ قال قتادة: هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان. وذكر الزجاج أن أهل التفسير وأهل اللغة قالوا: هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان، والمَرْجان: صِغار اللؤلؤ، وهو أشدُّ بياضاً. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: «الياقوت» فارسيٌّ معرَّب، والجمع «اليواقيت» ، وقد تكلَّمت به العربُ، قال مالكُ بن نُوَيْرَةَ اليَرْبُوعيّ: لَنْ يُذْهِبَ اللُّؤْمَ تاجٌ قَدْ حُبِيتَ بِهِ ... مِنَ الزَّبَرْجَدِ والياقوتِ والذَّهَبِ قوله عزّ وجلّ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ قال الزجاج، أي: ما جزاءُ مَنْ أحسنَ في الدُّنيا إلاّ أن يُحسَنَ إِليه في الآخرة. وقال ابن عباس: هل جزاءُ من قال: «لا إِله إِلاّ اللهُ» وعَمِل بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلم إلاّ الجنة. وروى أنس بن مالك قال: (1385) قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية، وقال: «هل تدرون ما قال ربُّكم» ؟ قالوا: اللهُ ورسُوله أعلمُ، قال: «فإن ربَّكم يقول: هل جزاءُ مَنْ أنْعَمْنا عليه بالتوحيد إلّا الجنّة» ؟!

_ ضعيف. أخرجه البغوي 2094 من حديث أنس، وفي إسناده بشر بن الحسين، وهو منكر الحديث كما قال البخاري وغيره، لكن له شاهد أمثل منه إسنادا. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 227 من طريق إسحاق بن إبراهيم بن بهرام بهذا الإسناد. وأخرجه أبو نعيم في «تاريخ أصفهان» 1/ 233 من طريق الحجاج بن يوسف به. وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه البيهقي في «الشعب» 427 وإسناده ضعيف لضعف إبراهيم بن محمد الكوفي، وبه أعلّه البيهقي حيث قال عنه: منكر.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 إلى 78]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) قوله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قال الزجاج: المعنى: ولِمَن خاف مقام ربِّه جنَّتان، وله مِن دونهما جنَّتان. وفي قوله: «ومِنْ دونِهما» قولان: أحدهما: دونهما في الدَّرج، قاله ابن عباس. والثاني: دونهما في الفضل، كما روى أبو موسى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (1386) «جنَّتان من ذهب وجنَّتان من فضة» وإلى نحو هذا ذهب ابن زيد، ومقاتل. قوله تعالى: مُدْهامَّتانِ قال ابن عباس وابن الزبير: خضراوان من الرِّيّ. وقال أبو عبيدة: من خُضرتهما قد اسودَّتا. قال الزجاج: يعني أنهما خضراوان تضرب خضرتُهما إلى السَّواد، وكل نبت أخضر فتمام خُضرته ورِيِّه أن يضرب إلى السّواد. قوله تعالى: ضَّاخَتانِ قال أبو عبيدة: فوّارتان. وقال ابن قتيبة: تفوران، و «النَّضْخ» أكثر من «النَّضْح» . وفيما يفوران به أربعة أقوال: أحدهما: بالمسك والكافور، قاله ابن مسعود. والثاني: بالماء، قاله ابن عباس. والثالث: بالخير والبركة، قاله الحسن. والرابع: بأنواع الفاكهة، قاله سعيد بن جبير. قوله تعالى: وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ قال ابن عباس: نَخْلُ الجَنَّة: جذوعها زمرُّد أخضر، وكَرَبُها: ذهبٌ أحمر، وسَعَفها: كُسوة أهل الجنة، منها مُقطَّعاتهم وحُللهم. وقال سعيد بن جبير: نخل الجنة: جذوعها من ذهب، وعروقها من ذهب، وكرانيفها من زمرُّد، ورُطَبها كالدِّلاء أشد بياضاً من اللَّبَن، وألين من الزُّبد، وأحلى من العسل، ليس له عجم. قال أبو عبيد: الكرانيف: أصول السَّعَف الغلاظ، الواحدة: كرْنافَة. وإنما أُعاد ذِكر النَّخْل والرُّمّان- وقد دخلا في الفاكهة- لبيان فضلهما كما ذكرنا في قوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» ، هذا قول جمهور المفسرين واللُّغويِّين. وحكى الفراء والزجاج أن قوماً قالوا: ليسا من الفاكهة قال الفراء: وقد ذهبوا مذهباً، ولكن العرب تجعلهما فاكهة. قال الأزهري: ما علمتُ أحداً من العرب قال في النخيل والكروم وثمارها: إنها ليست من الفاكهة،

_ صحيح. أخرجه البخاري 7444 من حديث أبي موسى. وأخرجه البخاري 4878 و 4880 ومسلم 180 والترمذي 2528 وابن ماجة 186 وابن أبي عاصم في «السنة» 613 وأحمد 4/ 411 والدولابي في «الكنى» 2/ 71 وابن أبي داود في «البعث» 59 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 16 وابن حبان 7386 والبيهقي في «الاعتقاد» ص 130 والبغوي في «شرح السنة» 4275 والذهبي في «تذكرة الحفاظ» 1/ 270 من طرق عن عبد العزيز بن عبد الصمد به. وأخرجه أحمد 4/ 416 وابن أبي شيبة 3/ 148 والدارمي 2/ 333 والطيالسي 529 وابن مندة في «التوحيد» 781 من طريق أبي قدامة الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني به وأتم منه.

وإنما قال من قال، لقِلَّة عِلْمه بكلام العرب، فالعرب تذكرُ أشياء جملة ثم تخُصُّ شيئاً منها بالتسمية تنبيهاً على فضل فيه، كقوله: «وجبريل وميكال» فمن قال: ليسا من الملائكة كفر، ومن قال: ثمر النّخل والرّمان ليس من الفاكهة جهل. قوله تعالى: فِيهِنَّ يعني في الجِنان الأربع خَيْراتٌ يعني الحُور. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: «خَيِّراتٌ» بتشديد الياء. قال اللغويون: أصله «خَيِّراتٌ» بالتشديد، فخُفِّف، كما قيل: هيّن وهين، وليّن ولين. (1387) وروت أمّ سلمة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال «خَيْراتُ الأخلاقِ حِسان الوُجوه» . قوله تعالى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ قد بيَّنّا في سورة الدخان «1» معنى الحُور. وفي المقصورات قولان: أحدهما: المحبوسات في الحِجَال، قاله ابن عباس، وهو مذهب الحسن، وأبي العالية، والقرظي، والضحاك، وأبي صالح. والثاني: المقصورات الطَّرف على أزواجهنّ، فلا يرفعن طَرْفاً إلى غيرهم، قاله الربيع. وعن مجاهد كالقولين. والأول أصح، فإن العرب تقول: امرأة مَقْصُورة وقَصِيرة وقَصُورَة: إذا كانت ملازمة خدرها، قال كُثيِّر: لَعَمْرِي لقد حبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ ... إليَّ، وما تَدْرِي بذاكَ القَصَائِرُ عَنَيْتُ قَصيرات الحِجَالِ، ولَمْ أُرِدْ ... قِصارَ الخُطى، شَرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ وبعضهم ينشده: قَصُورَة، وقَصُورات والبحاتر: القِصار. وفي «الخيام» قولان: أحدهما: أنها البيوت. والثاني: خيام تضاف إلى القصور. (1388) وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن للمؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوَّفةٍ، طُولها في السماء سِتُّون مِيلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضاً» . وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس: الخيام: دُرٌّ مُجَوَّف. وقال ابن عباس: الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ، وقرأ عثمان بن عفان، وعاصم الجحدري، وابن محيصن: «على رَفَارفَ» جمع غير مصروف. وقرأ الضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني مثلهم، إلّا أنهم

_ ضعيف. أخرجه الطبري 33172 والواحدي في «الوسيط» 4/ 229 من طريقين عن عمرو بن هاشم عن سليمان بن أبي كريمة، عن هشام بن حسان عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، وإسناده ضعيف لضعف سليمان. أم الحسن اسمها خيرة. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 118- 119 وأعلّه بسليمان بن أبي كريمة، فقال: ضعفه ابن عدي، وأبو حاتم. صحيح. أخرجه البخاري 4879 والبغوي في «شرح السنة» 4275 عن محمد بن المثنى به. وأخرجه مسلم 2838 ح 24 والترمذي 2528 وأحمد 4/ 411 وابن حبان 7395 من طرق عن عبد العزيز بن عبد الصمد به. وأخرجه البخاري 3243 ومسلم 3828 وأحمد 4/ 400 و 419 والدارمي 2/ 336 وأبو الشيخ في «العظمة» 606 والواحدي في «الوسيط» 4/ 229 والبيهقي في «البعث» 303 من طرق عن أبي عمران الجوني به.

صرفوا «رفارف» قال ثعلب: إنما لم يقل: أخضر، لأن الرَّفرف جمع، واحدته: رفرفة، كقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارا «1» ولم يقل: الخُضْر، لأن الشجر جمع، تقول: هذا حصىً أبيض، وحصى أسود، قال الشاعر: أَحَقّاً عِبادَ اللِه أنْ لستُ ماشياً ... بِهِرْجَابَ ما دامَ الأَراكُ به خُضْرا واختلف المفسرون في المراد بالرَّفرف على ثلاثة أقوال: أحدها: فضول المجالس والبُسُط، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: هي: الفُرُش والبُسط. وحكى الفراء، وابن قتيبة: أنها المجالس. وقال النّقّاش: الرّفرف: المجالس الخُضْر فوق الفْرُش. والثاني: أنها رياض الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير رياض الجنّة: خضراء مخصبة. والثالث: أنها الوسائد، قاله الحسن. قوله تعالى: وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ فيه قولان: أحدهما: أنها الزَّرابيّ، قاله ابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وكذلك قال ابن قتيبة: العبقريّ: الطّنافِس الثِّخان. قال أبو عبيدة: يقال لكل شيء من البُسُط: عبقريّ. والثاني: أنه الدِّيباج الغليظ، قاله مجاهد. قال الزجاج: أصل العبقريّ في اللغة أنه صفة لكل ما بُولِغَ في وصفه، وأصلُه أن عبقر: بلد كان يوشى فيه البُسط وغيرها، فنُسب كل شيء جيِّد إليه، قال زهير: بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيرونَ يَوْماً أن يَنالوا فيَسْتَعْلُوا وقرأ عثمان بن عفان وعاصم الجحدري وابن محيصن: «وعَباقِرِيَّ» بألف مكسورة القاف مفتوحة الياء من غير تنوين قال الزّجّاج: لا وجه لهذه القراءة في العربية، لأن الجمع الذي بعد ألفه حرفان، نحو: مساجد ومصباح، لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقِرِي، لأن ما جاوز الثلاثة لا يُجمع بياء النّسب، فلو جمعت «عبقريّ» فإنّ جمعُه «عباقرة» ، كما أنك لو جمعت «مُهلبيّ» كان جمعه «مَهالبة» ، ولم تقل: «مَهالبيّ» ، قال: فإن قيل «عبقريّ» واحد، و «حِسَان» جمع، فكيف جاز هذا؟ فالأصل أنّ واحدة هذا «عبقرية» والجمع «عبقري» ، كما تقول: ثمرة وثمر، ولَوْزة ولَوْز، ويكون أيضاً «عبقري» اسماً للجنس. وقرأ الضحاك وأبو العالية وأبو عمران: «وعَباقِرِيٍّ» بألف مع التنوين. قوله عزّ وجلّ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ فيه قولان: أحدهما: أن ذِكْر «الاسم» صِلَة، والمعنى: تبارك ربُّك. والثاني: أنه أصل، قال ابن الأنباري: المعنى: تفاعل من البركة، أي: البركة تكتب وتنال وتكسب بذِكْر اسمه. وقد بيَّنّا معنى «تبارك» في «الأعراف» «2» ، وذكرنا في هذه السورة معنى ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ «3» ، وكان ابن عامر يقرأ: «ذو الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الشام والباقون: «ذي الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق، وهم متفقون على الموضع الأول أنه «ذو» .

_ (1) يس: 80. (2) الأعراف: 54. (3) الرحمن: 27.

سورة الواقعة

سورة الواقعة وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، قاله الأكثرون، منهم ابن عباس، والحسن، وعطاء وعكرمة، وقتادة، وجابر، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس أنّ فيها آية مدنيّة وهي قوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) . والثاني: أنها مدنيّة، رواه عطيّة عن ابن عباس. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) قوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ قال أبو سليمان الدمشقي: لمّا قال المشركون: متى هذا الوعد، متى هذا الفتح؟! نزل قوله: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، قال أبو سليمان الدّمشقي فالمعنى: يكون إذا وقعت. قال المفسرون: والواقعة: القيامة، وكل آتٍ يتوقع يقال له إذا كان: قد وقع، والمراد بها هاهنا: النَّفخة في الصُّور لقيام الساعة. لَيْسَ لِوَقْعَتِها أي لمجيئها وظهورها كاذِبَةٌ أي: كذب، كقوله عزّ وجلّ: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً «1» أي: لغواً. قال الزجاج: و «كاذبة» مصدر، كقولك عافاه الله عافية، وكذب كذبة، فهذه أسماء في موضع المصدر. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: لا رجعةَ لها ولا ارتداد، قاله قتادة. والثاني: ليس الإخبار عن وقوعها كذبا، حكاه الماوردي. قوله عزّ وجلّ: خافِضَةٌ أي: هي خافضة رافِعَةٌ وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وأبو العالية، والحسن، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، واليزيدي في اختياره: «خافضةً رافعةً» بالنصب فيهما. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أنها خفضتْ فأسمعتِ القريبَ، ورفعتْ فأسمعتِ البعيدَ، رواه العوفي عن ابن عباس، وهذا يدل على أن الواقعة صيحة القيامة. والثاني: أنها خفضت ناساً، ورفعت آخرين، رواه عكرمة عن ابن عباس. قال المفسرون: تخفض أقواماً إلى أسفل السافلين في النار، وترفع أقواماً إِلى عِلِّيِّين في الجنة.

_ (1) الغاشية: 11. [.....]

قوله عزّ وجلّ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي: حُرِّكتْ حركةً شديدة وزلزلت، وذلك أنها ترتجّ حتى يتهدّم ما عليها من بناءٍ، ويتفتَّت ما عليها من جبل. وفي ارتجاجها قولان: أحدهما: أنه لإماتة من عليها من الأحياء. الثاني: لإخراج من في بطنها من الموتى. قوله عزّ وجلّ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فيه قولان: أحدهما: فُتِّتت فَتّاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال مجاهد. قال ابن قتيبة: فتّت حتى صارت كالدَّقيق والسَّويق المبسوس. والثاني: لُتَّتْ، قاله قتادة: وقال الزجاج: خُلِطتْ ولُتَّت. قال الشاعر: لا تخبزن خبزا وبسّ بَسَّا وفي «الهَباء» أقوال قد ذكرناها في الفرقان «1» . وذكر ابن قتيبة أن الهَباء المُنْبَثّ: ما سطع من سنابك الخيل، وهو من «الهبوة» ، والهبة: الغبار. والمعنى: كانت ترابا منتشرا. قوله عزّ وجلّ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أي: أصنافاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وفيهم ثمانية أقوال «2» : أحدها: أنهم الذين كانوا على يمين آدم حين أُخرجت ذُرِّيَّتهُ مِنْ صُلبه، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين يُعْطَون كتبهم بأيمانهم، قاله الضحاك والقرظي. والثالث: أنهم الذين كانوا ميامين على أنفُسهم، أي: مبارَكين، قاله الحسن والربيع. والرابع: أنهم الذين أُخذوا من شِقِّ آدم الأيمن، قاله زيد بن أسلم. والخامس: أنهم الذين منزلتهم عن اليمين، قاله ميمون بن مهران. والسادس: أنهم أهل الجنة، قاله السدي. والسابع: أنهم أصحاب المنزلة الرفيعة، قاله الزجاج. والثامن: أنهم الذين يؤخذ بهم ذاتَ اليمين إلى الجنة، ذكره علي بن أحمد النّيسابوري. قوله عزّ وجلّ: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ قال الفراء: عجَّب نبيَّه صلّى الله عليه وسلم منهم والمعنى: أيُّ شيء هُمْ؟! قال الزجاج: وهذا اللفظ في العربية مجراه مجرى التعجب، ومجراه من الله عزّ وجلّ في مخاطبة العباد ما يعظم به الشأن عندهم، ومثله: مَا الْحَاقَّةُ «3» ، مَا الْقارِعَةُ «4» قال ابن قتيبة: ومثله أن تقول: زيد ما زيد أيّ رجل هو! وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أي: أصحاب الشمال، والعرب تسمِّي اليدَ اليسرى: الشُّؤمَى، والجانبَ الأيسر الأشأم، ومنه قيل: اليُمْن والشُّؤم، فاليُمْن: كأنه ما جاء عن اليمين، والشؤم ما جاء عن الشمال، ومنه سمِّيت اليَمَن و «الشّأم» لأنها عن يمين الكعبة وشمالها. قال المفسرون: أصحاب الميمنة: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين، ويعطَون كتبهم بأيمانهم وتفسير أصحاب المشأمة على ضد تفسير أصحاب الميمنة سواء،

_ (1) الفرقان: 23. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 335: وقوله: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً أي: ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات اليمين. وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر، ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال. وهم عامّة أهل النار- عياذا بالله من صنيعهم- وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء وهم أقل عددا من أصحاب اليمين وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه. اه. (3) الحاقة: 2. (4) القارعة: 2.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 إلى 26]

والمعنى: أيُّ قوم هم؟! ماذا أُعِدَّ لهم من العذاب؟! قوله عزّ وجلّ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ فيهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم السابقون إلى الإيمان من كل أُمَّة، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أنهم الذين صلّوا إلى القِبلتين، قاله ابن سيرين. والثالث: أهل القرآن، قاله كعب. والرابع: الأنبياء، قاله محمد بن كعب. والخامس: السابقون إلى المساجد وإلى الخروج في سبيل الله، قاله عثمان بن أبي سودة. وفي إِعادة ذِكْرهم قولان: أحدهما: أن ذلك للتوكيد. والثاني: أن المعنى: السابقون إلى طاعة الله تعالى هم السابقون إلى رحمة الله، ذكرهما الزجاج. قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ قال أبو سليمان الدمشقي: يعني عند الله في ظلّ عرشه وجواره. [سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 26] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) الثُلَّة: الجماعة غير محصورة العدد. وفي الأوَّلين والآخِرين هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأوَّلين: الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبيّنا صلّى الله عليه وسلم، والآخرين: هذه الأمة. والثاني: أن الأولين: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والآخرين: التابعون. والثالث: أن الأولين والآخِرين: من أصحاب نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم. فعلى الأول يكون المعنى: إنّ السابقين جماعة من الأُمم المتقدِّمة الذين سبقوا بالتصديق لأنبيائهم مَنْ جاء بعدهم مؤمناً، وقليلٌ من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، لأن الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدَّقوا بهم أكثر ممّن عاين نبيِّنا وصدَّق به. وعلى الثاني: أن السابقين: جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهم الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، وقليل من التابعين وهم الذين اتَّبعوهم باحسان. وعلى الثالث: أن السابقين: الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، وقليل ممَّن جاء بعدهم لعجز المتأخِّرين أن يلحقوا الأوَّلين، فقليل منهم من يقاربهم في السَّبق. وأمّا «الموضونة» ، فقال ابن قتيبة هي المنسوجة، كأن بعضها أُدخِلَ في بعض، أو نُضِّد بعضُها على بعض، ومنه قيل للدِّرع: مَوْضونة، ومنه قيل: وَضِينُ النّاقة، وهو بِطان ٌمن سُيور يُدْخَل بعضُه في بعض. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الآجُرُّ موضونٌ بعضُه على بعض، أي: مسروح، وللمفسرين في معنى «مَوْضُونةٍ» قولان: أحدهما: مرمولة بالذهب رواه مجاهد عن ابن عباس، وقال عكرمة: مشبَّكة بالدُّرِّ والياقوت، وهذا مَعنى ما ذكرناه عن ابن قتيبة، وبه قال الأكثرون. والثاني: مصفوفة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وما بعد هذا ما تقدّم بيانه «1» إلى قوله: وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ الوِلْدان: الغِلْمان. وقال الحسن البصري: هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيُجْزَون بها، ولا سيِّئات فيعاقبون عليها، فوضُعوا بهذا الموضع. وفي المخلَّدين قولان: أحدهما: أنه من الخلد، والمعنى: أنهم مخلّدون للبقاء لا يتغيَّرون، وهم على سنٍّ واحد. قال الفراء: والعرب تقول للإنسان إِذا كَبِر ولم يَشْمَط «2» ، أو لم تذهب أسنانه عن

_ (1) الكهف: 30. (2) في «القاموس» : الشّمط: الشيب.

الكِبَر: إنه لمخلَّد، هذا قول الجمهور. والثاني: أنهم المُقَرَّطُون، ويقال: المُسَوَّرون، ذكره الفراء، وابن قتيبة، وانشدوا في ذلك: ومُخْلَّداتٌ باللُّجَيْنِ كأنَّما ... أعجازهنّ أقاوز الكثبان «1» قوله عزّ وجلّ: بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ الكوب: إناء لا عروة له ولا خُرطوم، وقد ذكرناه في الزخرف «2» ، والأباريق: آنية لها عُرىً وخراطيم وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الإبريق: فارسيّ معرَّب، وترجمتُه من الفارسية أحدُ شيئين إمّا أن يكون: طريقَ الماء، أو: صبَّ الماءِ على هينة، وقد تكلمتْ به العربُ قديماً، قال عديُّ بن زيد: ودَعَا بالصَّبُوحِ يوماً فجاءتْ ... قينة في يمينها إبريق وباقي الآية في «الصّافّات» «3» . قوله عزّ وجلّ لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ فيه قولان: أحدهما: لا يَلْحَقُهم الصُّداع الذي يلحق شاربي خمر الدنيا. و «عنها» كناية عن الكأس المذكورة، والمراد بها: الخمر، وهذا قول الجمهور. والثاني: لا يتفرَّقون عنها، من قولك: صدَّعْتُه فانْصَدَع، حكاه ابن قتيبة. قوله «ولا ينزفون» مفسّر في «الصّافّات» «4» . قوله عزّ وجلّ: مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي: يختارون، تقول: تخيَّرتُ الشيءَ: إذا أخذت خيره. قوله عزّ وجلّ: وَلَحْمِ طَيْرٍ قال ابن عباس: يخطُر على قلبه الطير، فيصير ممثَّلاً بين يديه على ما اشتهي. وقال مغيث بن سميّ: يقع على أغصان شجرة طوبى كأمثال البُخْت. فإذا اشتهى الرجل طيراً دعاه، فيجيء حتى يقع على خوانه، فيأكل من أحد جانبيه قديداً والآخرِ شِواءً، ثم يعود طيرا فيطير فيذهب. قوله عزّ وجلّ: وَحُورٌ عِينٌ قرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «وُحورٌ عِينٌ» بالرفع فيهما. وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم: بالخفض فيهما. وقرأ أُبيُّ بن كعب وعائشة وأبو العالية وعاصم الجحدري: «وحُوراً عِيناً» بالنصب فيهما. قال الزجاج: والذين رفعوا كرهوا الخفض، لأنه معطوف على قوله: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ، قالوا: والحُور ليس ممّا يطاف به، ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء لأن المعنى: يطوف عليهم ولدانٌ مخلَّدون بأكواب ينعّمون بها، فكذلك ينعّمون بلحم طير، وكذلك ينعّمون بحور عين، والرفع أحسن، والمعنى فلهم حُورٌ عِينٌ، ومن قرأ «وحُوراً عِيناً» حمله على المعنى، لأن المعنى: يُعطَون هذه الأشياء ويُعطَون حُوراً عِيناً، إلاّ أنها تُخالِف المصحف فيكره. ومعنى كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ أي: صفاؤهنّ وتلألؤهنّ شديد كصفاء اللُّؤلؤ وتلألئه. والمكنون: الذي لم يغيِّره الزمان واختلاف أحوال في الاستعمال، فهُنَّ كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه. جَزاءً منصوب مفعول له والمعنى: يُفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم، وجوّز أن يكون منصوباً على أنه مصدر لأن معنى «يطوف عليهم ولِدانٌ مخلَّدون» : يُجازَون جزاءً بأعمالهم وأكثر النّحويّين على هذا الوجه.

_ (1) في «القاموس» القوز: المستدير من الرمل والكثيب المشرف. (2) الزخرف: 72. (3) الصافات: 46. (4) الصافات: 47.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 إلى 40]

قوله عزّ وجلّ: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً قد فسرنا معنى اللَّغو والسلام في سورة مريم «1» ومعنى التأثيم في الطور «2» ومعنى «ما أصحابُ اليمين» في أول هذه السّورة «3» . فإن قيل: التأثيم لا يُسمع فكيف ذكره مع المسموع؟. فالجواب: أن العرب يُتْبِعون آخرَ الكلام أوَّلَه، وإن لم يحسُن في أحدهما ما يحسُن في الآخر، فيقولون: أكلتُ خبزاً ولبَناً، واللَّبَن لا يؤكل، إنما حَسُن هذا لأنه كان مع ما يؤكل، قال الفراء: أنشدني بعض العرب: إذا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً ... وَزَجَّجْنَ الْحَواجِبَ والعُيُونا قال: والعَيْنُ لا تُزَجَّج إنما تُكَحَّل، فردَّها على الحاجب لأن المعنى يعرف، وأنشد آخر: ولَقِيتُ زَوْجَكِ في الوغى ... متقلَّداً سَيْفاً ورمحا وأنشدني: عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً والماء لا يُعْلَف وإِنما يُشْرَب، فجعله تابعاً للتِّبن، قال الفراء: وهذا هو وجه قراءة من قرأ، «وحُورٍ عِينٍ» بالخفض، لإتباع آخر الكلام أوَّله، وهو وجه العربيّة. [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وقد شرحنا معنى قوله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ في قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ «4» . وقد روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: أصحاب اليمين: أطفال المؤمنين. قوله عزّ وجلّ: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. (1389) سبب نزولها أن المسلمين نظروا إلى وجّ، وهو واد بالطّائف مخضب، فأعجبهم سدره. قالوا: يا ليت لنا مثل هذا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية، والضحاك. وفي المخضود ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذي لا شَوْكَ فيه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقسامة بن زهير. وقال ابن قتيبة: كأنه خُضِدَ شوكُه. أي: قلع. (1390) ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم في المدينة: «لا يخضد شوكها» .

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 780 وعزاه لأبي العالية والضحاك وهو منكر جدا، وأمارة الوضع عليه. ضعيف. في إسناده موسى بن عبيدة واه، ويزيد منكر الحديث، وله شواهد لا تقوم بها حجة. أخرجه الطبري 33394 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 390 والبيهقي في «البعث» 380 من طرق عن سفيان الثوري به. وأخرجه الترمذي 3296 والطبري 33396 و 33397 وأبو نعيم 390 من طرق عن موسى بن عبيدة به. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث موسى بن عبيدة، ويزيد بن أبان-

والثاني: أنه المُوقَر حملاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك. والثالث: أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه، ذكره قتادة. وفي الطَّلْح قولان: أحدهما: أنه الموز، قاله عليّ، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، والحسن، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنه شجر عظام كبار الشوك، قال أبو عبيدة: هذا هو الطَّلْح عند العرب، قال الحادي: بَشَّرَها دليلُها وقالا ... غَداً تَرَيْنَ الطَّلْحَ والجِبالا فإن قيل: ما الفائدة في الطَّلْح؟ فالجواب أن له نَوْراً وريحاً طيِّبة، فقد وعدهم ما يعرفون ويميلون إليه، وإن لم يقع التساوي بينه وبين ما في الدنيا، وقال مجاهد: كانوا يُعْجَبون ب «وَجٍّ» وظِلاله من طلحه وسدره، فأمّا المنضود، فقال ابن قتيبة: هو الذي قد نُضِدَ بالحَمْل أو بالورق والحَمْل من أوَّله إلى آخره، فليس له ساق بارزة، وقال مسروق: شجر الجنّة نضد من أسفلها إلى أعلاها. قوله عزّ وجلّ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي: دائم لا تنسخه الشمس. وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي: جارٍ غير منقطع. قوله عزّ وجلّ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا مقطوعة في حين دون حين، ولا ممنوعة بالحيطان والنواطير إنما هي مُطْلَقة لمن أرادها، هذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، ولخصه بعضهم فقال: لا مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. والثاني: لا تنقطع إذا جُنِيَتْ، ولا تُمْنع من أحد إِذا أريدت، روي عن ابن عباس. والثالث: لا مقطوعة بالفَناء، ولا ممنوعة بالفساد، ذكره الماوردي. قوله عزّ وجلّ: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ فيها قولان: أحدهما: أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم. وفي رفعها قولان: أحدهما: أنها مرفوعة فوق السُّرر. والثاني: أن رفعها: زيادة حشوها ليطيب الاستمتاع بها.. والثاني: أن المراد بالفرش: النساء والعرب تسمِّي المرأة: فِراشاً وإزاراً ولباساً وفي معنى رفعهن ثلاثة أقوال: أحدها: أنهن رُفِعْن بالجمال على نساء أهل الدنيا، والثاني: رفعن عن الأدناس، والثالث: رفعن في القلوب لشِدَّة الميل إليهن. قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً يعني النساء. قال ابن قتيبة: اكتفى بذِكْر الفُرُش لأنها محل النساء عن ذكرهن. وفي المشار إِليهن قولان: أحدهما: أنهن نساء أهل الدنيا المؤمنات ثم في إنشائهن قولان: أحدهما: أنه إنشاؤهن من القبور، قاله ابن عباس. والثاني: إعادتهن بعد الشَّمَط والكبر صغاراً، قاله الضحاك. والثاني: أنهن الحُور العين، وإنشاؤهن: إيجادهن عن غير ولادة، قاله الزجاج: والصواب أن يقال: إن الإنشاء عمَّهُنَّ كُلَّهن، فالحُور أُنشئن ابتداءً، والمؤمنات أُنشئن بالإعادة وتغيير الصفات وقد روى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:

_ وموسى يضعّفان في الحديث. وورد من حديث أم سلمة، أخرجه الطبري 33402، وإسناده واه، فيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه غير واحد، والحسن لم يسمع من أم سلمة. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 3165 عن الحسن عن أمه عن أم سلمة، وفيه سليمان أيضا، وهو ضعيف كما تقدم.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 إلى 56]

(1391) «إِنَّ من المنشَآت اللاّتي كُنَّ في الدنيا عجائز عمشا رمصا» . قوله عزّ وجلّ: فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً أي: عذارى. قال ابن عباس: لا يأتيها زوجها إِلاّ وجدها بكرا. قوله عزّ وجلّ: عُرُباً قرأ الجمهور: بضم الراء. وقرأ حمزة، وخلف: بإسكان الراء قال ابن جرير هي لغة تميم وبكر. وللمفسرين في معنى «عُرُباً» خمسة أقوال: أحدها: أنهن المتحبِّبات إلى أزواجهن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنهن العواشق، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال الحسن، وقتادة، ومقاتل، والمبرّد، وعن مجاهد كالقولين. والثالث: الحسنة التبعُّل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة. والرابع: المغنّجات، قاله عكرمة. والخامس: الحسنة الكلام، قاله ابن زيد. فأمّا الأتراب فقد ذكرناهنّ في ص «1» . قوله عزّ وجلّ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ هذا من نعت أصحاب اليمين. وفي الأولين والآخرين خلاف، قد سبق شرحه «2» . وقد زعم أنه لمّا أنزلت الآية الأولى، وهي قوله: «وقليلٌ من الآخِرِين» وجد المؤمنون من ذلك وَجْداً شديداً حتى أُنزلت «وثُلَّةٌ من الآخِرِين» فنسختهْا. وروي عن عروة بن رُويم نحو هذا المعنى. قلت: وادِّعاء النَّسخ هاهنا لا وجه له لثلاثة أوجه: أحدها: أن علماء الناسخ والمنسوخ لم يوافقوا على هذا. والثاني: أن الكلام في الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ. فهو هاهنا لا وجه له. والثالث: أن الثُّلَّة بمعنى الفِرْقة والفئة قال الزجاج: اشتقاقهما من القِطعة، والثَّلُّ: الكسر والقطع. فعلى هذا قد يجوز أن تكون الثُّلَّة في معنى القليل. [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56] وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) قوله عزّ وجلّ: ما أَصْحابُ الشِّمالِ قد بيَّنّا أنه بمعنى التعجُّب من حالهم والمعنى: ما لهم، وما أعدّ لهم من الشّرّ؟! ثم بيّن سوء مُنْقَلَبهم فقال: فِي سَمُومٍ قال ابن قتيبة: هو حرّ النّار. قوله عزّ وجلّ: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ قال ابن عباس: ظِلّ من دخان: قال الفراء: اليَحْموم: الدُّخان الأسود، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ فوجه الكلام الخفض تبعاً لما قبله، ومثله زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ «3» ، وكذلك قوله: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ، ولو رفعت ما بعد «لا» لكان صوابا، والعرب تجعل الكريم

_ ضعيف. أخرجه الترمذي 3296 والطبري 33394 و 33397 والبيهقي في «البعث» 380 من حديث أنس، وإسناده واه. فيه موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي، وهما ضعيفان.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 إلى 62]

تابعاً لكل شيء نفت عنه فعلاً يُنوي به الذم، فتقول: ما هذه الدار بواسعة ولا كريمة، وما هذا بسمين ولا كريم. قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم المنظر. قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي: في الدنيا مُتْرَفِينَ أي: متنعِّمين في ترك أمر الله، فشغلهم تَرفُهم عن الاعتبار والتعبُّد. وَكانُوا يُصِرُّونَ أي: يُقيمون عَلَى الْحِنْثِ وفيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الشِّرك، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك وابن زيد. والثاني: الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه، قاله مجاهد. وعن قتادة كالقولين. والثالث: أنه اليمين الغموس، قاله الشعبي. والرابع: الشِّرك والكفر بالبعث، قاله الزجاج. قوله عزّ وجلّ: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قال أبو عبيدة: الواو متحركة لأنها ليست بواو إنما هي «وآباؤنا» ، فدخلت عليها ألف الاستفهام فتُركتْ مفتوحة. وقرأ أهل المدينة، وابن عامر،: «أَوْ آباؤنا» بإسكان الواو. وقد سبق بيان ما لم نذكره هاهنا «1» إلى قوله: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ قرأ أهل المدينة، وعاصم، وحمزة: «شرب الهيم» بضمّ الشين والباقون بفتحها.. وأكثر أهل نجد يقولون: شَرْباً بالفتح، أنشدني عامَّتهم: تَكْفيهِ حَزَّةُ فِلْذٍ إِنْ أَلمَّ بها ... من الشِّواءِ ويَكْفِي شَرْبَهُ الغُمَرُ «2» وزعم الكسائي أن قوماً من بني سعد بن تميم يقولون: «شِرْبَ الهِيم» بالكسر. وقال الزجاج: «الشَّرْب» المصدر، و «الشُّرْب» بالضم: الاسم. قال: وقد قيل: إنه مصدر أيضاً. وفي «الهِيم» قولان: أحدهما: الإبل العِطاش، رواه ابن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة. قال ابن قتيبة: هي الإبل يُصيبها داءٌ فلا تَرْوَى من الماء، يقال: بعيرٌ أَهْيَمُ، وناقةٌ هَيْماءُ. والثاني: أنها الأرض الرَّملة التي لا تَرْوَى من الماء، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. قال أبو عبيدة: الهِيم: ما لا يَرْوَى من رمل أو بعير. قوله عزّ وجلّ: هذا نُزُلُهُمْ أي: رزقهم، وروى عباس عن أبي عمرو: «نُزْلُهم» بسكون الزاي، أي رزقهم وطعامهم. وفى «الدِّين» قولان قد ذكرناهما في الفاتحة «3» . [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 62] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) قوله عزّ وجلّ: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ أي أوجدناكم ولم تكونوا شيئاً، وأنتم تُقِرُّونَ بهذا فَلَوْلا أي: فهلاّ تُصَدِّقُونَ بالبعث؟! ثم احتجّ على بعضهم بالقدرة على ابتدائهم فقال: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ قال الزجاج: أي: ما يكون منكم من المَنِيِّ، يقال: أمنى الرجل يُمْني، ومَنى يَمني، فيجوز على هذا «تَمْنونَ» بفتح التاء إن ثبتت به رواية. قوله عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي تخلُقون ما تُمنون بَشَراً؟! وفيه تنبيه على شيئين: أحدهما: الامتهان: إذ خلق من الماء المَهين بَشَراً سوياً. والثاني:

_ (1) هود: 103 والصافات: 62 والأنعام: 70. (2) البيت لأعشى باهلة، كما في «جمهرة أشعار العرب» 254، وفي «القاموس» : الحزة: ما قطع من اللحم طولا. والفلذ: كبد البعير. والغمور: قدح صغير والغمر: الماء الكثير. (3) الفاتحة: 3.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 63 إلى 74]

أن من قَدَر على خَلْق ما شاهدتموه من أصل وجودكم كان أقدَرَ على خَلْق ما غاب عنكم من إعادتكم. قوله عزّ وجلّ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وقرأ ابن كثير: «قَدَرْنا» بتخفيف الدال. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: قضينا عليكم بالموت. والثاني: سوّينا بينكم في الموت. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ قال الزجاج: المعنى: إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم لا يسبقنا سابق، ولا يفوتنا ذلك. قال ابن قتيبة: لسنا مغلوبين على أن لم نستبدل بكم أمثالكم. قوله عزّ وجلّ: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ وفيه أربعة أقوال: أحدها: نبدِّل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم. قاله الحسن. والثاني: ننشئكم في حواصل طير سود تكون ب «برهوت» كأنها الخطاطيف، قاله سعيد بن المسيب. والثالث: نخلقكم في أيّ خَلْق شئنا، قاله مجاهد. والرابع: نخلقكم في سوى خلقكم، قاله السدي. قال مقاتل: نخلقكم سوى خلقكم في ما لا تعلمون من الصّور. قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى وهي ابتداء خَلقكم من نُطفة وعَلَقة فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي: فهلاّ تعتبرون فتعلموا قدرة الله فتقرّوا بالبعث. [سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 74] أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) قوله عزّ وجلّ: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أي: ما تعملون في الأرض من إثارتها، وإلقاء البذر فيها، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أي: تُنبِتونه؟! وقد نبَّه هذا الكلام على أشياء منها إحياء الموتى، ومنها الامتنان بإخراج القُوت، ومنها القدرة العظيمة الدالة على التوحيد. قوله عزّ وجلّ: لَجَعَلْناهُ يعني الزرع حُطاماً قال عطاء: تبناً لا قمح فيه. وقال الزجاج: أبطلْناه حتى يكون منحطما لا حنطة فيه، ولا شيء. قوله عزّ وجلّ: فَظَلْتُمْ وقرأ الشعبي وابو العالية وابن أبي عبلة: «فظِلْتُم» بكسر الظاء وقد بيناه في قوله: ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً «1» . قوله عزّ وجلّ: تَفَكَّهُونَ قرأ أُبيُّ بن كعب وابن السميفع والقاسم بن محمد وعروة: «تَفَكَّنونَ» بالنون. وفي المعنى أربعة أقوال: أحدها: تعجّبون، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء ومقاتل. قال الفراء: تتعجَّبون ممّا نَزَل بكم في زرعكم. والثاني: تَنَدَّمون، قاله الحسن والزجاج. وعن قتادة كالقولين. قال ابن قتيبة: يقال «تفكَّهون» : تَنَدَّمون، ومثلها: تفكّنون، وهي لغة لعكل. والثالث: تلاومون، قاله عكرمة. والرابع: تتفجَّعون، قاله ابن زيد. قوله عزّ وجلّ: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قال الزجاج: أي: تقولون: قد غَرِمْنا وذهب زرعنا. وقال ابن قتيبة: «لَمُغْرَمونَ» أي: لمعذّبون. قوله عزّ وجلّ: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: حُرِمْنا ما كنّا نطلب من الرّيع في الزرع. وقد نبَّه بهذا على أمرين: أحدهما: إنعامه عليهم إذ لم يجعل زرعهم حطاما. والثاني: قدرته

_ (1) طه: 97.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 إلى 82]

على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزرع. فأمّا المُزْن، فهي السَّحاب، واحدتها: مُزْنة. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: الَّتِي تُورُونَ قال أبو عبيدة: أي تستخرجون، من أَوْرَيت، وأكثر ما يقال: وَرَيت. وقال ابن قتيبة: «تورون» أي: تقدحون، تقول: أَوريتُ النّار: إذا قدحتها. قوله عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها في المراد بشجَرَتها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحديد، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها الشجرة التي تتّخد منها الزُّنود، وهو خشب يُحَكُّ بعضُه ببعض فتخرج منه النار، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج. والثالث: أن شجرتها: أصلُها، ذكره الماوردي. قوله عزّ وجلّ: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً قال المفسرون: إذا رآها الرّائي ذكر نار جهنّم، وما يخافه من عذابها، فاستجار بالله منها وَمَتاعاً أي: منفعة لِلْمُقْوِينَ وفيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم المسافرون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. قال ابن قتيبة: سمّوا بذلك لنزولهم القَوَى، وهو القفر. وقال بعض العلماء: المسافرون أكثر حاجة إِليها من المقيمين، لأنهم إِذا أوقدوها هربت منهم السّباع واهتدى بها الضال. والثاني: أنهم المسافرون والحاضرون، قاله مجاهد. والثالث: أنهم الجائعون.، قال ابن زيد: المقوي: الجائع في كلام العرب. والرابع: أنهم الذين لا زاد معهم ولا مال لهم، قاله أبو عبيدة. قوله عزّ وجلّ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال الزجاج: لما ذكر ما يدل على توحيده، وقدرته، وإنعامه، قال: «فسبّح باسم ربك» أي: برّئ الله ونزّهه عما يقولون في وصفه. وقال الضحاك: معناه: فصل باسم ربك، أي: استفتح الصلاة بالتكبير. وقال ابن جرير: سبح بذكر ربك وتسميته. وقيل: الباء زائدة. والاسم يكون بمعنى الذات، والمعنى: فسبّح ربّك. [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 82] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ في «لا» قولان: أحدهما: أنها دخلت توكيداً. والمعنى: فأقسم، ومثله لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» ، قاله الزجاج، وهو مذهب سعيد بن جبير. والثاني: أنها على أصلها. ثم في معناها قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى ما تقدّم، ومعناه: النهي، تقدير الكلام: فلا تكذبوا، ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج، قاله الماوردي. والثاني: أنّ «لا» ردّا لما تقوله الكفار في القرآن: إنه سحر، وشعر، وكهانة، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم، قاله علي بن أحمد النيسابوري. وقرأ الحسن: فلأقسم بغير ألف بين اللام والهمزة. قوله عزّ وجلّ: بِمَواقِعِ وقرأ حمزة، والكسائي: «بموقع» على التوحيد. قال أبو علي: مواقعها: مساقطها. ومَنْ أَفْرَدَ، فلأنه اسم جنس. ومَنْ جَمَعَ فلاختلاف ذلك. وفي «النجوم» قولان: أحدهما: نجوم السماء، قاله الأكثرون. فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال: أحدها: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، قاله الحسن. والثاني: منازلها، قاله عطاء، وقتادة. والثالث: مغيبها في

_ (1) الحشر: 29.

المغرب، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنها نجوم القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. فعلى هذا سميت نجوماً لنزولها متفرقة، ومواقعها: نزولها. قوله: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ الهاء كناية عن القسم. وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عِظَمَهُ. ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ والكريم: اسم جامع لما يحمد، وذلك أن فيه البيان والهدى والحكمة، وهو معظّم عند الله عزّ وجلّ. قوله عزّ وجلّ: فِي كِتابٍ فيه قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس. والثاني: أنه المصحف الذي بأيدينا، قاله مجاهد، وقتادة. وفي «المكنون» قولان: أحدهما: مستور من الخلق، قاله مقاتل، وهذا على القول الأول. والثاني: مصون، قاله الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من قال: إنَّه اللوح المحفوظ، فالمطهرون عنده: الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد وسعيد بن جبير. فعلى هذا يكون الكلام خبراً. ومن قال: هو المصحف، ففي المطهرين أربعة أقوال «1» : أحدها: أنهم المطهرون من الأحداث، قاله الجمهور. فيكون ظاهر الكلام النفي، ومعناه النهي. والثاني: المطهرون من الشرك، قاله ابن السائب. والثالث: المطهرون من الذنوب والخطايا، قاله الربيع بن أنس. والرابع: أن معنى الكلام: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، حكاه الفراء. قوله عزّ وجلّ: تَنْزِيلٌ أي: هو تنزيل. والمعنى: هو منزل، فسمّي المنزّل تنزيلا على اتساع اللغة، كما تقول للمقدور: قدر، وللمخلوق: خلق. قوله عزّ وجلّ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ فيه قولان: أحدهما: مكذّبون، قاله ابن عباس، والضحاك، والفراء. والثاني: ممالئون الكفار على الكفر به، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة: المدهن: المداهن وكذلك قال ابن قتيبة «مدهنون» أي: مداهنون. يقال: أدهن في دينه، وداهن. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ. (1392) روى مسلم في «صحيحه» من حديث ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول

_ صحيح. أخرجه مسلم 73 والطبراني في «الكبير» 12/ 198 والواحدي في «أسباب النزول» 782.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 إلى 96]

الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر» . قالوا: هذه رحمة آتية وضعها الله حيث شاء. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، وكذا، فنزلت هذه الآية «فلا أقسم بمواقع النجوم» حتى بلغ «أنكم تكذبون» . (1393) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث زيد بن خالد الجهني، قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الصّبح بالحديبية على إثْرِ سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما المؤمن فقال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذاك مؤمن بي، كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب» . وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرزق هاهنا بمعنى الشكر. (1394) روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ قال: «شكركم» ، وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس. وكان علي يقرأ «وتجعلون شكركم» . والثاني: أن المعنى: وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم، قاله الأكثرون. وذلك أنهم كانوا يمطرون، فيقولون: مطرنا بنوء كذا. والثالث: أن الرزق بمعنى الحظ. فالمعنى: وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، ذكره الثعلبي. وقرأ أبي بن كعب، والمفضل عن عاصم «وتكذبون» بفتح التاء، وإسكان الكاف، مخفّفة الذال. [سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 96] فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

_ صحيح. أخرجه البخاري 846 ومسلم 71 ومالك 1/ 192 وأحمد 4/ 117 من حديث زيد بن خالد. لم أره بهذا اللفظ عن عائشة. وقال السيوطي في «الدر» 6/ 234: أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» عن عائشة رضي الله عنها قالت: مطر الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » فذكره بنحو حديث ابن عباس المتقدم، ولم يذكر فيه تفسير الآية وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ. وورد من حديث علي، أخرجه الترمذي 3295 والطبري 33555 و 33556 وأحمد 1/ 131 وإسناده ضعيف لضعف عبد الأعلى بن عامر الثعلبي ومع ذلك رواه عنه الثوري موقوفا على علي، والثوري أحفظ من إسرائيل، والمرفوع ضعفه أحمد شاكر في «المسند» 1087. وانظر «تفسير الشوكاني» 2438.

قوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا أي: فهلاَّ إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ يعني: النَّفْس، فترك ذِكرها لدلالة الكلام، وأنشدوا من ذلك: إِذا حَشْرَجَتْ يَوْمَاً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ «1» قوله عزّ وجلّ: وَأَنْتُمْ يعني أهل الميت تَنْظُرُونَ إلى سلطان الله وأمره والثاني تنظرون للإنسان في تلك الحالة، ولا تملكون له شيئاً وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ فيه قولان: أحدهما: ملك الموت أدنى إليه من أهله وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ الملائكة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: ونحن أقرب إليه منكم بالعلم والقدرة والرؤية وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ أي: لا تعلمون، والخطاب للكفار، ذكره الواحدي. قوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ فيه خمسة أقوال: أحدها: محاسبين، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة. والثاني: موقنين، قاله مجاهد. والثالث: مبعوثين، قاله قتادة. والرابع: مجزيين. ومنه يقال: دنِته، وكما تدين تدان، قاله أبو عبيدة. والخامس: مملوكين أذَّلاء، من قولك: دِنت له بالطاعة، قاله ابن قتيبة. قوله عزّ وجلّ: تَرْجِعُونَها أي: تردُّون النَّفْس. والمعنى: إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم، فهلاَّ تردُّون هذه النَّفْس؟! فإذا لم يمكنكم ذلك، فاعلموا أن الأمر لغيركم. قال الفرّاء: وقوله عزّ وجلّ: تَرْجِعُونَها هو جواب لقوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ولقوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ فإنهما أجيبتا بجواب واحد. ومثله قوله عزّ وجلّ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «2» . ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت فقال عزّ وجلّ: فَأَمَّا إِنْ كانَ يعني: الذي بلغت نَفْسه الحلقوم مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله. قال أبو العالية: هم السابقون فَرَوْحٌ أي: فَلَهُ رَوْحٌ. والجمهور يفتحون الراء. وفي معناها ستة أقوال «3» : أحدها: الفرح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: الراحة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: المغفرة والرحمة، رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: الجنة، قاله مجاهد. والخامس: رَوْحٌ من الغَمّ الذي كانوا فيه، قاله محمد بن كعب. والسادس: رَوْح في القبر، أي: طيب نسيم، قاله ابن قتيبة. وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رزين، والحسن، وعكرمة وابن يعمر، وقتادة، ورويس عن يعقوب، وابن أبي سُريج عن الكسائي: «فَرُوْحٌ» برفع الراء. وفي معنى هذه القراءة قولان: أحدهما: أن معناها: فرحمة، قاله قتادة. والثاني: فحياة وبقاءٌ، قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: معناه: فحياة دائمة لا موت معها. وفي «الريحان» أربعة أقوال: أحدها: أنه الرزق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنه المستراح، رواه ابن أبي طلحة عن

_ (1) هو عجز بيت لحاتم الطائي كما في ديوانه 50، وصدره: أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى. (2) البقرة: 38. (3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 666: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: عني بالرّوح: الفرح والرحمة والمغفرة، وأصله في قولهم: وجدت روحا: إذا وجد نسيما يستروح إليه من كرب الحرّ. وأما الريحان، فإنه عندي الريحان الذي يتلقى به عند الموت، كما قال أبو العالية والحسن لأن ذلك الأغلب والأظهر من معانيه.

ابن عباس. والثالث: أنه الجنة، قاله مجاهد، وقتادة. والرابع: أنه الريحان المشموم. وقال أبو العالية: لا تخرج روح أحد من المقربين من الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة، فيشمه، ثم تقبض فيه روحه، وإلى نحو هذا ذهب الحسن. وقال أبو عمران الجوني: بلغنا أن المؤمن إذا قبض روحه تلقى بضبائر الريحان من الجنّة، فتجعل روحه فيه. قوله عزّ وجلّ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فسلامة لك من العذاب، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: تسلِّم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين، قاله عطاء. والثالث: أن المعنى: أنك ترى فيهنّ ما تحب من السلامة، وقد علمت ما أُعدَّ لهم من الجزاء، قاله الزجاج. قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ أي: بالبعث الضَّالِّينَ عن الهدى فَنُزُلٌ وقد بيَّناه في هذه السّورة «1» . قوله عزّ وجلّ: إِنَّ هذا يعني ما ذكر في هذه السورة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي هو اليقين حقاً، فأضافه إلى نفسه، كقولك: صلاة الأولى، وصلاة العصر، ومثله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ «2» ، وقد سبق هذا المعنى، وقال قوم: معناه: وإنه للمتقين حقاً. وقيل للحق: اليقين. قوله عزّ وجلّ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قد ذكرناه في هذه السّورة «3» .

_ (1) الواقعة: 56. (2) يوسف: 109. [.....] (3) الواقعة: 74.

سورة الحديد

سورة الحديد وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنها مكّيّة، قاله ابن السّائب. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) قوله عزّ وجلّ: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أمّا تسبيح ما يعقل، فمعلوم، وتسبيح ما لا يعقل، قد ذكرنا معناه في قوله عزّ وجلّ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» . قوله عزّ وجلّ: هُوَ الْأَوَّلُ قال أبو سليمان الخطّابي: الأول هو السابق للأشياء وَالْآخِرُ الباقي بعد فناء الخلق وَالظَّاهِرُ بحجّته الباهرة، وبراهينه النَّيِّرة، وشواهده الدَّالة على صِحَّة وحدانيته. ويكون: الظاهر فوق كل شيء بقدرته. وقد يكون الظهور بمعنى العلوِّ، ويكون بمعنى الغلبة. والباطن: هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهُّم الكيفية، وقد يكون معنى الظهور والبطون: احتجابه عن أبصار الناظرين، وتجلِّيه لبصائر المتفكِّرين. ويكون معناه: العالم بما ظهر من الأمور والمطَّلع على ما بطن من الغيوب. قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مفسّر في الأعراف «2» إلى قوله عزّ وجلّ: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وهو مفسر في سبأ «3» إلى قوله عزّ وجلّ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي: بعلمه وقدرته. وما بعده ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قال المفسرون: هذا الخطاب لكفار قريش وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعني: المال الذي كان بأيدي غيرهم، فأهلكهم الله، وأعطى قريشاً ذلك المال، فكانوا فيه خلفاء من مضى.

_ (1) الإسراء: 44. (2) الأعراف: 54. (3) سبأ: 2.

[سورة الحديد (57) : الآيات 8 إلى 11]

[سورة الحديد (57) : الآيات 8 الى 11] وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) قوله عزّ وجلّ: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ هذا استفهام إِنكار، والمعنى: أيُّ شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قرأ أبو عمرو «أُخذ» بالرفع. وقرأ الباقون «أخذ» بفتح الخاء مِيثاقَكُمْ بالفتح. والمراد به: حين أُخرجتم من ظهر آدم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالحجج والدلائل. قوله: عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ يعني: محمداً صلّى الله عليه وسلم آياتٍ بَيِّناتٍ يعني: القرآن لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ يعني الشرك إلى نور الإيمان وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حين بعث الرسول ونصب الأدلة. ثم حثهم على الإنفاق فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: أي شيءٍ لكم في ترك الإنفاق ممّا يقرّب إلى الله عزّ وجلّ وأنتم ميتون تاركون أموالكم؟! ثم بين فضل من سبق بالإنفاق فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وفيه قولان: أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنه فتح الحديبية، قاله الشعبي. والمعنى: لا يستوي من أنفق قبل ذلك وَقاتَلَ ومن فعل ذلك بعد الفتح. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق. أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً قال ابن عباس: أعظم منزلةً عند الله. قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزجاج: لأن المتقدمين كانت بصائرهم، أنفذ. ونالهم من المشقة أكثر وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي: وكلا الفريقين وعده الله الجنة. وقرأ ابن عامر «وكُلٌّ» بالرفع. قوله عزّ وجلّ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ قرأ ابن كثير، وابن عامر «فيضعّفه» مشددة العين بغير ألف، إِلا أن ابن كثير يضم الفاء، وابن عامر يفتحها. وقرأ نافع وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «فيضاعفُه» بالألف وضم الفاء، وافقهم عاصم إلا أنه فتح الفاء. قال أبو علي: يضاعِف ويضعِّف بمعنى واحد، إلا أن الرفع في «يضاعف» هو الوجه، لأنه محمول على «يُقرض» . أو على الانقطاع من الأول كأنه قال: فهو يضاعف. ويحمل قول الذي نصب على المعنى، لأنه إذا قال: من ذا الذي يُقرض اللهَ، معناه: أيقرض اللهَ أحدٌ قرضاً فيضاعفه. والآية مفسرة في البقرة «1» . والأجر الكريم: الجنّة. [سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

_ (1) البقرة: 245.

[سورة الحديد (57) : الآيات 16 إلى 17]

قوله عزّ وجلّ: يَسْعى نُورُهُمْ قال المفسرون: يضيء لهم نور عملهم على الصراط على قدر أعمالهم. قال ابن مسعود: منهم مَن نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفئ مرة، ويوقد أخرى. وفي قوله عزّ وجلّ: وَبِأَيْمانِهِمْ قولان: أحدهما: أنه كتبهم يعطَونها بأيمانهم، قاله الضحاك. والثاني: أنه نورهم يسعى، أي: يمضي بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، والباء بمعنى: «في» . و «في» بمعنى «عن» ، وهذا قول الفراء. قوله تعالى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ هذا قول الملائكة لهم. قوله تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ وقرأ حمزة: «أنظِرونا» بقطع الهمزة، وفتحها، وكسر الظاء، قال المفسرون: تغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، فيعطَى المؤمنون النور، فيمشي المنافقون بنور المؤمنين، قالوا: انظرونا نقتبس من نوركم، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ في القائل لهم قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون، قاله ابن عباس. والثاني: الملائكة، قاله مقاتل، وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: ارجعوا إلى المكان الذي قبستم فيه النور، فيرجعون، فلا يرون شيئاً. والثاني: ارجعوا فاعملوا عملاً يجعله الله لكم نوراً. والثالث: أن المعنى: لا نور لكم عندنا. قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ قال ابن عباس: هو الأعراف، وهو سُورٌ بين الجنة والنار باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وهي الجنة وَظاهِرُهُ يعني من وراء السور مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وهو جهنم. وقد ذهب قوم إلى أنّ السور يكون ببيت المقدس في مكان السور الشرقي بين الوادي الذي يسمى: وادي جهنم، وبين الباب الذي يسمى: باب الرحمة، وإلى نحو هذا ذهب عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمر، وكعب. قوله عزّ وجلّ: يُنادُونَهُمْ أي: ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي: على دينكم نصلي بصلاتكم، ونغزو معكم؟! فيقول لهم المؤمنون: بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ فيه قولان: أحدهما: تربَّصتم بالتوبة. والثاني: تربَّصتم بمحمد الموتَ، وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح وَارْتَبْتُمْ شككتم في الحق وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ يعني ما كانوا يتمنَّون من نزول الدوائر بالمؤمنين حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وفيه قولان: أحدهما: أنه الموت. والثاني: إلقاؤهم في النار وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي غرّكم الشيطان بحكم الله وإمهاله فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب «لا تؤخذ» بالتاء، أي: بدل وعوض عن عذابكم. وهذا خطاب للمنافقين، ولهذا قال عزّ وجلّ: وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قوله عزّ وجلّ: هِيَ مَوْلاكُمْ قال أبو عبيدة: أي: أولى بكم. [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 17] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا اختلفوا فيمن نزلت على قولين:

[سورة الحديد (57) : الآيات 18 إلى 19]

(1395) أحدهما: أنها نزلت في المؤمنين. قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً. والثاني: أنها نزلت في المنافقين، قاله أبو صالح عن ابن عباس «1» . قال مقاتل: سأل المنافقون سلمان الفارسي فقالوا: حدِّثنا عن التوراة، فإن فيها العجائب، فنزلت هذه الآية «2» . وقال الزجاج: نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حَثُّوا على الرِّقَّة والخشوع. فأما من كان وصفه الله عزّ وجلّ بالخشوع، والرِّقَّة، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء. فعلى الأول: يكون الإيمان حقيقة. وعلى الثاني: يكون المعنى: «ألم يأن للذين آمنوا» بألسنتهم. قال ابن قتيبة: المعنى: ألم يحن. تقول: آن الشيء: إذا حان. قوله عزّ وجلّ: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ أي تَرِقَّ وتلين لِذِكْرِ اللَّهِ. المعنى: أنه يجب أن يورثهم الذِّكْر خشوعاً وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «وما نزَّل» بفتح النون والزاي مع تشديد الزاي. وقرأ نافع وحفص، والمفضل عن عاصم «نزل» بفتح النون وتخفيف الزاي. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وابن يعمر، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم «نُزِّل» برفع النون وكسر الزاي مع تشديدها. وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «وما أَنزل» بهمزة مفتوحة وفتح الزاي. وقرأ أبو مجلز، وعمرو بن دينار مثله إلا أنه بضم الهمزة وكسر الزاي. و «الحق» القرآن وَلا يَكُونُوا قرأ رويس عن يعقوب «ولا تكونوا» بالتاء كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وهو الزمان. وقال ابن قتيبة: الأمد: الغاية. والمعنى: أنه بَعُد عهدهم بالأنبياء والصالحين فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمد عليهما السّلام اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يخرج منها النبات بعد يبسها، فكذلك يقدر على إحياء الأموات قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على وحدانيته وقدرته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تتأمّلوا. [سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19] إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ قرأ ابن كثير، وعاصم إلا حفصاً بتخفيف الصاد فيهما على معنى التصديق. وقرأ الباقون بالتشديد على معنى الصدقة. قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ اختلفوا في نظم الآية على قولين «3» : أحدهما: أن تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ:

_ هذا الأثر صحيح، أخرجه مسلم 3027 والنسائي في «التفسير» 588 واستدركه الحاكم 2/ 479 كلهم عن ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» 2456.

[سورة الحديد (57) : الآيات 20 إلى 21]

أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ثم ابتدأ فقال عزّ وجلّ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ هذا قول ابن عباس، ومسروق، والفراء في آخرين. والثاني: أنها على نظمها، والواو في «والشهداء» واو النسق، ثم في معناها قولان: أحدهما: أن كل مؤمن صِدِّيق شهيد، قاله ابن مسعود ومجاهد. والثاني: أنها نزلت في قوم مخصوصين، وهم ثمانية نفر سبقوا إِلى الإسلام: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة بن عبد المطلب، وطلحة، والزبير، وسعد، وزيد، قاله الضحاك. وفي الشهداء قولان: أحدهما: أنه جمع شاهد. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء خاصة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الشاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان بالله، قاله مجاهد. والقول الثاني: أنه جمع شهيد، قاله الضّحّاك، ومقاتل. [سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) قوله عزّ وجلّ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا يعني: الحياة في هذه الدّار لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي: غرور تنقضي عن قليل. وذهب بعض المفسرين «1» إلى أن المشار بهذا إلى حال الكافر في دنياه، لأنّ حياته تنقضي على لهو ولعب وتزيين الدنيا، وتفاخر يفاخر قرناءه وجيرانه، ويكاثرهم بالأموال والأولاد، فيجمع من غير حلّه، ويتطاول على أولياء الله بماله، وخدمه، وولده، فيفنى عمره في هذه الأشياء، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة. ثم بين لهذه الحياة شبهاً، فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ يعني: مطراً أَعْجَبَ الْكُفَّارَ وهم الزُّرَّاع، وسموا كفاراً، لأن الزارع إذا ألقى البذر في الأرض كفره، أي: غطاه نَباتُهُ أي ما نبت من ذلك الغيث ثُمَّ يَهِيجُ أي ييبس فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد خضرته وَرِيَّه ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي ينحطم، وينكسر بعد يبسه. وشرح هذا المثل قد تقدم في يونس عند قوله عزّ وجلّ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا «2» ، وفي الكهف عند قوله عزّ وجلّ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا «3» . قوله عزّ وجلّ: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي: لأعداء الله وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لأوليائه وأهل طاعته. وما

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 370: هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزا شوهاء، والإنسان كذلك يكون في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريا لين الأعطاف، بهيّ المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وينفد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى قليل الحركة، يعجزه الشيء اليسير، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الروم: 54 ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخبر، فقال: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان. (2) يونس: 24. (3) الكهف: 45.

[سورة الحديد (57) : الآيات 22 إلى 24]

بعد هذا مذكور في آل عمران «1» ، إلى قوله: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ فبين أنه لا يدخل الجنّة أحد إلّا بفضل الله. [سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) قوله عزّ وجلّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ يعني: قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يعني الأمراض، وفقد الأولاد إِلَّا فِي كِتابٍ وهو اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أن نخلقها، يعني: الأنفس إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: إنّ إثبات ذلك على كثرته هيِّن على الله عزّ وجلّ لِكَيْلا تَأْسَوْا أي: تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ قرأ أبو عمرو- الا اختيار اليزيدي- بالقصر على معنى: جاءكم من الدنيا. وقرأ الباقون بالمدّ على معنى: ما أعطاكم الله منها. وأعلم أنه من علم أن ما قضي لا بدَّ أن يصيبه قبل حُزنه وفرحه. وقد روى قتيبة بن سعيد قال: دخلت بعض أحياء العرب، فإذا بفضاء من الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلُّها قد مات، فسألت عجوزاً: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلٍّ يغزل الصوف، فقلت له: يا شيخ لك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي، قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها، قلت: فهل قلت في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، قلت: لا والَّذي أَنَا عَبْدٌ في عِبَادَتِهِ ... والمَرْءُ في الدَّهْر نصْبَ الرُّزْءِ والحَزَنَ ما سَرَّني أَنَّ إبْلي في مَبَارِكِها ... وما جرى في قضاء الله لم يَكُنِ وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة النساء «2» ، والذي قيل في البخل هناك هو الذي قيل هاهنا إلى قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن عباده الْحَمِيدُ إلى أوليائه. وقد سبق معنى الاسمين في البقرة «3» . وقرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغني الحميد» ليس فيها «هو» وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة، والشّام. [سورة الحديد (57) : آية 25] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي: بالآيات والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ ببيان الشرائع، والأحكام. وفي «الميزان» قولان: أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنه الذي يوزن به، قاله ابن زيد ومقاتل. فعلى القول الأول: يكون المعنى: أمرنا بالعدل. وعلى الثاني: ووضعنا الميزان، أي: أمرنا به لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي: لكي يقوموا بالعدل. قوله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فيه قولان: أحدهما: أن الله تعالى أنزل مع آدم السندان، والكلبتين، والمطرقة، قاله ابن عباس. والثاني: أن معنى «أنزلنا» : أنشأنا وخلقنا، كقوله عزّ وجلّ:

_ (1) آل عمران: 185. (2) النساء: 37. (3) البقرة: 267. [.....]

[سورة الحديد (57) : الآيات 26 إلى 27]

وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «1» . قوله عزّ وجلّ: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ قال الزجاج: وذلك أنه يمتنع به، ويحارب به وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يستعملونه في أدواتهم، وما ينتفعون به من آنية وغيرها. قوله عزّ وجلّ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ هذا معطوف على قوله تعالى: لِيَقُومَ النَّاسُ، والمعنى: ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله مَنْ يَنْصُرُهُ بالقتال في سبيله، ونصرة دينه، وذلك أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك. وقد سبق معنى قوله عزّ وجلّ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ في مواضع. وقوله عزّ وجلّ: بِالْغَيْبِ أي: ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يجهد ويثاب من أطاع بالغيب. [سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ يعني: الكتب فَمِنْهُمْ يعني: من الذرية مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ فيه قولان: أحدهما: كافرون، قاله ابن عباس. والثاني: عاصون، قاله مقاتل. قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي: أَتْبَعْنا على آثار نوح، وإبراهيم، وذريتهما بِعِيسَى وكان آخر أنبياء بني إِسرائيل، وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني: الحواريين وغيرهم من أتباعه على دينه رَأْفَةً وقد سبق بيانها «2» والمعنى أنهم كانوا متوادّين، كما وصف الله تعالى أصحاب نبينا عليه السّلام، فقال عزّ وجلّ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «3» . قوله عزّ وجلّ: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ليس هذا معطوفاً على ما قبله، وإنما انتصب بفعل مضمر، يدل عليه ما بعده، تقديره: وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها، أي: جاءوا بها من قِبل أنفسهم، وهي غلوُّهم في العبادة، وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناعِ عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح، والتعبُّد في الجبال ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي: ما فرضناها عليهم. وفي قوله عزّ وجلّ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ قولان: أحدهما: أنّ الاستثناء يرجع إلى قوله عزّ وجلّ: ابْتَدَعُوها والمعنى ابتدعوها طلبا لرضوان الله، ولم يكتبها عليهم، وهذا قول الجمهور. وتقديره: ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ذكره علي بن عيسى والرماني عن قتادة وزيد بن أسلم. والثاني: أنه راجع إلى قوله عزّ وجلّ: «ما كتبناها» ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوعاً إلا ابتغاء رضوان الله. قال الحسن: تطوّعا بابتداعها ثم كتبها الله عليهم. وقال الزجاج: لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع لزمهم إِتمامه، كما أن الإنسان إِذا جعل على نفسه صوماً لم يفترض عليه، لزمه أن يتمَّه. قال القاضي أبو يعلى: والابتداع قد يكون بالقول، وهو ما

_ (1) الزمر: 6. (2) النور: 2. (3) الفتح: 29.

[سورة الحديد (57) : الآيات 28 إلى 29]

ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه. وعموم الآية تتضمن الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة، قولاً أو فعلاً، فعليه رعايتها وإِتمامها. والثاني: أن المعنى: ما أمرناهم منها إِلا بما يرضي الله عزّ وجلّ، لا غير ذلك، قاله ابن قتيبة. قوله عزّ وجلّ: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الذين ابتدعوا الرهبانية، قاله الجمهور. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ما رَعَوْها لتبديل دينهم وتغييرهم له، قاله عطية العوفي. والثاني: لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم. والثالث: لكفرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم لما بُعث، ذكر القولين الزجاج: والثاني: أنهم الذين اتبعوا مبتدعي الرهبانية في رهبانيتهم، ما رَعوها بسلوك طريق أوليهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس. قوله عزّ وجلّ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: الذين آمنوا بمحمّد صلّى الله عليه وسلم. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين لم يؤمنوا به. والثاني: أن الذين آمنوا: المؤمنون بعيسى عليه السّلام والفاسقون: المشركون. والثالث: أن الذين آمنوا: مبتدعو الرهبانية، والفاسقون: متبعوهم على غير القانون الصحيح. [سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ عامة المفسرين على أن هذا الخطاب لليهود والنصارى، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله، وآمنوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أي نصيبين، وحظَّين مِنْ رَحْمَتِهِ. قال الزجاج: الكفل: كساء يمنع الراكب أن يسقط، فالمعنى: يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي. وقد بينا معنى «الكفل» في سورة النساء. وفي المراد بالكفلين هاهنا قولان: أحدهما: أنّ أحدهما لإيمانهم بمن تقدَّم من الأنبياء، والآخر لإيمانهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. والثاني: أن أحدهما: أجر الدنيا. والثاني: أجر الآخرة، قاله ابن زيد. قوله عزّ وجلّ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً. فيه أربعة أقوال: أحدها: القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: تمشون به على الصراط، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: الهدى، قاله مجاهد. والرابع: الإيمان، قاله ابن السّائب. قوله عزّ وجلّ: لِئَلَّا يَعْلَمَ «لا» زائدة. قال الفراء: والعرب تجعل «لا» صلة في كل كلام دخل في آخره أو أوله جحد، فهذا مما جُعل في آخره جحد. والمعنى: ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم أَلَّا يَقْدِرُونَ أي: أنهم لا يقدرون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ والمعنى: أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلم ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فآتاه المؤمنين. هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين.

(1396) وقد ذهب قوم إلى أنه لما نزل في مسلمي أهل الكتاب قوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ «1» افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هاتان الآيتان، وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. فعلى هذا يكون الخطاب للمسلمين، ويكون المعنى: يؤتكم أجرين ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصّكم به فإنه فضَّلكم على جميع الخلائق. وقال قتادة: لما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ الآية، حسد أهل الكتاب المسلمين، فأنزل الله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية.

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهذه رواية ساقطة، مدارها على الكلبي، وهو ممن يضع الحديث. وعزاه لمقاتل، وتقدم أنه يضع الحديث أيضا.

سورة المجادلة

سورة المجادلة وهي مدنيّة في قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة وقتادة والجمهور. وروي عن عطاء أنه قال: العشر الأول منها مدنيّ، والباقي مكّيّ. وعن ابن السّائب: أنها مدنيّة سوى آية، وهي قوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المجادلة (58) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها. (1397) أما سبب نزولها، فروي عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، ولقد جاءت المجادلة فكلّمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول: يا رسول الله، أبلى شبابي، ونثرتُ له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات. فأما تفسيرها، فقوله عزّ وجلّ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قال الزجاج: إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين لأنهما من حروف طرف اللسان، وإدغام الدال في السين تقوية للحرف، وإظهار الدال جائز

_ صحيح. أخرجه النسائي 6/ 46 وفي «الكبرى» 11570 و «التفسير» 590 وابن ماجة 188 و 2063 وأحمد 6/ 46 وعبد الرزاق في «التفسير» 1118 والحاكم 2/ 481 والطبري 33725 و 33726 والواحدي في «الأسباب» 788 والبيهقي 7/ 382 من طرق عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة. وإسناده صحيح، رجاله ثقات رجال البخاري ومسلم غير تميم، فإنه من رجال مسلم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن خولة بنت ثعلبة. أخرجه أحمد 6/ 410 وأبو داود 2214 والبيهقي 7/ 389 والطبري 33714 وابن حبان 4279 والواحدي في «الأسباب» 791 من طريق محمد بن إسحاق حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف به. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 2463 و «أحكام القرآن» لابن العربي 2045 و 2047 و «الجامع لأحكام القرآن» 5838 وهي جميعا بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 2 إلى 4]

لأنه وإِن قرب من مخرج السين فله حيّز على حدة، ومن موضع الدال الطاء والتاء، فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد، والسين والزاي والصاد من موضع واحد، وهي تسمى حروف الصفير. وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال: أحدها: خولة بنت ثعلبة، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال عكرمة وقتادة والقرظي. والثاني: خولة بنت خويلد، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: خولة بنت الصامت، رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: خولة بنت الدليج، قاله أبو العالية، واسم زوجها: أوس بن الصامت، وكانا من الأنصار. (1398) قال ابن عباس: كان الرجل إِذا قال لامرأته في الجاهلية: أنتِ عليَّ كظهر أمي، حرُمَتْ عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، ثم ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات. فأما مجادلتها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه كان كلمَّا قال لها: قد حرمتِ عليه، تقول: والله ما ذكر طلاقاً، فقال: ما أُوحي إليَّ في هذا شيء، فجعلت تشتكي إلى الله. وتشتكي بمعنى تشكو. يقال: اشتكيت ما بي وشكوته، بمعنى شكوى شاك أي أشكيته. وقالت: إن لي صبية صغاراً، إِن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا. فأما التحاور، فهو مراجعة الكلام. قال عنترة في فرسه: لو كان يدْري ما المُحاورَةُ اشْتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلّمي [سورة المجادلة (58) : الآيات 2 الى 4] الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «يظَّهَّرون» بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف. وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي: بفتح الياء وتشديد الظاء وبألف وتخفيف الهاء. وقرأ عاصم «يُظاهِرون» بضم الياء وتخفيف الظاء والهاء وكسر الهاء في الموضعين مع إِثبات الألف. وقرأ ابن مسعود «يتظاهرون» بياءٍ وتاءٍ وألف. وقرأ أبي بن كعب «يتظَهَّرون» بياءٍ وتاء وتخفيف الظاء وتشديد الهاء من غير ألف. وقرأ الحسن وقتادة والضحاك «يظهرون» بفتح الياء وفتح الظاء مخففة، مكسورة الهاء مشددة. والمعنى: تقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ قرأ الأكثرون بكسر التاء. وروى المفضل عن عاصم رفعها. والمعنى ما اللواتي تجعلن كالأمهات بأمهات لهم إِنْ أُمَّهاتُهُمْ أي ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ قال الفراء: وانتصاب «الأمهات» هاهنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله «ما هنّ بأمهاتهم» ، ومثله: ما هذا بَشَراً «1» ، المعنى:

_ أخرجه البيهقي 7/ 382- 383 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف أبي حمزة الثمالي، لكن يشهد لأصله ما تقدم. وانظر «تفسير الشوكاني» 2462 بتخريجنا.

ما هذا ببشرٍ، فلما أُلقيت الباء أُبقي أثرها، وهو النصب، وعلى هذا كلام أهلِ الحجاز. فأما أهل نجد فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا، فقالوا: «ما هن أمهاتُهم» و «ما هذا بشرٌ» أنشدني بعض العرب: رِكابُ حُسَيْلٍ آخِرَ الصَّيْفِ بُدَّنٌ ... وَنَاقَةُ عَمْروٍ مَا يُحَلُّ لَها رَحْلُ وَيَزْعُمُ حَسْلٌ أَنَّهُ فَرْعُ قَوْمِهِ ... وَمَا أَنْتَ فرع يا حسيل ولا أصل قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُمْ يعني: المظاهرون لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ لتشبيههم الزوجات بالأمهات، والأمهات محرمات على التأبيد، بخلاف الزوجات وَزُوراً أي: كذباً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِذ شرع الكفارة لذلك. قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا «1» اللام في «لما» بمعنى «إلى» ، والمعنى: ثم يعودون إلى تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء، قال الفراء: معنى الآية: يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا. وقال سعيد بن جبير: المعنى: يريدون أن يعودوا للجماع الذي قد حرَّموه على أنفسهم. وقال الحسن، وطاوس، والزهري: العَود: هو الوطء. وهذا يرجع إلى ما قلناه. وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظّهار مدّة يمكنه طلاقها فيها فلا يطلقها. فإذا وجد هذا، استقرت عليه الكفارة، لأنه قصد بالظهار تحريمها، فإن وصل إلى ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه، وان سكت عن الطلاق، فقد ندم على ما ابتدأ به، فهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة. وقال داود: هو إِعادة اللفظ ثانياً، لأن ظاهر قوله عزّ وجلّ: يَعُودُونَ يدل على تكرير اللفظ. قال الزجاج: وهذا قول من لا يدري اللغة. وقال أبو علي الفارسي: ليس في هذا كما ادَّعَوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبلُ. وسميت الآخرةُ معاداً، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها. قال الهذلي: وعَادَ الفَتَى كالكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ ... سِوى الحَقِّ شيئاً واسْتَرَاحَ العَواذِلُ وقد شرحنا هذا في قوله عزّ وجلّ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «2» . وقال ابن قتيبة: من توَّهم أن الظهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية، فليس بشيء، لأن الناس قد أجمعوا أن الظهار يقع بلفظ واحد. وإنما تأويل الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يطلِّقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية، وأنزل قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يريد في الجاهلية «ثم يعودون لما قالوا» في الإسلام، أي: يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ قال

_ (1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 192: وهو حرف مشكل، واختلف الناس فيه قديما وحديثا، وأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا، لا يصح، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 380: اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فقال بعض الناس: العود: هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره وهذا القول باطل، وهو اختيار ابن حزم وقول داود. وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق. وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع والعزم على الجماع أو الإمساك، فلا تحل له حتى يكفّر بهذه الكفارة. وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه: أنه الجماع، وقال أبو حنيفة: هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. (2) البقرة: 210.

المفسرون: المعنى: فعليهم، أو فكفارتهم تحرير رقبة «1» ، أي: عتقها. وهل يشترط أن تكون مؤمنة؟ فيه عن أحمد روايتان. قوله عزّ وجلّ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وهو: كناية عن الجماع، على أن العلماء قد اختلفوا هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان. وقال أبو الحسن الأخفش: تقدير الآية: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم. فصل: إذا وطئ المظَاهِرُ قبل أن يكفِّر أَثِمَ، واستقرَّت الكفارة، وقال أبو حنيفة: يسقط الظهار والكفارة. واختلف العلماء فيما يجب عليه إِذا فعل ذلك، فقال الحسن، وسعيد بن المسيّب، وطاوس، ومجاهد وإبراهيم، وابن سيرين: عليه كفارة واحدة، وقال الزهري، وقتادة في آخرين: عليه كفارتان. فإن قال: أنت عليَّ كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضيِّ اليوم، هذا قول أصحابنا وأبي حنيفة، والثوري، والشافعي، وقال ابن أبي ليلى، ومالك، والحسن بن صالح: هو مظاهر أبداً. واختلفوا في الظهار من الأمة، فقال ابن عباس: ليس من الأمة ظهار، وبه قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وقال سعيد بن جبير، وطاوس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك: هو ظهار. ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: لا يكون مظاهرا من أمته، ولكن يلزمه كفارة الظهار، كما قال في المرأة إِذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة، وتلزمها كفّارة الظّهار. واختلفوا فيمن قال: أنت عليّ كظهر أبي، فقال مالك: هو مظاهر، وهو قول أصحابنا، وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: لا يكون مظاهرا. واختلفوا فيمن ظاهر مراراً، فقال أبو حنيفة، والشافعي: إن كان في مجالس، فكفارات، وإن كان في مجلس واحد، فكفارة: قال القاضي أبو يعلى: وعلى قول أصحابنا يلزمه كفارة واحدة، سواء كان في مجلس واحد، أو في مجالس، ما لم يكفِّر، وهذا قول مالك. قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ قال الزجاج: ذلكم التغليظ توعظون به. والمعنى: أن غِلَظَ الكفارة وَعْظٌ لكم حتى تتركوا الظّهار. قوله عزّ وجلّ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني: الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي: فعليه صيام شهرين «2» مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام فكفّارته إطعام سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ أي: الفرض ذلك الذي وصفنا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: تصدِّقوا بأنَّ الله أمر بذلك، وتصدِّقوا بما أتى به الرسولُ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني: ما وصفه الله من الكفَّارات في الظِّهار وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ قال ابن عباس: لمن جحد هذا وكذّب به.

_ (1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 105: وظاهر قوله تعالى، يرتبط الوجوب بالعود، وفيه يرتبط كيفما كانت حالة الارتباط، بيد أنه للمسألة حرف جرى في ألسنة علمائنا من غير قصد، وهو مقصود المسألة، وذلك أن المعتبر في الكفارة صفة العبادة أو صفة العقوبة. والشافعي اعتبر صفة العقوبة، ونحن اعتبرنا صفة القربة، والقرب إنما يعتبر في حال الإجراء خاصة بحال الأداء، كالطهارة والصلاة، والذي يعتبر فيه حالة الوجوب هي الحدود، والطهارة ليست مقصودة لنفسها، وإنما تراد للصلاة، فاعتبر حال فعل الصلاة فيها. قلنا: وكذلك الكفارة ليست مقصودة لنفسها، وإنما تراد لحل المسيس، فإذا احتيج إلى المسيس اعتبرت الحالة المذكورة فيها. (2) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 197: يقتضي أن الوطء للزوجة في ليل الظهار يبطل الكفارة، لأن الله سبحانه شرط في كفارة الظهار فعلها قبل التماس.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 إلى 7]

[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قد ذكرنا معنى المحادَّة في التوبة «1» ، ومعنى «كُبتوا» في آل عمران عند قوله عزّ وجلّ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ «2» ، وقال ابن عباس: أُخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممن قاتل الرّسل. قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي: من قبورهم فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من معاصيه، وتضييع فرائضه أَحْصاهُ اللَّهُ أي: حفظه الله عليهم وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالهم في السِّر والعلانية شَهِيدٌ. أَلَمْ تَرَ أي: ألم تعلم. قوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ وقرأ أبو جعفر «ما تكون» بالتاء. قال ابن قتيبة: النجوى: السرار. وقال الزجاج: ما يكون من خلوة ثلاثة يسرِّون شيئاً، ويتناجَوْن به إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي: عالم به. و «نجوى» الزجاج: ما يكون من خلوة ثلاثة يسرِّون شيئاً، ويتناجَوْن به إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي: عالم به. و «نجوى» مشتق من النجوة، وهو ما ارتفع. وقرأ يعقوب «ولا أكثرُ» بالرفع. وقال الضحاك: «إلا هو معهم» أي: علمه معهم. [سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى في سبب نزولها قولان: (1399) أحدهما: نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجَوْن فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا قد بلغهم عن أقربائنا وإِخواننا الذين خرجوا في السرايا، قتل أو موت، أو مصيبة، فيقع ذلك في قلوبهم، ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى تقدَّم أصحابهم. فلما طال ذلك وكثر، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجَوْا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

_ لم أره مسندا. وذكره الواحدي في «الأسباب» 792 عن ابن عباس ومجاهد بدون إسناد، فهو لا شيء.

والثاني: أنها نزلت في اليهود، قاله مجاهد «1» . (1400) قال مقاتل: وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة، فإذا رأوا رجلاً من المسلمين وحده تناجَوْا بينهم فيظن المسلم أنهم يتناجَوْن بقتله أو بما يكره فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إليها، فنزلت هذه الآية. وقال ابن السائب: نزلت في المنافقين «2» . والنجوى: بمعنى المناجاة ثُمَّ يَعُودُونَ إلى المناجاة التي نهوا عنها وَيَتَناجَوْنَ قرأ حمزة، ويعقوب إلا زيداً، ورَوحاً «ويتنجَّون» وقرأ الباقون «ويتناجون» بألف. وفي معنى تناجيهم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وجهان: أحدهما: يتناجون بما يسوء المسلمين، فذلك الإثم والعدوان، ويوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرّسول. والثاني: يتناجون بعد نهي الرسول لهم، ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول. قوله عزّ وجلّ: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: (1401) أحدهما: أنها نزلت في اليهود. قالت عائشة رضي الله عنها: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش، ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله، ترى ما يقولون؟ فقال: ألست ترين أردُّ عليهم ما يقولون، وأقول: وعليكم، قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك. قال الزجاج: والسام: الموت. والثاني: أنها نزلت في المنافقين، رواه عطية عن ابن عباس. قال المفسرون: ومعنى «حيَّوك» سَلَّموا عليك بغير سلام الله عليك، وكانوا يقولون: السّام عليك. فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أو يقول بعضهم لبعض: لو كان نبياً عذّبنا بقولنا له ما نقول. قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فيها قولان: أحدهما: نزلت في المنافقين، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بزعمهم، وهذا قول عطاء ومقاتل. والثاني: أنها في المؤمنين، والمعنى: أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود، وهذا مذهب جماعة، منهم الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: فَلا تَتَناجَوْا هكذا قرأ الجماعة بألف. وقرأ يعقوب وحده «فلا تتنجَّوا» . فأما «البِرُّ» فقال مقاتل: هو الطاعة، و «التقوى» ترك المعصية. وقال أبو سليمان الدّمشقي: «البرّ» الصدق،

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية كذبه غير واحد. صحيح. أخرجه البخاري 6401 والبغوي في «شرح السنة» 3206 عن قتيبة بن سعيد به. وأخرجه البخاري 2935 و 6030 وفي «الأدب المفرد» 311 من طريق أيوب عن ابن مليكة به. وأخرجه مسلم 2165 ح 11 والواحدي في «الوسيط» 4/ 262 من طريق مسروق عن عائشة به. وأخرجه البخاري 6024 و 6256 و 6395 ومسلم 2165 والترمذي 2701 وأحمد 6/ 37 و 199 وعبد الرزاق 1946 وابن حبان 6441 والبيهقي في «السنن» 9/ 203 وفي «الآداب» 286 من طرق عن الزهري عن عروة عن عائشة به.

[سورة المجادلة (58) : آية 11]

و «التقوى» ترك الكذب. ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون، من الشيطان، فقال عزّ وجلّ: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ أي: من تزيينه، والمعنى: إنما يزيِّن لهم ذلك لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وقد بيّنّا آنفا ما كان يحزن المؤمنين من هذه النجوى وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً أي: وليس الشيطان بضارِّ المؤمنين شيئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بإرادته وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: فليكلوا أُمورهم إليه. [سورة المجادلة (58) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) قوله عزّ وجلّ: إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ وقرأ عاصم «في المجالس» على الجمع، وذلك أنّ كل جالس له مجلس، فالمعنى: ليفسح كل رجل منكم في مجلسه «1» . (1402) قال المفسرون: نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا أقبل المهاجرون وأهل السابقة، لم يجدوا موضعا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم جمعة جالس في صُفَّةٍ ضيِّقةٍ في المسجد، جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس، فسلَّموا وانتظروا أن يوسّعوا لهم، فأوسعوا لبعضهم، وبقي بعضهم، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: قم يا فلان، قم يا فلان، حتى أقام من المجلس على عدة من هو قائم من أهل السابقة، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في وجوه من أقامهم الكراهة، وتكلَّم المنافقون في ذلك وقالوا: والله ما عدل، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا أقبل مقبل ضَنّوا بمجلسهم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض. قال المفسرون: ومعنى «تفسّحوا» توسّعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متصافّين حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلا يجد غيرهم مجلساً عنده، فأمرهم أن يوسِّعوا لغيرهم ليتساوى الناس في الحظِّ منه، ويظهر فضيلة المقرَّبين إليه من أهل بدر وغيرهم. وفي المراد «بالمجلس» هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مجلس الحرب ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصفِّ، فيقول لهم: توسَّعوا، فيأبَوْن عليه لحرصهم على القتال، وهذا قول ابن عباس والحسن وأبي العالية والقرظي. والثاني: أنه مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله مجاهد. وقال قتادة: كان هذا للنبي صلّى الله عليه وسلم ومن حوله خاصة. والثالث: مجالس الذكر كلِّها، روي عن قتادة أيضا. وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأبو رزين وأبو عبد الرحمن ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وابن أبي عبلة والأعمش: «تفسحوا في المجالس» بألف على الجمع. قوله عزّ وجلّ: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي: يوسّع الله لكم الجنّة، والمجالس فيها.

_ عزاه ابن كثير 4/ 383- 384 لابن أبي حاتم عن مقاتل، وهذا مرسل، ومقاتل ذو مناكير، وهذا منها.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 12 إلى 13]

وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا قرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «انشُزوا فانشُزوا» برفع الشين فيهما. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بكسر الشين فيهما. ومعنى «انشزوا» قوموا. قال الفراء: وهما لغتان. وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه القيام إلى الصلاة، وكان رجال يتثاقلون عنها، فقيل لهم: إِذا نودي للصلاة فانهضوا، هذا قول عكرمة، والضحاك. والثاني: أنه القيام إلى قتال العدو، قاله الحسن. والثالث: أنه القيام إلى كل خير، من قتال، أو أمر بمعروف، ونحو ذلك، قاله مجاهد. (1403) والرابع: أنه الخروج من بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم آخرهم عهداً به، فأُمروا أن ينشُزوا إذا قيل لهم: انشزوا، قاله ابن زيد. والخامس: أن المعنى: قوموا وتحرَّكوا وتوسَّعوا لإخوانكم، قاله الثعلبي. قوله عزّ وجلّ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي: يرفعهم بإيمانهم على من ليس بمنزلتهم من أهل الإيمان وَيرفع الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على مَن ليس بعالم. وهل هذا الرفع في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة. والثاني: أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدِّين والعلم. وكان ابن مسعود يقول: أيها الناس: افهموا هذه الآية ولْتُرغِّبْكم في العلم، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات. [سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) قوله عزّ وجلّ: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ في سبب نزولها قولان. (1404) أحدهما: أنّ الناس سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى شقُّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيّه،

_ باطل، أخرجه الطبري 33785 عن عبد الرحمن بن زيد، وهذا معضل، وابن زيد واه، والمتن باطل. ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» للسيوطي 1083 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لانقطاعه بينهما.

فأنزل هذه الآية، قاله ابن عباس. (1405) والثاني: أنها نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يكثرون مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت هذه الآية، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت الرخصة، قاله مقاتل بن حيَّان. (1406) وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان، إلا أنه قال: فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يقدِّمْ أحدٌ من أهل الميسرة صدقة غير عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (1407) وروى مجاهد عن عليّ رضي الله عنه قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى. كان لي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قدَّمت درهماً، فنسختها الآية الأخرى أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الآية. قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي: تقديم الصدقة على المناجاة خير لكم، لما فيه من

_ ضعيف، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 6/ 272 عن مقاتل بن حيان، وهذا مرسل، فهو ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهو ممن يصنع الحديث، فخبره لا شيء. ضعيف. أخرجه الطبري 33788 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وروي عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية، دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: أما ترى دينارا؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: حبة أو شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ قال علي: فبي قد خفف الله عن هذه الأمة. أخرجه الترمذي 3300 وابن أبي شيبة 12/ 81- 82 وأبو يعلى 400 وابن حبان 6941 والعقيلي في «الضعفاء» 3/ 243 من طريق عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي بن أبي طالب به. وأخرجه الطبري 33796 وابن حبان 6942 والنسائي في «الخصائص» 152 عن سفيان الثوري بالإسناد المذكور. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» 5/ 204 من طريق شريك عن عثمان المغيرة به. وفي إسناده علي بن علقمة. قال العقيلي: قال البخاري في حديثه نظر. وفي «الميزان» 5893: وقال ابن المديني: لا أعلم له راويا غير سالم اه. وفي هذه إشارة إلى أنه مجهول. وقال عنه ابن حبان في «المجروحين» 2/ 109 منكر الحديث يروي عن علي بما لا يشبه حديثه، فلا أدري سمع منه، أو أخذ ما يروي عنه عن غيره. والذي عندي ترك الاحتجاج به إلا حين وافق الثقات من أصحاب علي اه. وتابعه ابن أبي ليلى عند الحاكم 2/ 481- 482 وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! والصواب أن فيه يحيى بن المغيرة السعدي، وهو لم يرو له الشيخان، ولا أحدهما لكن وثقه أبو حاتم وابن حبان، وللحديث علة أخرى، وهي الإرسال، حيث رواه ابن أبي ليلى بصيغة الإرسال، وهو كثير الإرسال، ثم وقع تخليط في هذه الرواية فقد جعله من كلام النبي صلّى الله عليه وسلم بدل كونه من كلام علي، وهذا دليل على أنها رواية واهية ليست بشيء. وأخرج عبد الرزاق في «التفسير» 3178 والطبري 33789 و 33791 والواحدي في «الوسيط» 4، 266 من طريق مجاهد عن علي بن أبي طالب قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد غيري، آية النجوى: كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله قدمت درهما، فنسخت بالآية الأخرى أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية. وإسناده ضعيف لانقطاعه بين مجاهد وعلي. الخلاصة: هو خبر ضعيف ولا يحتج بمثل هذه الأخبار في هذه المواضع، فلا يثبت بمثل ذلك سبب نزول آية ولا كونها خاصة. وانظر «أحكام القرآن» 2056 و 2057 بتخريجنا.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 إلى 20]

طاعة الله، وأطهر لذنوبكم فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا يعني: الفقراء فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إذ عفا عمّن لا يجد. قوله عزّ وجلّ: أَأَشْفَقْتُمْ أي: خِفتم بالصدقة الفاقةَ وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي: فتجاوز عنكم، وخَفَّف بنسخ إيجاب الصدقة. قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال. قال قتادة: ما كان إلّا ساعة من نهار. [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 20] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نزلت في المنافقين الذين تولَّوا اليهود، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين. (1408) وقال السدي، ومقاتل: نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق، وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويرفع حديثه إلى اليهود، فدخل عليه يوماً، وكان أزرق، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله هذه الآيات. (1409) وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث ابن عباس، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في ظل حُجرة من حجره، وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنه سيأتيكم إِنسان ينظر إِليكم بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تُكلِّموه، فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا بالله واعتذروا إليه، فأنزل الله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ الآية. فأما التفسير، فالذين تولَّوا: هم المنافقون، والمغضوب عليهم: هم اليهود ما هُمْ مِنْكُمْ يعني: المنافقين ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهو ما ذكرنا في سبب نزولها. وقال بعضهم: حلفوا أنهم ما سبّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا تولَّوْا اليهود وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كَذَبة اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أي: سترة يَتَّقُون بها القتل. قال ابن قتيبة: المعنى: استتروا بالحلف، فكلما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: صَدُّوا النَّاس عن دين الإسلام، قاله السّدّيّ. والثاني: صدّوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم. قوله عزّ وجلّ:

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 798 عن السدي ومقاتل بدون إسناد، وهذا مرسل. وله شاهد من حديث ابن عباس وهو الآتي. حسن، أخرجه أحمد 1/ 2401 والحاكم 2/ 482 والطبري 33805 والواحدي 799. صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 122 رجال أحمد رجال الصحيح اه.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 21 إلى 22]

فَيَحْلِفُونَ لَهُ قال مقاتل، وقتادة: يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من أَيمانهم الكاذبة أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ في قولهم وأيمانهم. قوله عزّ وجلّ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ قال أبو عبيدة: غلب عليهم، وحاذهم، وقد بينا هذا في سورة النّساء عند قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ «1» ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي: في المغلوبين، فلهم في الدنيا ذلّ، وفي الآخرة خزي. [سورة المجادلة (58) : الآيات 21 الى 22] كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) قوله عزّ وجلّ: كَتَبَ اللَّهُ أي: قضى الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وفتح الياء نافع، وابن عامر. قال المفسرون: من بُعث من الرسل بالحرب، فعاقبة الأمر له، ومن لم يبعث بالحرب، فهو غالب بالحجة إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي: مانع حزبه من أن يذلّ. قوله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْماً الآية. اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: (1410) أحدها: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه يوم أُحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، فقال: يا رسول الله دعني أكون في الرَّعلة الأولى، فقال: متِّعنا بنفسك يا أبا بكر، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد، وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر، قاله ابن مسعود. (1411) والثاني: أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه وذلك أن أبا قحافة سَبَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فصكّه أبو بكر صَكَّةً شديدةً سقط منها، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أو فَعلته» ؟ قال: نعم. قال: فلا تعُد إِليه، فقال أبو بكر: والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته، فنزلت هذه الآية، قاله ابن جريج. (1412) والثالث: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ، وذلك أنه كان جالساً إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فشرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماءً، فقال عبد الله: يا رسول الله أبق فضلة من شرابك، قال: وما تصنع

_ ضعيف، عزاه البغوي في «التفسير» 4/ 312/ 2154 لمقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن ابن مسعود قوله: ومقاتل ذو مناكر، وهو غير حجة. باطل، أخرجه ابن المنذر كما في «أسباب النزول» 1089 عن ابن جريج، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 800 عن ابن جريج تعليقا، وهذا واه ابن جريح مدلس، لم يذكر من حدثه، ومع ذلك هو معضل، فالخبر شبه موضوع، قال الإمام أحمد: هذه المراسيل التي يرسلها ابن جريج كأنها موضوعة. - راجع «الميزان» في ترجمة ابن جريج واسمه عبد الملك بن عبد العزيز. عزاه المصنف للسدي، ولم أقف عليه، وهو مرسل بكل حال فهو واه.

بها؟ فقال: أسقيها أبي، لعل الله سبحانه يطهر قلبه، ففعل، فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال: فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها، لعل الله يطهر قلبك، فقال: هلا جئتني ببول أُمِّكَ! فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في قتل أبي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ارفق به، وأحسن إليه، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. (1413) والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ حين كتب إلى أهل مكّة يخبرهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد عزم على قصدهم، قاله مقاتل، واختاره الفراء، والزجاج. وهذه الآية قد بَيَّنتْ أن مودَّة الكفار تقدح في صحة الإيمان، وأن من كان مؤمناً لم يوالِ كافراً وإِن كان أباه أو ابنه أو أحداً من عشيرته. قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ، يعني: الذين لا يوادُّون من حادَّ الله ورسوله كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وقرأ المفضل عن عاصم «كُتِبَ» برفع الكاف والنون من «الإيمان» . وفي معنى «كتب» خمسة أقوال: أحدها: أثبت في قلوبهم الإيمان، قاله الربيع بن أنس. والثاني: جعل، قاله مقاتل. والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان، حكاه الماوردي. والرابع: حكم لهم بالإيمان. وإنما ذكر القلوب، لأنها موضع الإيمان، ذكره الثعلبي. والخامس: جمع في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه، قاله الواحدي. قوله عزّ وجلّ: وَأَيَّدَهُمْ أي قوّاهم بِرُوحٍ مِنْهُ في المراد «بالروح» هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه النصر، قاله ابن عباس والحسن. فعلى هذا سمي النصر روحاً لأن أمرهم يحيا به. والثاني: الإيمان، قاله السدي. والثالث: القرآن، قاله الربيع. والرابع: الرحمة، قاله مقاتل. والخامس: جبريل عليه السلام أيَّدهم به يوم بدر، ذكره الماوردي. فأما حِزْبُ اللَّهِ فقال الزجاج: هم الدّاخلون في الجمع الذين اصطفاهم الله وارتضاهم، و «ألا» كلمة تنبيه وتوكيد للقصة.

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية متهم بالكذب، وخبر حاطب في «الصحيحين» وليس فيه ذكر نزول هذه الآية.

سورة الحشر

سورة الحشر وهي مدنية كلها بإجماعهم، وذكر المفسّرون أنّ جميعها نزل في بني النّضير. وكان ابن عباس يسمّي هذه السّورة «سورة بني النّضير» وهذه الإِشارة إِلى قصتهم. (1414) ذكر أهل العِلْم بالتفسير والسّير: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه، فصلّى فيه، ثم أتى بني النّضير، فكلّمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما، فقتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ وهو لا يعلم، فقالوا: نفعل، وهمّوا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلّام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم به، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر، فنهض سريعا، فتوجّه إلى المدينة، فلحقه أصحابه، فقالوا: قمت ولم نشعر؟! فقال: همّت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم محمّد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدتي، فلا تساكنوني، وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجّلتكم عشرا. فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا أياما يتجهّزون، فأرسل إليهم ابن أبيّ: لا تخرجوا، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدّكم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان، وطمع حييّ فيما قال ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكبّر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود، ثم سار إليهم في أصحابه، فلمّا رأوه، قاموا على حصونهم معهم النّبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى مكّة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبر الله نبيّه بذلك، فبعث محمّد بن مسلمة فاغترّه فقتله، وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقطع نخلهم، فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة، فمضى بعضهم إلى الشّام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض أموالهم وسلاحهم، فوجد خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا. فأمّا التفسير فقد ذكرنا فاتحة هذه السّورة في أوّل الحديد. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)

_ عزاه المصنف لأهل التفسير والسير، ولم أره بهذا اللفظ، والظاهر أنه ساقه بمعناه. وانظر «السيرة النبوية» 3/ 151 و «تفسير ابن كثير» 4/ 391 و «الدر المنثور» 6/ 277 و «أسباب النزول» 802.

قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: يهود بني النضير مِنْ دِيارِهِمْ أي: من منازلهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم أول من حُشر وأُخرج من داره، قاله ابن عباس. وقال ابن السائب: هم أول من نفي من أهل الكتاب. والثاني: أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني: إلى أرض المحشر يوم القيامة، قاله الحسن. (1415) قال عكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ: اخرجوا، فقالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر. والثالث: أن هذا كان أول حشرهم وأن الحشر الثاني: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، قاله قتادة. والرابع: هذا كان أول حشرهم من المدينة، والحشر الثاني: من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، قاله مرّة الهمداني. قوله عزّ وجلّ: ما ظَنَنْتُمْ يخاطب المؤمنين أَنْ يَخْرُجُوا من ديارهم لعزِّهم، ومَنَعَتِهم، وحُصُونهم وَظَنُّوا: يعني: بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وذلك أنّه أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلم بقتالهم وإِجلائهم، ولم يكونوا يظنون أن ذلك يكون، ولا يحسبونه وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ لخوفهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقيل: لقتل سيدهم كعب بن الأشرف يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قرأ أبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد. وقرأ الباقون «يخربون» بالتخفيف وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أن المشددة معناها: النقض والهدم. والمخففة معناها: يخرجون منها ويتركونها خراباً معطَّلة، حكاه ابن جرير. وروي عن أبي عمرو أنه قال: إنما اخترت التشديد، لأن بني النضير نقضوا منازلهم، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة. والثاني: أن القراءتين بمعنى واحد. والتخريب والإخراب لغتان بمعنى، حكاه ابن جرير عن أهل اللغة. وللمفسرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال: أحدها: أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دارٍ من دُورهم هدموها ليتسع لهم مكان القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إِلى ما يليها، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا هم ما يبنون به الذي خربه المسلمون، قاله الضحاك. والثالث: أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود، أو الباب، يستحسنونه، فيهدمون

_ هو مرسل وورد موصولا. أخرجه البزار 3426 «كشف» من طريق أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف أبي سعد البقال. وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 8355: فيه أبو سعيد البقال، والغالب على حديثه الضعف. قلت: وكون المحشر في الشام، ورد في أحاديث أخرى. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 5873 بتخريجنا.

البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم، ويخرب المؤمنون باقيها، قاله الزهري. والرابع: أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسداً منهم، وبغياً، قاله ابن زيد. قوله عزّ وجلّ: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ الاعتبار: النظر في الأمور، ليعرف بها شيء آخر من جنسها، و «الأبصار» العقول. والمعنى: تدبَّروا ما نزل بهم وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ أي: قضى عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ وهو خروجهم من أوطانهم. وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين: أحدهما: أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد. والثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة. والإخراج: قد يكون لواحد ولجماعة. والمعنى: لولا أن الله قضى عليهم بالخروج لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مع ما حلَّ بهم في الدنيا عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ الذي أصابهم بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وقد سبق بيان الآية «1» . قال القاضي أبو يعلى: فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، ولا جزية، ولا دخول في ذمة، وهذا حكم منسوخ إِذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يُؤدُّوا الجزية. وإِنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم. وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال. (1416) لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم، وعلى الحلقة «2» ، وترك لهم ما أقلّت الإبل، وذلك مجهول. وقوله عزّ وجلّ: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ. (1417) سبب نزولها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر. (1418) وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصَّنوا في حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم،

_ صحيح. أخرجه أبو داود 3004 مطولا عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، وإسناده على شرط البخاري ومسلم، وجهالة الصحابي لا تضر. وأخرجه الطبري 33825 عن الزهري مرسلا. وله شواهد كثيرة. صحيح. أخرجه البخاري 4031 والبغوي 3676 عن آدم به من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري 4884 ومسلم 1746 وأبو داود 1615 والترمذي 3298 وابن ماجة 2844 والواحدي في «أسباب النزول» 805 وأحمد 2/ 123 من طرق عن الليث به. وأخرجه مسلم 1746 ح 31 وابن ماجة 2845 والدارمي 2/ 222 من طريق عبيد الله عن نافع به. وأخرجه البخاري 3021 ومسلم 1746 وأحمد 2/ 7- 8 و 52 و 80 والطبري 33853 والواحدي 806 والبيهقي 9/ 83 والبغوي في «شرح السنة» 3675 من طرق عن جويرية عن نافع به. وأخرجه البيهقي 9/ 83 من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن نافع. ذكره الواحدي في «الأسباب» 804 من غير عزو لقائل. وورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 33851. وورد من مرسل يزيد بن رومان، أخرجه الطبري 33850.

[سورة الحشر (59) : الآيات 6 إلى 10]

وإحراقها، فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمتَ أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟ وهل وجدت فيما أُنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم. واختلف المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى. وفي المراد «باللينة» ستة أقوال «1» : أحدها: أنه النخل كلُّه ما خلا العجوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال عكرمة، وقتادة، والفراء. والثاني: أنها النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أنها ألوان النخل كلّها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال الزجاج: أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني، والعجوة. وأصل «لينة» لِوْنة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. والرابع: أنها النخل كلُّه، قاله مجاهد وعطية، وابن زيد. قال ابن جرير: معنى الآية: ما قطعتم من ألوان النخيل. والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان. والسادس: أنها ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديدة الصُّفْرة، ترى نواه من خارج، وكان أعجب تمرهم إليهم، قاله مقاتل. وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ستة نخلات، قاله الضحاك. والثاني: أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة، قاله ابن إسحاق. والثالث: قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل. قوله عزّ وجلّ فَبِإِذْنِ اللَّهِ قال يزيد بن رومان ومقاتل: بأمر الله. قوله عزّ وجلّ: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعني اليهود. وخزيهم: أن يُريَهم أموالهم يتحكَّم فيها المؤمنون كيف أحبُّوا. والمعنى: وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: فَبِإِذْنِ اللَّهِ. [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 33: والصواب من القول في ذلك قول من قال: اللينة: النخلة، وهي من ألوان النخل ما لم تكن عجوة. ووافقه القرطبي، وقال ابن العربي: والصحيح ما قاله الزهري ومالك لوجهين- وهو اختيار الطبري-: أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. والثاني: أن الاشتقاق يعضده، وأهل اللغة يصححونه، فإن اللينة وزنها لونه، واعتلت على أصولهم فآلت إلى لينة فهي لون.

فصل:

قوله عزّ وجلّ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي: ما ردَّ عليهم مِنْهُمْ يعني: من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ قال أبو عبيدة: الإيجاف: الإيضاع، والركاب: الإبل. قال ابن قتيبة: يقال: وجف الفرس والبعير، وأوجفته، ومثله: الإيضاع، وهو الإسراع في السير. وقال الزجاج: معنى الآية: أنه لا شيء لكم في هذا، إنما هو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة. قال المفسرون: طلب المسلمون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يخمِّسَ أموال بني النضير لما أُجْلُوا، فنزلت هذه الآية تبيّن أنها فيء لم تحصل لهم بمحاربتهم، وإنما هو بتسليط رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهو له خاصة، يفعل فيه ما يشاء. (1419) فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منه شيئاً، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دُجَانة، وسهل بن حُنيف، والحارث بن الصّمّة. ثم ذكر حكم الفيء فقال عزّ وجلّ: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي: من أموال كفار أهل القرى فَلِلَّهِ أي: يأمركم فيه بما أحبّ، وَلِلرَّسُولِ بتحليل الله إياه. وقد ذكرنا «ذوي القربى واليتامى» في الأنفال «1» وذكرنا هناك الفرق بين الفيء والغنيمة. فصل «2» : واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فذهب قوم إلى أنّ المراد بالفيء هاهنا: الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة، وكانت في بدوِّ الإسلام للذين سمّاهم الله هاهنا دون الغانمين الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال:

_ ذكره البغوي في «تفسيره» 4/ 292 بدون إسناد، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 505 ذكره الثعلبي بغير سند، وروى الواقدي عن معمر عن الزهري عن خارجة بن زيد أم العلاء قالت: «لما غنم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني النضير قال لثابت بن قيس بن شماس: ادع لي الأنصار كلهم فقال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم، فقال السعدان: بل تقسمه للمهاجرين ويكونوا في دورنا، فرضيت الأنصار، فأعطى المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا رجلين محتاجين سهل بن حنيف، وأبا دجانة، ونفل ابن الحقيق. سعد بن معاذ «وكان له ذكر عندهم ... اه وانظر «سنن أبي داود» 3004 حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم.

وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية «1» ، هذا قول قتادة ويزيد بن رومان. وذهب قوم إلى أنّ هذا الفيء: ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف عليه من خيل ولا ركاب، كالصلح، والجزية، والعشور، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمسة أخماس، فأربعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية. واختلف العلماء فيما يصنع بسهم الرسول بعد موته على ما بيّنّاه في الأنفال، فعلى هذا تكون هذه الآية مبيّنة لحكم الفيء، والتي في الأنفال «2» مبيّنة لحكم الغنيمة، فلا يتوجه النسخ. قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ يعني الفيء دُولَةً وهو اسم للشيء يتداوله القوم. والمعنى: لئلّا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبون الفقراء عليه. قال الزجاج: الدُّولة: اسم الشيء يتداول. والدَّولة، بالفتح: الفعل والانتقال من حال إلى حال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ من الفيء فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عن أخذه فَانْتَهُوا وهذا نزل في أمر الفيء، وهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه. قال الزجاج: ثم بين مَن المساكين الذين لهم الحقّ، فقال عزّ وجلّ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قال المفسرون: يعني بهم المهاجرين يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي: رزقاً يأتيهم وَرِضْواناً رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إِيمانهم. ثم مدح الأنصار حين طابت نفوسهم عن الفيء، فقال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ يعني: دار الهجرة، وهي المدينة وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين تبوءوا الدار من قبلهم، أي: من قبل المهاجرين، والإيمان عطف على «الدار» في الظاهر، لا في المعنى، لأن «الإيمان» ليس بمكان يُتَبَوَّأُ، وإنما تقديره: وآثروا الإيمان، وإِسلام المهاجرين قبل الأنصار، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين. وقيل: الكلام على ظاهره، والمعنى: تبوّءوا الدار والإيمان قبل الهجرة يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أي: حسداً وغيظاً مما أوتي المهاجرون. وفيما أوتوه قولان: أحدهما: مال الفيء، قاله الحسن. وقد ذكرنا آنفا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر. والثاني: الفضل والتقدّم، ذكره الماورديّ. قوله عزّ وجلّ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ يعني الأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فقر وحاجة، فبيّن الله عزّ وجلّ أن إيثارهم لم يكن عن غنى. وفي سبب نزول هذا الكلام قولان: (1420) أحدهما: أن رجلا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد أصابه الجهد، فقال: يا رسول الله، إني جائع فأطعمني، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أزواجه: هل عندكنَّ شيء؟ فكلُّهن قلن: والذي بعثك بالحقّ

_ صحيح. أخرجه البخاري 3798 والبغوي في «التفسير» 2165 من حديث أبي هريرة. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 809 من طريق نصر بن علي الجهضمي عن عبد الله بن داود به. وأخرجه البخاري 4889 ومسلم 2054 والترمذي 3304 والنسائي في «التفسير» 602 وابن حبان 5286 والبيهقي 4/ 185 وفي «الأسماء والصفات» 979 والواحدي في الوسيط» 4/ 273 من طرق عن فضل بن غزوان به.

فصل:

ما عهدنا إِلا الماء، فقال: ما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يطعمكَ هذه الليلة. ثم قال: «من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله؟» فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأكرميه ولا تدَّخري عنه شيئاً، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: قومي فعلِّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئاً، ثم أصبحي سراجِك فإذا أخذ الضيف ليأكل، فقومي كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالَيْ نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، فظنّ الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويَين، فلما أصبحا غَدَوَا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما نظر اليهما تبسَّم، ثم قال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فَعالكما، فأنزل الله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية. خرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة، وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة. أن الضيف كان من أهل الصُّفَّة، والمضيف كان من الأنصار، وأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لقد عجب من فعالكما أهلُ السماء» . (1421) والثاني: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أُهْدِيَ له رأسُ شاةٍ، فقال: إِن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إِليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر. (1422) وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أُهدي لبعض الصحابة رأسُ شاةٍ مشويّ، وكان مجهوداً، فوجَّه به إلى جارٍ له فتناوله تسعةُ أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية. قوله عزّ وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ قرأ ابن السميفع، وأبو رجاء «ومن يُوَقَّ» بتشديد القاف. قال المفسرون: هو أن لا يأخذ مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئاً أمره الله بأدائه. والمعنى: أن الأنصار ممن وُقِيَ شُحَّ نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين. فصل: وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما فرق، أم لا؟ فقال ابن جرير: الشُّحُّ في كلام العرب: هو منع الفضل من المال. وقال أبو سليمان الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشُّحُّ بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قِبَل الطَّبع والجِبِلَّة. وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يَضِنَّ بماله، والشح: أن يبخل بماله ومعروفه. وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله يقول: «ومن يوق شح نفسه» وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء، فقال: ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، الشُّحُّ: أن تأكل مال أخيك ظلما، إنما البخل، وبئس الشيء البخيل.

_ ضعيف. أخرجه الحاكم 2/ 484 وصححه! وتعقبه الذهبي بقوله: عبيد الله ضعفوه. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 810 من طريق عبيد الله بن الوليد به. وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 289 للحاكم وابن مردويه. عزاه القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 25- بتخريجنا للثعلبي عن أنس، والثعلبي يروي الواهيات والموضوعات فهذا خبر لا شيء لخلوه عن كتب الحديث والأثر.

[سورة الحشر (59) : الآيات 11 إلى 17]

(1423) وروى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «برىء من الشُّحِّ من أدَّى الزكاة، وقرى الضّيف، وأعطى في النّائبة» . قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني التابعين إلى يوم القيامة. قال الزّجّاج: إنّ المعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: الذين جاءوا في حال قولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا فمن ترحّم على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم، فله حظّ من فيء المسلمين، ومن شتمهم ولم يترحّم عليهم، أو كان في قلبه غِلٌّ لهم، فما جعل الله له حقّا في شيء من فيء المسلمين بنص الكتاب. وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: من تنقص أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غِلٌّ، فليس له حقّ في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآيات «1» . [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يعني: عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ في الدِّين، لأنهم كفَّار مثلهم، وهم اليهود لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أي: في خذلانكم أَحَداً أَبَداً فكذَّبهم الله تعالى في ذلك بقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ثم ذكر أنهم يُخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه، فكان الأمر على ما ذكر الله تعالى، لأنهم أُخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقُوتلوا فلم ينصروهم، ومعنى وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ: لئن قُدِّر وجودُ نصرهم، لأن الله نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده. وقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ يعني: بني النضير. قوله عز وجل: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ يعني: المؤمنين أشد رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ وفيهم قولان:

_ أخرجه الطبري 33883 والبيهقي في «الشعب» 10842 من حديث أنس، وإسناده ضعيف فيه سليمان بن عبد الرحمن روى مناكير، وإسماعيل بن عياش روايته ضعيفة عن غير الشاميين، وشيخه هنا مدني.

أحدهما: أنهم المنافقون، قاله مقاتل. والثاني: بنو النّضير، قاله الفرّاء. قوله عزّ وجلّ: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون. والثاني: اليهود والمنافقون، قاله ابو سليمان الدمشقي. والمعنى: أنهم لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون مُتَحَصِّنين فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان «من وراء جدار» بألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي «جُدُر» بضم الجيم والدَّال. وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن أبي عبلة «جَدَر» بفتح الجيم والدال جميعاً، وقرأ عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعاصم الجحدري «جَدْر» بفتح الجيم وسكون الدال. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وابن يعمر «جُدْر» بضم الجيم وإِسكان الدال بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ وفيه قولان: أحدهما: عداوة بعضهم لبعض شديدة. والثاني: أنّ بأسهم بينهم فيما وراء الحصون شديد، وإذا خرجوا إِليكم فهم أجبن خلق الله. قوله عزّ وجلّ: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل. والثاني: بنو النضير، قاله الفرّاء. قوله عزّ وجلّ: وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قال الزجاج: أي هم مختلفون لا تستوي قلوبهم، ولا يتعاونون بنيِّات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر حزبه، وخاذل أعدائه. قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ يعني ذلك الاختلاف بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه الحظُّ لهم. ثم ضرب لليهود مثلا، فقال عزّ وجلّ: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم بنو قينقاع. وقال ابن عباس: كانوا بنو قينقاع يهودا، وكانوا وادعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم غدروا، فحصرهم، ثم نزلوا على حكمه أن له أموالهم، ولهم النساء والذُّرِّية. فالمعنى: مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع. والثاني: أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد. والمعنى: مَثَلُ هؤلاء اليهود كمثلِ المشركين الذين كانوا من قبلهم قريباً، وذلك لقرب غزوة بني النضير من غزاة بدر. والثالث: أنهم بنو قريظة، فالمعنى: مَثَلُ بني النضير كبني قريظة ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ بأن قُتلت مقاتلتهم، وسُبِيَتْ ذراريهم، وهؤلاء أُجلوا عن ديارهم فذاقوا وبال أمرهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال عزّ وجلّ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ. والمعنى: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير، وقولهم: لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ وفيه قولان «1» : أحدهما: أنه مَثَلٌ ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس، قاله مجاهد. والثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين، وهذا شرح قصته: ذكر أهل التفسير أن عابداً من بني إسرائيل كان يقال له: برصيصا تعبَّد في صومعةٍ له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يوماً مردة الشياطين، فقال: ألا أحدٌ منكم يكفيني برصيصا، فقال

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 402: وقد ذكر بعضهم هاهنا- قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثال، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها. - وقال الشوكاني رحمه الله في «تفسيره» 5/ 245: وهذا لا يدل على أن هذا الإنسان- المذكور في القصة الآتية- هو المقصود بالآية بل يدل على أنه من جملة من تصدق عليه.

الأبيض، وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرّهبان، فأتى صومعته، فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطَّلع فرآه منتصباً يصلي على هيئة حسنة، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: إِني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدَّب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يُقْبِلْ إليه برصيصا أربعين يوماً، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعِد إليه، فأقام معه حولاً لا يفطر إِلا كل أربعين يوماً، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوماً، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إِليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا، وكره مفارقته، فلما ودَّعه قال له الأبيض: إِن عندي دَعَوَاتٍ أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلي، فقال برصيصا: إِني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلاً، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة. فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إِبليس فقال: قد والله أهلكتُ الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرَّض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبِّب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنوناً فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إِني لا أقوى على جنِّيِّه، ولكن سأرشدكم إِلى من يدعو له فيعافى فقالوا له: دلّنا. فقال: انطلقوا إِلى برصيصا العابد فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنه الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا، فيُعافَوْن، فلما طال ذلك عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبِّب، فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم. قال: إِن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تَدَعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا: ومن هو؟ قال: برصيصا، قالوا: وكيف لنا أن يقبلها منَّا، وهو أعظم شأناً من ذلك؟! قال: إن قبلها، وإلا فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا اليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده. وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال له: انزل إِليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسناً وجمالاً، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف اليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتُضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها قلت: جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل به حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إِذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدَّقوه، وانصرفوا. وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعتْ اليكم، فتفرَّقوا ينظرون لها أثراً، فلما أمسَوْا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إِن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، وبرصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، وهو لا يكترث، فانطلق إِلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر، بمثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا

[سورة الحشر (59) : الآيات 18 إلى 20]

وكذا، فقال الأوسط: وأنا والله، فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا، فسألوه عنها، فقال: قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتّهمتموني، فقالوا: لا والله واستحيَوْا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إِزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا: يا عدوَّ الله لم قتلتها؟ اهبط، فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلاً، ثم قادوه إلى الملك فأقرّ على نفسه، وذلك أنّ الشيطان عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بِقَتْلِهِ وصَلْبِهِ، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علَّمتك الدعوات، ويحك ما اتَّقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحيَيْتَ من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مِتَّ على هذه الحالة لم تفلح، ولا أحدٌ من نظرائك، قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة حتى أُنجيك، وآخذ بأعينهم، وأُخرجك من مكانك، قال: ما هي؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت منك، صارت عاقبة أمرك أن كفرت إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ثم قتل. فضرب الله هذا المثل لليهود حتى غرّهم المنافقون، ثم أسلموهم «1» . قوله عزّ وجلّ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء «إِنيَ» وأسكنها الباقون. وقد بيَّنا المعنى في الأنفال «2» فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني: الشيطان وذلك الكافر. [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) قوله عزّ وجلّ: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي: لينظر أحدكم أيّ شيء قدّم؟ عملا صالحا ينجيه؟ أم شيئا يُوبِقُه؟ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي: تركوا أمره فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي: أنساهم حظوظ أنفسهم- فلم يعملوا بالطاعة، ولم يقدِّموا خيراً. قال ابن عباس: يريد قريظة، والنضير، وبني قينقاع. [سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

_ (1) ورد عن ابن عباس موقوفا: أخرجه الطبري 33904 وإسناده واه، فيه مجاهيل: وعطية العوفي واه. وورد عن علي، أخرجه الطبري 33902 وإسناده حسن. وورد عن ابن مسعود، أخرجه الطبري 33903 وإسناده ضعيف. وورد من وجوه متعددة، ومصدر ذلك كله كتب الأقدمين، والله تعالى أعلم. (2) الأنفال: 48. [.....]

قوله عز وجل: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ أخبر الله تعالى بهذا عن تعظيم شأن هذا القرآن، وأنه لو جعل في جبل- على قساوته وصلابته- تمييزاً، كما جعل في بني آدم، ثم أنزل عليه القرآن لتشقّق خشية من الله، وخوفاً أن لا يؤدِّيَ حق الله في تعظيم القرآن. و «الخاشع» : المتطأطئ الخاضع، و «المتصدِّع» : المتشقِّق. وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثِّر في قلبه مع الفهم والعقل، وَيَدُلُّك على هذا المثل قوله عزّ وجلّ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ثم أخبر بعظمته وربوبيّته، فقال عزّ وجلّ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال الزّجّاج: قوله عزّ وجلّ: هُوَ اللَّهُ ردّ على قوله عزّ وجلّ في أول السورة سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فأما هذه الأسماء، فقد سبق ذكر «الله» و «الرحمن» و «الرحيم» في الفاتحة، وذكرنا معنى «عالم الغيب والشهادة» في الأنعام «1» . و «الملك» في سورة المؤمنين «2» . فأما «القدوس» فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح القاف. قال أبو سليمان الخطابي: «القدوس» : الطاهر من العيوب، المنزَّه عن الأنداد والأولاد. و «القدس» : الطاهر. ومنه سمي: بيت المقدس، ومعناه: المكان الذي يُتَطَهَّرُ فيه من الذنوب. وقيل للجنة: حظيرة القدس، لطهارتها من آفات الدنيا. والقدس: السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على فُعُّول بضم الفاء الا «قُدُّوس» و «سُبُّوح» وقد يقال أيضاً: قَدُّوس، وسَبُّوح بالفتح فيهما، وهو القياس في الأسماء، كقولهم: سَفَّود، وكَلُّوب. فأما «السلام» فقال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاماً، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء. وقال الخطابي: معناه ذو السّلام. والسّلام في صفة الله سبحانه وتعالى: هو الذي سلم من كلّ عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين. قال: وقد قيل: هو الذي سَلِمَ الخلقُ من ظلمه. فأما «المؤمن» ، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه الذي أَمِنَ الناسُ ظلمَهُ، وأَمِنَ مَنْ آمَنَ به عذابَهُ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أنه المجير، قاله القرظي. والثالث: الذي يصدِّق المؤمنين إذا وحَّدوه، قاله ابن زيد. والرابع: أنه الذي وحّد نفسه، لقوله عزّ وجلّ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، ذكره الزجاج. والخامس: أنه الذي يُصدِّق عباده وعده، قاله ابن قتيبة. والسادس: أنه يصدِّق ظنون عباده المؤمنين، ولا يُخيِّب آمالَهم. (1424) كقول النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربّه عزّ وجلّ: «أنا عند ظن عبدي بي» ، حكاه الخطابي. فأما «المهيمن» ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والكسائي. قال الخطّابي: ومنه قوله عزّ وجلّ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ «3» ، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل. والثاني: الأمين، قاله الضّحّاك، قال الخطّابي: أصله: مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء، لأنّ الهاء

_ صحيح. أخرجه البخاري 7505 ومسلم 2675 وابن حبان 639 من حديث أبي هريرة، وله شواهد كثيرة. وتقدم بعضها.

أخَفُّ عليهم من الهمزة. ولم يأت مُفَيْعِلٌ في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف «مسيطر» و «مُبيطر» و «مهيمن» وقد ذكرنا في سورة الطور «1» عن أبي عبيدة، أنها خمسة أحرف. والثالث: المصدِّق فيما أخبر، قاله ابن زيد. والرابع: أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل. قال الخطابي: وقال بعض أهل اللغة. الهيمنة: القيام على الشيء، والرعاية له، وأنشد: أَلاَ إنَّ خَيْرَ الْنَّاس بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنهُ الْتاليه في الْعُرْفِ والْنُّكْرِ يريد القائم على الناس بعد بالرِّعاية لهم. وقد زدنا هذا شرحاً في المائدة «2» ، وبيَّنَّا معنى «العزيز» في البقرة «3» . فأما «الجبار» ، ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه العظيم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد، قاله القرظي والسدي. وقال قتادة: جبر خلقه على ما شاء. وحكى الخطابي: أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه، يقال: جبره السلطان وأجبره. والثالث: أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق. والرابع: أنه العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات: إِذا طال وعلا، ذكر القولين الخطابي. فأما «المتكبر» ففيه خمسة أقوال: أحدها: أنه الذي تكبَّر عن كل سوءٍ، قاله قتادة. والثاني: أنه الذي تكبَّر عن ظلم عباده، قاله الزجاج. والثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن الأنباري. والرابع: أنه المتعالي عن صفات الخلق. والخامس: أنه الذي يتكبَّر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة، فيقصمهم، ذكرهما الخطابي، قال: والتاء في «المتكبر» تاء التفرّد، والتخصّص، لا تاء التعاطي والتكلّف، والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل. وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق. وأما «الخالق» فقال الخطابي: هو المبتدئ للخلق المخترع له على غير مثال سبق، فأما في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق التقدير: كقول زهير: ولأنت تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبعض ... الْقَوْم يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْرِي يقول: إذا قدرت شيئاً قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي: يتمنّى ما لا يبلغه. والبارئ: الخالق. يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم. و «المصوّر» : هو الذي أنشأ خلقه على صُوَرٍ مختلفةٍ ليتعارفوا بها. ومعنى: التصوير: التخطيط والتشكيل. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السّميفع «البارئ المصوّر» بفتح الواو والراء جميعا، يعنون: آدم عليه السلام. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «4» إلى آخر السّورة.

_ (1) الطور: 37. (2) المائدة: 48. (3) البقرة: 129. (4) الأعراف: 180 والإسراء: 110.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ. (1425) ذكر أهل التفسير أنها نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَة، وذلك أن سارة مولاة عمرو بن صَيْفيّ بن هاشم أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكّة إلى المدينة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يتجهَّزُ لفتح مكة، فقال لها: «أمسلمةً جئتِ؟» قالتْ: لا، قال: «فما جاء بكِ؟» قالت: أنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد احتجت حاجةً شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني. قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فأين أنتِ من شباب أهل مكة؟» وكانت مغنية، فقالت: ما طُلِبَ مني شيءٌ بعد وقعة بدر، فحثّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني عبد المطّلب وبني المطلب، فَكَسَوْها، وحملوها، وأعطَوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، فكتب معها كتاباً إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إِلى أهل مكة: وكتب في الكتاب مِن حاطب إلى أهل مكة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم، فخرجت به سارة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم علياً، وعماراً، والزبير، وطلحة، والمقداد، وأبا مَرْثَدٍ، وقال: «انطلقوا حتى تأتوا «روضة خاخ» ، فإن فيها ظعينةً معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، وخَلُّوا سبيلها، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئاً، فهمُّوا بالرجوع، فقال عليٌّ: والله ما

_ ذكره المصنف نقلا عن المفسرين، وكذا الواحدي في «أسباب النزول» 811 وما أخرجاه في الصحيحين يغني عنه. انظر الحديث الآتي.

كذبنا ولا كذّبنا. وسلّ سيفه، وقال: أخرجي الكِتابَ، وإلا ضربت عنقكِ، فلما رأت الجِدِّ أخرجته من ذؤابتها، فخلَّوا سبيلها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب، فأتاه، فقال له: «هل تعرف هذا الكتاب؟» قال: نعم. قال: «فما حملك على ما صنعت؟» فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلاَّ وَلَه بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريباً فيهم، وكان أهلي بين ظهرانَيْهم، فخشيتُ على أهلي، فأردت أن أَتَّخِذَ عندهم يداً، وقد علمتُ أن الله ينزل بهم بأسه، وكتابي لا يغني عنهم شيئا، فصدّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَعذَرَهُ، ونزلت هذه السورة تنهى حاطباً عما فعل، وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا عمر لعل الله اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» . (1426) وقد أخرج هذا الحديث في «الصحيحين» مختصراً، وفيه ذكر عليّ، والزّبير، وأبي مرثد فقط. قوله عزّ وجلّ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وفيه قولان: أحدهما: أن الباء زائدة، والمعنى: تلقون إليهم المودَّة، ومثله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ «1» ، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، وابن قتيبة، والجمهور. والثاني: تلقون إليهم أخبار النبيّ صلّى الله عليه وسلم وسيره بالمودة التي بينكم وبينه، قاله الزجاج. قوله عزّ وجلّ: وَقَدْ كَفَرُوا الواو للحال والمعنى، وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وهو القرآن، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا أي تفعلوا ذلك لإيمانكم بالله

_ صحيح. أخرجه البخاري 4274 والبغوي في «التفسير» 2174 عن قتيبة بن سعيد به. وأخرجه البخاري 3007 و 4890 ومسلم 2494 وأبو داود 2650 والترمذي 3305 والحميدي 49 وأحمد 1/ 79 وأبو يعلى 394 و 398 وابن حبان 6499 والبيهقي 9/ 146 وفي «دلائل النبوة» 5/ 17 والبغوي في «شرح السنة» 2704 والواحدي في «الأسباب» 812 وفي «الوسيط» 4/ 281- 282 من طرق عن سفيان به كلهم من حديث علي. ولفظ البخاري: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها» قال: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة قلنا لها أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا حاطب ما هذا؟» قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا في قريش- يقول: كنا حليفا ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنه قد صدقكم» . فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطّلع على من شهد بدرا، قال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله السورة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.

كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ هذا شرط، جوابه متقدّم، وفي الكلام تقديم وتأخير. قال الزجاج: معنى الآية: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. قوله عزّ وجلّ: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ الباء في «المودّة» حكمها حكم الأولى. قال المفسرون: والمعنى: تُسِرُّون إليهم النصيحة وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ من المودَّة للكفار وَما أَعْلَنْتُمْ أي: أظهرتم بألسنتكم. وقال ابن قتيبة: المعنى: كيف تستترون بمودتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟! قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يعني: الإسرار والإلقاء إليهم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي: أخطأ طريق الهدى. ثم أخبر بعداوة الكفّار فقال عزّ وجلّ: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي: يظفروا بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً لا موالين وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالضرب والقتل وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وهو: الشتم وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ فترجعون إلى دينهم. والمعنى: أنه لا ينفعكم التقرُّب إليهم بنقل أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قوله عزّ وجلّ: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي: قراباتكم. والمعنى: ذوو أرحامكم، أراد: لن ينفعَكم الذين عصيتم الله لأجلهم، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يُفصَل» برفع الياء، وتسكين الفاء، ونصب الصاد. وقرأ ابن عامر: «يُفصَّل بينكم» برفع الياء، والتشديد، وفتح الصاد، وافقه حمزة، والكسائي، وخلف، إلا أنهم كسروا الصاد. وقرأ عاصم، غير المفضل، ويعقوب، بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد، وتخفيفها. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو العالية: «نُفصِّل» بنون مرفوعة، وفتح الفاء، مكسورة الصاد مشددة، وقرأ أبو رزين، وعكرمة، والضحاك: «نَفصِل» بنون مفتوحة، ساكنة الفاء، مكسورة الصاد خفيفة، أي: نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده. قال القاضي أبو يعلى «1» : في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إِظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلُّف لأجل أموالهم وأولادهم. وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقيَّة، وإِنما قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 409: فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتّخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء، كما قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، ولهذا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 إلى 9]

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 9] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) قوله عزّ وجلّ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وقرأ عاصم: «أُسوة» بضم الألف، وهما لغتان، أي: اقتداءٌ حَسَن به وبمن معه. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء. والثاني: المؤمنون إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ قال الفرّاء: تقول أفلا تَأَسَّيْتَ يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرَّأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم؟!. قوله عز وجل: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ قال المفسرون: والمعنى: تأسّوا بإبراهيم إلّا في استغفاره لأبيه فلا تأسَّوا به في ذلك، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أدفع عنك عذاب الله إِن أشركت به، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا إلى قوله عزّ وجلّ: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال الفراء: قولوا أنتم: ربنا عليك توكّلنا. وقد بيّنّا معنى قوله عزّ وجلّ: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا في يونس «1» . ثم أعاد الكلام في ذكر الأُسوة فقال عزّ وجلّ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أي: في إبراهيم ومن معه، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله. قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل من قوله عزّ وجلّ: لَكُمْ وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخشى عقاب الآخرة. قوله عز وجل: وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: يعرض عن الإيمان ويوال الكفار فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه الْحَمِيدُ إلى أوليائه. فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادَوْا أقرباءهم. فأنزل الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي: من كفار مكة مَوَدَّةً ففعل ذلك، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح، وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فانكسر أبو سفيان عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام وَاللَّهُ قَدِيرٌ على جعل المودّة وَاللَّهُ غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم بعد ما أسلموا. قوله عزّ وجلّ: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «2» :

_ (1) يونس: 85. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 63: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، لأن الله عز وجل عمّ بقوله جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو نسب، أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرّم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.

(1427) أحدها: أنها في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العُزىَّ، قَدِمَت عليها المدينة بهدايا، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها، وتقبل هديتها، وتكرمها، وتحسن إليها، قاله عبد الله بن الزبير. (1428) والثاني: أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحداً، قاله ابن عباس. وروي عن الحسن البصري أنها نزلت في خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناف، وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد، فداموا على الوفاء به. (1429) والثالث: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، قاله عطيّة العوفيّ ومرّة الهمدانيّ. والرابع: أنها عامة في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله عزّ وجلّ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» ، قاله قتادة. والخامس: نزلت في النساء والصبيان، حكاه الزجاج. قال المفسرون: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة. قوله عزّ وجلّ: وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي: من مكة أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي: تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم. قوله عزّ وجلّ: وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي: أعانوا على ذلك أَنْ تَوَلَّوْهُمْ والمعنى: إنما ينهاكم عن أن تَولّوا هؤلاء، لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسرّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم موالاة. وذكر بعض المفسّرين أنّ معنى

_ صحيح دون ذكر نزول الآية، أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 8/ 198 وأحمد 4/ 4 والطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» 6750 والحاكم 2/ 485 والطبري 33952 و 33953 والواحدي في «الأسباب» 813 من حديث عبد الله بن الزبير. صححه الحاكم، ووافقه الذهبي! مع أن في إسناده مصعب بن ثابت ضعفه أحمد وغيره، ووثقه ابن حبان. قلت: هو غير حجة بما ينفرد به، وقد تفرد بذكر نزول الآية. وذكره الهيثمي في «المجمع» 11411 وزاد نسبته للبزار وقال: وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأصل الحديث في الصحيحين دون نزول الآية. أخرجه البخاري 2620 و 3183 ومسلم 1003 وأبو داود 1668 وأحمد 6/ 347 من حديث أسماء بنت أبي بكر، وليس فيه ذكر نزول الآية. والأشبه في نزول الآية أنه مدرج من كلام أحد الرواة والله أعلم، ويؤيد ذلك هو أن البخاري أخرج حديث أسماء من طريق ابن عيينة، برقم 5978 وقال في آخره: قال ابن عيينة: فأنزل الله هذه الآية. وانظر «أحكام القرآن» 2083 بتخريجنا. لم أره مسندا، عزاه المصنف لابن عباس وكذا البغوي في «التفسير» 4/ 331 ساقه بدون إسناد، فالخبر ساقط، لا حجة فيه. عزاه المصنف لعطية العوفي، وهو واه إن وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟! وعزاه أيضا لمرّة الهمداني، ولم أقف عليه، وهو تابعي فهو مرسل.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 إلى 11]

هذه الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف. قال ابن جرير: لا وجه لادِّعاء النسخ، لأن بِرَّ المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة، غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام. ويدل على ذلك حديث أسماء وأمّها الذي سبق «1» . [سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ. (1430) قال ابن عباس: إنّ مشركي مكّة صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الحُديبية على أنَّ من أتاه من أهل مكة ردَّه إليهم. ومن أتى أهل مكة من أصحابه، فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب، وختموه، فجاءت سُبَيْعَة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحُديبية، فأقبل زوجها وكان كافراً، فقال: يا محمد اردد عليَّ امرأتي فإِنك قد شرطت لنا أن تردَّ علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تَجِفَّ بعدُ، فنزلت هذه الآية. (1431) وذكر جماعة من العلماء منهم محمّد بن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فَقَدِمَتْ المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها الوليد وُعمارة ابنا عقبة، فقالا: يا محمّد أوف لنا بشروطنا، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله أنا امرأة، وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردّني إلى الكفار يفتنوني عن ديني، ولا صبر لي؟! فنقض الله العهد في النِّساء، وأنزل فيهن المحنة، وحكم فيهنَّ بحكم رضوه كلّهم، ونزل في أم كلثوم: فَامْتَحِنُوهُنَّ فامتحنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وامتحن النساء بعدها يقول: والله ما أخرجكنَّ الا حبُّ الله ورسولهِ، وما خرجتنَّ لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن، فلم يرددن إلى أهليهن. وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سبباً لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها

_ ذكره المصنف هاهنا عن ابن عباس معلقا، وكذا ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 814 والبغوي في «تفسيره» 4/ 303 عن ابن عباس بدون إسناد، فهذا لا شيء لخلوه عن الإسناد. وورد في «الإصابة» 4/ 524- 525: أن سبيعة بنت الحارث أول امرأة أسلمت بعد صلح الحديبية إثر العقد وطي الكتاب، ولم تخف فنزلت آية الامتحان. وانظر «أحكام القرآن» 2084 وما بعده بتخريجنا. ذكره ابن سعد في «الطبقات» 8/ 183- 184 هكذا بدون عزو لأحد. وذكر أم كلثوم صح عند البخاري 2711 و 2712 في أثناء حديث مطول.

فصل:

سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس: والثاني: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم، وهو المشهور. والثالث: أُميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني، قال الماوردي: وقد اختلف أهل العلم هل دخل ردُّ النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً؟ فقالت طائفة: قد كان شرط ردّهنّ في عقد الهدنة لفظاً صريحاً، فنسخ الله تعالى ردَّهن من العقد، ومنع منه، وأبقاه في الرجال على ما كان. وقالت طائفة من العلماء: لم يشترط ردُّهن في العقد صريحاً، وإنما أطلق العقد، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال، فبين الله عزّ وجلّ خروجهنَّ عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهنّ ذوات فروج فحرّمن عليهم. والثاني: أنهن أرقُّ قلوباً، وأسرع تقلُّباً منهم فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم. وقال القاضي أبو يعلى: وإنما لم يردَّ النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل وإِن لم يقع الفعل. قال المفسّرون: والمراد بقوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه هو الذي تولَّى امتحانهن، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلّى الله عليه وسلم. قال ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن، لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة، قالت: لألحقنّ بمحمّد صلّى الله عليه وسلم وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال: (1432) أحدها: أنه كان يمتحنهن ب «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله» رواه العوفي عن ابن عباس. (1433) والثاني: أنه كان يستحلف المرأة بالله: ما خرجتِ من بغض زوج، ولا رغبةً عن أرض إِلى أرض، ولا التماس دنيا، ما خرجتِ إلا حباً لله ولرسوله، روي عن ابن عباس أيضاً. (1434) والثالث: أنه كان يمتحنهن بقوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ فمن أقرت بهذا الشرط قالت: قد بايعتك، هذا قول عائشة عليها السّلام. قوله عزّ وجلّ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي: إن هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهن، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ وذلك يعلم من إقرارهنّ، فحينئذ لا يحل ردُّهن إِلَى الْكُفَّارِ لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك وَآتُوهُمْ يعني أزواجهن الكفار ما أَنْفَقُوا يعني: المهر. قال مقاتل: هذا إذا تزوجها مسلم. فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وهي المهور. فصل: عندنا إذا هاجرت الحربيّة بعد دخول زوجها بها، وقعت الفرقة على انقضاء عدتها. فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدّتها فهي امرأته، وهذا قول الأوزاعي، ومالك والشّافعي. وقال أبو حنيفة:

_ ضعيف. أخرجه الطبري 3391 عن ابن عباس، وفيه عطية العوفي واه. والصحيح ما يأتي عن عائشة. أخرجه الحارث بن أبي أسامة كما في «المطالب العالية» 3777 عن أبي نصر الأسدي عن ابن عباس به، وهو معلول. سكت عليه الحافظ، وكذا البوصيري في «الإتحاف» وقال البخاري في ترجمة أبي نصر: لم يعرف له سماع من ابن عباس «الميزان» 4/ 579. وأخرجه الطبري 33957 و 33958 من طريق أبي نصر عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، فيه قيس بن الربيع ضعفه الجمهور. وانظر «أحكام ابن العربي» 2085 بتخريجنا. والصحيح ما بعده. صحيح. أخرجه البخاري 4891 ومسلم 1866 والترمذي 3306 والنسائي في «التفسير» 606 وابن ماجة 2875 من حديث عائشة. وانظر «أحكام القرآن» 2086 بتخريجنا

فصل:

تقع الفرقة باختلاف الدّارين. قوله عزّ وجلّ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تُمسِكوا» بضم التاء، والتخفيف، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب: «تُمسِّكوا» بضم التاء، وبالتشديد، وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة: «تَمسَّكوا» بفتح التاء، والميم، والسين مشددة. و «الكوافر» جمع كافرة، والمعنى: إن الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهنّ. وقال الزّجّاج: المعنى: أنها كفرت، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن، أي: قد انبت عَقْدُ النكاح. وأصل العصمة: الحبل، وكلُّ ما أمسك شيئاً فقد عصمه. قوله عزّ وجلّ: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدَّة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، فليسأل أزواجهن الكفّار من تزوّجهنّ منكم «ما أنفقوا» وهو المهر. والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم. قال أهل السِّيَر: وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقا «1» لم يكن لها زوج فبعثت إليه قدر مهرها، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة «2» . قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يعني ما ذكر في هذه الآية. فصل: وذكر بعضهم في قوله عزّ وجلّ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله عزّ وجلّ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «3» ، وهذا تخصيص لا نسخ. قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ قال الزجاج: أي: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم. وقرأ ابن مسعود، والأزهري، والنخعي: «فعَقَبتم» بغير ألف، وبفتح العين والقاف، وبتخفيفها. وقرأ ابن عباس، وعائشة والحسن وحميد، والأعمش «فعقّبتم» مثل ذلك، إلا أن القاف مشددة. قال الزجاج: المعنى في التشديد والتخفيف واحد، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم. وقرأ أُبي بن كعب، وعكرمة، ومجاهد: «فأعقبتم» بهمزة ساكنة العين، مفتوحة القاف خفيفة. وقرأ معاذ القارئ، وأبو عمران الجوني: «فعَقِبتم» بفتح العين، وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي: أعطُوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر. (1435) وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم، كانت زوجته مسلمة، وهي أم الحكم بنت أبي سفيان، فارتدَّتْ، فلحقت بمكة، فأمر الله المسلمين أن يعطُوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إِليها من المهر، ثم نسخ ذلك بقوله عزّ وجلّ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «4» إلى رأس الخمس ...

_ ضعيف جدا. أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن كما في «الدر» 6/ 310 وهذا مرسل، ومراسيل الحسن واهية.

فصل:

فصل: قال القاضي أبو يعلى: وهذه الأحكام في أداء المهر، وأخذه من الكفار، وتعويض الزّوج من الغنيمة، أو من صداق قد وجب ردُّه على أهل الحرب، منسوخة عند جماعة من أهل العلم. وقد نصّ الإمام أحمد رضي الله عنه على هذا. قلت: وكذا قال مقاتل: كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف. [سورة الممتحنة (60) : آية 12] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ. (1436) قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة جاءته النساء يبايعنه، فنزلت هذه الآية، وشرط في مبايعتهنّ هذه الشرائط المذكورة في الآية، فبايَعهن وهو على الصفا، فلما قال: ولا يزنين، قالت هند: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن أولادهن، فقالت: ربَّيناهم صغاراً فقتلتموهم كباراً، فأنتم وهم أعلم. (1437) وقد صحّ في الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن بالكلام. وقد سمَّينا من أحصينا من المبايِعات في كتاب «التلقيح» على حروف المعجم، وهن أربعمائة وسبع وخمسين امرأة، والله الموفّق. قوله عزّ وجلّ: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قال المفسرون: هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله. قوله عزّ وجلّ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم، قاله ابن عباس، والجمهور، وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، وذلك البهتان المفترى. وإِنما قال: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ لأنّ الولد إذا وضعته الأمّ يسقط بين يديها ورجليها. وقيل: معنى يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ: ما أخذته لقيطا وَأَرْجُلِهِنَّ ما ولدنه من زنا. والثاني: أنه السحر. والثالث: المشي بالنميمة، والسعي في الفساد، ذكرهما الماورديّ. قوله عزّ وجلّ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فيه ثلاثة أقوال: (1438) أحدها: أنه النَّوح، قاله ابن عباس: وروي مرفوعا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم.

_ ذكره الواحدي في «الوسيط» 4/ 286- 287 هكذا بدون إسناد. وأخرجه الطبري 34013 من حديث ابن عباس بنحوه وأتم. وأخرج ابن سعد في «الطبقات» 8/ 6 طرفا منه عن الشعبي مرسلا. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 520: وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان، وفيه قول هند: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، فضحك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى استلقى اه. الخلاصة: أصل الخبر صحيح بطرقه وشواهده. وانظر «الكشاف» 1164 و «الجامع لأحكام القرآن» 5909 بتخريجنا. صحيح. أخرجه البخاري 4891 ومسلم 1866 من حديث عائشة. وانظر «تفسير ابن العربي» 2090 بتخريجنا. صحيح. أخرجه البخاري 4892 والبغوي 2184 في «معالم التنزيل» بترقيمنا عن أبي معمر به.

[سورة الممتحنة (60) : آية 13]

(1439) والثاني: أنه لا يَدْعين ويلاً، ولا يَخْدِشْنَ وجهاً ولا يَنْشُرنَ شعراً، ولا يَشْقُقْنَ ثوباً، قاله زيد بن أسلم. والثالث: أنه جميع ما يأمرهنّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام، وآدابه، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي هذه الآية دليل على أن طاعة الولاة إِنما تلزم في المباح دون المحظور. قوله عزّ وجلّ: فَبايِعْهُنَّ المعنى: إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهنّ. [سورة الممتحنة (60) : آية 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود. (1440) وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين، يتقرَّبون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم، فنزلت هذه الآية. قوله عزّ وجلّ: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ وذلك أن اليهود بتكذيبهم محمداً، وهم يعرفون صدقه قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير، والمعنى: قد يئسوا من ثواب الآخرة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح. وقال قتادة: قد يئسوا أن يبعثوا، كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ فيه قولان: أحدهما: كما يئس الكفار، مِن بعث مَن في القبور، قاله ابن عباس. والثاني: كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة، لأنهم أيقنوا بالعذاب، قاله مجاهد.

_ وأخرجه البخاري 7215 والطبراني 25/ (133) والبيهقي 4/ 62 من طريق عبد الوارث بهذا الإسناد. وأخرجه مسلم 936 ح 33 وأحمد 6/ 407 وابن أبي شيبة 3/ 389 والحاكم 1/ 383 وابن حبان 3145 والطبراني 25/ (136) والبيهقي 4/ 62 من طرق عن أبي معاوية عن عاصم عن حفصة به. وأخرجه النسائي 7/ 148- 149 وأحمد 6/ 408 والطبري 34020 من طريق عن محمد بن سيرين عن أم عطية بنحوه. مرسل. أخرجه ابن أبي شيبة كما في «الدر» 6/ 315 عن زيد بن أسلم مرسلا. وورد من مرسل الضحاك بنحوه، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» 6/ 314. ذكره الواحدي في «الأسباب» 816 بدون إسناد ولا عزو لأحد، فهو لا شيء، وليس له أصل.

سورة الصف

سورة الصّف ويقال لها: سورة الحواريين وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله ابن عباس: والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. والثاني: مكيّة، قاله ابن يسار. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) قوله عزّ وجلّ: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ في سبب نزولها خمسة أقوال «1» :

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 80: وأولى الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عني بها الذين قالوا: لو عرفنا أحب الأعمال إلى الله لعملنا به، ثم قصروا بالعمل بعد ما عرفوا. فائدة: قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 422: وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ إنكار على من يعد عدّة، أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» ولهذا أكّد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. وقال ابن العربي في «الأحكام» 4/ 241- 242: إن من التزم شيئا لزمه شرعا، والملتزم على قسمين: أحدهما: النذر، وهو على قسمين: نذر تقرب مبتدأ، كقوله: لله علي صوم وصلاة وصدقة، ونحوه من التقرب، فهذا يلزمه الوفاء به إجماعا. ونذر مباح، وهو ما علّق بشرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعلي صدقة. أو علّق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة. فاختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقواله: إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا، لأنها بمطلقها تتضمن ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان، من مطلق أو مقيد بشرط. وقد قال أصحابه: إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة. هذا وإن كان من جنس القربة، لكنه لم يقصد به القربة، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الإقدام على فعل. قلنا: القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف في التزام هذه القربة مشقة لجلب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب، كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا فقيل: يلزم بمطلقه، وتعلّقوا بسبب الآية. - وهو الحديث الآتي عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام.

(1441) أحدها: ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام، قال: قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزّ وجلّ عملناه، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلى آخر السورة. (1442) والثاني: أن الرجل كان يجيء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فيقول: فعلتُ كذا وكذا، وما فعل، فنزلت لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ رواه عكرمة عن ابن عباس، وكذلك قال الضحاك: كان الرجل يقول: قاتلتُ، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وصبرت ولم يصبر، فنزلت هذه الآية. (1443) والثالث: أن ناساً من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد: وددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إِليه، فلما نزل الجهاد، كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. (1444) والرابع: أن صهيباً قتل رجلاً يوم بدر، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب: أنا قتلته يا رسول الله، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب، ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب. (1445) والخامس: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه: لو قد خرجتم خرجنا معكم، ونصرناكم. فلما خرج النبي صلّى الله عليه وسلم نكصوا عنه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد. قوله عزّ وجلّ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ قال الزجاج: «مقتاً» منصوب على التمييز، والمعنى: كبر

_ صحيح. أخرجه أحمد 5/ 452 والترمذي 3309 والحاكم 2/ 487 و 229 والدارمي 2/ 200 من حديث عبد الله بن سلام، صححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا، فقد رووه من طرق عدة، راجع كلام الترمذي، وقال الحافظ: هو أصح حديث مسلسل. راجع «الفتح» 8/ 641. وانظر «تفسير الشوكاني» 2502 و «الجامع لأحكام القرآن» 5922 بتخريجنا. عزاه المصنف لعكرمة عن ابن عباس، ولم أقف عليه بهذا اللفظ. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 6/ 417 عن ابن عباس بنحوه. وورد عن أبي صالح مرسلا، أخرجه الطبري 34044 وعبد بن حميد كما في «الدر» 6/ 417، وورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 34046 وعن الضحاك 34048. ضعيف. أخرجه الطبري 34042 عن علي عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لانقطاعه بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 522: أخرجه الثعلبي من حديث صهيب قال: «كان رجل يوم بدر آذى المسلمين، ونكا فيهم فقتله صهيب فقال رجل: يا رسول الله قتلت فلان، ففرح بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال عمر وعبد الرحمن لصهيب: أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك الحديث ... اه. قلت: وما ينفرد به الثعلبي فهو ضعيف أو منكر، حتى الواحدي لم يذكره لا في «أسباب النزول» ولا في «الوسيط» ، ولا ذكره السيوطي في «الدر» 6/ 317- 318. باطل. أخرجه الطبري 34049 عن ابن زيد، وهذا معضل، وابن زيد واه، والمتن باطل لأن الخطاب في الآية للمؤمنين، فهذه علل ثلاث.

[سورة الصف (61) : الآيات 5 إلى 9]

قولُكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله. ثم أعلم عزّ وجلّ ما الذي يحبّه، فقال عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي: بنيان لاصق بعضه ببعض، فأعلم أنه يحب من يثبت في الجهاد، ويلزم مكانه كثبوت البنيان المرصوص. ويجوز أن يكون عنى أن يستوي ثباتهم في حرب عدوِّهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. وللمفسرين في المراد ب «المرصوص» قولان: أحدهما: أنه الملتصق بعضه ببعض، فلا يرى فيه خلل لإحكامه، قاله الأكثرون. والثاني: أنه المبنيُّ بالرصاص وإلى نحو هذا ذهب الفراء، وكان أبو بحرية يقول: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبُّون القتال على الأرض لهذه الآية. اسم أبي بحرية: عبد الله بن قيس التَّراغِمي، يروي عن معاذ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الفرسان لا يصطفّون في الغالب إنما يصطفّ الرّجّالة. [سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 9] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ قالَ مُوسى المعنى: اذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعته بالذين آذَوْا موسى. وقد ذكرنا ما آذَوْا به موسى في الأحزاب «1» . قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا زاغُوا أي: مالوا عن الحق أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي: أمالها عن الحق جزاءً لما ارتكبوه، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: يَأْتِي مِنْ بَعْدِي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم «من بعديَ اسْمُه» بفتح الياء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «من بعديْ اسمه» بإسكان الياء وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله مقاتل. والثاني: النصارى حين قالوا: عيسى ابن الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرّف وهو «يَدَّعِي إِلى الإسلام» بفتح الياء، والدال، وتشديدها، وبكسر العين، وما بعد هذا في براءة «2» إلى قوله عزّ وجلّ: مُتِمُّ نُورِهِ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم وخلف «مُتِمُّ نُورِه» مضاف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «متمّ» رفع منوّن. [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

_ (1) الأحزاب: 69. (2) التوبة: 32.

قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ قال المفسرون: نزلت هذه الآية حين قالوا: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبداً، فدلَّهم الله على ذلك، وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه «1» . قوله عزّ وجلّ: تُنْجِيكُمْ قرأ ابن عامر «تنجيِّكم» بالتشديد. وقرأ الباقون بالتخفيف. ثم بيّن التّجارة، فقال عزّ وجلّ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله عزّ وجلّ: يَغْفِرْ لَكُمْ فإن قيل: كيف قال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وقد قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وقد سبق ذلك الجواب عنه بنحو الجواب عن قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «2» وقد سبق ذلك. قال الزجاج: وقوله: «يغفر لكم» جواب قولِه: «تؤمنون» «وتجاهدون» ، لأن معناه معنى الأمر. والمعنى: آمنوا بالله وجاهدوا، يغفر لكم، أي: إن فعلتم ذلك، يغفر لكم. وقد غلط بعض النحويين، فقال: هذا جواب «هل» وهذا غلط بَيِّنٌ، لأنه ليس إذا دلَّهم على ما ينفعهم غفر لهم، إِنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك. ومن قرأ «يغفر لكم» بإدغام الراء في اللام، فغير جائز عند سيبويه، والخليل، لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم. وقد رُوِيَتْ عن أبي عمرو بن العلاء، وهو إمام عظيم، ولا أحسبه قرأها إِلا وقد سمعها من العرب. وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين، ما خلا أبا عمرو، أن اللام تدغم في الراء، وأن الراء لا تدغم في اللام، وحُجَّتهم أن الراء حرف مكرر قوي، فإذا أدغمت في اللام ذهب التكرير منها. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزّ وجلّ: وَأُخْرى تُحِبُّونَها قال الفراء: والمعنى: ولكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبُّونها، ثم فسّرها فقال عزّ وجلّ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وفيه قولان: أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس. والثاني: فتح فارس والروم، قاله عطاء. قوله عزّ وجلّ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي: بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. ثم حضَّهم على نصر دينه ب قوله عزّ وجلّ: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ منوَّنة. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أنصار الله» مضاف، ومعنى الآية: دُوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله مثل نُصْرَة الحواريين لمَّا قال لهم عيسى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وحرَّك نافع ياء «مَن أنصاريَ إِلى الله» وقد سبق تفسير هذا الكلام. قوله عز وجلّ: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعيسى وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بعيسى عَلى عَدُوِّهِمْ وهم مخالفو عيسى، كذلك قال ابن عباس، ومجاهد، والجمهور، وقال مقاتل: تم الكلام عند قوله عزّ وجلّ: وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ بمحمد على الأديان، وقال إبراهيم النخعي: أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمّد صلّى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجة. قال ابن قتيبة: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي: غالبين عليهم بمحمد. من قولك: ظهرت على فلان: إِذا علوتَه، وظهرت على السطح: إذا صرتَ فوقه.

_ (1) انظر الحديث المتقدم 1441 وفيه فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلى آخر السورة وهذه الآية منها. (2) النساء: 136.

سورة الجمعة

سورة الجمعة وهي مدنية كلّها بإجماعهم وقد سبق شرح فاتحتها «1» . وقرأ أبو الدّرداء، وأبو عبد الرّحمن السّلميّ، وعكرمة، والنّخعيّ، والوليد عن يعقوب الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ بالرفع فيهن. فإن قيل: فما الفائدة في إعادة ذكر التسبيح في هذه السورة؟ فالجواب: أنّ ذلك لاستفتاح السّور بتعظيم الله عزّ وجلّ، كما تستفتح ب «بسم الله الرحمن الرحيم» وإذا جلّ المعنى في تعظيم الله، حسن الاستفتاح به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) قوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعني: العرب، وكانوا لا يكتبون وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة «2» رَسُولًا يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أي: من جنسهم ونسبهم. فإن قيل: فما وجه الامتنان في أنه بعث نبياً أمياً «3» ؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: لموافقة ما تقدّمت

_ (1) آل عمران: 52. (2) البقرة: 78. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 428: الأميون هم العرب، وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، لكن المنة عليهم أبلغ وآكد، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به، وكذا قوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، وقوله لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. فبعثه الله سبحانه وتعالى على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، أي نذرا يسيرا- ممن تمسّك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام.

[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 إلى 8]

البشارة به في كتب الأنبياء. والثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب إلى موافقتهم. والثالث: لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبله. وما بعد هذا في سورة البقرة «1» إلى قوله عزّ وجلّ: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ، أي: وما كانوا قبل بعثه إلا في ضَلالٍ مُبِينٍ بَيِّن، وهو الشرك. قوله عزّ وجلّ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: وبعث محمداً في آخرين منهم، أي: من الأميين. والثاني: ويعلم آخرين منهم، ويزكِّيهم. وفي المراد بالآخرين أربعة أقوال: أحدها: أنهم العجم، قاله ابن عمر، وسعيد بن جبير، وهي رواية ليث عن مجاهد. فعلى هذا إِنما قال: «منهم» ، لأنهم إِذا أسلموا صاروا منهم، إذ المسلمون يد واحدة، وملَّةٌ واحدة. والثاني: أنهم التابعون، قاله عكرمة، ومقاتل. والثالث: جميع من دخل في الإسلام إِلى يوم القيامة، قاله ابن زيد، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد. والرابع: أنهم الأطفال، حكاه الماوردي. قوله عزّ وجلّ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ: أي: لم يلحقوا بهم. قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يعني: الإسلام والهدى وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ بإرسال محمّد صلّى الله عليه وسلم. [سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا، فقال عزّ وجلّ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي: كُلِّفوا العمل بما فيها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي: لم يعملوا بموجبها، ولم يؤدُّوا حقها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وهي جمع سفر. والسِّفْر: الكتاب، فشبَّههم بالحمار لا يعقل ما يحمل، إذ لم ينتفعوا بما في التّوراة، وهي دالّة على الإيمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلم وهذا المثل يلحق من لم يعمل بالقرآن ولم يفهم معانيه بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ ذم مثلهم، والمراد ذمُّهم، واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنفسهم بتكذيب الأنبياء. قوله عزّ وجلّ: إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ وذلك أن اليهود، قالوا: نحن ولد إسرائيل الله، ابن ذبيح الله، ابن خليل الله، ونحن أولى بالله عزّ وجلّ من سائر الناس، وإِنما تكون النبوة فينا. فقال الله عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسلام: قُلْ لهم إن كنتم أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لأن الآخرة خير لأولياء الله من الدنيا. وقد بيَّنا هذا وما بعده في البقرة «2» إلى قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ وذلك أنّ اليهود علموا أنهم قد أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمداً،

_ (1) البقرة: 129. (2) البقرة: 94.

[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 إلى 10]

وكانوا يكرهون الموت، فقيل لهم: لا بد من نزوله بكم بقوله عزّ وجلّ: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ، قال الفراء: العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل، مثل: «من» و «الذي» فمن أدخل الفاء هاهنا ذهب «بالذي» إِلى تأويل الجزاء. وفي قراءة عبد الله «إِن الموت الذي تفرُّون منه ملاقيكم» وهذا على القياس، لأنك تقول: إن أخاك قائم، ولا تقول: فقائم، ولو قلت: إن ضاربك فظالم، لجاز، لأن تأويله: إنّ رجلا يضربك فظالم. وقال الزجاج: إنما جاز دخول الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط والجزاء. ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ: «تفرُّون منه» كأنه قيل: إن فررتم من أي موت كان من قتل أو غيره «فإنه ملاقيكم» وتكون «فإنه» استئنافاً بعد الخبر الأول. [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 10] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) قوله عزّ وجلّ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ وهذا هو النداء الذي ينادى به إذا جلس الإمام على المنبر، ولم يكن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم نداء سواه. (1446) كان إِذا جلس على المنبر أذَّن بلال على باب المسجد، وكذلك كان على عهد أبي بكر، وعمر، فلما كثر الناس على عهد عثمان أمر بالتأذين الأول على دارٍ له بالسُّوق، يقال لها: «الزوراء» وكان إذا جلس أذّن أيضا. قوله عزّ وجلّ: لِلصَّلاةِ أي: لوقت الصلاة. وفي «الجمعة» ثلاث لغات. ضم الجيم والميم، وهي قراءة الجمهور. وضم الجيم مع إسكان الميم، وبها قرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، وعكرمة، والزهري، وابن أبي ليلى، وابن أبي عبلة، والأعمش. وبضم الجيم مع فتح الميم، وبها قرأ أبو مجلز، وأبو العالية، والنخعي، وعدي بن الفضل عن أبي عمرو. وقال الزجاج: من قرأ بتسكين الميم، فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين. وأما فتح الميم، فمعناها: الذي يجمع الناس، كما تقول: رجل لُعَنَة: يكثر لعنة الناس، وضُحَكَة: يكثر الضحك. وفي تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه فيه جُمع آدم. (1447) روى سلمان قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أتدري ما الجمعة؟» قلت: لا. قال: «فيه جُمع أبوك» ، يعني: تمام خلقه في يوم الجمعة. والثاني: لاجتماع الناس فيه للصلاة. والثالث: لاجتماع المخلوقات فيه، لأنه اليوم الذي فرغ فيه من خلق الأشياء.

_ ساقه المصنف بمعناه، وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري 1912 و 1913 وأبي داود 1087 و 1088 والترمذي 516 وابن ماجة 1135 وابن حبان 1673 والبيهقي 3/ 192 وأحمد 3/ 450 من حديث السائب بن يزيد. وانظر «أحكام القرآن» 4/ 247 و «الجامع لأحكام القرآن» 5939 بتخريجنا. أخرجه أحمد 5/ 439 والحاكم 1/ 277 من حديث سلمان، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر، واسمه نجيح. ولصدره شاهد في الصحيح، ولباقيه شواهد كثيرة. الخلاصة: أصل الحديث صحيح بشواهده. وانظر «الدر المنثور» 6/ 323- 324.

فصل:

وفي أول من سماها بالجمعة قولان: أحدهما: أنه كعب بن لؤي سماها بذلك، وكان يقال ليوم الجمعة: العَروبة. قاله أبو سلمة. وقيل: إِنما سماها بذلك لاجتماع قريش فيه. والثاني: أنّ أول من سماها بذلك الأنصار، قاله ابن سيرين. قوله عزّ وجلّ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وفي هذا السعي ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المشي، قاله ابن عباس. وكان ابن مسعود يقرؤها «فامضوا» ويقول: لو قرأتها «فاسعَوْا» لسعَيت حتى يسقط ردائي. قال عطاء: هو الذهاب والمشي إلى الصلاة. والثاني: أن المراد بالسعي: العمل، قاله عكرمة، والقرظي، والضحاك، فيكون المعنى: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله بالتفرغ له، والاشتغال بالطهارة ونحوها. والثالث: أنه النية بالقلب، قاله الحسن. وقال ابن قتيبة: هو المبادرة بالنية والجدّ. وفي المراد «بذكر الله» قولان: أحدهما: أنه الصلاة، قاله الأكثرون. والثاني: موعظة الإمام، قاله سعيد بن المسيب. قوله عزّ وجلّ: وَذَرُوا الْبَيْعَ أي: دعوا التجارة في ذلك الوقت. وعندنا: لا يجوز البيع في وقت النداء، ويقع البيع باطلاً في حق من يلزمه فرض الجمعة، وبه قال مالك خلافاً للأكثرين. فصل: تجب الجمعة على من سمع النداء من المصر، إذا كان المؤذن صَيِّتاً، والريح ساكنة. وقد حدَّه مالك بفرسخ، ولم يحدّه الشافعي. وعن أحمد في التحديد نحوهما. وتجب الجمعة على أهل القرى. وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على أهل الأمصار. ويجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة في الصحراء القريبة من المصر خلافاً للشافعي. ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين. وعن أحمد: أقله خمسون. وعنه: أقله ثلاثة. وقال أبو حنيفة: تنعقد بثلاثة والإمام، والعدد شرط في الخطبة. وقال أبو حنيفة في إِحدى الروايتين: يصح أن يخطب منفرداً. وهل تجب الجمعة على العبيد؟ فيه عن أحمد روايتان. وعندنا: تجب على الأعمى إذا وجد قائداً، خلافاً لأبي حنيفة. ولا تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين، خلافاً لأبي حنيفة. وهل تجب الجمعة والعيدان من غير إِذن سلطان؟ فيه عن أحمد روايتان. وتجوز الجمعة في موضعين في البلد مع الحاجة. وقال مالك، والشافعي، وأبو يوسف: لا تجوز إلا في موضع واحد. وتجوز إقامة الجمعة قبل الزوال خلافاً لأكثرهم، وإذا وقع العيد يوم الجمعة أجزأ حضوره عن يوم الجمعة، وبه قال الشعبي والنخعي، خلافاً للأكثرين، والمستحب لأهل الأعذار أن يصلوا الظهر في جماعة. وقال أبو حنيفة: يكره. ولا يجوز السفر يوم الجمعة بعد الزوال. وقال أبو حنيفة: يجوز. وهل يجوز السفر بعد طلوع الفجر؟ فيه عن الإمام أحمد روايتان. ونقل عن أحمد رضي الله عنه أنه لا يجوز الخروج في الجمعة إلا للجهاد. وقال أبو حنيفة: يجوز لكل سفر. وقال الشافعي: لا يجوز أصلاً. والخطبة شرط في الجمعة. وقال داود: هي مستحبة. والطهارة لا تشترط في الخطبة، خلافا للشّافعي تصحّ في أحد قوليه. والقيام ليس بشرط في الخطبة، خلافاً للشافعي. ولا تجب القعدة بين الخطبتين، خلافاً له أيضاً. ومن شرط الخطبة: التحميد، والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقراءة آية، والموعظة. وقال أبو حنيفة:

[سورة الجمعة (62) : آية 11]

يجوز أن يخطب بتسبيحة. والخطبتان واجبتان. وأما القراءة في الخطبة الثانية، فهي شرط، خلافاً للشافعي. والسُّنَّة للإمام إذا صعِد المنبر، واستقبل الناس: أن يسلِّم، خلافاً لأبي حنيفة، ومالك. وهل يحرم الكلام في حال سماع الخطبة؟ فيه عن أحمد روايتان. ويحرم على المستمع دون الخاطب، خلافاً للأكثرين. ولا يكره الكلام قبل الابتداء بالخطبة، وبعد الفراغ منها، خلافاً لأبي حنيفة. ويستحب له أن يصليَ تحية المسجد والإمام يخطب، خلافاً لأبي حنيفة، ومالك. وهل يجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر، فيه عن أحمد روايتان. قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: إِن كان لكم علم بالأصلح فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي: فرغتم منها فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ هذا أمر إباحة وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع منها بقوله تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ وقال الحسن، وسعيد بن جبير: هو طلب العلم. [سورة الجمعة (62) : آية 11] وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) قوله عزّ وجلّ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً. (1448) سبب نزولها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، إذ أقبلت عير قد قَدِمَتْ، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا إثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية. (1449) أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جابر بن عبد الله، قال الحسن: وذلك أنهم أصابهم جوع، وغلاء سعر، فلما سمعوا بها خرجوا إليها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو اتبع آخرُهم أوَّلَهم التهب عليهم الوادي ناراً» . (1450) قال المفسرون: كان الذي قدم بالتجارة دحية بن خليفة الكلبي، قال مقاتل: وذلك قبل

_ صحيح. أخرجه البخاري 4899 عن حفص بن عمر به من حديث جابر. وأخرجه مسلم 863 ح 37 من طريق خالد به. وأخرجه البخاري 936 و 3064 و 3308 ومسلم 863 وأبو يعلى 1888 والطبري 3436 و 34144 والدارقطني 2/ 5 والبيهقي 3/ 197 والواحدي في «أسباب النزول» 820 وابن بشكوال في «غوامض الأسماء» 851 من طرق عن حصين به. وأخرجه البخاري 4899 ومسلم 863. وأخرجه البخاري 4899 ومسلم 863 والترمذي 3308 والطبري 34143 والواحدي 819 من طرق عن حصين عن أبي سفيان عن جابر به. عجزه ضعيف. أخرجه الطبري 3437 وعبد الرزاق في «التفسير» 3222 من طريق معمر عن الحسن مرسلا. وأخرجه الطبري 34134 من طريق سفيان عن إسماعيل السدي عن أبي مالك مرسلا وليس فيه اللفظ المرفوع. ذكره الواحدي في «الأسباب» 820 عن المفسرين. وأخرجه البيهقي في «الشعب» 6495 من طريق بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان مرسلا. وأخرجه أبو داود في «المراسيل» 59 عن مقاتل بن حيان مرسلا بنحوه. وعجزه ضعيف وفيه اللفظ المرفوع فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأحزم الله

أن يسلم. قالوا: قَدِمَ بها من الشام، وضرب لها طبل يُؤذن الناس بقدومها. وهذه كانت عادتهم إذا قدمت عير. قال جابر بن عبد الله: كانت التجارة طعاماً «1» . وقال أبو مالك: كانت زيتاً «2» . والمراد باللهو: ضرب الطّبل. وانْفَضُّوا بمعنى: تفرَّقوا عنك، فذهبوا إليها. والضمير للتجارة. وإنما خصت برد الضمير إِليها، لأنها كانت أهم إليهم، هذا قول الفراء، والمبرد. وقال الزجاج: المعنى: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه، فحذف خبر أحدهما، لأن الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة «انفضوا إليهما» على التثنية. وعن ابن مسعود، وابن أبي عبلة «انفضوا إليه» على ضمير مذكر وَتَرَكُوكَ قائِماً وهذا القيام كان في الخطبة قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الصلاة والثبات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ومن يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل، ويبتدئ من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته، ويقبل على خدمته.

_ عليهم الوادي نارا» . لكن لعجزه شاهد من: حديث جابر عند أبي يعلى 1979 وابن حبان 6877 وفي إسناده زكريا بن يحيى بن زحمويه ذكره ابن حبان في «الثقات» 8/ 253، وأورده ابن أبي حاتم في «العلل» 3/ 61 ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، فالرجل مجهول. وحديث جابر في هذا الشأن رواه الشيخان كما تقدم بغير هذا السياق، وليس فيه اللفظ المرفوع فهذه زيادة منكرة، وتقدم حديث جابر. ويشهد لكون دحية الكلبي قدم بالتجارة، ما أخرجه بشكوال في «غوامض الأسماء» ص 852 والطبري 34135 من طريق سفيان عن السدي عن مرة مرسلا. وحديث ابن عباس عند البزار 2273، وفي إسناده عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف كما في «المجمع» 7/ 134. الخلاصة: أصل الحديث يعتضد بشواهده دون اللفظ المرفوع، فإنه ضعيف لا يصح. وانظر «أحكام القرآن» 2122.

سورة المنافقون

سورة المنافقون وهي مدنيّة بإجماعهم (1451) وذكر أهل التفسير أنها نزلت في عبد الله بن أبي ونظرائه. وكان السبب أنّ عبد الله خرج مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم في خلق كثير من المنافقين إلى المريسيع، وهو ماء لبني المصطلق طلبا للغنيمة، لا للرغبة في الجهاد، لأن السفر كان قريبا. فلمّا قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم غزاته، أقبل رجل من جهينة، يقال له: سنان، وهو حليف لعبد الله بن أبيّ، ورجل من بني غفار يقال له: جهجاه بن سعيد، وهو أجير لعمر بن الخطّاب لاستقاء الماء، فدار بينهما كلام، فرفع الغفاريّ يده فلطم الجهنيّ، فأدماه، فنادى الجهنيّ: يا آل الخزرج، فأقبلوا، ونادى الغفاريّ: يا آل قريش، فأقبلوا، فأصلح الأمر قوم من المهاجرين. فبلغ الخبر عبد الله بن أبيّ، فقال وعنده جماعة من المنافقين: والله ما مثلكم ومثل هؤلاء الرّهط من قريش إلّا مثل ما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، ولكن هذا فعلكم بأنفسكم، آويتموهم في منازلكم، وأنفقتم عليهم أموالكم، فقووا وضعفتم. وايم الله: لو أمسكتم أيديكم لتفرّقت عن هذا جموعه، ولئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل، وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو غلام يومئذ لا يؤبه له، فقال لعبد الله: أنت والله الذّليل القليل، فقال: إنما كنت ألعب، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال عمر: دعني أضرب عنقه. فقال: إذن ترعد له آنف كبيرة، قال: فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر سعد بن عبادة، أو محمّد بن مسلمة، أو عبّاد بن بشر فيقتله، فقال: إذن يتحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيّ، فأتاه، فقال: أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال: والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا، وإنّ زيدا لكذّاب، فقال من حضر: لا يصدق عليه كلام غلام، عسى الله أن يكون قد وهم، فعذره رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفشت الملامة في الأنصار لزيد، وكذّبوه، وقال له عمّه: ما أردت إلّا أن كذّبك رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون، ومقتوك!

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بإثر 821 نقلا عن أهل التفسير، وأصحاب السير. وأخرجه الطبري 34178 من طريق محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن قتادة عن عبد الله بن أبي بكر، وعن محمد بن يحيى بن حيان قال: كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق قالوا: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ... فذكره مع اختلاف يسير. وأصل الخبر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم. أخرجه البخاري 4900 و 494 ومسلم 2772 والترمذي 2312 و 2313 والنسائي في «التفسير» 617 والواحدي في «أسباب النزول» 821 و «الوسيط» 4/ 303- 304. أما عجزه فقد أخرجه الطبري 34159 عن بشير بن مسلم ... فذكره بأحضر منه. الخلاصة: عامة هذا السياق محفوظ بطرقه وشواهده.

[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 إلى 4]

فاستحيا زيد، وجلس في بيته. فبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ، لما بلغك عنه. فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فإني أخشى أن يقتله غيري، فلا تدعني نفسي حتى أقتل قاتله، فأدخل النار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بل تحسن صحبته ما بقي معنا» ، وأنزل الله سورة المنافقين في تصديق زيد، وتكذيب عبد الله، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى زيد فقرأها عليه، وقال: إنّ الله قد صدّقك. ولمّا أراد عبد الله بن أبيّ أن يدخل المدينة جاء ابنه، فقال: ما وراءك، قال: ما لك ويلك؟ قال: لا والله لا تدخلها أبدا إلّا بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتعلم اليوم من الأعزّ، ومن الأذلّ. فشكا عبد الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما صنع ابنه، فأرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن خلّ عنه حتى يدخل، فلمّا نزلت السّورة وبان كذبه قيل له: يا أبا حباب: إنه قد نزلت فيك آيات شداد، فاذهب إلى رسول الله ليستغفر لك، فلوى به رأسه، فلذلك قوله عزّ وجلّ: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وقيل: إنّ الذي قال له هذا عبادة بن الصّامت. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ يعني: عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وهاهنا تم الخبر عنهم. ثم ابتدأ فقال عزّ وجلّ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ وإنما جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا «1» . قال الفراء: إنما كذب ضميرهم. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قد ذكرناه في المجادلة «2» . قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أن قول القائل: «أشهد» يمين. لأنهم قالوا: «نشهد» فجعله يمينا بقوله عزّ وجلّ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً وقد قال أحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة: أَشْهَدُ، وأُقْسِمُ، وأَعْزِمُ، وأَحْلِفُ، كُلُّها أَيْمان. وقال الشافعي: «أُقسم» ليس بيمين. وإنما قوله: «أقسم بالله» يمين إذا أراد اليمين.

_ (1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 256: الشهادة تكون بالقلب، وتكون باللسان، وتكون بالجوارح، فأما شهادة القلب فهو الاعتقاد أو العلم على رأي قوم، والعلم على رأي آخرين، والصحيح عندي أنه الاعتقاد والعلم. وأما شهادة اللسان فبالكلام، وهو الركن الظاهر من أركانها، وعليه تنبني الأحكام، وتترتب الأعذار والاعتصام. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» متفق عليه. وقال ابن العربي في «الأحكام» 4/ 257: قال بعض الشافعية: إن قول الشافعي: إن الرجل إذا قال في يمينه- أشهد بالله يكون يمينا بنية اليمين، ورأى أبو حنيفة ومالك أنه دون النية يمين، ولا أرى المسألة إلا هكذا في أصلها. وقد قال مالك، إذا قال الرجل: أشهد: إنه يمين إذا أراد بالله. (2) المجادلة: 16.

[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 إلى 8]

قوله تعالى: ذلِكَ أي: ذلك الكذب بِأَنَّهُمْ آمَنُوا باللسان ثُمَّ كَفَرُوا في السِّرِّ فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ الإِيمان والقرآن وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ يعني: أن لهم أجساماً ومناظر. (1452) قال ابن عباس: كان عبد الله بن أُبَيّ جسيماً فصيحاً، ذَلْقَ «1» اللسان، فإذا قال، سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلم قوله. وقال غيره: المعنى: يصغي إلى قولهم، فيحسب أنه حق كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: وحمزة: «خُشُبٌ» بضم الخاء، والشين جميعاً، وهو جمع خشبة. مثل ثمرة، وثمر. وقرأ الكسائيّ: خشب بضم الخاء، وتسكين الشين، مثل: بَدَنَةٍ، وبُدْنٍ، وأَكَمَةٍ، وأُكْمِ. وعن ابن كثير، وأبي عمرو، مثله. وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة، وابن سيرين: «خَشَبٌ» بفتح الخاء، والشين جميعاً. وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكّل، وأبو عمران خشب بفتح الخاء، وإسكان الشين، فوصفهم الله بحسن الصّور، وإبانة النّطق، ثم أعلم أنهم في ترك التفهُّم والاستبصار بمنزلة الخُشُب. والمُسَنَّدة: الممالة إلى الجدار. والمراد: أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي، بل هي خُشُبٌ مُسَنَّدةٌ إلى حائط. ثم عابهم بالجبن فقال عزّ وجلّ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي: لا يسمعون صوتاً إلا ظنوا أنهم قد أُتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، وهذه مبالغة في وصفهم بالجبن. وأنشدوا في هذا المعنى: وَلَوْ أَنَّها عُصْفُورَةٌ لحَسِبْتَها ... مُسَوَّمةً تدعو عُبيْداً وَأَزْنَما «2» أي: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلاً تدعو هاتين القبيلتين. قوله عزّ وجلّ: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ أن تأمنهم: ولا تأمنهم على سِرِّك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ مفسر في براءة «3» . [سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 8] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ قد بيَّنَّا سببه في نزول السورة «4» لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وقرأ نافع، والمفضل عن عاصم، ويعقوب: «لَوَوْا» بالتخفيف. واختار أبو عبيد التشديد.

_ هو بعض حديث، أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» 6/ 336 عن ابن عباس بنحوه. ولم أقف على إسناده، لكن لا ريب أن ابن سلول هو أحد المرادين بهذه الآية.

[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 إلى 11]

وقال: لأنهم فعلوا ذلك مرَّة بعد مرَّة. قال مجاهد: لما قيل لعبد الله بن أُبَيٍّ: تعال يستغفر لك رسول الله لوّى رأسه، وقال: ماذا قلتَ؟ وقال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار. وقال الفراء: حَرَّكوها استهزاءً بالنبي وبدعائه. قوله عزّ وجلّ: وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أي: يعرضون عن الاستغفار. وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي: متكبِّرون عن ذلك. ثم ذكر أنّ استغفاره لهم لا ينفعهم، ب قوله عزّ وجلّ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ وقرأ أبو جعفر: «آستغفرت» بالمدّ. قوله عزّ وجلّ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ قد بيَّنَّا أنه قول ابن أُبَيٍّ. ويَنْفَضُّوا بمعنى: يتفرَّقوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال المفسرون: خزائن السموات: المطر، وخزائن الأرض: النبات. والمعنى: أنه هو الرَّزَّاق لهؤلاء المهاجرين، لا أولئك، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يعلمون أن الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا أي من هذه الغزوة. وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أُبَيّ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يعني: نفسه، وعنى ب الْأَذَلَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن: «لنُخرِجنَّ» بالنون مضمومة وكسر الراء «الأعزَّ» بنصب الزاي والأذل منصوب على الحال بناءً على جواز تعريف الحال. أو زيادة «أل» فيه أو بتقدير «مثل» المعنى: لنخرجنَّه ذليلاً على أيِّ حال ذلّ. والكل نصبوا «الأذلّ» فردّ الله عزّ وجلّ عليه فقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وهي: المَنَعة والقوّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بإعزاز الله ونصره إياهم وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك. [سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) قوله عزّ وجلّ: لا تُلْهِكُمْ أي: لا تشغلكم. في المراد بذكر الله هاهنا أربعة أقوال: أحدها: طاعة الله في الجهاد، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الصلاة المكتوبة، قاله عطاء، ومقاتل. والثالث: الفرائض من الصلاة، وغيرها، قاله الضحاك. والرابع: أنه على إطلاقه. قال الزجاج: حضَّهم بهذا على إدامة الذكر. قوله عزّ وجلّ: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ في هذه النفقة ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه زكاة الأموال، قاله ابن عباس. والثاني: أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال، كالزكاة والحجّ، ونحو ذلك، وهذا

_ (1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 259: أخذ ابن عباس بعموم الآية في الإنفاق الواجب خاصة دون النفل. وهو الصحيح. لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون النفل. وأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما، وأما القول في الحج على الفور ففيه إشكال، لأنا إن قلنا: إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل أدائه خلاف بين العلماء، لا تخرّج الآية عليه. - وإن قلنا: إن الحج على الفور فالآية على العموم صحيح، لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات.

المعنى مروي عن الضحاك. والثالث: أنه صدقة التطوّع، ذكره الماوردي. فعلى هذا يكون الأمر ندباً، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب. قوله عزّ وجلّ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال الزجاج: أي: من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميّت. قوله عزّ وجلّ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي أي: هلاَّ أخرتني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدَّق ويزكّي، وهو قوله عزّ وجلّ: فَأَصَّدَّقَ قال أبو عبيدة: «فأصدق» نصب، لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب. تقول: مَنْ عندك فآتيَك. هلاَّ فعلت كذا فأفعَل كذا، ثم تبعتْها وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بغير واو. وقال أبو عمرو: إنما هي، وأكون، فذهبت الواو من الخط. كما يكتب أبو جاد، أبجد، هجاءً، وهكذا يقرؤها أبو عمرو «وأكونَ» بالواو، ونصب النون. والباقون يقرءون «وأكن» بغير واو. قال الزجاج: من قرأ «وأكونَ» فهو على لفظ فأصَّدَّقَ. ومن جزم «أكنْ» فهو على موضع «فأصدق» لأن المعنى: إن أخرتني أصدق وأكن. وروى أبو صالح عن ابن عباس «فأصَّدَّق» أي: أُزكي مالي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: أَحُجّ مع المؤمنين، وقال في قوله عزّ وجلّ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ والمعنى: بما تعملون، وقرأ أبو بكر عن عاصم يعملون بالياء والباقون بالتاء، من التكذيب بالصدقة. قال مقاتل: يعني: المنافقين. وروى الضحاك عن ابن عباس، ما من أحد يموت، قد كان له مال لم يزكّه، وأطاق الحج فلم يحج، إلا سأل الله الرجعة عند الموت، فقالوا له: إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: أنا أتلو عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية.

سورة التغابن

سورة التغابن وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الجمهور، منهم ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة. والثاني: أنها مكيّة، قاله الضّحّاك، وقال عطاء بن يسار: هي مكيّة إلّا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ واللّتان بعدها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) وقد سبق تفسير فاتحتها إلى قوله عزّ وجلّ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وفيه قولان «1» : أحدهما: أن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، رواه الوالبي عن ابن عباس. والأحاديث تعضد هذا القول. (1453) كقوله صلّى الله عليه وسلم: «خلق فرعون في بطن أمه كافراً، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً» . (1454) وقوله: «فيؤمر الملك بأربع كلمات: بكتبِ رزقِهِ، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد» .

_ أخرجه اللالكائي في «السنة» 130/ 1- 2 وأبو نعيم في «أخبار أصفهان» 2/ 190 من حديث ابن مسعود، وفيه نصر بن طريف، وهو متروك. وأخرجه ابن عدي 1/ 304 والطبراني 10543 من وجه آخر، وفيه أبو هلال الراسبي، وهو غير قوي والحديث بهذا اللفظ غير قوي. صحيح. وهو قطعة من حديث طويل عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه البخاري 6594 و 7454 ومسلم 2643، وأبو داود 4708 والترمذي 2137 وابن ماجة 76 وابن حبان 6174 وأحمد 1/ 414 و 430. وانظر «تفسير القرطبي» 5995 بتخريجنا.

[سورة التغابن (64) : الآيات 7 إلى 18]

والثاني: أنّ تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ: خَلَقَكُمْ ثم وصفهم، فقال عزّ وجلّ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، واختلف أرباب هذا القول فيه على أربعة أقوال: أحدها: فمنكم كافر يؤمن، ومنكم مؤمن يكفر، قاله أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني: فمنكم كافر في حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن في حياته كافر في العاقبة، قاله أبو سعيد الخدري. والثالث: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب، قاله عطاء بن أبي رباح، وعنى بذلك شأن الأنواء. والرابع: فمنكم كافر بالله خلقه، ومؤمن بالله خلقه، حكاه الزجاج، والكفر بالخلق مذهب الدهرية، وأهل الطبائع. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزّ وجلّ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ قال الزجاج: أي: خلقكم أحسن الحيوان كلِّه. وقرأ الأعمش «صوركم» بكسر الصاد. ويقال في جمع الصورة: صور، وصور، وصِور، كما يقال في جمع لحية: لِحىّ، ولُحىّ. وذكر ابن السائب أن معنى فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أحكمها. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ روى المفضل عن عاصم «يسرُّون» و «يعلنون» بالياء فيهما أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ هذا خطاب لأهل مكة خوفهم ما نزل بالكفّار قبلهم، فذلك قوله عزّ وجلّ: فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي: جزاء أعمالهم، وهو ما أصابهم من العذاب في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة ذلِكَ الذي أصابهم بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فينكرون ذلك، ويقولون: أَبَشَرٌ أي: ناس مثلنا يَهْدُونَنا والبشر اسم جنس معناه الجمع، وإن كان لفظه واحداً فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا أي: أعرضوا عن الإيمان وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عن إيمانهم وعبادتهم. [سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 18] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) قوله عزّ وجلّ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا كان ابن عمر يقول: «زعموا» كناية الكذب. وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل: زعم فلان. قوله عزّ وجلّ: وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني: البعث وَالنُّورِ هو القرآن، وفيه بيان أمر البعث والحساب والجزاء.

قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ هو منصوب بقوله تعالى: لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ وهو يوم القيامة. وسمي بذلك لأن الله تعالى يجمع فيه الجن والإنس، وأهل السماء، وأهل الأرض. قوله: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ تفاعل من الغبن، وهو فوت الحظ. والمراد في تسميته يوم القيامة بيوم التغابن فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه ليس من كافر إلا وله منزل وأهل في الجنة، فيرث ذلك المؤمن، فيغبن حينئذ الكافر، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: غبن أهل الجنة أهل النار، قاله مجاهد، والقرظي. والثالث: أنه يوم غبن المظلوم الظالم، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبوناً، فصار في الآخرة غابناً، ذكره الماوردي. والرابع: أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه للإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، ذكره الثعلبي. قال الزجاج: وإنما ذكر ذلك مثلا للبيع والشراء، كقوله عزّ وجلّ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «1» ، وقوله عزّ وجلّ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ «2» وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ قرأ نافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم «نكفر» «وندخله» بالنون فيهما. والباقون: بالياء ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قال ابن عباس: بعلمه وقضائه. قوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ فيه ستة أقوال: أحدها: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قبل الله تعالى، فيسلم، ويرضى. والثاني: يهد قلبه للاسترجاع، وهو أن يقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون، قاله مقاتل. والثالث: أنه إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر، قاله ابن السائب، وابن قتيبة. والرابع: يهد قلبه، أي: يجعله مهتدياً، قاله الزجاج. والخامس: يهد وليَّه بالصبر والرضى، قاله أبو بكر الورَّاق. والسادس: يهد قلبه لاتباع السنة إِذا صح إيمانه، قاله أبو عثمان الحيري. وقرأ أبو بكر الصديق، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: «يَهْدَ» بياءٍ مفتوحة. ونصب الدال «قَلْبُهُ» بالرفع. قال الزجاج: هذا من هدأ يهدأ: إذا سكن. فالمعنى: إذا سلَّم لأمر الله سَكَنَ قلبُه. وقرأ عثمان بن عفان، والضحاك، وطلحة بن مصرف، والأزرق عن حمزة: «نَهْد» بالنون. وقرأ علي بن أبي طالب، عليه السلام وأبو عبد الرّحمن: «يهد قلبه» بضم الياء، وفتح الدال «قَلْبُهُ» بالرفع. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ. (1455) سبب نزولها أن الرجل كان يسلم. فإِذا أراد الهجرة منعه أهله، وولده، وقالوا: نَنْشُدُك الله أن تذهب وتَدَعَ أهلك وعشيرتك وتصير إِلى المدينة بلا أهل ولا مال. فمنهم من يَرِقُّ لهم، ويقيم فلا يهاجر، فنزلت هذه الآية. فلما هاجر أولئك، ورأوا الناس فقد فقهوا في الدّين همّوا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا إلى آخر الآية، هذا قول ابن عباس. وقال الزجاج: لما أرادوا الهجرة قال لهم أزواجهم، وأولادهم: قد صبرنا لكم على مفارقة الدّين ولا

_ حسن. أخرجه الترمذي 3317 والحاكم 2/ 490 والطبري 34198 من حديث ابن عباس، صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح. مع أنه من رواية سماك عن عكرمة وفيه ضعف، وورد من وجه آخر، أخرجه الطبري 34200، وفيه عطية العوفي واه. وانظر تفسير القرطبي 6001 بتخريجنا. وانظر أيضا «أحكام القرآن» 2131 فقد استوفيت فيه الكلام عليه.

نصبر لكم على مفارقتكم، ومفارقة الأموال، والمساكن، فأعلم الله عزّ وجلّ أن من كان بهذه الصورة، فهو عدوٌّ، وإِن كان ولداً، أو كانت زوجة. وقال مجاهد: كان حب الرجل ولده وزوجته يحمله على قطيعة رحمه ومعصية ربه. وقال قتادة: كان من أزواجهم، وأولادهم من ينهاهم عن الإسلام، ويثبّطهم عنه، فخرج في قوله عزّ وجلّ: عَدُوًّا لَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: بمنعهم من الهجرة، وهذا على قول ابن عباس. والثاني: بكونهم سببا للمعاصي، وهذا على قول مجاهد. والثالث: بنهيهم عن الإسلام، وهذا على قول قتادة. قوله عزّ وجلّ: فَاحْذَرُوهُمْ قال الفراء: لا تطيعوهم في التخلُّف. قوله عزّ وجلّ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي: بلاء وشغل عن الآخرة. فالمال والأولاد يوقعان في العظائم إلا من عصمه الله. وقال ابن قتيبة: أي: إغرام. يقال: فتن فلان بالمرأة، وشغف بها، أي: أغرم بها. وقال أهل المعاني: إنما دخل «من» في قوله عزّ وجلّ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ لأنه ليس كل الأزواج، والأولاد أعداءً. ولم يذكر «من» في قوله عزّ وجلّ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ لأنها لا تخلو من الفتنة، واشتغال القلب بها. (1456) وقد روى بريدة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه كان يخطب، فجاء الحسن، والحسين، عليهما السلام، عليهما قميصان أحمران يمشيان، ويعثران، فنزل من المنبر، فحملهما، فوضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله عزّ وجلّ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ نظرت إِلى هذين الصبيين يمشيان، ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي، ورفعتهما» . قوله عزّ وجلّ: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي: ثواب جزيل، وهو الجنة. والمعنى: لا تعصوه بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي: ما أطقتم وَاسْمَعُوا ما تُؤمَرُون به وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وفي هذه النفقة ثلاثة أقوال: أحدها: الصَّدقة، قاله ابن عباس. والثاني: نفقة المؤمن على نفسه، قاله الحسن. والثالث: النفقة في الجهاد، قاله الضحاك. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ حتى يعطيَ حق الله في ماله. وقد تقدّم بيان هذا في سورة الحشر وما بعده سبق بيانه إلى آخر السّورة «1» .

_ حسن. أخرجه الترمذي 3774 والحاكم 1/ 287 وابن حبان 6039 والبيهقي 3/ 218 من طرق عن علي بن الحسين بن واقد به. عن بريدة مرفوعا. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، مع أن علي بن الحسين روى له مسلم في المقدمة فقط لكنه توبع. وأخرجه أبو داود 1109 والنسائي 3/ 108 و 192 وابن ماجة 3600 وابن أبي شيبة 8/ 368 و 12/ 299- 300 وأحمد 5/ 354 وابن خزيمة 1082 وابن حبان 6038 والبيهقي 6/ 165 من حديث بريدة. وانظر «أحكام القرآن» و «الجامع لأحكام القرآن» 6005.

سورة الطلاق

سورة الطّلاق وتسمّى سورة النّساء القصرى، وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطلاق (65) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ قال الزّجّاج: هذا خطاب للنبيّ عليه السلام. والمؤمنون داخلون معه فيه. ومعناه: إذا أردتم طلاق النّساء، كقوله عزّ وجلّ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1» . وفي سبب نزول هذه الآية قولان: (1457) أحدهما: أنها نزلت حين طلّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم حفصة، وقيل له: راجعها، فإنّها صوّامة

_ ذكر نزول هذه الآية ضعيف، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة صحيح، وباقيه حسن صحيح. أخرجه الطبري 34244 عن قتادة مرسلا بهذا السياق. ووصله ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 445 بذكر أنس، وفي إسناده أسباط بن محمد، غير قوي، والمرسل أصح. فقد أخرجه ابن سعد 8/ 67 عن قتادة مرسلا، وليس فيه ذكر نزول الآية. وللحديث شواهد دون ذكر نزول الآية منها: 1- مرسل قيس بن زيد، أخرجه ابن سعد 8/ 67 ورجاله ثقات. 2- مرسل مخرمة بن بكير عن أبيه، أخرجه ابن سعد 8/ 67 وفيه الواقدي واه. 3- مرسل ابن سيرين، أخرجه ابن سعد 8/ 68 وفيه الواقدي. 4- حديث أنس ولفظه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما طلق حفصة أمر أن يراجعها» ، أخرجه ابن سعد 8/ 67 وإسناده على شرط الشيخين. 5- حديث ابن عباس عن عمر ولفظه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها» . أخرجه ابن سعد 8/ 67 وأبو داود 2283 والنسائي 6/ 313 وإسناده حسن. الخلاصة: كونه صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة صحيح، وأما نزول الآية في ذلك، فضعيف، وأما عجزه، فهو حسن صحيح. والله تعالى أعلم. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 2138 و «فتح القدير» للشوكاني 2532.

قَوَّامةٌ، وهي من إحدى زوجاتك في الجنة، قاله أنس بن مالك. (1458) والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن عمر، وذلك أنه طلّق امرأته حائضا، فأمره النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، قاله السّدّيّ. قوله عزّ وجلّ: لِعِدَّتِهِنَّ أي: لزمان عِدَّتهن، وهو الطهر. وهذا للمدخول بها، لأن غير المدخول بها لا عدَّة عليها. والطلاق على ضربين «1» : سُنِّيٌّ، وبِدْعيٌّ. فالسُّنِّيُّ: أن يطلِّقها في طهر لم يجامعها فيه، فذلك هو الطلاق لِلْعِدَّة، لأنها تعتدُّ بذلك الطهر من عدّتها، وتقع في العدة عقيب الطلاق، فلا يطول عليها زمان العدة. والطلاق البدعي: أن يقع في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، فهو واقع، وصاحبه آثم.

_ لا أصل له، وحديث ابن عمر متفق عليه كما سيأتي، وليس فيه أن الآية نزلت فيه. وحديث ابن عمر دون ذكر نزول الآية صحيح. أخرجه البخاري 4908 و 5251 و 5252 و 5333 و 7160 ومسلم 1471 وأبو داود 2179 و 2181 والترمذي 1176 والنسائي 6/ 212- 213 ومالك 2/ 576 والشافعي 2/ 32- 33 والطيالسي 1853 وابن أبي شيبة 5/ 2- 3 وأحمد 2/ 63 وابن حبان 4263 وابن الجارود 734 والدارقطني 4/ 7 والبغوي 2220 والبيهقي 7/ 424 من طرق من حديث ابن عمر. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 2139 بتخريجنا ولله الحمد والمنة.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 2 إلى 3]

فإن جمع الطلاق الثلاث في طهر واحد، فالمنصوص من مذهبنا أنه بدعة. قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي: زمان العدّة. وفي إحصائه فوائد. منها: مراعاة زمان الرجعة، وأوان النفقة، والسّكنى، وتوزيع الطّلاق على الإقراء إذا أراد أن يطلِّق ثلاثاً، ولِيَعْلَمَ أنها قد بانت، فيتزوّج بأختها، وأربع سواها. قوله عزّ وجلّ: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أي: فلا تعصوه فيما أمركم به. لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فيه دليل على وجوب السكنى. ونسب البيوت إليهن، لسكناهن قبل الطلاق فيهن، ولا يجوز لها أن تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة. فإن خرجت أثِمتْ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ وفيها أربعة أقوال «1» : أحدها: أنّ المعنى: إلا أن يخرجن قبل انقضاء المدة، فخروجهن هو الفاحشة المبّينة، وهذا قول عبد الله بن عمر، والسدي، وابن السائب. والثاني: أن الفاحشة: الزنا، رواه مجاهد، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، والضحاك. فعلى هذا يكون المعنى: إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ. والثالث: أنّ الفاحشة: أن تبدو على أهله، فيحلُّ لهم إخراجها، رواه محمد بن إبراهيم عن ابن عباس. والرابع: أنها إصابة حدٍّ، فتخرج لإقامة الحدّ عليها، قاله سعيد بن المسيّب. قوله عزّ وجلّ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني: ما ذكر من الأحكام وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ التي بيَّنها، وأمر بها فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي: أثم فيما بينه وبين الله تعالى لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي: يُوقع في قلب الزوج المحبَّة لرجعتها بعد الطَّلْقة والطلقتين. وهذا يدل على أن المستحب في الطلاق تفريقه، وأن لا يجمع الثلاث. [سورة الطلاق (65) : الآيات 2 الى 3] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) قوله عزّ وجلّ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: قاربن انقضاء العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وهذا مبيَّن في البقرة «2» وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قال المفسرون: أشهدوا على الطلاق، أو المراجعة. واختلف العلماء: هل الإشهاد على المراجعة واجب، أم مستحب؟ وفيه عن أحمد روايتان، وعن الشافعي قولان، ثم قال للشهداء: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي: اشهدوا بالحق، وأدّوها على الصحة، طلبا لمرضاة الله تعالى، وقياماً بوصيَّته. وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 446: وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة فتخرج من المنزل، قال: الفاحشة المبينة، تشمل الزنا كما قاله ابن مسعود وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن، وابن سيرين ومجاهد وعكرمة، وغيرهم. قال: وتشمل ما إذا نشزت المرأة، أو بذؤت على أهل الرجل، وآذتهم في الكلام والفعال، كما قاله أبيّ بن كعب وابن عباس وغيرهم. (2) البقرة: 232.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 إلى 5]

(1459) فذكر أكثر المفسرين أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدوُّ ابناً له، فذكر ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلم، وشكا إليه الفاقة، فقال: اتق الله واصبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففعل الرجل ذلك، فغفل العدوُّ عن ابنه، فساق غنمهم، وجاء بها إلى المدينة، وهي أربعة آلاف شاة، فنزلت هذه الآية. وفي معناها للمفسرين خمسة أقوال: أحدها: ومن يتق الله يُنجِه من كل كرب في الدنيا والآخرة، قاله ابن عباس. والثاني: أنّ مَخْرَجَه: علمُه بأن ما أصابه من عطَاءٍ أو مَنْع، من قِبَل الله، وهو معنى قول ابن مسعود. والثالث: ومن يتق الله، فيطلق للسُّنَّةِ، ويراجع للسُّنَّةِ، يَجْعَلْ له مخرجاً، قاله السدي. والرابع: ومن يتَّق الله بالصبر عند المصيبة، يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، قاله ابن السائب. والخامس: يجعل له مخرجاً من الحرام إلى الحلال، قاله الزجاج. والصحيح أن هذا عام، فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجاً من كل ما يضيق عليه. ومن لا يتقي، يقع في كل شدة. قال الربيع بن خُثَيْم: يجعل له مخرجاً من كل ما يضيق على الناس وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أي: من حيث لا يأمل، ولا يرجو. قال الزجاج: ويجوز أن يكون: إذا اتقى الله في طلاقه، وجرى في ذلك على السُّنَّة، رزقه الله أهلا بدل أهله. قوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي: مَنْ وَثِقَ به فيما نابه، كفاه الله ما أهمّه إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ وروى حفص، والمفضل عن عاصم «بالغُ أمرِه» مضاف. والمعنى: يقضي ما يريد، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي: أجلاً ومنتهىً ينتهي إليه، قدَّر الله ذلك كلَّه، فلا يقدَّم ولا يؤخر. قال مقاتل: قد جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء قدراً، فقدَّر متى يكون هذا الغني فقيراً، وهذا الفقير غنيا. [سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) قوله عزّ وجلّ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنها لمّا نزلت عدّة

_ أخرجه الثعلبي كما في «تخريج الكشاف» 4/ 556 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي فذكره نحوه، ولم يسم الابن. قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 556: والكلبي متروك متهم، وهذا الإسناد واه بمرة، وأبو صالح ضعفه غير واحد. وله شاهد من حديث أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود عن أبيه نحوه، أخرجه البيهقي في «الدلائل» 6/ 106 وإسناده منقطع فإن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود. وكرره البيهقي 6/ 107 عن أبي عبيدة مرسلا، وسنده قوي. وله شاهد آخر من حديث جابر أخرجه الحاكم 2/ 492 وصححه! وتعقبه الذهبي بقوله: بل منكر، وعباد رافضي جبل، وعبيد متروك قاله الأزدي اه. وورد عن سالم بن أبي الجعد مرسلا أخرجه الطبري 34288. وكرره عن السدي مرسلا 34287. الخلاصة: هو حديث حسن أو يقرب من الحسن وأحسن ما روي فيه حديث ابن مسعود، ليس له علة إلا الانقطاع، فهو ضعيف فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، وإذا انضم إليه مرسل سالم ومرسل السدي، صار حسنا كما هو مقرر في هذا النص لكن في المتن بعض الاضطراب، لذا قلت: حسن أو يشبه الحسن. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 2536 بتخريجنا.

فصل:

المطلَّقة، والمتوفَّى عنها زوجُها في البقرة «1» . (1460) قال أُبَيُّ بن كعب: يا رسول الله: إن نساء من أهل المدينة يقلن: قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء. قال: «وما هو؟» قال: الصغار والكبار، وذوات الحمل، فنزلت هذه الآية، قاله عمرو بن سالم. (1461) والثاني: لمّا نزل قوله عزّ وجلّ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الآية «2» قال خلاَّد بن النعمان الأنصاري: يا رسول الله، فما عِدَّة التي لا تحيض، وعدَّة التي لم تحض، وعدة الحُبلى؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية: إِنِ ارْتَبْتُمْ، أي: شككتم فلم تَدْرُوا ما عِدتَّهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ كذلك. فصل «3» : قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالارتياب هاهنا: ارتياب المخاطبين في مقدار عدّة

_ أخرجه الحاكم 2/ 492 و 493 والواحدي في «أسبابه» 830 والبيهقي 7/ 414 من حديث أبيّ بن كعب، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، مع أن إسناده منقطع عمرو بن سالم لم يسمع أبيّ بن كعب كما في «تهذيب التهذيب» لابن حجر، وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6024 بتخريجنا، وانظر «الدر» 6/ 357. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم، فالخبر لا شيء.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 إلى 7]

الآيسة والصغيرة كم هو؟ وليس المراد به ارتياب المعتدات في اليأس من المحيض، أو اليأس من الحمل للسبب الذي ذكر في نزول الآية. ولأنه لو أريد بذلك النساء لتوجَّه الخطاب إليهن، فقيل: إن ارتبتنُّ، أو ارتبْنَ، لأن الحيض إنما يعلم من جهتهنَّ. وقد اختلف في المرأة إذا تأخر حيضها لا لعارض كم تجلس؟ فمذهب أصحابنا أنها تجلس غالب مدة الحمل، وهو تسعة أشهر، ثم ثلاثة. والعدة: هي الثلاثة التي بعد التسعة. فإن حاضت قبل السنة بيوم، استأنفت ثلاث حيض، وإن تَمَّتْ السَّنَةُ من غير حيض، حَلَّت، وبه قال مالك. أبو حنيفة، والشافعي في الجديد: تمكث أبداً حتى يعلم براءة رحمها قطعا، وهو أن تصير في حدّ لا يحيض مثلها، فتعتدّ بعد ذلك ثلاثة أشهر. قوله عزّ وجلّ: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني: عدتهن ثلاثة أشهر أيضاً، لأنه كلام لا يستقلُّ بنفسه، فلا بدَّ له من ضمير، وضميره تقدَّم ذكره مظهراً، وهو العدَّة بالشهور. وهذا على قول أصحابنا محمول على من لم يأت عليها زمان الحيض: أنها تعتد ثلاثة أشهر. فأما من أتى عليها زمان الحيض، ولم تحض، فإنها تعتدّ سنة. قوله عزّ وجلّ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ عامٌّ في المطلقات، والمتوفَّى عنهن أزواجهن، وهذا قول عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وفقهاء الأمصار. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: تعتدُّ آخر الأجلين. ويدل على قولنا عموم الآية. وقول ابن مسعود: من شاء لاعنته، ما نزلت وَأُولاتُ الْأَحْمالِ إِلا بعد آية المتوفَّى عنها زوجها، وقولِ أم سلمة: (1462) إن سُبَيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تتزوّج. قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ: فيما أُمِرَ به يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً يُسَهِّلْ عليه أمر الدنيا والآخرة، وهذا قول الأكثرين. وقال الضحاك: ومن يتق الله في طلاق السّنّة، يجعل له من أمره يسراً في الرَّجعة ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بطاعته يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي: يمح عنه خطاياه وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً في الآخرة. [سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)

_ صحيح. أخرجه البخاري 5319 و 5320 ومسلم 1484 وأبو داود 2306 والنسائي 6/ 194 و 196 وابن ماجة 2028 ومالك 2/ 590 وأحمد 6/ 432 وابن حبان 4294 وعبد الرزاق 11722 والطبراني 24/ 745- 750 والبيهقي 7/ 428- 429 من طرق عن الزهري به بألفاظ متقاربة.

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ و «من» صلة، قوله: مِنْ وُجْدِكُمْ قرأ الجمهور بضم الواو. وقرأ أبو هريرة، وأبو عبد الرحمن، وأبو رزين، وقتادة، ورَوْح عن يعقوب بكسر الواو. وقال ابن قتيبة: أي: بقدر وسعكم. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة: بفتح الواو. والوُجد: المقدرة، والغنى يقال: افتقر فلان بعد وُجْدٍ. قال الفراء: يقول: على ما يجد، فإن كان مُوَسَّعاً عليه، وسَّعَ عليها في المسكن والنَّفَقة، وإن كان مقتَّراً عليه، فعلى قدر ذلك. قوله عزّ وجلّ: وَلا تُضآرُّوهُنَّ بالتضييق عليهنّ في المسكن، والنفقة، وأنتم تجدون سَعَة. قال القاضي أبو يعلى: والمراد بهذا: المطلقة الرجعية دون المبتوتة، بدليل قوله عزّ وجلّ: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً «1» وقولِه: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ «2» فدل ذلك على أنه أراد الرجعية. وقد اختلف الفقهاء في المبتوتة «3» : هل لها سكنى، ونفقة في مدة العدة، أم لا؟ فالمشهور عند أصحابنا: أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة: لها السكنى، والنفقة. وقال مالك والشافعي: لها السكنى، دون النفقة. وقد رواه الكوسج عن الإمام أحمد رضي الله عنه ويدل على الأول. (1463) حديث فاطمة بنت قيس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال لها: إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له

_ صحيح. أخرجه مسلم 1480 ح 36 وأبو داود 2284 والنسائي 6/ 75- 76 وأحمد 6/ 412 والشافعي 2/ 18- 19 و 54 وابن حبان 4290 وابن الجارود 760 والطبراني 24/ (913) والبيهقي 7/ 135 و 177 و 181 و 471 من طرق عن مالك به. وأخرجه مسلم 1480 ح 38 وأبو داود 2285 و 2286 و 2287 والنسائي 6/ 145 والطبراني 24/ (920) وابن حبان 4253 والبيهقي 7/ 178 من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به. وأخرجه مسلم 1480 ح 48 والنسائي 6/ 150 والترمذي 1135 وابن ماجة 2035 وأحمد

[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 إلى 11]

عليها الرجعة، فإذا لم يكن له عليها الرّجعة، فلا نفقة ولا سكنى. ومن حيث المعنى: إِن النفقة إنما تجب لأجل التمكين من الاستمتاع، بدليل أن الناشز لا نفقة لها. واختلفوا في الحامل، والمتوفَّى عنها زوجها، فقال ابن مسعود، وابن عمر، وأبو العالية، والشعبي، وشريح، وإبراهيم: نفقتها من جميع المال، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، والثوري. وقال ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء: نفقتها في مال نفسها، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه. وعن أحمد كالقولين. قوله عزّ وجلّ: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني: أجرة الرضاع. وفي هذا دلالة على أن الأم إذا رضيت أن ترضعه بأجرة مثله، لم يكن للأب أن يسترضع غيرها وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ، أي: لا تشتطُّ المرأة على الزوج فيما تطلبه من أجرة الرضاع، ولا يقصِّر الزَّوج عن المقدار المستحق وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ في الأجرة، ولم يتراضَ الوالدان على شيء فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الأمر: أي: فليسترضع الوالد غير والدة الصبي. لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أمر أهل التَّوسِعَة أن يوسِّعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سَعَتِهم. وقرأ ابن السميفع «لينفق» بفتح القاف. وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي: ضُيِّق عليه من المطلّقين. وقرأ أبي بن كعب، وحميد «قدر عليه» بضم القاف، وتشديد الدال. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة «قَدّر» بفتح القاف وتشديد الدال «رزقَه» بنصب القاف. فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ على قدر ما أعطاه من المال لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي: على قدر ما أعطاها من المال سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي: بعد ضيق وشدة، غنىً وسَعَةً، وكان الغالب عليهم حينئذ الفقر، فأعلمهم أنه سيفتح عليهم بعد ذلك. [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 11] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) قوله عزّ وجلّ: وَكَأَيِّنْ أي: وكم مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ، أي: عن أمر رسله. والمعنى: عتا أهلها. قال ابن زيد: عتت، أي: كفرت، وتركت أمر ربها، فلم تقبله. وفي باقي الآية قولان: أحدهما: أن فيها تقديماً، وتأخيراً. والمعنى: عذَّبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع، والسيف، والبلايا، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة، قاله ابن عباس، والفراء في آخرين. والثاني: أنها على نظمها، والمعنى: حاسبناها بعملها في الدنيا، فجازيناها بالعذاب على مقدار عملها، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَعَذَّبْناها فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة. والحساب الشديد: هو

_ 6/ 411 وابن حبان 4254 والطبراني 24/ (929) والبيهقي 7/ 136 و 473 من طرق عن سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم عن فاطمة بنت قيس به مطوّلا ومختصرا. وأخرجه مالك في «الموطأ» 2/ 580 والبغوي في «شرح السنة» 2378 عن عبد الله بن يزيد به.

[سورة الطلاق (65) : آية 12]

الذي لا عفو فيه، والنكر: المنكر فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أي: جزاء ذنبها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً في الدنيا، والآخرة، وقال ابن قتيبة: الخسر: الهلكة. قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً أي: قرآنا رَسُولًا أي: وبعث رسولاً، قاله مقاتل. وإِلى نحوه ذهب السدي. وقال ابن السائب: الرسول هاهنا: جبرائيل، فعلى هذا: يكون الذِّكر والرسول جميعاً منزَّلين. وقال ثعلب: الرسول: هو الذِّكر. وقال غيره: معنى الذكر هاهنا: الشرف. وما بعده قد تقدَّم «1» إلى قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها. [سورة الطلاق (65) : آية 12] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) قوله: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي: وخلق الأرض بعددهنّ. وجاء في الحديث: أنّ كثافة كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عام، وما بينها وبين الأخرى كذلك، وكثافة كل أرض خمسمائة عام، وما بينها وبين الأرض الأخرى كذلك. (1464) وقد روى أبو الضحى عن ابن عباس قال: في كل أرض آدم مثل آدمكم، ونوح مثل نوحكم، وإبراهيم مثل إبراهيمكم، وعيسى كعيسى، فهذا الحديث تارة يرفع إلى ابن عباس، وتارة يوقف على أبي الضحى، وليس له معنى إلا ما حكى أبو سليمان الدمشقي، قال: سمعت أن معناه: إن في كل أرض خلقاً من خلق الله لهم سادة، يقوم كبيرهم ومتقدِّمهم في الخلق مقام آدم فينا، وتقوم ذُرِّيَّتُه في السِّنِّ والقِدَم كمقام نوح. وعلى هذا المثال سائرهم. وقال كعب: ساكن الأرض الثانية: الريح العقيم، وفي الثالثة: حجارة جهنم، والرابعة: كبريت جهنم، والخامسة: حيات جهنم، والسادسة: عقارب جهنم، والسابعة: فيها إبليس «2» . قوله عزّ وجلّ: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ، في الأمر قولان: أحدهما: أنه قضاء الله وقدره، قاله الأكثرون. قال قتادة: في كل أرضٍ من أرضهِ وسماءٍ من سمائه خَلْقٌ من خَلْقِهِ، وأمْرٌ من أمْرِهِ، وقَضَاءٌ من قَضَائِهِ. والثاني: أنه الوحي، قاله مقاتل. قوله عزّ وجلّ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً المعنى أعلمكم هذا لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء.

_ هذا الأثر من الإسرائيليات، وهو باطل لا أصل له. فلا يوجد في باطن الأرض كنبينا ولا غيره، بل وليس في باطن الأرض بشرا، وليست صالحة للحياة أصلا. والإسناد إلى أبي الضحى صحيح كما في «تفسير الطبري» 34371 وأبو الضحى ثقة، وعلى هذا يكون ابن عباس تلقاه عن أهل الكتاب، فقد ثبت أنه روى عن كعب الأحبار وغيره. لا فائدة من هذه الأقوال لأنها إسرائيلية.

سورة التحريم

سورة التّحريم وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) قوله عزّ وجلّ: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ في سبب نزولها قولان: (1465) أحدهما: أن حفصة ذهبتْ إلى أبيها تتحدّث عنده، فأرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى جاريته، فظلّت

_ ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة منها: حديث ابن عباس: أخرجه الطبري 34392 وإسناده واه لأجل عطية العوفي. وورد من وجه آخر بنحوه، أخرجه الطبري 34397، ورجاله ثقات، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق. وورد من وجه آخر، أخرجه الهيثم بن كليب في «مسنده» كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 456 وقال ابن كثير: إسناده صحيح. 2- مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 34389. 3- مرسل عبد الرحمن بن زيد، أخرجه الطبري 34388. 4- مرسل الشعبي، أخرجه الطبري 34390. 5- مرسل أبي عثمان، أخرجه الطبري 34394. 6- مرسل قتادة والحسن، أخرجه الطبري 34395. 7- مرسل زيد بن أسلم، أخرجه الطبري 34382. 8- مرسل مسروق، أخرجه الطبري 34383. 9- حديث أنس، وهو مختصر، أخرجه النسائي في «التفسير» 627 والحاكم 2/ 493 وإسناده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وله شواهد أخرى، انظر «الكشاف» 1207 بتخريجي. الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وانظر «أحكام القرآن» 2156 بتخريجنا.

معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة، فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غَيْرةً شديدةً. فلما دخلت حفصة قالت: قد رأيت من كان عندك. والله لقد سُؤْتَني، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «والله لأُرْضِيَنَّك، وَإني مُسِرٌّ إليك سراً فاحفظيه» ، قالت: وما هو؟ قال: «إِني أشهدكِ أن سِرِّيَّتي هذه عليَّ حرام رضىً لَكِ» ، وكانت عائشة وحفصة متظاهرتين على نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فانطلقت حفصة إلى عائشة، فقالت لها: أبشري، إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قد حرَّم عليه فتاته. فنزلت هذه الآية رواه العوفي عن ابن عباس. (1466) وقد روي عن عمر نحو هذا المعنى، وقال فيه: فقالت حفصة: كيف تحرّمها، عليك،؟! فحلف لها أن لا يقربها، فقال لها: «لا تذكريه لأحد» فذكرته لعائشة، فآلى أن لا يدخل على نسائه شهراً، فنزلت هذه الآية. (1467) وقال الضحاك: قال لها: «لا تذكري لعائشة ما رأيت» فذكرته، فغضبت عائشة، ولم تزل بنبي الله حتى حلف أن لا يقربها، فنزلت هذه الآية، وإلى هذا المعنى: ذهب سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والشعبي، ومسروق، ومقاتل، والأكثرون. (1468) والثاني: ما روى عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب الحَلْواء والعسل، وكان إِذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه، فدخل على حَفصَة بنت عمر، واحتبس عندها، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عُكَّةً من عسل «1» ، فسقت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: أما والله لنحتالَنَّ له، فقلت لسودة: إنه سيدنو منكِ إذا دخل عليك، فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ «2» وسأقول ذلك وقولي أنت يا صفيّة ذلك، فلمّا دنا من سودة قالت له ذلك ولمّا دخل عليّ قلت له مثل ذلك فلما دار إلى صفيّة قالت له مثل ذلك فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي فيه. قالت: تقول سودة: سبحان الله، والله لقد حَرَمْنَاه. قلت لها: اسكتي. أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» . (1469) وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس: أن التي شرب عندها العسل سودة، فقالت له

_ أخرجه الطبري 34397 بهذا اللفظ عن ابن عباس عن عمر. وفيه محمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن، وهو في الصحيح بغير هذا السياق، انظر «صحيح البخاري» 4913، 4914، 4915 ومسلم 1479 عن ابن عباس عن عمر مطولا. وانظر «فتح القدير» 2548 بتخريجنا. انظر الحديث المتقدم 1465. صحيح. أخرجه البخاري 6972 عن عبيد بن إسماعيل بن عن عائشة. وأخرجه مسلم 1474 ح 21 وأبو داود 3715 وأبو يعلى 4896 من طرق عن أبي أسامة به. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 832 من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة به. أخرجه الطبراني 1226 من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في «المجمع» 11426: رجاله رجال

عائشة: إِني لأجد منك ريحاً، ثم دخل على حفصة، فقالت: إني أجد منك ريحاً، فقال: إني أراه من شراب شربته عند سودة، والله لا أشربه، فنزلت هذه الآية. (1470) وفي حديث عبيد بن عمير عن عائشة أن التي شرب عندها العسل زينب بنت جحش، فتواطأت حفصة وعائشة أن تقولا له ذلك القول. قال أبو عبيدة: المغافير: شيء شبيه بالصمغ فيه حلاوة. وخرج الناس يتمغفرون: إذا خرجوا يجتنونه. ويقال: المغاثير بالثاء، مثل جدث، وجدف. وقال الزجاج: المغافير: صمغ متغير الرائحة. فخرج في المراد بالذي أحلَّ الله له قولان «1» : أحدهما: أنه جاريته. والثاني: العسل. قوله عزّ وجلّ: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ أي: تطلب رضاهن بتحريم ذلك. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

_ الصحيح، وصححه السيوطي في «الدر» 6/ 266. وفي ذلك نظر فهو معارض بحديث عائشة المتقدم، وأنه عليه الصلاة والسلام شرب ذلك عند زينب. وانظر «تفسير الشوكاني» 2545 بتخريجنا. صحيح. أخرجه البخاري 5267 والبغوي في «شرح السنة» عن الحسن بن محمد به. وأخرجه البخاري 6691 ومسلم 1474 وأبو داود 3714 والنسائي 6/ 151 و 7/ 13 و 71 وأحمد 6/ 221 من طرق عن الحجاج به وأخرجه البخاري 4912 من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج به.

غفر الله لك التحريم قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ قال مقاتل: قد بيّن لكم تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي: كفارة أيمانكم، وذلك البيان في المائدة «1» قال المفسرون: وأصل «تَحِلَّة» تَحْلِلَه على وزن تَفْعِلَة، فأدغمت، والمعنى: قد بين الله لكم تحليل أيمانكم بالكفَّارة، فأمره الله أن يكفِّر يمينه، فأعتق رقبة. واختلفوا هل حرّم مارية على نفسه بيمين، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه حرَّمها من غير ذكر يمين، فكان التحريم موجباً لكفارة اليمين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه حلف يميناً حرَّمها بها، قاله الحسن. والشعبي، وقتادة، وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أي: وليُّكم وناصركم. قوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني: حفصة من غير خلاف علمناه. وفي هذا السِّرِّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قال لها: إني مُسِرٌّ إِليك سِرَّاً فاحفظيه، سرّيتي هذه عليَّ حرام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابنه، والسدي «2» . (1471) والثاني: أنه قال لها: أبوك، وأبو عائشة، والِيا الناس من بعدي، فإياك أن تخبري أحدا، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: أنه أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي، قاله ميمون بن مهران «3» . قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي: أخبرت به عائشة وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي: أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم غضباً شديداً، لأنه استكتم حفصة ذلك، ثم دعاها، فأخبرها ببعض ما قالت، فذلك قوله عزّ وجلّ: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ وفي الذي عرَّفها إياه قولان: (1472) أحدهما: أنه حدَّثها ما حدثتها عائشة من شأن أبي بكر وعمر، وسكت عمّا أخبرت

_ باطل لا أصل له، أخرجه ابن عدي 3/ 436 عن سيف بن عمر عن عطية بن الحارث عن أبي أيوب عن علي. وعن الضحاك عن ابن عباس. وعن عمرو بن محمد عن الشعبي وسعيد بن جبير عن ابن عباس به. وإسناده ضعيف جدا. مداره على سيف بن عمر وهو متروك متهم، وبه أعله ابن عدي. ثم إن المتن موضوع. فلو كان هذا الحديث عند علي لما تأخر ستة أشهر عن بيعة الصديق. وكذا تأخر بنو هاشم، ومنهم ابن عباس عن البيعة، فهذا خبر باطل والنبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يصرح باسم الخليفة من بعده، باتفاق العلماء، وإنما هناك إشارات إلى إمارة أبي بكر، منها أمره صلّى الله عليه وسلم بأن يؤم الناس، وذلك في مرضه الأخير. وورد من وجه آخر أخرجه الدارقطني في «سننه» 4/ 153 و 154 وفيه الكلبي، وهو محمد بن السائب، متهم بالكذب، وشيخه أبو صالح أقرّ بأنه حدث عن ابن عباس بأشياء كذب. راجع الميزان للذهبي. ثم إن المتن منكر كما تقدم. وورد من وجه آخر أخرجه الطبراني في «الكبير» 12640 من حديث ابن عباس وله ثلاث علل: 1- إسماعيل بن عمرو البجلي، وهو ضعيف. 2- وفيه أيضا أبو سنان سعيد بن سنان فيه ضعف. 3- الضحاك لم يلق ابن عباس. انظر «تفسير ابن كثير» 4/ 460 بتخريجي عند هذه الآية. وانظر أيضا «تفسير الشوكاني» 2551 بتخريجي ولله الحمد والمنة. لا أصل له، وهو بعض المتقدم.

عائشة من تحريم مارية، لأنه لم يبال ما أظهرت من ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (1473) والثاني: أن الذي عرَّف: تحريم مارّية، والذي أعرض عنه: ذِكر الخلافة لئلا ينتشر، قاله الضحاك، وهذا اختيار الزجاج: قال: ومعنى عَرَّفَ بَعْضَهُ عرَّف حفصة بعضه وقرأ الكسائي «عَرَفَ» بالتخفيف. قال الزجاج: على هذه القراءة قد عرف كل ما أسرَّه، غير أن المعنى جارٍ على بعضه، كقوله عزّ وجلّ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ «1» ، أي: يعلمه ويجازي عليه، وكذلك: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «2» أي: ير جزاءه. فقيل: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فكان ذلك جزاءها عنده، فأمره الله أن يراجعها. (1474) وقال مقاتل بن حيَّان: لم يطلقها، وإنما همَّ بطلاقها، فقال له جبريل: لا تطلّقها، فإنها

_ عزاه المصنف للضحاك، وقد ساقه بمعناه. وصدره ورد عن الضحاك، أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» 6/ 370، وهو مرسل، لكن له شواهد. وعجزه، أخرجه أبو نعيم في «فضائل الصحابة» كما في «الدر» 6/ 370 عن الضحاك، وهو مرسل، فهو ضعيف، والمتن باطل. أصل الحديث صحيح، لكن قول مقاتل «لم يطلقها» باطل، لم يتابع عليه. ذكره المنصف هاهنا عن مقاتل بن حيان معلقا، وسنده إليه في أول الكتاب، وهذا واه بمرة، ليس بشيء، وقد خولف مقاتل. وأخرج الحاكم 4/ 15 وابن سعد في «الطبقات» 8/ 84 والدارمي 2265 والطحاوي في «المشكل» 4615 من حديث أنس. وأن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فأتاه جبريل فقال: «يا محمد طلقت حفصة تطليقة، وهي صوامة قوامة وهي زوجتك في الدنيا وفي الجنة» . وأخرج الطحاوي 1614 من طريق موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، فأتاه جبريل فقال: راجعها فإنها صوّامة قوّامة» . وأخرج الطبراني 17/ (804) نحوه من حديث عقبة بلفظ «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فوضع التراب على رأسه، وقال: ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعدها، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر» . قال الهيثمي في «المجمع» 4/ 334: وفيه عمرو بن صالح الحضرمي، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. أخرج الحاكم 4/ 15 (6753 وابن سعد 8/ 67 والطبراني 18/ (934) عن قيس بن زيد «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون فبكت وقالت: والله ما طلقني عن شبع، وجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: قال لي جبريل عليه السلام: راجع حفصة، فإنها صوّامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة» . وسكت عليه الحاكم، وكذا الذهبي، وكذا الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 563 ورجاله ثقات غير قيس بن زيد فهو تابعي صغير مجهول. وأن عثمان بن مطعون توفي قبل أحد، وقبل أن يتزوج النبي صلّى الله عليه وسلم حفصة. وأخرج أبو داود 2283 والنسائي 6/ 213 وابن ماجة 2016 والدارمي 2264 وأبو يعلى 174 والحاكم 2/ 197 وابن حبان 4275 والطحاوي في «المشكل» 4611 والبيهقي 7/ 321- 322 من طرق عن يحيى بن زكريا عن ابن أبي داود عن صالح بن صالح عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها» . الخلاصة: قول مقاتل «لم يطلقها» باطل، ليس بشيء، والصحيح أنه طلقها كما في الروايات المذكورة، وهو خبر حسن صحيح بطرقه وشواهده لكن بالألفاظ التي أوردتها، وانظر «أحكام القرآن» 2138 بتخريجي. أخرجه ابن سعد 8/ 149- 150 عن ابن عباس بنحوه، وفيه الواقدي، وهو متروك. وأخرج الدارقطني 4/

صوَّامة قوَّامة. وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، ثم قرأ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن السميفع «عُرَّاف» برفع العين، وتشديد الراء وبألف، «بعضه» بالخفض. قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي: أخبر حفصة بإفشائها السرَّ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي: من أخبرك بأني أفشيت سرك؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ثم خاطب عائشة وحفصة، فقال: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ أي: من التعاون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالإيذاء فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما قال ابن عباس: زاغت، وأثمت. قال الزجاج: عدلت، وزاغت عن الحقّ. قال مجاهد: كنّا نرى قوله عزّ وجلّ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما شيئاً هيِّناً حتى وجدناه في قراءة ابن مسعود: فقد زاغت قلوبكما. وإنما جعل القلبين جماعة لأن كل اثنين فما فوقهما جماعة. وقد أشرنا إِلى هذا في قوله عزّ وجلّ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «1» وقوله تعالى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ «2» . قال المفسرون: وذلك أنهما أحبَّا ما كَرِهَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته، وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن ومجاهد، والأعمش «تظاهرا» بتخفيف الظاء، أي: تعاونا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالإيذاء فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي: وَليُّه في العون، والنصرة وَجِبْرِيلُ وليُّه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وفي المراد بصالح المؤمنين ستة أقوال: أحدها: أنهم أبو بكر وعمر، قاله ابن مسعود، وعكرمة، والضحاك. والثاني: أبو بكر، رواه مكحول عن أبي أمامة. والثالث: عمر بن الخطّاب قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. والرابع: خيار المؤمنين، قاله الربيع بن أنس. والخامس: أنهم الأنبياء، قاله قتادة، والعلاء بن زياد العدوي، وسفيان. والسادس: أنه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حكاه الماوردي، قاله الفراء: «وصالح المؤمنين» موحّد في مذهب جميع، كما تقول: لا يأتيني إلا سائس الحرب، فمن كان ذا سياسة للحرب، فقد أمر بالمجيء، ومثله قوله عزّ وجلّ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ «3» ، قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ «4» ، وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً «5» في كثير من القرآن يؤدي معنى الواحد عن الجميع. قوله عزّ وجلّ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ أي: ظهراً، وهذا مما لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجمع، ومثله ثم يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «6» ، وقد شرحناه هناك. ثم خوَّف نساءه، فقال عزّ وجلّ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ.

_ 153 والطبراني في «الكبير» . 1264 من حديث ابن عباس في قوله عز وجل: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال: اطلعت حفصة على النبي صلّى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم عليه السلام فقال: «لا تخبري عائشة» ، وقال لها: «إن أباك وأباها سيملكان، أو سيليان بعدي، فلا تخبري عائشة» فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة ... » الحديث. وفي إسناده الكلبي، وهو كذاب. وورد من حديث علي، أخرجه ابن عدي 3/ 436، وكرره عن ابن عباس ومدارهما على سيف بن عمر، وهو متروك متهم، وبه أعله ابن عدي. والصواب أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يخبر على من سيخلفه، وإنما هناك أمارات على أنه أبو بكر، والله أعلم. الخلاصة: هذا خبر باطل لا أصل له، والصحيح في ذلك ما رواه الشيخان من وجوه في شربه عليه السلام العسل عند زينب، وكذا يليه في الصحة خبر مارية المتقدم برقم 2238. وانظر «فتح القدير» 2551 و «الجامع لأحكام القرآن» 6036 بتخريجي والله الموفق.

[سورة التحريم (66) : الآيات 6 إلى 8]

(1475) وسبب نزولها ما روى أنس عن عمر بن الخطاب قال: بلغني بعض ما آذى به رسولَ الله نساؤه، فدخلتُ عليهنَّ، فجعلت أَستقرئهن، واحدةً واحدةً، فقلت: والله لتنتهِنَّ، أو ليبدلنَّه الله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية. والمعنى: واجبٌ من الله إِنْ طَلَّقَكُنَّ رسوله أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ أي: خاضعات لله بالطاعة مُؤْمِناتٍ مصدِّقات بتوحيد الله قانِتاتٍ أي: طائعات سائِحاتٍ فيه قولان: أحدهما: صائمات، قاله ابن عباس، والجمهور. وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله عزّ وجلّ: السَّائِحُونَ «1» . والثاني: مهاجرات، قاله زيد بن أسل وابنه. «والثيّبات» جمع ثَيِّب، وهي المرأة التي قد تزوَّجت، ثم ثابت إلى بيت أبويها، فعادت كما كانت غير ذات زوج. «والأبكار» : العذارى. [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) قوله عزّ وجلّ: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وقاية النفس: بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، ووقاية الأهل: بأن يُؤْمَروا بالطاعة، وينهوا عن المعصية. وقال عليّ رضي الله عنه: علّموهم وأدّبوهم، قوله: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ قد ذكرناه في البقرة «2» قوله عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ وهم خزنتها غِلاظٌ على أهل النار شِدادٌ عليهم. وقيل: غلاظ القلوب شِدَاد الأبدان. (1476) وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: خَزَنَةُ النَّار تسعةَ عشر، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، وقُوَّته أن يضرب بالمقمعة، فيدفع بتلك الضربة سبعين ألفاً، فيهوُون في قعر جهنَّم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ أي: لا يخالفونه فيما يأمر وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فيه قولان: أحدهما: لا يتجاوزون ما يؤمرون. والثاني: يفعلونه في وقته لا يؤخِّرونه، ولا يقدِّمونه. ويقال لأهل النار: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ. قوله عزّ وجلّ: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قرأ أبو بكر عن عاصم، وخارجة عن نافع «نَصُوحاً» بضم النون. والباقون بفتحها. قال الزجاج: فمن فتح فعلى صفة التوبة، ومعناه: توبةً بالغةً في النّصح،

_ صحيح. أخرجه الطبري 34426 من حديث أنس عن عمر، وإسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. وكرره الطبري 34427 وإسناده صحيح. باطل، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح واه، وراويته هو الكلبي، وقد أقر أنه روى عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا ليس له أصل عن ابن عباس.

[سورة التحريم (66) : الآيات 9 إلى 12]

و «فَعُول» من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف. تقول: رجل صبور، وشكور. ومن قرأ بالضم، فمعناه: ينصحون فيها نصوحاً، يقال: نصحت له نصحاً، ونصاحة، ونصوحاً. وقال غيره: من ضم أراد: توبة نُصْحٍ لأنفسكم. وقال عمر بن الخطاب: التوبة النصوح: أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدِّث نفسه أنَّه لا يعود. وسئل الحسن البصري عن التوبة النصوح، فقال: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود. وقال ابن مسعود: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، ثم قرأ هذه الآية. قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ قد بيَّنا معنى «الخزي» في آل عمران «1» وبيَّنا معنى قوله عزّ وجلّ: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ في الحديد «2» يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يُطفأ سألوا الله تعالى أن يتمم لهم نورهم، ويبلِّغهم به الجنة. قال ابن عباس: ليس أحد من المسلمين إِلا يعطى نوراً يوم القيامة. فأما المنافق فيُطفَأ نورُه، والمؤمن مُشْفِق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهم يقولون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا. [سورة التحريم (66) : الآيات 9 الى 12] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) قوله عزّ وجلّ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ قد شرحناه في براءة «3» . قوله عزّ وجلّ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ قال المفسرون منهم مقاتل: هذا المثل يتضمّن تخويف عائشة وحفصة أنهما إن أغضبتا ربّهما لم يغن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهما شيئاً. قال مقاتل: اسم امرأة نوح «والهة» وامرأة لوط «واهلة» . قوله عزّ وجلّ: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ: نوحاً ولوطاً عليهما السلام فَخانَتاهُما. (14777) قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدِّين، كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف، فإذا نزل بلوط ضيفٌ بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت لتعلم قومه أنه قد نزل به ضيف. وقال السّدّيّ: كانت خيانتهما: كفرهما.

_ أخرجه الحاكم 2/ 496 والطبري 34461 و 34462 و 34464 من طرق عن ابن عباس، وهو صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

وقال الضحاك: نميمتهما، وقال ابن السائب: نفاقهما. قوله عزّ وجلّ: فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أي: يدفعا عنهما من عذاب الله شيئاً. وهذه الآية تقطع طمع مَن ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره. ثم أخبر أن معصية الغير لا تضرّ المطيع بقوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ وهي آسية بنت مزاحم. وقال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذّر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما. ثم ضرب لهما هذا المثل يرغبهما في التمسك بالطاعة. وكانت آسية قد آمنت بموسى. قال أبو هريرة: ضرب فرعون لامرأته أوتاداً في يديها ورجليها، وكانوا إذا تفرَّقوا عنها أظلتها الملائكة، فقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها، قوله: وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ فيه قولان: أحدهما: أن عمله: جِمَاعُهُ. والثاني: أنه دينه رويا عن ابن عباس، قوله: وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني أهل دينه المشركين. قوله عزّ وجلّ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها قد ذكرنا فيه قولين في سورة الأنبياء «1» فمن قال: هو فرج ثوبها، قال «الهاء» في قوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيهِ ترجع إليه، وذلك أن جبريل مَدَّ جيب درعها، فنفخ فيه، ومن قال: هو مخرج الولد، قال: «الهاء» كناية عن غير مذكور، لأنه إنما نفخ في درعها لا في فرجها. قوله عزّ وجلّ: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وفيه قولان: أحدهما: أنه قول جبريل إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ «2» . والثاني: الكلمات هي التي تضمنَّتها كتب الله المنزلة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو مجلز، وعاصم الجحدري «بكلمةِ ربها» على التوحيد وَكُتُبِهِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «وكتابِهِ» على التوحيد، وقرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وخارجة عن نافع «وكُتُبه» جماعة، وهي التي أنزلت على الأنبياء، ومن قرأ «وكتابه» فهو اسم جنس على ما بيَّنَّا في خاتمة البقرة «3» وقد بيّنّا فيها القنوت مشروحا «4» . ومعنى الآية وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ، ولذلك لم يقل: من القانتات.

_ (1) الأنبياء: 92. (2) مريم: 19. (3) البقرة: 285. (4) البقرة: 116.

سورة الملك

سورة الملك وهي مكيّة كلّها بإجماعهم (1478) قال ابن مسعود: هي المانعة من عذاب القبر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) قوله عزّ وجلّ: تَبارَكَ قد شرحناه في الأعراف «1» . قوله عزّ وجلّ: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ قال ابن عباس: يعني: السّلطان يعزّ ويذلّ. قوله عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قال الحسن: خلق الموت المزيل للحياة، والحياة التي

_ أخرجه الطبراني 10254 عن ابن مسعود قال: «كنا نسميها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المانعة» وقال الهيثمي 7/ 127- 128: رجاله ثقات اه وصححه الحاكم 2/ 468 ووافقه الذهبي. وأخرجه النسائي في «اليوم والليلة» 716. وورد من حديث ابن عباس مرفوعا: أخرجه الترمذي 2890 والبيهقي في «الدلائل» 7/ 41 من حديث ابن عباس، وضعفه الترمذي بقوله: غريب من هذا الوجه، وكذا ضعفه البيهقي فقال: تفرد به يحيى بن عمرو النكري، وهو ضعيف. وأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا وتفرد ابن مردويه به يدل على وهنه. وانظر «تفسير الشوكاني» 2559 و 2560 بتخريجنا.

هي ضدّ الموت «1» قوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قد شرحناه في هود «2» ، قال الزجاج: والمعلَّق ب أَيُّكُمْ مضمر تقديره: ليبلوكم، فيعلم أيُّكم أحسن عملاً وهذا علم وقوع. وارتفعت «أي» بالابتداء، ولا يعمل فيها ما قبلها، لأنها على أصل الاستفهام، ومثله أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى «3» . والمعنى: خلق الحياة ليختبركم فيها. وخلق الموت ليبعثَكم ويجازيَكم. وقال غيره: اللام في «ليبلوَكم» متعلق بخلق الحياة دون خلق الموت، لأن الابتلاء بالحياة. قوله: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي: خلقهنَّ مطابقات، أي: بعضها فوق بعض ما تَرى يا ابن آدم فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ قرأ حمزة والكسائي: «من تفوُّت» بتشديد الواو من غير ألف. وقرأ الباقون بألف. قال الفراء: وهما بمنزلة واحدة، كما تقول: تعاهدت الشيء وتعهَّدته والتفاوت: الاختلاف. وقال ابن قتيبة: التفاوت: الاضطراب والاختلاف وأصله من الفوت وهو أن يفوت شيء شيئاً، فيقع الخلل، ولكنه متصل بعضه ببعض. قوله عزّ وجلّ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ كرِّر البصر هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ وقرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي «هل ترى» بإدغام اللام في التاء، أي: هل ترى فيها فروجا وصدوعا. قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي: مرَّةً بعد مرَّة يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً قال ابن قتيبة: أي: مبعداً، من قولك: خسأتُ الكلب: إذا باعدتَه وَهُوَ حَسِيرٌ أي: كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه. وقال الزجاج: قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا. قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ قد شرحناه في حم السّجدة «4» . قوله: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ أي: يرجم بها مسترقو السّمع. وقد سبق بيان هذا المعنى «5» وَأَعْتَدْنا لَهُمْ: في الآخرة عَذابَ السَّعِيرِ وهذا وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً أي: صوتاً مثل صوت الحمار. وقد بينا معنى الشهيق في هود «6» وَهِيَ تَفُورُ أي: تغلي بهم كغلي المِرْجَل تَكادُ تَمَيَّزُ أي: تتقطَّع من تَغَيُّظها عليهم كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ أي: جماعة منهم سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ وهذا سؤال توبيخ. قوله عزّ وجلّ: إِنْ أَنْتُمْ أي: قلنا للرسل: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: في ذهاب عن الحق بعيد. قال الزجاج: ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أي: سماع من يعي ويفكّر أَوْ نَعْقِلُ

_ (1) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 181: قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قيل: المعنى خلقكم للموت والحياة، يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة وقدّم الموت على الحياة، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم. قال العلماء: الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار، والحياة عكس ذلك. قلت: وفي التنزيل قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ السجدة: 11 وقال: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ [الأنفال: 50] وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم. وهو سبحانه المميت على الحقيقة. (2) هود: 7. (3) الكهف: 12. (4) فصلت: 12. (5) الحجر: 18. (6) هود: 106.

[سورة الملك (67) : الآيات 12 إلى 15]

عقل من يُميِّز وينظر ما كُنَّا من أهل النار فَسُحْقاً. وهو منصوب على المصدر، المعنى: أسحقهم الله سحقاً، أي: باعدهم الله من رحمته مباعدة، والسحيق: البعيد. وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «فسحقاً» أي: بُعْدَاً. وقال سعيد بن جبير، وأبو صالح: السُّحق: وادٍ في جهنّم يقال له: سحق. [سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ قد شرحناه في سورة الأنبياء «1» لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وهو: الجنة. ثم عاد إلى خطاب الكفّار، فقال عزّ وجلّ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيخبره جبريل بما قالوا، فيقول بعضهم: أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمّد «2» . قوله عزّ وجلّ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي: ألا يعلم ما في الصدور خالقها؟! واللَّطِيفُ مشروح في الأنعام «3» والْخَبِيرُ في سورة البقرة «4» . قوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا أي: مُذَلَّلةً سَهْلَةَ لم يجعلها ممتنعة بالحُزُونَة والغِلَظ. قوله عزّ وجلّ: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها فيه ثلاثة أقوال: أحدها: طرقاتها، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: جبالها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، واختاره الزجاج، قال: لأن المعنى: سهل لكم السلوك فيها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها، فهو أبلغ في التذليل. والثالث: في جوانبها، قاله مقاتل، والفراء، وأبو عبيدة، واختاره ابن قتيبة، قال: ومنكبا الرّجل: جانباه. قوله عزّ وجلّ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي: إليه تُبْعَثُون من قبوركم. [سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 19] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) ثم خوف الكفار فقال: أَأَمِنْتُمْ قرأ ابن كثير: «وإليه النشور أأمنتم» وقرأ نافع، وأبو عمرو:

_ (1) الأنبياء: 49. (2) عزاه المصنف لابن عباس، وكذا الواحدي في «الأسباب» 835. ساقه بدون إسناد، وهو باطل، فإن سباق الآيات وسياقها يدل على أن المراد بالآية المؤمنون. [.....] (3) الأنعام: 103. (4) البقرة: 234.

[سورة الملك (67) : الآيات 20 إلى 27]

«النشور آمنتم» بهمزة ممدودة. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «أأمنتم» بهمزتين، مَنْ فِي السَّماءِ قال ابن عباس: أمنتم عذاب مَنْ في السماء، وهو الله عزّ وجلّ؟! وتَمُورُ بمعنى: تدور. قال مقاتل: والمعنى: تدور بكم إلى الأرض السّفلى. قوله عزّ وجلّ: أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وهي: الحجارة، كما أرسل على قوم لوط فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي: كيف كانت عاقبة إِنذاري لكم في الدنيا إذا نزل بكم العذاب وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كفار الأمم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي: إنكاري عليهم بالعذاب. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي: تصفُّ أجنحتها في الهواء، وتقبض أجنحتها بعد البسط، وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط ما يُمْسِكُهُنَّ أن يقعن إِلَّا الرَّحْمنُ. [سورة الملك (67) : الآيات 20 الى 27] أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قوله عزّ وجلّ: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ هذا استفهام إنكار. ولفظ «الجُنْدِ» مُوحَّد، فلذلك قال عزّ وجلّ: «هذا الذي هو» والمعنى: لا جُنْدَ لكم يَنْصُرُكُمْ أي: يمنعكم من عذاب الله إن أراده بكم، إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ وذلك أن الشيطان يغرُّهم، فيقول: إن العذاب لا ينزل بكم، أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ المطر وغيرَه إِنْ أَمْسَكَ الله ذلك عنكم بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ أي: تمادٍ في كفر وَنُفُورٍ عن الإيمان. ثم ضرب مثلاً، فقال عزّ وجلّ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ قال ابن قتيبة: أي لا يبصر يميناً، ولا شمالاً ولا من بين يديه. يقال: أكبّ الله فلانا على وجهه، بالألف، وكبَّه الله لوجهه، وأراد: الأعمى. قال المفسرون: هذا مثل للمؤمن، والكافر، و «السويُّ» : المعتدل، أي: الذي يبصر الطريق. وقال قتادة: هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مُكِبّاً على وجهه، والمؤمن يمشي سوياً. قوله عزّ وجلّ: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ فيه قولان: أحدهما: أنهم لا يشكرون، قاله مقاتل: والثاني: أنهم يشكرون قليلا، قاله أبو عبيدة. قوله عزّ وجلّ: ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: خلقكم وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون الوعد: بالعذاب فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً أي: رأوا العذاب قريباً منهم سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا قال الزجاج: أي: تبين فيها السُّوءُ. وقال غيره: قُبِّحْت بالسواد وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ فيه قولان: أحدهما: أنَّ «تدَّعون» بالتشديد، بمعنى تدعون بالتخفيف، وهو «تفتعلون» من الدعاء. يقال: دعوت، وادَّعيت، كما يقال: خَبَرْتُ وَاخْتَبَرْتُ، ومثله: يدّكرون، ويذكرون، هذا قول الفراء، وابن قتيبة. والثاني: أن المعنى: هذا الذي كنتم من أجله تَدَّعون الأباطيلَ والأكاذيبَ، تَدَّعون أنكم إِذا مُتُّم لا تُبْعَثُون؟! وهذا اختيار الزجاج.

[سورة الملك (67) : الآيات 28 إلى 30]

وقرأ أبو رزين، والحسن، وعكرمة، وقتادة والضحاك، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «تَدْعون» بتخفيف الدال، وسكونها، بمعنى تَفْعَلون من الدعاء. وقال قتادة: كانوا يدعون بالعذاب. [سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) قوله عزّ وجلّ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ بعذاب وَمَنْ مَعِيَ من المؤمنين «1» . قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «معيَ» بفتح الياء. وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي: «معي» بالإسكان أَوْ رَحِمَنا فلم يعذِّبْنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ أي يمنعهم ويؤمِّنُهم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ومعنى الآية: إنا مع إيماننا، بين الخوف والرّجاء: فمن يجيرُكم مع كفركم من العذاب؟! أي: لأنه لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ الذي نعبُدُ فَسَتَعْلَمُونَ وقرأ الكسائي: «فسيعلمون» بالياء عند معاينة العذاب مَن الضالُّ نحن أم أنتم. قوله عزّ وجلّ: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً قد بيَّنَّاه في الكهف «2» فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي: بماءٍ ظاهر تراه العيون، وتناله الأرشية.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 471: يقول الله تعالى: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي: خلّصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنّكال، فسواء عذّبنا الله أو رحمنا، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم. ثم قال: قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا كما قال: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ثم قال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي: ذاهبا في الأرض إلى أسفل، فلا ينال بالفؤوس الحداد، ولا السواعد الشداد، والغائر عكس النابع. ولهذا قال: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي: نابع وسائح جار على وجه الأرض، أي: لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل. فمن فضله وكرمه أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض، بحسب ما يحتاج العباد إليه، من القلة والكثرة، فله الحمد والمنّة. (2) الكهف: 41.

سورة القلم

سورة القلم وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم إلّا ما حكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها من المدني قوله عزّ وجلّ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله عزّ وجلّ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) قوله عزّ وجلّ: ن قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص: نْ وَالْقَلَمِ النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة عند الواو، وهذا اختيار الفراء. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان لا يُبين النون من «نون» . وبها قرأ الكسائي، وخلف، ويعقوب، وهو اختيار الزجاج. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والأعمش: «نونِ والقلم» بكسر النون وقرأ الحسن، وأبو عمران، وأبو نهيك: «نُ والقلم» برفع النون.. وفي معنى (نون) سبعة أقوال «1» : أحدها: أنها الدواة. (1479) روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النّون،

_ صدره قوي بشواهده، وعجزه باطل. أخرجه ابن عدي 6/ 269 من طريق محمد بن وهب عن الوليد بن مسلم به، وأعله بمحمد بن وهب، وحكم ببطلانه، ووافقه الذهبي في «الميزان» 4/ 61. وأخرجه الآجري في «الشريعة» 358 من طريق الحسن بن يحيى الخشني عن الحسين أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ضعيف لضعف الحسن بن يحيى الخشني، وكذا ذكره ابن كثير في «تفسيره» 4/ 428 من هذا الوجه ونسبه لابن أبي حاتم وقال: غريب جدا. ولقوله «أول ما خلق الله القلم» شواهد كثيرة والمنكر فيه لفظ «النون وهي الدواة» ويشهد لصدره حديث عبادة بن الصامت: أخرجه أبو داود 4700 والترمذي 2156 وأحمد 5/ 317 والآجري 359. وحديث ابن عباس: أخرجه أبو يعلى 2329 والبيهقي 9/ 3 وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 190 وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات. وانظر «الجامع لأحكام القرآن»

وهي الدواة» وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير، وبه قال الحسن وقتادة. والثاني: أنه آخر حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنه الحوت الذي على ظهر الأرض، وهذا المعنى في رواية أبي ظبيان عن ابن عباس، وهو مذهب مجاهد، والسّدّيّ، وابن السّائب «1» . والرابع: أنه لَوْح من نور، قاله معاوية بن قرّة. والخامس: أنه افتتاح اسمين «نصير» ، و «ناصر» قاله عطاء. والسادس: أنه قَسَم ٌبِنُصْرَةِ الله للمؤمنين، قاله القرظي. والسابع: أنه نهر في الجنة، قاله جعفر الصادق. وفي «القلم» قولان «2» : أحدهما: أنه الذي كتب به في اللوح المحفوظ. والثاني: أنه الذي يكتب به الناس. وإنما أقسم به، لأن كتبه إنما تكتب ويَسْطُرُونَ بمعنى: يكتبون. وفي المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة. وفيما أرادوا بما يكتبونه قولان: أحدهما: أنه الذّكر، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: أعمال بني آدم، قاله مقاتل. والقول الثاني: أنهم جميع الكتبة، حكاه الثّعلبيّ، قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أي: ما أنت بِإنْعامِ ربِّك عليك بالإيمان والنُّبوَّة بمجنون. قال الزجاج: هذا جواب قولهم: إنك لمجنون. وتأويله: فارقك الجنون بنعمة الله. قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّ لَكَ بصبرك على افترائهم عليك. ونسبتهم إيّاك إلى الجنون لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع ولا منقوص، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فيه ثلاثة أقوال «3» : أحدها: دين الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: أدب القرآن، قاله الحسن. والثالث: الطبع الكريم. وحقيقة «الخُلُق» : ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، فسمي خُلُقاً، لأنه يصير كالخِلْقة في صاحبه. فأما ما طبع عليه فيسمى: «الخِيم» فيكون الخِيم: الطبع الغريزي. والخُلُق: الطبع المُتكلَّف. هذا قول الماوردي. (1480) وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: كان خُلُقُه القرآن. تعني: كان على ما أمره الله به في القرآن.

_ 6064 و 6065 و «أحكام القرآن» 2168. الخلاصة: هو باطل بهذا اللفظ، وذكر القلم قوي له شواهد. صحيح. أخرجه مسلم 746 وأبو داود 1342 و 1343 وعبد الرزاق 4714 و 4751 من حديث عائشة مطولا. وأخرجه الحاكم 2/ 392 من حديث عائشة بلفظ: أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن: قد أفلح المؤمنون.

[سورة القلم (68) : الآيات 8 إلى 16]

قوله عزّ وجلّ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ يعني: أهل مكة. وهذا وعيد لهم بالعذاب. والمعنى: سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب بِبَدْرٍ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ وفيه أربعة أقوال: أحدها: الضالُّ، قاله الحسن. والثاني: الشيطان، قاله مجاهد. والثالث: المجنون، قاله الضحاك. والمعنى: الذي قد فتن بالجنون. والرابع: المعذَّب، حكاه الماوردي. وفي الباء قولان: أحدهما: أنها زائدة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. وأنشدوا: نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الفَلَجْ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْف وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ «1» والثاني: أنها أصلية، وهذا قول الفراء، والزجاج. قال الزجاج: ليس كونها لغواً بجائز في العربية في قول أحد من أهلها. وفي الكلام قولان للنحويين: أحدهما: أن «المفتون» هاهنا: الفتون. والمصادر تجيء على المفعول. تقول العرب: ليس هذا معقود رأي، أي: عقد رأي، تقول: دعه إلى ميسوره، أي: يسره. والمعنى: بأيكم الجنون. والثاني: بأيكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها، أم بفرقة الكفار؟ فيكون المعنى: في أي الفرقتين المجنون. وقد ذكر الفراء نحو ما شرحه الزجاج. وقد قرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: «في أي المفتون» . ثم أخبر أنه عالم بالفرقتين بما بعد هذا. [سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 16] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) قوله عزّ وجلّ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وذلك أن رؤساء أهل مكة دَعَوْه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ فيه سبعة أقوال «2» : أحدها: لو ترخص فيرخصون، قاله ابن عباس.

_ (1) البيت لراجز من بني جعدة، كما في «مجاز القرآن» 2/ 5 و «الخزانة» 4/ 160 والفلج: موضع بنجد. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 182: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلبون لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ وإنما هو مأخوذ من الدهن شبّه التليين في القول بتليين الدهن. وقال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 305: وقال أهل اللغة: الإدهان هو التلبيس، معناه: ودوا لو تلبس إليهم في عملهم وعقدهم فيميلون إليك. وحقيقة الإدهان إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة أي مدافعة. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنه استأذن على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة هو، أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول! فقال لي: «يا عائشة، إن شر الناس منزلة من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه» . قلت: حديث صحيح. أخرجه البخاري 6054 و 6131 ومسلم 2591 وأبو داود 4791 والترمذي 1996 وأحمد 6/ 38 والحميدي 249 وابن حبان 4538 والبيهقي 10/ 345 والبغوي 3563 من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة بن الزبير عن عائشة به.

والثاني: لو تُصَانِعُهم في دِينك فَيَصانِعون في دينهم، قاله الحسن. والثالث: لو تكفر فيكفرون، قاله عطية، والضحاك، ومقاتل. والرابع: لو تَلِينُ لهم فيلينون لك، قاله ابن السائب. والخامس: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون، قاله زيد بن أسلم. والسادس: ودُّوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم. وكانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مُدَّة، ويعبدوا الله مدة، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: هو من المداهنة. والسابع: لو تقاربهم فيقاربوك، قاله ابن كيسان. قوله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ وهو كثير الحلف بالباطل مَهِينٍ وهو الحقير الدنيء. وروى العوفي عن ابن عباس قال: المَهين: الكذَّاب. واختلفوا فيمن نزل هذا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: الأخنس بن شريق، قاله عطاء، والسدي. والثالث: الأسود بن عبد يغوث، قاله مجاهد. قوله عزّ وجلّ: هَمَّازٍ قال ابن عباس: هو المغتاب. وقال ابن قتيبة: هو العيّاب. قوله عزّ وجلّ: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهو نقل الكلام السيء من بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم «1» ، قوله: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ فيه قولان: أحدهما: أنه منع ولده وعشيرته الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: مَنَّاعٍ للحقوق في ماله، ذكره الماوردي. قوله عزّ وجلّ: مُعْتَدٍ أي ظلوم أَثِيمٍ فاجر عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ أي مع ما وصفناه به. وفي «العُتُلِّ» سبعة أقوال: أحدها: أنه العاتي الشديد المنافق، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الموفر الجسم، قاله الحسن. والثالث: الشديدُ الأَشِرُ، قاله مجاهد. والرابع: القويُّ في كفره، قاله عكرمة. والخامس: الأكول الشروب القوي الشديد، قاله عبيد بن عمير. والسادس: الشديد الخصومة بالباطل، قاله الفراء. والسابع: أنه الغليظ الجافي، قاله ابن قتيبة. وفي «الزنيم» أربعة أقوال «2» : أحدها: أنه الدَّعيُّ في قريش وليس منهم، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا معروف في اللغة أنّ الزّنيم: هو الملصق في القوم وليس منهم، وبه قال الفراء، وأبو عبيدة وابن قتيبة. قال حسان: وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آل هَاشِمٍ ... كما نِيطَ خلف الرّاكب القدح الفرد

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 476: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يعني: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقبرين قال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة» . وقال الزمخشري في «الكشاف» 4/ 591: حَلَّافٍ كثير الحلف في الحقّ والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومثله قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] مَهِينٍ من المهانة وهي القلة والحقارة، يريد القلة في الرأي والتمييز. أو أراد الكذاب لأنه حقير عند الناس هَمَّازٍ عياب طعان، وعن الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مضرب نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم. والنميم والنميمة: السعاية. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 478: الأقوال في هذا كثيرة وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو: المشهور بالشر الذي يعرف به من بين الناس، وغالبا يكون دعيّا ولد زنا، فإنه في الغالب يتسلّط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره.

[سورة القلم (68) : الآيات 17 إلى 41]

والثاني: أنه الذي يعرف بالشَّرِّ، كما تعرف الشاة بِزَنَمتها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: أنه الذي له زَنَمة مثل زنمة الشاة. وقال ابن عباس: نُعت فلم يعرف حتى قيل: زنيم، فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها. ولا يعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه من ذكر عيوب الوليد، لأنه وصف بالحلف، والمهانة، والعيب للناس، والمشي بالنميمة، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدِّعوة، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة، قال الزّجّاج: والزَّنَمَتان: المعلقتان عند حلوق المعزى. وقال ابن فارس: هي التي تتعلق من أذنها. والرابع: أنه الظلوم، رواه الوالبيّ عن ابن عباس. قوله عزّ وجلّ: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم: «أن كان» على الخبر، أي: لأن كان. والمعنى لا تطعه لماله وبنيه. وقرأ ابن عباس بهمزتين، الأولى: مخففة. والثانية: ملينة، وفصل بينهما بألف أبو جعفر. وقرأ حمزة: «أأن كان» بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وله وجهان: أحدهما: ألأن كان ذا مال تطيعه؟ -! والثاني: ألأن كان ذا مال وبنين؟! إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا يكفر بها؟ فيقول: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ذكر القولين الفراء. وقرأ ابن مسعود: «أن كان» بهمزة واحدة مقصورة. ثم أوعده فقال عزّ وجلّ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ الخرطوم: الأنف. وفي هذه السِّمة ثلاثة أقوال: أحدها: سنسمه بالسيف، فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، فقاتل يوم بدر فخطم بالسيف، قاله ابن عباس. والثاني: سنُلْحق به شيئاً لا يفارقه، قاله قتادة، واختاره ابن قتيبة. والثالث: أن المعنى: سَنُسَوِّد وجهه. قال الفراء: و «الخرطوم» وإِن كان قد خص بالسِّمة، فإنه في مذهبٍ الوجه، لأن بعض الوجه يؤدِّي عن البعض. وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم. وجائز- والله أعلم- أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يتبيّن بها عن غيره. [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 41] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) قوله عزّ وجلّ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يعني: أهل مكة، أي: ابتليناهم بالجوع، والقحط كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ حين هلكت جنّتهم.

وهذه الإشارة إلى قصتهم

وهذه الإشارة إِلى قصتهم «1» ذكر أهل التفسير أن رجلاً كان بناحية اليمن له بستان، وكان مؤمنا. وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته، وكان يتصدّق بالباقي. وقيل: كان يترك للمساكين ما تعدَّاه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدّباس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاثة بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإِنما كان أبونا يفعل هذا إذْ كان المال كثيراً، والعيال قليلاً، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا. فعزموا على حرمان المساكين، وتحالفوا بينهم ليغدون قبل خروج الناس، فليصرمُنَّ نخلهم، فذلك قوله عزّ وجلّ: إِذْ أَقْسَمُوا أي: حلفوا لَيَصْرِمُنَّها أي: ليقطعنّ نخلهم مُصْبِحِينَ أي: في أول الصباح. وقد بقيت من الليل ظُلمة لئلا يبقى للمساكين شيء. وفي قوله عزّ وجلّ: وَلا يَسْتَثْنُونَ قولان: أحدهما: لا يقولون: إن شاء الله، قاله الأكثرون. والثاني: لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ أي: من أمر ربك. قال الفراء: الطائف لا يكون إلا بالليل. قال المفسرون: بعث الله عليها ناراً بالليل، فاحترقت، فصارت سوداء، فذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: كالرَّماد الأسود، قاله ابن عباس. والثاني: كالليل المسودّ، قاله الفراء. وكذلك قال ابن قتيبة: أصبحت سوداء كالليل محترقة. والليل: هو الصريم، والصبح أيضاً: صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه. والثالث: أصبحت قد ذهب ما فيها من الثمر، فكأنه قد صرم، أي: قطع، وجُذَّ حكاه ابن قتيبة أيضا. قوله عزّ وجلّ: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي: نادى بعضهم بعضاً لما أصبحوا أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ يعني: الثمار والزروع والأعناب إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي: قاطعين للنخل، فَانْطَلَقُوا أي: ذهبوا إلى جنَّتهم وَهُمْ يَتَخافَتُونَ قال ابن قتيبة: يتشاورون ب أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ. قوله: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ فيه ثمانية أقوال: أحدها: على قدرة، قاله ابن عباس. والثاني: على فاقة، قاله الحسن في رواية. والثالث: على جد، قاله الحسن في رواية، وقتادة، وأبو العالية، والفراء! ومقاتل. والرابع: على أمر مجمع قد أسَّسوه بينهم، قاله مجاهد، وعكرمة. والخامس: أنّ الحرد، اسم الجنّة،

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 210: قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جدّ ثمره أن يواسي منها من حضره، وذلك معنى قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام: 141] وأنه غير الزكاة. وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصادون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. وقيل: إنما نهى عن ذلك خشية الحياة وهوام الأرض. قلت: الأول أصح، والثاني: حسن، وإنما قلنا الأول أصح لأن العقوبة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. وفي هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظير هذه الآية، قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] وفي الصحيح: عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» متفق عليه. اه.

قاله السدي. والسادس: أنه الحنَق والغضب على المساكين، قاله الشعبي، وسفيان، وأنشد أبو عبيدة: أُسُودُ شَرَىً لاَقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ ... تَسَاقَوْا على حَرْدٍ دِمَاءَ الأَسَاوِدِ «1» والسابع: أنه المنع، مأخوذ من حارَدَتِ السَّنَة فليس فيها مطر، وحاردت الناقة فليس لها لبن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثامن: أنه القصد. يقال: حَرَدْتُ حَرْدَكَ، أي: قَصَدْتُ قَصْدَكَ، حكاه الفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وأنشدوا: قَدْ جَاءَ سَيْلٌ كَانَ مِنْ أَمْرِ اللهْ ... يَحْرُدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّةْ أي: يقصد قصدها. قال ابن قتيبة: وفيها لغتان: حَرَدٌ، وحَرْدٌ، كما يقال: الدَّرَك، والدّرك. وقوله: قادِرِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: قادرين على جَنَّتهم عند أنفسهم، قاله قتادة. والثاني: قادرين على المساكين، قاله الشعبي. والثالث: أن المعنى: منعوا وهم قادرون، أي: واجدون، قاله ابن قتيبة، قوله: فَلَمَّا رَأَوْها محترقة قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أي: قد ضللنا طريق جَنَّتنا، فليست هذه. ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: حرمنا ثمر جنّتنا بمنعنا المساكين قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم، وأفضلهم لَوْلا أي: هلاَّ تُسَبِّحُونَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: هلا تَسْتَثْنُون عند قولكم: لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ قاله ابن جريج والجمهور. والمعنى: هلاَّ قلتم: إن شاء الله. قال الزجاج: وإنما قيل للاستثناء: تسبيح، لأنّ التسبيح في اللغة: تنزيه الله عزّ وجلّ عن السوء. والاستثناء تعظيم لله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلاً إلا بمشيئة الله. والثاني: أنه كان استثناؤهم قول: «سبحان الله» قاله أبو صالح. والثالث: هلا تسبِّحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم، حكاه الثعلبي. وقوله تعالى: قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا فنزَّهوه أن يكون ظالماً فيما صنع، وأقرُّوا على أنفسهم بالظلم فقالوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بمنعنا المساكين فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي: يلوم بعضهم بعضاً في منع المساكين حقوقهم. يقول هذا لهذا: أَنْتَ أَشَرْتَ علينا. ويقول الآخر: أنت فَعَلْتَ، ثم نادَوْا على أنفسهم بالويل، فقالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ حين لم نصنع ما صنع آباؤنا، ثم رجعوا إِلى الله تعالى فسألوه أن يبدِّلهم خيراً منها، فذلك قوله: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها. وقرأ قوم: «يبدِلنا» بالتخفيف، وهما لغتان. وفرَّق قوم بينهما، فقالوا: التبديل: تغيير حال الشيء وصفته والعين باقية. والإبدال: إزالة الشيء ووضع غيره مكانه. ونقل أن القوم أخلصوا، فبدَّلهم الله جنَّةً العنقودُ منها وقر بغل «2» . قوله عزّ وجلّ: كَذلِكَ الْعَذابُ ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا. وهاهنا قصة أهل الجنّة. ثم قال عزّ وجلّ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني: المشركين. ثم ذكر ما للمتقين عنده بما بعد هذا، فقال المشركون: إنا لنُعْطى في الآخرة أفضل ممّا يعطون، فقال تعالى مكذِّباً لهم: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ قال الزجاج: هذه ألف الاستفهام مجازها هاهنا مجاز التوبيخ والتقرير. قوله عزّ وجلّ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي: كيف تقضون بالجَوْرِ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ أُنْزِلَ من عند الله فِيهِ هذا تَدْرُسُونَ أي: تقرؤون ما فيه إِنَّ لَكُمْ في ذلك الكتاب لَما تَخَيَّرُونَ أي: ما تختارون وتشتهون. وقرأ أبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: «أن لكم» بفتح الهمزة. وهذا تقريع

_ (1) البيت للأشهب بن رميلة الذي كان يهاجي الفرزدق، كما في «الكامل» للمبرد 438 و «الخزانة» 2/ 508. [.....] (2) وقر بغل: حمل بغل.

[سورة القلم (68) : الآيات 42 إلى 47]

لهم، وتوبيخ على ما يتمنَّوْن من الباطل، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ أي: ألكم عهود على الله تعالى حلف لكم على ما تَدَّعُونَ بأَيْمانٍ بالغةٍ، أي: مُؤكَّدةٍ. وكل شيء متناهٍ في الجودة والصحة فهو بالغ. ويجوز أن يكون المعنى: بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأَيمان إلى يوم القيامة في لزومها وتوكيدها إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله تعالى. قال الفراء: والقرَّاء على رفع «بالغة» إلّا الحسن فإنه ينصبها على مذهب المصدر، كقوله عزّ وجلّ: حَقًّا. ومعنى الآية: هل لكم أيمان علينا بالغة بأنّ لكم ما تحكمون؟! لمّا كانت اللام في جواب «إن» كسرتَها. قوله عز وجل: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الكفيل، قاله ابن عباس، وقتادة. والمعنى: أيُّهُمْ كفل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير. والثاني: أنه الرسول، قاله الحسن. قوله عزّ وجلّ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى، والمعنى: ألهم أرباب يفعلون بهم هذا الذي زعموا. وقيل: يشهدون لهم بصدق ما ادَّعَوْا فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أنها شركاء لله. وإنما أضيف الشرك إليهم لادّعائهم أنهم شركاء لله. [سورة القلم (68) : الآيات 42 الى 47] يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) يَوْمَ يُكْشَفُ المعنى: فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق. قرأ الجمهور: «يُكْشَفُ» بضم الياء، وفتح الشين. وقرأ ابن أبي عبلة، وعاصم الجحدريّ، وأبو الجوزاء، بفتح الياء، وكسر الشين. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس: «تكشف» بتاء مفتوحة، وبكسر الشين. وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وابن يعمر، والضحاك: «نَكشف» بنون مفتوحة مع كسر الشين. وهذا اليوم هو يوم القيامة. وقد روى عكرمة عن ابن عباس: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: يكشف عن شدّة، وأنشدوا: وَقَامَتْ الحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ وهذا قول مجاهد، وقتادة. قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إِلى معاناته والجدّ فيه، شمّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة، هذا قول الفراء وأبي عبيدة، واللغويين. وقد أضيف هذا الأمر إِلى الله تعالى. (1481) فروي في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «يكشف عن

_ صحيح. أخرجه البخاري 7439 و 4919 وابن حبان 7377 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 745 والبغوي في «شرح السنة» 4221 من حديث أبي سعيد. وأخرجه مسلم 183 من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم به مطوّلا. وأخرجه أحمد 3/ 16- 17 من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن زيد بن أسلم به

[سورة القلم (68) : الآيات 48 إلى 52]

ساقه» ، وهذا إضافة إليه، لأن الكل له وفعله. وقال أبو عمر الزّاهد: السّاق: يراد بها النّفس «1» ، ومنه قول عليّ رضي الله عنه: أقاتلهم ولو تلفت ساقي، أي: نفسي. فعلى هذا يكون المعنى: يتجلّى لهم. قوله تعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني: المنافقين فَلا يَسْتَطِيعُونَ كأن في ظهورهم سفافيد الحديد. قال النقاش: وليس ذلك بتكليف لهم أن يسجدوا، وهم عجزة، ولكنه توبيخ لهم بتركهم السجود خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي: خاضعةً تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي: تغشاهم وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني: بالأذان في دار الدنيا، ويُؤْمَرون بالصلاة المكتوبة وَهُمْ سالِمُونَ أي: معافَوْن ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد. وفي هذا وعيد لمن ترك صلاة الجماعة. وكان كعب يقول: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلَّفون عن الجماعات فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن. والمعنى: خَلِّ بيني وبينه. قال الزجاج: أي: لا تشغل قلبك به، كِلْه إليَّ فأنا أكفيك أمره. وذكر بعض المفسرين أن هذا القدر من الآية إلى قوله: «الحديث» منسوخ بآية السيف. وما بعد هذا مفسر في الأعراف «2» إِلى قوله عزّ وجلّ: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فإنها مفسّرة والتي تليها في الطّور «3» . [سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 52] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) قوله عزّ وجلّ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آتٍ. وقيل: معنى الأمر بالصبر منسوخ بآية السيف. قوله عزّ وجلّ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وهو يونس. وفي ماذا نُهِيَ أن يكون مثله قولان: أحدهما: أنه العجلة، والغضب، قاله قتادة. والثاني: الضعف عن تبليغ الرسالة، قاله ابن جرير. قال ابن الأنباري: وهذا لا يُخْرِجُ يونس من أولي العزم، لأنها خطيئة. ولو قلنا: إن كل مخطئ من الأنبياء ليس من أولي العزم، خرجوا كلهم إلا يحيى. ثم أخبر عن عقوبته إذ لم يصبر، فقال عزّ وجلّ: إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ قال الزجاج: مملوء غمّا وكربا. قوله عزّ وجلّ: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن أبي عبلة: «لولا أن تَداركتْه» بتاء خفيفة، وبتاءٍ ساكنة بعد الكاف مع تخفيف الدال. وقرأ أبو هريرة، وأبو المتوكل: «تَدَّاركه» بتاء واحدة خفيفة مع تشديد الدال. وقرأ أُبَيّ بن كعب: «تتداركه» بتاءين خفيفتين نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ فرحمه بها، وتاب عليه من معاصيه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ وقد بينا معنى «العَراء» في الصافات «4» . ومعنى الآية: أنه نبِذَ غيرَ مذموم لنعمة الله عليه بالتوبة والرحمة. وقال ابن جريج: نُبِذَ بالعراء، وهي أرض المحشر، فالمعنى: أنه كان يبقى مكانه إلى يوم القيامة فَاجْتَباهُ رَبُّهُ أي: استخلصه واصطفاه، وخلّصه

_ مطوّلا. وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 173 من طريق هشام بن سعد عن زيد به.

من الذم فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فردَّ عليه الوحي، وشفّعه في قومه ونفسه، قوله: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قرأ الأكثرون بضم الياء، من أزلقته، وقرأ أهل المدينة، وأبان بفتحها من زَلَقْتُه أزْلِقُهُ، وهما لغتان مشهورتان في العرب. قال الزجاج: يقال: زلق الرّجل رأسه أزلقه: إذا حلقه. وفي معنى الآية للمفسرين قولان «1» : (1482) أحدهما: أن الكفار قصدوا أن يصيبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالعين، وكان فيهم رجل يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل شيئاً، ثم يرفع جانب خبائه، فتمرُّ به النَّعم، فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها عدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالعين، فعصم الله نبيَّه، وأنزل هذه الآية، وهذا قول الكلبي، وتابعه قوم من المفسرين تلقَّفوا ذلك من تفسيره، منهم الفراء. والثاني: أنهم كانوا ينظرون إليه بالعداوة نظرا سديدا يكاد يُزْلِقُه من شدته، أي: يلقيه إلى الأرض. وهذا مستعمل في كلام العرب. يقول القائل: نظر إليَّ فلان نظراً كاد يصرعني. وأنشدوا: يَتَقَارضُون إذا التَقَوْا في مَوْطنٍ ... نَظَراً يزيل مواطئ الأَقْدَامِ أي: ينظر بعضهم إلى بعض نظراً شديداً بالعداوة يكاد يزيل الأقدام، وإلى هذا ذهب المحققون، منهم ابن قتيبة، والزجاج. ويدل على صحته أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله تعالى: لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ والقوم كانوا يكرهون ذلك أَشَدَّ الكراهة، فيُحِدُّون النظر إليه بالبغضاء. وإصابةُ العين، إنما تكون مع الإعجاب والاستحسان، لا مع البغض فلا يُظن بالكلبي أنه فهم معنى الآية. قوله: وَما هُوَ يعني: القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أي: موعظة.

_ عزاه المصنف للكلبي، وهو متهم بالكذب، فهذا خبر باطل، لا أصل له.

سورة الحاقة

سورة الحاقّة وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) الْحَاقَّةُ: القيامة. قال الفراء: إنما قيل لها: حاقة، لأن فيها حواق الأمور. وقال الزجاج: إنما سميت الحاقة، لأنها تحق كل إنسان بعمله من خير وشرّ. قوله عزّ وجلّ: مَا الْحَاقَّةُ هذا استفهام، معناه التفخيم لشأنها، كما تقول: زيد، ما زيد؟ على التعظيم لشأنه. ثم زاد في التهويل بأمرها، فقال عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي: لأنك لم تعاينها، ولم تدر ما فيها من الأهوال. ثم أخبر عن المكذّبين بها، فقال عزّ وجلّ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ قال ابن عباس: القارعة: اسم من أسماء يوم القيامة. قال مقاتل: وإنما سميت بالقارعة، لأن الله تعالى يقرع أعداءه بالعذاب. وقال ابن قتيبة: القارعة: القيامة لأنها تقرع، يقال: أصابتهم قوارع الدهر. وقال الزجاج: لأنها تقرع بالأهوال. وقال غيرهم: لأنها تقرع القلوب بالفزع. فأما بِالطَّاغِيَةِ ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها طغيانهم وكفرهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وأبو عبيدة وابن قتيبة. قال الزجاج: ومعنى الطاغية عند أهل اللغة: طغيانهم. و «فاعلة» قد يأتي بمعنى المصادر، نحو عاقبة، وعافية. والثاني: بالصيحة الطاغية، قاله قتادة. وذلك أنها جاوزت مقدار الصياح، فأهلكتهم. والثالث: أن الطاغية: عاقر الناقة، قاله ابن زيد. والريح الصرصر قد فسرناها في حم السجدة «1» . والعاتية: التي جاوزت المقدار. وجاء في التفسير أنها عَتَتْ على خُزَّانها يومئذ، فلم يكن لهم عليها سبيل.

_ (1) فصلت: 16.

قوله عزّ وجلّ: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ أي أرسلها وسلَّطها. والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار. وفي قوله عزّ وجلّ: حُسُوماً ثلاثة أقوال «1» : أحدها: تباعاً، قاله ابن عباس. قال الفراء: الحسوم: التِّباع، يقال في الشيء إذا تتابع فلم ينقطع أوله عن آخره: حسوم. وإِنما أُخِذَ- والله أعلم- من حَسْمِ الدَّاءِ: إذا كُوي صاحبُه، لأنه يحمى ثم يكوى، ثم يتابع الكي عليه. والثاني: كاملة، قاله الضحاك. فيكون المعنى: أنها حسمت الليالي والأيام فاستوفتها على الكمال، لأنها ظهرت مع طلوع الشمس، وذهبت مع غروبها. قال مقاتل: هاجت الريح غُدْوَةً، وسكنت بالعَشِيِّ في اليوم الثامن، وقبضت أرواحهم في ذلك اليوم، ثم بعث الله طيراً أسود فالتقطهم حتى ألقاهم في البحر. والثالث: أنها حسمتهم، فلم تبق منهم أحداً، أي: أذهبتهم وأفنتهم، هذا قول ابن زيد، قال الزّجّاج: وهذا هو الذي توجبه اللغة. قوله عزّ وجلّ: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها أي: في تلك الليالي والأيام صَرْعى وهو جمع صريع، لأنهم صرعوا بموتهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ أي: أصول نخل خاوِيَةٍ أي: بالية. وقد بيَّنَّا هذا في سورة القمر «2» . قوله عزّ وجلّ: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من بقاءٍ، قاله الفراء. والثاني: من بقية، قاله أبو عبيدة. قال: وهو مصدر كالطاغية. والثالث: هل ترى لهم من أثر؟ قاله ابن قتيبة، قوله: وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ قرأ أبو عمرو، ويعقوب، والكسائي، وأبان: بكسر القاف، وفتح الباء. والباقون: بفتح القاف، وإسكان الباء. فمن كسر القاف أراد به: من يليه ويَحفّ به من جنوده وأتباعه. ومن فتحها أراد من كان قبله من الأمم الكافرة. وفي «المؤتفكات» ثلاثة أقوال: أحدها: قرى قوم لوط. والمعنى: وأهل المؤتفكات، قاله الأكثرون. والثاني: أنهم الذين ائتفكوا بذنوبهم، أي: هلكوا بالذّنوب التي أعظمها الإفك، وهو الكذب، قاله الزجاج. والثالث: أنه قارون وقومه، حكاه الماوردي. قوله عزّ وجلّ: بِالْخاطِئَةِ قال ابن قتيبة: أي: بالذنوب، وقال الزجاج: الخاطئة: الخطأ العظيم فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي: كذَّبوا رسلهم فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً أي: زائدة على الأخذات، قوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي: تجاوز حدَّه حتى علا على كل شيء في زمن نوح حَمَلْناكُمْ يعني: حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم فِي الْجارِيَةِ وهي: السفينة التي تجري في الماء لِنَجْعَلَها أي: لنجعل تلك الفَعْلةَ التي فعلنا من إغراق قوم نوح، ونجاة من حملنا معه تَذْكِرَةً أي: عبرةً، وموعظةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ أي

_ (1) قال الزمخشري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602- 603: قوله تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. والصرصر: الشديدة الصوت لها صرصرة. وقيل الباردة من الصرّ، كأنها التي كرر فيها البرد وكثر: فهي تحرق لشدة بردها عاتِيَةٍ شديدة العصف والعتو استعارة، أو عتت على عاد، فما قدروا على ردّها بحيلة، من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء في حفرة. فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم والحسوم لا يخلو من أن يكون حاسم كشهود وقعود أو مصدرا كالشكور والكفور، فإن كان جمعا فمعنى قوله: حُسُوماً نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة، أو متتابعة هبوب الرياح: ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء. وتحسم حسوما: تستأصل استئصالا. (2) القمر: 20.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 إلى 37]

أذن واعية أي أُذُنٌ تحفظُ ما سمعَتْ، وتعمل به. وقال الفراء: لتحفظها كل أُذُن، فتكون عظة لمن يأتي بعده. [سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 37] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) قوله عزّ وجلّ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وفيها قولان: أحدهما: أنها النفخة الأولى، قاله عطاء. والثاني: الأخيرة، قاله ابن السّائب، ومقاتل. قوله: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي: حملت الأرض والجبال وما فيها فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أي: كسرتا، ودقَّتا دقَّةً واحدة، لا يثنى عليها حتى تستوي بما عليها من شيءٍ، فتصير كالأديم الممدود. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في الأعراف عند قوله عزّ وجلّ: جَعَلَهُ دَكًّا «1» . قال الفراء: وإنما قال: فدكتا، ولم يَقُل: فَدُكِكْنَ، لأنه جعل الجبال كالشيء الواحد، كقوله عزّ وجلّ: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً «2» وانشدوا: هُمَا سَيِّدَانَا يَزْعُمانِ وَإنَّما ... يَسُودَانِنَا أَنْ يَسَّرَتْ غَنَماهُما «3» والعرب تقول: قد يسرت الغنم: إذا ولدت، أو تهيّأت للولادة. قوله عزّ وجلّ: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي: قامت القيامة وَانْشَقَّتِ السَّماءُ لنزول من فيها من الملائكة فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ فيه قولان: أحدهما: أن وَهْيَها: ضَعْفُها وتمزُّقْها من الخوف، قاله مقاتل. والثاني: أنه تشققها، قاله الفراء: وَالْمَلَكُ يعني: الملائكة، فهو اسم جنس عَلى أَرْجائِها أي: على جوانبها. قال الزجاج: ورجاء كل شيء: ناحيته، مقصور. والتثنية: رجوان، والجمع: أرجاء. وأكثر المفسرين على أن المشار إليها السماء. قال الضحاك: إذا انشقت السماء كانت الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الله تعالى، فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بها، ومن عليها. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: على أرجاء الدنيا. قوله عز وجل: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ فيه ثلاثة أقوال «4» : أحدها: فوق رؤوسهم، أي: العرش

_ (1) الأعراف: 143. (2) الأنبياء: 30. (3) البيت لأبي أسيدة الدبيري، كما في «اللسان» يسبر-. (4) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 489: أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش، العرش العظيم، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب اه.

على رؤوس الحَمَلة، قاله مقاتل. والثاني: فوق الذين على أرجائها، أي: أن حملة العرش فوق الملائكة الذين هم على أرجائها. والثالث: أنهم فوق أهل القيامة، حكاهما الماوردي، يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة ثَمانِيَةٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ثمانية أملاك. (1483) وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله بأربعة أملاك آخرين، وهذا قول الجمهور. والثاني: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدّتهم إلا الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، وابن جبير، وعكرمة. والثالث: ثمانية أجزاء من الكروبيين لا يعلم عددهم إلا الله عزّ وجلّ، قاله مقاتل. (1484) وقد روى أبو داود في «سننه» من حديث جابر بن عبد الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن مَلَك من ملائكة الله من حملة العرش، أن ما بين شحمة أُذُنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» . قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ على الله لحسابكم لا تَخْفى عليه. قرأ حمزة، والكسائي: «لا يخفى» بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. والمعنى: لا يخفى عليه مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي: نفس خافية، أو فَعْلَة خافية. (1485) وفي حديث أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال، ومعاذير، وأما الثالثة، فعندها تتطاير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله، وكان عمر بن الخطاب يقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ لا تخفى منكم خافية. قوله: فَيَقُولُ هاؤُمُ قال الزّجّاج: «هاؤم» أمر للجماعة بمنزلة هاكم. تقول للواحد: ها يا رجل، وللاثنين: هاؤما يا رجلان. وللثلاثة: هاؤم يا رجال. قال المفسرون: إنما يقول هذا ثقة بسلامته وسروراً بنجاته. وذكر مقاتل أنها نزلت في أبي

_ ضعيف. أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» 148 والطبري 34793 من طريق محمد بن إسحاق قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... فذكره. وهذا معضل. وأخرجه البيهقي في «البعث والنشور» 669 والطبراني في «المطوّلات» 360 من حديث أبي هريرة في أثناء حديث الصور الطويل. وفي إسناده إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، قال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء اه. حسن. أخرجه أبو داود 4727 وابن طهمان في «مشيخته» 238/ 2 من حديث جابر، وإسناده حسن لأجل إبراهيم بن طهمان، فهو وإن روى له البخاري ومسلم، فقد تكلم فيه غير واحد. لكن لأصله شواهد. انظر «الصحيحة» 151. ضعيف. أخرجه أحمد 4/ 414 وابن ماجة 4277 والطبري 34795 عن الحسن عن أبي موسى، وإسناده ضعيف لانقطاعه بينهما، وأخرجه الترمذي 2425 عن الحسن عن أبي هريرة، وهذا منقطع أيضا، الحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئا. وورد عن قتادة مرسلا. أخرجه الطبري 34797، وهذا ضعيف أيضا، فإن عامة مراسيل قتادة إنما هي عن الحسن، فالحديث مداره على الحسن، ولم تتعدد مخارجه، فهو ضعيف والراجح فيه الوقف، والله أعلم. وقد أخرجه الطبري وغيره من قول ابن مسعود غير مرفوع، وهو أصح والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» 2580 بتخريجنا.

سلمة بن عبد الأسد «1» . قوله عزّ وجلّ: إِنِّي ظَنَنْتُ أي: علمت وأيقنت في الدنيا أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي: أبعث، وأحاسب في الآخرة فَهُوَ فِي عِيشَةٍ أي: في حالة من العيش راضِيَةٍ قال الفراء: أي: فيها الرضى. وقال الزجاج: أي: ذات رضىً يرضاها من يعيش فيها. وقال أبو عبيدة: مجازها مجاز مرضيّة، قوله: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أي: عالية المنازل قُطُوفُها أي: ثمارها دانِيَةٌ أي: قريبة ممن يتناولها، وهي جمع قطف. والقطف: ما يقطف من الثمار. قال البراء بن عازب: يتناول الرجل الثمرة وهو نائم. قوله عزّ وجلّ: كُلُوا أي: يقال لهم: كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ أي: قَدَّمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية، وهي أيام الدنيا. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ قال مقاتل: نزلت في الأسود بن عبد الأسد، قتله حمزة ببدر، وهو أخو أبي سلمة. وقيل: نزلت في أبي جهل «2» . قوله عزّ وجلّ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وذلك لما يرى فيه من القبائح وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب، إنما كلُّه عليه. وكان ابن مسعود، وقتادة، ويعقوب، يحذفون الهاء من «كتابيه» ، و «حسابيه» في الوصل. قال الزّجّاج: والوجه أن يوقف على هذه الهاءات، ولا توصل، لأنها أدخلت للوقف. وقد حذفها قوم في الأصل، ولا أُحبُّ مخالفة المصحف، وكذلك قوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ «3» . قوله عزّ وجلّ: يا لَيْتَها يعني: الموتة التي ماتها في الدنيا كانَتِ الْقاضِيَةَ أي: القاطعة للحياة، فكأنه تمنَّى دوام الموت، وأنه لم يُبْعَثْ للحساب. قوله هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ فيه قولان: أحدهما: ضلَّت عني حجتي، قاله مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والسدي. والثاني: زال عني ملكي، قاله ابن زيد. قوله عزّ وجلّ: خُذُوهُ أي: يقول الله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ أي: اجمعوا يده إلى عنقه ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي: أدخلوه النار. وقال الزجاج: اجعلوه يصلى النّار. قوله: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ وهي: حَلَقٌ منتظمة ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً وقال ابن عباس: بذراع المَلَك. وقال نوفٌ الشامي: كل ذراع سبعون باعاً، الباع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعاً. وقال مقاتل: ذرعها سبعون ذراعاً بالذراع الأول. ويقال: إن جميع أهل النار في تلك السلسلة. قوله عزّ وجلّ: فَاسْلُكُوهُ أي: أدخلوه. قال الفراء: وذكر أنها تدخل في دبر الكافر فتخرج من رأسه، فذلك سلكه فيها. والمعنى: ثم اسلكوا فيه السلسلة، ولكن العرب تقول: أدخلت رأسي في القلنسوة، وأدخلتها في رأسي. ويقال: الخاتم لا يدخل في يدي، وإنما اليد تدخل في الخاتم، وإنما استجازوا ذلك، لأن معناه معروف. قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ أي: لا يصدّق بوحدانيته وعظمته

_ (1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، ليس بشيء. [.....] (2) الصحيح عموم الآية في كل من يؤتى كتابه بشماله. (3) القارعة: 10.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 إلى 43]

وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي: لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي: قريب ينفعه، أي: يشفع له وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ في ثلاثة أقوال: أحدها: أنه صديد أهل النار، قاله ابن عباس. قال مقاتل: إِذا سال القيح، والدم، بادروا أكله قبل أن تأكله النار. والثاني: شجر يأكله أهل النار، قاله الضحاك، والربيع. والثالث: أنه غُسَالَةُ أجوافهم، قاله يحيى بن سلام. قال ابن قتيبة: وهو «فعلين» من «غسلت» كأنه غسالة. قوله عزّ وجلّ: إِلَّا الْخاطِؤُنَ يعني: الكافرين. [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 43] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ «لا» ردٌّ لكلام المشركين، كأنه قيل: ليس الأمر كما يقول المشركون أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ وقال قوم: «لا» زائدة مؤكدة والمعنى: أقسم بما ترون، وما لا ترون، فأراد جميع الموجودات. وقيل: الأجسام والأرواح إِنَّهُ يعني: القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ فيه قولان: أحدهما: محمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله الأكثرون. والثاني: جبريل، قاله ابن السائب، ومقاتل. قال ابن قتيبة: لم يرد أنه قول الرسول، وإِنما أراد أنه قول الرسول عن الله تعالى، وفي الرسول ما يدل على ذلك، فاكتفى به من أن يقول عن الله، قوله: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وقرأ ابن كثير: «يؤمنون» و «يَذَكَّرون» بالياء فيهما. قال الزجاج: «ما» مؤكدة، وهي لغو في باب الإعراب. والمعنى: قليلاً تؤمنون. وقال غيره: أراد نفي إيمانهم أصلاً. وقد بيَّنَّا معنى «الكاهن» في الطور «1» قال الزجاج: وقوله عزّ وجلّ: «تنزيل» مرفوع ب «هو» مضمرة يدل عليها قوله عزّ وجلّ: «وما هو بقول شاعر» هو تنزيل. [سورة الحاقة (69) : الآيات 44 الى 52] وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا أي: لو تكلَّف محمد أن يقول علينا ما لم نقله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي: لأخذناه بالقوة والقدرة، قاله الفراء، والمبرد، والزجاج. قال ابن قتيبة: إنما أقام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في ميامنه. قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه. قال أبو عبيدة: الوتين: نياط القلب، وأنشد الشَّمَّاخ: إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ فَاشْرَقِي بِدَمِ الوَتينِ وقال الزجاج: الوتين: عرق أبيض غليظ كأنه قصبة. قوله عزّ وجلّ: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أي: ليس منكم أحد يحجزنا عنه، وإنما قال تعالى: حاجِزِينَ لأن أحداً يقع على الجمع، كقوله عزّ وجلّ: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «2» ،

_ (1) الطور: 29. (2) البقرة: 285.

هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، والزجاج. ومعنى الكلام: لا يتكلَّف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلَّف ذلك لعاقبناه، ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه وَإِنَّهُ يعني: القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ في يوم القيامة. يندمون إذا لم يؤمنوا به وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ إضافة إلى نفسه لاختلاف اللفظين، كقوله عزّ وجلّ: وَلَدارُ الْآخِرَةِ «1» . وقال الزجاج: المعنى: وإنه لليقين حق اليقين، وقد شرحنا هذا المعنى، وما بعدها في الواقعة «2» .

_ (1) يوسف: 109. (2) الواقعة: 95- 96.

سورة المعارج

سورة المعارج ويقال لها: سورة سأل سائل، ويقال لها: سورة الواقع. وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) قوله عزّ وجلّ: سَأَلَ سائِلٌ، قال المفسرون: (1486) نزلت في النضر بن الحارث حين قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» ، وهذا مذهب الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد. وقال الربيع بن أنس: هو أبو جهل. قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر: «سال» بغير همز. والباقون: بالهمز. فمن قرأ: «سأل» بالهمز ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: دَعَا دَاعٍ على نفسه بعذابٍ واقعٍ. والثاني: سأل سائل عن عذابٍ واقعٍ لمن هو؟ وعلى من يَنْزِل؟ ومتى يكون؟ وذلك على سبيل الاستهزاء، فتكون الباء بمعنى «عن» ، وأنشدوا: فَإنْ تَسْأَلُوني بالنّساء فإنّني ... خبير بأدواء النّساء طبيب «2»

_ حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 640 عن ابن عباس وإسناده على شرط البخاري، فيه المنهال صدوق ربما وهم وقد أخرجه له البخاري. وأخرجه الحاكم 2/ 502 عن الأعمش عن سعيد بن جبير قوله، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورمز له الذهبي في «التلخيص» أنه على شرط البخاري وزاد السيوطي نسبته في «الدر» 6/ 415 للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. وتقدم في الأنفال.

والثالث: سأل سائل عذاباً واقعاً، والباء زائدة. ومن قرأ بلا همز ففيه قولان: أحدهما: أنه من السؤال أيضاً، وإنما لَيَّن الهمزة، يقال: سأل، وسال، وأنشد الفراء: تَعَالَوْا فَسَالُوا يَعْلمِ النَّاسُ أَيُّنَا ... لِصَاحِبِهِ في أَوَّلِ الدَّهْرِ نافع والثاني: المعنى: سال وادٍ في جهنم بالعذاب للكافرين، وهذا قول زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن. وكان ابن عباس في آخرين يقرءون «سَالَ سَيْلٌ» بفتح السين، وسكون الياء من غير ألف ولا همز. وإذا قلنا: إنه من السؤال، فقوله عزّ وجلّ: «للكافرين» جواب للسؤال، كأنه لما سأل: لمن هذا العذاب؟ قيل: للكافرين. والواقع: الكائن. والمعنى: أنّ العذاب الذي سأله هذا الكافر كائن لا محالة في الآخرة لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ قال الزجاج: المعنى: ذلك العذاب واقع من الله للكافرين. قوله عزّ وجلّ: ذِي الْمَعارِجِ فيه قولان: أحدهما: أنها السموات، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: هي معارج الملائكة. قال ابن قتيبة: وأصل «المعارج» الدَّرَج، وهي من عَرَجَ: إِذا صَعِدَ. قال الفراء: لما كانت الملائكة تَعْرُج إليه، وصف نفسه بذلك. قال الخطابي: المعارج: الدَّرَج، واحدها: مَعْرَجٌ، وهو المَصْعَدُ، فهو الذي يُصْعَدُ إِليه بأعمال العباد، وبأرواح المؤمنين. فالمعارج: الطّرائق أي يُصْعَدُ فيها. والثاني: أن المَعَارِجَ: الفَوَاضِلُ والنِّعم، قاله قتادة. قوله عزّ وجلّ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ قرأ الكسائي: «يَعْرُج» بالياء. والروحُ وفي «الرّوح» قولان: أحدهما: أنه جبريل، قاله الأكثرون. والثاني: أنه روُح الميِّت حين تُقْبَضُ، قاله قبيصة بن ذؤيب. قوله عزّ وجلّ: إِلَيْهِ أي: إلى الله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فيه قولان: أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والقرظي، وهذا هو مقدار يوم القيامة من وقت البعث إِلى أن يفصل بين الخلق. (1487) وفي الحديث: «إنه لَيُخفَّفُ على المؤمِن حتى يكون أَخَفَّ عليه من صلاة مكتوبة» . وقيل: بل لو ولي حساب الخلق سوى الله عزّ وجلّ لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة، والحقُّ يفرغ منه في ساعة من نهار. وقال عطاء: يفرغ الله من حساب الخلق في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا. فعلى هذا يكون المعنى: ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وقيل: المعنى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ في يوم كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير. والثاني: أنه مقدار صعود الملائكة من أسفل الأرض إلى العرش لو صعده غيرهم قطعه في

_ حسن بشاهده ورد من حديث أبي سعيد. أخرجه أحمد 3/ 75 وأبو يعلى 1390 من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج به وإسناده ضعيف، ابن لهيعة ودراج ضعيفان. وأخرجه الطبري 34867 وابن حبان 7334 من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن درّاج به، وقد توبع ابن لهيعة هاهنا فانحصرت العلة في دراج. وله شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه ابن حبان 7333 وأبو يعلى 6025 وإسناده على شرط البخاري ومسلم، وهو صحيح إن كان سمعه يحيى بن أبي كثير من أبي سلمة، فهو وإن روى عنه، فإنه كثير الإرسال أيضا، وبكل حال الحديث حسن.

خمسين ألف سنة، وهذا معنى قول مجاهد. قوله عزّ وجلّ: فَاصْبِرْ أي: اصبر على تكذيبهم إياك صَبْراً جَمِيلًا لا جزع فيه، وهذا قبل أن يُؤْمَرَ بقتالهم، ثم نسخ بآية السيف، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ يعني: العذاب بَعِيداً غير كائن وَنَراهُ قَرِيباً كائناً، لأن كل ما هو آتٍ قريب. ثم أخبر متى يكون فقال عزّ وجلّ: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وقد شرحناه في الكهف «1» وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أي: كالصوف، فَشَبَّهها في ضَعْفها ولِينِها بالصوف. وقيل: شبَّهها به في خِفَّتِها وسَيْرِها، لأنه قد نقل أنها تسير على صورها، وهي كالهباء. قال الزجاج: «العهن» الصوف. واحدته: عِهْنَةٌ، ويقال: عُهْنَةٌ، وعُهْنٌ، مثل: صُوفَةٍ، وصُوفٍ. وقال ابن قتيبة: «العِهْنُ» الصّوف المصبوغ. قوله عزّ وجلّ: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) قرأ الأكثرون: «يسأل» بفتح الياء. والمعنى: لا يسأل قريب عن قرابته، لاشتغاله بنفسه. وقال مقاتل: لا يسأل الرجل عن قرابته، ولا يكلِّمه من شدة الأهوال. وقرأ معاوية، وأبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر بضم الياء. والمعنى: لا يقال للحميم: أين حميمك؟ قوله عزّ وجلّ: يُبَصَّرُونَهُمْ أي: يُعَرَّفُ الحميم حميمَه حتى يَعْرِفَه، وهو مع ذلك لا يسأل عن شأنه، ولا يكلِّمه اشتغالاً بنفسه. يقال: بَصَّرْتُ زيداً كذا: إذا عَرَّفْتَهُ إيَّاه. قال ابن قتيبة: معنى الآية: لا يَسْأَلُ ذو قرابة عن قرابته، ولكنهم يُبَصَّرُونَهم، أي: يُعَرَّفُونَهم. وقرأ قتادة، وأبو المتوكل، وأبو عمران «يُبْصِرُونَهم» بإسكان الباء، وتخفيف الصاد، وكسرها. قوله عزّ وجلّ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ يعني: يتمنَّى المشرك لو قُبِلَ منه هذا الفداءُ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وهي الزوجة وَفَصِيلَتِهِ قال ابن قتيبة: أي: عشيرته. وقال الزجاج: هي أدنى قبيلته منه. ومعنى تُؤْوِيهِ تضمه، فيودُّ أن يفتديَ بهذه المذكورات ثُمَّ يُنْجِيهِ من ذلك الفداء كَلَّا لا ينجيه ذلك إِنَّها لَظى قال الفراء هو اسم من أسماء جهنّم فلذلك لم يجر لها ذكر «2» ، وقال غيره: معناها في اللغة: اللهب الخالص، وقال ابن الأنباري: سميت لظى لشدة تَوَقُّدِها وتلهُّبِها، يقال: هو يتلظَّى، أي: يتلهَّب ويتوقَّد. وكذلك النار تتلظّى يراد به هذا المعنى. وأنشدوا: جَحِيماً تَلَظَّى لا تَفْتَّرُ سَاعَةً ... ولا الحَرُّ مِنْها غَابِرَ الدَّهْرِ يَبْرُدُ نَزَّاعَةً لِلشَّوى قرأ الجمهور «نَزَّاعةٌ للشوى» بالرفع على معنى: هي نزَّاعة. وقرأ عمر بن الخطّاب، وأبو رزين، وابن عبد الرحمن، ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي عبلة، وحفص عن عاصم «نَزَّاعةً» بالنصب. قال الزجاج: وهذا على أنها حال مؤكدة، كما قال تعالى: هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً ويجوز أن ينصب على معنى «إنها تتلظى نزاعة» . وفي المراد ب الشَّوى أربعة أقوال: أحدها: جلدة الرأس، قاله مجاهد. والثاني: محاسن الوجه، قاله الحسن، وأبو العالية. والثالث: العصب، والعقب، قاله ابن جبير. والرابع: الأطراف: اليدان، والرّجلان، والرأس، قاله الفرّاء، والزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عن الإيمان وَتَوَلَّى عن الحق. قال المفسّرون: تقول: إليّ يا

_ (1) الكهف: 29. (2) فاطر: 31.

[سورة المعارج (70) : الآيات 19 إلى 44]

مشرك، إِليّ يا منافق وَجَمَعَ فَأَوْعى قال الفراء: أي جمع المال في وعاءٍ فلم يؤدِّ منه زكاةً، ولم يصل منه رحماً. [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 44] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً قال مقاتل: عنى به أُميَّة بن خلف الجُمَحي «1» . وفي الهَلوع سبعة أقوال: أحدها: أنه الموصوف بما يلي هذه الآية، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة، والزجاج. والثاني: أنه الحريص على ما لا يحلُّ له، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: البخيل، قاله الحسن، والضحاك. والرابع: الشحيح، قاله ابن جبير. والخامس: الشَّرِه، قاله مجاهد. والسادس: الضَّجُور، قاله عكرمه، وقتادة، ومقاتل، والفراء. والسابع: الشديد الجزع، قاله ابن قتيبة. قوله عزّ وجلّ: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي: إذا أصابه الفقر جَزُوعاً لا يصبر، ولا يحتسب وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ أصابه المال مَنُوعاً يمنعه من حق الله إِلَّا الْمُصَلِّينَ وهم أهل الإيمان بالله. وإنما استثنى الجمع من الإنسان، لأنه اسم جنس الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الذين يحافظون على المكتوبات، وهو معنى قول ابن مسعود. والثاني: أنهم لا يلتفتون عن أيمانهم وشمائلهم في الصلاة، قاله عقبة بن عامر، واختاره الزجاج. قال: ويكون اشتقاقه من الدائم، وهو الساكن، كما جاء في الحديث أنه:

_ (1) الصحيح عموم الآية، ولفظ «آل» في «الإنسان» لاستغراق الجنس. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 251: قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً يعني الكافر، عن الضحاك، والهلع في اللغة: أشد الحرص، وأسوأ الجزع وأفحشه والمعنى: أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي. وقال صلّى الله عليه وسلم: «شرّ ما أعطي العبد شحّ هالع وجبن خالع» اه. قلت: حسن. أخرجه أبو داود 2511 والبخاري في «التاريخ» 6/ 8- 9 وابن حبان 3250 وأبو نعيم 9/ 50 وأحمد 2/ 302 و 320 من حديث أبي هريرة وإسناده حسن فيه عبد العزيز بن مروان، وهو صدوق، والحديث جوّده العراقي في «الإحياء» 3/ 253.

(1488) نهى عن البول في الماء الدائم. والثالث: أنهم الذين يكثرون فعل التطوع، قاله ابن جبير. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ قد سبق شرح هذه الآية والتي بعدها في الذاريات «1» وبينا معنى «يوم الدين» في «الفاتحة» . وما بعد هذا قد شرحناه في المؤمنين «2» إلى قوله عزّ وجلّ: «لأماناتهم» قرأ ابن كثير وحده: «لأمانتهم» وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «بشهادتهم» على التوحيد. وقرأ حفص عن عاصم: «بشهاداتهم» جمعا، قائِمُونَ أي: يقيمون فيها بالحق ولا يكتمونها، فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. (1489) نزلت في جماعة من الكفار جلسوا حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستهزئون بالقرآن، ويكذِّبون به. قال الزجاج: والمُهْطِع: المُقْبِلُ ببَصَره على الشيء لا يُزَايِلُه، وكانوا ينظرون إلى النبيّ نظرة عداوة. وقد سبق الخلاف في قوله تعالى: مُهْطِعِينَ «3» . قوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ. قال الفرّاء: العزون: الحلق، الخلق الجماعات، واحدتها: عِزَةٌ. (1490) وكانوا يجتمعون حول النبي صلّى الله عليه وسلم يقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة، كما يقول محمد، فلندخلنَّها قبلهم، فنزل قوله تعالى: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ وقرأ ابن مسعود، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش، والمفضل عن عاصم «أن يَدْخُلَ» بفتح الياء، وضم الخاء. وقال أبو عبيدة: عِزِين جمع عِزَة، مثل ثُبَة، وثُبِين، فهي جماعات في تفرقة. قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: لا يكون ذلك إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ فيه قولان: أحدهما: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فالمعنى: لا يستوجب الجنة أحد بما يَدَّعيه من الشرف على غيره، إذ الأصل واحد، وإِنما يستوجبها بالطاعة. والثاني: إنا خلقناهم من أقذار. فبما يستحقون الجنة ولم يؤمنوا؟! (1491) وقد روى بشر بن جحّاش عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «أنه تلا هذه الآية إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ثم

_ صحيح. أخرجه البخاري 239 ومسلم 282 وأبو داود 69 والترمذي 68 والنسائي 1/ 49 وأحمد 2/ 346 من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح القدير» 1/ 83 للكمال ابن الهمام بتخريجي. صحيح. أخرجه البخاري 239 ومسلم 282 وأبو داود 69 والترمذي 68 والنسائي 1/ 49 وأحمد 2/ 346 من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح القدير» 1/ 83 للكمال ابن الهمام بتخريجي. انظر الحديث الآتي. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 840 بدون سند، ولم يعزه لأحد إنما ذكره نقلا عن المفسرين، فهو واه، ليس بشيء. ضعيف، أخرجه البيهقي في «الشعب» 3473 عن جعفر بن محمد الفريابي ثنا صفوان ثنا الوليد بن مسلم، ثنا جرير بن عثمان الرحبي عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بشر بن جحاش قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم وبصق يوما ... فذكره» رجاله ثقات سوى عبد الرحمن بن ميسرة، فقد وثقه العجلي وابن حبان على قاعدتهما في توثيق المجاهيل، وقال علي المديني: مجهول، والقول قول ابن المديني، فإنه إمام هذا الشأن. قلت: ولفظ «بصق في كفه» غريب، بل هو منكر، وراويه لا يحتمل التفرد بمثل هذا. وأخرجه ابن ماجة-

بزق، وقال: يقول الله عزّ وجلّ: أنَّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟! حتى إذا سَوَّيتُك، وعَدَّلتُك، مَشَيْتَ بين بُرْدَيْنِ، وللأرض منك وئيد، فجمعتَ، ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتَصدَّقُ، وأنَّى أوان الصدقة؟!» . قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ قد تكلمنا عليه في الحاقة «1» والمراد بالمشارق، والمغارب: مشرق كل يوم ومغربُه، إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي: نَخْلُقَ أَمْثَلَ منهم، وأَطْوَعَ لله حين عَصَوْا وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ مفسر في الواقعة «2» فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا أي: يلهوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا وقرأ ابن محيصن «يَلْقَوْا يومَهم الذي يوعدون» وهو يوم القيامة. وهذا لفظ أمر، معناه الوعيد. وذكر المفسرون أنه منسوخ بآية السيف. وإذا قلنا: إنه وعيد بلقاء يوم القيامة، فلا وجه للنسخ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً أي: يخرجون بسرعة كأنهم يَسْتَبِقُون. قوله عزّ وجلّ: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ قرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم بضمّ النون والصاد. قال ابن جرير: وهو واحد الأنصاب، وهي آلهتهم التي كانوا يعبدونها. فعلى هذا يكون المعنى: كأنهم إلى آلهتهم التي كانوا يعبدونها يُسرعون. وقرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي بفتح النون وسكون الصاد، وهي في معنى القراءة الأولى، إلا أنه مصدر. كقول القائل: نصبت الشيء أنصبه نصباً. قال قتادة: معناه: كأنهم إلى شيء منصوب يسرعون. وقال ابن جرير: تأويله: كأنهم إِلى صنم منصوب يُسْرِعُون. وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، والنخعي «نُصْب» برفع النون، وإسكان الصاد. وقرأ الحسن، وأبو عثمان النَّهدي، وعاصم الجحدري «إلى نَصَبٍ» بفتح النون والصاد جميعاً. قال ابن قتيبة: النصب: حجر يُنْصَبُ أو صنم، يقال: نَصْب، ونُصْب، ونُصُب. وقال الفراء: النَّصْب والنُّصْبُ واحد، وهو مصدر، والجمع: الأنصاب. وقال الزجاج: النَّصْب، والنُّصُب: العلم المنصوب. قال الفراء: والإيفاض: الإسراع. قوله عزّ وجلّ: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ قرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعمرو بن دينار «ذِلَّةُ ذلك اليومِ» بغير تنوين، وبخفض الميم. وباقي السّورة قد تقدّم بيانه «3» .

_ 2707 وأحمد 4/ 210 والطبراني 1193 من طرق عن حريز بن عثمان به. وأخرجه الطبراني 1194 من طريق ثور بن يزيد الرحبي عن عبد الرحمن بن ميسرة به. وقال البوصيري في «الزوائد» إسناده صحيح؟! واضطرب الألباني فحسن إسناده في «الصحيحة» 1099 في حين صححه برقم 1143؟!! وما تمسك به الألباني قول أبي داود: شيوخ حريز كلهم ثقات، وفيما قاله نظر، فابن المديني نص على الرجل بعينه في حين عبارة أبي داود عامة، على أن علي المديني أثبت وأعلم في الرجال من أبي داود، وقاعدة أبي داود فيها نظر، فإن شعبة أثبت من حريز، وهو مع تعنته في الرجال روى عن ضعفاء ومثل هذا كثير.

سورة نوح

سورة نوح وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قوله تعالى: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أي: بأن أنذر قومك. و «العذاب الأليم» : الغَرَق. قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وعلي بن نصر عن أبي عمرو «أنُ اعبدوا الله» بضم النون. وقرأ عاصم، وحمزة، وعبد الوارث عن أبي عمرو «أنِ اعبدوا الله» ، بكسر النون. قال أبو عليّ: من ضمّ كره الكسرة قبل الضمّة. قوله عزّ وجلّ: وَأَطِيعُونِ أثبت الياء في الحالين يعقوب. قوله عزّ وجلّ: مِنْ ذُنُوبِكُمْ «مِن» هاهنا صلة. والمعنى: يغفر لكم ذنوبَكم، قاله السدي ومقاتل. وقال الزجاج: إنما دخلت «من» هاهنا لتختص الذنوب من سائر الأشياء. ولم تدخل لتبعيض الذنوب، ومثله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» وذهب بعض أهل المعاني إلى أنها للتبعيض. والمعنى يغفر لكم من ذنوبكم إلى وقت الإيمان وَيُؤَخِّرْكُمْ أي: عن العذاب إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو منتهى آجالهم. والمعنى: فتموتوا عند منتهى آجالكم غير مِيتة المعذَّبين إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه أجل الموت، قاله مجاهد. فيكون المعنى: إن أجل الله الذي أَجَّلكم إِليه لا يُؤَخَّرُ إذا جاءَ، فلا يمكنكم حينئذ الإيمان. والثاني: أنه أجل البعث، قاله الحسن. والثالث: أجل

_ (1) الحج: 30. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 501: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: يمدّ في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تنزجروا عما نهاكم عنه أوقعه بكم وقد يستدل بهذه الآية من يقول: إن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة، كما ورد به الحديث: «صلة الرحم تزيد في العمر» وقوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة، فإنه إذا أمر الله تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع، فإنه العظيم الذي قهر كل شيء، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.

[سورة نوح (71) : الآيات 5 إلى 24]

العذاب، قاله السّدّيّ ومقاتل. [سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 24] قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) قوله عزّ وجلّ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أي: تباعداً من الإيمان وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان والطاعة جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلا يسمعوا صوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي: غطوا بها وجوههم لئلا يَرَوْني وَأَصَرُّوا على كفرهم وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بك واتِّباعي ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أي: أعلنت لهم بالدعاء. قال ابن عباس: بأعلى صوتي ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ أي: كرَّرت الدعاء معلناً وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً قال ابن عباس: يريد أكلِّم الرجل بعد الرجل. في السِّرِّ، وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ قال المفسرون «1» : منع الله عنهم القطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فقال لهم نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك، أي: استدعوا مغفرته بالتوحيد يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً قد شرحناه في أول الأنعام «2» ومعنى الكلام أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة. قوله عزّ وجلّ: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً فيه أربعة أقوال: أحدها: لا تَرَوْن لله عظمة، قاله ابن عباس. والثاني: لا تخافون لله عظمة، قاله الفراء وابن قتيبة. والثالث: لا تَرَوْن لله طاعة، قاله ابن زيد. والرابع: لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد، قاله الزّجّاج. قوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي: وقد جعل لكم في أنفسكم آيةً تدل على توحيده من خلقه إياكم من نطفة، ثم من علقة شيئاً بعد شيء إلى آخر الخلق. قال ابن الأنباري: الطَّوْر: الحال، وجمعه: أطوار. وقال ابن فارس: الطَّوْر: التارة، طوراً بعد طور، أي: تارةً بعد تارة. وقيل: أراد بالأطوار: اختلاف

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 501: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أي ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب عليه. ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك، ولهذا قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي: متواصلة الأمطار. ولهذا يستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء، لأجل هذه الآية. وهذا مقام الدعوة بالترغيب. (2) الأنعام: 6.

المناظر والأخلاق، من طويل، وقصير، وغير ذلك، ثم قرّرهم، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة «طباقٍ» بتنوين القاف، وكسرها من غير ألف. وقد بيَّنَّا هذا في سورة الملك «1» . قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً فيه قولان «2» : أحدهما: أن وجهَ القمر قِبَل السموات، وظهرَه قِبَل الأرض، يضيء لأهل السموات، كما يضيء لأهل الأرض، وكذلك الشمس، هذا قول عبد الله بن عمر. والثاني: أن القمر في السماء الدنيا. وإنما قيل: «فيهن» لأنهن كالشيء الواحد، ذكره الأخفش والزجاج، وغيرهما. وهذا كما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيت بعضهم، وركبت في السّفن، قوله: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يستضيء بها العالم وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني: أن مبتدأ خلقكم من الأرض، وهو آدم نَباتاً قال الخليل: معناه: فنبتُّم نباتاً، وقال الزجاج: «نباتاً» محمول في المصدر على المعنى، لأنّ المعنى أنبتكم: جعلكم تنبتون نباتاً. قال ابن قتيبة: هذا مما جاء فيه المصدر على غير المصدر، لأنه جاء على نبت، ومثله وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «3» فجاء على «بَتَّل» . قال الشاعر: وَخَيْرُ الأَمْرِ ما استقبلت منه ... وليس بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّباعاً «4» فجاء على اتَّبَعْتُ. وقال الآخر: وإن شئتم تعاودنا عواداً فجاء على «عاودنا» ، وإنما تجيء المصادر مخالفة للأفعال، لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها، واحدة في المعنى. قوله عزّ وجلّ: سُبُلًا فِجاجاً قال الفراء: هي الطرق الواسعة. قوله عزّ وجلّ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم «ووَلَده» بفتح اللام والواو. وقرأ الباقون «وُلْده» بضم الواو، وسكون اللام. قال الزجاج: وهما بمعنى واحد، مثل العَرَب، والعُرْب، والعَجَم، والعُجْم. وقرأ الحسن، وأبو العالية، وابن يعمر، والجحدري: «وَوِلْده» بكسر الواو، وإسكان اللام. قال المفسرون: المعنى: أن الأتباع، والفقراء اتّبعوا رأي الرؤساء والكبراء.

_ (1) الملك: 3. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 502: المقصود أن الله سبحانه خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي فاوت بينهما في الاستنارة، فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدّر القمر منازل وبروجا وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر، ليدل على مضي الشهور والأعوام. كما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. (3) المزمل: 8. (4) البيت للقطامي، وهو في ديوانه 35 و «اللسان» - تبع-.

[سورة نوح (71) : الآيات 25 إلى 28]

قوله عزّ وجلّ: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وقرأ أبو رجاء، وأبو عمران: «كُبَارا» برفع الكاف، وتخفيف الباء. وقرأ أبو يعمر، وأبو الجوزاء، وابن محيصن «كِبَارا» بكسر الكاف مع تخفيف الباء والمعنى «كبيراً» يقال: كبير وكبار وكبار وقد شرحنا هذا في أول ص. ومعنى «المكر» : السعي في الفساد: وذلك أن الرؤساء منعوا أتباعهم عن الإيمان بنوح وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي: لا تَدَعُنَّ عبادتها وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا قرأ أبو جعفر، ونافع بضم الواو. والباقون بفتحها. وهذا الاسم وما بعده أسماء آلهتهم. وجاء في التفسير أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح، فنشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صُوَرَهُمْ كان أنشط لكم، وأشوق للعبادة، ففعلوا. ثم نشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم وكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت. وسمّيت تلك الصورة بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صور أولئك القوم المسمّين بهذه الأسماء. وقيل: إنما هي أسماء لأولاد آدم، مات منهم واحد، فجاء الشيطان فقال: هل لكم أن أصور لكم صورته، فتذكرونه بها؟ فصورها. ثم مات آخر، فصور لهم صورته، إلى أن صور صوراً خمسة. ثم طال الزمان، وتركوا عبادة الله، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئا؟ فقالوا: من نعبد؟ قال: هذه آلهتكم، وآلهة آبائكم، ألا ترونها مصوَّرة في مصلاكم؟! فعبدوها. وقال الزجاج: هذه الأصنام كانت لقوم نوح، ثم صارت إِلى العرب، فكان «ود» لكلب، و «سواع» لهمدان، و «يغوث» لمذحج، و «يعوق» لكنانة و «نسر» لحمير، وقال مقاتل: إنما كان «سواع» لهذيل و «يعوق» لهمدان «ويغوث» لبني غطيف، وهم حيّ من بني مراد. وقيل: لما جاء الطوفان غطى على هذه الأصنام وطمَّها التراب، فلما ظهرت بعد الطوفان صارت إلى هؤلاء المذكورين، قال الواقدي: كان «ودّ» على صورة رجل، و «سواع» على صورة امرأة، و «يغوث» على صورة أسد، و «يعوق» على صورة فرس، و «نسر» على صورة النسر من الطير. قوله عزّ وجلّ: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً فيه قولان: أحدهما: وقد أضلت الأصنام كثيراً من الناس، أي: ضلوا بسببها. والثاني: وقد أضلَّ الكبراء كثيراً من الناس. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ يعني: الكافرين إِلَّا ضَلالًا وهذا دعاء من نوح عليهم، لما أعلمه الله أنهم لا يؤمنون. [سورة نوح (71) : الآيات 25 الى 28] مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) قوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ «ما» : صلة. والمعنى من خطيئاتهم: أي من أجلها، وسببها وقرأ أبو عمرو «مما خطاياهم» وقرأ أبو الجوزاء، والجحدري «خطيئتهم» من غير ألف أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً قال ابن السائب: المعنى: سيدخلون في الآخرة ناراً، فجاء لفظ الماضي بمعنى الاستقبال، لأن الوعد حق، هذا قول الأكثرين. وقال الضحاك: فأُدخلوا نارا في الدنيا، وذلك أنهم كان يغرقون من جانب، ويحترقون في الماء من جانب. قوله عزّ وجلّ: فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أي: لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله.

قوله عزّ وجلّ: دَيَّاراً قال ابن قتيبة: أي: أحداً. يقال: ما بالمنازل دَيَّارٌ، أي: ما بها أحد، وهو من الدار، أي: ليس بها نازل داراً. وقال الزجاج: أصلها: «دَيْوار» فَيْعَال، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت إحداهما في الأخرى. وإِنما دعا عليهم نوح، لأنّ الله عزّ وجلّ أوحى إِليه أنه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «1» . قوله عزّ وجلّ: يُضِلُّوا عِبادَكَ وذلك أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح، فيحذِّره تصديقه. قوله عزّ وجلّ: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً قال المفسرون: إن الله تعالى أخبر نوحاً أنهم لا يلدون مؤمناً، فلذلك علم الفاجر الخارج عن الطاعة. قوله عزّ وجلّ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قال الحسن: وذلك أنهما كانا مؤمنَين. وقرأ أبو بكر الصديق، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، والجحدري، والجوني «ولوالدِي» ساكنة الياء على التوحيد. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وابن يعمر، والزهري، والنخعي «ولولديّ» من غير ألف على التثنية، قوله: وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ وقرا حفص عن عاصم «بيتيَ» بفتح الياء. وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: منزله، قاله ابن عباس. والثاني: مسجده، قاله الضّحّاك. والثالث: سفينته، حكاه الثّعلبيّ. قوله عزّ وجلّ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ هذا عام في كل من آمن وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ يعني: الكافرين إِلَّا تَباراً أي: هلاكا ومنه قوله عزّ وجلّ: تَبَّرْنا تَتْبِيراً «2» .

_ (1) هود: 36. (2) الفرقان: 39.

سورة الجن

سورة الجنّ كلّها مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) قوله عزّ وجلّ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في (الأحقاف) «1» وبَيَّنَّا هنالك سبب استماعهم. ومعنى «النّفر» وعددهم، فأمّا قوله عزّ وجلّ: قُرْآناً عَجَباً فمعناه: بليغاً يعجب منه لبلاغته يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي: يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أي: لن نعدل بربنا أحداً من خلقه. وقيل: عنوا إبليس، أي: لا نطيعه في الشرك بالله. قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا اختلف القراء في اثنتي عشرة همزة في هذه السورة، وهي: «وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنا ظننا» ، «وأنه كان رجال» ، «وأنهم ظنوا» ، «وأنا لمسنا» ، «وأنا كنا» ، «وأنا لا ندري» ، «وأنا منا» ، «وأنا ظننا أن لن نعجز الله» ، «وأنا لمّا سمعنا» ، «وأنّا منّا» ، ففتح

_ (1) الأحقاف: 29. [.....]

الهمزة في هذه المواضع ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع «وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنه كان رجال» ، وكسر الباقيات. وقرأ الباقون بكسرهن. وقال الزجاج: والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه: «أن» بالفتح، وما كان من قول الجن قيل: «إن» بالكسر، معطوف على قوله عزّ وجلّ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً وعلى هذا يكون المعنى: وقالوا: إنه تعالى جَدُّ ربنا، وقالوا: إنه كان يقول سفيهنا. فأما من فتح، فذكر بعض النحويين: يعني الفراء، أنه معطوف على الهاء في قوله عزّ وجلّ: فَآمَنَّا بِهِ وبأنه تعالى جَدُّ رَبِّنا. وكذلك ما بعد هذا. وهذا رديء في القياس، لا يعطف على الهاء المتمكّنة المخفوضة إلا بإظهار الخافض. ولكن وجهه أن يكون محمولاً على معنى أمنَّا به، فيكون المعنى: وصدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ رَبِّنا. وللمفسرين في معنى تَعالى جَدُّ رَبِّنا سبعة أقوال: أحدها: قُدْرَةُ رَبِّنا، قاله ابن عباس. والثاني: غِنى رَبِّنا، قاله الحسن. والثالث: جَلاَلُ رَبِّنا، قاله مجاهد، وعكرمة. والرابع: عَظَمَةُ رَبِّنا، قاله قتادة. والخامس: أَمْرُ رَبِّنا، قاله السدي. والسادس: ارتفاع ذِكره وعظمته، قاله مقاتل. والسابع: مُلْكُ رَبِّنا وثناؤه وسلطانه، قاله أبو عبيدة. قوله: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا فيه قولان: أحدهما: أنه إبليس، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: أنه كفارهم، قاله مقاتل. و «الشطط» : الجَوْر، والكذب، وهو: وصفه بالشريك، والولد، ثم قالت الجن: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وقرأ يعقوب: «أن لن تَقَوَّلَ» بفتح القاف، وتشديد الواو. والمعنى: ظنناهم صادقين في قولهم: لله صاحبة وولد، وما ظننَّاهم يكذبون حتى سمعنا القرآن، يقول الله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بِسِّيدِ هذا الوادي من شَرِّ سُفَهَاءِ قومه، فيبيت في جِوارٍ منهم حتى يصبح. (1492) ومنه حديث كردم بن أبي السائب الأنصاري، قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذُكِرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي فنادى: يا عامر الوادي جارك، فنادى منادٍ لا نراه: يا سرحان أرسله. فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، فأنزل الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ الآية.

_ ضعيف جدا. أخرجه العقيلي 1/ 101 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية، والواحدي في «الوسيط» 4/ 364 من طريق فروة ثنا القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري، وإسناده ضعيف جدا، فيه عبد الرحمن بن إسحاق، وهو ضعيف متروك، وأبوه إسحاق بن الحارث، ضعفه أحمد وغيره، ولم يرو عنه سوى ابنه. وقال ابن حبان: منكر الحديث، فلا أدري التخليط منه أو من ابنه. وأخرجه الطبراني في «الكبير» 19/ 191- 192 وأبو الشيخ في «العظمة» 1122 من طريق القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق به. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 129 وقال: وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، وهو ضعيف. والظاهر أنه خفي عليه حال أبيه إسحاق، وقد ضعفه أحمد وغيره كما نقل الذهبي في «الميزان» 1/ 189. الخلاصة: الإسناد ضعيف جدا، والمتن منكر.

وفي قوله عزّ وجلّ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً قولان: أحدهما: أن الإنس زادوا الجن رهقاً لتعوُّذهم بهم، قاله مقاتل. والمعنى: أنهم لما استعاذوا بسادتهم قالت السادة: قد سدنا الجن والإنس. والثاني: أن الجن زادوا الإنس رَهَقاً، ذكره الزجاج. قال أبو عبيدة: زادوهم سَفَهَاً وطغياناً. وقال ابن قتيبة: زادوهم ضلالاً. وأصل الرهق: العيب. ومنه يقال: فلان يرهق في دينه. قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا بقول الله عزّ وجلّ: ظن الجن كَما ظَنَنْتُمْ أيها الإنس المشركون أنه لا بعث. وقالت الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي: أتيناها فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع وَشُهُباً جمع شهاب، وهو النجم المضيء وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي: كنا نستمع، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمّد صلّى الله عليه وسلم رُمِينا بالشُّهُب. ومعنى «رصداً» قد أرصد له المرمى به وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بإرسال محمد إليهم، فيكذبونه، فيهلكون أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وهو أن يؤمنوا فيهتدوا، قاله مقاتل. والثاني: أنه قول كفرة الجن، والمعنى: لا ندري أشرٌّ أريدَ بمن في الأرض بحدوث الرجم بالكواكب، أم صلاح؟ قاله الفراء. ثم أخبروا عن حالهم، فقالوا: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وهم المؤمنون المخلصون وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: المشركون. والثاني: أنهم أهل الشرِّ دون الشرك كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً قال الفراء: أي: فرقاً مختلفة أهواؤنا. وقال أبو عبيدة: واحد الطرائق: طريقة، وواحد القِددِ: قدة، أي: ضروباً وأجناساً ومِلَلاً. قال الحسن، والسدي: الجن مثلكم، فمنهم قدريّة، ومرجئة، ورافضة. قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أي: أيقنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي: لن نَفُوتَه إِذا أراد بنا أمراً وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي: أنه يدركنا حيث كنَّا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى وهو القرآن الذي أتى به محمد صلّى الله عليه وسلم آمَنَّا بِهِ أي: صدَّقنا أنه من عند الله عزّ وجلّ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي: نقصاً من الثواب وَلا رَهَقاً أي: ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ قال مقاتل: المخلصون لله وَمِنَّا الْقاسِطُونَ وهم المَرَدَة. قال ابن قتيبة: القاسطون: الجائرون. يقال: قسط: إذا عدل، إذا جاور، وأقسط: إذا عدل. قال المفسرون: هم الكافرون فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي: تَوَخَّوْه، وأَمَّوْه. ثم انقطع كلام الجن. قال مقاتل: ثم رجع إلى كفّار مكّة فقال عزّ وجلّ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يعني: طريقة الهدى، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد وقتادة والسدي، واختاره الزجاج، قال: لأن الطريقة هاهنا بالألف واللام معرفة، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى: وذهب قوم إلى أن المراد بها طريقة الكفر، قال محمد بن كعب، والربيع، والفراء، وابن قتيبة، وابن كيسان. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو آمنوا لوسَّعنا عليهم لِنَفْتِنَهُمْ أي: لنختبرَهم فِيهِ فننظر كيف شُكْرُهم. والماء الغَدَق: الكثير. وإنما ذكر الماء مثلاً، لأن الخير كله يكون بالمطر، فأقيم مقامه إِذ كان سببه. وعلى الثاني: يكون المعنى: لو استقاموا على الكفر فكانوا كفاراً كلهم، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدراجا، ثم نعذبهم على ذلك. وقيل: لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم، كقوم نوح، قوله: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يعني: القرآن يَسْلُكْهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «نسلكه» بالنون. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ يسلكه بالياء. عَذاباً صَعَداً قال ابن قتيبة: أي:

[سورة الجن (72) : الآيات 18 إلى 28]

عذاباً شاقاً. يقال: تصعَّدني الأمر: إذا شَقَّ علي. ومنه قول عمر: ما تَصَعَّدني شيء ما تصعَّدَتني خِطْبَةُ النِّكاح. ونرى أصل هذا كله من الصعود، لأنه شاق، فكني به عن المشَقَّات. وجاء في التفسير أنه جبل في النَّار يكلَّف صعوده، وسنذكره عند قوله عزّ وجلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً «1» إن شاء الله تعالى. [سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 28] وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فيها أربعة أقوال: أحدها: أنها المساجد التي هي بيوت للصّلوات، قاله ابن عباس. قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعَهُم أشركوا، فأمر الله عزّ وجلّ المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم. والثاني: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، قاله سعيد بن جبير، وابن الأنباري، وذكره الفراء. فيكون المعنى، لا تسجدوا عليها لغيره. والثالث: أن المراد بالمساجد هاهنا: البقاع كلُّها، قاله الحسن. فيكون المعنى: أن الأرض كلها مواضع للسجود، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. والرابع: أنّ المساجد: السجود، فإنها جمع مسجد. يقال: سجدت سجوداً، ومَسْجِداً، كما يقال: ضربت في الأرض ضرباً، ومَضْرِباً، ثم يجمع، فيقال: المسَاجِد، والمضارِب. قال ابن قتيبة: فعلى هذا يكون واحدها: مَسْجَداً، بفتح الجيم. والمعنى: أَخْلِصُوا له، ولا تسجدوا لغيره. ثم رجع إلى ذكر الجنّ فقال عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني محمداً صلّى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ أي: يعبده. وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في الأحقاف «2» كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قرأ الأكثرون: بكسر اللام، وفتح الباء. وقرأ هشام عن ابن عامر، وابن محيصن «لُبَداً» بضم اللام، وفتح الباء مع تخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين واحد. يقال: لِبَدة، ولُبَدة. قال الزجاج: والمعنى: كادوا يركب بعضهم بعضاً. ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش. وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لَبَّدته. وقرأ قوم منهم الحسن، والجحدري: «لُبَّداً» بضم اللام مع تشديد الباء. قال الفراء: فعلى هذه القراءة تكون صفة للرجال، كقولك: رُكَّعاً وركوعاً، وسُجَّداً وسجوداً. وقال الزّجّاج: هو جمع لا بد، مثل راكع، وركَّع. وفي معنى الآية ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنه من إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم.

_ (1) المدثر: 17. (2) الأحقاف: 29. (3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 273: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: ذلك خبر من الله عن أن رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم لما قام يدعوه كادت العرب تكون عليه جميعا في إطفاء نور الله. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 510: واختيار ابن جرير، وهو الأظهر لقوله بعده قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أي قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحقّ واجتمعوا على عداوته: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له، وأستجير به وأتوكل عليه.

والمعنى: أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضاً، حِرْصاً على سماع القرآن، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم، فوصفوا لهم طاعة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع، والسجود، فكأنهم قالوا: لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبداً. وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس. والثالث: أن المعنى: لما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالدَّعوة تلبَّدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاء به، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد. قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي قرأ عاصم، وحمزة «قل إنما أدعو ربي» بغير ألف. وقرأ الباقون «قال» على الخبر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع بمثله فارجع عنه، فنزلت هذه الآية «1» . قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا أي: لا أدفعه عنكم وَلا أسوق إليكم رَشَداً أي: خيراً، أي: إن الله تعالى يملك ذلك، لا أنا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي: إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا له: اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً قد بيّنّاه في الكهف «2» قوله: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ فيه وجهان، ذكرهما الفرّاء: أحدهما: أنه استثناء من قوله عزّ وجلّ: لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً إلا أن أبلغكم. والثاني: لن يجيرني من الله أحد إِن لم أبلِّغ رسالته. وبالأول قال ابن السائب. وبالثاني قال مقاتل. وقال بعضهم: المعنى: لن يجيرني من عذاب الله إلا أن أبلّغ عن الله ما أرسلت به، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بترك الإيمان والتوحيد. قوله عزّ وجلّ: حَتَّى إِذا رَأَوْا يعني: الكفار ما يُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا، وهو القتل، وفي الآخرة فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أي: جندا ونصيرا، أهم، أم المؤمنون؟ قُلْ إِنْ أَدْرِي أي: ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي: غاية وبُعْداً. وذلك لأن علم الغيب لله وحده فَلا يُظْهِرُ أي: فلا يُطلِع على غيبه الذي يعلمه أحداً من الناس إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارَهم بالغيب. والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه. وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدلّه على الغيب فهو كافر. ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال عزّ وجلّ: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي: من بين يدي الرسول وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي: يجعل له حَفَظَةً من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكَهَنة، فيتكلَّمون به قبل أن يخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم الناس. وقال الزّجّاج يسلك

_ (1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء. (2) الكهف: 27.

من بين يدي الوحي. والرّصد من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي. قوله عزّ وجلّ: لِيَعْلَمَ فيه خمسة أقوال «1» : أحدها: ليعلم محمد صلّى الله عليه وسلم أن جبرائيل قد بلَّغ إليه، قاله ابن جبير. والثاني: ليعلم محمّد صلّى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وأن الله قد حفظها فدفع عنها، قاله قتادة. والثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد. والرابع: ليعلم الله عزّ وجلّ ذلك موجوداً ظاهراً يجب به الثواب، فهو كقوله عزّ وجلّ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ «2» قاله ابن قتيبة. والخامس: ليعلم النبيُّ أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج. وقرأ رويس عن يعقوب «ليُعلَم» بضم الياء على ما لم يُسمَّ فاعله. وقال ابن قتيبة: ويُقرأ «لتَعْلَم» بالتاء، يريد: لتعلم الجن أن الرسل قد بلَّغت عن إلههم بما رجوا من استراق السّمع، قوله: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي: علم الله ما عند الرسل وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً فلم يفته شيء حتى الذّرّ والخردل.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 277: وأولى الأقوال عندنا بالصواب قول من قال: ليعلم الرسول أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالاتِ رِّبهم. (2) آل عمران: 142.

سورة المزمل

سورة المزّمّل وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إلّا أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: سوى آيتين منها، قوله عزّ وجلّ وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والتي بعدها «1» . وقال ابن يسار، ومقاتل: فيها آية مدنيّة، وهي قوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ «2» . [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو العالية، وأبو مجلز، وأبو عمران، والأعمش «المتزمِّل» بإظهار التاء. وقرأ عكرمة، وابن يعمر: «المزمل» بحذف التاء، وتخفيف الزاي. قال اللغويون: «المُّزَّمِّل» الملتف في ثيابه، وأصله «المتزِّمل» فأدغمت التاء في الزاي، فثقِّلت. وكل من التفَّ بثوبه فقد تزمَّل. قال الزجاج: وإِنما أدغمت فيها لقربها منها. (1493) قال المفسرون: وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتزمَّل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فَرَقاً منه حتى أنس به. وقال السدي: كان قد تزمَّل للنوم. وقال مقاتل: خرج من البيت وقد لبس ثيابه، فناداه جبريل: يا

_ صحيح. أخرجه البخاري 4956 ومسلم 160 والواحدي في «أسباب النزول» 5 من حديث عائشة مطوّلا، وتقدّم في «الجزء الأول من هذا الكتاب» . وانظر «تفسير الشوكاني» 2598 بتخريجنا.

أيها المُزَّمِّل. وقيل: أريد به مُتَزَمِّل النبوة. قال عكرمة في معنى هذه الآية: زُمِّلْتَ هذا الأمر، فَقُمْ به. وقيل: إِنما لم يخاطب بالنبي والرسول هاهنا، لأنه لم يكن بعد قد بلَّغ، وإنما كان في بدء الوحي. قوله عزّ وجلّ: قُمِ اللَّيْلَ أي: للصلاة. وكان قيام الليل فرضاً عليه إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ هذا بدل من الليل، كما تقول: ضربت زيداً رأسَه. فإنما ذكرت زيداً لتوكيد الكلام، لأنه أوكد من قولك: ضربت رأس زيد. والمعنى: قم من الليل النّصف إلّا قليلا، وهو قوله: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أي: من النصف أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي: على النصف. قال المفسرون: انقص من النصف إلى الثلث، أو زد عليه إلى الثلثين، فجعل له سَعَة في مدّة قيامه، إذا لم تكن محدودة، فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين فشق ذلك عليه وعليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى، وكم بقي من الليل، فكان يقوم الليل كلَّه مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الآية، هذا مذهب جماعة من المفسرين. وقالوا: ليس في القرآن سورة نَسَخَ آخِرُها أولَها سوى هذه السورة. وذهب قوم إلى أنه نسخ قيام اللّيل في حقّه بقوله عزّ وجلّ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس وقيل: نسخ عن الأمّة، وبقي فرضه عليه أبداً. وقيل: إنما كان مفروضاً عليه دونهم. وفي مدة فرضه قولان: أحدهما: سَنَةٌ، قال ابن عباس: كان بين أول (المزَّمِّل) وآخرها سَنَةٌ. والثاني: ستة عشر شهراً، حكاه الماوردي. قوله عزّ وجلّ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ قد ذكرنا الترتيل في الفرقان «2» . قوله عزّ وجلّ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا وهو القرآن. وفي معنى ثِقَله ستة أقوال «3» : (1494) أحدها: أنه كان يثقُل عليه إذا أُوحي إليه، وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإِن جبينه ليتفصّد عرقاً. والثاني: أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: أنه يثقل في

_ صحيح. وهو قطعة من حديث عائشة في خبر مطول. أخرجه البخاري 2 والترمذي 3638 والنسائي 2/ 146- 147 وأحمد 6/ 257 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 437 وفي «الدلائل» 7/ 52- 53 وأبو نعيم في «الدلائل» 1/ 279 من طرق عن مالك. وأخرجه مالك 1/ 202- 203 والبغوي في «شرح السنة» 3631 عن هشام بن عروة به. وأخرجه البخاري 3215 ومسلم 2333 وأحمد 6/ 158 والبيهقي في «الأسماء» 426 والحميدي 6/ 25 من طرق عن هشام بن عروة به.

الميزان يوم القيامة، قاله ابن زيد. والرابع: أنه المهيب، كما يقال للرجل العاقل: هو رزين راجح، قاله عبد العزيز بن يحيى. والخامس: أنه ليس بالخفيف ولا السفساف، لأنه كلام الربّ عزّ وجلّ، قاله الفراء. والسادس: أنه قول له وزن في صحته وبيانه ونفعه، كما تقول: هذا كلام رصين، وهذا قول له وزن: إذا استجدته، ذكره الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ قال ابن مسعود، وابن عباس: هي قيام الليل بلسان الحبشة. وهل هي في وقت مخصوص من الليل، أم في جميعه؟ فيه قولان: أحدهما: أنها في جميع الليل. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: الليل كلُّه ناشئة. وإلى هذا ذهب اللغويون. قال ابن قتيبة: ناشئة الليل: ساعاته الناشئة، من نشأتْ: إذا ابتدأتْ. وقال الزجاج: ناشئة الليل: ساعات الليل، كلّ ما نشأ منه، أي: كلّ ما حدث. قال أبو علي الفارسي: كأن المعنى: إن صلاة ناشئة الليل، أو عمل ناشئة الليل. والثاني: أنها في وقت مخصوص من الليل. وفيه خمسة أقوال «1» : أحدها: أنها ما بين المغرب والعشاء، قاله أنس بن مالك. والثاني: أنها القيام بعد النوم، وهذا قول عائشة، وابن الأعرابي. وقد نصّ عليه الإمام أحمد في رواية المروذي. والثالث: أنها ما بعد العشاء، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو مجلز. والرابع: أنها بَدْءُ الليل، قاله عطاء، وعكرمة. والخامس: أنها القيام من آخر الليل، قاله يمان، وابن كيسان. قوله عزّ وجلّ: هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرأ ابن عامر، وأبو عمرو «وِطاءً» بكسر الواو مع المد، وهوَ مصدر واطأت فلاناً على كذا مواطأة، وأراد أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهُّم للقرآن والإحكام لتلاوته. ومنه قوله تعالى: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ «2» . وقرأ الباقون «وَطْأً» بفتح الواو مع القصر. والمعنى: إنه أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب: اشتدت على القوم وَطْأَةُ السلطان: إذا ثقل عليهم ما يلزمهم. (1495) ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» . ذكر معنى القراءتين ابن قتيبة. وقرأ ابن محيصن «أشد وطاء» بفتح الواو، والطاء، وبالمدّ. قوله عزّ وجلّ: وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: أخلص للقول وأسمع له، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات فتخلص القراءة، ويفرغ القلب لفهم التلاوة، فلا يكون دون سمعه وتفهّمه حائل. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي: فراغا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل

_ متفق عليه، وتقدّم.

بعبادتك، قاله ابن عباس، وعطاء. وقرأ يحيى بن يعمر، وابن مسعود، وأبو عمران، وابن أبي عبلة «سبخاً» بالخاء المعجمة. قال الزجاج: ومعناها في اللغة صحيح. يقال سبخت القطن بمعنى نفشته. ومعنى نَفَّشته: وسَّعته، فيكون المعنى: إن لك في النهار توسُّعاً طويلا. قوله عزّ وجلّ: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي: بالنهار أيضاً وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال مجاهد: أخلص له إخلاصاً. وقال ابن قتيبة: انقطع إليه، من قولك: بَتَّلُت الشيء: إذا قطعتَه. وقال الزجاج: انقطع إِليه في العبادة. ومنه قيل لمريم: البتول، لأنها انقطعت إلى الله عزّ وجلّ في العبادة. وكذلك صدقة بتلة: منقطعة من مال المصّدّق. والأصل في مصدر تبتّل تبتيلا. وإنما قوله عزّ وجلّ «تبتيلاً» محمول على معنى: تبتّل، رَبُّ الْمَشْرِقِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم «ربُّ» بالرفع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بالخفض. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزّ وجلّ: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من التكذيب لك والأذى وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا لا جزع فيه. وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي: لا تهتمَّ بهم، فأنا أكفيكهم أُولِي النَّعْمَةِ يعني: التَّنَعُّم. وفيمن عُني بهذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المطعِمُون بِبَدْرٍ، قاله مقاتل بن حيان. والثاني: أنهم بنو المغيرة بن عبد الله، قاله مقاتل بن سليمان. والثالث: أنه المستهزئون، وهم صناديد قريش، حكاه الثعلبي. قوله عزّ وجلّ: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا قالت عائشة: فلم يكن إلا اليسير حتى كانت وقعة بدر، وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وهي القيود، واحدها: نكل. وقد شرحنا معنى «الجحيم» في البقرة «1» وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وهو الذي لا يسوغ في الحلق. وفيه للمفسرين أربعة أقوال: أحدها: أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: الزَّقُّوم، قاله مقاتل. والثالث: الضَّريع، قاله الزجاج. والرابع: الزَّقُّوم والغِسْلين والضَّريع، حكاه الثّعلبيّ. قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ قال الزجاج: هو منصوب بقوله عزّ وجلّ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا والمعنى: ينكِّل الكافرين ويعذِّبهم يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ أي: تُزَلزَل وتُحَرَّك أغلظ حركة. قوله عزّ وجلّ: وَكانَتِ الْجِبالُ قال مقاتل: المعنى: وصارت بعد الشدة، والقوة كَثِيباً قال الفراء: «الكثيب» : الرمل. و «المهيل» : الذي تحرّك أسفله، فينهال عليك من أعلاه. والعرب تقول: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول. وقال الزجاج: الكثيب جمعه: كثبان، وهي: القطع العظام من الرمل. والمهيل: السائل. قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يعني أهل مكة رَسُولًا يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلم شاهِداً عَلَيْكُمْ بالتبليغ وإِيمان من آمن، وكفر من كفر وعصى كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا وهو موسى عليه السلام. والوبيل: الشديد. قال ابن قتيبة: هو من قولك: استوبلت إذا استوخمته المكان ويقال: كلأ مستوبل

_ (1) البقرة: 119.

[سورة المزمل (73) : الآيات 19 إلى 20]

أُي: لاَ يُسْتَمْرَأُ. قال الزجاج: الوبيل: الثقيل الغليظ جداً. ومنه قيل للمطر العظيم: وابل. قال مقاتل: والمراد بهذا الأخذ الوبيل: الغرق. وهذا تخويف لكفار مكة أن ينزل بهم العذاب لتكذيبهم، كما نزل بفرعون: قوله عزّ وجلّ: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً أي: عذاب يوم. وقال الزجاج: المعنى: بأي شيء تتحصَّنون من عذاب يوم مِنْ هوله يَشيب الصغير من غير كِبَر. وقرأ أُبي بن كعب، وأبو عمران «نجعل الولدان» بالنون. قوله عزّ وجلّ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ قال الفراء: السماء تُذَكَّر وتؤنَّث. وهي هاهنا في وجه التذكير. قال الشاعر: فَلَوْ رَفَع السَّماءُ إليه قوماً ... لَحِقْنَا بِالسَّماءِ مَعَ السَّحابِ قال الزجاج: وتذكير السماء على ضربين: أحدهما: على أن معنى السماء معنى السقف. والثاني: على قولهم: امرأة مُرْضِع على جهة النسب. فالمعنى: السماء ذات انفطار، كما أن المرضع ذات الرضاع. وقال ابن قتيبة: ومعنى الآية: السماء مُنْشَقّ به، أي: فيه، يعني في ذلك اليوم. قوله عزّ وجلّ: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا وذلك أنه وعيد بالبعث، فهو كائن لا محالة. [سورة المزمل (73) : الآيات 19 الى 20] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) إِنَّ هذِهِ يعني: آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي: تذكير وموعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أي: أقل مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ قرأ ابن كثير، وأهل الكوفة بفتح الفاء والثاء. والباقون: بكسرهما. قوله عزّ وجلّ: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ يعني: المؤمنين وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعلم مقاديرهما، فيعلم القدر الذي تقومونه من الليل عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ وفيه قولان: أحدهما: لن تطيقوا قيام ثُلُثَيِ الليل، ولا ثلث الليل، ولا نصف الليل، قاله مقاتل. والثاني: لن تحفظوا مواقيت الصلاة، قاله الفرّاء، قاله: فَتابَ عَلَيْكُمْ أي: عاد عليكم بالمغفرة والتخفيف فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ عليكم مِنَ الْقُرْآنِ يعني: في الصلاة، من غير أن يوقت وقتاً. وقال الحسن: هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء. ثم ذكر أعذارهم فقال عزّ وجلّ: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى فلا يطيقون قيام الليل وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ وهم المسافرون للتجارة يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي: من رزقه فلا يطيقون قيام الليل وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهم المجاهدون فلا يطيقون قيام

الليل فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ذكروا أن هذا نسخ عن المسلمين بالصلوات الخمس، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: الصلوات الخمس في أوقاتها «1» وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وقد سبق بيانه «2» . قال ابن عباس: يريد سوى الزكاة في صلة الرحم وقِرى الضيف، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي: تجدوا ثوابه في الآخرة. هُوَ خَيْراً قال أبو عبيدة: المعنى: تجدوه خيراً. قال الزجاج: ودخلت «هو» فصلاً. وقال المفسرون: ومعنى «خيراً» أي: أفضل مما أُعطيتم وَأَعْظَمَ أَجْراً من الذي تؤخّرونه إلى وقت الوصيّة عند الموت.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 518: وقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة، قال: وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرّج لم تبيّن إلا بالمدينة، والله أعلم. (2) الحديد: 18.

سورة المدثر

سورة المدّثّر وهي مكّيّة بإجماعهم قال مقاتل: فيها من المدني آية، وهي قوله عزّ وجلّ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 37] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) فأمّا سبب نزولها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله قال: (1496) حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: جاورت بِحِرَاء شهراً، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت

_ صحيح. أخرجه البخاري 4923 و 4924 ومسلم 161 ح 257 و 258 وأحمد 3/ 306 و 392 والطبري 35309 وابن حبان 34 و 35 وأبو عوانة 1/ 112 و 114 و 115 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 155- 156 من طرق عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قلت: إنهم-

بطن الوادي، فنوديتُ فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر أحداً، ثم نوديتُ فرفعتُ رأسي فإذا هو في الهواء، يعني: جبريل عليه السلام، فأقبلتُ إِلى خديجة، فقلت: دثّروني دثّروني، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ. (1497) قال المفسرون: فلما رأى جبريل وقع مغشياً عليه، فلما أفاق دخل إلى خديجة، ودعا بماءٍ فصبَّه عليه، وقال: دثِّروني، فدثَّروه بقطيفة، فأتاه جبريل فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، والأعمش «المتدثِّر» بإظهار التاء، وقرأ أبو رجاء، وعكرمة، وابن يعمر «المدثر» بحذف التاء، وتخفيف الدال. قال اللغويون: وأصل «المدَّثِّر» المتدثر، فأدغمت التاء، كما ذكرنا في المتزمّل، وهذا قول الجمهور من التدثير بالثياب، وقيل المعنى: يا أيها المدثر بالنبوَّة، وأثقالها. قال عكرمة: دثّرت هذا الأمر فقم به.. قوله عزّ وجلّ: قُمْ فَأَنْذِرْ كفارَ مكة العذابَ إن لم يُوحِّدوا وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: عظِّمه عما يقول عبدة الأوثان وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ فيه ثمانية أقوال «1» : أحدها: لا تلبسها على معصية، ولا على غدر. قال غيلان بن سلمة الثقفي: وَإني بِحَمْدِ الله لاَ ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلاَ مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ «2» روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس. والثاني: لا تكن ثيابُك من مكسب غير طاهر، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: طهر نفسك من الذنب، قاله مجاهد! وقتادة. ويشهد له قول عنترة: فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِيَابَهُ ... لَيْسَ الكَرِيمُ عَلَى القَنَا بِمُحرَّمِ أي: نفسه، وهذا مذهب ابن قتيبة. قال: المعنى: طهر نفسك من الذنوب، فكنّى عن الجسم

_ يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «جاورت ... » الحديث، وفيه «وصبوا عليّ ماء باردا» . وأخرجه البخاري 4 و 3238 و 4925 و 4954 و 6214 ومسلم 161 ح 255 وأحمد 3/ 306 والترمذي 3325 والطبري 35307 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 138 و 156 وأبو نعيم في «الدلائل» 1/ 278 من طرق عن الزهري عن أبي سلمة به. انظر ما قبله.

بالثياب، لأنها تشتمل عليه. قالت ليلى الأخيلية وذَكَرَتْ إبلاً: رَمَوْها بأثواب خِفَافٍ فلا ترى ... لَهَا شَبَهَاً إلا النَّعَام المُنَفَّرا أي: ركبوها، فَرَمَوْها بأنفسهم! والعرب تقول للعفاف: إزارٌ، لأن العفيف كأنه استتر لما عَفَّ. والرابع: وعَمَلَكَ فأصلح، قاله الضّحّاك. الخامس: خُلُقَكَ فَحَسِّنْ، قاله الحسن، والقرظي. والسادس: وَثِيَابَك فقصّر وشمّر، قاله طاوس. والسابع: قَلْبَكَ فَطَهِّرْ، قاله سعيد بن جبير. ويشهد له قول امرئ القيس. فإن تك قَدْ سَاءَتْكِ مِني خَلِيقَةٌ ... فَسُلِّي ثِيابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ أي: قلبي من قلبك. والثامن: اغسل ثيابك بالماء، ونقِّها، قاله ابن سيرين، وابن زيد. قوله عزّ وجلّ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعاصم إلّا أبا بكر، ويعقوب، وابن محيصن، وابن السميفع «والرُّجزَ» بضم الراء. والباقون بكسرها. ولم يختلفوا في غير هذا الموضع. قال الزجاج: ومعنى القراءتين واحد. وقال أبو علي: قراءة الحسن بالضم، وقال: هو اسم صنم. وقال قتادة: صنمان: إساف، ونائلة. ومن كسر، الرّجز: العذاب. فالمعنى: ذو العذاب فاهجر. وفي معنى: «الرّجز» للمفسّرين فيه ستة أَقوال «1» : أحدها: أنه الأصنام، والأوثان، قاله ابن عباس. ومجاهد، وعكرمة وقتادة، والزهري، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنه الإثم، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: الشرك، قاله ابن جبير، والضحاك. والرابع: الذنب، قاله الحسن. والخامس: العذاب، قاله ابن السائب. قال الزجاج: الرجزُ في اللغة: العذاب، ومعنى الآية: اهجر ما يؤدِّي إلى عذاب الله. والسادس: الشيطان، قاله ابن كيسان. قوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: لا تعط عطيَّة تلتمس بها أفضل منها، قاله

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 521: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ على كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك، كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 303: وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال: معنى ذلك: ولا تمنن على ربك من أن تستكثر عملك الصالح. قال: وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لأن ذلك في سياق آيات تقدم فيهن أمر الله بنيه بالجدّ في الدعاء إليه، والصبر على ما يلقى من الأذى فيه، فهذه بأن تكون من أنواع تلك، أشبه منها بأن تكون من غيرها. وقال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 242: وأما من قال: أراد به العمل، أي لا تستكثر به على ربك فهو صحيح، فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر. وأما قوله: «لا تعط عطيَّة تلتمس بها أفضل منها» فهذا لا يليق بالنبي صلّى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم: 39] . وقد روي عن عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها. وفي الحديث: «لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت» . قلت: صحيح. أخرجه البخاري 2568 و 5178 وأحمد 2/ 424 وابن حبان 5291 من حديث أبي هريرة وأخرجه الترمذي 1338 وصححه ابن حبان 9292 من حديث أنس، وفي الباب من حديث ابن عمر أخرجه البخاري 5179 ومسلم 1429 وغيرهما. ومعنى الكراع: مستدق الساق من الرجل. قال ابن العربي: وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب، لأنها باب من أبواب المذلة. وكذلك قول من قال: إن معناه لا تعط عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع. وذلك في حيزه بحكم الامتناع.

ابن عباس، وعكرمة، وقتادة. قال المفسرون: معناه: أَعْطِ لِربّك وأرد به الله، فأدَّبه بأشرفِ الآداب. ومعنى «لا تمنن» : لا تعط شيئاً من مالك لتُعطَى أكثر منه. وهذا الأدب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصة، وليس على أحد من أمته إثم أن يهديَ هدية يرجو بها ثواباً أكثر منها. والثاني: لا تمنن بعملك تستكثره على ربك، قاله الحسن. والثالث: لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، قاله مجاهد. والرابع: لا تمنن على الناس بالنُّبُوَّة لتأخذ عليها منهم أجرا، قاله ابن زيد. قوله عزّ وجلّ: وَلِرَبِّكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لأجل ربك. والثاني: لثواب ربك. والثالث: لأمر ربك. والرابع: لوعْدِ ربِّك فَاصْبِرْ فيه قولان: أحدهما: على طاعته وفرائضه. والثاني: على الأذى والتكذيب. قوله عزّ وجلّ: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي: نفخ في الصور. وهل هذه النفخة هي الأولى أو الثانية؟ فيه قولان: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ أي: تعسّر الأمر فيه عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ غير هيّن، قوله: ذَرْنِي قد شرحناه في المزمل «1» وَمَنْ خَلَقْتُ أي: ومن خلقته وَحِيداً فيه قولان «2» : أحدهما: خلقته وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد، قاله مجاهد. والثاني: خلقته وحدي لم يَشْركني في خَلْقِهِ أحَدٌ، قاله الزجاج. (1498) قال ابن عباس: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، فإنك أتيت محمّدا تتعرّض لمقالته، فقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل منه قولاً يبلغ قومك أنَّك منكر له، قال: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، والله ما يشبهها الذي يقول، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو ولا يُعلى. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه. فقال: هذا سحر يؤثر: يأثره عن غيره،

_ أخرجه الحاكم 2/ 506 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 199- 200 والواحدي في «أسباب النزول» 842 عن ابن عباس، وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي، ورجاله رجال الصحيح. وورد عن عكرمة مرسلا، أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 3384. وفي إسناده راو مجهول. وورد موصولا عن ابن عباس من وجه آخر أخرجه الطبري 35420 وفيه عطية العوفي واه لكن تعدّد طرقه يفيده قوة، والله أعلم. وانظر ما بعده. وانظر «تفسير الشوكاني» 2606 بتخريجنا.

فنزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ... الآيات كلُّها. (1499) وقال مجاهد: قال الوليد لقريش: إن لي إِليكم حاجة فاجتمعوا في دار الندوة، فقال: إنكم ذوو أحساب وأحلام، وإن العرب يأتونكم، وينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا على شيء واحد. ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول: إِنه شاعر. فعبس عندها، وقال: قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر. فقالوا: نقول: إنه كاهن، قال: إِذن يأتونه فلا يجدونه يحدث بما يحدث به الكهنة، فقالوا: نقول: إِنه مجنون، قال: إذن يأتونه فلا يجدونه مجنوناً. فقالوا: نقول: إنه ساحر. قال: وما الساحر؟ قالوا: بشر يحبِّبون بين المتباغضين، ويبغِّضون بين المتحابين، قال: فهو ساحر، فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إِلا قال: يا ساحر، فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وذكر بعض المفسّرين أن قوله عزّ وجلّ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً منسوخ بآية السيف. ولا يصحّ. قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً في معنى الممدود ثلاثة أقوال: أحدها: كثيراً، قاله أبو عبيدة. والثاني: دائماً، قاله ابن قتيبة. والثالث: غير منقطع، قاله الزجاج. وللمفسرين في مقداره أربعة أقوال: أحدها: غَلَّة شهر بشهر، قاله عمر بن الخطاب. والثاني: ألف دينار، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير. قال الفرّاء: ونرى أنّ الممدود: جعل غاية للعدد، لأنّ الألف غاية للعدد يرجع في أول العدد من الألف. والثالث: أربعة آلاف، قاله قتادة. والرابع: أنه بستان كان له بالطائف لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَبَنِينَ شُهُوداً أي: حضورا معه لا يحتاجون إلى التّصرّف والنّفر فيغيبوا عنه. وفي عددهم أربعة أقوال: أحدها: عشرة، قاله مجاهد. والثاني: ثلاثة عشر، قاله ابن جبير. والثالث: اثنا عشر، قاله السدي. والرابع: سبعة، قاله مقاتل. قوله: وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي: بسطت له العيش، وطول العمر، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ فيه قولان: أحدهما: أيطمع أن أدخله الجنة. قاله الحسن. والثاني: أن أزيده من المال والولد، قاله مقاتل. إلى قوله: كَلَّا أي: لا أفعل فمنعه الله المالَ والوَلدَ حتى مات فقيراً، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي: معانداً. وفي المراد بالآيات هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن قاله ابن جبير. والثاني: الحق، قاله مجاهد. والثالث: رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله السّدّيّ. قوله عزّ وجلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال الزجاج: سأحمله على مشقة من العذاب وقال غيره:

_ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 842 معلقا عن مجاهد. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 2/ 199- 200 من طريق محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد، وأصل الخبر له شواهد كثيرة. ورد من مرسل ابن زيد، أخرجه الطبري 35424. وورد من مرسل قتادة مختصرا، أخرجه الطبري 35421. وورد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 35423. رووه بألفاظ متقاربة مختصرا ومطوّلا، فالخبر صحيح في الأصل وانظر ما قبله.

سأكلِّفه مشقةً من العذاب لا راحة له منها. وقال ابن قتيبة: «الصَّعود» : العقبة الشاقة، وكذلك «الكؤود» . (1500) وفي حديث أبي سعيد عن نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال: جبل من نار يكلَّف أن يصعده، فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت. يصعد سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً. (1501) وذكر ابن السائب أنه جبل من صخرة ملساء في النار، يكلَّف أن يصعَدها حتى إِذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلَّف أن يصعَدها، فذلك دأبه أبدا، يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة. قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ أي: تفكر ماذا يقول في القرآن وَقَدَّرَ القول في نفسه فَقُتِلَ أي: لعن كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي: لُعِن على أيّ حال قدَّر من الكلام. وقيل: «كيف» هاهنا بمعنى التعجب والإنكار والتوبيخ. فإنما كرر تأكيداً ثُمَّ نَظَرَ في طلب ما يدفع به القرآن، ويردُّه ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ قال اللغويون: أي: كَرَّهَ وَجْهَهُ وقطَّب. يقال: بسر الرجل وجهه، إذا قبضه. وأنشدوا لتَوْبَةَ: وقَدْ رَابَني مِنْها صُدُودٌ رَأَيْتُهُ ... وَإِعْرَاضُها عن حَاجتي وبُسُورُها «1» قال المفسرون: كرَّه وجهه، ونظر بكراهية شديدة، كالمهتمّ المتفكِّر في الشيء ثُمَّ أَدْبَرَ عن الإيمان وَاسْتَكْبَرَ أي: تكبر حين دعي إليه فَقالَ إِنْ هذا أي: ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي: يُروى عن السَّحَرة إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ أي: من كلام الإنس، وليس من كلام الله تعالى، فقال الله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أي: سأدخله النار. وقد ذكرنا «سقر» في سورة القمر «2» ، قوله: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لِعِظَم شَأْنِها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ أي: لا تبقي لهم لحماً إلا أكلته، ولا تذرهم إذا أُعيدوا فيها خلقاً جديداً لَوَّاحَةٌ أي: مغيِّرة يقال: لاحته الشمس، أي: غيّرته. وأنشدوا:

_ ضعيف. وصدر الحديث أخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 382 من طريق عبد الله بن سليمان عن منجاب بن الحارث أنا شريك عن عمار الذهني عن عطية العوفي عن أبي سعيد، وعطية ضعيف. وأخرجه الطبري 35412 من طريق شريك به. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 131: أخرجه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه عطية، وهو ضعيف. وأخرجه أحمد 3/ 75 والترمذي 3326 والحاكم 2/ 507 والطبري 35413 والبيهقي في «البعث» 513 من حديث أبي سعيد بلفظ «الصعود جبل في النار يكلف الكافر أن يصعد فيه سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً» . وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن درّاج. وقال ابن كثير: وفيه غرابة ونكارة، قلت: إسناده ضعيف لضعف درّاج في روايته عن أبي الهيثم، وتابعه عطية عند الطبري 35412 وعطية ضعيف، والحديث صححه الحاكم! وسكت الذهبي، ولعل سبب سكوت الذهبي عليه هو كون الحديث في مقام الترهيب، وقد تساهل أهل العلم في ذلك والله أعلم. وانظر «فتح القدير» 2607 بتخريجنا ولله الحمد والمنة. عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وقد كذّبه غير واحد، وهو ساقط الرواية.

يا ابْنَةَ عَمِّي لاَحَني الهواجر وقرأ ابن مسعود، وابن السّميفع، وابن عبلة «لوَّاحةً» بالنصب. وفي «البَشَر» قولان: أحدهما: أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة، وهذا قول مجاهد، والفراء، والزجاج. والثاني: أنهم الإنس من أهل النار، قاله الأخفش، وابن قتيبة في آخرين. قوله عزّ وجلّ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ وهم خزنتها. (1502) مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كَفّ أحدهم مثل ربيعة ومضر. قد نزعت منهم الرحمة. فلما نزلت هذه الآية قال أبو جهل: يخوّفكم محمّد بتسعة عشر، ما له من الجنود إلا هؤلاء! أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم يخرجون من النار! فقال أبو الأشد «1» قال مقاتل: اسمه: أسيد بن كلدة. وقال غيره: كلدة بن خلف الجمحي: يا معشر قريش: أنا أمشي بين أيديكم وأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر، فندخل الجنة، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً لا آدميين، فمن يطيقهم ومن يغلبهم؟! وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ في هذه القِلَّة إِلَّا فِتْنَةً أي: ضلالة لِلَّذِينَ كَفَرُوا حتى قالوا ما قالوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أن ما جاء به محمد حق، لأن عِدَّتهم في التوراة تسعة عشر، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا من أهل الكتاب إِيماناً أي: تصديقا بمحمّد صلّى الله عليه وسلم إذ وجدوا ما يخبرهم به موافقاً لما في كتابهم وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ أي: ولا يشك هؤلاء في عدّة الخَزَنَة. وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النفاق، ذكره الأكثرون. والثاني: أنه الشك، قاله مقاتل، وزعم أنهم يهود أهل المدينة، وعنده أن هذه الآية مدنية. والثالث: أنه الخلاف، قاله الحسين بن الفضل. وقال: لم يكن بمكة نفاق. وهذه مكية. فأما «الكافرون» فهم مشركو العرب، ماذا أَرادَ اللَّهُ أي: أي شيء أراد الله بِهذا الحديث والخبر مَثَلًا والمثل يكون بمعنى الحديث نفسه ومعنى الكلام: يقولون ما هذا من الحديث كَذلِكَ أي: كما أضلَّ من أنكر عدّة الخَزَنَة، وهدى من صدَّق يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وأُنزل في قول أبي جهل: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار. وذلك أن لكل واحد من هؤلاء التسعة عشر من الأعوان ما لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ، وذكر الماوردي في وجه الحكمة في كونهم تسعة عشرة قولاً محتملاً، فقال: التسعة عشر: عدد يجمع أكثر القليل، وأقل الكثير، لأن الآحاد أقل الأعداد، وأكثرها تسعة، وما سوى الآحاد كثير. وأقل الكثير: عشرة، فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير، وأكثر القليل. ثم رجع إلى ذكر النار فقال عزّ وجلّ: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى أي: ما

_ لا أصل له بهذا اللفظ. ذكره الزمخشري في «الكشاف» 4/ 651 فقال الحافظ: لم أجده. والظاهر أن مصدره مقاتل، حيث ذكره المصنف في أثناء الخبر، أو يكون الكلبي، وكلاهما ممن يضع الحديث.

[سورة المدثر (74) : الآيات 38 إلى 56]

النار في الدنيا إلّا مذكّرة بنار الآخرة كَلَّا أي: حقاً وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «إذا أدبر» وقرأ نافع، وحمزة، وحفص، والفضل عن عاصم، ويعقوب وخلف، «إذ» بسكون الذال من غير ألف بعدها «أدبر» بسكون الدال، وبهمزة قبلها. وهل معنى القراءتين واحد، أم لا؟ فيه قولان «1» : أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد. يقال: دبر الليل، وأدبر، ودبر الصيف وأدبر، هذا قول الفراء. والأخفش، وثعلب. والثاني: أن «دبر» بمعنى خلف، و «أدبر» بمعنى وَّلى. يقال: دبرني فلان: جاء خلفي، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيدة وابن قتيبة. قوله عزّ وجلّ: إِذا أَسْفَرَ أي: أضاء وتبيَّن إِنَّها يعني: سقر لَإِحْدَى الْكُبَرِ قال ابن قتيبة: الكُبَر، جمع كبرى، مثل الأُوَل والأُولى، والصُّغَر والصُّغْرى. وهذا كما يقال: إنها لإحدى العظائم. قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها. وقال ابن السائب، ومقاتل: أراد بالكُبَر: دركات جهنّم السبعة. قوله عزّ وجلّ: نَذِيراً لِلْبَشَرِ قال الزجاج: نصب «نذيراً» على الحال. والمعنى: إِنها لكبيرة في حال الإنذار. وذَكَّر «النذير» ، لأن معناه معنى العذاب. ويجوز أن يكون «نذيراً» منصوباً متعلقاً بأول السورة، على معنى: قم نذيرا للبشر. قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ بدل من قوله عزّ وجلّ: «للبشر» ، أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن يتقدَّم في طاعة الله أو يتأخَّر عن معصيته، قاله ابن جريج. والثاني: أن يتقدَّم إلى النار، أو يتأخَّر عن الجنة، قاله السدي. والثالث: أن يتقدَّم في الخير، أو يتأخر إلى الشر، قاله يحيى بن سلام. والرابع: أن يتقدَّم في الإيمان، أو يتأخَّر عنه. والمعنى: أن الإِنذار قد حصل لكل أحد ممن أقر أو كفر. [سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) قوله عزّ وجلّ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كل نفس بالغةٍ مُرتَهنةٌ بعملها لتُحاسَب عليه إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ وهم أطفال المسلمين، فإنه لا حساب عليهم، لأنه لا ذنوب عليهم، قاله عليّ رضي الله عنه واختاره الفراء. والثاني: كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار، إلّا أصحاب

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 315: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان بمعنى، وذلك أنه محكي عن العرب، قبح الله ما قبل وأبر، ودبر الصيف وأدبر، وكذلك قبل وأقبل، وأخرى أن أهل التفسير لم يميزوا في تفسيرهم بين القراءتين وذلك دليل على أنهم فعلوا ذلك كذلك، لأنهما بمعنى واحد. [.....]

اليمين، وهم المؤمنون، فإنهم في الجنة، قاله الضحاك. والثالث: كل نفس مرتهنةٌ بعملها لتحاسب عليه إلا أصحاب اليمين، فإنهم لا يحاسبون، قاله ابن جريج. قوله عزّ وجلّ: يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ قال مقاتل: إذا خرج أهل التوحيد من النار قال المؤمنون لمن بقي في النار: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قال الفرّاء: وهذه الآية تقوّي أنهم الولدان لأنهم لم يعرفوا الذنوب فسألوا ما سلككم في سقر؟ قال المفسرون: سلككم بمعنى: أدخلكم. وقال مقاتل: ما حبسكم فيها؟ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ لله في دار الدنيا وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي: لم نتصدَّق لله وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أهل الباطل والتكذيب وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي: بيوم الجزاء والحساب حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ وهو الموت. يقول الله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ وهذا إنما جرى بعد شفاعة الأنبياء والملائكة والشهداء والمؤمنين. وهذا يدل على أنّ نفع الشفاعة لمن آمن. قوله: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ يعني: كفار قريش حين نفروا من القرآن والتذكير بمواعظه. والمعنى: لا شيء لهم في الآخرة إِذْ أعرضوا عن القرآن ولم يؤمنوا به، ثم شبَّههم في نفورهم عنه بالحمر، فقال عزّ وجلّ: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم بفتح الفاء. والباقون بكسرها. قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: من قرأ بفتح الفاء أراد: مذعورة، استنفرت فنفرت، ومن قرأ بكسر الفاء أراد: نافرة: قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: حُمُرٌ مستنفَرة. وناس من العرب يكسرون الفاء. والفتح أكثر في كلام العرب. وقراءتنا بالكسر. أنشدني الكسائي: اِحْبِسْ حِمَارَك إنَّه مُسْتَنْفِرُ ... في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عمدن لغرّب «وغرّب» موضع. وفي «القسورة» سبعة أقوال: أحدها: أنه الأسد، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس: وبه قال أبو هريرة، وزيد بن أسلم، وابنه. قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عايَنَتْ الأسد هَرَبَتْ منه، فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم هربوا منه، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة، والزجاج. قال ابن قتيبة: كأنَّه من القَسْرِ والقهر. والأسد يقهر السباع. والثاني: أن القسورة: الرماة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وابن كيسان. والثالث: أن القسورة: حِبَال الصيادين، رواه عكرمة عن ابن عباس. والرابع: أنهم عُصَبُ الرِّجَال، رواه أبو حمزة عن ابن عباس. واسم أبي حمزة: نصر بن عمران الضبعي. والخامس: أنه رِكْز الناس، وهذا في رواية عطاء أيضاً عن ابن عباس. ورِكْز الناس: حِسُّهم وأصواتهم. والسادس: أنه الظُّلْمة والليل، قاله عكرمة. والسابع: أنه النَّبْل، قاله قتادة. قوله عزّ وجلّ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: إن سَرَّك أن نَتَّبِعْك، فليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله تعالى إلى فلان بن فلان يؤمر فيه باتِّباعك قاله الجمهور «1» . والثاني: أنهم أرادوا براءةً من النار أن لا يعذَّبوا بها، قاله أبو صالح. والثالث: أنهم قالوا: كان الرجل إذا أذنب في بَني إسرائيل وجده مكتوباً إذا أصبح في رقعة.

_ (1) عزاه المصنف للجمهور. وهو عند الطبري 35519 عن قتادة. وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 461 لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد.

فما بالنا لا نرى ذلك؟ فنزلت هذه الآية، قاله الفراء. فقال الله تعالى: كَلَّا أي: لا يؤتَون الصُّحُف بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي: لا يخشون عذابها. فالمعنى: أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالة كَلَّا أي: حقاً. وقيل: معنى (كلا) : ليس الأمر كما يريدون ويقولون إِنَّهُ يعني القرآن تَذْكِرَةٌ أي: تذكير وموعظة فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ الهاء عائدة على القرآن فالمعنى: فمن شاء أن يذكر القرآن ويتعظ به ويفهمه، ذَكره. ثم رد المشيئة إلى نفسه فقال عزّ وجلّ: وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي: إلا أن يريد لهم الهدى هُوَ أَهْلُ التَّقْوى أي: أهل أن يُتَّقى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي: أهل أن يَغفِر لمن تاب. (1503) روى أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية، فقال: «قال ربكم عزّ وجلّ: أنا أهل أن أُتقى، فلا يشرك بي غيري. وأنا أهل لمن اتَّقى أن يشرك بي غيري أن أغفر له» .

_ ضعيف، في إسناده سهيل بن أبي حزم ضعيف، ومداره عليه. قال الحافظ في «التهذيب» قال أحمد: روى أحاديث منكرة، وقال ابن معين: صالح. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات. أخرجه ابن ماجة 4299 وأبو يعلى 3317 من طريق هدبة بن خالد ثنا سهيل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس به. وأخرجه الترمذي 3325 وأحمد 3/ 142 و 243 والدارمي 2/ 302- 303 والحاكم 2/ 508 والواحدي في «الوسيط» 4/ 388- 389 من طرق عن سهيل بن أبي حزم به. وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث، وقد تفرّد سهيل بهذا الحديث عن ثابت. الخلاصة: هو حديث ضعيف. وانظر «فتح القدير» 2612 و «الجامع لأحكام القرآن» 6180 بتخريجنا.

سورة القيمة

سورة القيمة وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) قوله تعالى: لا أُقْسِمُ اتفقوا على أن المعنى «قسم» واختلفوا في «لا» فجعلها بعضهم زائدة، كقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» وجعلها بعضهم توكيدا للقسم كقولك: لا والله لا أفعل، وجعلها بعضهم رداً على منكري البعث. ويدل عليه أنه «أقسم» على كون البعث. قال ابن قتيبة: زيدت «لا» على نية الرد على المكذبين، كما تقول: لا والله ما ذاك كما تقول: ولو حذفت جاز، ولكنه أبلغ في الرد. وقرأ ابن كثير إلا ابن فليح «لأقسم» بغير ألف بعد اللام فجعلها لاما دخلت على «أقسم» ، وهي قراءة ابن عباس، وأبي عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، وعكرمة. وابن محيصن. قال الزجاج: من قرأ «لأقسم» فاللام لام القسم والتوكيد. وهذه القراءة بعيدة في العربية، لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون، تقول: لأَضربنَّ زيداً. ولا يجوز: لأَضْرِبُ زيداً. قوله عزّ وجلّ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال الحسن: أَقسمَ بالأولى ولم يقسم بالثانية. وقال قتادة: حكمها حكم الأولى. وفي «النفس اللّوامة» ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها المذمومة، قاله ابن عباس. فعلى هذا: هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم. والثاني: أنها النفس المؤمنة، قاله الحسن. قال: لا ترى المؤمن

_ (1) الحديد: 29. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 528: إن المقسم عليه متى كان منفيا جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي، والمقسم عليه هاهنا إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بعث الأجساد، ولهذا قال: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قال قتادة رحمه الله وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير واختاره ابن جرير.

إلا يلوم نفسه على كل حال. والثالث: أنها جميع النفوس. قال الفراء: ليس من نفس بَرَّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت: هلّا زدت. وإن كانت عملت سوءا قالت: ليتني لم أفعل «1» . قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ المراد بالإنسان هاهنا: الكافر. وقال ابن عباس: يريد أبا جهل. (1504) وقال مقاتل: عدي بن ربيعة وذلك أنه قال: أيجمع الله هذه العظام؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم له: «نعم» ، فاستهزأَ مِنْه، فنزلت هذه الآية. قال ابن الأنباري: وجواب القسم محذوف كأنه: ليبعثنّ ليحاسبنّ، فدلّ قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ على الجواب، محذوف. وقوله عزّ وجلّ: بَلى وقف حسن. ثم يُبتدأ قادِرِينَ على معنى: بلى نجمعها قادرين، ويصلح نصب «قادرين» على التكرير: بلى فَلْيَحْسَبْنَا قادرين عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ وفيه قولان: أحدهما: أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفّ البعير، وحافر الحمار، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة والخياطة، هذا قول الجمهور. والثاني: نقدر على تسوية بنانه كما كانت، وإن صغرت عظامها، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع كبارها أقدر، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج. وقد بينا معنى البنان في الأنفال «2» . قوله عزّ وجلّ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فيه قولان: أحدهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، قاله ابن عباس. والثاني: يقدِّم الذنب ويؤخِّر التوبة، ويقول: سوف أتوب، قاله سعيد بن جبير. فعلى هذا: يكون المراد بالإنسان: المسلم. وعلى الأول: الكافر. قوله عزّ وجلّ: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي: متى هو؟ تكذيباً به، وهذا هو الكافر، فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قرأ أهل المدينة، وأبان عن عاصم «بَرَق» بفتح الراء، والباقون بكسرها: قال الفراء: العرب تقول: بَرِق البصر يبرَق، وبَرَق يبرُق: إذا رأى هولاً يفزع منه. و «بَرِق» أكثر وأجود. قال الشاعر: فَنَفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَني ... ودَاوِ الكُلُومَ ولاَ تَبْرَقِ «3» بالفتح. يقول: لا تفزع من هول الجراح التي بك. قال المفسرون: يشخص بصر الكافر يوم القيامة، فلا يَطْرِفُ لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا. وقال مجاهد: برق البصر عند الموت. قوله عزّ وجلّ: وَخَسَفَ الْقَمَرُ قال أبو عبيدة: خسف وكسف بمعنى واحد، أي: ذهب ضوءه.

_ لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 843 بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 659: ذكره الثعلبي والبغوي والواحدي بغير إسناد. فالخبر باطل لا أصل له، ولم ينسبه هؤلاء إلى قائل، ولم يذكره السيوطي في «الدر» ولا في «أسباب النزول» ولا ذكره الطبري، وكل ذلك دليل على وضعه، والله أعلم. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6181.

[سورة القيامة (75) : الآيات 16 إلى 25]

قوله عزّ وجلّ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إنما قال: «جمع» لتذكير القمر، هذا قول أبي عبيدة. وقال الفراء: إنما لم يقل: جُمِعَتْ، لأن المعنى: جمع بينهما وفي معنى الآية قولان: أحدهما: جمع بين ذاتَيْهما. وقال ابن مسعود: جمعا كالبعيرين القرينين. وقال عطاء بن يسار: يُجْمَعَان ثم يُقْذَفَان في البحر. وقيل: يُقْذَفَان في النار. وقيل: يجمعان، فيطلعان من المغرب. والثاني: جمع بينهما في ذهاب نورهما، قاله الفراء، والزجاج. قوله عزّ وجلّ: يَقُولُ الْإِنْسانُ يعني: المكذِّب بيوم القيامة أَيْنَ الْمَفَرُّ قرأ الجمهور بفتح الميم، والفاء، وقرأ ابن عباس، ومعاوية، وأبو رزين وأبو عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والضّحّاك والزّهريّ، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: بكسر الفاء. قال الزجاج: فمن فتح، فالمعنى: أين الفرار؟ ومن كسر، فالمعنى: أين مكان الفرار؟ تقول: جلست مجلَساً بالفتح، يعني: جلوساً. فإذا قلت: مجلسا بالكسر. فأنت تريد المكان. قوله عزّ وجلّ: كَلَّا لا وَزَرَ قال ابن قتيبة: لا ملجأ. وأصل الوزر: الجبل الذي يمتنع فيه إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ أي: المنتهى والمرجع. يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ فيه ستة أقوال: أحدها: بما قدَّم قبل موته، وما سنَّ من شيء فعُمِل به بعد موته، قاله ابن مسعود، وابن عباس. والثاني: يُنَبَّأُ بأوَّل عمله وآخره. قاله مجاهد. والثالث: بما قدَّم من الشَّرِّ، وأخَّر من الخير. قاله عكرمة. والرابع: بما قدَّم من فرض، وأخَّر من فرض، قاله الضحاك. والخامس: بما قدَّم من المعصية، وأخّر من الطاعة. والسادس: بما قدَّم من أمواله، وما خلَّف للورثة قاله زيد بن أسلم. قوله عزّ وجلّ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قال الفراء: المعنى: بل على الإنسان من نفسه بصيرة، أي رقباء يشهدون عليه بعمله، وهي: الجوارح. قال ابن قتيبة: فلما كانت جوارحه منه، أقامها مقامه. وقال أبو عبيدة: جاءت الهاء في «بصيرة» في صفة الذّكر، كما كانت في: رجل راوية، وطاغية، وعلّامة. قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ. وفي المعاذير قولان: أحدهما: أنه جمع عذر، فالمعنى: لو اعتذر، وجادل عن نفسه، فعليه من يكذَّب عذره، وهي: الجوارح، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أن المعاذير جمع معذار، وهو: الستر. والمعاذير: الستور. فالمعنى: ولو أرخى ستوره، هذا قول الضحاك، والسدي، والزجاج. فيخرج في معنى «ألقى» قولان: أحدهما: قال، ومنه: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ «1» ، وهذا على القول الأول. والثاني: أرخى، وهذا على القول الثاني. [سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 25] لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) قوله عزّ وجلّ: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ

_ (1) النحل: 36.

(1505) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يشتد عليه حِفظه، وكان إذا نزل عليه الوحي يُحرِّك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، مخافة أن لا يحفَظه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. معناها: لا تحرك بالقرآن لسانك لتعجل بأخذه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ قال ابن قتيبة: أي: ضمَّه وجمعه في صدرك فَإِذا قَرَأْناهُ أي: جمعناه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي: جمعه. قال المفسرون: يعني: اقرأه إذا فرغ جبريل من قراءته «1» . قال ابن عباس: فاتِّبع قرآنه، أي: اعمل به. وقال قتادة: فاتبع حلاله وحرامه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: نبيِّنه بلسانك، فتقرؤه كما أقرأك جبريل. وكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب، قرأه كما وعده الله، قاله ابن عباس. والثاني: إِن علينا أن نجزيَ به يوم القيامة بما فيه من وعد ووعيد، قاله الحسن. والثالث: إِن علينا بيانه: ما فيه من الأحكام، والحلال، والحرام، قاله قتادة. والرابع: علينا أن ننزِّله قرآناً عربياً، فيه بيان للناس، قاله الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال عطاء: أي: لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه، وقال ابن جرير: والمعنى: ليس الأمر كما تقولون من أنكم لا تُبْعَثُون، ولكن دعاكم إلى قِيلِ ذلك مَحَبَّتُكم للعاجلة. قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو «بل يحبون العاجلة ويذرون» بالياء فيهما. وقرأ الباقون بالتاء فيهما. والمراد: كفار مكة، يحبونها ويعملون لها «ويذرون الآخرة» أي: يتركون العمل إيثارا للدنيا عليها. قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي: مشرقة بالنّعم إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ روى عطاء عن ابن عباس قال: إلى الله ناظرة. قال الحسن: حق لها أن تَنْضَر وهي تنظر إلى الخالق، وهذا مذهب عكرمة. ورؤية الله عزّ وجلّ حقّ لا شكّ فيها. والأحاديث صحيحة صحاح، قد ذكرتُ جملة منها في «المغني» و «الحدائق» . قوله عزّ وجلّ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ قال ابن قتيبة: أي: عابسة مقطّبة. قوله عزّ وجلّ: تَظُنُّ قال الفراء: أي: تعلم، و «الفاقرة» يقال: إنه الداهية. قال ابن قتيبة: إنه من فَقارة الظهر، كأنها تكسره، يقال: فَقَرْتُ الرجل إذا كسرتَ فَقارَه، كما يقال: رَأَسْتُه: إذا ضربتَ رأْسَه، وبَطَنْتُه: إذا ضَرَبْتَ بَطْنَه. قال ابن زيد: والفاقرة: دخول النار. قال ابن السائب: هي أن تُحْجَبَ عن ربها، فلا تنظر إليه.

_ صحيح. أخرجه البخاري 4929 والبغوي في «التفسير» 2297 بترقيمنا عن قتيبة بن سعيد بن عن ابن عباس. وأخرجه البخاري 5 و 4927 و 4928 و 5044 و 7524 ومسلم 448 والترمذي 3329 والنسائي في «التفسير» 654 من طريق موسى بن أبي عائشة به.

[سورة القيامة (75) : الآيات 26 إلى 40]

[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال الزجاج: «كلا» ردع وتنبيه. المعنى: ارتَدِعوا عما يؤدِّي إلى العذاب. وقال غيره: معنى «كلا» : لا يُؤْمِنُ الكافر بهذا. قوله عزّ وجلّ: إِذا بَلَغَتِ يعني: النفس. وهذه كناية عن غير مذكور. والتَّراقِيَ العظام المكتنفة لنُقْرَة النَّحر عن يمين وشمال. وواحدة التراقي تَرْقوة، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، وَقِيلَ مَنْ راقٍ فيه قولان: أحدهما: أنه قول الملائكة بعضهم لبعض: من يرقى روحه، ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب؟ رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية ومقاتل. والثاني: أنه قول أهله: هل مِنْ رَاقٍ يَرْقيه بالرُّقى؟ وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال عكرمة، والضحاك، وأبو قلابة، وقتادة، وابن زيد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج. قوله عزّ وجلّ: وَظَنَّ أي: أيقن الذي بلغت روحه التراقيَ أَنَّهُ الْفِراقُ للدنيا وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ فيه خمسة أقوال: أحدها: أمر الدنيا بأمر الآخرة، رواه الوالبي عن ابن عباس: وبه قال مقاتل. والثاني: اجتمع فيه الحياة والموت، قاله الحسن. وعن مجاهد كالقولين. والثالث: التفت ساقاه في الكفن، قاله سعيد بن المسيب. والرابع: التفت ساقاه عند الموت، قاله الشعبي. والخامس: الشّدة بالشّدة، قاله قتادة. آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة. قوله عزّ وجلّ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي: إلى الله المنتهى، قوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى قال أبو عبيدة: «لا» هاهنا في موضع «لم» . قال المفسرون هو أبو جهل وَلكِنْ كَذَّبَ بالقرآن وَتَوَلَّى عن الإيمان ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي: رجع إليهم يتبختر ويختال. قال الفراء: يَتَمَطَّى أي: يتبختر، لأن الظهر هو المَطَا، فيلوي ظهره متبختراً. وقال ابن قتيبة: أصله يتمطّط، فقلبت الطاء فيه، كما قيل: يتظنّى، أي: يتظنن، ومنه المشية المُطَيْطَاء. وأصل الطاء في هذا كله دال. إنما هو مد يده في المشي إذا تبختر. يقال: مَطَطتُ ومَدَدتُ بمعنى. قوله عزّ وجلّ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى قال ابن قتيبة: هو تهديد ووعيد. وقال الزجاج: العرب تقول: أولى لفلان: إِذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه: وليك المكروه يا أبا جهل. قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ يعني: أبا جهل أَنْ يُتْرَكَ سُدىً قال ابن قتيبة: أي: يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعاقب، يقال: أسديت الشيء، أي: أهملته. ثم دل على البعث ب قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى قرأ أبن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تُمْنَى» بالتاء. وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم، ويعقوب «يُمْنَى» بالياء. وعن أبي عمرو كالقراءتين. وقد شرحنا هذا في النجم «1» ثُمَّ كانَ عَلَقَةً بعد النطفة فَخَلَقَ فيه الروح، وسَوَّى خلقه فَجَعَلَ مِنْهُ أي:

_ (1) النجم: 24.

خَلَقَ من مائه أولاداً ذكوراً وإناثاً أَلَيْسَ ذلِكَ الذي فعل هذا بِقادِرٍ على أن يحيي الموتى وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري «يقدر» عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وهذا تقرير لهم، أي: إن من قَدَر على الابتداء قَدَر على الإعادة. (1506) قال ابن عباس: إذا قرأ أحدكم هذه الآية، فليقل: اللهم بلى.

_ أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا كما في «الدر» 6/ 479. وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. أخرجه أبو داود 887 عن عبد الله بن محمد الزهري به. وأخرجه أحمد 2/ 249 والترمذي 3347 مختصرا والبيهقي 2/ 310 من طريق إسماعيل بن أمية به. وقال الترمذي: هذا حديث إنما يروى بهذا الإسناد عن هذا الأعرابي عن أبي هريرة، ولا يسمى اه. وأخرجه الحاكم 2/ 510 من طريق إسماعيل بن أمية عن أبي اليسع عن أبي هريرة به وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! في حين قال الذهبي في «الميزان» 4/ 589: أبو اليسع لا يدرى من هو. وأخرجه عبد الرزاق 3658 في «التفسير» عن إسماعيل بن أمية مرسلا، وهو الصحيح. الخلاصة: الحديث ضعيف بصيغة الأمر، وأما كونه مستحب فهو حسن كما في حديث موسى بن أبي عائشة أخرجه أبو داود 884 والبيهقي 2/ 310 وعبد الرزاق في «التفسير» عن إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة: أن رجلا حدثهم أنه سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلم.

سورة الإنسان

سورة الإنسان سورة هل أتى: ويقال لها: سورة الدهر وفيها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها مدنيّة كلّها، قاله الجمهور منهم، مجاهد وقتادة. والثاني: مكيّة، قاله ابن يسار، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس. والثالث: أنّ فيها مكّيّا ومدنيّا. ثم في ذلك قولان: أحدهما: أن المكّيّ منها آية، وهي قوله عزّ وجلّ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وباقيها جميعه مدنيّ، قاله الحسن وعكرمة. والثاني: أنّ أوّلها مدنيّ إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «2» ومن هذه الآية إلى آخرها مكّيّ، حكاه الماورديّ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) قوله تعالى: هَلْ أَتى قال الفراء: معناه: قد أتى. و «هل» تكون خبراً، وتكون جحداً، فهذا من الخبر، لأنك تقول: هل وعظتك؟ هل أعطيتك؟ فتقرِّره بأنك قد فعلت ذلك. والجحد، أن تقول: وهل يقدر أحد على مثل هذا؟ وهذا قول المفسرين، وأهل اللغة. وفي هذا الإنسان قولان: أحدهما: أنه آدم عليه السلام. والحين الذي أتى عليه: أربعون سنة، وكان مصوَّراً من طين لم يُنُفَخ فيه الروح، هذا قول الجمهور. والثاني: أنه جميع الناس، روي عن ابن عباس، وابن جريج، فعلى هذا يكون الإنسان اسم جنس، ويكون الحين زمان كونه نطفة، وعلقة، ومضغة. قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً المعنى: أنه كان شيئاً، غير أنه لم يكن مذكوراً. قوله عزّ وجلّ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني: ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ قال ابن قتيبة: أي: أخلاط. يقال: مشجته، فهو مشيج، يريد: اختلاط ماء المرأة بماء الرجل. قوله تعالى: نَبْتَلِيهِ قال الفراء: هذا مقدَّم، ومعناه التأخير، لأن المعنى: خلقناه وجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه. قال الزجاج: المعنى: جعلناه كذلك لنختبره وقوله عزّ وجلّ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ

_ (1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 19/ 170: قال الجمهور: مدنية وقيل: فيها مكي، من قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا [الإنسان: 23] إلى آخر السورة وما تقدّمه مدني. (2) الإنسان: 23.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 إلى 31]

أي بيَّنَّا له سبيل الهدى بنصب الأَدلة، وبعث الرسول «1» إِمَّا شاكِراً أي: خلقناه إما شاكرا وَإِمَّا كَفُوراً وقال الفراء: بيَّنَّا له الطريق إن شكر، أو كفر. [سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 31] إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة «سلاسل» بغير تنوين، ووقفوا بألف، ووصله أبو عمرو بألف من غير تنوين والباقون يصلون بالتنوين ويقفون بألف. قال مكي بن أبي طالب النحوي: «سلاسل» و «قوارير» أصله أن لا ينصرف، ومن صرفه من القراء، فإنها لغة لبعض العرب. وقيل: إنما صرفه لأنه وقع في المصحف بالألف، فصرفه لاتباع خط المصحف. قال مقاتل: السلاسل في أعناقهم، والأغلال في أيديهم. وقد شرحنا معنى «السّعير» في سورة النّساء «2» . قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْأَبْرارَ واحدهم بَرٌّ، وبَارٌّ، وهم الصادقون. وقيل: المطيعون. وقال الحسن: وهم الذين لا يؤذون الذَّر يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي: من إناءٍ فيه شراب كانَ مِزاجُها يعني:

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 535: وقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بيناه له ووضحناه وبصّرناه به، كقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى وكقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ، أي بينا له طريق الخير وطريق الشر، وهذا قول عكرمة وعطية وابن زيد ومجاهد- في المشهور عنه- والجمهور. (2) النساء: 10.

مزاج الكأس كافُوراً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكافور المعروف، قاله مجاهد، ومقاتل، فعلى هذا في المراد «بالكافور» ثلاثة أقوال: أحدها: برده، قاله الحسن. والثاني: ريحه، قاله قتادة. والثالث: طعمه، قاله السدي. والثاني: أنه اسم عين في الجنة، قاله عطاء، وابن السائب. والثالث: أن المعنى: مزاجها كالكافور لطيب ريحه، وأجازه الفراء، والزجاج. قوله عزّ وجلّ: عَيْناً قال الفراء: هي المفسرة للكافور، وقال الأخفش: هي منصوبة على معنى: أعني عيناً. وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى: من عين، قوله: يَشْرَبُ بِها فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يشرب منها. والثاني: يشربها، والباء صلة. والثالث: يشرب بها عباد الله الخمر يمزجونها بها. وفي هذه العين قولان: أحدهما: أنها الكافور الذي سبق ذكره. والثاني: التّسنيم، وعِبادُ اللَّهِ هاهنا: أولياؤه يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً قال مجاهد: يقودونها إلى حيث شاؤوا من الجنة. قال الفراء: حيث ما أحب الرجل من أهل الجنّة فجّرها لنفسه. قوله عزّ وجلّ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قال الفراء: فيه إضمار «كانوا» يوفون بالنذر. وفيه قولان «1» : أحدهما: يوفون بالنذر إذا نذروا في طاعة الله، قاله مجاهد، وعكرمة. والثاني: يوفون بما فرض الله عليهم، قاله قتادة. ومعنى «النذر» في اللغة: الإيجاب. فالمعنى يوفون بالواجب عليهم، قوله: وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً قال ابن عباس: فاشياً. وقال ابن قتيبة: فاشياً منتشراً. يقال: استطار الحريق: إِذا انتشر، واستطار الفجر: إذا انتشر الضوء. وأنشدوا للأعشى:

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 536: وقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي: يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر. وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 19/ 115: أي لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة: بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والحج والعمرة، وغيره من الواجبات. والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه في شيء يفعله، وإن شئت قلت: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقد قال الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج: 29]- أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم امتثال أمر الله بإحرامهم الحج. وهذا يقوي قول قتادة. قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 353: النذر مكروه بالجملة، ثبت في الصحيح عن مالك عن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قال تعالى: لا يأتي النذر على ابن آدم بشيء لم أكن قدّرته له، إنما يستخرج به من البخيل» - قلت: حديث صحيح. أخرجه أحمد 2/ 242 والحميدي 1112 والطحاوي في «المشكل» 842 من طريق سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى. وأخرجه أبو داود 3288 من طريق مالك به ولم يقل: «قال الله تعالى: ... » وأخرجه البخاري 6694 والنسائي 7/ 106. من طريق أبي الزناد به، وليس فيه «قال الله تعالى» . وأخرجه البخاري 6694 ومسلم 1640 والنسائي 7/ 16- 17 والترمذي 1538 وابن ماجة 2123 وأحمد 2/ 373 و 412 و 463 وابن أبي عاصم في «السنة» 312 وابن حبان 4376 والحاكم 4/ 304 والبيهقي 10/ 77 من طريق عبد الرحمن الأعرج به. ولم يقل: «قال الله تعالى» . قال ابن العربي: وذلك لفقه صحيح، وهو أن الباري سبحانه وعد بالرزق على العمل ومنه مفروض، ومنه مندوب، فإذا عين العبد ليستدر به الرزق، أو يستجلب به الخير، أو يستدفع به الشر لم يصل إليه به، فإن وصل فهو لبخله. والله أعلم. [.....]

فبانت وقد أسأرت في الفؤاد ... صَدْعاً عَلَى نَأْيِها مُسْتَطِيراً «1» وقال مقاتل: كان شرّه فاشيا في السموات، وانشقّت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكوِّرت الشمس والقمر في الأرض، ونُسِفَتْ الجبال، وغَارَت المياه، وتكَسَّر كل شيء على وجه الأرض من جبلٍ، وبناءٍ، وفَشَا شَرُّ يوم القيامة فيهما. قوله عزّ وجلّ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: (1507) أحدهما: نزلت في علي بن أبي طالب. آجر نفسه يسقي نخلاً بشيء من شعيرٍ ليلة حتى أصبح، فلما قبض الشعير طحن ثلثه، وأصلحوا منه شيئاً يأكلونه، فلما استوى أتى مسكين، فأخرجوه إليه، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم أتى يتيم، فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي، فلمّا تمّ جاء أسير من المشركين، فأطعموه وطوَوْا يومهم ذلك، فنزلت هذه الآيات، رواه عطاء عن ابن عباس. (1508) والثاني: أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري صام يوماً، فلما أراد أن يفطر جاء مسكين، ويتيم، وأسير، فأطعمهم ثلاثة أرغفة، وبقي له ولأهله رغيف واحد، فنزلت فيهم هذه الآية، قاله مقاتل. وفي هاء الكناية في قوله عزّ وجلّ عَلى حُبِّهِ قولان: أحدهما: ترجع إلى الطعام، فكأنهم كانوا يُؤْثِرُون وهم محتاجون إليه، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والزجاج، والجمهور. والثاني: أنها ترجع إلى الله تعالى، قاله الداراني. وقد سبق معنى «المسكين واليتيم» «2» . وفي الأسير أربعة أقوال «3» : أحدها: أنه المسجون من أهل القبلة، قاله مجاهد، وعطاء وسعيد بن جبير. والثاني: أنه الأسير المشرك، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: المرأة، قاله أبو حمزة الثمالي. والرابع: العبد، ذكره الماورديّ.

_ موضوع. ذكره الواحدي في «الأسباب» 844 عن عطاء عن ابن عباس معلقا بدون إسناد. وأخرجه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس، ومن رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، في قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ... الآية فذكره بتمامه، وزاد في أثناءه أشعارا لعلي وفاطمة. قاله الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 670. وأخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 390 عن الأصبغ بن نباتة ... فذكره بشعره وزيادة بعض الألفاظ، ثم قال: وهذا لا نشك في وضعه. وكذا قال الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» 1/ 154- 155: ومن الحديث الذي ينكره قلوب المحققين: ما روي عن ابن عباس ... فذكره ثم قال: هذا حديث مزوّق، وقد تطرف فيه صاحبه حتى يشبّه على المستمعين، والجاهل يعض على شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يدري أن صاحب هذا الفعل مذموم. - وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6208 بتخريجي. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء، وذكر نزول السورة ليس له أصل في هذا الخبر، وقد ورد في أبي الدحداح غير هذه الآية، وتقدم.

فصل: وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تضمنت مدحهم على إطعام الأسير المشرك. قال: وهذا منسوخ بآية السيف. وليس هذا القول بشيء، فإن في إطعام الأسير المشرك ثواباً، وهذا محمول على صدقة التطوع. فأما الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفَّار، ذكره القاضي أبو يعلى. قوله عزّ وجلّ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي: لطلب ثواب الله. قال مجاهد، وابن جبير: أما إنهم ما تكلموا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم لِيَرْغَبَ في ذلك راغب. قوله عزّ وجلّ: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي: بالفعل وَلا شُكُوراً بالقول إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي: ما في يوم عَبُوساً قال ابن قتيبة: أي: تعبس فيه الوجوه، فجعله من صفة اليوم، كقوله عزّ وجلّ: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «1» ، أراد: عاصف الريح: فأما «القمطرير» فروى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه الطويل. وروى عنه العوفي أنه قال: هو الذي يقبّض فيه الرجل ما بين عينيه ووجهه. فعلى هذا يكون اليوم موصوفاً بما يجري فيه، كما قلنا في «العبوس» لأن اليوم لا يوصف بتقبيض ما بين العينين. وقال مجاهد، وقتادة: «القمطرير» الذي يقلِّص الوجوه، ويقبض الحياة، وما بين الأعين من شدته. وقال الفراء: هو الشديد. يقال: يوم قمطرير، ويوم قماطر، وأنشدني بعضهم. بَنِي عَمِّنَا هَلْ تَذْكُرونَ بَلاَءَنَا ... عليكُم إذا ما كان يَوْمٌ قُماطِرُ وقال أبو عبيدة: العبوس، والقمطرير، والقماطر، والعَصِيب، والعَصَبْصَب: أشد ما يكون من الأيام، وأطوله في البلاء. قوله عزّ وجلّ: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ بطاعتهم في الدنيا وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي: حُسْنَاً وبياضاً في الوجوه، وَسُرُوراً لا انقطاع له. وقال الحسن: النَّضْرة في الوجوه والسُّرُور في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا على طاعته، وعن معصيته جَنَّةً وَحَرِيراً وهو لباس أهل الجنة مُتَّكِئِينَ فِيها قال الزجاج: هو منصوب على الحال، أي: جزاهم جنة في حال اتكائهم فيها. وقد شرحنا هذا في الكهف «2» . قوله عزّ وجلّ: لاَ يَرَوْنَ فِيها شَمْساً فيُؤذيهم حَرُّها وَلا زَمْهَرِيراً وهو البرد الشديد. والمعنى: لا يجدون فيها الحَرَّ والبرد. وحكي عن ثعلب أنه قال: الزمهرير: القمر، وأنشد: وَلَيْلَةٍ ظَلاَمُهَا قَد اعْتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا وَالزّمْهَريرُ مَا زَهَر أي: لم يطلع القمر. قوله عزّ وجلّ: وَدانِيَةً قال الفراء: المعنى: وجزاهم جنة، ودانيةً عليهم ظلالها، أي: قريبة منهم ظلال أشجارها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا قال ابن عباس: إِذا هَمَّ أن يتناول من ثمارها تَدَلَّتْ إليه حتى يتناولَ ما يريد. وقال غيره: قُرِّبَتْ إليهم مُذَلَّلة كيف شاؤوا، فهم يتناولونها قياماً، وقعودا، ومضطجعين، فهو كقوله عزّ وجلّ: قُطُوفُها دانِيَةٌ «3» . فأمّا «الأكواب» فقد شرحناها في (الزّخرف) «4» قوله: كانَتْ قَوارِيرَا أي: تلك الأكواب هي قوارير، ولكنها من فضة. قال ابن عباس: لو ضَرَبْتَ فضةَ الدنيا حتى جعلتَها مثل جناح الذباب، لم يُرَ الماء من ورائها، وقوارير الجنة من فضة في صفاء

_ (1) إبراهيم: 18. (2) الكهف: 31. (3) الحاقة: 23. (4) الزخرف: 71.

القارورة. وقال الفراء. وابن قتيبة: هذا على التشبيه، المعنى: كأنها من فضة، أي: لها بياض كبياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير. وكان نافع، والكسائيّ، وأبو بكر عن عاصم يقرءون «قواريراً قواريراً» فَيَصِلُونَهما جميعاً بالتنوين. ويقفون عليهما بالألف. وكان ابن عامر وحمزة يَصِلاَنِهما جميعاً بغير تنوين، ويقفان عليهما بغير ألف. وكان ابن كثير يصل الأول بالتنوين، ويقف بغير ألف. ويصل الثاني بغير تنوين وروى حفص عن عاصم أنه كان يقرأ «سلاسل» و «قوارير قوارير» يَصِلُ الثلاثة بغير تنوين، ويقف على الثلاثة بالألف. وكان أبو عمرو يقرأ الأول «قواريرا» فيقف عليه بألف، ويصل بغير تنوين. وقال الزجاج: الاختيار عند النّحويين أن لا تنصرف «قوارير» لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف. ومن قرأ «قواريرا» يصرف الأول لأنّه رأس آية، ويترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية. ومن صرف الثاني: أتبع اللفظ اللفظ، لأن العرب ربما قلبت إعراب الشيء لتُتْبِعَ اللفظ اللفظ، كما قالوا: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ. وإِنما الخَرِبُ من نعت الجحر. قوله عزّ وجلّ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر «قُدِّروها» برفع القاف، وكسر الدال، وتشديدها. وقرأ حميد، وعمرو بن دينار «قَدَرُوها» بفتح القاف، والدال، وتخفيفها. ثم في معنى الآية قولان: أحدهما: قَدَّرُوها في أنفسهم، فجاءت على ما قَدَّرُوا، قاله الحسن. وقال الزجاج: جعل الإناء على قَدْر ما يحتاجون إليه ويريدونه على تقديرهم. والثاني: قَدَّروها على مقدارٍ لا يزيد ولا ينقص، قاله مجاهد. وقال غيره: قدروا الكأس على قَدْر رِيِّهم، لا يزيد عن رِيِّهم فيُثْقِلُ الكفَّ، ولا ينقص منه فيطلب الزيادة، وهذا ألذُّ الشراب. فعلى هذا القول يكون الضمير في «قدَّروا» للسقاة والخدم. وعلى الأول للشاربين. قوله عزّ وجلّ: وَيُسْقَوْنَ فِيها يعني في الجنة كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا والعرب تضرب المثل بالزنجبيل والخمر ممزوجين. قال المسيّب يصف فم امرأة: فَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبيل بِهِ ... إذْ ذُقْتَهُ وَسُلاَفَةُ الخَمْرِ «1» وقال آخر: كَأَنَّ القرنفل والزّنجبيل ... باتا بِفِيها وأرْيَاً مُشَاراً «2» الأَرْي: العسل. والمشار: المستخرج من بيوت النّحل. قال مجاهد: الزّنجبيل: اسم العين التي منها شراب الأبرار. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الزنجبيل معرّب. قال: وقال الدِّيْنَوَرِي: يَنْبُتُ في أرياف عُمَان، وهي عروق تسري في الأرض، وليس بشجرة تؤكل رُطَباً، وأجود ما يحمل من بلاد الصين. قال الزجاج: وجائز أن يكون فيها طعم الزنجبيل، والكلام فيه كالكلام السابق في الكافور. وقيل: شراب الجنّة على بردِ الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك. قوله عزّ وجلّ: عَيْناً فِيها قال الزجاج: يسقون عيناً. وسلسبيل: اسم العين، إلا أنه صرف لأنه رأس آية. وهو في اللغة: صفة لما كان في غاية السلاسة. فكأن العين وصفت وسميت بصفتها. وقرأت

_ (1) هو في آخر ديوان الأعشى ابن أخت المسيب بن علس. (2) البيت في ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس 93.

على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قوله عزّ وجلّ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا قيل: هو اسم أعجمي نَكِرَة، فلذلك يصرف. وقيل: هو اسم معرفة، إلا أنه أُجْرِيَ، لأنه رأس آية. وعن مجاهد قال: حديدة الجرية. وقيل: سلسبيل: سلس ماؤها، مستفيد لهم. وقال ابن الأنباري: السّلسبيل صفة الماء، لِسَلَسِهِ وسهولة مدخله في الحلق. يقال: شراب سَلْسَل، وسَلْسال، وسَلْسَبِيل. وحكى الماوردي: أن عليّاً عليه السلام قال: المعنى: سَلْ سَبِيلاً إليها، ولا يصح. قوله عزّ وجلّ: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ قد سبق بيانه «1» إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أي: في بياض اللؤلؤ وحسنه، واللؤلؤ إذا انتثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما. وإنما شُبِّهوا باللؤلؤ المنثور، لانتشارهم في الخدمة. ولو كانوا صفّا لشبّهوه بالمنظوم. قوله: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ يعني: الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً لا يوصف وَمُلْكاً كَبِيراً أي: عظيماً واسعاً لا يريدون شيئاً إِلا قدَروا عليه، ولا يدخل عليهم ملَك إلّا باستئذان. قوله عزّ وجلّ: عالِيَهُمْ قرأ أهل المدينة، وحمزة، والمفضل عن عاصم بإسكان الياء، وكسر الهاء. وقرأ الباقون بفتح الياء، إلا أن الجعفي عن أبي بكر قرأ «عَالِيَتُهُم» بزيادة تاء مضمومة. وقرأ أنس بن مالك، ومجاهد وقتادة «عَلَيْهِم» بفتح اللام، وإسكان الياء من غير تاءٍ، ولا ألف. قال الزجاج: فأما تفسير إعراب «عالِيْهم» بإسكان الياء، فيكون رفعه بالابتداء، ويكون الخبر ثِيابُ سُندُسٍ وأما «عَالِيَهم» بفتح الياء، فنصبه على الحال من شيئين، أحدهما من الهاء والميم، والمعنى: يطوف على الأبرار وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون عالي الأبرار ثياب سندس، لأنه قد وصف أحوالهم في الجنة، فيكون المعنى: يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء. ويجوز أن يكون حالاً من الوِلْدان. المعنى: إذا رأيتَهم حَسِبْتَهم لؤلؤاً منثوراً في حال عُلُوِّ الثياب. وأمّا «عاليهم» فقد قرئت بالرفع وبالنصب، وهما وجهان جَيِّدان في العربية، إلا أنهما يخالفان المصحف، فلا أرى القراءة بهما، وتفسيرها كتفسير «عاليهم» . قوله عزّ وجلّ: ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، «خضر» رفعا «وإِسْتَبْرقٍ» خفضاً. وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم «خُضْرٍ» خفضاً «وإستبرقٌ» رفعا. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم «خُضْرٌ وإستبرقٌ» كلاهما بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي «خضْرٍ وإسْتَبْرقٍ» كلاهما بالخفض. قال الزجاج: من قرأ خُضْرٌ بالرفع، فهو نعت الثياب، ولفظ الثياب لفظ الجمع، من قرأ «خُضْرٍ» فهو من نعت السندس، والسندسُ في المعنى راجع إلى الثياب. ومن قرأ «وإستبرق» رفعا فهو نسق على «ثياب» والمعنى: عليهم إستبرق. ومن خفض عطفه على السندس، فيكون المعنى: عليهم ثياب من هذين النوعين وقد بَيّنَّا في الكهف «2» معنى السندس، والإستبرق والأساور. قوله عزّ وجلّ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً فيه قولان: أحدهما: لا يُحْدِثون ولا يَبُولُون عن شُرْب خَمْر الجَنَّة. قاله عطية. والثاني: لأن خمر الجنة طاهرةٌ، وليست بنجسةٍ كخمرِ الدنيا، قاله الفراء: وقال أبو قلابة: يُؤْتَوْنَ بعد الطَعام بالشَّرابِ الطَّهورِ فيشربون فَتَضْمُر بذلك بُطونُهم، ويفيض من

_ (1) الواقعة: 17. (2) الكهف: 31.

جلودهم عرق مثل رشح المسك. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ هذا يعني: ما وصف من نعيم أهل الجنة كانَ لَكُمْ جَزاءً بأعمالكم وَكانَ سَعْيُكُمْ أي: عملكم في الدنيا بطاعة الله مَشْكُوراً قال عطاء: يريد: شكرتكم عليه، وأثيبكم عليه أفضل الثواب إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا، أي: فصّلناه في الإنزال، فلم نُنْزِلْه جُمْلَةً واحدةً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ قد سبق بيانه في مواضع «1» . والمفسّرون يقولون: هو منسوخ بآية السيف، ولا يصحّ، قوله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ أي: من مشركي أهل مكة آثِماً أَوْ كَفُوراً «أو» بمعنى الواو، كقوله: أَوِ الْحَوايا «2» . وقد سبق بيان هذا. وللمفسّرين في المراد بالآثم وفي الكفور ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما صفتان لأبي جهل. والثاني: أن الآثم: عتبة بن ربيعة، والكفور الوليد بن المغيرة. والثالث: الآثم: الوليد. والكَفُور: عتبة، وذلك أنهما قالا له: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج. قوله وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي: اذكره بالتوحيد في الصلاة بُكْرَةً يعني: الفجر وَأَصِيلًا يعني: العصر. وبعضهم يقول: الظهر والعصر وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ يعني: المغرب والعشاء. وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وهي: صلاة الليل كلّ فريضة عليه، وهي لأُمَّتِهِ تَطَوُّع إِنَّ هؤُلاءِ يعني: كفّار مكّة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي يعني: الدّار العاجلة، وهي الدنيا وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يعني: أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا أي: عسيراً شديداً. والمعنى: أنهم يتركون الإيمان به، والعمل له. ثم ذكر قدرته، فقال عزّ وجلّ: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي: خَلْقهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. قال ابن قتيبة: يقال: امرأة حَسَنَةُ الأسر، أي: حَسَنَةُ الخَلْقِ كأنها أُسِرتْ أي: شُدَّتْ. وأصل هذا من الإسار، وهو: القِدُّ. الذي تشد به الأقتاب يقال: ما أحسن ما أَسَر قَتَبَهُ، أي: ما أحسن ما شَدَّه بالقِدِّ. وروي عن أبي هريرة قال: مفاصلهم. وعن الحسن قال: أوصالهم بعضا إلى بعض بالعروق والعصب، قوله: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي: إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ وقد شرحنا الآية في المزّمّل «3» . قوله عزّ وجلّ: وَما تَشاؤُنَ إيجاد السبيل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ذلكم، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، «وما يشاءون» بالياء. قوله عزّ وجلّ: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ قال المفسرون: والرّحمة هاهنا: الجنّة وَالظَّالِمِينَ المشركين. قال أبو عبيدة: نصب «الظالمين» بالجوار، المعنى: ولا يُدخل الظالمين في رحمته. وقال الزجاج: إنما نصب «الظالمين» لأنَّ قبله منصوباً. المعنى: يُدخل من يشاء في رحمته، ويعذب الظالمين، فيكون قوله عزّ وجلّ: أَعَدَّ لَهُمْ تفسيراً لهذا المضمر، وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة «والظالمون» رفعا.

_ (1) الطور: 48، والقلم: 48. (2) الأنعام: 146. (3) المزمل: 19. [.....]

سورة المرسلات

سورة المرسلات وهي مكّيّة كلّها في قول الجمهور وحكي عن ابن عباس، وقتادة، ومقاتل أن فيها آية مدنيّة، وهي قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) قوله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: أنها الرياح يَتْبَعُ بعضُها بعضاً، رواه

_ (1) المرسلات: 48. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 541: توقف ابن جرير في الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً هل هي الملائكة، ولم يرجح- وقطع بأن العاصفات عصفا هي الرياح كما قاله ابن مسعود اه.

أبو العُبَيْدَينِ عن ابن مسعود، والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، رواه مسروق عن ابن مسعود، وبهذا قال أبو هريرة ومقاتل. وقال الفراء: هي الملائكة. فأمّا قوله عزّ وجلّ: عُرْفاً فإنها: أُرْسِلتْ بالمعروف، ويقال: تَتَابَعَتْ كعُرْفِ الفَرَسِ. والعرب تقول: يركب الناس إلى فلان عُرْفاً واحداً: إِذا توجهوا إليه فأكثروا. قال ابن قتيبة: يريد أن الملائكة متتابعة بما ترسَل به. وأصله من عرف الفرس، لأنه طرف مستوٍ، بعضه في إِثر بعض فاستعير للقوم يتبع بعضُهم بعضاً. والثالث: أنهم الرسل بما يعرفون به من المعجزات، هذا معنى قول أبي صالح، ذكره الزجاج. والرابع: أنها الملائكة والريح، قاله أبو عبيدة. قال: ومعنى «عرفا» : يتبع بعضها بعضا. يقال: جاءوني عُرْفاً. وفي «العاصفات» قولان: أحدهما: أنها الرياح الشديدة الهبوب، قاله الجمهور. والثاني: الملائكة، قاله مسلم بن صبيح. قال الزجاج: تعصف بروح الكافر. وفي «الناشرات» خمسة أقوال: أحدها: أنها الرياح تنشر السحاب، قاله ابن مسعود، والجمهور. والثاني: الملائكة تنشر الكتب، قاله أبو صالح. والثالث: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، قاله الضحاك. والرابع: البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح، قاله الربيع. والخامس: المطر ينشر النبات، حكاه الماوردي. وفي «الفارقات» أربعة أقوال «1» : أحدها: الملائكة تأتي بما يفرِّق بين الحق والباطل، قاله الأكثرون. والثاني: آي القرآن فَرَّقَتْ بين الحلال والحرام، قاله الحسن، وقتادة، وابن كيسان. والثالث: الريح تفرّق بين السحاب فتبدِّدُه، قاله مجاهد. والرابع: الرسل، حكاه الزّجّاج. وفي «الملقيات ذكرا» قولان: أحدهما: الملائكة تبلّغ ما حملت من الوحي إلى الأنبياء، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، والجمهور. والثاني: الرسل يلقون ما أُنزل عليهم إلى الأمم، قاله قطرب. قوله عزّ وجلّ: عُذْراً أَوْ نُذْراً وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «عُذْراً» خفيفاً «أو نُذُراً» ثقيلا. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف «عُذْراً أو نُذْراً» خفيفتان. قال الفراء: وهو مصدر، مثقَّلاً كان أو مخفّفاً. ونصبه على معنى: أُرسلتُ بما أرسلتُ به إِعذاراً من الله وإنذاراً. وقال الزجاج: المعنى: فالملقياتِ عُذراً أو نُذراً. ويجوز أن يكون المعنى: فالملقيات ذكراً للإعذار والإنذار. وهذه المذكورات مجرورات بالقسم. وجواب القسم إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ قال المفسرون: إنَّ ما توعَدون به من أمر الساعة، والبعث، والجزاء لَواقِعٌ، أي: لكائن. ثم ذكر متى يقع فقال عزّ وجلّ: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي: مُحِيَ نُورُها وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ: شُقَّتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ قال الزجاج: أي: ذُهِبَ بها كلُّها بسرعة. يقال: انتسفتُ الشيء: إذا أخذته بسرعة.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 542: يعني الملائكة، ولا خلاف هاهنا فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، فتفرق بين الحقّ والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره.

قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ قرأ أبو عمرو «وُقِّتَتْ» بواو مع تشديد القاف. ووافقه أبو جعفر، إلا أنه خَفَّفَ القاف. وقرأ الباقون: «أُقِّتت» بألف مكان الواو مع تشديد القاف. قال الزجاج: وُقِّتَتْ وأُقِّتَتْ بمعنى واحد. فمن قرأ «أُقِّتت» بالهمز، فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو. وكل واو انضمت، وكانت ضمّتها لازمة، جاز أن تبدل منها بهمزة. وقال الفراء: الواو إذا كانت أول حرف، وضُمَّتْ، همزت. تقول: صلى القوم أُحداناً. وهذه أُجوهٌ حسان. ومعنى «أُقِّتت» : جمعت لوقتها يوم القيامة. وقال ابن قتيبة: جمعت لوقت، وهو يوم القيامة. وقال الزجاج: جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمّة. قوله عزّ وجلّ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي: أُخِّرَتْ. وضَرْبُ الأجل لجمعهم، يعجِّب العباد من هول ذلك اليوم. ثم بيّنه فقال عزّ وجلّ: لِيَوْمِ الْفَصْلِ وهو يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق. ثم عَظَّم ذلك اليوم بقوله: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بالبعث. ثم أخبر الله تعالى عما فعل بالأمم المكذِّبة، فقال: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ يعني بالعذاب في الدنيا حين كذَّبوا رسلهم ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ والقراء على رفع العين في «نتبعُهم» ، وقد قرأ قوم منهم أبو حيوة بإسكان العين. قال الفراء: «نتبعهم» مرفوعة. ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود «وسنتبعهم الآخرين» . ولو جزمتَ على معنى: ألم نقدر على إهلاك الأولين وإتباعهم الآخرين كان وجهاً جيداً. وقال الزجاج: الجزم عطف على «نُهْلكْ» ، ويكون المعنى: لمن أُهلك أولاً وآخراً. والرفع على معنى: ثم نتبع الأول والآخر من كل مجرم. وقال مقاتل: ثم نتبعهم الآخرين: يعني: كفار مكّة كذّبوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقال ابن جرير: الأوَّلون: قوم نوح، وعاد، وثمود، والآخرون: قوم إبراهيم، ولوط، ومَدْيَن. قوله عزّ وجلّ: كَذلِكَ أي: مثل ذلك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ يعني: المكذِّبين. فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ؟ فالجواب: أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى، لأنه كلما ذكر شيئاً قال: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذا. قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ قرأ قالون عن نافع بإظهار القاف. وقرأ الباقون بإدغامها. قوله عزّ وجلّ: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي: ضعيف فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ يعني: الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وهو مدة الحمل فَقَدَرْنا قرأ أهل المدينة، والكسائي «فَقَدَّرْنَا» بالتشديد. وقرأ الباقون: بالتخفيف. وهل بينهما فرق؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد. قال الفراء: تقول العرب: قَدَر عليه، وقَدَّر عليه. وقد احتج من قرأ بالتخفيف فقال: لو كانت مشدّدة لقال: فنعم القادرون، فأجاب الفراء فقال: قد تجمع العرب بين المعنيين، كقوله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «1» . قال الشاعر: وَأَنْكَرَتْني وَمَا كانَ الَّذي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوَادِثِ إِلاَّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا «2» يقول: ما أنكرت إلّا ما يكون في الناس.

_ (1) الطارق: 17. (2) البيت للأعشى الكبير ديوانه: 101 من قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة.

والثاني: أن المخفَّفة من القُدْرَة والملك، والمشدَّدة من التقدير والقضاء. ثم بيَّن لهم صنعه ليعتبروا فيوحّدوه، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً قال اللغويون: الكفت في اللغة: الضم. والمعنى: أنها تضم أهلها أحياءً على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. قال ابن قتيبة: يقال: اكفتْ هذا إليك، أي: ضمه. وكانوا يسمون بقيع الغرقد: كفتة، لأنه مقبرة يضمّ الموتى. وفي قوله عزّ وجلّ: أَحْياءً وَأَمْواتاً قولان: أحدهما: أن المعنى: تكفتهم أحياءً وأمواتاً، قاله الجمهور. قال الفراء: وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم، كأنك قلت: ألم نجعل الأرض كفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ، فإذا نَوَّنْتَ نصبتَ كما يقرأ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً «1» وقال الأخفش: انتصب على الحال. والقول الثاني: أن المعنى: ألم نجعل الأرض أحياءً بالنبات والعمارة، وأمواتاً بالخراب واليبس، هذا قول مجاهد، وأبي عبيدة. قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ قد سبق بيانه شامِخاتٍ أي: عاليات وَأَسْقَيْناكُمْ قد سبق معنى «أسقينا» «2» ومعنى «الفرات» «3» والمعنى: أن هذه الأشياء أعجب من البعث. ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا، وهو النار انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي. قال ابن قتيبة: «والظّل» هاهنا: ظل من دخان نار جهنم سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدُّخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيقال لهم: كونوا فيه إِلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه، أو حيث شاء من الظل، ثم يُؤْمَرُ بكل فريق إلى مستقرِّه من الجنة والنار لا ظَلِيلٍ أي: لا يظلكم من حرِّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس. قال مجاهد: تكون شعبة فوق الإِنسان، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله، فتحيط به. وقال الضحاك: الشعب الثلاث: هي الضَّريع، والزَّقوم، والغِسْلين. فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار. قوله عزّ وجلّ: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي: لا يدفع عنكم لَهَبَ جهنم. ثم وصف النار فقال عزّ وجلّ إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ، وهو جمع شررة، وهو ما يتطاير من النار متفرقاً كَالْقَصْرِ قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنيَّة. وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول الجمهور. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، وأبو الجوزاء «كالقَصَر» بفتح الصاد. وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس قال: كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل فنرفعه للشتاء، فنسميه: القصر. قال ابن قتيبة: من فتح الصاد أراد: أُصول النخل المقطوعة المقلوعة. وقال الزّجّاج: أراد أعناق الإبل. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعائشة، وعكرمة، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وابن يعمر «كالقَصِر» بفتح القاف، وكسر الصاد. وقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، والنخعي «كالقُصُر» برفع القاف والصاد جميعاً. وقرأ أبو الدرداء، وسعيد بن جبير «كالقِصَر» بكسر القاف، وفتح الصاد، وقرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ «كالقصر» بضمّ القاف وإسكان الصاد.

_ (1) البلد: 14- 15. (2) الحجر: 22، الجن: 16. (3) الفرقان: 53، فاطر: 12.

قوله عزّ وجلّ: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «جِمالاَتٌ» بألف، وكسر الجيم. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «جِمَالَةُ» على التوحيد. وقرأ رويس عن يعقوب «جُمَالاَت» بضم الجيم. وقرأ أبو رزين، وحميد، وأبو حيوة «جُمَالة» برفع الجيم على التوحيد. قال الزجاج: من قرأ «جِمالات» بالكسر، فهو جمع جِمَال، كما تقول: بُيوت، وبُيوتَات، وهو جمع الجمع، فالمعنى: كأن الشرارات كالجمالات. ومن قرأ «جُمالات» بالضم، فهو جمع «جمالة» ، وهو القلس من قلوس سفن البحر، ويجوز أن يكون جمع جمل وجمال وجمالات، ومن قرأ جِمالةً فهو جمع جَمَل وجِمالة، كما قيل: حَجر، وحِجَارة. وذَكَر، وذِكَارَة. وقرئت «جُمالة» على ما فسرناه في جُمالات بالضم. و «الصُّفْر» هاهنا: السود. يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصفرة: إِبل صُفْرٌ. وقال الفراء: الصُّفْر: سود الإبل لا يُرى الأسود من الإبل إلا وهو مُشْرَبٌ صُفْرَةً، فلذلك سَمَّتْ العرب سود الإبل: صُفْراً، كما سَمَّوا الظباء: أدماً لما يعلوها من الظلمة في بياضها، قال الشاعر: تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هنّ سور أولادها كالزّبيب قوله عزّ وجلّ: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ قال المفسرون: هذا في بعض مواقف القيامة. قال عكرمة: تكلَّموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، فتكلَّمت أيديهم، وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذون لهم فيعتذرون. وقال ابن الأنباري: لا ينطقون بحجة تَنْفَعُهم. وقرأ أبو رجاء، والقاسم بن محمد، والأعمش، وابن أبي عبلة «هذا يومَ لا ينطقون» بنصب الميم. قوله عزّ وجلّ: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي: بين أهل الجنة وأهل النار جَمَعْناكُمْ يعني: مكذِّبي هذه الأمة وَالْأَوَّلِينَ من المكذِّبين الذين كذَّبوا أنبياءَهم فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب، أي: إن قَدَرْتُم على حيلة، فاحتالوا لأنفسكم. ثم ذكر ما للمؤمنين، فقال عزّ وجلّ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ يعني: ظلال الشجر، وظلال أكنان القصور وَعُيُونٍ الماء وهذا قد تقدّم بيانه، إلى قوله عزّ وجلّ: كُلُوا أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون في الدنيا بطاعة الله. ثم قال لكفار مكة: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا في الدنيا إِلى منتهى آجالكم إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي: مشركون بالله. قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا فيه قولان: أحدهما: أنه حين يُدْعَون إلى السجود يوم القيامة، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم: اركعوا، أي صلوا لا يَرْكَعُونَ أي: لا يصلُّون. وإلى نحو هذا ذهب مجاهد في آخرين، وهو الأصح. (1509) وقيل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالصلاة، فقالوا: لا نحني، فإنها مَسَبَّةٌ علينا، فقال: «لا خير في دين ليس فيه ركوع» . قوله عزّ وجلّ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي: إن لم يصدِّقوا بهذا القرآن، فبأيِّ كتاب بعده يصدِّقون، ولا كتاب بعده.

_ ضعيف. أخرجه أبو داود 3026 وأحمد 4/ 218 من حديث عثمان بن أبي العاص وليس فيه سبب نزول، وحسّن إسناده الأرناؤوط في «جامع الأصول» 6175. وخالفه الألباني فذكره في ضعيف أبي داود 652 و «الضعيفة» 4319 وعلته عنعنه الحسن، وهو مدلس.

سورة النبأ

سورة النّبأ ويقال لها: سورة عمّ يتساءلون وهي مكيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصله «عنْ ما» فأدغمت النون في الميم، وحذفت ألف «ما» كقولهم: فيم، وبم. (1510) قال المفسرون: لما بُعِثَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جَعَلَ المشركون يتساءلون بينهم، فيقولون: ما الذي أتى به؟ ويتجادلون، ويختصمون فيما بعث به، فنزلت هذه الآية. واللفظ لفظ استفهام. والمعنى:

_ ضعيف. أخرجه الطبري 35997 عن الحسن قوله. وأخرج الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما غير ذلك، وكل ذلك ضعيف، لا حجة فيه لأنه مجرد اجتهاد منهم.

تفخيم القصة، كما يقولون: أيُّ شيء زيد؟ إذا أردت تعظيم شأنه. ثم بيَّن ما الذي يتساءلون عنه، فقال عزّ وجلّ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: عن الخبر العظيم الشأن. وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: القرآن، قاله مجاهد، ومقاتل، والفراء. قال الفراء: فلما أجاب صارت «عم» كأنها في معنى: لأي شيءٍ يتساءلون عن القرآن. والثاني: البعث، قاله قتادة. والثالث: أنه أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم، حكاه الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ من قال: إنه القرآن، فإن المشركين اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو سحر، وقال بعضهم: هو شعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين، إلى غير ذلك. وكذلك من قال: هو أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. فأما من قال: إنه البعث والقيامة، ففي اختلافهم فيه قولان: أحدهما: أنهم اختلفوا فيه لما سمعوا به، فمنهم من صدَّق وآمن، ومنهم من كذَّب، وهذا معنى قول قتادة. والثاني: أن المسلمين والمشركين اختلفوا فيه، فصدَّق به المسلمون، وكذَّب به المشركون، قاله يحيى بن سلام. قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال بعضهم: هي ردع وزجر. وقال بعضهم: هي نفي لاختلافهم، والمعنى: ليس الأمر على ما قالوا، سَيَعْلَمُونَ عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وعيد على إثر وعيد. وقرأ ابن عامر «ستعلمون» في الحرفين بالتاء. ثم ذكر صنعه ليعرفوا توحيده، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي: فراشاً وبساطاً وَالْجِبالَ أَوْتاداً للأرض لئلا تميد وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي: أصنافاً، وأضداداً، ذكوراً، وإناثاً، سوداً وبيضاً، وحمراً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً قال ابن قتيبة: أي: راحة لأبدانكم. وقد شرحنا هذا في الفرقان «1» وشرحنا هناك قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي: سبباً لمعاشكم. والمعاش: العيش، كلّ شيء يُعَاشُ به، فهو مَعَاشٌ. والمعنى: جعلنا النهار مطلباً للمعاش. وقال ابن قتيبة: معاشاً، أي: عيشاً، وهو مصدر وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً قال مقاتل: هي السموات، غِلظ كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مثل ذلك وهي فوقكم يا بني آدم. فاحذروا أن تعصوا فتخرّ عليكم. قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا سِراجاً يعني: الشمس وَهَّاجاً قال ابن عباس: هو المضيء. وقال اللغويون: الوهَّاج: الوقَّاد. وقيل: الوهّاج يجمع النّور والحرارة. قوله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها السموات، قاله أُبَيّ بن كعب، والحسن، وابن جبير. والثاني: أنها الرّياح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة ومقاتل. قال زيد بن أسلم: هي الجنوب. فعلى هذا القول تكون «من» بمعنى «الباء» ، وتقديره: بالمعصرات. وإنما قيل للرياح: معصرات، لأنها تستدرُّ المطر. والثالث: أنها السحاب، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية. والضحاك، والربيع، قال الفراء: السحابة المعصر: التي تتحلَّب بالمطر ولما يجتمع، مثل الجارية المعصر، قد كادت تحيض، ولما تحضْ. وكذلك قال ابن قتيبة: شبِّهت السحاب بمعاصير الجواري، والمُعصِرُ: الجارية التي قد دنت من الحيض. وقال

_ (1) الفرقان: 47.

الزجاج: إنما قيل للسحاب: معصرات، كما قيل: أجزَّ الزرع، فهو مُجِزُّ أي: صار إلى أن يُجَزَّ، فكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر. قوله عزّ وجلّ: ماءً ثَجَّاجاً قال مقاتل: أي: مطراً كثيراً مُنْصبّاً يتبع بعضُه بعضاً. وقال غيره: يقال: ثجَّ الماء يثج: إذا انصبَّ لِنُخْرِجَ بِهِ أي: بذلك الماء حَبًّا وَنَباتاً وفيه قولان: أحدهما: أن الحب: ما يأكله الناس، والنبات: ما تنبته الأرض مما يأكل الناس والأنعام، هذا قول الجمهور. قال الزجاج: كُلُّ ما حُصِدَ حَبٌّ، وكُلُّ ما أَكَلَتْهُ الماشية من الكلإ، فهو نبات. والثاني: أن الحب: اللؤلؤ، والنبات: العشب. قال عكرمة: ما أنزل الله من السماء قطراً، إلا نبت به في البحر لؤلؤاً، وفي الأرض عشباً. قوله عزّ وجلّ: وَجَنَّاتٍ يعني: بساتين أَلْفافاً قال أبو عبيدة: أي: ملتَفَّة من الشجر ليس بينها خلال، الواحدة: لَفَّاء، وجنّات لُفٌّ، وجمع الجمع: ألْفَافٌ. قال المفسرون: فدلَّ بذكر المخلوقات على البعث. ثم أخبر عن يوم القيامة فقال عز وجل: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي: يوم القضاء بين الخلائق كانَ مِيقاتاً لما وعد الله من الثواب والعقاب. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ من قبوركم أَفْواجاً أي: زُمَراً زُمَراً من كل مكان وَفُتِحَتِ السَّماءُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «وفتّحت» بالتشديد. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالتخفيف، وإنما تفتح لنزول الملائكة فَكانَتْ أَبْواباً أي: ذات أبواب وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ عن أماكنها فَكانَتْ سَراباً أي: كالسّراب، لأنها تصير هباء منثورا فيراها الناظر كالسراب بعد شِدَّتها وصلابتها إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً قال المبرد: مرصاداً يرصدون به، أي: هو مُعَدٌّ لهم يَرصُد بها خزنتها الكفارَ. وقال الأزهري: المرصاد: المكان الذي يَرصُد فيه الراصد العدُوَّ. ثم بين لمن هي مرصاد فقال عزّ وجلّ: لِلطَّاغِينَ قال ابن عباس: للمشركين مَآباً أي: مرجعا. قوله عزّ وجلّ: لابِثِينَ وقرأ حمزة «لَبِثين» والمعنى: فيهما واحد. يقال: هو لابث بالمكان، ولبث. ومثله طَامع، وطَمِع، وفَارِه، وفَرِه. وأما الأحقاب فجمع حقب، وقد ذكرنا الاختلاف فيه في الكهف «1» . فإن قيل: ما معنى ذكر الأحقاب، وخلودهم في النار لا نفاد له؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن هذا لا يدل على غاية، لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب ولو أنه قال: لابِثِينَ فِيها عشرة أحقاب أو خمسة دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة، والجمهور. وبيانه أن زمان أهل الجنة والنار يُتَصَوَّرُ دخوله تحت العدد، وإن لم يكن له غاية. كقوله: بكرة وعشيا، مثل هذا أنّ كلمات الله تعالى داخلة تحت العدد وإن لم تكن لها نهاية. والثاني: أن المعنى: أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يَذُوقُونَ في الأحقاب بَرْداً وَلا شَراباً فأما خلودهم في النار فدائم. هذا قول الزجاج. وبيانه أن الأحقاب حَدٌّ لعذابهم بالحميم والغَسّاق، فإذا انقضت الأحقاب عُذِّبوا بغير ذلك من العذاب.

_ (1) الكهف: 60.

وفي المراد «بالبرد» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه برد الشراب. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: لا يذوقون فيها برد الشراب، ولا الشراب. والثاني: أنه الرَّوْح والراحة، قاله الحسن، وعطاء. والثالث: أنه النوم، قاله مجاهد، والسدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، وأنشدوا: فَإنْ شئتِ حرَّمتُ النِّساء سِواكُم ... وإِن شئتِ لَمُ أَطْعَمْ نُقَاخَاً وَلاَ بَرْدَاً «1» قال ابن قتيبة: النقاخ: الماء، والبرد: النوم، سمي بذلك لأنه تبرد فيه حرارة العطش. وقال مقاتل: لا يذوقون فيها برداً ينفعهم من حرها، ولا شراباً ينفعهم من عطش إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «غَسَاقاً» بالتخفيف. وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وحفص عن عاصم بالتشديد وقد تقدّم «2» ذكر الحميم، والغسّاق جَزاءً وِفاقاً قال الفراء: وِفْقاً لأعمالهم وقال غيره: جُوزوا جزاءً وفاقاً لأعمالهم على مقدارها، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النّار إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً فيه قولان: أحدهما: لا يخافون أن يحاسبوا، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الجمهور. والثاني: لا يرجون ثواب حساب، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً أي: بما جاء به الأنبياء قال الفراء: الكِذَّاب بالتشديد لغة يمانية فصيحة يقولون: كذَّبت به كِذَّاباً، وخرَّقت القميص خِرَّاقاً، وكل «فَعَّلْتُ» فمصدره في لغتهم مُشَدَّد. قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني: الحَلْقُ أحب اليك، أم القِصَّار؟ وأنشدني بعض بني كلاب: لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتني عن صَحَابَتي ... وَعَنْ حوَجٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا وأما أهل نجد، فيقولون: كذَّبت به تكذيباً. وقال أبو عبيدة: الكِّذاب أشد من الكِذَاب، وهما مصدر المكاذبة. قال الأعشى: فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها ... وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كذابه قوله عزّ وجلّ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ قال الزجاج: «كلَّ» منصوب بفعل مضمر تفسيره: أحصيناه، والمعنى: وأحصينا كلّ شيء، وكِتاباً توكيد ل «أحصيناه» ، لأن معنى «أحصيناه» و «كتبناه» فيما يحصل ويثبت واحد. فالمعنى: كتبناه كتاباً. قال المفسرون: وكلّ شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ فَذُوقُوا أي: فيقال لهم: ذوقوا جزاء فعالكم فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الذين لم يشركوا مَفازاً وفيه قولان: أحدهما: متنزَّهاً، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: فازوا بأن نَجَوْا من النار بالجنة، ومن العذاب بالرحمة، قاله قتادة. قال ابن قتيبة: «مفازا» في موضع «فوز» قوله: حَدائِقَ قال ابن قتيبة: الحدائق: بساتين نخل، واحدها: حديقة. قوله عزّ وجلّ: وَكَواعِبَ قال ابن عباس: الكواعب: النواهد. قال ابن فارس: يقال: كعبت المرأة كعابة، فهي كاعب: إذا نَتَأَ ثَدْيُها. وقد ذكرنا معنى «الأتراب» في ص «3» . قوله عزّ وجلّ: وَكَأْساً دِهاقاً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الملأى، رواه أبو صالح عن ابن

_ (1) البيت لعبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان العرجي، وهو في دواوينه 109 و «شواهد الكشاف» 34. (2) ص: 57. (3) ص: 52.

عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد. والثاني: أنها المتتابعة. رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير. وعن مجاهد كالقولين. والثالث: أنها الصافية، قاله عكرمة. قوله عزّ وجلّ: لا يَسْمَعُونَ فِيها أي: في الجنة إذا شربوها لَغْواً وقد ذكرناه في الطور «1» وغيرها، وَلا كِذَّاباً أي: لا يكذِّب بعضهم بعضاً، لأن أهل الدنيا إذا شربوا الخمر تكلَّموا بالباطل وأهل الجنة مُنَزَّهون عن ذلك. قال الفرّاء. وقراءة عليّ رضي الله عنه «كِذَاباً» بالتخفيف، كأنه- والله أعلم- لا يتكاذبون فيها. وكان الكسائيّ يخفّف هذه ويشدّد، «وكذّبوا بآياتنا كذِّاباً» لأن «كذَّبوا» يقيد «الكذاب» بالمصدر، وهذه ليست مقيدة بفعل يصيِّرها مصدراً، وقد ذكرنا عن أبي عبيدة أن الكِذاب بالتشديد والتخفيف مصدر المكاذبة. وقال أبو علي الفارسي: «الكِذَاب» بالتخفيف مصدر «كَذَب» ، مثل «الكِتَاب» مصدر «كتب» . قوله عزّ وجلّ: جَزاءً قال الزجاج: المعنى: جازاهم بذلك جزاءً، وكذلك «عَطاءً» لأن معنى أعطاهم وجازاهم واحد. وحِساباً معناه: ما يكفيهم، أي: فيه كل ما يشتهون. يقال: أحسبني كذا بمعنى كفاني. رَبِّ السَّماواتِ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والمفضل «ربُّ السموات والأرض وما بينهما الرحمنُ» برفع الباء من «رب» والنون من الرحمن على معنى: هو ربُّ السموات. وقرأ عاصم، وابن عامر بخفض الباء والنون على الصفة من «ربِّك» . وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء ورفع النون، واختار هذه القراءة الفراء. ووافقه على هذا جماعة، وعلَّلوا بأن الربَّ قريب من المخفوض، والرحمن بعيد منه. قوله عزّ وجلّ: لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً فيه قولان: أحدهما: لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه قاله ابن السائب. والثاني: لا يقدر الخلق أن يكلِّموا الربَّ إلا بإذنه، قاله مقاتل. قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ فيه سبعة أقوال «2» : (1511) أحدها: أنه جند من جند الله تعالى، وليسوا بملائكة، رواه ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون. والثاني: أنه مَلَك أعظم من السموات والجبال، والملائكة، قاله ابن مسعود، ومقاتل بن سليمان. وروى عطاء عن ابن عباس قال: الروح: مَلَك ما خلق الله ملكا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صَفَّاً، وقامت الملائكة كلهم صفاً واحدا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم.

_ باطل، أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» 412 من حديث ابن عباس، وفي إسناده مجاهيل والمتن منكر، ولو صح لما اختلف المفسرون في معنى الروح في هذه الآية. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6233 بتخريجنا.

والثالث: أنها أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تُرَدَّ إلى الأجساد، رواه عطية عن ابن عباس. والرابع: أنه جبريل عليه السلام قاله الشعبي، وسعيد بن جبير، والضحاك. والخامس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن، وقتادة. والسادس: أنه القرآن، قاله زيد بن أسلم. والسابع: أنهم أشرف الملائكة، قاله مقاتل بن حيّان. قوله عزّ وجلّ: وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قال الشعبي: هما سماطان، سماط من الروح، وسماط من الملائكة. فعلى هذا يكون المعنى: يوم يقوم الرُّوحُ صفاً، والملائكة صفّا. وقال ابن قتيبة: معنى قوله عزّ وجلّ: صَفًّا صفوفا. قوله عزّ وجلّ: لا يَتَكَلَّمُونَ يعني: الخلق كلهم إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الكلام وَقالَ صَواباً أي: قال في الدنيا صواباً، وهو الشهادة بالتوحيد عند أكثر المفسرين. وقال مجاهد: قال حقاً في الدنيا، وعمل به ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الكائن الواقع بلا شك فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي: مرجعاً إليه بطاعته. ثم خوّف كفّار مكّة، فقال عزّ وجلّ: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً وهو عذاب الآخرة، وكل آت قريب وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي: يرى عمله مثبَتاً في صحيفته خيراً كان أو شرّا، يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً قال الحسن: إذا سمع الله الخلائق يوم القيامة وقضى الثّقلين الجنّ والإنس وأروا منازلهم قال لسائر الخلق: كونوا ترابا فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا. وحكى الزّجّاج أنّ معنى: يا ليتني كنت تراباً. يا ليتني لم أُبعث. وحكى الثعلبي عن بعض أشياخه. أنه رأى في بعض التفاسير أن الكافر هاهنا: إبليس، وذلك أنه عاب آدم، لأنه خُلِقَ من التراب فتمنَّى يوم القيامة أنه كان بمكان آدم، فقال: يا ليتني كنت تراباً.

سورة النازعات

سورة النّازعات مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) قوله عزّ وجلّ: وَالنَّازِعاتِ فيه سبعة أقوال «1» : أحدها: أنها الملائكة تَنْزِعُ أرْواح الكفَّار، قاله علي، وابن مسعود، وروى عطية عن ابن عباس قال: هي الملائكة تَنْزِع نفوسَ بني آدم، وبه قال مسروق. والثاني: أنه الموت يَنْزِع النفوسَ، قاله مجاهد. والثالث: أنها النفس حين تُنْزَعُ، قاله السدي. والرابع: أنها النجوم تَنْزِع من أُفُق الى أُفُق تطلع ثم تغيب، قاله الحسن، وقتادة، وأبو عبيدة، والأخفش، وابن كيسان. والخامس: أنها القِسِيّ تَنْزِع بالسَّهم، قاله عطاء وعكرمة. والسادس: أنها الوحوش تنزع وتنفر، حكاه الماوردي. والسابع: أنها الرّماة، حكاه الثّعلبيّ. وقوله عزّ وجلّ: غَرْقاً اسم أقيم مقام الإغراق. قال ابن قتيبة: والمعنى: والنازعات إغراقاً، كما يغرق النازع في القوس، يعني: أنه يبلغ به غاية المد.. قوله عزّ وجلّ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً فيه خمسة أقوال: أحدها: أنها الملائكة. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنها حين تنشط أرواح الكفار حتى تخرجها بالكرب والغمّ، قاله عليّ عليه السلام. قال مقاتل: ينزع ملك الموت روح الكافر، فإذا بلغت ترقوته غرقها في حلقه، فيعذِّبه في حياته، ثم ينشطها من حلقه- أي: يجذبها- كما ينشط السفّود من الصوف المبتل. والثاني: أنها تنشط. أرواح المؤمنين بسرعة كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنها، قاله ابن عباس. وقال الفراء: الذي سمعته

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 551: قال ابن مسعود: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً: الملائكة، يعنون حين تنتزع أرواح بنو آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتفرق في نزعها، ومن تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط. وهو الصحيح وعليه الأكثرون اه..

من العرب: كأنما أُنْشِط من عِقَال، بألف. تقول: إذا ربطت الحبل في يد البعير: نشطته، فإذا حللته قلت: أنشطته. والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. وبيانه أن المؤمن يرى منزله من الجنة قبل الموت فتنشط نفسه لذلك. والثالث: أن الناشطات: الموت ينشط نفس الإنسان، قاله مجاهد. والرابع: النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي: تذهب، قاله قتادة، وأبو عبيدة، والأخفش. ويقال لبقر الوحش: نواشط، لأنها تذهب من موضع إلى موضع. قال أبو عبيدة: والهموم تنشط بصاحبها. قال هميان بن قحافة: أَمْسَتْ همومي تَنْشِط المنَاشِطَا ... الشَّامَ بي طَوْراً وطَوْراً وَاسِطَا والخامس: أنها النفس حين تنشط بالموت، قاله السّدّيّ. قوله عزّ وجلّ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فيه ستة أقوال: أحدها: أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين، قاله عليّ عليه السلام. قال ابن السائب: يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء. فأحياناً ينغمس، وأحياناً يرتفع، يسلُّونها سلاً رفيقاً، ثم يَدَعُونها حتى تستريح. والثاني: أنهم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، كما يقال للفرس الجواد: سابح: إذا أسرع في جريه، قاله مجاهد، وأبو صالح، والفراء. والثالث: أنه الموت يسبح في نفوس بني آدم، روي عن مجاهد أيضاً. والرابع: أنها السفن تسبح في الماء، قاله عطاء. والخامس: أنها النجوم، والشمس، والقمر، كل في فلك يسبحون، قاله قتادة، وأبو عبيدة. والسادس: أنها الخيل، حكاه الماوردي. قوله عزّ وجلّ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فيه خمسة أقوال: أحدها: أنها الملائكة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، قاله عليّ عليه السلام ومسروق. والثاني: أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، قاله مجاهد، وأبو روق. والثالث: سبقت بني آدم الى إلإيمان، قاله الحسن. والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تسبق الملائكة شوقاً إلى لقاء الله، فيقبضونها وقد عاينت السرور، قاله ابن مسعود. والثالث: أنه الموت يسبق إلى النفوس، روي عن مجاهد أيضاً. والرابع: أنها الخيل، قاله عطاء. والخامس: أنها النجوم يسبق بعضه بعضا في السّير، قاله قتادة. قوله عزّ وجلّ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قال ابن عباس: هي الملائكة. قال عطاء: وُكِّلتْ بأمور عَرَّفهم الله العمل بها. وقال عبد الرحمن بن سابط: يُدَبِّر أمر الدنيا أربعة: جبريل، وهو موكل بالرِّياح والجنود. وميكائيل، وهو موكل بالقطر والنبات. وملك الموت، وهو موكل بقبض الأنفس. وإسرافيل، وهو يَنزل بالأمر عليهم. وقيل: بل جبريل للوحي، وإسرافيل للصور. وقال ابن قتيبة: فالمدبِّرات أمراً: تنزل بالحلال والحرام. فإن قيل: أين جواب هذه الأقسام ففيه جوابان: أحدهما: أنّ الجواب قوله عزّ وجلّ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى، قاله مقاتل. والثاني: أن الجواب مضمر، تقديره: لَتُبْعَثُنَّ، ولتحاسبنّ، ويدلّ على هذا قوله عزّ وجلّ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قاله الفرّاء. قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، وهي النفخة الأولى التي تموت منها جميع الخلائق.

و «الراجفة» صيحة عظيمة فيها تردُّدٌ واضطراب كالرعد إذا تمحض. و «ترجف» بمعنى: تتحرَّك حركة شديدةً تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وهي: النفخة الثانية ردفت الأولى، أي: جاءت بعدها وكل شيء جاء بعد شيءٍ فهو يردفه قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي: شديدة الاضطراب لما عاينت من أهوال يوم القيامة أيضا أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي: ذليلةٌ لمعاينة النار. قال عطاء: وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام. ويدل على هذا أنه ذَكَرَ منكري البعث، فقال عزّ وجلّ: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قرأ ابن عامر وأهل الكوفة «أإنا» بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وقرأ الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية، وفصل بينهما بألف وأبو عمرو. فِي الْحافِرَةِ وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إن الحافرة: الحياة بعد الموت. والمعنى: أنرجع أحياءً بعد موتنا؟! وهذا قول ابن عباس، وعطية، والسدي. قال الفراء: يعنون: أَنُرَدُّ إلى أمرنا الأول إلى الحياة؟! والعرب تقول: أتيت فلاناً، ثم رجعت على حافرتي، أي: رجعت من حيث جئت. قال أبو عبيدة: يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته: إذا رجع من حيث جاء، وهذا قول الزجاج. والثاني: أنها الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فَسُمِّيت حافرةً، والمعنى: محفورة، كما يقال: ماءٍ دافِقٍ «1» وعِيشَةٍ راضِيَةٍ «2» وهذا قول مجاهد والخليل. فيكون المعنى: أإنّا لمردودون إلى الأرض خلقاً جديداً؟! قال ابن قتيبة: «في الحافرة» أي: إلى أول أمرنا. ومن فسّرها بالأرض، فإلى هذا يذهب، لأنّا منها بدأنا. قال الشاعر: أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار كأنه قال: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصّبا «بعد ما شبت وصلعت» . والثالث: أنّ الحافرة: النار، قاله ابن زيد. قوله عزّ وجلّ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ناخرة» قال الفرّاء: وهما بمعنى واحد في اللغة. مثل طمع، وطامع وحذر، وحاذر. وقال الأخفش: هما لغتان. وقال الزّجّاج: يقال: نخر العظم ينخر، فهو نخر. مثل عفن الشيء يعفن، فهو عفن. وناخرة على معنى: عظاما فارغة، يجيء فيها من هبوب الرياح كالنّخير. قال المفسّرون: والمراد أنهم أنكروا البعث، وقالوا: نردّ أحياء إذا متنا وبليت عظامنا؟! تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي: إن رددنا بعد الموت لنخسرنّ بما يصيبنا ممّا يعدنا به محمّد، فأعلمهم الله بسهولة البعث عليه، فقال عزّ وجلّ: فَإِنَّما هِيَ يعني النّفخة الأخيرة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي: صيحة في الصّور يسمعونها من إسرافيل وهم في بطون الأرض فيخرجون فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وفيها أربعة أقوال «3» : أحدها: أنّ السّاهرة: وجه الأرض، قاله ابن عباس: ومجاهد، وعكرمة والضّحّاك، واللغويون. قال الفرّاء: كأنها سمّيت بهذا الاسم، لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم. والثاني: أنه جبل عند بيت المقدس، قاله وهب بن منبّه. والثالث: أنها جهنّم، قاله قتادة. والرابع: أنها أرض الشام، قاله سفيان.

_ (1) الطارق: 6. (2) الحاقة: 21. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 552: وهذه الأقوال كلها غريبة، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى.

[سورة النازعات (79) : الآيات 15 إلى 33]

[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 33] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي: قد جاءك. وقد بيَّنَّا هذا في طه «1» وما بعده إلى قوله عزّ وجلّ: طُوىً (16) اذْهَبْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «طُوى اذهب» غير مُجراةٍ. وقرأ الباقون «طوىً» منونة، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وقرأ ابن كثير، ونافع، «تَزَّكَّى» بتشديد الزاي، أي: تَطَّهَّر من الشرك وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي: أدعوك إلى توحيده، وعبادته فَتَخْشى عذابه فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى وفيها قولان: أحدهما: أنها اليد والعصا، قاله جمهور المفسرين. والثاني: أنها اليد قاله الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: فَكَذَّبَ أي بأنها من الله، وَعَصى نبيَّه ثُمَّ أَدْبَرَ أي: أعرض عن الإيمان يَسْعى أي: يعمل بالفساد في الأرض فَحَشَرَ لما اجتمعوا فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي: أنا لا ربَّ فوقي. وقيل أراد أن الأصنام أرباب، وأنا ربُّها وربُّكم. وقيل: أراد: أنا ربّ السّادة والقادة. قوله عزّ وجلّ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: أن الأولى قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «3» والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قاله ابن عباس، وعكرمة، والشعبي، ومقاتل، والفراء. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة. قال السدي: فبقي بعد الآخرة ثلاثين سنة. قال الفراء: فالمعنى: أخذه الله أخذاً نكالاً للآخرة والأولى. والثاني: المعنى: جعله الله نكال الدنيا والآخرة، أغرقه في الدنيا، وعذَّبه في الآخرة، قاله الحسن، وقتادة. وقال الربيع بن أنس: عذَّبه الله في أول النهار بالغَرَق، وفي آخره بالنَّار. والثالث: أن الأولى: تكذيبه وعصيانه. والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قاله أبو رزين. والرابع: أنها أول أعماله وآخرها، رواه منصور عن مجاهد. قال الزجاج: النكال: منصوب، مصدر مؤكد، لأن معنى أخذه الله: نكل الله به نكال الآخرة والأولى: فأغرقه في الدنيا ويعذِّبه في الآخرة. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ فِي ذلِكَ الذي فُعِل بفرعون لَعِبْرَةً أي عظة لِمَنْ يَخْشى الله. ثم خاطب منكري البعث، فقال عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها قال الزجاج: ذهب بعض النحويين الى أن قوله عزّ وجلّ: بَناها من صفة السماء، فيكون المعنى: أم السماء التي بناها. وقال

_ (1) طه: 9. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 553: قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي انتقم منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ كما قال تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ هذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله: نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي: الدنيا والآخرة. لا شك فيه. (3) القصص: 38.

[سورة النازعات (79) : الآيات 34 إلى 46]

قوم: السماء ليس مما توصل، ولكن المعنى: أأنتم أشد خلقاً أم السماءُ أشد خلقاً. ثم بيّن كيف خلقها، فقال عزّ وجلّ بَناها قال المفسرون: أخَلْقُكم بعدَ الموت أشدُّ عندكم، أم السماءُ في تقديركم؟ وهما في قدرة الله واحد. ومعنى: «بناها» رفعها. وكل شيء ارتفع فوق شيءٍ فهو بناءٌ. ومعنى رَفَعَ سَمْكَها رفع ارتفاعها وعلوَّها في الهواء فَسَوَّاها بلا شقوق، ولا فُطور، ولا تفاوت، يرتفع فيه بعضها على بعض وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي: أظلمه فجعله مظلماً. قال الزجاج: يقال: غطش الليل وأغطش، وغبش وأغبش، وغسق وأغسق، وغشي وأغشى، كلّه بمعنى أظلم. قوله عزّ وجلّ: وَأَخْرَجَ ضُحاها أي: أبرز نهارها. والمعنى: أظهر نورها بالشمس. وإنما أضاف النور والظلمة إلى السماء لأنهما عنها يصدران وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد خلق السماء دَحاها أي: بسطها. وبعض من يقول: إن الأرض خلقت قبل السماء يزعم أن «بعد» هاهنا بمعنى «قبل» ، كقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «1» وبعضهم يقول: هي بمعنى «مع» ، كقوله عزّ وجلّ: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «2» ، ولا يمتنع أن تكون الأرض خلقت قبل والسماء، ثم دحيت بعد كمال السماء، وهذا مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص. وقد أشرنا إلى هذا الخلاف في البقرة «3» . ونصبت الأرض بمضمر تفسيره قوله عزّ وجلّ: دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها أي: فجَّر العيون منها وَمَرْعاها وهو ما يأكله الناس والأنعام وَالْجِبالَ أَرْساها قال الزجاج: أي: أثبتها مَتاعاً لَكُمْ أي: للإمتاع، لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها: أمتع بذلك. وقال ابن قتيبة: «متاعا لكم» أي: منفعة. [سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 46] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) قوله عزّ وجلّ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى والطامة: الحادثة التي تطمُ على ما سواها، أي: تعلو فوقه، وفي المراد بها هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: النفخة الثانية التي فيها البعث. والثاني: أنها حين يقال لأهل النار: قوموا إلى النار. والثالث: أنها حين يساق أهل الجنة إلى الجنّة، وأهل النار إلى النار. قوله عزّ وجلّ: يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي: ما عمل من خير وشر وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي: لأبصار الناظرين. قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق. وقرأ أبو مجلز، وابن السميفع «لمن ترى» بالتاء. وقرأ ابن عباس، ومعاذ القارئ «لمن رأى» بهمزة بين الراء والألف. قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغى في كفره وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا على الآخرة فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى قال الزجاج: أي هي المأوى له. وهذا جواب فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ فإن الأمر كذلك. قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ قد ذكرناه في سورة الرّحمن «4» .

_ (1) الأنبياء: 105. (2) القلم: 13. (3) البقرة: 29. (4) الرحمن: 46.

قوله عزّ وجلّ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي: عما تهوى من المحارم. قال مقاتل: هو الرجل يَهُمّ بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب، فيتركها. قوله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قد سبق في الأعراف «1» فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي: لست في شيءٍ من علمها وذِكْرِها. والمعنى: إنك لا تعلمها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي: منتهى علمها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها وقرأ أبو جعفر «منذرٌ» بالتنوين. ومعنى الكلام: إنما أنت مُخَوِّفٌ من يخافها. والمعنى: إنما ينفع إنذارك من يخافها. وهو المؤمن بها. وأما من لا يخافها فكأنه لم يُنْذَر كَأَنَّهُمْ يعني: كفار قريش يَوْمَ يَرَوْنَها أي: يعاينون القيامه لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا. وقيل: في قبورهم إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي: قَدْر آخر النهار من بعد العصر، أو أوله إلى أن ترتفع الشمس. قال الزجاج: والهاء والألف في «ضحاها» عائد إلى العشية. والمعنى: إلا عشية، أو ضحى العشية. قال الفراء: فإن قيل: للعشية ضحى، إنما الضحى لصدر النهار؟. فالجواب: أن هذا ظاهر في كلام العرب أن يقولوا: آتيك العشية، أو غداتَها، أو آتيك الغداةَ أو عَشِيَّتَها، فتكون العشية في معنى «آخر» ، والغداة في معنى «أول» . أنشدني بعض بني عقيل: نَحْنُ صَبَحْنَا عَامِراً في دَارِها ... عَشِيَّةَ الهِلاَلِ أو سِرارِها أراد: عشية الهلال، أو عشية سرار العشية، فهذا أشد من قولهم: آتيك الغداة أو عشيّتها.

_ (1) الأعراف: 187.

سورة عبس

سورة عبس وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى. (1512) قال المفسرون: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوماً يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، وأُمية وأُبَيَّاً ابني خلف، ويَدْعوهم إلى الله تعالى، ويرجو إسلامهم، فجاء ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: علِّمني يا رسول الله مما علَّمك الله، وجعل يناديه، ويكرِّر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بكلام غيره حتى ظهرت الكراهية في وجهه صلّى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأقبل على القوم يكلِّمهم، فنزلت هذه الآيات، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه بعد ذلك، ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي.

_ أصله محفوظ. أخرجه الطبري 3639 من حديث ابن عباس بنحوه، وإسناده واه عطية العوفي واه، وعنه مجاهيل. وذكره ابن كثير في «تفسيره» 4/ 556 وقال: فيه غرابة ونكارة. لكن أصل الحديث قوي له شواهد. وله شواهد كثيرة، وأحسن شيء في هذا الباب: ما أخرجه الترمذي 3331 وابن حبان 535 والحاكم 2/ 514 والطبري 36318 والواحدي في «أسباب النزول» 845 من حديث عائشة قالت: «أنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل رسول الله يعرض عنه، ويقبل على الآخر ويقول: أترى بما تقول بأسا، فيقال: لا ففي هذا أنزل» . وإسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الحاكم على شرطهما، لكن قال: وأرسله جماعة عن هشام بن عروة عن عروة ليس فيه ذكر عائشة. قلت: والمرسل، أخرجه مالك 1/ 203، ومراسيل عروة جياد. وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 36322. وله شاهد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 36325. وله شاهد من مرسل عبد الرحمن بن زيد، أخرجه الطبري 36326. وله شاهد من مرسل مجاهد والحسن، أخرجه الطبري 36322. الخلاصة: رووه بألفاظ متقاربة، والمعنى متحد، وأن الآيات نزلت في شأن ابن أم مكتوم. فالحديث حسن أو صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وانظر «أحكام القرآن» 2263.

(1513) وذهب قوم، منهم مقاتل، إلى أنه إنما جاء ليؤمن، فأعرض عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلم اشتغالاً بالرؤساء، فنزلت فيه هذه الآيات. ومعنى: عَبَسَ قطَب وكَلَح وَتَوَلَّى أعرض بوجهه أَنْ جاءَهُ أي: لأن جاءه. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، والحسن، وأبو المتوكل، وأبو عمران، «آن جاءه» بهمزة واحدة مفتوحة ممدودة. وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع «أَأَن» بهمزتين مقصورتين مفتوحتين. والْأَعْمى هو ابن مكتوم، واسمه عمرو بن قيس. وقيل: اسمه عبد الله بن عمرو وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي: يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح، وما يتعلَّمه منك، وقال مقاتل: لعله يؤمن أَوْ يَذَّكَّرُ أي: يتعظ بما يتعلمه من مواعظ القرآن فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى قرأ حفص عن عاصم «فتنفعه» بفتح العين، والباقون بضمّها. قال الزجاج: من نصب، فعلى جواب «لعل» ، ومن رفع، فعلى العطف على «يزَّكَّى» . قوله عزّ وجلّ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى قال ابن عباس: استغنى عن الله وعن الإيمان بماله. قاله مجاهد: «أما من استغنى» عتبة، وشيبة، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. قرأ ابن كثير، ونافع «تصَّدَّى» بتشديد الصاد. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، «تَصَدَّى» بفتح التاء، والصاد وتخفيفهما وقرأ أُبيُّ بنُ كعبٍ، وأبو الجوزاء، وأبو عمرو بن دينار: «تَتَصَدَّى» بتاءين مع تخفيف الصاد، قال الزّجّاج: والأصل: تتصدى، ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين، ومن قرأ «تَصَدَّى» بإدغام التاء، فالمعنى أيضاً: تتصدى، إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب مخرج التاء من الصاد. قال ابن عباس: «تَصَدَّى» تقبل عليه بوجهك. وقال ابن قتيبة: تتعرض. وقرأ ابن مسعود وابن السميفع، والجحدري «تُصْدَى» بتاء واحدة مضمومة، وتخفيف الصاد. قوله عزّ وجلّ: وَما عَلَيْكَ أي: أي شيءٍ عليك في أن لا يُسْلِمَ مَنْ تدعوه إلى الإسلام؟ يعني: أنه ليس عليه إلّا البلاغ. قوله وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى فيه قولان: أحدهما: يمشي. والثاني: يعمل في الخير، وهو ابن أم مكتوم وَهُوَ يَخْشى الله فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرف، وأبو الجوزاء «تتلهى» بتاءٍ واحدة خفيفة مرفوعة. قال الزجاج: أي: تتشاغل عنه. يقال: لهيت عن الشيء ألهى عنه: إذا تشاغلت عنه. قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: لا تفعل ذلك: إِنَّها في المكني عنها قولان: أحدهما: آيات القرآن، قاله مقاتل. والثاني: هذه السورة، قاله الفراء. «والتذكرة» بمعنى التذكير فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ مفسر في آخر المدثر «1» . ثم أخبر بجلالة القرآن عنده فقال عزّ وجلّ: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أي: هو في صحف، أي: في كتب مكرَّمة، وفيها قولان: أحدهما: أنها اللوح المحفوظ، قاله مقاتل. والثاني: كتب الأنبياء، ذكره الثعلبي. فعلى هذا يكون معنى مَرْفُوعَةٍ عالية القدر، وعلى الأول يكون رفعها كونها في السماء.

_ هذا قول ضعيف ليس بشيء، والصواب ما تقدم. انظر الروايات المتقدمة.

[سورة عبس (80) : الآيات 17 إلى 32]

وفي معنى مُطَهَّرَةٍ أربعة أقوال: أحدها: مطهرة من أن تنزل على المشركين، قاله الحسن. والثاني: مطهرة من الشرك والكفر، قاله مقاتل: والثالث: لأنه لا يمسها إلا المطهرون، قاله الفراء. والرابع: مطهرة من الدنس، قاله يحيى بن سلام. قوله عزّ وجلّ: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ فيهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، قاله الجمهور. والثاني: أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله وهب بن منبه. وفي معنى «سفرة» ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم الكتَبَة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة: والزجاج. قال الزجاج: واحدهم: سَافر، وسَفَرَة، مثل كَاتِب وكَتَبَة، وكافِر، وكَفَرة، وإنما قيل للكتاب: سفر، وللكاتب: سافر، لأن معناه أنه يبين الشيء، ويوضحه. يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء. وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها. ومنه: سفرتُ بين القوم، أي: كشفتُ ما في قلب هذا، وقلب هذا، لأُصْلِحَ بينهم. والثاني: أنهم القراء، قاله قتادة. والثالث: أنهم السفراء، وهم المصلحون، قال الفراء: تقول العرب: سفرتُ بين القوم، أي: أصلحتُ بينهم، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله، كالسفير الذي يصلح بين القوم. قال الشاعر: وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمي ... وَمَا أَمشي بِغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ قوله عزّ وجلّ: كِرامٍ أي: على ربِّهم بَرَرَةٍ أي: مطيعين. قال الفراء: واحد «البررة» في قياس العربية: بَارٌّ، لأن العرب لا تقول: فَعَلَة ينوون به الجمع إلّا الواحد، ومنه فاعل، مثل كافر، وكفرة، وفاجر، وفجرة. [سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 32] قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) قوله عزّ وجلّ: قُتِلَ الْإِنْسانُ أي: لعن، والمراد بالإنسان هاهنا: الكافر. وفيمن عنى بهذا القول ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أشار إلى كل كافر، قاله مجاهد. والثاني: أنه أُمية بن خلف، قاله الضّحّاك. والثالث: عتبة بن لهب، قاله مقاتل. وفي قوله عزّ وجلّ: ما أَكْفَرَهُ ثلاثة أقوال: أحدها: ما أشد كفره، قاله ابن جريج. والثاني: أي شيء أكفَره؟ قاله السدي. فعلى هذا يكون استفهام توبيخ. والثالث: أنه على جهة التعجُّب. وهذا التعجب يؤمر به الآدميون والمعنى: اعجبوا أنتم من كفره، قاله الزجاج. قوله عزّ وجلّ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ثم فسّره عزّ وجلّ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ. وفي معنى «فقدره» ثلاثة أقوال: أحدها: قدّر أعضاء رأسه. وعينيه، ويديه، ورجليه، قاله ابن السائب. والثاني: قدَّره أطواراً: نطفة، ثم علقة، إلى آخر خلقه، قاله مقاتل.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 556: قال ابن جرير: والصحيح أن السفرة الملائكة، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه ومنه يقال: السفير: الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير.

والثالث: فقدّره على الاستواء، قاله الزّجّاج. قوله: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ فيه قولان «1» : أحدهما: سهَّل له العلم بطريق الحق والباطل، قاله الحسن، ومجاهد. قال الفراء. والمعنى: ثم يسره للسبيل. والثاني: يسر له السبيل في خروجه من بطن أمّه، قاله السّدّيّ، ومقاتل، قوله عزّ وجلّ: فَأَقْبَرَهُ قال الفراء: أي جعله مقبوراً، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير، فكأنَّ القبر مما أُكْرِم به المسلم. ولم يقل: قبره، لأن القابر هو الدافن بيده. والمُقْبِرُ الله، لأنه صيَّره مقبوراً. فليس فعله كفعل الآدمي. والعرب تقول: بَتَرْتُ ذَنَبَ البعير، والله أبتره. وَعضَبْتُ قَرْنَ الثور، والله أَعْضَبَه وطردتُ فلاناً عني، والله أطرده، أي: صيَّره طريداً. وقال أبو عبيدة: أقبره: أي أمر أن يقبر، وجعل له قبراً. قالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل صالح بن عبد الرحمن: أقبرنا صالحاً، فقال: دونكموه. والذي يدفن بيده هو القابر. قال الأعشى: لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاش وَلَمْ يُسْلَم إلى قابر «2» قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي: بعثه. يقال: أنشر الله الموتى فَنُشِرُوا، ونَشَر الميِّتُ: حَيِيَ هو بنفسه، واحدهم ناشر. قال الأعشى: حتَّى يقولَ النَّاسُ ممَّا رَأَوْا ... يا عَجَباً للميّت النّاشر قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال الحسن: حقاً لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ به ربُّه، ولم يؤدِّ ما فرض عليه. وهل هذا عام أم خاص؟ فيه قولان «3» : أحدهما: أنه عام. قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً كُلَّ ما افترض الله عليه. والثاني: أنه خاص للكافر لم يقض ما أمر به من الإيمان والطاعة، وقاله يحيى بن سلام ولما ذَكَر خَلْق ابن آدم، ذكر رزقه ليقبو ويسد بالنّبات على البعث، فقال عزّ وجلّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ قال مقاتل: يعني به عتبة بن أبي لهب. ومعنى الكلام: فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببا لحياته؟ ثم بيّن فقال عزّ وجلّ: أَنَّا قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وابن عامر «إنا» بالكسر. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي أَنَّا صَبَبْنَا بفتح الهمزة في الوصل وفي الابتداء، ووافقهم رويس على فتحها في الوصل، فإذا ابتدأ كسر. قال الزجاج: من كسر «إنا» فعلى الابتداء والاستئناف، ومن فتح، فعلى البدل من الطعام، المعنى: فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا. قال المفسرون: أراد بصب الماء: المطر

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 557: قال العوفي، عن ابن عباس: ثم يسّر عليه خروجه من بطن أمه، واختاره ابن جرير. وقال مجاهد: هذه كقوله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً أي وضحناه وبيناه وسهلنا عليه علمه وهذا هو الأرجح. (2) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس، ديوانه 139 من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة ويمدح عامر بن الطفيل. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 557: قال ابن جرير: كلا، ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر، من أنه قد أدى حقّ الله عليه في نفسه وماله، لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ يقول: لم يؤد ما فرض عليه من الفرائض لربه عز وجل، ولم أجد للمتقدمين فيه كلاما سوى هذا. والذي يقع لي في معنى ذلك- والله أعلم- أن المعنى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي: بعثه كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ: لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدنيا، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا، فإذا تناهى لذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.

[سورة عبس (80) : الآيات 33 إلى 42]

ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا يعني جميع الحبوب التي يُتَغَذَّى بها وَعِنَباً وَقَضْباً قال الفراء: هو الرَّطبة. وأهل مكة يسمون القَتَّ: القضب. قال ابن قتيبة ويقال: إنه سمي بذلك، لأنه يُقْضَبُ مرة بعد مرة، أي: يقطع، وكذلك القَصيل، لأنه يُقْصَلُ، أي: يقطع. قوله عزّ وجلّ: وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً قال الفراء: كل بستان عليه حائط، فهو حديقة، وما لم يكن عليه حائط لم يقل: حديقة. والغُلْب: ما غلظ من النخل. قال أبو عبيدة: يقال: شجرة غَلْباء: إذا كانت غليظة. وقال ابن قتيبة: الغُلب: الغِلاظ الأعناق. وقال الزجاج: هي المتكاثفة، العظام. قوله عزّ وجلّ: وَفاكِهَةً يعني: ألوان الفاكهة وَأَبًّا فيه قولان: أحدهما: أنه ما ترعاه البهائم. قاله ابن عباس، وعكرمة، واللغويون. قال الزجاج: هو جميع الكلأ التي تعتلفه الماشية. والثاني: أنه الثمار الرطبة، رواه الوالبي عن ابن عباس. قوله: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ قد بَيَّنَّاه في السورة التي قبلها «1» . [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) قوله عزّ وجلّ: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) وهي الصيحة الثانية. قال ابن قتيبة: الصاخة تصِخُّ صَخَّاً أي: تُصِمُّ. يقال: رجل أصخ، وأصلخ: إذا كان لا يسمع. والداهية صاخة أيضاً. وقال الزجاج: هي الصيحة التي تكون عليها القيامة، تصخ الأسماع، أي: تصمها، فلا تسمع إلا ما تدعى به لإحيائها. ثم فسر في أي وقت تجيء فقال عزّ وجلّ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ قال المفسرون: والمعنى «2» : لا يلتفت الإنسان إلى أحد من أقاربه، لِعِظَم ما هو فيه. قال الحسن: أول من يَفِرُّ من أخيه هابيل، ومن أُمه وأبيه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح. وقال قتادة: يفر هابيل من قابيل، والنبيّ صلّى الله عليه وسلم من أُمه، وإبراهيم من أبيه، ولوط من صاحبته، ونوح من ابنه. قوله عزّ وجلّ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ قال الفراء: أي: يَشْغَلُه عن قرابته. وقال ابن قتيبة: أي: يَصْرِفه ويصدُّه عن قرابته، يقال: اغْنِ عني وجهك، أي: اصرفه، واغْن عني السفيه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والزهري، وأبو العالية، وابن السميفع، وابن محيصن، وابن أبي عبلة «يَعنيه» بفتح الياء، والعين غير معجمة. قال الزجاج: معنى الآية: له شأن لا يقدر مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره، وكذلك قراءة من قرأ «يعنيه» بالعين، معناه له شأن لا يهمه معه غيره.

_ (1) النازعات: 33. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 559: يراهم ويفرّ منهم، ويبتعد عنهم لأن الهول عظيم، والخطب جليل. وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة: أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق، يقول: نفسي، نفسي، لا أسأله اليوم إلا نفسي.

(1514) وقد روى أنس بن مالك قال: قالت عائشة للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: أنحشر عراةً؟ قال: نعم. قالت: واسوءتاه، فأنزل الله عزّ وجلّ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي: مضيئة قد علمت ما لها من الخير ضاحِكَةٌ لسرورها مُسْتَبْشِرَةٌ أي: فرحة بما نالها من كرامة الله عزّ وجلّ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي: غبار. وقال مقاتل: أي: سواد وكآبة تَرْهَقُها أي: تغشاها قَتَرَةٌ أي: ظُلمة. وقال الزجاج: يعلوها سواد كالدخان. ثم بَيَّن مَنْ أَهْلُ هذه الحال، فقال عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ وهو جمع كافر وفاجر.

_ صحيح دون لفظ «وا سوأتاه» فإنه منكر ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 846 من طريق إبراهيم بن هراسة ثنا عائذ بن شريح الكندي، قال: سمعت أنس بن مالك، قال: قالت عائشة. وفيه لفظة منكرة وهي «واسوءتاه» وإسناده ضعيف لضعف عائذ. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 559 والطبري 36392 من طريق الفضل بن موسى، عن عائذ بن شريح، عن أنس قال: سألت عائشة رضي الله عنها: إني ساءلتك عن حديث فتجزني أنت به، ... » فذكره بنحوه والمتن غريب بهذا اللفظ. وقال أبو حاتم: عائذ بن شريح ضعيف، في حديثه ضعف. وقال ابن طاهر: ليس بشيء. فالإسناد ضعيف، والمتن ضعيف. وأصل حديث عائشة دون ذكر لفظ «واسوءتاه» أخرجه البخاري 6527 ومسلم 2859. وورد من حديث عائشة- دون ذكر اللفظة. أخرجه النسائي في «التفسير» 668 والحاكم 4/ 564 وإسناده صحيح، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 425 من طريق بريد بن عبد ربه عن بقية عن الزبيدي عن الزهري عن عروة عن عائشة. وورد من وجه آخر من حديث سودة: أخرجه الحاكم 2/ 514- 515 والطبراني في «الكبير» 24/ (91) والواحدي في «الوسيط» 4/ 425 من طريق إسماعيل بن أبي أويس ثنا أبي عن محمد بن أبي عياش عن عطاء بن يسار عن سودة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم. وفيه محمد بن أبي عياش مجهول، وثّقه ابن حبان وحده. وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي!؟ وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 333: ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن أبي عياش وهو ثقة! كذا قال رحمه الله، والصواب أنه مجهول، وثقه ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل، وقد اضطرب، فرواه تارة عن أم سلمة به، أخرجه الطبراني في «الأوسط» 10/ 332/ 18320.

سورة التكوير

سورة التّكوير وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) (1515) روى أبو عبد الله الحاكم في «صحيحه» من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.

_ أخرجه الترمذي 3333 وأحمد 2/ 37 وابن حبان في «المجروحين» 2/ 25 من طريق عبد الرزاق. وأخرجه الحاكم 2/ 515 من طريق هشام بن يوسف الصنعاني وكلا الطريقين عن عبد الله بن بحير القاضي قال سمعت عبد الرحمن بن زيد الصنعاني قال سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... الحديث. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 427 من طريق علي بن محمد الفقيه عن المؤمل بن حسن ثنا أحمد بن منصور الرمادي ثنا إبراهيم بن خالد ثنا عبد الله بن بحير به. وإسناده غير قوي، عبد الله بن بحير مختلف فيه، وثقه ابن معين، وفرق ابن حبان بين عبد الله بن بحير بن ريسان، وبين أبي وائل القاص، في حين عدهما ابن حجر والذهبي واحدا، وشيخه وإن روى عنه غير واحد، فقد وثّقه ابن حبان وحده، وروى حديثين فقط. وصححه الألباني في «الصحيحة» 1081، وفي ذلك نظر، قال ابن حبان: أبو وائل القاص، اسمه عبد الله بن بحير الصنعاني، وليس هو ابن بحير بن ريسان، ذاك ثقة، وهذا يروي عن عروة بن محمد بن عطية، وعبد الرحمن بن يزيد، العجائب التي كأنها معمولة لا يجوز الاحتجاج به، ثم أسند هذا الحديث، وحديثا آخر. وكذا فرق بينهما أبو أحمد الحاكم، فقال في الكنى في فصل من عرف بكنيته، ولا يوقف على اسمه، قلت: وذكره البخاري في «التاريخ» 8/ 9 في الكنى، فقال: أبو وائل القاص الصنعاني، سمع عروة بن محمد، روى عنه إبراهيم بن خالد. ولم يذكر البخاري فيه جرحا أو تعديلا. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 134 أن الترمذي رواه موقوفا، وهذا لم أجده في المرفوع، ولعل الوقف صواب، فإن في المتن غرابة، لكن لا أجزم بذلك لأنه إن كان كما قال ابن حبان، فهو خبر واه، وإلا فحسن غريب، فالله أعلم. فالجزم بصحته من الألباني، من غير بحث وتمحيص في الإسناد غير جيد، والله أعلم.

وفي قوله عزّ وجلّ: كُوِّرَتْ أربعة أقوال: أحدها: أظلمت، رواه الوالبي عن ابن عباس، وكذلك قال الفراء: ذهب ضوؤها، وهذا قول قتادة، ومقاتل. والثاني: ذَهَبَتْ، رواه عطية عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: اضمحلَّتْ. والثالث: غُوِّرَتْ، روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن الأنباري، وهذا من قول الناس بالفارسيّة: كور بكرد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: هو بالفارسيّة كور بور. والرابع: أنها تكوّر مثل العمامة، فتلفُّ وتمحى، قاله أبو عبيد. قال الزجاج: ومعنى «كُوِّرت» جمع ضوؤها، ولُفَّتْ كما تلفّ العمامة. يقال: كَوَّرْتُ العمامة على رأسي أُكوِّرُها: إذا لَفَفْتَها. قال المفسرون: تُجمع الشمس بعضُها إلى بعض، ثم تُلَفُّ ويرمى بها في البحر. وقيل: في النار. وقيل: تعاد إلى ما خلقت منه. قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي: تناثرت، وتهافتت. يقال: انكدر الطائر في الهواء: إذا انقضَّ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ عن وجه الأرض، واستوت مع الأرض وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ قال المفسرون وأهل اللغة: النوق الحوامل، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها: العشار لذلك، وذلك الوقت أَحْسَنُ زَمَانِ حَمْلِها، وهي تضع إذا وَضَعَتْ لتمامٍ في سنة، فهي أنفس ما للعرب عندهم، فلا يعطلونها، إلا لإتيان ما يَشْغَلهم عنها، وإنما خوطبت العرب بأمر العشار، لأن أكثر عيشهم ومالهم من الإبل، ومعنى «عُطِّلت» سُيِّبَتْ وأُهْمِلَتْ، لإشتغالهم عنها بأهوال القيامة. قوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ يعني: دوابَّ البرّ حُشِرَتْ وفيه قولان: أحدهما: ماتت، قاله ابن عباس. والثاني: جمعت إلى يوم القيامة، قاله السدي. وقد زدنا هذا شرحاً في الأنعام «1» . قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو «سجرت» بتخفيف الميم، وقرأ الباقون بتشديدها. وفي المعنى ثلاثة أقوال: أحدها: أُوقِدَتْ فاشتعلت ناراً، قاله علي وابن عباس. والثاني: يبست، قاله الحسن. والثالث: ملئت بأن صارت بحراً واحداً، وكثر ماؤها، قاله ابن السّائب والفراء، وابن قتيبة. قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: قرنت بأشكالها. قاله عمر رضي الله عنه، الصالح مع الصالح في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار، وهذا قول الحسن، وقتادة. والثاني: رُدَّت الأرواح إلى الأجساد، فَزُوِّجَت بها، قاله الشعبي. وعن عكرمة كالقولين. والثالث: زُوِّجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين، قاله عطاء، ومقاتل. قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ قال اللغويون: الموؤودة: البنت تُدْفَن وهي حَيَّةٌ، وكان هذا من فعل الجاهلية. يقال: وَأَدَ وَلَدَهُ، أي: دفنه حياً. قال الفرزدق: ومنّا الّذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يؤاد يعني: صعصعة بن صوحان، وهو جَدّ الفرزدق. قال الزّجّاج: ومعنى سؤالها تبكيت قاتلها في

_ (1) الأنعام: 111. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 563: أي جمع كل شكل إلى نظيره، كقوله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ، وعن مجاهد قال: الأمثال من الناس جمع بينهم، واختاره ابن جرير، وهو الصحيح.

[سورة التكوير (81) : الآيات 15 إلى 29]

القيامة، لأنّ جوابها: قتلت بغير ذنب. وقيل: سئلت: طلبت، كما تقول: سألته حقّي وإنما طلبت لتبكيت قاتلي. ومثل هذا التبكيت قوله عزّ وجلّ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ «1» وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وهارون عن أبي عمرو «سَأَلَتْ» بفتح السين، وألف بعدها بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ بإسكان اللام، وضم التاءَ الأخيرة. وسؤالها هذا أيضاً تبكيت لقاتليها. قال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت، فكان أوان ولادها حفرت حفيرة، فتمخَّضت على رأس الحفيرة، فإن ولدت جارية رَمَتْ بها في الحفيرة، وإن ولدت غلاماً حبسته. قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب «نُشِرَتْ» بالتخفيف، والباقون بالتشديد. والمراد بالصحف: صحائف أعمال بني آدم نشرت للحساب وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قال الفرّاء: يعني نُزِعَتْ، فطُوِيَتْ. وفي قراءة عبد الله «قُشِطَتْ» بالقاف، وهكذا تقول قيس، وتميم، وأسد، بالقاف. وأما قريش، فتقوله بالكاف، والمعنى واحد. والعرب تقول: القافور، والكافور، والقسط، والكسط. وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللّغات، كما يقال: جدث، وجدف. قال ابن قتيبة: كشطت كم يُكْشَطُ الغِطَاء عن الشيء، فطُوِيَتْ. وقال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف. وسُعِّرَتْ أُوقدت. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «سُعِّرت» مشددة. قال الزجاج: المعنى واحد. إلا أن معنى المشدد: أُوقدت مرة بعد مرة. وأُزْلِفَتْ قُرِّبَتْ من المتقين. وجواب هذه الأشياء عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أي: إذا كانت هذه الأشياء عَلِمَتْ في ذلك الوقت كلُّ نفس ما أحضرت من عمل، فأثيبتْ على قدر عملها. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قوله عزّ وجلّ: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ: لهذا جرى الحديث. وقال ابن عباس: من أول السورة إلى هاهنا اثنتا عشرة خصلة، ستة في الدنيا، وستة في الآخرة. [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ لا زائدة، والمعنى: أقسم بِالْخُنَّسِ وفيها خمسة أقوال: أحدها: أنها خمسة أنجم تَخْنُس بالنهار فلا تُرى، وهي: زُحَل، وعُطَارد، والمشتري، والمرّيخ. وبه قال مقاتل، وابن قتيبة. وقيل: اسم المشتري: البرجس. واسم المريخ: بهرام. والثاني: أنها النجوم، قاله الحسن وقتادة على الإطلاق، وبه قال أبو عبيدة. والثالث: أنها بقر الوحش، قاله ابن مسعود. والرابع: الظباء، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والخامس: الملائكة، حكاه الماوردي. والأكثرون على أنها النجوم. قال ابن قتيبة: وإنما سماها خنّسا، لأنها تسير في البروج

_ (1) المائدة: 116.

والمنازل، كسير الشمس والقمر، ثم تَخْنُس، أي: ترجع، بينا يرى أحدها في آخر البروج كَرَّ راجعاً إلى أوله، وسماها كُنَّساً، لأنها تكنس، أي: تسير كما تكنس الظباء. وقال الزّجّاج: تخنس، أي: تغيب، وكذلك تكنس تدخل في كناسها، أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها. وإذا كان المراد الظّباء فهي تدخل الكناس، وهو الغصن من أغصان الشجر. ووقف يعقوب على «الجواري» بالياء. قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ فيه قولان: أحدهما: ولَّى، قاله ابن عباس، وابن زيد، والفراء. والثاني: أقبل، قاله ابن جبير، وقتادة. قال الزجاج: يقال: عسعس الليل: إذا أقبل. وعسعس: إذا أدبر. واستدل من قال: إن المراد: إدباره ب قوله عزّ وجلّ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن قرط: حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا وفي قوله عزّ وجلّ: تَنَفَّسَ قولان: أحدهما: أنه طلوع الفجر، قاله عليّ رضي الله عنه وقتادة. والثاني: طلوع الشمس، قاله الضّحّاك. وقال الزجاج: معناه: إذا امتد حتى يصير نهاراً بَيِّناً. وجواب القسم في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ وما بعده قولُه: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني: أن القرآن نزل به جبريل. وقد بيَّنَّا هذا في الحاقة «1» . ثم وصف جبريل ب قوله عزّ وجلّ: ذِي قُوَّةٍ وهو كقوله عزّ وجلّ: ذُو مِرَّةٍ وقد شرحناه في النّجم «2» ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ يعني: في المنزلة مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ أي: في السموات تطيعه الملائكة. فَمِنْ طَاعَةِ الملائكة له: أنه أَمَرَ خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتحها لمحمّد صلّى الله عليه وسلم فدخلها ورأى ما فيها، وأمر خازن جهنم ففتَح له عنها حتى نظر إليها. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو حيوة «ثم أمين» بضم الثاء. ومعنى «أَمين» على وحي الله ورسالاته. وقال أبو صالح: أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير إذن. قوله عزّ وجلّ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ يعني محمّدا صلّى الله عليه وسلم، والخطاب لأهل مكة. قال الزجاج: وهذا أيضاً من جواب القسم، وذلك أنه أقسم أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمداً ليس بمجنون كما يقول أهل مكة. قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ قال المفسرون: رأى محمّد صلّى الله عليه وسلم جبريل على صورته بالأفق. وقد ذكرنا هذا في سورة النّجم «3» . قوله عزّ وجلّ: وَما هُوَ يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلم عَلَى الْغَيْبِ أي: على خبر السماء الغائب عن أهل الأرض بِضَنِينٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس «بظنين» بالظاء، وقرأ الباقون بالضاد. قال ابن قتيبة: من قرأ بالظاء، فالمعنى: ما هو بمُتَّهم على ما يخبر به عن الله، ومن قرأ بالضاد، فالمعنى: ليس ببخيل عليكم بعلم ما غابَ عنكم مما ينفعكم. وقال غيره: ما يكتمه كما يكتم الكاهن ليأخذ الأجر عليه. قوله عزّ وجلّ: وَما هُوَ يعني: القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ قال مقاتل: وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يجيء به الشيطان، فيلقيه على لسان محمّد.

_ (1) الحاقة: 40. (2) النجم: 6. (3) تقدم في سورة النجم: 7.

فصل:

قوله عزّ وجلّ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ قال الزجاج: معناه: فأيَّ طريق تسلكون أَبْيَنَ من هذه الطريقة التي قد بيّنت لكم؟ قوله: إِنْ هُوَ أي: ما هو، يعني: القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي: موعظة للخلق أجمعين لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ على الحق والإيمان. والمعنى: أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق. وقد بيَّنَّا سبيل الإستقامة، فمن شاء أخذ في تلك السبيل. ثم أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه بما بعد هذا، وقد بَيَّنَّا هذا في سورة الإنسان «1» . (1516) قال أبو هريرة: لما نزلت لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قالوا: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل قوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وقيل: القائل لذلك أبو جهل. وقرأ أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وأبو المتوكّل، وأبو عمران: «وما يشاءون» بالياء. فصل: وقد زعم بعض ناقلي التفسير أنّ قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وقوله عزّ وجلّ في (عبس) «2» : فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، وقوله عزّ وجلّ في سورة الإنسان «3» وفي سورة المزمل «4» : فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا كله منسوخ بقوله عزّ وجلّ: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ولا أرى هذا القول صحيحاً، لأنه لو جاز وقوع مشيئتهم مع عدم مشيئته توجَّه النسخ. فأما إذ أخبر أن مشيئتهم لا تقع إلا بعد مشيئته، فليس للنّسخ وجه.

_ أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر» 6/ 532 عن أبي هريرة، ولم أقف على إسناده، وتفردهما به دليل وهنه. وورد عن سليمان بن موسى قوله، وهو أصح. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 847 والطبري 36549 و 36550 عن سليمان بن موسى به.

سورة الانفطار

سورة الانفطار وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) قوله عزّ وجلّ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ انفطارها: انشقاقها. وانْتَثَرَتْ بمعنى تساقطت. وفُجِّرَتْ بمعنى فُتح بعضها في بعض فصارت بحراً واحدا. وقال الحسن: ذهب ماؤها، وبُعْثِرَتْ بمعنى أثيرت. قال ابن قتيبة: قُلِبَتْ فأُخْرِج ما فيها. يقال: بَعْثَرْتُ المتاع وبَحْثَرْتُه: إذا جعلت أسفله أعلاه. قوله عزّ وجلّ: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ هذا جواب الكلام. وقد شرحناه في قوله عزّ وجلّ: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ «1» . قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه عني به أبو الأشد «2» ، وكان كافراً، قاله ابن عباس، ومقاتل. وقد ذكرنا اسمه في المدثر «3» . والثاني: أنه الوليد بن المغيرة، قاله عطاء. والثالث: أنه أُبيّ بن خلف، قاله عكرمة. والرابع: أنه أشار الى كل كافر، ذكره الماوردي. قوله عزّ وجلّ: ما غَرَّكَ قال الزجاج: أي: ما خَدَعك وسوَّلَ لك حتى أضعتَ ما وجب عليك؟. وقال غيره: المعنى: ما الذي أمَّنك من عقابه وهو كريم متجاوز إذْ لم يعاقبك عاجلا؟ وقيل

_ (1) القيامة: 30. (2) تقدم الكلام عليه في سورة المدثر: 30. (3) المدثر: 30.

للفضيل بن عياض: لو أقامك الله سبحانه يوم القيامة، وقال: ما غرَّك بربك الكريم، ماذا كنت تقول؟ قال: أقول: غرني سُتورك المرخاة. وقال يحيى بن معاذ: لو قال لي: ما غرك بي؟ قلت: بِرُّك سالفاً وآنفا. وقيل: لما ذكر الصفة التي هي الكرم هاهنا دون سائر صفاته، كان كأنه لقَّن عبده الجواب، ليقول: غرّني كرم الكريم. قوله عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَكَ ولم تك شيئاً فَسَوَّاكَ إنساناً تسمع وتبصر فَعَدَلَكَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «فعدَّلك» بالتشديد. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي «فَعَدَلك» بالتخفيف. قال الفراء: من قرأ بالتخفيف. فوجهه- والله أعلم-: فصوَّرك إلى أيّ صورة ما شاء، إما حَسَن، وإما قبيح، وإما طويل، وإما قصير. وقيل: في صورة أب، في صورة عم، في صورة بعض القرابات تشبيها. ومن قرأ بالتشديد، فإنه أراد- والله أعلم-: جعلك معتدلا، معدّل الخلق. وقال غيره: عدَّل أعضاءك فلم تفضل يد على يد، ولا رِجل على رجل، وعدل بك أن يجعلك حيوانا بهيما. قوله عزّ وجلّ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ قال الزجاج: يجوز أن تكون «ما» زائدة. ويجوز أن تكون بمعنى الشرط والجزاء، فيكون المعنى: في أي صورة ما شاء أن يركِّبك فيها ركبك. وفي معنى الآية أربعة أقوال: أحدها: في أي صورة من صور القرابات ركَّبك، وهو معنى قول مجاهد. والثاني: في أيّ صورة، من حسن، أو قبيح أو طويل، أو قصير، أو ذَكَر، أو أنثى، وهو معنى قول الفراء. والثالث: إن شاء أن يركِّبك في غير صورة الإنسان ركبك، قاله مقاتل. وقال عكرمة: إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. والرابع: إن شاء في صورة إنسان بأفعال الخير. وإن شاء في صورة حمار بالبلادة والبله، وإن شاء في صورة كلب بالبخل، أو خنزير بالشرّ، ذكره الثّعلبيّ. قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وقرأ أبو جعفر بل يكذبون «بالياء» أي: بالجزاء والحساب، فيزعمون أنه غير كائن. ثم أعلمهم أن أعمالهم محفوظة، فقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ أي: من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم كِراماً على ربِّهم كاتِبِينَ يكتبون أعمالكم يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ من خير وشر، فيكتبونه عليكم. قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وذلك في الآخرة إذا دخلوا الجنة وَإِنَّ الْفُجَّارَ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: الظَّلَمة. ونقل عن سليمان بن عبد الملك أنه قال لأبي حازم: يا ليت شعري ما لنا عند الله؟ فقال له: اعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عنده، فقال: وأين أجده؟ قال: عند قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين. قوله عزّ وجلّ: يَصْلَوْنَها يعني: يدخلون الجحيم مقاسين حرَّها يَوْمَ الدِّينِ أي: يوم الجزاء على الأعمال وَما هُمْ عَنْها أي: الجحيم بِغائِبِينَ وهذا يدل على تخليد الكفار. وأجاز بعض العلماء أن تكون «عنها» كناية عن يوم القيامة، فتكون فائدة الكلام تحقيق البعث. ويشتمل هذا على الأبرار والفجار. ثم عظَّم ذلك اليوم ب قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثم كرَّر ذلك تفخيماً لشأنه، وكان ابن السائب يقول: الخطاب بهذا للإنسان الكافر، لا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم.

قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو «يوم» بالرفع، والباقون: بالفتح. قال الزجاج: من رفع «اليوم» ، فعلى أنه صفة لقوله عزّ وجلّ: يَوْمُ الدِّينِ. ويجوز أن يكون رفعه بإضمار «هو» ، ونصبه على معنى: هذه الأشياء المذكورة تكون يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً قال المفسرون: ومعنى الآية أنه لا يملك الأمرَ أحدٌ إلا الله ولم يملِّك أحداً من الخلق شيئاً كما ملَّكهم في الدنيا. وكان مقاتل يقول: لا تملك نفس لنفسٍ كافرةٍ شيئاً من المنفعة. والقول على الإطلاق أصح، لأن مقاتلاً فيما أحسب خاف نفي شفاعة المؤمنين. والشفاعة إنما تكون عن أمر الله وتمليكه.

سورة المطففين

سورة المطفّفين وفيها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها مكّيّة، قاله ابن مسعود، والضّحّاك، ويحيى بن سلام. والثاني: مدنيّة، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل، إلّا أنّ ابن عباس، وقتادة قالا: فيها ثمان آيات مكيّة، من قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا «2» إلى آخرها. وقال مقاتل: فيها آية مكّيّة، وهي قوله عزّ وجلّ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «3» . والثالث: أنها نزلت بين مكّة، والمدينة، قاله جابر بن زيد وابن السّائب، وذكر هبة الله بن سلامة المفسّر أنها نزلت في الهجرة بين مكّة والمدينة، نصفها يقارب مكّة، ونصفها يقارب المدينة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. (1517) قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك. وقال السّدّيّ: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية «4» . وقد شرحنا معنى «الويل» في البقرة «5» قال ابن قتيبة: المطفف: الذي لا يوفي الكيل، يقال: إناء طَفَّانُ: إذا لم يكن مملوءاً. وقال الزّجّاج: إنما قيل: مطفّف،

_ حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 674 وابن ماجة 2223 والحاكم 2/ 33 والطبري 36577 والواحدي 848 من حديث ابن عباس، وإسناده حسن. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن صحيح، وقد صححه السيوطي في «الدر» 6/ 536. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 2266.

[سورة المطففين (83) : الآيات 7 إلى 28]

لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف، وإنما أخذ من طَفَّ الشيء، وهو جانبه. قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي: من الناس. ف «على» بمعنى «من» في قول المفسرين واللغويين. قال الفراء: «على» ، و «من» يعتقبان في هذا الموضع، لأنك إذا قلت: اكتلت عليك، فكأنك قلت: أخذت ما عليك كيلا، وإذا قلت: اكتلت منك كيلا، فهو كقولك: استوفيت منك. قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، وكذلك إذا اتَّزنوا، ولم يَذْكُرْ «إذا اتَّزنوا» ، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يُكَال ويُوزَن، فأحدهما يدل على الآخر وَإِذا كالُوهُمْ أي: كالوا لهم أَوْ وَزَنُوهُمْ أي: وزنوا لهم يُخْسِرُونَ أي: ينقصون في الكيل، والوزن. فعلى هذا لا يجوز أن يقف على «كالوا» ، ومِنَ الناس من يجعل «هم» توكيداً لما كالوا، ويجوز أن يقف على «كالوا» والاختيار الأول. قال الفراء: سمعت أعرابية تقول: إذا صدر الناس أتينا التاجر، فيكيلنا المدّ والمدّين إلى الموسم المقبل. قوله عزّ وجلّ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ؟! قال الزجاج: المعنى: لو ظنوا أنهم يُبْعَثُون ما نقصوا في الكيل والوزن لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني به يوم القيامة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ اليوم منصوب بقوله عزّ وجلّ «مبعوثون» . قال المفسرون: والظن هاهنا بمعنى العلم واليقين. ومعنى يقوم الناس، أي: من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي: لأمره، أو لجزائه وحسابه. وقيل يقومون بين يديه لفصل القضاء. (1518) وفي «الصحيحين» من حديث ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: في هذه الآية: «يقوم أحدهم في رَشَحِهِ إلى أنصاف أذنيه» . وقال كعب: يقفون ثلاثمائة عام. قال مقاتل: وذلك إذا أخرجوا من قبورهم. [سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 28] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) قوله عزّ وجلّ: كَلَّا ردع وزجر، أي: ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا. وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء. وكان أبو حاتم يقول: «كلا» ابتداء يتصل بما بعده على معنى «حقّا»

_ صحيح. أخرجه البخاري 4938 والبغوي في «التفسير» من طريق إبراهيم بن المنذر به. وأخرجه مسلم 2862 من طريق معن به. وأخرجه الطبراني 30/ 94 من طريق مالك به. وأخرجه البخاري 6531 ومسلم 2862 والترمذي 2422 وابن ماجة 4278، وأحمد 2/ 105 و 125 وابن أبي شيبة 13/ 233 وابن حبان 7331 والطبري 36585 و 36589 والبغوي 4211 والواحدي في «الوسيط» 4/ 442 من طرق عن نافع به.

إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ قال مقاتل: إن كتاب أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها الأرض السابعة، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل. وروي عن مجاهد قال: «سجين» صخرة تحت الأرض السابعة، جعل كتاب الفاجر تحتها، وهذه علامة لخسارتهم، ودلالة على خساسة منزلتهم. والثاني: أن المعنى: إن كتابهم لفي سفال، قاله الحسن. والثالث: لفي خسار، قاله عكرمة. والرابع: لفي حبس، فعِّيل من السجن، قاله أبو عبيدة. قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ هذا تعظيم لأمرها. وقال الزجاج: أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك. قوله عزّ وجلّ: كِتابٌ مَرْقُومٌ أي: ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب مرقوم، أي: مكتوب. قال ابن قتيبة: والرّقم: الكتاب. قال ابن ذؤيب «1» : عرفت الدّيار كرقم الدّواة ... يَزْبُرُه الكَاتِبُ الحِمْيَرِيُّ وأنشده الزجاج: «يَذْبِرها» بالذال المعجمة، وكسر الباء. قال الأصمعي: يقال: زبر: كتب، وذبر: قرأ. وروى أبو عمرو عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الصواب: زبرت- بالزاي- كتبت. وذبرت- بالذال- أتقنت ما حفظت. قال: والبيت يزبرها، بالزاي والضم. وقال ابن قتيبة: يروى «يزبرُها» و «يذبرُها» وهو مثله، يقال: زبر الكتاب يزبره، ويذبره. وذَبره يذبرُه، ويذبِره. وقال قتادة: رقّم له بشرٍّ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر. وقيل: المعنى: إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به. قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا منتظم بقوله عزّ وجلّ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ، وما بينهما كلام معترض. وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله عزّ وجلّ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «بل ران» بفتح الراء مدغمة، وقرأ أبو بكر عن عاصم «بل ران» مدغمة بكسر الراء. وقرأ حفص عن عاصم «بل» بإظهار اللام «ران» بفتح الراء وقرأ حمزة والكسائيّ بإدغام اللام بكسر الراء، قال اللغويون: أي: غلب على قلوبهم يقال: الخمر ترين على عقل السكران. قال الزجاج: قرئت بإدغام اللام في الراء، لقرب ما بين الحرفين، وإظهار اللام جائز، لأنه من كلمة، والرأس من كلمة أخرى. ويقال: ران على قلبه الذَّنْب يرين ريناً: إذا غشي على قلبه، ويقال: غان يغين غينا، والغين كالغيم الرقيق، والرين كالصدأ يغشى على القلب. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: الغين يقال: بالراء، وبالغين، ففي القرآن كَلَّا بَلْ رانَ. (1519) وفي الحديث: «إنه ليغان على قلبي» وكذلك الراية تقال بالراء، وبالغين، والرميصاء تكتب «بالغين» ، وبالراء، لأن الرمص يكتب بهما. قال المفسرون: لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم. قال الحسن: هو الذَّنب على الذَّنب حتى يعمى القلب.

_ صحيح. أخرجه مسلم 2702 وأبو داود 1515 وأحمد 4/ 260 والنسائي في «اليوم والليلة» 442 وابن حبان 931 من حديث الأغرّ المزني بزيادة «وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة» . وانظر «تفسير القرطبي» 512.

قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: لا يصدِّقون. ثم استأنف إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال ابن عباس: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته. وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يَرَوْه تجلَّى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسُّخْطِ دل على أن قوماً يرونه بالرّضى «1» . وقال الزّجّاج: وهذه الآية دليل على أنّ الله عزّ وجلّ يُرى في القيامة. ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خسَّت منزلة الكفّار بأنهم يحجبون عن ربّهم. ثم بعد حجبهم عن الله يدخلون النار، فذلك قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ. قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ يُقالُ أي: تقول خزنة النار: هذَا العذاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه. ثم أعلم أين محمل كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ فقال عزّ وجلّ: لَفِي عِلِّيِّينَ وفيها سبعة أقوال «2» : أحدها: الجنة، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنها السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، قاله كعب، وهو مذهب مجاهد، وابن زيد. والرابع: أنها قائمة العرش اليمنى، وقال مقاتل: ساق العرش. والخامس: أنه سدرة المنتهى، قاله الضحاك. والسادس: أنه في علو وصعود إلى الله عزّ وجلّ قاله الحسن. وقال الفراء: في ارتفاع بعد ارتفاع. والسابع: أنه أعلى الأمكنة، قاله الزجاج. قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ هذا تعظيم لشأنها. قوله عزّ وجلّ: كِتابٌ مَرْقُومٌ الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها. قوله عزّ وجلّ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي: يحضر المقرَّبون من الملائكة ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين. وما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إلى قوله عزّ وجلّ يَنْظُرُونَ ففيه قولان: أحدهما: إلى ما أعطاهم الله من الكرامة. والثاني: إلى أعدائهم حين يعذَّبون. قوله عزّ وجلّ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ وقرأ أبو جعفر، ويعقوب «تُعرَف» بضم التاء، وفتح الراء «نضرةُ» بالرفع. قال الفراء: بريق النعيم ونداه. قال المفسرون: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم، لما ترى من الحسن والنور. وفي «الرحيق» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الخمر، قاله الجمهور. ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال: أحدها: أجود

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 574: وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم الآية، كما دلّ عليه منطوق قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة، وفي روضات الجنان الفاخرة. اه. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 574- 575: أي مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف سجين، والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع، ولهذا قال معظما أمره ومفخما شأنه وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ثم قال مؤكدا لما كتب لهم كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وهم الملائكة. (3) الانفطار: 13. [.....]

[سورة المطففين (83) : الآيات 29 إلى 36]

الخمر، قاله الخليل بن أحمد. والثانية: الخالصة من الغش، قاله الأخفش. والثالث: الخمر البيضاء، قاله مقاتل. والرابع: الخمر العتيقة، حكاه ابن قتيبة. والقول الثاني: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، قاله الحسن. والثالث: أنه الشراب الذي لا غش فيه، قاله ابن قتيبة، والزّجّاج. وفي قوله عزّ وجلّ: مَخْتُومٍ ثلاثة أقوال: أحدها: ممزوج، قاله ابن مسعود. والثاني: مختوم على إنائه، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد. والثالث: أنه ختام، أي: عاقبة ريح، وتلك العاقبة هي قوله عزّ وجلّ: خِتامُهُ مِسْكٌ، أي عاقبته. هذا قول أبي عبيدة. قوله: خِتامُهُ مِسْكٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة «ختامه» بكسر الخاء، وبفتح التاء، وبألف بعدهما، مرفوعه الميم. وقرأ الكسائي «خَاتَمه» بخاء مفتوحة، بعدها ألف، وبعده تاء مفتوحة. وروى الشّيزري عنه «خَاتِمه» مثل ذلك، إلا أنه يكسر التاء. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعروة، وأبو العالية: «ختمه مسك» بفتح الخاء والتاء وبضمّ الميم من غير ألف. وللمفسرين في قوله تعالى: خِتامُهُ مِسْكٌ أربعة أقوال: أحدها: خلطه مسك، قاله ابن مسعود، ومجاهد. والثاني: أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك، قاله ابن عباس. والثالث: أن طعمه وريحه مسك، قاله علقمة. والرابع: أن آخر طعمه مسك، قاله سعيد بن جبير، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزّجّاج في آخرين. قوله عزّ وجلّ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي: فليجدُّوا في طلبه، وليحرصوا عليه بطاعة الله. والتنافس: كالتشاحّ على الشيء، والتّنازع فيه. قوله عزّ وجلّ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ فيه قولان: أحدهما: أنه اسم عين في الجنة، قال ابن مسعود: وهي عين في الجنة يشربها المقربون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين. والثاني: أن التسنيم الماء، قاله الضحاك. قال مقاتل: وإنما سمي تسنيماً، لأنه يتسنّم عليه من جنة عدن، فينصبُّ عليهم انصباباً، فيشربون الخمر من ذلك الماء. قال ابن قتيبة: يقال: إن التسنيم أرفع شراب في الجنة. ويقال: إنه يمتزج بماءٍ ينزل من تسنيم، أي: من علو. وأصل هذا من سنام البعير، ومن تسنيم القبور. وهذا أعجب إليَّ، لقول المسيَّب بن عَلَس في وصف امرأة: كأنّ بريقتها للمزاج ... مِنْ ثَلْجِ تَسْنِيمَ شِيْبَتْ عُقَاراً أراد: كأن بريقتها عُقَاراً شِيْبَتْ للمزاج من ثلج تسنيم، يريد: جبلاً. قال الزجاج: المعنى: ومزاجه من تسنيم عيناً تأتيهم من تسنيم، أي: من علو يَتَسَنَّم عليهم من الغرف. ف «عيناً» في هذا القول منصوبة، كما قال عزّ وجلّ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً «1» . ويجوز أن تكون «عيناً» منصوبة بقوله: يُسْقَوْن عيناً، أي: من عين. وقد بينا معنى «يشرب بها» في «هل أتى» «2» . [سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)

_ (1) البلد: 14- 15. (2) الدهر: 6.

قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي: أشركوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مثل عمَّار، وبلال، وخبَّاب وغيرهم يَضْحَكُونَ على وجه الإستهزاء بهم وَإِذا مَرُّوا يعني: المؤمنين بِهِمْ أي: بالكفار يَتَغامَزُونَ أي: يشيرون بالجفن والحاجب استهزاءً بهم وَإِذَا انْقَلَبُوا يعني: الكُفار إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي: متعجِّبين بما هم فيه يتفكَّهون بذكرهم. وقرأ أبو جعفر، وحفص عن عاصم، وعبد الرزاق عن ابن عامر «فكهين» بغير ألف. وقد شرحنا معنى القراءتين في «يس» «1» قوله: وَإِذا رَأَوْهُمْ أي: رأَوْا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ يقول الله تعالى: وَما أُرْسِلُوا يعني الكفار عَلَيْهِمْ أي: على المؤمنين حافِظِينَ يحفظون أعمالهم عليهم، أي: لم يُوَكَّلوا بحفظ أعمالهم فَالْيَوْمَ يعني: في الآخرة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ إذا رَأَوْهم يعذَّبون في النار. قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا، وتفتح لهم أبوابها، فإذا أقبلوا يريدون الخروج، غُلِّقت أبوابها دونهم. والمؤمنون عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إليهم فذلك قوله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إليهم عذاب عدوِّهم. قال مقاتل: لكل رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذَّبون، فيحمدون الله على ما أكرمهم به، فهم يكلِّمون أهل النار ويكلمونهم إلى أن تطبق النار على أهلها، فتسد حينئذ الكوى. قوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ وقرأ حمزة، والكسائي، وهارون عن أبي عمرو «هل ثوب» بإدغام اللام. أي: هل جوزوا وأُثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا؟ وهذا الإستفهام بمعنى التقرير.

_ (1) يس: 55.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) قوله عزّ وجلّ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) قال المفسرون: انشقاقها من علامات الساعة. وقد ذكر ذلك في مواضع من القرآن. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي: استمعت وأطاعت في الانشقاق، من الأذن، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه، وأنشدوا: صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيراً ذُكِرْتُ بِهِ ... وإن ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُم أَذِنُوا «1» وَحُقَّتْ أي: حقَّ لها أن تُطيع ربَّها الذي خلقها وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قال ابن عباس: تُمَدُّ مَدَّ الأديم، ويزاد في سَعَتها. وقال مقاتل: لا يبقى جبل ولا بناءٌ إلا دخل فيها. قوله عزّ وجلّ: وَأَلْقَتْ ما فِيها من الموتى والكنوز وَتَخَلَّتْ أي: خلت من ذلك، فلم يبق في باطنها شيء. واختلفوا في جواب هذه الأشياء المذكورات على أربعة أقوال: أحدها: أنه متروك، لأن المعنى معروف قد تردَّد في القرآن. والثاني: أنه يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، كقول القائل: إذا كان كذا وكذا فيا أيها الناس تَرَوْن ما عملتم، فيجعل: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ هو الجواب، وتضمر فيه الفاء، فكأنّ المعنى: ترى الثواب والعقاب إذا السماء انشقّت، ذكر القولين الفراء. والثالث: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت» قاله المبرد. والرابع: أن الجواب مدلول عليه بقوله عزّ وجلّ: «فملاقيه» . فالمعنى: إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله، قاله الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فيه قولان: أحدهما: إنك عامل لربك عملاً، قاله ابن

_ (1) البيت لقعنب بن ضمرة بن أم صاحب، كما في «الاقتضاب» 292 و «اللسان» - أذن-.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 15 إلى 25]

عباس. والثاني: ساعٍ إلى ربك سَعْياً، قاله مقاتل. قال الزجاج: و «الكدح» في اللغة: السّعي، والدّأب في العمل باب الدنيا والآخرة. قال تميم بن مقبل: وَمَا الدَّهر إِلاَّ تَارَتانِ فمِنْهما ... أموتُ وأُخرى أبتغي العيش أكدح وفي قوله عزّ وجلّ: إِلى رَبِّكَ قولان: أحدهما: عامل لربك. وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: إلى لقاء ربّك، قاله ابن قتيبة. وفي قوله عزّ وجلّ: فَمُلاقِيهِ قولان: أحدهما: فملاقٍ عَمَلَكَ. والثاني: فملاقٍ ربّك، ذكرهما الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وهو أن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له. (1520) وفي «الصّحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من نوقش الحساب هلك، فقلت: يا رسول الله، فإن الله يقول: «فسوف يحاسب حساباً يسيرا» ؟! قال: ذلك العرض» . قوله عزّ وجلّ: وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ يعني: في الجنة من الحور العين والآدميات مَسْرُوراً بما أُوتي من الكرامة وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ قال المفسرون: تُغَلُّ يده اليمنى إلى عنقه، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً قال الزجاج: يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وهذا يقوله كلُّ من وقع في هلكة. قوله عزّ وجلّ: وَيَصْلى سَعِيراً قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي «ويُصُلَّى» بضم الياء، وتشديد اللام. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة «ويصلى» بفتح الياء خفيفة، إلا أن حمزة والكسائي يميلانها. وقد شرحناه في سورة النّساء «1» . قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ يعني في الدنيا مَسْرُوراً باتباع هواه، وركوب شهواته إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي: لن يرجع إلى الآخرة، ولن يبعث وهذه صفة الكافر. قال اللغويون: الحور في اللغة: الرجوع، وأنشدوا للبيد: وما المرء إِلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع [سورة الانشقاق (84) : الآيات 15 الى 25] بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

_ صحيح. أخرجه البخاري 103 والبغوي في «شرح السنة» 4214 عن سعيد بن أبي مريم به. عن عائشة. وأخرجه البخاري 4939 ومسلم 2876 ح 79 والترمذي 3337 وأحمد 6/ 47 والطبري 36736 وابن حبان 7369 والقضاعي 338 من طرق عن أيوب عن ابن أبي مليكة. وأخرجه البخاري 4939 و 6536 والترمذي 2426 و 3337 والطبري 36739 و 36740 من طرق عن ابن أبي مليكة به.

قوله عزّ وجلّ: بَلى قال الفراء: المعنى: بلى ليحورون، ثم استأنف، فقال عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً قال المفسرون: بصيرا به على سائر أحواله. قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ قد سبق بيانه. وأمّا «الشفق» فقال ابن قتيبة: هما شفقان: الأحمر، والأبيض، فالأحمر: من لدن غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء ثم يغيب، ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل. وللمفسرين في المراد «بالشّفق» هاهنا ستة أقوال: أحدها: أنه الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس. (1521) وقد روى ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الشفق: الحمرة» ، وهذا قول عمر، وابنه، وابن مسعود، وعبادة، وأبي قتادة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وابن المسيّب، وابن جبير، وطاوس، ومكحول، ومالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، والشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، وابن قتيبة، والزجاج. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول وعليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق، وكان أحمر. والثاني: أنه النهار. والثالث: الشمس، روي القولان عن مجاهد. والرابع: أنه ما بقي من النهار، قاله عكرمة. والخامس: السواد الذي يكون بعد ذهاب البياض، قاله أبو جعفر بن محمّد بن علي. والسادس: أنه البياض، قاله عمر بن عبد العزيز. قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي: وما جمع وضم. وأنشدوا: إنَّ لنا قَلائصَاً حَقَائِقا ... مُسْتَوْسِقَاتٍ لو يَجِدْنَ سَائِقَا «1» قال أبو عبيدة: وَما وَسَقَ ما علا فلم يمنع منه شيء، فإذا جلل الليل الجبال، والأشجار، والبحار، والأرض، فاجتمعت له، فقد وسقها. وقال بعضهم: معنى: «ما وسق» : ما جمع مما كان منتشراً بالنهار في تصرّفه إلى مأواه. قوله عزّ وجلّ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قال الفرّاء: اتّساقه: واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، إلى ستّ عشرة. قوله عزّ وجلّ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قرأ ابن كثير، وحمزة والكسائيّ «لتركبن» بفتح التاء والباء جميعا، وفي معناه قولان: أحدهما: أنه خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم في معناه قولان: أحدهما: لتركبنَّ سماءً بعد سماءٍ، قاله ابن مسعود، والشعبي، ومجاهد. والثاني: لتركبن حالاً بعد حال، قاله ابن عباس، وقال: هو نبيُّكم. والقول الثاني: أن الإشارة إلى السماء. والمعنى: أنها تتغير ضروباً من التغيير، فتارة كالمُهْل، وتارةً كالدِّهان، روي عن ابن مسعود أيضا.

_ الصحيح موقوف. أخرجه الدارقطني 1/ 269 من حديث ابن عمر، وفي إسناده عتيق بن يعقوب، وهو لم يسمع من مالك. وورد من وجه آخر موقوفا، أخرجه الدارقطني 1/ 269، وهو الراجح، وكذا روي عن جماعة من الصحابة موقوفا، وهو أصح، والله أعلم.

قرأ عاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «لتركبنَّ» بفتح التاء وضم الباء، وهو خطاب لسائر الناس ومعناه: لتركبنَّ حالاً بعد حال. وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وأبو الأشهب «ليركبنّ» بالياء، ونصب اللام. وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران، وابن يعمر «ليركبنّ» بالياء، ورفع الباء. و «عن» بمعنى «بعد» . وهذا قول عامّة المفسّرين واللغويين، وأنشدوا للأقرع بن حابس: إنّي امْرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدَّهْرَ أَشْطَرَهُ ... وَسَاقَنِي طَبَقٌ منه إلى طَبَقِ ثم في معنى الكلام خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه الشدائد، والأهوال، ثم الموت، ثم البعث، ثم العرض، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الرخاء بعد الشدة، والشدة بعد الرخاء، والغنى بعد الفقر، والفقر بعد الغنى، والصحة بعد السقم، والسقم بعد الصحة، قاله الحسن. والثالث: أنه كون الإنسان رضيعاً ثم فطيماً ثم غلاما ثم شاباً ثم شيخاً، قاله عكرمة. والرابع: أنه تغير حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا، فيرتفع من كان وضيعاً، ويتضع من كان مرتفعاً، وهذا مذهب سعيد بن جبير. والخامس: أنه ركوب سنن من كان قبلهم من الأولين، قاله أبو عبيدة. وكان بعض الحكماء يقول: من كان اليوم على حالة، وغداً على حالة أخرى، فليعلم أن تدبيره إلى سواه. قوله عزّ وجلّ: فَما لَهُمْ يعني: كفار مكة لا يُؤْمِنُونَ بمحمّد والقرآن، وهو استفهام إنكار وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ فيه قولان: أحدهما: لا يصلُّون، قاله عطاء، وابن السائب. والثاني: لا يخضعون له، ويستكينون، قاله ابن جرير، واختاره القاضي أبو يعلى. قال: وقد احتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك، وإنما المعنى: لا يخشعون، ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه. قوله عزّ وجلّ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ بالقرآن، والبعث، والجزاء وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من التكذيب. قال ابن قتيبة: «يوعون» : يجمعون في قلوبهم. وقال الزجاج: يقال: أوعيت المتاع في الوعاء، ووعيت العلم. قوله عزّ وجلّ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي: أخبرهم بذلك. وقال الزجاج: اجعل للكفار بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة، العذابَ الأليم. و «الممنون» عند أهل اللغة: المقطوع.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 516: والصواب من التأويل قول من قال: لتركبن أنت يا محمد حالا بعد حال، وأمرا بعد أمر من الشدائد، والمراد بذلك- وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم موجها- جميع الناس، أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا.

سورة البروج

سورة البروج وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ قد ذكرنا البروج في الحجر «1» وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ هو يوم القيامة بإجماعهم وفي قوله: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ فيه أربعة وعشرون قولاً «2» : (1522) أحدها: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، رواه أبو هريرة عن

_ ضعيف، والراجع وقفه، أخرجه الحاكم 2/ 519 والبيهقي 3/ 170 من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف، لضعف علي بن زيد، وخالفه يونس فرواه موقوفا، وصحح الحاكم الموقوف، ووافقه الذهبي وهو كما قالا. والموقوف أخرجه الطبري 36838، بإسناد على شرط مسلم من حديث أبي هريرة قال: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يوم القيامة. وورد عند الطبري 36850 من طريق ابن حرملة عن سعيد أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن سيد الأيام الجمعة، وهو الشاهد، والمشهود: يوم عرفة» وهذا مرسل، وهو معلول، فقد كرره الطبري 36853 عن سعيد قوله. وأخرجه الطبري 36852 من طريق شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الشاهد ... » فذكره. وفي إسناده محمد بن إسماعيل، وهو واه. وورد موقوفا منجما بألفاظ

رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبه قال علي، وابن عباس في رواية، وابن زيد. فعلى هذا سمي يومُ الجمعة شاهداً، لأنه يشهد على كل عامل بما يعمل فيه، وسمي يومُ عرفة مشهوداً، لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة. والثاني: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم النحر، قاله ابن عمر. والثالث: أن الشاهد: الله عزّ وجلّ، والمشهود: يوم القيامة، رواه الوالبي عن ابن عباس. والرابع: أن الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة، رواه مجاهد عن ابن عباس. والخامس: أنّ الشّاهد: محمّد صلّى الله عليه وسلم، والمشهود: يوم القيامة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن بن علي. والسادس: أن الشاهد: يوم القيامة، والمشهود: الناس، قاله جابر بن عبد الله. والسابع: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم القيامة، قاله الحسن. والثامن: أن الشاهد: يوم التروية، والمشهود: يوم عرفة، قاله سعيد بن المسيب. والتاسع: أن الشاهد: هو الله، والمشهود: بنو آدم، قاله سعيد بن جبير. والعاشر: أن الشاهد: محمد، والمشهود: يوم عرفة، قاله الضحاك. والحادي عشر: أنّ الشاهد آدم، والمشهود: يوم القيامة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني عشر: أن الشاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال عكرمة. والثالث عشر: أنّ الشاهد: آدم، وذريته، والمشهود يوم القيامة، قاله عطاء بن يسار. والرابع عشر: أن الشاهد: الإنسان، والمشهود: الله عزّ وجلّ، قاله محمد بن كعب. والخامس عشر: أن الشاهد: يوم النحر، والمشهود: يوم عرفة، قاله إبراهيم. والسادس عشر: أنّ الشاهد: عيسى ابن مريم عليه السلام، والمشهود: أمته، قاله أبو مالك. ودليله قوله عزّ وجلّ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً «1» . والسابع عشر: أنّ الشاهد: محمّد صلّى الله عليه وسلم، والمشهود: أمته، قاله عبد العزيز بن يحيى، وبيانه: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «2» . والثامن عشر: أن الشاهد: هذه الأمة، والمشهود: سائر الناس، قاله الحسين بن الفضل، ودليله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «3» . والتاسع عشر: أن الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم، قاله محمد بن علي الترمذي، وحكي عن عكرمة نحوه. والعشرون: أن الشاهد: الحق، والمشهود: الكون، قاله الجنيد. والحادي والعشرون: أن الشاهد، الحجر الأسود، والمشهود: الحجّاج. والثاني والعشرون: أنّ الشاهد: الأنبياء والمشهود: محمّد صلّى الله عليه وسلم، وبيانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الآية «4» . والثالث والعشرون: أنّ الشاهد:

_ مختلفة عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهذا الاختلاف يدل على الاضطراب الخلاصة: الحديث ضعيف بهذا اللفظ. وقد ورد من حديث أبي هريرة مرفوعا وعجزه وما طلعت الشمس ولا غربت في يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، لا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه» ، وعجزه هذا محفوظ. أخرجه الترمذي 3339 والبغوي في «شرح السنة» بإثر 1042 عن عبد بن حميد عن روح بن عبادة وعبيد الله بن موسى به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 458 من طريق يحيى بن نصر والطبري 36851 من طريق مهران كلاهما عن موسى بن عبيدة به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وانظر «تفسير الشوكاني» 2683.

الله عزّ وجلّ، والملائكة، وأولو العلم، والمشهود: لا إله إلا الله، وبيانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ «1» ، حكى هذه الأقوال الثلاثة الثعلبي. والرابع والعشرون: أنّ الشاهد: الأنبياء والمشهود: الأمم، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله. وفي جواب القسم أقوال: أحدها: أنه قوله عزّ وجلّ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قاله قتادة، والزجاج. والثاني: أنه قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، كما أنّ القسم في قوله عزّ وجلّ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... قَدْ أَفْلَحَ، حكاه الفراء. والثالث: أنه متروك، وهذا اختيار ابن جرير. قوله عزّ وجلّ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ أي: لُعِنُوا. والأخدود: شق يشق في الأرض، والجمع: أخاديد. وهؤلاء قوم حفروا حفائر في الأرض وأوقدوا فيها النار، وألقَوا فيها من لم يكفر. واختلف العلماء فيهم على ستة أقوال «2» : (1523) أحدها: أنه مَلِكٌ كان له ساحر فبعث إليه غلاماً يعلِّمه السّحر، فكان الغلام يمرُّ على راهب، فأعجبه أمره، فتبعه، فعلم به المَلِك، فأمره أن يرجع عن دينه، فقال: لا أفعل، فاجتهد الملك في إهلاكه، فلم يقدر، فقال الغلام: لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. اجمع الناس في صعيد واحد، واصلبني على جذع، وارمني بسهم من كنانتي، وقل: بسم الله ربِّ الغلام، ففعل، فمات الغلام، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فخدَّ الأخاديد، وأضرم فيها النار، وقال: فمن لم يرجع عن دينه فاقحموه فيها، ففعلوا، وهذا مختصر الحديث، وفيه طول، وقد ذكرته في «المغني» و «الحدائق» بطوله من حديث صهيب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (1524) والثاني: أن ملكاً من الملوك سكر، فوقع على أخته، فلما أفاق قال لها: ويحك: كيف المخرج؟ فقالت له: اجمع أهل مملكتك فأخبرهم أنّ الله عزّ وجلّ قد أَحَلَّ نكاح الأخوات، فإذا ذهب هذا في الناس وتناسَوه، خطبتَهم فحرَّمته. ففعل ذلك، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فبسط فيهم السّوط، ثم

_ صحيح. أخرجه مسلم 3005 وابن حبان 873 والواحدي في «الوسيط» 4/ 459- 460 من طريق هدبة بن خالد به. من حديث صهيب. وأخرجه الطبري 36874 من طريق حرمي بن عمارة ثنا حماد بن سلمة به. وأخرجه الترمذي 3340 وعبد الرزاق 9751 والطبراني 7319 من طريق معمر عن ثابت به. وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11661 وأحمد 6/ 17 و 18 والطبراني 7320 من طرق عن حماد بن سلمة به. موقوف. أخرجه الطبري 36868 عن علي موقوفا، وإسناده ضعيف، فيه إرسال بين ابن أبزى وبين علي.

جرَّد السيف، فأبَوْا، فخدَّ لهم أخدودا، وأوقد فيه النار، وقذف من أبى قبول ذلك، قاله عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه. (1525) والثالث: أنهم أناس اقتتل مؤمنوهم وكافروهم، فظهر المؤمنون، ثم تعاهدوا أن لا يَغدِر بعضهم ببعض، فغدر الكفار، فأخذوهم، فقال لهم رجل من المؤمنين: أوقدوا ناراً، واعرضوا عليها، فمن تابعكم على دينكم، فذاك الذي تحبون، ومن لم يتابعكم أُقحم النار فاسترحتم منه. ففعلوا، فجعل المسلمون يقتحمونها، ذكره قتادة. (1526) والرابع: أن قوماً من المؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، فأرسل إليهم جبَّار من عبدة الأوثان، فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا، فخدّ لهم أخدودا، وألقاهم فيه، قاله الربيع بن أنس. (1527) والخامس: أن جماعة آمنوا من قوم يوسف بن ذي نواس بعد ما رفع عيسى، فخدّ لهم خدّا، وأوقد فيه النار، فأحرقهم كلهم، فأنزل الله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وهم: يوسف بن ذي نواس وأصحابه، قاله مقاتل. والسادس: أنهم قوم كانوا يعبدون صنماً، ومعهم قوم يكتمون إيمانهم، فعلموا بهم، فخدُّوا لهم أُخدوداً، وقذفوهم فيه، حكاه الزجاج. واختلفوا في الذين أُحرقوا على خمسة أقوال: أحدها: أنهم كانوا من الحبشة، قاله عليّ عليه السلام. والثاني: من بني إسرائيل، قاله ابن عباس. والثالث: من أهل اليمن، قاله الحسن. قال الضحاك: كانوا من نصارى اليمن، وذلك قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأربعين سنة. والرابع: من أهل نجران، قاله مجاهد. والخامس: من النبط، قاله عكرمة. وفي عددهم ثلاثة أقوال: أحدها: اثنا عشر ألفاً، قاله وهب. والثاني: سبعون ألفاً، قاله ابن السّائب. والثالث: ثمانون رجلا، وتسع نسوة، قاله مقاتل. قوله عزّ وجلّ: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ هذا بدل من «الأخدود» كأنه قال: قتل أصحاب النار، و «الوقود» مفسر في البقرة «1» وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، ومجاهد، وأبو العالية، وابن يعمر وابن أبي عبلة «الوُقُود» بضم الواو إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ أي: عند النار. وكان الملك وأصحابه جلوساً على الكراسي عند الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر، فمن أبى ألْقَوْه وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي: حضور، فأخبر الله عزّ وجلّ في هذه الآيات بقصة قوم بلغ من إيمانهم ويقينهم أن صبروا على التحريق بالنار، ولم يرجعوا عن دينهم. قوله عزّ وجلّ: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ وقرأ ابن أبي عبلة «نقِموا» بكسر القاف. قال الزّجّاج: أي: ما

_ أخرجه الطبري 36869 عن قتادة قال حدثنا أن عليا رضي الله عنه كان يقول: «هم أناس بمزارع اليمن، اقتتل مؤمنوها وكفارها ... » فذكره. وهذا ضعيف، قتادة عن علي منقطع. مرسل. أخرجه الطبري 36875 عن الربيع بن أنس به. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم، والصحيح في ذلك حديث صهيب، وتقدم برقم 1523.

أنكروا عليهم إيمانهم. وقد شرحنا معنى «نقموا» في المائدة «1» وبراءة «2» وشرحنا معنى الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ في البقرة «3» . قوله عزّ وجلّ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: لم يَخْفَ عليه ما صنعوا، فهو شهيد عليهم بما فعلوا. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي: أحرقوهم، وعذّبوهم. كقوله عزّ وجلّ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «4» ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا من شركهم وفعلهم ذلك فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بكفرهم وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ بما أحرقوا المؤمنين، وكلا العذابَيْن في جهنم عند الأكثرين وقد ذهب الربيع بن أنس في جماعة إلى أن النار ارتفعت إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم، فذلك عذاب الحريق في الدنيا. قال الربيع: وقبض الله أرواح المؤمنين قبل أن تمسَّهم النار. وحكى الفراء أن المؤمنين نَجوْا من النار، وأنها ارتفعت فأحرقت الكفرة. قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ لأنهم فازوا بالجنة. وقال بعض المفسرين: فازوا من عذاب الكفار، وعذاب الآخرة. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظّلمة والجبابرة لشديد. قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ فيه قولان: أحدهما: يبدئ الخلق ويعيدهم، قاله الجمهور. والثاني: يبدئ العذاب في الدنيا على الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس. وقد شرحنا في هود «5» معنى «الودود» و «المجيد» . قوله عزّ وجلّ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ وقد قرأ حمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم «المجيدِ» بالخفض، وقرأ غيرهم بالرفع، فمن رفع «المجيدُ» جعله من صفات الله عزّ وجلّ، ومن كسر جعله من صفة العرش. قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ أي: قد أتاك حديث الْجُنُودِ وهم الذين تجنَّدوا على أولياء الله. ثم بيّن من هم، فقال عزّ وجلّ: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي مكّة فِي تَكْذِيبٍ لك وللقرآن، أي: لم يعتبروا بمن كان قبلهم وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ أي: كريم، لأنه كلام الله، وليس كما يقولون: شعر، وكهانة، وسحر. وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السّميفع «بل قرآن مجيد» بغير تنوين وبخفض «مجيد» فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ وهو اللوح المحفوظ، منه نسخ القرآن وسائر الكتب، فهو محفوظ عند الله محروس به من الشياطين، ومن الزيادة فيه والنقصان منه. وقرأ نافع «محفوظ» رفعاً على نعت القرآن فالمعنى: إنه محفوظ من التحريف والتّبديل.

_ (1) المائدة: 59. (2) التوبة: 74. (3) البقرة: 129 و 267. (4) الذاريات: 13. (5) هود: 90.

سورة الطارق

سورة الطّارق وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ قال ابن قتيبة: الطارق: النجم، سمي بذلك، لأنه يطرق، أي: يطلع ليلاً، وكل من أتاك ليلاً، فقد طرقك، ومنه قول هند ابنة عتبة: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق تريد: إن أبانا نجم في شرفه وعلوّه. قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ قال المفسّرون: وذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلا، فلم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلم يدري ما المراد به حتى تبينه بقوله عزّ من قائل: النَّجْمُ الثَّاقِبُ يعني: المضيء، كما بيَّنا في الصافات» وفي المراد بهذا النجم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه زحل، قاله عليّ رضي الله عنه. وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: هو زحل، ومسكنه في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجومُ أمكنتَها من السماء، هبط، فكان معها، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد. والثاني: أنه الثريا، قاله ابن زيد. والثالث: أنه اسم جنس، ذكره علي بن أحمد النّيسابوريّ. قوله عزّ وجلّ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو المتوكل «إنَّ» بالتشديد «كلَّ» بالنصب لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم وحمزة، وأبو حاتم عن يعقوب «لمَّا» بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف. قال الزجاج: هذه الآية جواب القسم، ومن خفف فالمعنى: لَعَلَيْها حافظ و «ما» ومن شدد، فالمعنى: إلا، قال: فاستعملت «لما» في موضع «إلا» في موضعين: أحدهما: هذا. والآخر: في باب القسم. تقول: سألتك لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت. قال المفسرون: المعنى: ما

_ (1) الصافات: 10.

[سورة الطارق (86) : الآيات 11 إلى 17]

من نفس إلا عليها حافظ. وفيه قولان: أحدهما: أنهم الحفظة من الملائكة، قاله ابن عباس. قال قتادة: يحفظون على الإنسان عمله من خير أو شر. والثاني: حافظ يحفظ الإنسان حتى حين يسلِّمه إلى المقادير، قاله الفرّاء. ثم نبّه على البعث ب قوله عزّ وجلّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ أي: من أي شيء خلقه ربّه؟ والمعنى: فلينظر نظر التفكُّر والاستدلال ليعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادرٌ على إعادته. قوله جلّ جلاله: مِنْ ماءٍ دافِقٍ قال الفراء: معناه: مدفوق، كقول العرب. سرٌّ كاتم، وهمٌ ناصب، وليلٌ نائم، وعيشة راضية. وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً. قال الزجاج: ومذهب سيبويه وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق، والمعنى: من ماءٍ ذي اندفاق. قوله عزّ وجلّ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وقرأ ابن مسعود، وابن سيرين، وابن السميفع، وابن أبي عبلة «الصلب» بضم الصاد، واللام جميعاً. يعني: يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. قال الفراء: يريد يخرج من الصلب والترائب. يقال: يخرج من بين هذين الشيئين خير كثير. بمعنى: يخرج منهما. وفي «الترائب» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه موضع القلادة، قاله ابن عباس. قال الزجاج: قال أهل اللغة أجمعون: التّرائب: موضع القلادة من الصّدر، وأنشدوا لامرئ القيس: مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ... تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: السجنجل: المرآة بالرومية. وقيل: هي سبيكة الفضة، وقيل: السجنجل: الزعفران، وقيل: ماء الذهب. ويروى البيت: «بالسجنجل» . والثاني: أن الترائب: اليدان والرجلان والعينان، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر، حكاه الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ الهاء كناية عن الله عزّ وجلّ عَلى رَجْعِهِ الرجع: رد الشيء إلى أول حاله. وفي هذه الهاء قولان: أحدهما: أنها تعود على الإنسان. ثم في المعنى قولان: أحدهما: أنه على إعادة الإنسان حياً بعد موته قادر، قاله الحسن، وقتادة. قال الزّجّاج: ويدل على هذا القول قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. والثاني: أنه على رجعه من حال الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة قادر، قاله الضّحّاك. والقول الثاني: أنها تعود على الماء. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: رد الماء في الإحليل، قاله مجاهد. والثاني: على رده في الصلب، قاله عكرمة، والضحاك. والثالث: على حبس الماء فلا يخرج، قاله ابن زيد. قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ تختبر السرائر التي بين العبد وبين ربه حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤدِّيها من مضيِّعها، فإن الإنسان مستور في الدنيا، لا يُدري أصلى، أم لا؟ أتوضأ، أم لا؟ فإذا كان يوم القيامة أبدى الله كل سِرٍّ، فكان زَيْناً في الوجه، أو شَيْناً. وقال ابن قتيبة: تختبر سرائر القلوب. قوله عزّ وجلّ: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ أي: فما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله وَلا ناصِرٍ ينصره. [سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17] وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي: ذات المطر، وسمي المطر رجعاً لأنه يجيء ويرجع ويتكرَّر وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ أي: ذات الشقّ. وقيل لها هذا، لأنها تتصدَّع وتتشقَّق بالنبات، هذا قول المفسّرين وأهل اللغة في الحرفين. قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ يعني به القرآن، وهذا جواب القسم. والفصل: الذي يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي: بالَّلعِب. والمعنى: إنه جِدٌّ، ولم ينزل بالَّلعِب. وبعضهم يقول: الهاء في «إنه» كناية عن الوعيد المتقدم ذكره. قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُمْ يعني مشركي مكة يَكِيدُونَ كَيْداً أي: يحتالون وهذا الاحتيال في المكر برسول الله صلّى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة. وَأَكِيدُ كَيْداً أي: أُجازيهم على كيدهم بأن أستدرجهم من حيث لا يعلمون، فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ هذا وعيد من الله عزّ وجلّ لهم. ومَهِّل وأَمْهِل لغتان جمعتا هاهنا. ومعنى الآية: مهِّلهم قليلاً حتى أهلكهم، ففعل الله ذلك بِبَدْر، ونسخ الإمهال بآية السيف. قال ابن قتيبة: ومعنى «رويداً» مهلاً، ورويدَك. بمعنى أمهل. قال الله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي: قليلاً، فإذا لم يتقدمها «أمهلهم» كانت بمعنى «مهلاً» . ولا يتكلم بها إلا مصغرة ومأموراً بها، وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر. قال الشاعر: كأنها مِثْلُ مَنْ يمشي على رُودِ أي: على مهل.

سورة الأعلى

سورة الأعلى وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) وفي معنى سَبِّحِ خمسة أقوال «1» : أحدها: قل: سبحان ربي الأعلى، قاله الجمهور. والثاني: عَظِّم. والثالث: صَلِّ بأمر ربك، روي القولان عن ابن عباس. والرابع: نَزِّه ربك عن السوء، قاله الزجاج. والخامس: نَزِّه اسم ربك وذكرك إياه أن تذكره وأنت معظم له، خاشع له، ذكره الثّعلبي. وفي قوله عزّ وجلّ: اسْمَ رَبِّكَ قولان: أحدهما: أن ذكر الاسم صلة، كقول لبَيد بن ربيعة: إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَليْكُما ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فَقَد اعْتَذَرْ والثاني: أنه أصلي، وقال الفرّاء: قوله: سبّح اسم ربّك وسبّح باسم ربّك، سواء في كلام العرب. قوله عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أي: فعدَّل الخلق. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في «الإنفطار» «2» : وَالَّذِي قَدَّرَ وقرأ الكسائي وحده «قَدَر» بالتخفيف فَهَدى فيه سبعة أقوال «3» : أحدها:

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 543: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: معناه: نزه اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان فكانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى، فبين بذلك أن معناه عندهم كان معلوما: عظم اسم ربك، ونزهه. (2) الانفطار: 7. (3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 592: وقوله: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى قال مجاهد: هدى الإنسان للشقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها، وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي: قدّر قدرا، وهدى الخلائق إليه. اه. وتوقف الطبري فلم يرجح، وقال: الخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به حجة.

[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 إلى 19]

قدَّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، قاله مجاهد. والثاني: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها إليه، قاله عطاء. والثالث: قَدَّر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج، قاله السدي. والرابع: قَدَّرهم ذكوراً وإناثاً، وهدى الذكر لإتيان الأنثى، قاله مقاتل. والخامس: أن المعنى: قدَّر فهدى وأضل، فحذف «وأضل» ، لأن في الكلام دليلا عليه، حكاه الزجاج. والسادس: قَدَّر الأرزاق، وهدى إلى طلبها. والسابع: قَدَّر الذنوب، وهدى إلى التوبة، حكاهما الثّعلبيّ. قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي: أنبت العشب، وما ترعاه البهائم فجعله: بعد الخضرة غُثاءً قال الزجاج، أي: جفَّفه حتى جعله هشيماً جافاً كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل. وقد بيّنّا هذا في سورة المؤمنون «1» . فأمّا قوله عزّ وجلّ: أَحْوى فقال الفراء: الأحوى: الذي قد اسود من القِدَم، والعتق، ويكون أيضاً: أخرج المرعى أحوى: أسود من الخضرة، فجعله غثاءً كما قال عزّ وجلّ: مُدْهامَّتانِ «2» . قوله عزّ وجلّ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى قال مقاتل: سنعلِّمك القرآن، ونجمعه في قلبك فلا تنساه أبداً. قوله عزّ وجلّ: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: إلا ما شاء الله أن تنساه ثم تذكره بعد. حكاه الزّجّاج. والثالث: أنه استثناء ألّا يقع، قال الفرّاء: لم يشأ أن ينسى شيئاً، فإنما هو كقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «3» ، ولا يشاء. قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ من القول والفعل وَما يَخْفى منهما وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي: نُسهِّل عليك عمل الخير فَذَكِّرْ أي: عظ أهل مكة إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى وفي «إن» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الشّرطية، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن قبلت الذّكرى، قاله يحيى بن سلام. والثاني: إن نفعت وإن لم تنفع، قاله علي بن أحمد النيسابوري. والثاني: أنها بمعنى «قد» ، فتقديره: قد نفعت الذكرى، قاله مقاتل. والثالث: أنها بمعنى «ما» فتقديره: فذكر ما نفعت الذّكرى، حكاه الماورديّ. قوله عزّ وجلّ: سَيَذَّكَّرُ أي سيتّعظ بالقرآن مَنْ يَخْشى الله يَتَجَنَّبُهَا ويتجنب الذكرى الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي: العظيمة الفظيعة لأنها أشد من نار الدنيا ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى حياة تنفعه. وقال ابن جرير: تصير نفس أحدهم في حلقه، فلا تخرج فتفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا. [سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ قال الزجاج: أي: صادف البقاء الدائم، والفوز مَنْ تَزَكَّى فيه خمسة أقوال: أحدها: من تطهَّر من الشرك بالإيمان، قاله ابن عباس. والثاني: من أعطى صدقة الفطر، قاله أبو سعيد الخدري، وعطاء، وقتادة. والثالث: من كان عمله زاكياً، قاله الحسن، والربيع. والرابع: أنها

_ (1) المؤمنون: 41. (2) الرحمن: 64. (3) هود: 107. [.....]

زكوات الأموال كلّها، قاله أبو الأحوص. والخامس: تكثَّر بتقوى الله. ومعنى الزاكي: النامي الكثير، قاله الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ قد سبق بيانه «1» . وفي قوله عزّ وجلّ: فَصَلَّى ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: صلاة العيدين، قاله أبو سعيد الخدري. والثالث: صلاة التطوع، قاله أبو الأحوص. والقول قول ابن عباس في الآيتين، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة، ولا عيد. قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا قرأ أبو عمرو، وابن قتيبة، وزيد عن يعقوب «بل يؤثرون» بالياء، والباقون بالتاء، واختار الفراء والزجاج التاء، لأنها رويت عن أُبَيِّ بن كعب: «بل أنتم تؤثرون» . فإن أريد بذلك الكفار، فالمعنى: أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة، لأنهم لا يؤمنون بها. وإن أريد به المسلمون، فالمعنى: يريدون الاستكثار من الدنيا على الاستكثار من الثواب. قال ابن مسعود: إن الدنيا عجِّلت لنا، وإن الآخرة نُعِتَتْ لنا، وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل. قوله عزّ وجلّ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ يعني الجنة أفضل وَأَبْقى أي: أدوم من الدنيا. إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى في المشار إِليه أربعة أقوال: أحدها: أنه قوله عزّ وجلّ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى قاله قتادة. والثاني: هذه السورة، قاله عكرمة، والسدي. والثالث: أنه لم يرد السّورة، ولا ألفاظها بعينها، وإنما أراد أن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى، في الصحف الأولى، كما هو في القرآن، قاله ابن قتيبة. والرابع: أنه من قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلى قوله: وَأَبْقى قاله ابن جرير. ثم بين الصحف الأولى ما هي، فقال: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وقد فسّرناها في النّجم «2» .

_ (1) الأحزاب: 31. فائدة: قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 380: الذكر حقيقته إنما هو في القلب، لأنه محمل النسيان الذي هو ضده، والضدان إنما يتضادان في المحل الواجب، فأوجب الله بهذه الآية النية في الصلاة خصوصا، وإن كان قد اقتضاها عموما قوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» والصلاة أم الأعمال ورأس العبادات، ومحل النية في الصلاة مع تكبيرة الإحرام، فإن الأفضل في كل نية بفعل أن تكون مع الفعل لا قبله، وإنما رخّص في تقديم نية الصوم لأجل تعذر اقتران النية فيه بأول الفعل عند العجز، لوجوده والناس في غفلة، وبقيت سائر العبادات على الأصل. وتوهم بعض القاصرين عن معرفة الحقّ أن تقديم النية على الصلاة جائز، بناء على ما قال علماؤنا من تجويز تقديم النية على الوضوء في الذي يمشي إلى النهر في الغسل، فإذا نسي واغتسل يجزئه- قال: فكذلك الصلاة. وهذا القائل ممن دخل في قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ [الملك: 22] وقد بيناه، وحققنا أن الصلاة أصل متفق عليه في وجوب النية، والوضوء فرع مختلف فيه، فكيف يقاس المتفق عليه على المختلف فيه، ويحمل الأصل على الفرع؟ وإذا قلنا: إنه الذكر باللسان المخبر عن ذكر القلب المعبر عنه بأنه مشروع في الصلاة مفتتح به في أولها باتفاق من الأئمة، لكنهم اختلفوا في تعينه، فمنهم من قال: إنه كل ذكر، منهم أبو حنيفة، وقال أبو يوسف: يجزئه «الله الكبير» والله أكبر، والله الأكبر. وقال الشافعي: يجزئه الله أكبر والله أكبر. وقال مالك: لا يجزئه إلا قوله: الله أكبر. ونعوّل الآن هنا على أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «صلّوا كما رأيتموني أصلي» وهو إنما كان يكبر ولا يتعرض لكل ذكر، فتعين التكبير بأمره باتباعه في صلاته، فهو المبين لذلك كله. (2) النجم: 36.

سورة الغاشية

سورة الغاشية وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ أي: قد أتاك، قال قطرب. وقال الزّجّاج: المعنى: هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك. وفي «الغاشية» قولان: أحدهما: أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال، قاله ابن عباس، والضحاك، وابن قتيبة. والثاني: أنها النار تغشى وجوه الكفار، قاله سعيد بن جبير، والقرظي، ومقاتل. قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ أي: ذليلة وفيها قولان: أحدهما: أنها وجوه اليهود والنصارى، قاله ابن عباس. والثاني: أنه جميع الكفار، قاله يحيى بن سلام. قوله عزّ وجلّ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام، كعبدة الأوثان، وكفَّار أهل الكتاب، مثل الرهبان وغيرهم، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنهم الرهبان، وأصحاب الصوامع، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم. والثالث: عاملة ناصبة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال، لأنها لم تعمل لله في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار، وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن. وقال قتادة: تكبَّرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب. قال الضحاك: يُكلِّفون ارتقاء جبل من حديد في النار. وقال ابن السائب: يَخِرُّون على وجوههم. وقال مقاتل: عاملة في النار تأكل من النار، ناصبة للعذاب. والرابع: عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة، قاله عكرمة والسدي. والكلام هاهنا على الوجوه، والمراد أصحابها. وقد بينا معنى «النصب» في قوله عزّ وجلّ: لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ «1» . قوله عزّ وجلّ: تَصْلى ناراً حامِيَةً قرأ أهل البصرة وعاصم إلّا حفصا «تصلى» بضمّ التاء. والباقون

_ (1) الحجر: 48.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 إلى 26]

بفتحها. قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي: متناهية في الحرارة. قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا. قوله عزّ وجلّ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ فيه ستة أقوال: أحدها: أنه نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، وتسميه قريش «الشِّبْرِق» فإذا هاج سموه: ضريعاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة. والثاني: أنه شجر من نار، رواه الوالبي عن ابن عباس. والثالث: أنها الحجارة، قاله ابن جبير. والرابع: أنه السَّلَم، قاله أبو الجوزاء. والخامس: أنه في الدنيا: الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار، قاله ابن زيد. والسادس: أنه طعام يضرعون إلى الله تعالى منه، قاله ابن كيسان. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله تعالى: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وكُذِّبوا، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً، وحينئذ يسمَّى شِبْرِقاً، لا ضريعاً، فإذا يبس وسمّي ضريعاً لم يأكله شيء. فإن قيل: إنه قد أخبر في هذه الآية: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وفي مكان آخر وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ «1» فكيف الجمع بينهما؟ فالجواب: أن النار دركات، وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طَعامُهُ الزَّقُّوم، ومنهم مَنْ طعامه غِسْلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم مَنْ شَرَابُهُ الصَّديد. قاله ابن قتيبة. [سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 26] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي: في نعمة وكرامة لِسَعْيِها في الدنيا راضِيَةٌ والمعنى: رضيت بثواب عملها فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قد فسرناه في «الحاقّة» «2» لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورويس «لا يُسمع» بياء مضمومة. «لاغيةُ» بالرفع. وقرأ نافع كذلك إلا أنه بتاءٍ مضمومة، والباقون بتاءٍ مفتوحة، ونصب «لاغيةً» لا تسمع فيها كلمة لغو فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكلَّلة بالزبرجد، والدر، والياقوت، مرتفعة ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ عندهم. وقد ذكرنا «الأكواب» في الزخرف «3» وَنَمارِقُ وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون. قال الفراء: وسمعت بعض كلب تقول: نِمرِقة، بكسر النون والراء مَصْفُوفَةٌ بعضها إلى جنب بعض، والزرابي: الطنافس التي لها خمل رقيق مَبْثُوثَةٌ كثيرة. وقال ابن قتيبة: مبثوثة كثيرة مفرّقة. قال

_ (1) الحاقة: 36. (2) الحاقة: 22. (3) الزخرف: 71.

المفسّرون: لمّا نعت الله سبحانه وتعالى ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الكفر، فذكّرهم صنعه، فقال عزّ وجلّ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ. (1528) وقال قتادة: ذكر الله ارتفاع سُرُرِ الجنة، وفرشها، فقالوا: كيف نصعدها، فنزلت هذه الآية. قال العلماء: وإنما خص الإبل من غيرها لأن العرب لم يَرَوْا بهيمة قَطُّ أعظمَ منها، ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم، ولأنها كانت أَنْفَسَ أموالهم وأكثرها، لا تفارقهم ولا يفارقونها، فيلاحظون فيها العِبَر الدَّالةَ على قدرة الخالق، من إخراج لبنها من بين فرث ودم وعجيب خَلْقِها، وهي على عِظَمها مُذلَّلة للحمل الثقيل، وتنقاد للصبي الصغير، وليس في ذوات الأربع ما يحمل عليه وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها. وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، والأصمعي عن أبي عمرو «الإبْل» بإسكان الباء وتخفيف اللام. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو المتوكل، والجحدري، وابن السميفع، ويونس بن حبيب وهارون كلاهما عن أبي عمرو «الإبِلِّ» بكسر الباء، وتشديد اللام. قال هارون: قال أبو عمرو «الإبِلُّ» بتشديد اللام: السّحاب الذي يحمل الماء. قوله عزّ وجلّ: كَيْفَ خُلِقَتْ وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو عمران، وابن أبي عبلة «خَلَقْتُ» بفتح الخاء، وضم التاء. وكذلك قرءوا: «رفعت» و «نصبت» و «سطحت» . قوله عزّ وجلّ: وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ من الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عَمَدٍ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ على الأرض لا تزول ولا تتغير وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أي: بُسِطَتْ. والسطح: بسط الشيء، وكل ذلك يدل على خالقه فَذَكِّرْ أي: فعظ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي: واعظ، ولم يكن حينئذ أمر بغير التذكير، ويدل عليه قوله عزّ وجلّ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي: بمسلِّط، فتقتلهم وتكرههم على الإيمان. ثم نسختها آية السيف. وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة والحلواني عن ابن عامر «بمسيطر» بالسين. وقد سبق بيان «المسيطر» في قوله عزّ وجلّ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ «1» . قوله عزّ وجلّ: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى هذا استثناء منقطع معناه: لكن من تولى وَكَفَرَ بعد التذكير. وقرأ ابن عباس، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وأبو مجلز، وقتادة، وسعيد بن جبير «ألا من تولّى» بفتح الهمزة وتخفيف اللام فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو أن يدخله جهنم، وذلك أنهم قد عُذِّبوا في الدنيا بالجوع، والقتل، والأسر، فكان عذاب جهنم هو الأكبر إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعائشة، وعبد الرحمن، وأبو جعفر «إيَّابهم» بتشديد الياء، أي: رجوعهم ومصيرهم بعد الموت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ قال مقاتل: أي: جزاءهم.

_ أخرجه الطبري 37043 عن قتادة قوله، فهو ضعيف.

سورة الفجر

سورة الفجر وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) قوله تعالى: وَالْفَجْرِ قال ابن عباس: الفجر: انفجار الظّلمة عن الصّبح، وانفجر الماء: انفتح. قال شيخنا علي بن عبيد الله: الفجر: ضوء النهار إذا انشق عنه الليل، وهو مأخوذ من الانفجار، يقال: انفجر النهر ينفجر انفجاراً: إذا انشق فيه موضع لخروج الماء: ومن هذا سمي الفاجر فاجراً، لأنه خرج عن طاعة الله. وللمفسرين في المراد بهذا الفجر ستة أقوال: أحدها: أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار، قاله عليّ رضي الله عنه. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو انفجار الصبح كل يوم، وبهذا قال عكرمة، وزيد بن أسلم، والقرظي. والثاني: صلاة الفجر، رواه عطية عن ابن عباس. والثالث: النهار كلُّه، فعبَّر عنه بالفجر، لأنه أوله، وروى هذا المعنى أبو نصر عن ابن عباس. والرابع: أنه فجر يوم النحر خاصة قاله مجاهد. والخامس: أنه فجر أول يوم من ذي الحجة، قاله الضحاك. والسادس: أنه أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة قاله قتادة. قوله عزّ وجلّ: وَلَيالٍ عَشْرٍ فيها أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه عشر ذي الحجة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي ومقاتل. والثاني: أنها العشر الأواخر من رمضان، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والثالث: العشر الأول من رمضان، قاله الضحاك. والرابع: العشر الأول من المحرم، قاله يمان بن رئاب.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 561: والصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه. ووافقه ابن كثير رحمه الله.

قوله عزّ وجلّ: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف «والوِتْر» بكسر الواو، وفتحها الباقون، هما لغتان، قال الفراء الكسر لقريش وتميم وأسد، والفتح لأهل الحجاز. وللمفسرين في «الشفع والوتر» عشرون قولا: (1529) أحدها: أن الشفع: يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر: ليلة النحر، رواه أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (1530) والثاني: أنّ الشّفع يوم النحر، والوتر: يوم عرفة. رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبه قال ابن عباس، عكرمة والضحاك. (1531) والثالث: أن الشفع والوتر: الصلاة، منها الشفع، ومنها الوتر، رواه عمران بن حصين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبه قال قتادة. والرابع: أن الشفع: الخلق كله، والوتر: الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية مسروق، وأبو صالح. والخامس: أن الوتر: آدم شفع بزوجته، رواه مجاهد عن ابن عباس. والسادس: أن الشفع يومان بعد يوم النحر، وهو النفر الأول، والوتر: اليوم الثالث، وهو النّفر الأخير، قاله عبد الله بن الزّبير، واستدلّ بقوله عزّ وجلّ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «1» . والسابع: أن الشفع: صلاة الغداة، والوتر: صلاة المغرب، حكاه عطية. والثامن: أن الشفع: الركعتان من صلاة المغرب، والوتر: الركعة الثالثة، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس. والتاسع: أن الشفع والوتر: الخلق كله، منه شفع، ومنه وتر، قاله ابن زيد ومجاهد في رواية. والعاشر: أنه العدد، منه شفع، ومنه وتر، وهذا والذي قبله مرويان عن الحسن. والحادي عشر: أن الشفع: عشر ذي الحجة، والوتر: أيام منى الثلاثة، قاله الضحاك. والثاني عشر: أنّ الشّفع: هو الله، لقوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ «2» والوتر: هو الله، لقوله عزّ وجلّ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قاله سفيان بن عيينة.

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبراني في «الكبير» 4073 من حديث أبي أيوب، وقال في «المجمع» 7/ 137 فيه واصل بن السائب وهو متروك. وانظر «تفسير القرطبي» 6322 بتخريجنا. أخرجه النسائي في «التفسير» 691 و 692 وأحمد 3/ 327 والطبري 37073 والحاكم 4/ 220 والبزار 2286 «كشف» من حديث جابر، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 137: رجال أحمد والبزار رجال الصحيح غير عياش بن عقبة، وهو ثقة اهـ. قلت: ومداره على أبي الزبير، وهو مدلس، وقد عنعن، فالإسناد ضعيف. وقال الحافظ ابن كثير 4/ 600 رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة، والله أعلم اه. وهو كما قال: فإن هناك روايات أخرى مرفوعة وموقوفة على خلاف ذلك، فلو صح مرفوعا لما اختلف الصحابة والتابعون في تفسير هذه الآيات، والله أعلم. ضعيف. أخرجه الترمذي 3342 وأحمد 4/ 437- 438 والطبري 37099 والحاكم 2/ 522 من حديث عمران بن حصين، وإسناده ضعيف فيه راو لم يسم، وضعفه الترمذي بقوله: غريب اه وقد سقط الراوي الذي لم يسم من إسناد الحاكم فجرى على ظاهره، وحكم بصحته! وسكت الذهبي! وهو من صنع أحد الرواة، ورجح ابن كثير رحمه الله 4/ 600 كونه مقوفا، وهو كما قال. والله أعلم.

والثالث عشر: أن الشفع: هو آدم وحواء. والوتر: الله تعالى، قاله مقاتل بن سليمان. والرابع عشر: أن الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة، قاله مقاتل بن حيان. والخامس عشر: الشفع: درجات الجنان، لأنها ثمان، والوتر: دَرَكات النار لأنها سبع، فكأنّ الله تعالى أقسم بالجنة والنار، قاله الحسين بن الفضل. والسادس عشر: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين بين عِزٍ وذُلٍّ، وقدرة وعجز، وقوة وضعف، وعلم وجهل، وموت وحياة. والوتر: انفراد صفات الله عزّ وجلّ، عِزٌّ بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بل جهل، وحياة بلا موت، قاله أبو بكر الورَّاق. والسابع عشر: أن الشفع: الصفا والمروة، والوتر: البيت. والثامن عشر: أن الشفع: مسجد مكة والمدينة، والوتر: بيت المقدس. والتاسع عشر: أنّ الشّفع: القران في الحج والتمتع، والوتر: الإفراد. والعشرون: الشفع: العبادات المتكررة كالصلاة، والصوم، والزكاة، والوتر: العبادة التي لا تتكرر، كالحجّ، حكى هذه الأقوال الأربعة الثّعلبيّ. قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قرأ ابن كثير، ويعقوب «يسري» بياءٍ في الوصل والوقف، وافقهما في الوصل نافع وأبو عمرو. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «يسر» بغير ياءٍ في الوصل والوقف. قال الفراء، والزجاج: الاختيار حذفها لمشاكلتها لرؤوس الآيات، ولاتِّباع المصحف. وفي قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قولان: أحدهما: أن الفعل له، فيه قولان: أحدهما: إذا يسري ذاهباً، قاله الجمهور، وهو اختيار الزجاج. والثاني: إذا يسري مقبلا، قاله قتادة. والقول الثاني: أن الفعل لغيره، والمعنى: إذا يسري فيه، كما يقال: ليل نائم، أي: ينام فيه، قاله الأخفش، وابن قتيبة. وفي المراد بهذا الليل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عام في كل ليلة، وهذا الظاهر. والثاني: أنه ليلة المزدلفة، وهي ليلة جَمْعٍ: قاله مجاهد وعكرمة. والثالث: ليلة القدر، حكاه الماورديّ. قوله عزّ وجلّ: هَلْ فِي ذلِكَ أي هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي: لذي عقل، وسمي العقل حجْراً، لأنه يحجر صاحبه عن القبيح، وسمي عقلا، لأنه يعقل عمّا لا يحسن، وسمي العقل النُّهى، لأنه ينهى عما لا يحل. ومعنى الكلام: أن من كان ذا لبٍّ عَلِم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء، فيه دلائل على توحيد الله وقدرته، فهو حقيق أن يقسم به لدلالته. وجواب القسم قوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فاعترض بين القسم، وجوابه قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ فخوَّف أهل مكة بإهلاك من كان أشدَّ منهم. وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر «بعادِ إِرمَ» بكسر الدال من غير تنوين على الإضافة. وفي إِرَمَ أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه اسم بلدة، قال الفرّاء. ولم

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 567: وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي: أنها اسم قبيلة من عاد، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها، وترك إجرائها. ولو كانت إرم اسم بلدة أو اسم جد لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها، كما يقال: هذا عمرو وزبيد وحاتم طيء، وأعشى همدان، ولكنها اسم قبيلة منها، فيما أرى. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602: ومن زعم أن المراد بقوله إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مدينة إما دمشق، أو الاسكندرية، أو غيرهما، ففيه نظر، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم، قال: وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عن هذه الآية من ذكر مدينة يقال لها: إرم ذات العماد، مبنية بلبن الذهب والفضة وقصورها ودورها وبساتينها، وأن حصباءها لآلئ وجواهر، وترابها بنادق المسك، وأنهارها سارحة، وثمارها ساقطة، ودورها لا أنين بها، وأنها تنقل، فتارة تكون في أرض الشام، وتارة باليمن، وتارة بغير ذلك من البلاد، فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم، ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك.

يُجْرَ «إرم» لأنها اسم بلدة ثم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها دمشق، قاله سعيد بن المسيب، وعكرمة، وخالد الرَّبَعِي. والثاني: الإسكندرية، قاله محمد بن كعب. والثالث: أنها مدينة صنعها شداد بن عاد، وهذا قول كعب. وسيأتي ذكره إن شاء الله. والقول الثاني: أنه اسم أمة من الأمم، ومعناه: القديمة، قاله مجاهد. والثالث: أنه قبيلة من قوم عاد، قاله قتادة ومقاتل. قال الزجاج: وإنما لم تنصرف «إرم» لأنها جعلت اسماً للقبيلة ففتحت، وهي في موضع خفض. والرابع: أنه اسم لجَدِّ عادٍ، لأنه عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح، قاله ابن اسحاق. قال الفراء: فإن كان اسماً لرجل على هذا القول، فإنما ترك إجراؤه، لأنه كالعجميّ، وقال أبو عبيدة: هما عادان، فالأولى: وهي إرم، وهي التي قال الله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى «1» وهل قوم هود عاد الأولى، أم لا؟ فيه قولان قد ذكرناهما في النجم «2» . وفي قوله عزّ وجلّ: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ أربعة أقوال «3» : أحدها: لأنهم كانوا أهل عمد وخيام يطلبون الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم، فلا يقيمون في موضع، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والفراء. والثاني: أن معنى ذات العماد: ذات الطول، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل، وأبو عبيدة. قال الزجاج: يقال: رجل مُعْمَدٌ: إذا كان طويلاً. والثالث: ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة، قاله الضحاك. والرابع: ذات البناء المحكم بالعماد، قاله ابن زيد. وقيل: إنما سميت ذات العماد لبناءٍ بناه بعضهم. قوله عزّ وجلّ: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران: «لم تَخْلُق» بتاءٍ مفتوحة ورفع اللام «مثلَها» بنصب اللام. وقرأ معاذ القارئ، وعمرو بن دينار: «لم نَخْلُق» بنون مفتوحة ورفع اللام «مثلَها» بنصب اللام. وفي المشار إليها قولان: أحدهما: لم يَخْلُق مثل تلك القبيلة في الطول والقوّة، وهذا معنى قول الحسن. والثاني: المدينة لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد، قاله عكرمة.

_ (1) النجم: 50. (2) النجم: 50. (3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 568: وأشبه الأقوال في ذلك بما دل عليه ظاهر التنزيل، قول من قال: عني بذلك أنهم كانوا أهل عمود سيارة، لأن المعروف من كلام العرب من العماد، ما عمد به الخيام من الخشب، والسواري التي يحمل عليها البناء ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح. وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه، وما وجد إلى ذلك سبيل، دون الأنكر، فقد وجه أهل التأويل قوله ذاتِ الْعِمادِ إلى أنه عني به طول أجسامهم. ولا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهه إليه. قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 601- 602: وقوله: ذاتِ الْعِمادِ لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد وقال مجاهد: كانوا أهل عمود لا يقيمون، وقال العوفي، عن ابن عباس: إنما قيل لهم ذاتِ الْعِمادِ لطولهم، واختار الأول ابن جرير رحمه الله، ورد الثاني فأصاب. [.....]

وقد جاء في التفسير صفات تلك المدينة. وهذه الإشارة إلى ذلك. (1532) روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قِلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو في صحارى عدن وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة. فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله، فلم ير خارجاً ولا داخلاً، فنزل عن دابته، وعقلها، وسلَّ سيفه، ودخل من باب الحصن، فلما دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما والبابان مُرصَّعان بالياقوت الأبيض والأحمر، فلما رأى ذلك دهش ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا قصور، كلّ قصر منها فيه غرف وفوق الغرف غرف مبنيَّة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت. ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع المدينة، يقابل بعضها بعضاً، مفروشة كلها باللؤلؤ، وبنادق من مسك وزعفران. فلما عاين ذلك، ولم ير أحداً، هَالَه ذلك، ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو في كل زقاق منها شجر قد أثمر، وتحت الشجر أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة. فقال الرجل: إن هذه هي الجنة، فحمل معه من لؤلؤها، ومن بنادق المسك والزعفران ورجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه. وبلغ الأمر إلى معاوية، فأرسل إليه. فقص عليه ما رأى، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال له: يا أبا إسحاق: هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال: نعم أخبرك بها وبمن بناها؟ إنما بناها شداد بن عاد، والمدينة: «إرم ذات العماد» ، قال: فحدثني حديثها، فقال: إن عادا المنسوب إليه عاد الأولى، كان له ولدان: شديد، وشداد. فلما مات ملكا بعده، ثم مات شديد وبقي شدّاد، فملك الأرض، ودانت له الملوك، وكان مولعاً بقراءة الكتب، فكان إذا مر بذكر الجنة دعته نفسه إلى بناء مثلها

_ قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 748: أخرجه الثعلبي من طريق عثمان الدارمي عن عبد الله بن أبي صالح عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قِلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فذكره مطوّلا. قال الحافظ: آثار الوضع لائحة عليه! وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602: وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة (إرم ذات العماد) هاهنا مطوّلة جدا، فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها، ولو صح إلى ذلك الإعرابي فقد يكون قد اختلق ذلك، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وليس كذلك، وهذا مما يقطع بعدم صحته، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطر الذهب والفضة، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ونحو ذلك من الهذيانات، ويطنزون بهم، والذي نجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية، وكنوزا كثيرة، من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله، فأما على الصفة التي زعموها، فكذب وافتراء وبهت، ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم، والله سبحانه الهادي للصواب. وقال الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» 4/ 530: وهذا كذب على كذب وافتراء، وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء، وفاقرة عظمى، ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترءون على الكذب، تارة على بني إسرائيل، وتارة على الأنبياء وتارة على الصالحين، وتارة على رب العالمين، وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها من موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة والأقاصيص المخولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه، فحرفوا وبدلوا وغيروا، وقال: ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتاب الذي سميته «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» . اه. قلت: هو كتاب مطبوع متداول، وعمدة هذا الكتاب «موضوعات ابن الجوزي» و «اللآلئ المصنوعة» للسيوطي.

عُتُوَّاً على الله تعالى فأمر بصنع «إرم ذات العماد» فأمَّر على عملها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدُّوه بما في بلادهم من الجواهر، فخرج القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا ما يوافقه حتى وقعوا على صحراء عظيمة نقية من التلال، وإذا هم بعيون مطّردة فقالوا: هذه صفة الأرض التي أمر الملك أن يبنى بها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا، واجعلوا عليها حصناً، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند كل قصر ألف علم يكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي، ففعلوا، فأمر الوزراء- وهم ألف وزير- أن يتهيؤوا للنقلة إلى «إرم ذات العماد» ، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها، فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه، وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً، ولم يَبْقَ منهم أحد. وروى الشعبي عن دَغْفَل الشيباني عن علماء حِمْيَر قالوا: لما هلك شدّاد بن عاد ومن معه من الصيحة، ملَكَ بعده ابنه مَرْثَد بن شَدَّاد، وقد كان أبوه خلَّفه بحضرموت على ملكه وسلطانه، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت، وأمر بدفنه فحفرت له حفيرة في مغارة، فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى عليه سبعين حُلَّةً منسوجة بقضبان الذهب، ووضع عند رأسه لوحاً عظيماً من ذهب وكتب عليه: اعتبر يا أيّها المغرور ... بالعمرِ المديدِ أنا شَدَّادُ بنُ عادٍ ... صاحبُ الحصن المشيد وأخو القوّة والبأساء ... والملك الحشيد دان أهل الأرض لي ... من خوف وعدي ووعيدي وملكت الشرق والغرب ... بسلطان شديد وبفضل الملك والعدّة ... فيه والعديدِ فأتى هود وكنَّا ... في ضلال قبل هود فدعانا لو قبلناه ... إلى الأمر الرشيدِ فعصيناه ونادى ... ما لكم هل من محيد فأتتنا صيحة تهوي ... من الأفق البعيدِ فتوافينا كزرعٍ ... وسط بيداء حصيد قوله عزّ وجلّ: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ أي قطعوه ونقبوه. قال ابن إسحاق: والوادي: وادي القرى. وقرأ الحسن: «بالوادي» بإثبات الياء في الحالين وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ مفسر في سورة ص «1» الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ يعني: عاداً، وثمود، وفرعون، عملوا بالمعاصي، وتجبَّروا على أنبياء الله فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ القتل والمعاصي فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ قال ابن قتيبة: وإنما قال: سوط عذاب، لأن التعذيب قد يكون بالسوط، وقال الزجاج: أي جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب.

_ (1) ص: 12.

[سورة الفجر (89) : الآيات 15 إلى 30]

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي: يرصد مَنْ كفر به بالعذاب، والمرصد: الطريق، وقد شرحناه في قوله عزّ وجلّ: كانَتْ مِرْصاداً «1» . [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ فيمن عنى به أربعة أقوال: أحدها: عتبة بن ربيعة، وأبو حذيفة بن المغيرة، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أُبَيّ بن خلف، قاله ابن السائب. والثالث: أُمية بن خلف، قاله مقاتل. والرابع: أنه الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، قال الزجاج: وابتلاه بمعنى اختبره بالغنى واليسر فَأَكْرَمَهُ بالمال وَنَعَّمَهُ بما وسَّع عليه من الإفضال فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ فتح ياء «ربيَ» «أكرمنيَ» «ربيَ» أهاننيَ» أهل الحجاز، وأبو عمرو، أي: فضلني بما أعطاني، ويظنّ إنما، أعطاه من الدنيا لكرامته عليه وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ بالفقر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر «فقدَّر» بتشديد الدال، والمعنى: ضيَّق عليه بأن جعله على مقدار البلغة فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أي هذا الهوان منه لي حين أذلَّني بالفقر. واعلم أن من لا يؤمن بالبعث، فالكرامة عنده زيادة الدنيا، والهوان قِلَّتُها. قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: ليس الأمر كما ظنّ. قال مقاتل: ما أعطيت من أغنيت هذا الغنى لكرامته عليَّ، ولا أفقرت مَنْ أفقرت لهوانه عليَّ. وقال الفراء: المعنى: لم يكن ينبغي له أن يكون هكذا، إنما ينبغي أن يحمد الله على الأمرين: الفقر، والغنى. ثم أخبر عن الكفّار فقال عزّ وجلّ: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ قرأ أهل البصرة «يُكرِمون» و «يَحُضُّون» و «يَأْكُلون» و «يُحِبُّون» بالياء فيهن، والباقون بالتاء. ومعنى الآية: إني أهنت من أهنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم. والآية تحتمل معنيين: أحدهما: أنهم كانوا لا يَبَرُّونه. والثاني: لا يعطونه حَقَّه من الميراثِ، وكذلك كانت عادة الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبيان. ويدل على المعنى الأول قوله عزّ وجلّ: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وقرأ أبو جعفر، وأهل الكوفة «تحاضون» بألف مع فتح التاء. وروى الشّيزري عن الكسائي كذلك إلا أنه ضم التاء. والمعنى: لا يأمروه بإطعامه لأنهم لا يرجون ثواب الآخرة. ويدل على المعنى قوله عزّ وجلّ: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا قال ابن قتيبة: التراث: الميراث، والتاء فيه منقلبة عن واوٍ، كما قالوا: تُجاه، والأصل: وُجاه، وقالوا: تُخمَة، والأصل: وخمة. ولَمًّا أي: شديداً، وهو من قولك: لممْتُ بالشيء: إذا جمعتَه، وقال الزجاج: هو ميراث اليتامى.

_ (1) النبأ: 21.

قوله عزّ وجلّ: وَتُحِبُّونَ الْمالَ أي: تحبون جمعه حُبًّا جَمًّا أي: كثيراً فلا تنفقونه في خير كَلَّا أي: ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم، فقال عزّ من قائل: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي: مرَّة بعد مرّة، فتكسّر كلّ شيء عليها. قوله: وَجاءَ رَبُّكَ قد ذكرنا هذا المعنى في قوله عزّ وجلّ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ «1» . قوله عزّ وجلّ: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا أي: تأتي ملائكة كل سماء صفا على حدة، قال الضحاك: يكونون سبعة صفوف، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ. (1533) روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرَّونها» . قال مقاتل: يجاء بها فتقام عن يسار العرش. قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ أي: يوم يجاء بجهنم يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي: يتّعظ الكافر ويتوب. وقال مقاتل: هو أمية بن خلف وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي: كيف له بالتوبة وهي في القيامة لا تنفع يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ العمل الصالح في الدنيا لِحَياتِي في الآخرة التي لا موت فيها فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ قرأ الكسائي، ويعقوب، والمفضل «لا يعذّب» و «لا يوثق» بفتح الذال والثاء، والباقون بكسرها، فمن فتح، أراد: لا يعذب عذاب الكافر أحد، ومن كسر أراد: لا يعذَّب عذاب الله أحد، أي كعذابه، وهذه القراءة تختص بالدنيا، والأولى تختص بالآخرة. قوله عزّ وجلّ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «2» : أحدها: في حمزة بن عبد المطلب لما استشهد يوم أُحد، قاله أبو هريرة، وبريدة الأسلمي. والثاني: في عثمان بن عفان حين أوقف بئر رومة، قاله الضحاك. والثالث: في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة، قاله مقاتل. والرابع: في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، حكاه الماوردي. والخامس: في جميع المؤمنين، قاله عكرمة. وفي معنى الْمُطْمَئِنَّةُ ثلاثة أقوال: أحدها: المؤمنة، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: المطمئنة بالإيمان. والثاني: الراضية بقضاء الله، قاله مجاهد. والثالث: الموقنة بما وعد الله، قاله قتادة. واختلفوا في أي حين يقال لها ذلك على قولين: أحدهما: عند خروجها من الدنيا، قاله الأكثرون. والثاني: عند البعث يقال لها: ارجعي إلى صاحبك، وإلى جسدك، فيأمر الله الأرواح أن تعود إلى الأجساد، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة والضّحّاك. وفي قوله عزّ وجلّ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً أربعة أقوال: أحدها: ارجعي إلى صاحبك الذي كنتِ في جسده، وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال عكرمة والضّحّاك. والثاني:

_ صحيح. أخرجه مسلم 4/ 2184، والترمذي 2573 من حديث ابن مسعود. وانظر «فتح القدير» 2713.

ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ بعد الموت في الدنيا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: ارجعي إلى ثواب ربك، قاله الحسن. والرابع: يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا ارجعي إلى الله تعالى بتركها، حكاه الماوردي. قوله عزّ وجلّ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي: في جملة عبادي المصطَفَيْن. قال أبو صالح: يقال لها عند الموت: ارجعي إلى ربك، فإذا كان يوم القيامة قيل لها: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وقال الفراء: ادخلي مع عبادي. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأُبيّ بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران «في عبدي» على التوحيد. قال الزجاج: فعلى هذه القراءة- والله أعلم- يكون المعنى: ارجعي إلي ربك، أي: إلى صاحبك الذي خرجتِ منه، فادخلي فيه.

سورة البلد

سورة البلد وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) قوله عزّ وجلّ: لا أُقْسِمُ قال الزجاج: المعنى: أقسم. و «لا» دخلت توكيدا، كقوله عزّ وجلّ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» وقرأ عكرمة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو العالية: «لأُقْسِمُ» قال الزجاج: وهذه القراءة بعيدة في العربية، وقد شرحنا هذا في أول القيامة «2» . قوله عزّ وجلّ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ فيه ثلاثة أقوال: و (البلد) هاهنا: مكة «3» . أحدها: حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتل وغيره، قاله ابن عباس، ومجاهد. قال الزجاج: يقال: رجل حِلٌّ، وحَلاَل، ومُحِلٌّ، قال المفسرون: والمعنى: إن الله تعالى وعد نبيَّه أن يفتح مكة على يديه بأن يُحلَّها له، فيكون فيها حلّا. والثاني: وأنت مُحِلٌّ بهذا البلد غير مُحْرم في دخوله، يعني: عام الفتح، حلالا، قاله الحسن، وعطاء. والثالث: وأنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلون إخراجك وقتلك، ويحرِّمون قتل الصيد، حكاه الثّعلبي. قوله عزّ وجلّ: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه آدم. وما ولد، قاله الحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة والثاني: إنّ الوالد إبراهيم، وما ولد: ذريته «4» ، قاله أبو عمران الجونيّ.

_ (1) الحديد: 29. (2) القيامة: 1. (3) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 20/ 54: والْبَلَدِ هي مكة، أجمعوا عليه، أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه لكرامتك عليّ وحبي لك. (4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 587: والصواب من القول في ذلك، ما قاله الذين قالوا: إن الله أقسم بكل والد وولده. لأنّ الله عمّ كل والد وما ولد. وغير جائز أن يخصّ ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر، أو عقل. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 607: وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة والضحاك وسفيان الثوري، وسعيد بن جبير، والسدي، والحسن البصري، وخصيف، وشرحبيل بن سعيد وغيرهم: يعني بالوالد: آدم، وما ولد: ولده، قال: وهذا الذي ذهب إليه مجاهد حسن قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن وهو آدم أبو البشر وولده.

والثالث: أنه عامٌّ في كل والدٍ وما ولد، حكاه الزّجّاج. قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ هذا جواب القسم. وفيمن عنى بالإنسان خمسة أقوال: أحدها: أنه اسم جنس، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني: أنه أبو الأشد الجمحي، وقد سبق ذكره، قاله الحسن. (1534) والثالث: أنه الحارث بن عامر بن نوفل، وذلك أنه أذنب ذنباً، فأمره النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالكفارة، فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات، والنفقات منذ دخلت في دين محمد، قاله مقاتل. والرابع: آدم عليه السلام، قاله ابن زيد. والخامس: الوليد بن المغيرة، حكاه الثعلبي. قوله عزّ وجلّ: فِي كَبَدٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: في نَصَبٍ، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو عبيدة، وأنهم قالوا: في شدة. قال الحسن: يكابد الشكر على السّرّاء والصبر على الضّرّاء، ولا يخلو من أحدهما، ويكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة. وقال ابن قتيبة: في شدة غلبةٍ ومكابدةٍ لأمور الدنيا والآخرة، فعلى هذا يكون من مكابدة الأمر، وهي معاناته. والثاني: أن المعنى: خلق منتصباً يمشي على رجلين، وسائر الحيوان غير منتصب، رواه مقسم عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والضحاك، وعطية، والفراء، فعلى هذا يكون معنى الكبد: الاستواء والاستقامة. والثالث: في وسط السماء، قال ابن زيد «1» : (لقد خلقنا الإنسان) يعني: آدم (في كبد) أي: في وسط السماء. قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يعني الله عزّ وجلّ أي: أيحسب أن لن نقدر على بعثه، ومعاقبته؟! يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالا لُبَداً أي: كثيراً، قال أبو عبيدة: هو فعل من التلبُّد، وهو المال الكثير بعضه على بعض، قال ابن قتيبة: وهو المال كأنَّ بعضَه على بعض. قال الزجاج: وهو فعل للكثرة، كما يقال: رجل حُطَم: إذا كان كثير الحطم. وقرأ أبو بكر الصديق، وعائشة، وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وأبو العالية، وأبو جعفر «لُبَّدا» بضم اللام، وتشديد الباء مفتوحة. وقرأ عمر بن الخطّاب، وأبو المتوكّل، وأبو عمران «لبدا» برفع اللام وتسكين الباء خفيفة. وقرأ عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد «لُبُداً» برفع اللام والباء وتخفيفهما. وقرأ عليّ بن أبي طالب وأبو الجوزاء «لِبَدَاً» بكسر اللام، وفتح الباء مخففة. وفيما قال لأجل ذلك قولان: أحدهما: أنه أراد: أهلكت مالاً كثيرا في عداوة محمّد صلّى الله عليه وسلم قاله ابن السائب، فكأنه استطال بما أنفق. والثاني: أنفقت في سبيل الله وفي الكفارات مالاً كثيراً، قاله مقاتل. فكأنه ندم على ما أنفق. قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني اللهَ عزّ وجلّ. والمعنى: أيظن أن الله لم ير نفقته، ولم يحصها؟! وكان قد ادّعى إنفاق ما لم ينفق.

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط، كذبه غير واحد، فهذا خبر لا شيء.

[سورة البلد (90) : الآيات 11 إلى 20]

قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ المعنى: ألم نجعل به ما يدل على أن الله قادر على بعثه؟! قوله عزّ وجلّ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: سبيل الخير والشر، قاله علي، والحسن، والفراء. وقال ابن قتيبة: يريد طريق الخير والشر. وقال الزّجّاج: النّجدين: الطريقين الواضحين والنجد: المرتفع من الأرض، فالمعنى: ألم نُعرِّفه طريق الخير والشر كَتَبَيُّن الطريقين العاليين. والثاني: سبيل الهدى والضلال، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: هو سبيل الشّقاوة والسّعادة. والثالث: الثّديين ليتغذى بلبنهما، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال ابن المسيّب، والضّحّاك، وقتادة. [سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20] فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) قوله عزّ وجلّ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قال أبو عبيدة: فلم يقتحم العقبة في الدنيا. وقال ابن قتيبة: فلا هو اقتحم العقبة. قال الفراء: لم يضم إلى قوله عزّ وجلّ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ كلاماً آخر فيه «لا» ، والعرب لا تكاد تفرد «لا» في كلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر، كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. ومعنى: «لا» موجود في آخر هذا الكلام، فاكتفى بواحدة من الأخرى، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة، فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فسّرها بثلاثة أشياء. فكأنّه قال في أول الكلام: فلا فعل ذا، ولا ذا ولا ذا. وذهب ابن زيد في آخرين إلى أن المعنى: أفلا اقتحم العقبة؟ على وجه الاستفهام، والمعنى: فهلاَّ أنفق ماله في فَكِّ الرِّقاب والإطعام ليجاوز بذلك العقبة؟! فأما: الاقتحام فقد بَيَّناه في (ص) «1» . وفي العقبة سبعة أقوال: أحدها: أنه جبل في جهنم، قاله ابن عمر. والثاني: عقبة دون الجسر، قاله الحسن. والثالث: سبعون دركة في جهنم، قاله كعب. والرابع: الصراط، قاله مجاهد، والضّحّاك والكلبي. والخامس: نار دون الجسر، قاله قتادة. والسادس: طريق النجاة، قاله ابن زيد. والسابع: أن ذكر العقبة هاهنا مَثَلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البِرِّ، فجعله كالذي يتكلَّف صعود العقبة. يقول: لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة، والإطعام، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في آخرين. قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ قال سفيان بن عيينة: كلُّ ما فيه «وما أدراك» ، فقد أخبره به، وكلُّ ما فيه «وما يدريك» فإنه لم يخبره به. قال المفسرون: المعنى: وما أدراك ما اقتحام العقبة؟. ثم بيَّنه فقال عزّ وجلّ: فَكُّ رَقَبَةٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، إلا عبد الوارث، والكسائي، والداجوني عن ابن ذكوان «فَكَّ» بفتح الكاف «رَقَبَةَ» بالنصب «أو أطعم» بفتح الهمزة والميم وسكون الطاء من غير ألف، فعل ماض. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة «فكّ» برفع الكاف «رقبة» بالخفض «أو إطعام» بألف، ومعنى فك الرقبة: تخليصها من أسر الرق، وكل شيء أطلقته فقد فكَكْتَه ومن قرأ «فكّ رقبة»

_ (1) ص: 59.

على الفعل، فهو تفسير اقتحام العقبة بالفعل، واختاره الفرّاء، لقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا قال ابن قتيبة: والمسغبة: المجاعة. يقال: سَغِبَ يَسْغَبُ سُغُوباً: إذا جاع يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي ذا قرابة «1» أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي: ذا فقر كأنه لَصِق بالتراب. وقال ابن عباس: هو المطروح في التراب لا يقيه شيء. ثم بين أن هذه القُرَبَ إنما تنفع مع الإيمان بقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا و «ثم» هاهنا بمعنى الواو، كقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ «2» . قوله عزّ وجلّ: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ على فرائض الله وأمره وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي بالتّراحم بينهما. وقد ذكرنا أصحاب الميمنة والمشأمة في الواقعة «3» قال الفراء: و «المؤصدة» : المطبقة. قال مقاتل: يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد. وقال ابن قتيبة: يقال: أَوْصَدْتُ الباب وآصدته: إذا أطبقته. وقال الزّجّاج: المعنى: أنّ العذاب مطبق عليهم. قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي وأبو بكر عن عاصم «موصدة» بغير همزة هاهنا وفي «الهمزة» «4» . وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وحفص عن عاصم بالهمز في الموضعين.

_ (1) قال ابن العربي في «الأحكام» 4/ 402: قوله تعالى: ذا مَقْرَبَةٍ يفيد أن الصدقة على القريب أفضل منها على البعيد، ولذلك بدأ به قبل المسكين، وذلك عند مالك بالنفل. والمتربة: الفقر البالغ الذي لا يجد صاحبه طعاما إلا التراب، ولا فراشا سواه. والله أعلم. (2) يونس: 46. (3) الواقعة: 7، 8. (4) الهمزة: 8. [.....]

سورة الشمس

سورة الشمس وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) قوله عزّ وجلّ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) في المراد «بضحاها» ثلاثة أقوال: أحدها: ضوؤها، قاله مجاهد، والزجاج. والضحى: حين يصفو ضَوْءُ الشمس بعد طلوعها. والثاني: النهار كلُّه، قاله قتادة، وابن قتيبة. والثالث: حَرُّها، قاله السّدّيّ، ومقاتل قوله: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها فيه قولان: أحدهما: إذا تَبِعهَا، قاله ابن عباس في آخرين. ثم في وقت اتّباعه لها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه في أول ليلة من الشهر يرى القمر إذا سقطت الشمس، قاله قتادة. والثاني: أنه في الخامس عشر يطلع القمر مع غروب الشمس، حكاه الماوردي. والثالث: أنه في النّصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخَلَفها في النور، حكاه علي بن أحمد النيسابوري. والقول الثاني: إذا ساواها، قاله مجاهد. وقال غيره: إذا استدار، فتلا الشمس في الضياء والنور، وذلك في الليالي البيض. قوله عزّ وجلّ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها في المكنى عنها قولان: أحدهما: أنها الشمس، قاله مجاهد، فيكون المعنى: والنهار، إذا بَيَّن الشمس، لأنها تتبيَّن إذا انبسط النهار. والثاني: أنها الظّلمة فتكون كناية عن غير مذكور، لأن المعنى معروف، كما تقول: أصبحت باردة، وهبت شمالاً، وهذا قول الفرّاء، واللغويين قوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي: يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق. وَالسَّماءِ وَما بَناها في «ما» قولان: أحدهما: بمعنى «مَن» تقديره «ومن بناها» ، قاله الحسن، ومجاهد، وأبو عبيدة. وبعضهم يجعلها بمعنى الذي. والثاني: أنها بمعنى المصدر، تقديره: وبناها، وهذا مذهب قتادة، والزجاج. وكذلك القول في «وما طحاها» «وما سَّواها» وقد قرأ أبو عمران الجوني في آخرين «ومن بناها» ومن طحاها» «ومن سوَّاها» كله بالنون. قال أبو عبيدة: ومعنى «طحاها» بسطها يميناً وشمالاً، ومن كلّ

[سورة الشمس (91) : الآيات 11 إلى 15]

جانب، قال ابن قتيبة: يقال: خَيْرٌ طَاحٍ، أي: كثير متّسع. وفي المراد «بالنّفس» هاهنا قولان: أحدهما: آدم، قاله الحسن. والثاني: جميع النفوس، قاله عطاء. وقد ذكرنا معنى «سوَّاها» في قوله عزّ وجلّ: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. قوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها الإلهام: إيقاع الشيء في النفس. قال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها، وقال ابن زيد: جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور. قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها قال الزجاج: هذا جواب القسم. والمعنى: لقد أفلح، ولكن اللام حذفت لأن الكلام طال، فصار طوله عوضاً منها. وقال ابن الأنباري: جوابه محذوف. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: قد أفلحت نفس زكاها الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، ومقاتل والفراء، والزجاج. والثاني: قد أفلح من زكّى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال، قاله قتادة، وابن قتيبة. ومعنى زَكَّاها: أصلحها وطهّرها من الذنوب. قوله: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها فيه قولان: كالذي قبله. فإن قلنا: إن الفعل لله، فمعنى «دساها» : خذلها، وأخملها، وأخفى محلها بالكفر والمعصية، ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح. وإن قلنا: الفعل للإنسان، فمعنى «دساها» : أخفاها بالفجور. قال الفراء: ويروى أن «دَسَّاها» دَسَّسَهَا لأن البخيل يخفي منزله وماله. وقال ابن قتيبة: والمعنى: دسى نفسه، أي: أخفاها بالفجور والمعصية. والأصل من دَسَّسَتُ، فقلبت السين ياءً، كما قالوا: قصَّيت أظفاري، أي: قصصتها. فكأن النَّطِفَ بارتكاب الفواحش دس نفسه، وقمعها، ومُصْطَنِعُ المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الرُّبا للشهرة. واللئام تنزل الأطراف لتخفي أماكنها. وقال الزّجّاج: معنى «دسّاها» جعلها قليلة خسيسة. [سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) قوله عزّ وجلّ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها أي: كذبت رسولها بطغيانها. والمعنى: أن الطغيان حملهم على التكذيب. قال الفراء: أراد بطغواها: طغيانها، وهما مصدران، إلا أنّ الطّغوى أشكل برءوس الآيات، فاختير لذلك. وقيل: كذبوا العذاب إِذِ انْبَعَثَ أي: انْتَدَبَ أَشْقاها وهو: عاقر الناقة يعقرها فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ وهو صالح ناقَةَ اللَّهِ قال الفراء: نصب الناقة على التحذير، وكلّ تحذير فهو نصب. وقال ابن قتيبة: احذروا ناقة الله وشربها. وقال الزجاج: المعنى: ذروا «ناقة الله» وذروا «سقياها» قال المفسرون: سقياها: شربها من الماء. والمعنى: لا تتعرَّضوا ليوم شربها فَكَذَّبُوهُ في تحذيره إياهم العذاب بعقرها فَعَقَرُوها وقد بيَّنا معنى «العقر» في الأعراف «1» فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ قال الزجاج: أي: أطبق عليهم العذاب. يقال: دمدمت على الشيء: إذا أطبقت فكرَّرت الإطباق. وقال المؤرّج: الدّمدمة: إهلاك باستئصال.

_ (1) الأعراف: 77.

وفي قوله عزّ وجلّ: فَسَوَّاها قولان: أحدهما: سوَّى بينهم في الإهلاك، قاله السدي، ويحيى بن سلام. وقيل: سوَّى الدمدمة عليهم. والمعنى: أنه أهلك صغيرهم، وكبيرهم. والثاني: سوَّى الأرض عليهم. قال مقاتل: سوَّى بيوتهم على قبورهم. وكانوا قد حفروا قبوراً فاضطجعوا فيها، فلما صِيْحَ بهم فهلكوا زُلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم. قوله عزّ وجلّ: وَلا يَخافُ عُقْباها قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر «فلا» بالفاء، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام. وقرأ الباقون بالواو، وكذلك هي في مصاحف مكة، والكوفة، والبصرة. وفي المشار إِليه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه الله عزّ وجلّ، فالمعنى: لا يخاف الله من أحد تَبِعَةً في إهلاكهم، ولا يخشى عقبى ما صنع، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنه الذي عقرها، فالمعنى: أنه لم يخف عقبَى ما صنع، وهذا مذهب الضحاك والسدي، وابن السائب. فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: إذ انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها. والثالث: أنه نبي الله صالح لم يخف عقباها، حكاه الزّجّاج.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 615: قال ابن عباس: لا يخاف الله من أحد تبعة، وهذا القول أولى لدلالة السياق عليه، والله أعلم.

سورة الليل

سورة الليل وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قال ابن عباس: يغشى بظلمته النهار. وقال الزجاج: يغشى الأفق، ويغشى جميع ما بين السماء والأرض قوله: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي: بان وظهر من بين الظلمة، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) في «ما» قولان. وقد ذكرناهما عند قوله عزّ وجلّ: وَما بَناها «1» . وفي «الذكر والأنثى» قولان: أحدهما: آدم وحواء، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: أنه عام، ذكره الماوردي. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا جواب القسم. قال ابن عباس: إن أعمالكم لمختلفة، عمل للجنة، وعمل للنار. وقال الزجاج: سعي المؤمن والكافر مختلف، بينهما بُعْدٌ. وفي سبب نزول هذه السورة قولان: (1535) أحدهما: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالا من أميّة بن خلف وأبيّ بن خلف بِبُرْدةٍ وعشرة أواق، فأعتقه، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى يعني: سعي أبي بكر، وأُميَّة وأُبَيٍّ، قاله عبد الله بن مسعود. (1536) والثاني: أن رجلاً كانت له نخلةٌ فرعُها في دار رجلٍ فقيرٍ ذي عيال، وكان الرجل إذا

_ أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 853 عن عبد الله بن مسعود به، وإسناده ضعيف، فيه انقطاع بين أبي إسحاق السبيعي وابن مسعود. واه. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية والواحدي في «أسباب النزول» 852 وفي «الوسيط» 4/ 502 من طريق حفص عن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس مطوّلا. ولم يذكر اسم «أبو الدحداح» . وإسناده واه لأجل حفص بن عمر بن ميمون، ضعفه الحافظ في «التقريب» وأخرجه ابن-

صَعِدَ النخلة ليأخذ منها الثمر، فربما سقطت الثمرة، فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ الثمرة من أيديهم، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل أصبعه حتى يخرجها، فشكا ذلك الرجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فلقي النبيّ صلّى الله عليه وسلم صاحب النّخلة، فقال: «تعطيني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟» فقال الرجل: إن لي نخلاً وما فيه نخلة أعجب إليَّ منها، ثم ذهب الرجل، فقال رجل ممن سمع ذلك الكلام: يا رسول الله أتعطيني نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال: نعم، فذهب الرجل، فلقي صاحب النخلة، فساومها منه، فقال له: أَمَا شَعَرْتَ أن محمداً أعطاني بها نخلة في الجنة؟ فقلتُ: ما لي نخلة أعجب إليَّ منها، فقال له: أتريد بيعها؟ قال: لا، إلا أن أُعطى بها ما لا أظنني أعطى، قال: ما مناك؟ قال: أربعون نخلة، فقال: أنا أعطيك أربعين نخلة، وأشهد له ناساً، ثم ذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: إن النخلة قد صارت في ملكي، وهي لك، فذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى صاحب الدار، فقال: النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عطاء: الذي اشتراها من الرجل أبو الدحداح، أخذها بحائط له، فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أبو الدحداح، وصاحب النخلة. قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى قال ابن مسعود: يعني: أبا بكر الصّدّيق وهذا قول الجمهور. وقال عطاء: هو أبو الدحداح. وفي المراد بهذا العطاء ثلاثة أقوال: أحدها: أعطى من فضل ماله، قاله ابن عباس. والثاني: أعطى الله الصّدق من قلبه، قاله الحسن. والثالث: أعطى حق الله عليه، قاله قتادة. وفي قوله عزّ وجلّ: وَاتَّقى ثلاثة أقوال: أحدها: اتقى الله، قاله ابن عباس. والثاني: اتقى البُخْل، قاله مجاهد. والثالث: اتقى محارم الله التي نهى عنها، قاله قتادة. وفي «الحسنى» ستة أقوال: أحدها: أنه «لا إِله إِلا الله» ، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثاني: الخَلَف، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثالث: الجنة، قاله مجاهد. والرابع: نِعَم الله عليه، قاله عطاء. والخامس: بوعد الله أن يثيبه، قاله قتادة، ومقاتل. والسادس: الصلاة، والزكاة، والصوم، قاله زيد بن أسلم. قوله عزّ وجلّ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ضم أبو جعفر سين «اليسرى» وسين «العسرى» وفيه قولان: أحدهما: للخير، قاله ابن عباس. والمعنى: نُيَسِّر ذلك عليه. والثاني: للجنّة، قاله زيد بن أسلم. قوله وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ قال ابن مسعود: يعني بذلك أُميَّة وأُبي ابنَيْ خلف. وقال عطاء: هو صاحب النّخلة.

_ حبان. والجمهور على أنها نزلت في أبي بكر والله أعلم. ثم إن السورة مكية، وذاك أنصاري؟! وورد بمعناه دون ذكر نزول الآية من حديث جابر. أخرجه أحمد 3/ 328 وقال الهيثمي في «المجمع» 3/ 127: رواه أحمد والبزار، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه كلام وقد وثق. - قلت: ضعفه غير واحد لسوء حفظه، وهو غير حجة. ورواية عطاء: وفيها اسم الرجل أبو الدحداح، هي من رواية علي بن حجر عن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء مرسلا، ومعلقا، فهو لا شيء.

[سورة الليل (92) : الآيات 12 إلى 21]

قال المفسرون: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بالنفقة في الخير والصّدقة. وقال قتادة: بحقّ الله عزّ وجلّ، قوله: وَاسْتَغْنى أي عن ثواب الله فلم يرغب فيه وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى وقد سبقت الأقوال فيها. وفي «العسرى» قولان: أحدهما: النار، قاله ابن مسعود. والثاني: الشر، قاله ابن عباس. والمعنى: سنهيؤه للشر فيؤدِّيه إلى الأمر العسير، وهو عذاب النار. ثم ذكر أن ما أمسكه من ماله لا ينفعه، فقال عزّ وجلّ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ الذي يبخل به عن الخير إِذا تَرَدَّى وفيه قولان: أحدهما: إذا تردَّى في جهنم، قاله ابن عباس، وقتادة. والمعنى: إذا سقط فيها. والثاني: إذا مات فتردَّى في قبره، قاله مجاهد. [سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) قوله عزّ وجلّ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى قال الزجاج: المعنى: إن علينا أن نبيِّن طريق الهدى من طريق الضّلال. قوله: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي: فليطلبا منا فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى أي: تتوقّد وتتوهَّج لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى يعني: المشرك الَّذِي كَذَّبَ الرسول وَتَوَلَّى عن الإيمان. قال أبو عبيدة: والْأَشْقَى بمعنى الشقيّ. والعرب تضع «أَفْعَلَ» في موضع «فاعل» . قال طرفة: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد قال الزّجّاج: وهذه الآية هي التي من أجلها زعم أهل الإرجاء أنه لا يدخل النار إلّا كافر، وليس كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها، ولأهل النار منازل. فلو كان من لا يشرك لا يعذَّب لم يكن في قوله عزّ وجلّ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» فائدة. وكان «ويغفر ما دون ذلك» كلاماً لا معنى له. قوله عزّ وجلّ: وَسَيُجَنَّبُهَا أي: يُبْعَدُ عنها، فيجعل منها على جانب الْأَتْقَى يعني: أبا بكر الصديق في قول جميع المفسرين، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي: يطلب أن يكون عند الله زاكيا، ولا يطلب الرياء، ولا السمعة وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي: لم يفعل ذلك مجازاة ليد أُسْدِيَتْ إليه.

_ وروى عطاء عن ابن عباس أن أبا بكر لما اشترى بلالاً بعد أن كان يعذَّب قال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك إلا ليدٍ كانت لبلال عنده، فأنزل الله تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي: إلا طلباً لثواب ربه. قال الفراء: و «إلا» بمعنى «لكن» ونصب «ابتغاءَ» على إضمار إنفاقه. فالمعنى: وما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه. قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يَرْضى أي: بما يعطى في الجنّة من الثّواب. ذكره الواحدي 857 عن عطاء عن ابن عباس بدون إسناد.

سورة الضحى

سورة الضّحى وهي مكّيّة بإجماعهم اتّفق المفسّرون: على أنّ هذه السورة نزلت بعد انقطاع الوحي مدّة. ثم اختلفوا في سبب انقطاعه على ثلاثة أقوال: (1538) أحدها: أنّ اليهود سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، وعن الرّوح، فقال: سأخبركم غدا، ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي. والثاني: لقلّة النّظافة في بعض أصحابه. وقد ذكرنا هذين القولين في سورة مريم «1» . والثالث: لأجل جرو كان في بيته، قاله زيد بن أسلم «2» . وفي مدّة احتباسه عنه أقوال قد ذكرناها في مريم «3» . (1539) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جندب قال: قالت امرأة من قريش

_ تقدم في سورة الكهف، وأنكر الحافظ في «الفتح» 8/ 710 كون نزول الضحى، كان بسبب سؤالهم عن ذي القرنين، وقال ما معناه: الزمن بين نزول السورة، وسؤالهم إياه غير متحد، ويجوز أن يكون قريبا. صحيح. أخرجه البخاري 4950 والبغوي في «التفسير» 2349 بترقيمنا عن أحمد بن يونس به. من حديث جندي. وأخرجه البخاري 1125 و 1124 و 4983 والترمذي 3345 والطبري 37504 وابن حبان 6566 والطبراني 1709 والبيهقي 3/ 14 وفي «الدلائل» 7/ 58 والواحدي في «الوسيط» 4/ 507 وفي «أسباب النزول» 858 من طرق عن سفيان عن الأسود بن قيس به. وأخرجه البخاري 4951 ومسلم 1797 ح 115-

[سورة الضحى (93) : الآيات 1 إلى 11]

للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: ما أرى شيطانك إلّا قد ودعك، فنزلت وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، جندب: هو ابن سفيان، والمرأة: يقال لها: أمّ جميل امرأة أبي لهب. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) وفي المراد «بالضحى» أربعة أقوال: أحدها: ضوء النهار، قاله مجاهد. والثاني: صدر النهار، قاله قتادة. والثالث: أول ساعة من النهار إذا ترحّلت الشمس، قاله السدي، ومقاتل. والرابع: النهار كلُّه، قاله الفراء. وفي معنى «سجى» خمسة أقوال «1» : أحدها: أظلم. والثاني: ذهب، رويا عن ابن عباس. والثالث: أقبل، قاله سعيد بن جبير. والرابع: سكن، قاله عطاء، وعكرمة، وابن زيد. فعلى هذا: في معنى «سكن» قولان: أحدهما: استقرّ ظلامه، قال الفرّاء: «سجى» يعني أظلم وركد في طوله. كما يقال: بَحْرٌ سَاجٍ، ولَيْل سَاجٍ: إذا ركد وأظلم. ومعنى: ركد: سكن. قال أبو عبيدة، يقال: ليلة ساجية، وساكنة، وشاكرة. قال الحادي: يَا حَبَّذا القَمْرَاءُ والليلُ الساجْ ... وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّساجْ قال ابن قتيبة: «سجى» بمعنى سكن، وذلك عند تناهي ظلامه وركوده. والثاني: سكن الخلق فيه، ذكره الماوردي. والخامس: امتد ظلامه، قاله ابن الأعرابي. قوله عزّ وجلّ: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وقرأ عمر بن الخطاب، وأنس، وعروة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حاتم عن يعقوب «مَا وَدَعَكَ» بتخفيف الدال. وهذا جواب القسم. قال أبو عبيدة: «ما وَدَّعك» من التوديع كما يودع المفارق، و «مَا وَدَعَكَ» مخففة من ودعه يدعه وَما قَلى أي: أبغض. قوله عزّ وجلّ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى قال عطاء، أي خير لك من الدنيا. وقال غيره: الذي لك في الآخرة أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا. قوله عزّ وجلّ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ في الآخرة من الخير فَتَرْضى بما تعطى. قال عليّ

_ والطبري 37505 والطبراني 1710 و 1711 وأحمد 4/ 312 والبيهقي 3/ 14 من طريقين عن الأسود بن قيس به. وفي الباب أحاديث، وهذا الحديث أصحها إسنادا وأحسنها متنا.

والحسن: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى. (1540) قال ابن عباس: عُرِض على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يُفْتَح على أُمته من بعده كَفْرَاً كفرا، فسرّ بذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى. قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فيه قولان: أحدهما: جعل لك مأوى إذ ضَمَّك إلى عمك أبي طالب، فكفاك المؤونة، قاله مقاتل. والثاني: جعل لك مأوى لنفسك أغناك به عن كفالة أبي طالب، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيه ستة أقوال: أحدها: ضالاً عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة، فهداك إليها، قاله الجمهور منهم الحسن، والضحاك. والثاني: أنه ضَلَّ وهو صبي صغير في شعاب مكة، فردَّه الله إلى جده عبد المطلب، رواه أبو الضحى عن ابن عباس. والثالث: أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورده إلى القافلة، فمنَّ الله عليه بذلك قاله سعيد بن المسيب. والرابع: أن المعنى: ووجدك في قوم ضُلاَّل، فهداك للتوحيد والنبوة، قاله ابن السائب. والخامس: ووجدك نِسْيَاً، فهداك إلى الذِّكْر. ومثله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى «1» قاله ثعلب. والسادس: ووجدك خاملاً لا تُذْكَر ولا تُعْرَف، فهدى الناس إليك حتى عرفوك، قاله عبد العزيز بن يحيى، ومحمد بن عليّ التّرمذيّ. قوله عزّ وجلّ: وَوَجَدَكَ عائِلًا قال أبو عبيدة: أي: ذا فقر. وأنشد: وَمَا يَدري الفقيرُ مَتى غِناه ... وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ «2» أي: يفتقر. قال ابن قتيبة: العائل: الفقير، كان له عيال، أو لم يكن يقال: عال الرجل: إذا افتقر. وأعال: إذا كثر عياله. وفي قوله: فَأَغْنى قولان: أحدهما: أرضاك بما أعطاك من الرزق، قاله ابن السائب، واختاره الفرّاء فقال: لم يكن غناه عن كثرة المال، ولكن الله رضَّاه بما آتاه. والثاني: فأغناك بمال خديجة عن أبي طالب، قاله جماعة من المفسّرين. قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فيه قولان: أحدهما: لا تحقر، قاله مجاهد. والثاني: لا تقهره على ماله، قاله الزّجّاج.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 37513 من طريق الأوزاعي يحدث عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، وإسناده ضعيف الأوزاعي لم يسمعه من إسماعيل كما يدل على ذلك عبارة الراوي عنه، وكرره 37514 وفيه رواد بن الجراح ضعيف. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 576 عن ابن عباس مرفوعا، وإسناده ضعيف فيه معاوية بن أبي العباس مجهول، والموقوف أصح من المرفوع، فالخبر لا يصح مرفوعا ولا موقوفا. وانظر «تفسير الشوكاني» 2746 بتخريجنا.

قوله: وَأَمَّا السَّائِلَ فيه قولان: أحدهما: سائل البِر، قاله الجمهور. والمعنى: إذا جاءك السائل، فإما أن تعطيه، وإِما أن تردَّه ردَّاً ليناً. ومعنى فَلا تَنْهَرْ لا تنهره، يقال: نهره وانتهره: إذا استقبله بكلام يزجره. والثاني: أنه طالب العلم، قاله يحيى بن آدم في آخرين. قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ في النعمة ثلاثة أقوال: أحدها: النُبُوَّة. والثاني: القرآن، رويا عن مجاهد. والثالث: أنها عامة في جميع الخيرات، وهذا قول مقاتل. (1541) وقد روي عن مجاهد قال: قرأت على ابن عباس. فلما بلغت «والضحى» قال: كبِّر إذا ختمت كل سورة حتى تختم. وقرأت على أُبيِّ بن كعب فأمرني بذلك. (1542) قال علي بن أحمد النيسابوري: ويقال: إن الأصل في ذلك أن الوحي لما فتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال المشركون: قد هجره شيطانه وَوَدَعَه، اغتمَّ لذلك، فلما نزل «والضحى» كبَّر عند ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي، فاتّخذه الناس سنّة.

_ ضعيف جدا. وله علتان، ابن أبي بزة، وهو أحمد بن محمد بن عبد الله ضعيف منكر الحديث، وشيخه عكرمة مجهول، لم يرو عنه غيره، ولم يوثقه أحد، وذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» 7/ 11 من غير جرح أو تعديل، حتى ابن حبان لم يدخله في الثقات. أخرجه الحاكم 3/ 305 والواحدي في «الوسيط» 4/ 514 والذهبي في «الميزان» 1/ 145/ 564 والبغوي في «التفسير» 2362 بترقيمنا. كلهم من طريق أحمد البزي به. وقال الذهبي في «الميزان» في البزي: إمام في القراءة ثبت، ثم ذكر له حديثا غير هذا فقال: قال أبو حاتم: هذا حديث باطل. وقال العقيلي: منكر الحديث، وقال أبو حاتم ضعيف الحديث، لا أحدث عنه- وقال ابن أبي حاتم: روى حديثا منكرا. ثم أسند الذهبي هذا الحديث، وقال: هذا حديث غريب، وهو مما أنكر على البزي، قال أبو حاتم: هذا حديث منكر. وقال العقيلي في «الضعفاء» 1/ 127: منكر الحديث، يوصل الأحاديث. قلت: وعكرمة بن سليمان مجهول كما تقدم، لم يوثقه أحمد، ولا روى عنه سوى البزي، وهو ضعيف، فيزيد هذا من جهالته. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله 4/ 620: أحمد البزي ضعفه أبو حاتم، لكن ورد عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: أحسنت، وأصبت السنة حكاه أبو شامة المقدسي، في «شرح الشاطبية» ، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. كذا قال رحمه الله؟!! ولعل هذا لا يصح عن الشافعي، فإن خبرا واهيا، لا يصلح للاحتجاج به، وبخاصة إدخال شيء في الصلاة، ليس منها، والدليل على عدم صحته عن الشافعي، أنه ليس في مذهب الشافعية تكبير في الصلاة عند الانتقال من سورة إلى سورة بعد الضحى، والأشبه أن هذه السنة هي سنة عكرمة بن سليمان ذاك الشيخ المجهول، فحملها عنه البزي، ثم حملها عنه آخرون. ولو ثبت هذا عند الشافعي لرواه في المسند أو السنن أو الأم، بل لو صح هذا لرواه الأئمة الستة وغيرهم لاشتهاره، والصواب أن هذا سنة شيخ مجهول، والله أعلم. والخلاصة: الإسناد ضعيف، والمتن منكر كما قال أبو حاتم وغيره، وهذا مما ينبغي أن يشتهر لو صح، فلما لم يرو إلا بهذا الطريق علم أنه شبه موضوع. تقدم أن هذا الحديث صحيح دون ذكر التكبير، انظر الحديث رقم 1539 ولا أصل له بهذا اللفظ- قال ابن كثير رحمه الله 4/ 621: لم يرو ذلك بإسناد وقد مضى في الذي قبله، الكلام على التكبير مما يغني عن الإعادة هنا.

سورة الشرح

سورة الشرح وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ الشرح: الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك. والله تعالى فتح صدر نبيه للهدى والمعرفة بإذهاب الشّواغل التي تصدّ «1» عن إدراك الحق. ومعنى هذا الإستفهام التقريرُ، أي: فعلنا ذلك «2» وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ أي: حَطَطْنَا عنك إِثْمَكَ الذي سَلَفَ في الجاهلية، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، والفراء، وابن قتيبة في آخرين. وقال الزجاج: المعنى: أنه غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال ابن قتيبة: وأصل الوِزْر: ما حمله الإنسان على ظهره، فشبّه بالحمل فجعل مكانه. وبمعنى أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أثقله حتى سمع نقيضه، أي: صوته. وهذا مَثَلٌ، يعني: أنه لو كان حملاً يحمل لَسُمِع نقيضُ الظهر منه. وذهب قوم إلى أن المراد بهذا تخفيف أعباء النبوة التي يُثْقِلُ القيامُ بها الظُّهْرَ، فَسَهَّلَ الله له ذلك حتى تيَسَّر عليه الأمر. وممن ذهب إلى هذا عبد العزيز بن يحيى. قوله عزّ وجلّ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ فيه خمسة أقوال: (1543) أحدها: ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية،

_ ضعيف. أخرجه أبو يعلى 1380 والواحدي في «الوسيط» 4/ 516 من طريق ابن لهيعة به. وإسناده واه، فيه-

فقال: قال الله عزّ وجلّ: إذا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ معي. قال قتادة: فليس خطيب، ولا مُتَشَهِّدٌ، ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وهذا قول الجمهور. والثاني: رفعنا لك ذِكْرَك بالنبوة، قاله يحيى بن سلام. والثالث: رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا، حكاه الماوردي. والرابع: رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء. والخامس: بأخذ الميثاق لك على الأنبياء، وإلزامهم الإيمان بك، والإقرار بفضلك، حكاهما الثّعلبيّ. قوله عزّ وجلّ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ضم سين «العُسُر» وسين «اليُسُر» أبو جعفر و «العسر» مذكور في الآيتين بلفظ التعريف. و «اليُسر» مذكور بلفظ التنكير، فدل على أن العسر واحد، واليسر اثنان. قال ابن مسعود، وابن عباس في هذه الآية: لن يغلب عُسْر يسرين. قال الفراء: العرب إذا ذَكَرَتْ نَكِرَةً ثم أعادتها بنكرة صارت اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأول، وإذا أعادتها معرفة، فهي من قولك: إذا كسبت درهماً فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول. ونحو هذا قال الزجاج: ذَكَرَ العُسْر بالألف واللام، ثم ثَنَّى ذِكْرَه، فصار المعنى: إن مع العسر يسرين. وقال الحسين بن يحيى الجرجاني- ويقال له: صاحب النظم-: معنى الكلام: لا يحزنك ما يُعَيِّرك به المشركون من الفقر «فإن مع العسر يسراً» عاجلاً في الدنيا، فأنجزه بما وعده الله، بما فتح عليه، ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال: «إن مع العسر يسراً» والدليل على ابتدائه تَعرِّيه من الفاء والواو، وهو وعد لجميع المؤمنين أي أن مع عسر المؤمنين يسراً في الآخرة، فمعنى قولهم: لن يغلب عسر يسرين: لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا، واليسر الذي وعدهم في الآخرة، إنما يغلب أحدهما، وهو يسر الدنيا. فأما يسر الآخرة، فدائم لا ينقطع، كقوله صلّى الله عليه وسلم: (1544) «شهرا عيد لا ينقصان» ، أي: لا يجتمعان في النقص. وحكي عن العتبي قال: كنت ذات ليلة في البادية بحالة من الغَمِّ، فأُلْقِيَ في رَوعي بيت من الشعر، فقلت: أرى الموت لمن أصبح ... مَغْمُوماً لَهُ أَرُوَحْ فلما جن الليل سمعت هاتفا يهتف: ألا يا أيّها المرء الذي ... الهمُّ بِه بَرَّحْ وَقَدْ أَنْشَدَ بَيْتَاً لَمْ ... يزل في فكره يسبح إذا اشتَدَّ بك العُسْرُ ... فَفَكِّر في «أَلَمْ نَشْرَحْ» فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ ... إِذا أَبْصَرْتَهُ فَافْرَحْ فحفظت الأبيات وفرّج الله غمّي.

_ صحيح. أخرجه البخاري 1912 ومسلم 1089 وأبو داود 2323 والترمذي 692 وابن ماجة 1659 وأحمد 5/ 38 و 47 و 48 والطيالسي 863 والطحاوي 2/ 58 وابن حبان 325 والبيهقي 4/ 250 من طرق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا.

قوله عزّ وجلّ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي: فادأبْ في العمل، وهو من النَّصْب، والنَّصب: التعبُ، الدَّؤوب في العمل. وفي معنى الكلام ستة أقوال أحدها: فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، قاله ابن مسعود. والثاني: فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، قاله ابن عباس، والضحاك، ومقاتل. والثالث: فإذا فرغت من جهالة عدوّك فانصب لعبادة ربّك، قاله الحسن وقتادة. والرابع: فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك، قاله مجاهد. والخامس: فإذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، قاله الشّعبيّ والزّهريّ. والسادس: إذا صح بدنك فاجعل صحتك نَصباً في العبادة، ذكره عليّ بن أبي طلحة. قوله وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ قال الزجاج: اجعل رغبتك إلى الله عزّ وجلّ وحده.

سورة التين

سورة التّين وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، قاله الجمهور، منهم الحسن، وعطاء. والثاني: أنها مدنيّة، حكاه الماورديّ عن ابن عباس، وقتادة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) قوله عزّ وجلّ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فيها سبعة أقوال «1» : أحدها: أنه التين المعروف، والزيتون المعروف، قاله ابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وإبراهيم. وذكر بعض المفسرين أنه إنما أقسم بالتين لأنها فاكهة مُخَلَّصة من شائب التنغيص، وهو يدل على قدرة من هيَّأه على تلك الصفة، وجعل الواحد منه على مقدار اللقمة، وإنما أقسم بالزيتون لكثرة الانتفاع به. والثاني: أن التين: مسجد نوح الذي بنى على الجودي. والزيتون: بيت المقدس، رواه عطية عن ابن عباس. والثالث: التين: المسجد الحرام، والزيتون: المسجد الأقصى، قاله الضحاك. والرابع: التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس، قاله كعب، وقتادة، وابن زيد. والخامس: أنهما جبلان، قاله عكرمة في رواية. وروي عن قتادة قال: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس. والسادس: أن التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد إيلياء، قاله القرظي. والسابع: أن التين: جبال ما بين حلوان إلى همذان، والزيتون: جبال الشام، حكاه الفرّاء. فأمّا وَطُورِ سِينِينَ فالطور: جبل. وفيه قولان «2» : أحدهما: أنه الجبل الذي كلم الله موسى عليه، قاله كعب الأحبار في الأكثرين. والثاني: أنه جبل بالشام، قاله قتادة. فأما سِينِينَ فهو لغة في سيناء. وقد قرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وسعد بن أبي وقاص، وأبو العالية، وأبو مجلز «وطور سَيناء» ممدودة مهموزة، مفتوحة السين. وقرأ ابن مسعود،

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 634: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: طور سينين: جبل معروف، لأن الطول هو جبل ذو النبات، فإضافته إلى سينين تعريف له، ولو كان نعتا للطور كما قال من قال: معناه: حسن أو مبارك لكان الطور منونا، وذلك أن الشيء لا يضاف إلى نعته لغير علة تدعو إلى ذلك. (2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 634: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: طور سينين: جبل معروف، لأن الطول هو جبل ذو النبات، فإضافته إلى سينين تعريف له، ولو كان نعتا للطور كما قال من قال: معناه: حسن أو مبارك لكان الطور منونا، وذلك أن الشيء لا يضاف إلى نعته لغير علة تدعو إلى ذلك. [.....]

وأبو الدرداء، وأبو حيوة «وطورِ سيناء» مثلهم إلا أنهم كسروا السين. وقرأ أبو رجاء، والجحدريّ «سينين» كما في القرآن، لكنهما فتحا السين. وقال ابن الأنباري: «سينين» هو سيناء. واختلفوا في معناه فقيل: معناه: الحسن. وقيل: المبارك. وقيل: إنه اسم للشجر الذي حوله. وقد شرحنا هذا في سورة المؤمنون «1» قال الزّجّاج: وقد قرئ هاهنا «وطور سيناء» وهو أشبه لقوله عزّ وجلّ: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ. وقال مقاتل: كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين، وسيناء بلغة النّبط. قوله عزّ وجلّ: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعني: مكة يأمن فيه الخائف في الجاهلية، والإسلام «2» . قال الفراء: ومعنى «الأمين» الآمن. والعرب تقول للآمن: أمين. قال الشاعر: أَلَمْ تَعْلَمي يا أَسْمَ وَيْحَكِ أَنَّني ... حَلَفْتُ يَمِيناً لا أَخُونُ أَمِينِي يريد آمني. قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ هذا جواب القسم. وفي المراد بالإنسان هاهنا خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه كَلدَة بن أسيد، قاله ابن عباس. والثاني: الوليد بن المغيرة، قاله عطاء. والثالث: أبو جهل بن هشام. والرابع: عتبة، وشيبة، حكاهما الماوردي. والخامس: أنه اسم جنس، وهذا مذهب كثير من المفسرين، وهو معنى قول مقاتل. قوله عزّ وجلّ: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فيه أربعة أقوال «4» : أحدها: في أعدل خلق. والثاني: منتصب القامة، رويا عن ابن عباس. والثالث: في أحسن صورة، قاله أبو العالية. والرابع: في شباب وقوة، قاله عكرمة. قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ فيه قولان «5» : أحدهما: إلى أرذل العُمُر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وإبراهيم، وقتادة. وقال الضحاك: إلى الهرم بعد الشباب، والضعف بعد

_ (1) المؤمنون: 20. (2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 628: وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبيا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأولى محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى عليه السلام والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام والثالث: مكة: وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمدا صلّى الله عليه وسلم. (3) والقول الخامس هو الصواب: أنه اسم جنس ولم يكن المراد منه إنسان باسمه. (4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 638: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن معنى ذلك. لقد خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأعدلها، لأن قوله: أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إنما هو نعت لمحذوف، وهو في تقويم أحسن تقويم، فكأنه قيل: لقد خلقناه في تقويم أحسن تقويم. (5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 628: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي: إلى أرذل العمر. روي هذا عن ابن عباس وعكرمة، واختاره ابن جرير الطبري ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك، لأن الهرم قد يصيب بعضهم إنما المراد ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي إلى النار، كقوله وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.

القوََّة. والسافلون: هم الضعفاء، والزَّمنى، والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً، قال الفراء: وإنما قال: «سافلين» على الجمع، لأن الإنسان في معنى جمع. تقول: هذا أفضل قائم، ولا تقول: قائمين، لأنك تريد واحداً، فإذا لم ترد واحداً ذكرته بالتوحيد وبالجمع. والثاني: إلى النار، قاله الحسن، وأبو العالية، ومجاهد. والمعنى: إنا نفعل هذا بكثير من الناس. تقول العرب: أنفق فلان ماله على فلان، وإنما أنفق بعضه، ومثله قوله عزّ وجلّ: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى «1» لم يُرِدْ كُلَّ ماله. ثم استثنى من الإنسان فقال عزّ وجلّ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا لأن معنى الإنسان الكثير. وللمفسرين في معنى الاستثناء قولان: أحدهما: إلا الذين آمنوا، فإنهم لا يُرَدُّون إلى الخَرَف، وأَرْذَل العُمُر وإن عُمِّروا طويلاً، وهذا على القول الأول. قال ابن عباس: من قرأ القرآن لم يُردّ إِلى أرذل العمر. وقال إبراهيم النخعي: إذا بلغ المؤمن من الكِبَر ما يعجز عن العمل كُتِبَ له ما كان يعمل، وهو قوله عزّ وجلّ: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وقال ابن قتيبة: المعنى: إلا الذين آمنوا في وقت القوَّة والقدرة، فإنهم في حال الكِبَر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات، لأنّ الله عزّ وجلّ يعلم أنه لو لم يسلبهم القوَّة لم ينقطعوا عن أفعال الخير، فهو يجري لهم أجر ذلك. والثاني: إلا الذين آمنوا، فإنهم لا يُرَدُّون إلى النار. وهذا على القول الثاني. وقد شرحنا معنى «الممنون» في «ن» «2» . قوله عزّ وجلّ: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ فيه قولان: أحدهما: فما يكذِّبك أيها الإنسان بعد هذه الحجة «بالدِّين» أي: ما الذي يجعلك مكذِّباً بالجزاء؟!، وهذا توبيخ للكافر، وهو معنى قول مقاتل. وزعم أنها نزلت في عدي بن ربيعة. والثاني: فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له خلقُنا الإنسان على ما وصفنا، قاله الفراء. فأما «الدِّين» فهو الجزاء. والمشار إليه بذكره إلى البعث، كأنه استدلّ بتقلّب الأحوال على البعث. قوله عزّ وجلّ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي: بأقضى القاضين. قال مقاتل: يحكم بينك وبين مكذِّبيك. وذكر بعض المفسرين: أن معنى هذه الآية تسليته في تركهم والإعراض عنهم. ثم نسخ هذا المعنى بآية السيف.

_ (1) الليل: 18. (2) ن: 3.

سورة العلق

سورة العلق وتسمّى: سورة القلم، وسورة اقرأ، وهي مكّيّة بإجماعهم. وهي أول ما نزل من القرآن. وقيل: إنما أنزل عليه في أول الوحي خمس آيات منها، ثم نزل باقيها في أبي جهل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) قوله تعالى: اقْرَأْ قرأ أبو جعفر بتخفيف الهمزة في الحرفين. قال أبو عبيدة: المعنى: «اقرأ اسم ربك» والباء زائدة. وقال المفسرون: المعنى: اذكر اسمه مستفتحا به قراءتك. وإنما قال عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَ لأن الكفار كانوا يعلمون أنه الخالق دون أصنامهم. والإنسان هاهنا: ابن آدم. والعلق: جمع علقة، وقد بَيَّنَّاها في سورة الحج «1» قال الفراء: لما كان الإنسان في معنى الجمع جمع العلق مع مشاكلة رؤوس الآيات.. قوله تعالى: اقْرَأْ تكرير للتأكيد. ثم استأنف فقال عزّ وجلّ: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ قال الخطّابي: الأكرم: الذي لا يوازيه كريم، ولا يعادله في الكرم نظير. وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم، كما جاء الأعَزُّ والأطول، بمعنى العزيز والطويل. وقد سبق تفسير الكريم. قوله عزّ وجلّ: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي: علم الإنسان الكتابة بالقلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من الخط، والصنائع، وغير ذلك. وقيل: المراد بالإنسان هاهنا: محمّد صلّى الله عليه وسلم. [سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 19] كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: حقاً. وقال مقاتل: كَلَّا لا يعلم أن الله علمه. ثم استأنف فقال

_ (1) مضى في أول سورة الحج.

عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى يعني: أبا جهل. وكان إذا أصاب مالاً أَشر وبَطِرَ في ثيابه، ومراكبه، وطعامه قوله: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى قال ابن قتيبة: أي: أن رأى نفسه استغنى. و «الرُّجْعى» المرجع. قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى معنى: أرأيت: تعجيب المخاطب، وإنما كررها للتأكيد والتعجيب. والمراد بالناهي هاهنا: أبو جهل. (1545) قال أبو هريرة: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمَّدٌ وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقال له: ها هو ذاك يصلي. فانطلق لِيَطَأَ على رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتَّقي بيديه، فأتوه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً وأَجْنِحَةً. وقال نبي الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً» ، فأنزل الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى إلى آخر السورة. (1546) وقال ابن عباس: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟! فانصرف إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلم فَزَبَرَه «1» ، فقال أبو جهل: والله إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني، فأنزل الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله. قال المفسرون: والمراد بالعبد هاهنا: محمد صلّى الله عليه وسلم. وقيل: كانت الصلاة صلاة الظّهر. قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يعني المنهي وهو النبيّ صلّى الله عليه وسلم. قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى يعني: الناهي، وهو أبو جهل، قال الفراء: والمعنى: أرأيتَ الذي ينهى عبداً إذا صلى، وهو كاذب مُتَوَلٍّ عن الذّكر، وأيّ شيء أعجب من هذا؟! وقال ابن الأنباري: تقديره: أرأيته مصيبا. قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَعْلَمْ يعني أبا جهل بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ذلك فيجازيه كَلَّا أي: لا يعلم ذلك لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عن تكذيب محمد وشتمه وإيذائه لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ السفع: الأخذ، والناصية: مقدّم شعر الرأس. قال أبو عبيدة: يقال: سفعتُ بيده، أي: أخذتُ بها. وقال الزجاج: يقال: سفعتُ بالشيء: إذا قبضتَ عليه وجذبته جذباً شديداً. والمعنى: لنجرّنّ ناصيته إلى النّار.

_ صحيح. أخرجه مسلم 2797 والبغوي في «التفسير» 2372 من طريق عبيد الله بن معاذ ومحمد بن الأعلى القيسي من حديث أبي هريرة. وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11683 وأحمد 2/ 370 وابن حبان 6571 والبيهقي 2/ 19 وأبو نعيم في «الدلائل» 158 والواحدي في «الوسيط» 4/ 529 من طرق عن معتمر بن سليمان به. وأخرجه الطبري 37687 من طريق ابن ثور عن أبيه عن نعيم بن أبي هند به. صحيح. أخرجه البخاري 4958 وعبد الرزاق في «التفسير» 3660 والطبري 37689 من حديث ابن عباس.

قوله عزّ وجلّ: ناصِيَةٍ قال أبو عبيدة: هي بدل، فلذلك جَرَّها. قال الزجاج: والمعنى: بناصية صاحبُها كاذبٌ خاطئ، كما يقال: نهارُه صائم، وليله قائم، أي: هو صائم في نهاره، قائم في ليله فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي: أهل ناديه، وهم أهل مجلسه فليستنصرهم سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال عطاء: هم الملائكة الغِلاظ الشِّداد، وقال مقاتل: هم خَزَنَةُ جهنم. وقال قتادة: الزَّبانية في كلام العرب: الشُّرَط. قال الفراء: كان الكسائي يقول: لم أسمع للزَّبانية بواحد، ثم قال بأَخَرة: واحد الزبانية: زِبْنِيٌّ، فلا أدري أقياساً منه أو سماعاً. وقال أبو عبيدة: واحد الزبانية: زِبْنِيَة، وهو كل متمرِّد من إنس، أو جان. يقال: فلان زِبْنِيَة عِفْرِيَة. قال ابن قتيبة: وهو مَأْخوذٌ من الزَّبْن، وهو الدَّفْع، كأنهم يدفعون أهل النّار إليها. وقال ابن دريد: الزَّبْن: الدفع. يقال: ناقة زبون: إذا زَبَنَتْ حالبها. ودفعته برجلها. وتَزَابَنَ القوم: تدارؤوا. واشتقاق الزبانية من الزَّبْن. والله أعلم. قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: ليس الأمر على ما عليه أبو جهل لا تُطِعْهُ في ترك الصلاة وَاسْجُدْ أي: صَلِّ لله وَاقْتَرِبْ إليه بالطاعة، وهذا قول الجمهور أنّ قوله عزّ وجلّ: وَاقْتَرِبْ خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقد قيل: إنه خطاب لأبي جهل: ثم فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: اسجد أنت يا محمد، واقترب أنت يا أبا جهل إلى النَّار، قاله زيد بن أسلم. والثاني: واقترب يا أبا جهل تَهَدَّدَاً له، رواه أبو سليمان الدمشقي عن بعض القُدَماء وهذا يشرحه حديث أبي هريرة الذي قدَّمناه. (1547) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدّعاء» .

_ صحيح. أخرجه مسلم 482 والنسائي 2/ 226 وأحمد 2/ 421 وأبو يعلى 6658 وابن حبان 1928 وأبو عوانة 2/ 180 والبيهقي 2/ 110 من طرق عن ابن وهب به. من حديث أبي هريرة. وأخرجه أبو داود 875 عن أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو، ومحمد بن سلمة به. وأخرجه البغوي في «شرح السنة» 659 وفي «التفسير» 2373 من طريق أبي داود سليمان بن الأشعث به.

سورة القدر

سورة القدر وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها مدنيّة، قاله الضّحّاك، ومقاتل. قال الماورديّ: الأول قول الأكثرين. وقال الثّعلبي: الثاني قول الأكثرين. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني: القرآن فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وذلك أنه أنزل جملةً في تلك الليلة إلى بيت العِزَّة، وهو بيت في السماء الدنيا. وقد ذكرنا هذا الحديث في أول كتابنا. والهاء في «إنا أنزلناه» كناية عن غير مذكور. وقال الزجاج: قد جرى ذكره في قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ. فأما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ففي تسميتها بذلك خمسة أقوال: أحدها: أن القَدْرَ: العظمةُ، من قولك: لفلان قَدْر، قاله الزهري. ويشهد له قوله عزّ وجلّ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «1» . والثاني: أنه من الضيق، أي: هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون، قاله الخليل بن أحمد، ويشهد له قوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «2» . والثالث: أنّ القدر: الحكم كأن الأشياء يقدّر فيها، قاله ابن قتيبة. والرابع: لأن من لم يكن له قَدْر صار بمراعاتها ذَا قَدْر، قاله أبو بكر الورَّاق. والخامس: لأنه نزل فيها كتاب ذُو قَدر، وتنزل فيها رحمة ذات قَدْر، وملائكةٌ ذوُو قَدْر، حكاه شيخنا عليّ بن عبيد الله. فصل «3» : اختلف العلماء هل ليلة القدر باقية، أم كانت في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصّة؟ والصحيح بقاؤها.

_ (1) الأنعام: 91، والزمر: 67. (2) الطلاق: 7. (3) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 433، في الصحيح فيها وترجيح سبل النظر الموصلة إلى الحق منها: أنا نقول: إن الله تبارك وتعالى قال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فأفاد هذا بمطلقه، لو لم يكن كلام سواه، أنها في العام كله، لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فأنبأنا الله أنه أنزله في ليلة من العام، فقلنا: من يقم الحول يصب ليلة القدر، ثم نظرنا إلى قوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فأفادنا ذلك أن تلك الليلة هي من شهر رمضان، ثم أخبر في الصحيح أنها في العشر الأواخر، وتواطأت روايات الصحابة على أنها في العشر الأواخر، وخبأها عن التعيين ليكون ذلك أبرك على الأمة في القيام في طلبها شهرا أو أياما، فيحصل مع ليلة القدر ثواب غيرها، فهذه سبل النظر المجتمعة من القرآن والحديث أجمع- على ما سيأتي- فتبصروها لمما، واسلكوها أمما إن شاء الله.

وهل هي في جميع السنة، أم في رمضان؟ وفيه قولان: أحدهما: في رمضان، قاله الجمهور والثاني: في جميع السنة، قاله ابن مسعود. واختلف القائلون بأنها في شهر رمضان هل تختص ببعضه دون بعض؟ على قولين: أحدهما: أنها في العشر الأواخر، قاله الجمهور، وأكثر الأحاديث الصّحاح تدل عليه. (1548) وقد روى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعةٍ تبقى، أو سابعة تبقى أو في خامسة تبقى» . (1549) وفي حديث أبي بَكْرَة قال: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلاَ في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول: «التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث يبقين، أو آخر ليلة» . والقول الثاني: أنها في جميع رمضان، قاله الحسن البصري. واختلف القائلون بأنها في العشر الأواخر هل تختص ليالي الوتر دون الشفع؟ على قولين: أحدهما: أنها تختص الأفراد، قاله الجمهور. والأحاديث الصحاح كلها تدل عليه. (1550) وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها» . والثاني: أنها تكون في الشفع كما تكون في الوتر، قاله الحسن. وروي عن الحسن ومالك بن أنس قالا: هي ليلة ثماني عشرة. واختلف القائلون بأنها في الأفراد في أخص الليالي بها على خمسة أقوال: أحدها: أن الأخص بها ليلة إحدَى وعشرين. (1551) فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري قال: اعتكف

_ صحيح. أخرجه البخاري 2021 من حديث ابن عباس ولم أره بهذا اللفظ لا في الموطأ ولا في مسلم. - وانظر الحديث الآتي عن أبي سعيد الخدري. صحيح. أخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 535- 536 من طريق عبد الله بن حامد بهذا الإسناد. وأخرجه الترمذي 794 والحاكم 1/ 438 وأحمد 5/ 36 و 39 و 40 وابن خزيمة 2175 والطيالسي 881 والبيهقي في «الشعب» 3681 من حديث أبي بكرة، وإسناده صحيح. صحيح. أخرجه البخاري 2027 وأبو داود 1382 وابن خزيمة 2243 وابن حبان 3673 والبيهقي 4/ 309 من طرق عن مالك به. من حديث أبي سعيد. وأخرجه البخاري 2018 من طريق ابن أبي حازم والدراوردي عن يزيد به. وأخرجه مسلم 1167 ح 215 وابن خزيمة 2171 وابن حبان 3684 والبيهقي 4/ 314- 305 من طريق عمارة بن غزية، عن محمد بن إبراهيم به. وأخرجه البخاري 2040 وأحمد 3/ 7 و 24 والحميدي 756 من طرق عن أبي سلمة به. وأخرجه البخاري 669 و 813 و 2016 ومسلم 1167 ح 216 وأحمد 3/ 60 و 74 و 94 والطيالسي 3187 وعبد الرزاق 8685 وابن أبي شيبة 3/ 76- 77- وابن حبان 3685 من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. وأخرجه مالك 1/ 319 والبغوي في «شرح السنة» 1819 عن يزيد بن عبد الله به. هو الحديث المتقدم 1550.

رسول الله صلّى الله عليه وسلم العشر الأوسط واعتكفنا معه، فلما أصبحنا صبيحة عشرين رجع، ورجعنا معه، وأُرِيَ ليلةَ القدر، ثم أُنسيها، فقال: «إني رأيتُ ليلة القدر، ثم أُنسيتها وأُراني أسجد في ماء وطين، فمن اعتكف فليرجع إلى مُعتَكفه، وهاجت علينا السماء آخر تلك العشية، وكان سَقْفُ المسجد عريشاً من جريد، فوكف المسجد فو الذي هو أكرمه، وأنزل عليه الكتاب لَرَأَيْتُه يصلي بنا المغرب ليلة إحدى وعشرين، وإن جبهته وأرنبة أنفه لفي الماء والطين، وهذا مذهب الشافعي. والثاني: أن الأخص بها ليلة ثلاث وعشرين. (1552) وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ليلة ثلاث وعشرين: «اطلبوها الليلة» . (1553) وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئاً فليقم ليلة ثلاث وعشرين» . (1554) وروى مسلم في أفراده من حديث عبد الله بن أُنَيْس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أريت ليلة القدر، ثم نسيتها، وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين. قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأبصرته وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه. قال: وكان عبد الله بن أُنَيْس يقول: ليلة ثلاث وعشرين. (1555) والثالث: ليلة خمس وعشرين وروى هذا المعنى أبو بكرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والرابع: ليلة سبع وعشرين. (1556) روى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: من كان متحرّيا

_ صحيح. أخرجه ابن ماجة 1656 وأحمد 2/ 251 وابن حبان 2548 والبيهقي 4/ 310 والواحدي في «الوسيط» 4/ 534 من حديث أبي هريرة، وإسناده على شرط الشيخين. صحيح. أخرجه البخاري 2015 ومسلم 1165 ح 205 وابن حبان 3675 والبيهقي 4/ 310 و 311 من طرق عن مالك به- وأخرجه مالك 1/ 331 والبغوي في «شرح السنة» 1817 عن نافع به. وأخرجه البخاري 1158 وأحمد 2/ 17 وعبد الرزاق 7688 وابن خزيمة 2182 والبيهقي 4/ 310- 311 من طريق عن نافع به. وأخرجه البخاري 6991 ومسلم 1165 ح 207 وأحمد 2/ 37 والدارمي 2/ 28 والبيهقي 4/ 311 من طريق الزهري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر به. وأخرجه ابن خزيمة 2222 من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر به. وأخرجه مسلم 1165 ح 208 وأحمد 2/ 8 و 36 وعبد الرزاق 7681 من طرق عن الزهري عن سالم عن ابن عمر. صحيح. أخرجه مسلم 1168 وأبو داود 1379 ومالك 1/ 320 وأحمد 3/ 495 وعبد الرزاق في «المصنف» 7689 و 7690 و 7694 وابن نصر في «قيام رمضان» 40 والطحاوي في «المعاني» 3/ 86- 90 والبيهقي 4/ 309 من حديث عبد الله بن أنيس. وأخرجه أبو داود 1380 وابن نصر في «قيام رمضان» 39 وابن خزيمة 2200 والبيهقي 4/ 309 والبغوي في «شرح السنة» 1820 وفي «التفسير» 4/ 511 من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عبد الله بن أنيس عن أبيه أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: مرني بليلة من هذا الشهر أنزلها إلى المسجد فأصليها فيه، فقال: «انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيه ... » . ورجاله ثقات، وابن إسحاق صرح بالتحديث. وانظر «أحكام القرآن» 2342- 2341. هو الحديث المتقدم برقم 1549. صحيح. أخرجه مسلم 1165 ح 207 وأحمد 2/ 27 من حديث ابن عمر. وانظر «فتح الباري» 4/ 264

فليتحرها ليلة سبع وعشرين، يعني: ليلة القدر، وهذا مذهب عليٍّ وأُبَيِّ بن كعب. (1557) وكان أُبَيٌّ يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، وبه قال ابن عباس، وعائشة، ومعاوية. واختاره أحمد بن حنبل رضي الله عنه. وروى ابن عباس: أنه استدل على ذلك بشيئين: أحدهما: أنه قال: إن الله تعالى خلق الإنسان على سبعة أصناف، يشير إلى قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ الآيات «1» . ثم جعل رزقه في سبعة أصناف يشير إلى قوله عزّ وجلّ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا «2» ثم يصلّي الجمعة على رأس سبعة أيام. وجعل السموات سبعاً، والأرضين سبعاً، والمثاني سبعاً «3» ، فلا أرى ليلة القدر إلّا ليلة السابعة. والثاني: أنه قال: قوله عزّ وجلّ: سَلامٌ هي الكلمة السابعة والعشرون، فدل على أنها كذلك. واحتج بعضهم فقال: ليلة القدر كُرِّرت في هذه السورة ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، والتسعة إذا كُرِّرت ثلاثاً فهي سبع وعشرون، وهذا تنبيه على ذلك. والقول الخامس: أن الأولى طلبها في أول ليلة من رمضان، قاله أبو رزين العقيلي. وروى أيوب عن أبي قُلابة أنه قال: ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر. فأما الحكمة في إخفائها فليتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان طَمَعاً منهم في إدراكها، كما أخفى ساعة الجمعة، وساعة الليل، واسمه الأعظم، والصلاة الوسطى، والوليّ في الناس. قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ هذا على سبيل التعظيم والتّشوّق إلى خيرها. قوله عزّ وجلّ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قال مجاهد: قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر، وهذا قول قتادة، واختيار الفراء، وابن قتيبة، والزجاج. (1558) وروى عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذُكِرَ له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح

_ وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6421. صحيح. أخرجه مسلم 2/ 828 ح 220 والحميدي 375 وابن خزيمة 2191 وابن حبان 3689 والبيهقي 4/ 312 من طرق عن سفيان بن عيينة عن عبدة بن أبي لبابة، وعاصم عن زر بن حبيش به. وأخرجه مسلم 762 ح 180 والواحدي في «الوسيط» 4/ 535 من طرق شعبة عن عبدة بن أبي لبابة عن زر به مختصرا. وأخرجه أبو داود 1378 والترمذي 793 وعبد الرزاق 7700 وابن خزيمة 2193 وابن حبان 3691 والواحدي في «الوسيط» 4/ 533. وأخرجه ابن أبي شيبة 3/ 76 من طريق أبي خالد وعامر الشعبي عن زر به. وأخرجه مسلم 762 ح 179 وابن حبان 3690 من طريق الأوزاعي عن عبدة عن زر به. وهم جميعا من حديث زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب: يا أبا المنذر أخبرنا عن ليلة القدر، فإن ابن مسعود عبد الله يقول: من يقم الحول يصبها فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، أما إنه قد علم أنها في رمضان ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا. هي والذي أنزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين، فقلنا: يا أبا المنذر أنى علمت هذا؟ قال: بالآية التي أخبرنا النبي صلّى الله عليه وسلم فحفظناها وعددناها هي والله لا تنس، قال قلنا: وما الآية؟ قال: تطلع الشمس كأنها طاس ليس لها شعاع. ضعيف جدا. ذكره المصنف عن عطاء عن ابن عباس ولم أره عنه مسندا. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 864 والبيهقي في «الشعب» 3668 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن-

على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لذلك، وتمنَّى أن يكون ذلك في أمته، فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: هي خير من ألف شهر التي حمل فيها الاسرائيلي السلاح في سبيل الله عزّ وجلّ. وذكر بعض المفسرين أنه كان الرجل فيما مضى لا يستحق أن يقال له: عابد حتى يعبد الله ألف شهر كانوا يعبدون فيها. قوله عزّ وجلّ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ «1» قال أبو هريرة: الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصا. وفي «الروح» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جبريل، قاله الأكثرون. (1559) وفي حديث أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلُّون ويسلِّمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزّ وجلّ. والثاني: أن الروح: طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر، قاله كعب، ومقاتل بن حيان. والثالث: أنه ملَك عظيم يفي بخلق من الملائكة، قاله الواقدي. قوله عزّ وجلّ: فِيها أي: في ليلة القدر بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي: بما أمر به وقضاه مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قال ابن قتيبة: أي: بكل أمر. قال المفسرون: يتنزَّلون بكل أمر قضاه الله في تلك السنة إلى قابل. وقرأ ابن عمر، وابن عباس وأبو العالية، وأبو عمرو الجونيّ «من كل امرئ» بكسر الراء وبعدها همزة مكسورة منوَّنة، وبوصل اللام من غير همز. ولهذه القراءة وجهان: أحدهما: من كل مَلَك سلام. والثاني: أن تكون «من» بمعنى «على» تقديره: على كل أمر من المسلمين سلام من الملائكة، كقوله عزّ وجلّ: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا والقراءة الموافقة لخط المصحف هي الصواب. ويكون تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ «من كل أمر» ثم ابتدأ فقال عزّ وجلّ: سَلامٌ هِيَ أي: ليلة القدر سلام. وفي معنى السلام قولان: أحدهما: أنه لا يحدث فيها داءٌ ولا يُرسَل فيها شيطان، قاله مجاهد. والثاني: أن معنى السلام: الخير والبركة، قاله قتادة. وكان بعض العلماء يقول: الوقف على «سلام» على معنى تنزَّل الملائكة بالسلام.

_ كثير» 4/ 567، وهذا مرسل، فهو واه. وأخرجه الطبري 37713 عن مجاهد موقوفا عليه، وهو أصح. الخلاصة: المرفوع واه، والصواب عن أهل التفسير. وانظر «أحكام القرآن» 2337. ضعيف جدا. أخرجه البيهقي في «الزهد» 3717 من حديث أنس بأتم منه، وفيه صرح بن حوشب وهو متروك متهم.

قوله عزّ وجلّ: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة «مطلَع» بفتح اللام. وقرأ الكسائي بكسرها. قال الفراء: والفتح أقوى في قياس العربية، لأن المطلَع بالفتح: الطّلوع، وبالكسر: الموضع الذي تطلع منها، إلا أن العرب تقول: طلعت الشمس مطلِعاً، بالكسر، وهم يريدون المصدر، كما تقول: أكرمتك كرامة، فتجتزئ بالاسم من المصدر. وقد شرحنا هذا المعنى في «الكهف» «1» عند قوله عزّ وجلّ: مَطْلِعَ الشَّمْسِ. شرحا كافيا، ولله الحمد.

_ (1) الكهف: 9.

سورة البينة

سورة البيّنة وتسمى سورة لم يكن «1» . وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الجمهور. والثاني: مكّيّة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره يحيى بن سلام. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ أي: ومن المشركين، وهم عبدة الأوثان مُنْفَكِّينَ أي: منفصلين وزائلين- يقال: فككت الشيء، فانفك، أي: انفصل- والمعنى: لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ أي: أتتهم، فلفظه لفظ المستقبل، ومعناه الماضي. والْبَيِّنَةُ الرّسول، وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم وذلك أنه بَيَّنَ لهم ضلالهم وجهلهم. وهذا بيان عن نعمة الله على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية: لم يختلفوا أن الله يبعث إليهم نبياً حتى بعث فافترقوا. وقال بعضهم: لم يكونوا ليتركوا منفكين عن حجج الله حتى أُقيمت عليهم البَيِّنة، والوجه هو الأول. والرسول هاهنا محمّد صلّى الله عليه وسلم. ومعنى يَتْلُوا صُحُفاً أي: ما تضمنته الصحف من المكتوب فيها، وهو القرآن. ويدل على ذلك أنه كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه لا من كتاب. ومعنى «مُطَهرة» أي: من الشرك والباطل. فِيها أي: في الصحف كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي: عادلة مستقيمة تُبِيِّن الحق من الباطل، وهي الآيات. قال مقاتل: وإنما قيل لها: كتب لما جمعت من أمور شتّى.

_ (1) أخرج البخاري 4959 و 4960 ومسلم 799 والترمذي 3792 وأحمد 3/ 85 وابن سعد 2/ 340 وعبد الرزاق 20411 وأبو يعلى 2995 وابن حبان 7144 من حديث أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب: «إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا، قال: وسماني لك؟ قال نعم، فبكى» .

قوله عزّ وجلّ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني: من لم يؤمن منهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه محمّد صلّى الله عليه وسلم. والمعنى: لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بُعِث، قاله الأكثرون. والثاني: القرآن، قاله أبو العالية. والثالث: ما في كتبهم من بيان نُبُوَّتِهِ، ذكره الماوردي. وقال الزجاج: وما تَفَرَّقوا في كفرهم بالنبيِّ إلا من بعد أن تَبَيَّنوا أنه الذي وُعِدُوا به في كتبهم. قوله عزّ وجلّ: وَما أُمِرُوا أي: في كتبهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ. أي: إلا أن يعبدوا الله. قال الفراء: والعرب تجعل اللام في موضع «أن» في الأمر والإرادة كثيرا، كقوله عزّ وجلّ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «1» ، ويُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «2» . وقال في الأمر: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ «3» . قوله عزّ وجلّ: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: موحِّدين لا يعبدون سواه حُنَفاءَ على دين إبراهيم وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ المكتوبة في أوقاتها وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ عند وجوبها وَذلِكَ الذي أُمروا به هو دِينُ الْقَيِّمَةِ قال الزجاج: أي دين الأمة القيِّمة بالحق. ويكون المعنى: ذلك الدِّينُ دين الملة المستقيمة «4» . قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر بالهمزة في الكلمتين وقرأ الباقون بغير همز فيهما. قال ابن قتيبة: البريَّة: الخلق. وأكثر العرب والقراء على ترك همزها لكثرة ما جرت عليه الألسنة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. ومن الناس من يزعم أنها مأخوذة من بَرَيْتُ العود، ومنهم من يزعم أنها من البَرَى وهو التراب أي خلق من التراب، وقالوا: لذلك لا يهمز، وقال الزّجّاج: لو كانت من البَرَي وهو التَراب لما قرنت بالهمز، وإنما اشتقاقها من بَرَأ الله الخلق، وقال الخطابي: أصل البريَّة الهمز، إلا أنهم اصطلحوا على ترك الهمز فيها. وما بعده ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قال مقاتل: رضي الله عنهم بطاعته وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه. وكان بعض السلف يقول: إذا كنت لا ترضى عن الله، فكيف تسأله الرضى عنك؟! قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي خافه في الدنيا، وتناهى عن معاصيه «5» .

_ (1) النساء: 26. (2) الصف: 8. (3) الصف: 8. (4) الأنعام: 71. (5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 643: وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، ولهذا قال: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. قال ابن العربي رحمه الله في «الإحكام» 4/ 437: أمر الله عباده بعبادته، وهي أداء الطاعة له بصفة القربة، وذلك بإخلاص النية بتجريد العمل عن كل شيء إلا لوجهه، وذلك هو الإخلاص. وإذا ثبت هذا فالنية واجبة في التوحيد، لأنها عبادة، فدخلت تحت هذا العموم دخول الصلاة، فإن قيل: فلم خرجت عنه طهارة النجاسة، وذلك يعترض عليكم في الوضوء؟ قلنا: إزالة النجاسة معقولة المعنى، لأن الغرض منها إزالة العين لكن بمزيل مخصوص فقد جمعت عقل المعنى وضربا من التعبد، كالعدة جمعت بين براءة الرحم والتعبد، حتى صارت على الصغيرة واليائسة اللتين تحقق براءة رحمهما قطعا، وليس في الوضوء غرض ناجز إلا مجرد التعبد، بدليل أنه لو أكمل الوضوء وأعضاؤه تجري بالماء، وخرج منه ريح بطل وضوءه.

سورة الزلزلة

سورة الزّلزلة وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله ابن عباس، وقتادة، ومقاتل، والجمهور. والثاني: مكّيّة، قاله ابن مسعود، وعطاء وجابر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) قوله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي: حُرِّكت حركةً شديدةً، وذلك عند قيام الساعة. وقال مقاتل: تتزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى يَنْكَسِرَ كلُّ ما عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقيَ ما على ظهرها من جبل، أو بناءٍ، أو شجر، ثم تتحرك وتضطرب، فتُخْرِج ما في جوفها. وفي وقت هذه الزلزلة قولان: أحدهما: أنها تكون في الدنيا، وهي من أشراط الساعة، قاله الأكثرون. والثاني: أنها زلزلة يوم القيامة، قاله خارجة بن زيد في آخرين. قال الفراء: حدثني محمد بن مروان، قال: قلت للكلبي: أرأيت قول الله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها؟ فقال: هذه بمنزلة قوله عزّ وجلّ: وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً «1» فأضيف المصدر إلى صاحبه. وأنت قائل في الكلام: لأُعطيَنَّكَ عَطِيَّتَكَ، تريد عطية. والزِّلزال بالكسر المصدر، وبالفتح: الاسم. وقد قرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو حيوة والجحدريّ «زلزالها» بفتح الزاي. قوله عزّ وجلّ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها فيه قولان «2» : أحدهما: ما فيها من الموتى، قاله ابن عباس. والثاني: كنوزها، قاله عطية. وجمع الفراء بين القولين، فقال: لفظت ما فيها من ذهب، أو فضّة أو ميت. قوله عزّ وجلّ: وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها فيه قولان: أحدهما: أنه اسم جنس يعمّ الكافر والمؤمن،

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 643: أي هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حقّ تقواه، وعبده كأنه يراه، وعلم أنه إن لم يره فإنه يراه. وقال ابن جرير رحمه الله في «تفسيره» 12/ 658: يقول: لمن خاف الله في الدنيا في سرّه وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. (2) نوح: 18.

وهذا قول من جعلها من أشراط الساعة، لأنها حين ابتدأت لم يعلم الكلُّ أنها من أشراط الساعة، فسأل بعضهم بعضاً حتى أيقنوا. والثاني: أنه الكافر خاصة، وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة، لأن المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها، والكافر جاحد لها لأنه لا يؤمن بالبعث، فلذلك يسأل. قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال الزجاج: «يومئذ» منصوب بقوله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ وَأَخْرَجَتِ ففي ذلك اليوم تحدِّث بأخبارها، أي: تخبر بما عمل عليها. (1560) وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنّ أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا. قوله عزّ وجلّ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها قال الفراء: تحدِّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها. قال ابن عباس: أوحى لها، أي: أوحى إليها، وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها. وقال أبو عبيدة: «لها» بمعنى «إليها» . قال العجَّاج: وحى لها القرار فاستقرّت قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أي: يرجعون عن موقف الحساب أَشْتاتاً أي: فِرَقاً. فأهل الإيمان على حدةٍ وأهل الكفر على حِدة لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ وقرأ أبو بكر الصديق، وعائشة، والجحدري: «لِيَروْا» بفتح الياء. قال ابن عباس: أي ليروا جزاء أعمالهم. فالمعنى: أنهم يرجعون عن الموقف فرقاً لينزلوا منازلهم من الجنة والنار. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: تُحَدِّث أخبارها بأن ربَّك أوحى لها ليروا أعمالهم يومئذ يصدر الناس أشتاتاً. فعلى هذا: يرون ما عملوا من خير أو شر في موقف العرض.

_ يشبه الحسن، أخرجه الترمذي 2429 و 3353 والنسائي في «التفسير» 713 وأحمد 2/ 374 وابن حبان 7360 من طرق عن ابن المبارك عن يحيى بن أبي سليمان به. إسناده لين، رجاله ثقات سوى يحيى بن أبي سليمان. قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوي يكب حدثه، ووثقه ابن حبان والحاكم، وقال ابن عدي: هو ممن تكتب أحاديثه وإن كان بعضها غير محفوظ. وذكر له ابن عدي أحاديث فيها غرابة، وليس هذا منها، وقد روى عنه غير واحد من الثقات كشعبة وابن أبي ذئب وغيرهما، فالرجل غير متفق على ضعفه كما ترى، - وقال الحافظ في «التقريب» : لين الحديث، ولحديثه شواهد بمعناه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه الحاكم 2/ 532: من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 542 من طريق شعبة عن يحيى به. وصححه الحاكم، وقال الذهبي: يحيى هذا منكر الحديث قاله البخاري. قلت: أخذ الذهبي رحمه الله بالأشد، فقد تفرد البخاري بجرحه، في حين خالفه أبو حاتم فلينه، وابن حبان والحاكم فوثقاه. وله شاهد من حديث أنس، أخرجه البيهقي في «الشعب» 7296 لكنه من طريق رشدين بن سعد عن يحيى بن أبي سليمان، ورشدين واه، وهذا من أوهامه كونه عن أنس، والمحفوظ عن سليمان عن سعيد عن أبي هريرة. فهذا شاهد لا يفرح به. وله شاهد من حديث ربيعة الجرشي، أخرجه الطبراني 4596، وفيه ابن لهيعة ضعيف، وربيعة مختلف في صحبته، والجمهور على أن له صحبة. ويشهد لأصل معناه حديث مسلم 1013 والترمذي 2208 وابن حبان 6697 من حديث أبي هريرة- وقد ورد في تعليق ابن كثير رحمه الله السابق، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تقيء الأرض ... » الحديث.

قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ قال المفسرون: من يعمل في الدنيا مثقال ذرة من الخير أو الشر يره، وقرأ أبان عن عاصم «ير» بضم الياء في الحرفين. وقد بَيَّنَّا معنى «الذَّرَّة» في سورة النساء وفي معنى هذه الرؤية قولان: أحدهما: أنه يراه في كتابه. والثاني: يرى جزاءه. (1561) وذكر مقاتل: أنها نزلت في رجلين كانا بالمدينة، كان أحدهما يستقلُّ أن يعطيَ السائل الكِسْرة، أو التمرة، وكان الآخر يتهاون بالذّنب اليسير، فأنزل الله عزّ وجلّ هذا يُرَغِّبُهم في القليل من الخير، ويُحَذِّرهم اليسير من الشرّ.

_ عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره هذا لا شيء.

سورة العاديات

سورة العاديات وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن مسعود، وعطاء، وعكرمة، وجابر. والثاني: مدنيّة، قاله ابن عباس، وقتادة، ومقاتل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) قوله عزّ وجلّ: وَالْعادِياتِ فيه قولان: أحدهما: أنها الإبل في الحج، قاله علي، وابن مسعود، وعبيد بن عمير، والقرظي، والسدي. وروي عن علي أنه قال: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال هذا في صفة وقعة بدر. قال: وما كان معنا يومئذ إلا فرس. وفي بعض الحديث أنه كان معهم فرسان. والثاني: أنها الخيل في سبيل الله، قاله ابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، وقتادة، وعطية، والربيع، واللغويون. وكان ابن عباس يذهب إلى أن هذا كان في سريَّة، (1562) فروى عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث خيلاً، فلم يأته خبرها شهراً، فنزلت وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ضبحت بمناخرها فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قدحت بحوافرها الحجارة فأورت ناراً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً صبحت القوم بغارة فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أثارت بحوافرها التراب فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قال: صبحت الحي جميعا. (1563) وقال مقاتل: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سريّة إلى حيّين من كنانة واستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، فأبطأ عنه خبرها، فجعل اليهود والمنافقون إذا رأوا رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم تناجَوْا، فيظن الرجل أنه قد قُتِلَ أخوه أو أبوه، أو عمه، فيجد من ذلك، فنزلت: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً

_ أخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 6/ 651 عن ابن عباس به، ولم أقف على إسناد، وتفرد ابن مردويه به دليل وهنه. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره هذا لا شيء.

فأخبر الله عزّ وجلّ كيف فعل بهم. قال الفراء: الضبح: أصوات أنفاس الخيل إذا عَدَوْنَ. وقال ابن قتيبة: الضبح: صوت حلوقها إذا عَدَتْ. وقال الزجاج: ضبحها: صوت أجوافها إذا عدت. قوله عزّ وجلّ: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فيه خمس أقوال «1» : أحدها: أنها الخيل تُوري النار بحوافرها إذا جرت، وهذا قول الجمهور. قال الزجاج: إذا عدت الخيل بالليل، فأصابت بحوافرها الحجارة، انقدحت منها النيران. والثاني: أنها نيران المجاهدين إذا أُوقدت، روي عن ابن عباس. والثالث: مَكْرُ الرجال في الحرب، قاله مجاهد، وزيد بن أسلم. والرابع: نيران الحجيج بالمزدلفة، قاله القرظي. والخامس: أنها الألسنة إذا ظهرت بها الحجج وأُقيمت بها الدلائل على الحق وفضح بها الباطل، قاله عكرمة. قوله عزّ وجلّ: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً هي التي تغير على العَدُوِّ عند الصباح، هذا قول الأكثرين. وقال ابن مسعود: فالمغيرات صبحاً حين يُفيضون من جمع. قوله عزّ وجلّ: فَأَثَرْنَ بِهِ قال الفرّاء: يريد به الوادي ولم يذكر قبل ذلك، وهذا جائز، لأن الغبار لا يثار إلا من موضع. والنقع: الغبار، ويقال: التراب. وقال الزجاج: المعنى: فأثرن بمكان عَدْوِهِنَّ، ولم يتقدم ذكر المكان، ولكن في الكلام دليل عليه، قوله: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قال المفسرون: المعنى: توسطن جمعاً من العدو، فأغارت عليهم. وقال ابن مسعود: فوسطن به جمعاً، يعني مزدلفة. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ هذا جواب القسم. والإنسان هاهنا: الكافر. قال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقال مقاتل: نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي وفي «الكَنُود» ثلاثة أقوال: (1564) أحدها: أنه الذي يأكل وحده، ويمنع رِفْده، ويضرب عبده، رواه أبو أُمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. والثاني: أنه الكفور، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثالث: لَوَّام لِرَبِّهِ يَعُدُّ المصيبات، وينسى النِّعَم، قاله الحسن. قال ابن قتيبة: والأرض الكنود: التي لا تُنْبِتُ شيئاً. قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله عزّ

_ ضعيف جدا. أخرجه الطبري 37840 وكذا الطبراني 7778 و 7958 من حديث أبي أمامة، وإسناده ضعيف جدا لضعف جعفر بن الزبير، بل هو متروك، وكذبه شعبة.

وجلّ، تقديره: وإن الله على كفره لشهيد. والثاني: أنها ترجع إلى الإنسان، تقديره: إن الإنسان شاهد على نفسه أنه كنود، روي القولان عن ابن عباس «1» . قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ يعني: الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ يعني: المال لَشَدِيدٌ. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: وإنه من أجل حُبِّ المال لبخيلٌ، هذا قول الحسن، وابن قتيبة، والزجاج. قال أبو عبيدة: ويقال للبخيل: شديد، ومُتَشَدِّدٌ قال طرفة. أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَام ويَصْطَفي ... عَقِيلَةَ مَالِ البَاخِلِ المُتَشدِّدِ والثاني: وإنه للخير لشديد الحبِّ، وهذا اختيار الفراء. قال: فكأن الكلمة لمَّا تقدم فيها الحب، وكان موضعه أن يضاف إليه «شديد» ، حذف الحبّ من آخره لما جرى ذكره في أوّله، ولرؤوس الآيات. ومثله: اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «2» فلما جرى ذكر الريح قبل اليوم طرحت من آخره. قوله عزّ وجلّ: أَفَلا يَعْلَمُ يعني: الإنسان المذكور إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أي: أُثير وأُخرج وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي: مُيِّز واستُخرج. والتحصيل: تمييز ما يحصل. وقال ابن عباس: أُبرز ما فيها، وقال ابن قتيبة: مُيِّزَ ما فيها من الخير والشر. وقال أبو سليمان الدمشقي: المعنى: لو علم الإنسان الكافر ما له في ذلك اليوم لزهد في الكفر، وبادر إلى الإسلام. ثم ابتدأ فقال عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ وقال غيره: إنّما قرئت «إن» بالكسر لأجل اللام، ولو لاها كانت مفتوحة بوقوع العلم عليها. فإن قيل: أليس الله خبيراً بهم في كل حال، فلم خص ذلك اليوم؟ فالجواب أن المعنى: أنه يجازيهم على أفعالهم يومئذ، ومثله: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ «3» ، معناه: يجازيهم على ذلك، ومثله: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ «4» .

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 669: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالموريات التي توري النيران قدحا، فالخيل توري بحوافرها، والناس يورونها بالزند، واللسان مثلا يوري بالمنطق، والرجال يورون بالمكر مثلا، وكذلك الخيل تهيج الحرب بين أهلها إذا التقت في الحرب، ولم يضع الله دلالة على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فكل ما أورت النار قدحا، فداخلة فيما أقسم به لعموم ذلك بالظاهر. (2) إبراهيم: 18. [.....] (3) النساء: 63. (4) غافر: 16.

سورة القارعة

سورة القارعة وهي مكّيّة بإجماعهم وقد ذكرنا تفسير فاتحتها في أول «الحاقّة» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ قال الزّجّاج اليوم منصوب على الظرف. المعنى: يكون يوم يكون الناس كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه غوغاء الجراد، قاله الفراء. قال ابن قتيبة: غوغاء الجراد: صغاره، ومنه قيل لعامة الناس: غوغاء. والثاني: أنه طير ليس ببعوض ولا ذِبَّان، قاله أبو عبيدة. والثالث: أنه ما تهافت في النار من البعوض، قاله ابن قتيبة. وكذلك قال الزّجّاج: الفراش ما يُرى كصغار البَقِّ يتهافت في النار. وشَبَّه الناس في وقت البعث به وبالجراد المنتشر، لأنهم إذا بعثوا ماج بعضهم في بعض. وذكر الماوردي: أن هذا التشبيه للكفار، فهم يتهافتون في النار يوم القيامة تَهَافُتَ الفراش. فأمّا «المبثوث» فهو المنتشر المتفرّق. قوله عزّ وجلّ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وقد شرحناه في (سأل سائل) «1» ، و «المنفوش» الذي قد ندف. قال مقاتل: وتصير الجبال كالصوف المندوف. فإذا رأيت الجبل قلت: هذا جبل: فإذا مسسته لم تر شيئاً، وذلك من شِدَّة الهَوْل. قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، أي: رجحت بالحسنات، وقد بَّينَّا هذه الآية في أول الأعراف «2» وبيَّنَّا معنى «عيشة راضية» في الحاقة «3» . قوله عزّ وجلّ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، قرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرّف، والجحدري «فإمه»

_ (1) المعارج: 9. (2) الأعراف: 8. (3) الحاقة: 21.

بكسر الهمزة. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أُمُّ رأسه هاوية، يعني: أنه يهوي في النار على رأسه، هذا قول عكرمة، وأبي صالح. والثاني: أنها كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد قالوا: هَوَتْ أُمُّه، قاله قتادة. والثالث: أن المعنى، فمسكنُه النار. وإنما قيل لمسكنه: أمّه، لأنّ الأصل السّكون إلى الأمّهات. فالنّار لهذا كالأُمِّ، إذ لا مأوى له غيرها، هذا قول ابن زيد، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج، ويدل على صحة هذا. (1565) ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: إذا مات العبد تلقى رُوحُه أرواحَ المؤمنين، فتقول له: ما فعل فلان؟ فإذا قال: مات، قالوا: ذُهِبَ به إلى أُمِّه الهاوية، فَبَئِسَتِ الأُمُّ، وبِئستِ المربَّيَة. قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ يعني: الهاوية. قرأ حمزة، ويعقوب «ما هي» بحذف الهاء الأخيرة في الوصل، وإثباتها في الوقف. وقرأ الباقون بإثباتها في الحالين. قال الزّجّاج: الهاء في «هيه» دخلت في الوقف، لتبيين فتحة الياء، فالوقف «هيه» والوصل هي نار. والذي يجب اتباعُ المصحف. والهاء فيه ثابتة فيوقف عليها، ولا توصل، قوله: نارٌ حامِيَةٌ أي: حارَّة قد انتهى حرها.

_ تفرد ابن مردويه برفعه، كما في «الدر» 6/ 656 وهو غير حجة فيما ينفرد به. وأخرجه الحاكم 2/ 533 عن الحسن مرسلا، ومراسيل الحسن واهية. وورد من كلام أبي أيوب موقوفا عليه كما في «الدر» 6/ 656، وهو أصح، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» 2802 بتخريجنا.

سورة التكاثر

سورة التّكاثر وهي مكّيّة بإجماعهم وفي سبب نزولها قولان: (1566) أحدهما: أنّ اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، فألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلّالا، فنزلت هذه فيهم، قاله قتادة. (1567) والثاني: أنّ حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني سهم كان بينهما لحاء، فقال هؤلاء: نحن أكثر سيّدا، وأعزّ نفرا. وقال أولئك مثل هذا، فتعادّوا السّادة والأشراف أيّهم أكثر، فكثّرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعدّ موتانا، فزاروا القبور، فعدّوا موتاهم، فكثّرهم بنو سهم، لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية، فنزلت هذه فيهم قاله ابن السّائب، ومقاتل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) قوله تعالى: أَلْهاكُمُ وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، والشّعبي، وأبو العالية، وابن عمران، وابن أبي عبلة: «أَأَلهاكم» بهمزتين مقصورتين على الاستفهام. وقرأ معاوية، وعائشة «آلهاكم» بهمزة واحدة ممدودة استفهاماً أيضاً. ومعنى ألهاكم: شغلكم عن طاعة الله وعبادته. وفي المراد بالتكاثر ثلاثة أقوال: أحدها: التكاثر بالأموال والأولاد، قاله الحسن. والثاني: التفاخر بالقبائل والعشائر، قاله قتادة. والثالث: التشاغل بالمعاش والتجارة، قاله الضحاك. وفي قوله عزّ وجلّ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ قولان: أحدهما: حتى أدرككم الموت على تلك الحال، فصرتم في المقابر زُوَّاراً ترجعون منها إلى منازلكم من الجنة أو النار، كرجوع الزائر إلى منزله. والثاني: حتى زرتم المقابر فَعَدَدْتم من فيها من موتاكم.

_ ضعيف. أخرجه الطبري 37869، 37870 عن قتادة، وليس فيه ذكر اليهود، والخبر ضعيف لإرساله، وذكر اليهود يبطل الخبر لأن المصنف نقل الإجماع على أن السورة مكية، وأخبار يهود مدنية. عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ومقاتل، وكلاهما ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.

قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال الزّجّاج، هي ردع وتنبيه. والمعنى: ليس الأمر الذي ينبغي أن يكونوا عليه التّكاثر. قوله عزّ وجلّ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ هذا وعيد والمعنى سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت. وقيل: العلم الأول: يقع عند نزول الموت. والثاني: عند نزول القبر. قوله عزّ وجلّ: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ المعنى: لو تعلمون الأمر علماً يقيناً لَشَغَلَكم ما تعلمون عن التكاثر، والتفاخر. وجواب «لو» محذوف وهو ما ذكرنا. ثم أوعدهم وعيداً آخر فقال عزّ وجلّ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة «لتَرون» «ثم لتَرونها» بفتح التاء. فيها وقرأ ابن عامر والكسائيّ (لترون الجحيم) بضمّ التاء (ثم لتَرونها) بفتح التاء، وقرأ مجاهد، وعكرمة، وحميد، وابن أبي عبلة «لترون» ثم «لتُرونها» بضم التاء فيهما من غير همز، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أي: مشاهدة، فكان المراد ب «عين اليقين» نفسه، لأن عين الشيء: ذاته. قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ اختلفوا، هل هذا السؤال عام، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه خاص للكفار، قاله الحسن. والثاني: عام، قاله قتادة. وللمفسرين في المراد بالنعيم عشرة أقوال: (1568) أحدها: أنه الأمن والصحة، رواه ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وتارة يأتي موقوفاً عليه، وبه قال مجاهد والشعبي. (1569) والثاني: أنه الماء البارد، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والثالث: أنه خبز البُرّ والماءُ العَذْبُ، قاله أبو أُمامة. والرابع: أنه ملاذ المأكول والمشروب، قاله جابر بن عبد الله. والخامس: أنه صحة الأبدان، والأسماع، والأبصار، قاله ابن عباس. وقال قتادة: هو العافية. والسادس: أنه الغداء، والعشاء، قاله الحسن. والسابع: الصحة والفراغ، قاله عكرمة. والثامن: كل شيء من لذة الدنيا، قاله مجاهد. والتاسع: أنه إنعام الله على الخلق بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلم، قاله القرظي. والعاشر: أنه صنوف النعم، قاله مقاتل. والصحيح أنه عام في كل نعيم، وعام في جميع الخلق، فالكافر يسأل توبيخاً إذا لم يشكر المنعم، ولم يوحِّده. والمؤمن يسأل عن شكرها. (1570) وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: «ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهن وأسأله عما سوى ذلك، بيت يُكنُّه، وما يقيم به صلبه من الطعام، وما يواري به عورته من اللباس» .

_ لا يصح مرفوعا، إنما هو من كلام ابن مسعود، كذا أخرجه الطبري 37884. وورد من قول مجاهد برقم 37881 و 37883 عن الشعبي من قوله، وهو الصواب والمرفوع فيه انقطاع وضعف. وانظر «تفسير الشوكاني» 2809. جيد. أخرجه الترمذي 3358 والحاكم 4/ 138 والطبري 37899 والبيهقي 4607 من طرق عن عبد الله بن العلاء بن زبر عن الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورجاله رجال البخاري سوى الضحاك بن عبد الرحمن، وهو ثقة. وانظر «تفسير الشوكاني» 2714. أخرجه البيهقي 10368 بسند قوي عن الحسن مرسلا. وله شاهد من حديث عثمان، أخرجه الترمذي 2444 والحاكم 4/ 412 والطبراني 1/ 91، وإسناده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

سورة العصر

سورة العصر وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، وابن الزّبير، والجمهور. والثاني: مدنيّة، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) قوله عزّ وجلّ: وَالْعَصْرِ فيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه الدَّهر، قاله ابن عباس، وزيد بن أسلم، والفراء، وابن قتيبة. وإنما أقسم بالدهر لأن فيه عبرة للناظر من مرور الليل والنهار على تقدير لا ينخرم. والثاني: أنه العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها، قاله الحسن وقتادة. والثالث: صلاة العصر، قاله مقاتل. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ قال الزجاج: هو جواب القسم. والإنسان هاهنا بمعنى الناس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس تريد الدراهم. والخسر والخسران في معنى واحد. قال أهل المعاني: الخسر: هلاك رأس المال أو نقصه. والإنسان إذا لم يستعمل نفسه وعمره فيما يوجب له الربح الدائم، فهو في خسران، لأنه عمل في إهلاك نفسه وعمره، وهما أكبر رأس ماله، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أي: صدَّقوا الله ورسوله، وعملوا بالطاعة وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ أي: بالتوحيد، والقرآن، واتباع الرسول وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ على طاعة الله، والقيام بشريعته. وقال إبراهيم في تفسير هذه السورة: إن الإنسان إذا عُمِّر في الدنيا لفي نقص وضعف، إلا المؤمنين، فإنهم يكتب لهم أجور أعمالهم التي كانوا يعملون في شبابهم وصحّتهم.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 657: العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم، من خير وشر، وقال مالك، عن زيد بن أسلم: هو العشي، والمشهور الأول. وقال الشافعي رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. وقال الزمخشري في «الكشاف» 4/ 800: أقسم بصلاة العصر لفضلها، بدليل قوله تعالى وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وقوله عليه الصلاة والسلام: «من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله» متفق عليه، ولأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس على تجارتهم ومكاسبهم آخر النهار، واشتغالهم بمعايشهم.

سورة الهمزة

سورة الهمزة وهي مكّيّة بإجماعهم قال هبة الله المفسّر: وقد قيل: إنها مدنيّة. واختلف المفسّرون هل نزلت في حقّ شخص بعينه، أم نزلت عامّة؟ على قولين: أحدهما: نزلت في حقّ شخص بعينه. ثم فيه ستة أقوال «1» : أحدها: الأخنس بن شريق، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال السّدّيّ، وابن السّائب. والثاني: العاص بن وائل السّهمي، قاله عروة. والثالث: جميل بن عامر، قاله ابن أبي نجيح. والرابع: الوليد بن المغيرة، قاله ابن جريج، ومقاتل. والخامس: أميّة بن خلف، قاله ابن إسحاق. والسادس: أبيّ بن خلف، حكاه الماوردي. والقول الثاني: أنها نزلت عامّة لا في شخص بعينه، قاله مجاهد. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ اختلفوا في الهُمَزَة واللُّمَزَة هل هما [بمعنى واحد، أم مختلفان؟] على قولين: أحدهما: أنهما مختلفان. ثم فيهما سبعة أقوال: أحدها: أن الهُمَزَة: المُغْتَاب، واللُّمَزَة: العيَّاب، قاله ابن عباس. والثاني: أن الهُمَزَة: الذي يهمز الإنسان في وجهه. واللُّمَزَة: يَِلْمِزُه إذا أدبر عنه، قاله الحسن، وعطاء، وأبو العالية. والثالث: أن الهُمَزَة: الطعَّان في الناس، واللُّمَزَة: الطعَّان في أنساب الناس، قاله مجاهد. والرابع: أن الهُمَزَة: بالعين، واللُّمَزَة: باللسان، قاله قتادة. والخامس: أن الهُمَزَة: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللُّمَزَة: الذي يَلْمِزهم بلسانه، قاله ابن زيد. والسادس: أن الهُمَزَة: الذي يهمز بلسانه، واللُّمَزَة: الذي يلمز بعينه، قاله سفيان الثوري. والسابع: أن الهُمَزَة: المغتاب، واللُّمَزَة: الطاعن على الإنسان في وجهه، قاله مقاتل.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 688: والصواب من القول في ذلك، أن يقال: إن الله عم بالقول كل همزة لمزة، كل من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها.

والقول الثاني: أن الهُمَزَة: العَيَّاب الطعان، واللُّمَزَة مثله. وأصل الهمز واللمز: الدفع، قاله ابن قتيبة، وكذلك قال الزجاج: الهُمَزَة اللُّمَزَة: الذي يغتاب الناس ويعضهم، قال ابن فارس: والعضيهة الكذب والبهتان قال الشاعر: إذا لَقِيتُكَ عَنْ كُرْهٍ تُكَاشِرُني ... وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزة قوله عزّ وجلّ: الَّذِي جَمَعَ مالاً قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وروح: «جَمَّع» بالتشديد. والباقون بالتخفيف. قوله عزّ وجلّ: وَعَدَّدَهُ قرأ الجمهور بتشديد الدال. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وابن يعمر بتخفيفها. وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: أحصى عَدَدَه، قاله السدي. والثاني: أَعَدَّه لما يكفيه في السِّنين، قاله عكرمة. قال الزجاج: من قرأ «عدَّده» بالتشديد، فمعناه: عدَّده للدهور. ومن قرأ «عدده» بالتخفيف، فمعناه: جمع مالا وعدّده. أي: وقوما اتّخذهم أنصارا. قوله عزّ وجلّ: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أخلده بمعنى يخلده، والمعنى: يظن ماله مانعاً له من الموت، فهو يعمل عمل من لا يظن أنه يموت كَلَّا أي: لا يخلده ماله ولا يبقى له لَيُنْبَذَنَّ أي: ليُطْرَحَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وهو اسم من أسماء جهنم. سميت بذلك لأنها تحطم ما يُلقى فيها، أي: تكسره، فهي تكسر العظم بعد أكلها اللحم. ويقال للرجل الأكول: إنه لَحُطَمة. وقرأ أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وابن أبي عبلة، وابن محيصن: «لينبذانِّ» بألف ممدودة، وبكسر النون، وتشديدها، أي: هو وماله. قوله عزّ وجلّ: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي: تأكل اللحم والجلود حتى تقع على الأفئدة فتحرقها. وقال الفرّاء: يبلغ ألمها للأفئدة. والاطِّلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى واحد، والعرب تقول: متى طلعَت أرضنا؟ أي: بلغتَ. وقال ابن قتيبة: تطّلع على الأفئدة، أي: تقوى عليها وتشرف. وخص الأفئدة، لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه، فأخبر أنهم في حال من يموت، وهم لا يموتون. وقد ذكرنا تفسير «المؤصدة» في سورة البلد «1» . قوله عزّ وجلّ: فِي عَمَدٍ قرأ حمزة والكسائيّ، وخلف، وعاصم إلا حفصاً بضم العين، وإسكان الميم. وقرأ الباقون بفتحهما. قال الفرّاء وهما حيطان للعمود، وقرأ هارون عن ابن عمرو بضم العين وإسكان الميم. قال المفسرون: وهي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. و «في» بمعنى الباء. والمعنى: مطبَقة بعُمُدٍ. قال قتادة: وكذلك هو في قراءة عبد الله. وقال مقاتل: أُطبقت الأبواب عليهم، ثم شُدَّت بأوتادٍ من حديد، حتى يرجع عليهم غَمُّها وحَرُّها. و «ممدَّدة» صفة العُمُد، أي: أنها ممدودة مطوّلة، وهي أرسخ من القصيرة. وقال قتادة: هي عُمُدٌ يعذَّبون بها في النار. وقال أبو صالح: «عمد ممددة» قال: القيود الطّوال.

_ (1) البلد: 20.

سورة الفيل

سورة الفيل وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ فيه قولان: أحدهما: ألم تُخْبَرْ، قاله الفراء. والثاني: ألم تَعْلَم، قاله الزجاج. ومعنى الكلام معنى التعجب. وأصحاب الفيل هم الذين قصدوا تخريب الكعبة وفي سبب قصدهم لذلك قولان «1» : أحدهما: أن أبرهة بني بيعةً وقال: لست منتهياً حتى أضيف إليها حَجَّ العرب، فسمع بذلك رجل من بني كنانة، فخرج، فدخلها ليلاً، فأحدث فيها، فبلغ ذلك أبرهة، فحلف ليسرنّ إلى الكعبة فيهدِمَها، قاله ابن عباس. والثاني: أن قوماً من قريش خرجوا في تجارة إلى أرض النجاشي فنزلوا في جنب بِيعَةٍ فأوقدوا ناراً، وشَوَوْا لحماً، فلما رَحَلُوا هَبَّت الرِّيح فاضطرم المكان ناراً، فغضب النجاشي لأجل البِيَعة، فقال له كبراء أصحابه- منهم حجر بن شراحيل، وأبو يكسوم-: لا تحزن، فنحن نَهدِم الكعبة، قاله مقاتل. وقال ابن اسحاق: أبو يكسوم اسمه أبرهة بن الأشرم. وقيل: كان أبرهة صاحب جيشه وقيل: وزيره، وحِجْر من قُوَّادِه. ذكر الإِشارة إِلى القصة ذكر أهل التفسير أن أبرهة لما سار بجنوده إلى الكعبة ليهدِمها خرج معه بالفيل، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على نَعَم الناس، فأصابوا إبلاً لعبد المطلب، وبعث بعض جنوده، فقال: سل عن شريف مكة، وأخبره أني لم آتِ لقتال، وإنما جئت لأهدِم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقيَ عبد المطلب بن هاشم، فقال: إن الملك أرسلني إليك لأخبركَ أنه لم يأتِ لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم ينصرف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، وما لنا به يد، إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه، فهو بيته

_ (1) انظر قصة أصحاب الفيل في «دلائل النبوة» للبيهقي 1/ 85 و «السيرة النبوية» لابن هشام 1/ 43 و «تفسير السمرقندي» 3/ 512- 515 و «تفسير ابن كثير» 4/ 587- 591 و «تفسير البغوي» 4/ 494- 497. و «الدر» 6/ 672- 676 وخبر أبرهة ومحاولته هدم الكعبة، خبر مشهور بل متواتر وشهرته تغني عن الإسناد والله تعالى أعلم.

وحرمه، وإن يخلّ بينه وبين ذلك، فو الله ما لنا به قوة. قال: فانطلق معي إلى الملك، فلما دخل عبد المطلب على أبرهة أعظمه، وأكرمه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان، فقال: حاجتي أن يردَّ عليَّ مائتي بعير أصابها. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، حين جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك لأهدمنّه، فلم تكلِّمني فيه، وكلَّمتني لإبل أصبتُها. فقال عبد المطلب: أنا ربُّ هذه الإبل، ولهذا البيت رَبُّ سيمنعه. فأمر بإبله فَرُدَّت عليه، فخرج، وأخبر قريشاً، وأمرهم أن يتفرَّقوا في الشعاب ورؤوس الجبال خوفاً من مَعَرَّة الجيش إذا دخل، ففعلوا، فأتى عبد المطلب الكعبة، فأخذ بحلقة الباب، وجعل يقول: يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لهم سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا إنَّ عَدُوَّ البيت مَنْ عَادَاكا ... إمْنَعْهُمُ أن يُخْرِبُوا قُرَاكا وقال أيضاً: لاَ هُمَّ إنَّ المرء يمنع ... رحله وحلاله فامنع حلالك لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم عدوا مِحَالَكْ جَرُّوا جميعَ بلادهم ... والفيلَ كي يَسْبُوا عِيَالَكْ عَمِدُوا حِمَاك بكيدِهم ... جهلاً وما رَقَبُوا جلالك إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك ثم إن أبرهة أصبح متهيئاً للدخول، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه، فأبى، فوجَّهوه إلى اليمن راجعاً، فقام يهرول، ووجَّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، وإلى المشرق ففعل مثل ذلك، فوجَّهوه إلى الحرم، فأبى، فأرسل الله طيراً من البحر. واختلفوا في صفتها، فقال ابن عباس: كانت لهم خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وقال عكرمة: كانت لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال ابن إسحاق: كانت أمثال الخطاطيف. واختلفوا في ألوانِها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كانت خضراء، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير. والثاني: سوداء، قاله عبيد بن عمير. والثالث: بيضاء، قاله قتادة. وقال: وكان مع كل طير ثلاثة أحجار، حَجَرانِ في رجليه، وحجر في منقاره. واختلفوا في صفة الحجارة فقال بعضهم: كانت كأمثال الحمص والعدس. وقال عبيد بن عمير: بل كان الحجر كرأس الرجل وكالجمل، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك. وكان الحجر يقع على رأس الرجل، فيخرج من دبره. وقيل: كان على كل حجر اسم الذي وقع عليه، فهلكوا ولم يدخلوا الحرم، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فتساقطت أنامله، وانصدع صدره قطعتين عن قلبه، فهلك، ورأى أهل مكّة الطير قد أقبلت من ناحية البحر، فقال عبد المطلب: إن هذه الطير غريبة. ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس ينظر إلى القوم، فرجع يركض وهو يقول: هلك القوم جميعاً، فخرج عبد المطلب وأصحابه فغنموا أموالهم. وقيل: لم ينج من القوم إلّا أبو يكسوم، فسار، وطائر يطير على رأسه من فوقه، ولا يشعر به، حتى دخل على النجاشي، فأخبره بما أصاب القوم، فلما أتم كلامه رماه الطائر فمات، فأرى الله تعالى النجاشي كيف

كان هلاك أصحابه. واختلفوا كم كان بين مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين هذه القصة على ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وهو الأصح. والثاني: كان بينهما ثلاث وعشرون سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أربعون سنة، حكاه مقاتل. قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ وهو ما أرادوا من تخريب الكعبة فِي تَضْلِيلٍ أي: في ذهاب. والمعنى: أن كيدهم ضَلَّ عما قصدوا له، فلم يصلوا إلى مرادهم وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. وفي «الأبابيل» خمسة أقوال: أحدها: أنها المتفرِّقة من هاهنا وهاهنا، قاله ابن مسعود، والأخفش. والثاني: أنها المتتابعة التي يتبع بعضها بعضاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: الكثيرة، قاله الحسن، وطاوس. والرابع: أنها الجمع بعد الجمع، قاله عطاء، وأبو صالح، وكذلك قال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج: «الأبابيل» : جماعات في تفرقة. والخامس: المختلفة الألوان، قاله زيد بن أسلم. قال الفراء، وأبو عبيدة: «الأبابيل» لا واحد لها. قوله عزّ وجلّ: تَرْمِيهِمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن يعمر وحميد وأبو حنيفة «يرميهم» بالياء. وقد بينا معنى «سجِّيل» في هود «2» ومعنى «العصف» في سورة الرّحمن «3» عزّ وجلّ. في معنى «مأكول» ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون أراد به أنه أُخذ ما فيه من الحب فأكل، وبقي هو لا حب فيه. والثاني: أن يكون أراد العصف مأكول البهائم، كما يقال للحنطة: هذا المأكول ولمَّا يؤكل. وللماء: هذا المشروب ولمَّا يشرب، يريد أنهما مما يؤكل ويشرب، ذكرهما ابن قتيبة. والثالث: أن المأكول هاهنا: الذي وقع فيه الأُكال. فالمعنى: جعلهم كَوَرَقِ الزَّرْعِ الذي جَفَّ وأُكل: أي: وقع فيه الأُكال، قاله الزّجّاج.

_ (1) قال الحافظ ابن كثير في «السيرة النبوية» 1/ 203: كون رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولد عام الفيل هو قول الجمهور. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6476. وقال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 4/ 659: سورة الفيل: هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله وأرغم آنافهم وخيّب سعيهم وأضلّ عملهم وردهم بشر خيبة، وكانوا قوما نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم يا معشر قريش لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثه النبي محمد صلّى الله عليه وسلم على خاتم الأنبياء. (2) هود: 82. (3) الرحمن: 12.

سورة قريش

سورة قريش ويقال لها: سورة لإيلاف وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، قاله الجمهور. والثاني: مدنيّة، قاله الضّحّاك، وابن السّائب. واختلف القرّاء في «لإيلاف» «1» فقرأ ابن عامر «لإلاف» بغير ياء بعد الهمزة، مثل: لعلاف. وقرأ أبو جعفر بياء ساكنة من غير همز. وروى حمّاد بن أحمد عن الشموني «2» بهمزتين مخففتين، الأولى: مكسورة، والثانية: ساكنة على وزن لفعلان. وقرأ الباقون بهمزة بعدها ياء ساكنة، مثل لعيلاف. وفي لام «لإيلاف» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها موصولة بما قبلها، المعنى: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش. وما قد ألفوا من رحلة الشتاء، والصيف هذا قول الفرّاء والجمهور. والثاني: أنها لام التعجّب، كأنّ المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت، قاله الأعمش، والكسائيّ. والثالث: أنّ معناها متّصل بما بعدها. المعنى: فليعبد هؤلاء ربّ هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، لأنهم كانوا في الرّحلتين آمنين، وإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرّض لهم، قال الزّجّاج: وهذا الوجه قول النّحويين الذي ترتضي أقوالهم. وقال ابن قتيبة: بعض الناس يذهب إلى أنّ هذه السورة وسورة الفيل واحدة، وأكثر الناس على أنهما سورتان، وإن كانتا متّصلتي الألفاظ. والمعنى: أنّ قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء. والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا شجر، وإنما كانت قريش تعيش فيه بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كلّ سنة، رحلة في الشتاء، ورحلة في الصيف إلى الشام. ولولا هاتان الرّحلتان لم يكن به مقام. ولولا أنهم بمجاورة البيت لم يقدروا على التصرّف، فلما قصد أصحاب الفيل هدم الكعب أهلكهم الله لتقيم قريش بالحرم، فذكّرهم الله نعمته بالسورتين. والمعنى: أنه أهلك أولئك ليؤلّف قريشا هاتين الرّحلتين اللّتين بها معاشهم، ومقامهم بمكّة. تقول: ألفت موضع كذا: إذا لزمته، وألفنيه الله، كما تقول: لزمت موضع كذا وكذا، وألزمنيه الله، وكرّر «لإيلاف» للتوكيد، كما تقول: أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن كلّ الناس. وقال الزّجّاج: يقال: ألفت المكان ألفا، وآلفته إيلافا بمعنى واحد.

_ (1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 700: والصواب من القراءة في ذلك عندي من قرأه لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ بإثبات الياء فيهما بعد الهمزة من آلفت الشيء أولفه إيلافا، لإجماع الحجة من القراء عليه. (2) في الأزهرية «محمد بن حبيب الأشموني عن أبي يوسف الأعشى عن أبي بكر عن عاصم» . [.....]

[سورة قريش (106) : الآيات 1 إلى 4]

وأمّا قريش فهم ولد لنضر بن كنانة، وكل من لم يلده النضر فليس بقرشيّ. وقيل: هم ولد فهر بن مالك بن النّضر فمن لم يلده فهر فليس بقرشيّ. وإنما سمّوا قريشا لتجارتهم وجمعهم المال. والقرش: الكسب. يقال: هو يقرش لعياله، ويقترش، أي: يكتسب. وقد سأل معاوية ابن عباس لم سمّيت قريش قريشا؟ فقال ابن عباس: بدابّة تكون في البحر يقال لها: القريش لا تمرّ بشيء من الغثّ والسمين إلّا أكلته. وأنشد: وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سمّيت قريش قريشا تأكل الغثّ والسّمين ولا تترك ... فيه لذي الجناحين ريشا وقال ابن الأنباري: قال قوم: سمّوا قريشا بالاقتراش وهو وقوع الرّماح بعضها على بعض. قال الشاعر: ولمّا دنا الرّايات واقترش القنا ... وطار مع القوم القلوب الرّواجف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قوله عزّ وجلّ: إِيلافِهِمْ قرأ أبو جعفر وابن فليح عن ابن كثير، والوليد بن عتبة عن ابن عامر، والثّعلبي عن ابن ذكوان، عنه «إلا فهم» بهمزة مكسورة من غير ياءٍ بعدها، مثل: علافهم. وروى الخزاعي عن ابن فليح، وأبان بن تغلب عن عاصم «إلفهم» بسكون اللام أيضاً. ورواه الشموني إلا حماداً بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة، ورواه حماد كذلك إلا أنه حذف الياء. وقرأ الباقون بهمزة، بعدها ياء ساكنة مثل «عيلافهم» . وجمهور العلماء على أن الرَّحلتين كانتا للتجارة، وكانوا يخرجون إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء لشدة برد الشام. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. قال الفراء: والرحلة منصوبة بإيقاع الفعل عليها. قوله عزّ وجلّ: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ أي: ليوحِّدوه الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي: بعد الجوع، كما تقول: كسيتك من عري، وذلك أنّ الله آمَنَهم بالحرم، فلم يُتَعرَّض لهم في رحلتهم، وكان ذلك سببا لإطعامهم بعد ما كانوا فيه من الجوع. وروى عطاء عن ابن عباس قال: كانوا في ضُرٍّ ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرّحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى استَغْنوا. قوله عزّ وجلّ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ وذلك أنهم كانوا آمنين بالحرم، إن حضروا حماهم، وإن سافروا قيل: هؤلاء أهل الحرم، فلا يَعْرِضُ لهم أحد.

سورة الماعون

سورة الماعون ويقال لها: سورة أرأيت وفيها قولان: أحدهما: مكّيّة، قاله الجمهور. والثاني: مدنية، روي عن ابن عباس، وقتادة. وقال هبة الله المفسّر: نزل نصفها بمكّة في العاص بن وائل، ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبيّ المنافق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ستة أقوال: أحدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين، قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في عمرو بن عائذ، قاله الضحاك. والثالث: في الوليد بن المغيرة، قاله السدي. والرابع: في العاص بن وائل، قاله ابن السائب. والخامس: في أبي سفيان بن حرب، قاله ابن جريج. والسادس: في أبي جهل، حكاه الماوردي. وفي «الدين» أربعة أقوال: أحدها: أنه حكم الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس. والثاني: الحساب، قاله مجاهد، وعكرمة. والثالث: الجزاء، حكاه الماوردي. والرابع: القرآن، حكاه بعض المفسّرين. ويَدُعُّ بمعنى يدفع. وقد ذكرناه في قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا والمعنى: أنه يدفع اليتيم عن حقه دفعاً عنيفاً ليأخذ ماله. وقد بينا فيما سبق أنهم كانوا لا يورِّثون الصغير، وقيل: يدفع اليتيم إبعاداً له، لأنه لا يرجو ثواب إطعامه وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي: لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه لأنه مكذِّب بالجزاء. قوله عزّ وجلّ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» نزل هذا في المنافقين الذين

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 667: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ إما عن فعلها بالكلية كما قاله ابن عباس، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا فيخرجها عن وقتها بالكلية، كما قاله مسروق وأبو الضحى، وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية.

لا يرجون لصلاتهم ثواباً، ولا يخافون على تركها عقابا. فإن كانوا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم صلوا رياءً، وإن لم يكونوا معه لم يصلّوا، فذلك قوله: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وقال ابن مسعود: والله ما تركوها البتَّة ولو تركوها البتة كانوا كفاراً، ولكن تركوا المحافظة على أوقاتها. وقال ابن عباس: يؤخِّرونها عن وقتها. ونقل عن أبي العالية أنه قال: هو الذي لا يدري عن كم انصرف، عن شفع، أو عن وتر. وردَّ هذا بعض العلماء فقال: هذا ليس بشيء، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد سها في صلاته «1» ، ولأنه قال عزّ وجلّ: عَنْ صَلاتِهِمْ ولم يقل: في صلاتهم، ولأن ذاك لا يكاد يدخل تحت طوق ابن آدم. قلت: ولا أظن أبا العالية أراد السهو النادر، وإنما أراد السهو الدائم، وذلك ينبئنا عن التفات القلب عن احترام الصلاة، فيتوجَّه الذمُّ إلى ذلك لا إلى السهو. وفي الْماعُونَ ستة أقوال: (1571) أحدها: الإبرة، والماء، والنار، والفأس، وما يكون في البيت من هذا النحو، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وإلى نحو هذا ذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية. وروى عنه أبو صالح أنه قال: الماعون: المعروف كلُّه حتى ذَكَرَ القِدر، والقصعة، والفأس. وقال عكرمة: ليس الويل لمن منع هذا، إنما الويل لمن جمعهنّ، فرأى في صلاته، وسها عنها، ومنع هذا. قال الزجاج: والماعون في الجاهلية: كل ما كان فيه منفعة كالفأس، والقدر، والدلو، والقداحة، ونحو ذلك، وفي الإسلام أيضاً. والثاني: أنه الزكاة، قاله عليّ، وابن عمر، والحسن، وعكرمة، وقتادة. والثالث: أنه الطاعة، قاله ابن عباس في رواية. والرابع: المال، قاله سعيد بن المسيب، والزهري. والخامس: المعروف، قاله محمد بن كعب. والسادس: الماء، ذكره الفراء عن بعض العرب قال: وأنشدني: يمج صَبِيرُهُ الماعون صبّا والصّبير: السّحاب.

_ ضعيف جدا. أخرجه ابن الديلمي في «زهر الفردوس» 4/ 168 من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف جدا لضعف عمرو بن شبيب، وفي الإسناد مجاهيل. وحسبه أن يكون من كلام أبي هريرة. وانظر «تفسير الشوكاني» 2823 بتخريجنا.

سورة الكوثر

سورة الكوثر وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: مدنيّة، قاله الحسن، وعكرمة، وقتادة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) وفي «الكوثر» ستة أقوال: أحدها: أنه نهر في الجنة. (1572) روى البخاري في أفراده من حديث أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: بينا أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدُّرِّ المجوَّف. قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربّك عزّ وجلّ: فإذا طينه، أو طينته مسك أذفر. (1573) وروى مسلم أيضاً في أفراده من حديث أنس أيضاً قال: أغفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسّما فقلنا له: لم ضحكت؟ فقال: «إنه أنزلت عليّ آنفاً سورة» فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى ختمها. وقال: «هل تدرون ما الكوثر؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هو نهر أعطانيه الله ربّي عزّ وجلّ في الجنة عليه خير كثير تَرِدُ عليه أمّتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم كواكب السماء، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» . والثاني: أن الكوثر: الخير الكثير الذي أعطي نبيّنا صلّى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. والثالث: العلم والقرآن، قاله الحسن. والرابع: النبوة، قاله عكرمة. والخامس: أنه حوض رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي يكثر الناس

_ صحيح. أخرجه البخاري 6580 وأحمد 3/ 191 و 289 وأبو يعلى 2876 والطبري 38173 والطيالسي 2813 من طرق عن همام عن قتادة عن أنس بن مالك به. وأخرجه أحمد 3/ 103 وابن المبارك في «الزهد» 1612 والطبري 38172 من طريق ابن أبي عدي عن حميد به. وأخرجه النسائي في «التفسير» 726 وأحمد 3/ 115 و 263 والآجري في «الشريعة» 949 و 950 وابن أبي شيبة 11/ 437 وابن حبان 6472 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 327 من طرق عن حميد به. وأخرجه البخاري 4964 وأبو داود 4748 والترمذي 3356 و 3357 وأحمد 3/ 164 و 207 وابن ماجة 4305 والطبري 38170 و 38171 من طرق عن قتادة به. صحيح. أخرجه مسلم 400 والبغوي في «التفسير» 2403 عن أبي بكر بن أبي شيبة به عن أنس. - وأخرجه النسائي 2/ 133- 134 وأبو عوانة 2/ 121 من طريق علي بن مسهر به.

عليه، قاله عطاء. والسادس: أنه كثرة أتباعه، وأمته، قاله أبو بكر بن عياش. قوله عزّ وجلّ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وفي هذه الصلاة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة العيد. وقال قتادة: صلاة الأضحى. والثاني: أنها صلاة الصبح بالمزدلفة، قاله مجاهد. والثالث: الصلوات الخمس، قاله مقاتل. وفي قوله عزّ وجلّ: وَانْحَرْ خمسة أقوال «1» : أحدها: اذبح يوم النحر، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عطاء ومجاهد والجمهور. والثاني: وضع اليمنى على اليسرى عند النحر في الصلاة رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس وهو قول عليّ رضي الله عنه، قال ابن جرير: فيكون المعنى ضع اليمنى على اليسرى عند النحر في الصلاة. والثالث: أنه رفع اليدين بالتكبير إلى النحر، قاله أبو جعفر محمد بن علي. والرابع: أن المعنى: صل لله، وانحر لله، فإن ناساً يصلون لغيره، وينحرون لغيره، قاله القرظي. والخامس: أنه استقبال القبلة بالنحر، حكاه الفراء. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ شانِئَكَ اختلفوا فيمن عنى بذلك على خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي. (1574) قاله ابن عباس: نزلت في العاص بن وائل، لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم على باب المسجد فوقف يحدثه حتى دخل العاص المسجد، وفيه أُناس من صناديد قريش، فقالوا له: مَن الذي كنتَ تُحَدِّث؟ قال: ذلك الأبتر، يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانوا يسمون من ليس له ابن: أبتر، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه السورة. وممن ذهب إلى أنها نزلت في العاص سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنه أبو جهل، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أبو لهب، قاله عطاء. والرابع: عقبة بن أبي معيط، قاله شمر بن عطية. والخامس: أنه عنى به جماعة من قريش، قاله عكرمة. والشّانئ: المبغض، والْأَبْتَرُ: المنقطع عن الخير.

_ لم أره مسندا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 872 عن ابن عباس بدون إسناد. وورد بنحوه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ذكره الشوكاني في «فتح القدير» 6174 وهذا إسناد ساقط. وكون الآية نزلت في العاص بدون هذه القصة. أخرجه الطبري 28216. من مرسل سعيد بن جبير، 38217 من مرسل مجاهد و 38218 من مرسل قتادة. وهو الراجح.

سورة الكافرون

سورة الكافرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن مسعود، والحسن، والجمهور. والثاني: مدنية، روي عن قتادة. ذكر سبب نزولها: اختلفوا على ثلاثة أقوال «1» : (1575) أحدها: أن رهطاً من قريش منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث لقوا العباس بن عبد المطلب، فقالوا: يا أبا الفضل: لو أن ابن أخيك أسلم بعض آلهتنا لصدقناه بما يقول ولآمنّا بإلهه، فأتاه العباس فأخبره فنزلت هذه السورة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. (1576) والثاني: أن عتبة بن ربيعة، وأميّة بن خَلَف لقيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالا يا محمد: لا ندعك حتى تتبع ديننا، ونتبع دينك، فإن كان أمرنا رشداً كنتَ قد أخذتَ بحظِّك منه، وإن كان أمرك رشداً كنا قد أخذنا بحظنا منه، فنزلت هذه السّورة، قاله عبيد بن عمير. (1577) والثالث: أنّ قريشا قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: إن سَرَّك أن نتبع دينك عاماً، وترجع إلى ديننا عاماً، فنزلت هذه السورة، قاله وهب. قال مقاتل في آخرين: نزلت هذه السورة في أبي جهل وفي المستهزئين، ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد. وأما قوله عزّ وجلّ: لا أَعْبُدُ فهو في موضع

_ عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح ليس بثقة، روى الكلبي وأبو صالح عن ابن عباس تفسير ليس له أصل عنه. راجع ترجمتهما في «الميزان» . وانظر ما بعده. عزاه المصنف لعبيد بن عمير، وهو تابعي، فهو مرسل. وأخرجه الطبري 38226 عن ابن إسحاق عن سعيد بن مينا به، وهذا مرسل. ويشهد له ما بعده. مرسل. أخرجه عبد الرزاق 3727 عن وهب بن منبه مرسلا. ويشهد له ما قبله.

«من» ولكنه جعل مقابلا لقوله عزّ وجلّ: ما تَعْبُدُونَ وهي الأصنام. وفي تكرار الكلام قولان «1» : أحدهما: أنها لتأكيد الأمر، وحسم أطماعهم فيه، قاله الفراء. وقد أنعمنا شرح هذا في سورة الرحمن «2» . والثاني: أن المعنى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ في حالي هذه وَلا أَنْتُمْ في حالكم هذه، عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ فيما أستقبل، وكذلك أنتم، فنفى عنه وعنهم ذلك في الحال والاستقبال، وهذا في قوم بأعيانهم، أعلمه الله عزّ وجلّ أنهم لا يؤمنون، كما ذكرنا عن مقاتل، فلا يكون حينئذ تكرارا، هذا قول ثعلب، والزّجّاج. وقوله عزّ وجلّ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فتح ياء «وليَ» نافع، وحفص، وأبان عن عاصم. وأثبت ياء «ديني» في الحالين يعقوب. وهذا منسوخ عند المفسّرين بآية السيف.

_ (1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 676: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في المستقبل قاله البخاري وقيل أن ذلك تأكيد محض. وثم قول رابع، نصره أبو العباس ابن تيمية في بعض كتبه، وهو أن المراد بقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي الفعل لأنها جملة فعلية وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ نفي قبوله لذلك بالكلية، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفي الفعل ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا، وهو قول حسن. واستدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ على أن الكفر كله ملة واحدة، فورث اليهود من النصارى، وبالعكس، لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان. (2) الرحمن: 13.

سورة النصر

سورة النّصر وهي مدنيّة بإجماعهم (1578) وفي أفراد مسلم من حديث ابن عباس أنها آخر سورة نزلت جميعا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ أي: معونته على الأعداء. وَالْفَتْحُ: فتح مكة قال الحسن: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة قالت العرب: أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان فدخلوا في دين الله أفواجاً. قال أبو عبيدة: والأفواج: جماعات في تفرقة. قوله عزّ وجلّ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فيه قولان: أحدهما: أنه الصلاة، قاله ابن عباس. والثاني: التسبيح المعروف، قاله جماعة من المفسرين. قال المفسرون: نُعِيَتْ إليه نفسُهُ بنزول هذه السورة، وأُعْلِم أنه قد اقترب أجله، فأُمر بالتسبيح والاستغفار ليختم له عمره بالزيادة في العمل الصالح «1» . قال ابن عباس: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ: داعٍ من الله، وَوَدَاع من الدنيا. قال قتادة: وعاش بعد نزول هذه السورة سنتين.

_ صحيح، أخرجه مسلم 3024 والنسائي في «التفسير» 733 عن ابن عباس به.

سورة المسد

سورة المسد وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) (1579) وسبب نزولها ما رواه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» صعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الصفا فقال: «يا صباحاه» . فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتُكم إن أخبرتُكم أن العدوَّ مصبِّحكم، أو ممسِّيكم، أما كنتم تصدقوني؟» قالوا: بلى. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . قال أبو لهب: تَباً لك، ألهذا دعوتنا جمعا؟ فأنزل الله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ومعنى: تبت خسرت يدا أبي لهب وَتَبَّ أي: وخسر هو. قال الفراء: الأول: دعاء، والثاني: خبر، كما يقول الرجل: أهلكك الله وقد أهلكك، وجعلك الله صالحاً وقد جعلك. وقيل: ذكر يديه، والمراد نفسه، ولكن هذا عادة العرب يعبِّرون ببعض الشيء عن جميعه، كقوله عزّ وجلّ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «2» . وقال مجاهد: «تبت يدا أبي لهب وتب» ولد أبي لهب. فأما أبو لهب فهو عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقيل: إن اسمه عبد العزى. وقرأ ابن كثير وحدُه «أبي لَهْبٍ» بإسكان الهاء. قال أبو عليّ: يشبه أن يكون كالسّمع والسّمع، والنَّهْرِ والنَّهَرِ. فإن قيل: كيف كناه الله عزّ وجلّ، وفي الكنية نوع تعظيم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه إن صح أن اسمه عبد العُزَّى، فكيف يذكره الله بهذا الاسم وفيه معنى الشرك؟! والثاني: أن كثيراً من الناس اشتهروا بكناهم، ولم يعرف لهم أسماء. قال ابن قتيبة: خبِّرني غير واحد عن الأصمعي أن أبا عمرو بن العلاء، وأبا سفيان بن العلاء اسماهما كناهما، فإن كان اسم أبي لهب كنيته، فإنما ذكره بما لا يعرف إلّا به. قوله عزّ وجلّ: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ، قال ابن مسعود:

_ متفق عليه، وتقدم في سورة الشعراء، الآية: 214.

(1580) لمّا دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقربيه إلى الله عزّ وجلّ قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً، فإني أفتدي بمالي، وولدي، فقال الله عزّ وجلّ: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ قال الزجاج: و «ما» في موضع رفع. المعنى: ما أغنى عنه ماله وكسبه أي: ولده. وكذلك قال المفسرون: المراد بكسبه هاهنا: ولده. و «أغنى» بمعنى يغني سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي: تلتهب عليه من غير دخان وَامْرَأَتُهُ أي: ستصلى امرأته، وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان. وفي هذا دلالة على صحة نبوّة نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام، لأنه أخبر بهذا المعنى أنه وزوجته يموتان على الكفر، فكان ذلك، إذا لو قالا بألسنتهما: قد أسلمنا، لوجد الكفار متعلقا في الرّدّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، غير أن الله علم أنهما لا يسلمان باطنا ولا ظاهرا، فأخبره بذلك. قوله عزّ وجلّ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها كانت تمشي بالنميمة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسّدّيّ، والفرّاء. قال ابن قتيبة: فشبَّهوا النميمة بالحطب، والعداوة والشحناء بالنار، لأنهما يقعان بالنميمة، كما تلتهب النار بالحطب. والثاني: أنها كانت تحتطب الشوك، فتلقيه في طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلاً، رواه عطية عن ابن عباس. وبه قال الضحاك، وابن زيد. والثالث: أن المراد بالحطب: الخطايا، قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنها كانت تعيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالفقر، وكانت تحتطب فعيّرت بذلك، قال قتادة. وليس بالقوي، لأن الله تعالى وصفه بالمال. وقرأ عاصم وحده حَمَّالَةَ الْحَطَبِ بالنصب. قال الزجاج: من نصب «حمالةَ» فعلى الذَّم. والمعنى: أعني: حمالةَ الحطب. والجيد: العُنُق. والمَسَدُ في لغة العرب: الحَبْل إذا كان من ليف المُقْل. وقد يقال لما كان من أوبار الإبل من الحبال: مسد. قال الشاعر: ومسد أمرّ من أيانق «2» وقال ابن قتيبة: المَسَد عند كثير من الناس: اللِّيف دون غيره، وليس كذلك، إنما المسد: كُلُّ ما ضُفِرَ وفُتِل من اللِّيف وغيره. واختلف المفسرون: في المراد بهذا الحبل على ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنها حبال كانت تكون

_ لم أقف له على إسناد، وذكره ابن كثير في «التفسير» 4/ 681 بصيغه التمريض بقوله: وذكر عن ابن مسعود. والصواب في هذا الحديث المتقدم.

بمكة، رواه العَوفي عن ابن عباس وقال الضحاك: حبل من شجر كانت تحتطب به. والثاني: أنه قلادة من وَدَع، قاله قتادة. والثالث: أنه سلسلة من حديد ذَرْعُها سبعون ذراعاً، قاله عروة بن الزبير، وقال غيره: المراد بهذا الحبل: السلسلة التي ذكرها الله تعالى في النار، طولها سبعون ذراعاً. والمعنى: أن تلك السلسلة قد فتلت فتلاً مُحْكَماً، فهي في عنقها تعذَّب بها في النار.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن مسعود، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر. والثاني: مدنية، روي عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك. (1581) وقد روى البخاري في أفراده من حديث أبي سعيد الخدري أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده إنها لَتَعْدِل ثُلُثَ القرآن» . (1582) وروى مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّها تعدل ثلث القرآن» . وفي سببها نزولها ثلاثة أقوال: (1583) أحدها: أن المشركين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم انسب لنا ربك، فنزلت هذه السورة، قاله أُبَيّ بن كعب. (1584) والثاني: أن عامر بن الطّفيل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إلام تدعونا يا محمد؟ قال: إلى الله عزّ وجلّ. قال: صفه لي، أمن ذهب هو، أو من فضّة، أم من حديد، فنزلت هذه السورة، قاله ابن عباس. (1585) والثالث: أن الذين قالوا هذا، قوم من أحبار اليهود قالوا: من أي جنس هو، وممّن

_ صحيح. أخرجه البخاري 5013 و 6643 و 7374 ومالك 1/ 208 وأحمد 3/ 35 وأبو داود 1461 والنسائي 2/ 171 وابن حبان 791 كلهم من حديث أبي سعيد الخدري. وانظر «تفسير القرطبي» 6522. صحيح. أخرجه مسلم 812 وأحمد 2/ 429 من حديث أبي هريرة. وانظر «تفسير الشوكاني» 2871 بتخريجنا. حسن. أخرجه الترمذي 3364 وأحمد 5/ 134 والحاكم 2/ 540 والطبري 28298 والواحدي 880 من حديث أبي العالية عن أبيّ بن كعب به، وإسناده لا بأس به، وله شواهد. وورد من مرسل أبي العالية: أخرجه الطبري 38300. وورد من حديث جبير: أخرجه أبو يعلى 2044 والطبري 38301 والواحدي في «أسباب النزول» 881 وفي «الوسيط» 4/ 570- 571. وإسناده ضعيف، فيه مجالد بن سعيد، وهو ضعيف. وورد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 38299، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها. عزاه البغوي في «التفسير» 4/ 544 لأبي صالح وأبي ظبيان عن ابن عباس، وأبو صالح متهم في روايته عن ابن عباس، وراوية أبي ظبيان ابنه قابوس، وهو ضعيف. ولا يصح هذا الخبر، وتقدم ذكر أربد في سورة الرعد. لم أره عن الضحاك مسندا، ومرسل قتادة، أخرجه الطبري 38303، ولا يصح هذا الخبر، فإن السورة

ورث الدنيا، ولمن يورِّثها؟ فنزلت هذه السورة، قاله قتادة، والضّحّاك. وقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أحدٌ اللهُ» وقرأ أبو عمرو «أحدُ اللهُ» بضم الدال، ووصلها باسم الله. قال الزّجّاج: هو كناية عن ذكر الله عزّ وجلّ. والمعنى: الذي سألتم تبيين نسبته هو الله. و «أحد» مرفوع على معنى: هو أحد، فالمعنى: هو الله، وقرئت «أحدٌ اللهُ الصمد» بتنوين أحد، وقرئت «أحد الله الصمد» بترك التنوين، وقرئت بإسكان الدال «أحدْ اللهُ» وأجودها الرفع بإثبات التنوين، وكُسِرَ التنوين لسكونه وسكون اللام في «الله» ، ومن حذف التنوين، فلالتقاء الساكنين أيضاً، ومن أسكن أراد الوقف ثم ابتدأ «الله الصمد» وهو أردؤها. فأما «الأحد» فقال ابن عباس، وأبو عبيدة: هو الواحد. وفرَّق قوم بينهما. وقال أبو سليمان الخطابي: الواحد: هو المنفرد بالذات، فلا يضاهيه أحد. والأحد: هو المنفرد بالمعنى، لا يشاركه فيه أحد. وأصل «الأحد» عند النحويين: الوحد، ثم أبدلوا عن الواو الهمزة وفي «الصمد» أربعة أقوال: (1586) أحدها: أنه السيِّد الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائج، رواه ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الصَّمَدُ: السّيّد الذي كمل في سؤدده. وقال أبو عبيدة: هو السيد الذي ليس فوقه أحد. والعرب تسمي أشرافها: الصَّمد. قال الأسدي: لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعي بِخَيْريْ بَني أَسَدْ ... بعمرو بن مَسْعودٍ وبالسَّيدِ الصَّمَدْ وقال الزجاج: هو الذي ينتهي إليه السُّؤدُد، فقد صمد له كلّ شيء أي قصد قصده. وتأويل صمود كل شيء له: أن في كل شيء أثر صُنْعه. وقال ابن الأنباري: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد: السيد الذي ليس فوقه أحد تصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم. والثاني: أنه الذي لا جوف له، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسّدّيّ. وقال ابن قتيبة: وكان الدال من هذا التفسير مبدلة من تاء، والمصمت من هذا. والثالث: أنه الدائم. والرابع: الباقي بعد فناء الخلق، حكاهما الخطابي وقال: أصح الوجوه الأول، لأن الاشتقاق يشهد له، فإن أصل الصمد: القصد. يقال: اصمد صمد فلان، أي اقصد قصده. فالصمد: السيد الذي يصمد إليه في الأمور، ويقصد في الحوائج. قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَلِدْ قال مقاتل: لم يلد فيورَّث وَلَمْ يُولَدْ فيشارَك، وذلك أن مشركي العرب قالوا: الملائكة بناتُ الرحمن. وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فبرّأ الله نفسه من ذلك. وقوله عزّ وجلّ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ قرأ الأكثرون بالتثقيل والهمز. ورواه حفص بالتثقيل وقلب الهمز واواً. وقرأ حمزة بسكون الفاء. والكفء: المثل المكافئ. فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولم يكن له أحد كفوا، فقدّم وأخّر لتتّفق رؤوس الآيات.

_ مكية، وأخبار اليهود وسؤالاتهم مدنية، والراجح في ذلك الحديث 1583. لم أقف عليه، وتفرد المصنف بذكره دون سائر المفسرين أمارة لوهنه أو وضعه لخلوه عن كتب الحديث والأثر والتفسير، ولو صح مرفوعا ما اختلف المفسرون في تأويل «الصمد» .

سورة الفلق

سورة الفلق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة في آخرين. والثاني: أنها مكية، رواه كريب عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر. والأول أصح، ويدل عليه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سحر وهو مع عائشة، فنزلت عليه المعوذتان. (1587) فذكر أهل التفسير في سبب نزولهما: أن غلاماً من اليهود كان يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يزل به اليهود حتى أخذ مُشَاطة رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعِدَّة أسنانٍ من مُشْطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها. وكان الذي تولَّى ذلك لبيد بن أعصم اليهودي. ثم دسَّها في بئر لبني زريق، يقال لها: بئر ذروان. ويقال: ذي أروان، فمرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وانتثر شعر رأسه، وكان يرى أنه يأتي النساء وما يأتيهنّ، ويخيّل إليه أن يفعل الشيء، وما يفعله، فبينا هو ذات يوم نائم أتاه مَلَكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما بال الرجل؟ قال: طُبَّ. قال: وما طُبَّ؟ قال: سُحِر. قال: ومن سَحَره؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: وبم طَبَّه؟ قال: بمُشْط ومُشَاطة. قال: وأين هو؟ قال: في جُفِّ طلعةٍ تحت راعوفة في بئر ذروان. والجف: قشر الطلع. والراعوفة: صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت. فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقِّي عليها، فانتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة أما شعرتِ أن الله أخبرني بدائي، ثم بعث علياً، والزبير، وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء تلك البئر، ثم رفعوا الصخرة، وأخذوا الجُفَّ، وإذا فيه مُشَاطة رأسه، وأسنان مشطه، وإذا وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبرة، فأنزل الله عزّ وجلّ المعوذتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة. ووجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم خِفَّة حين انحلت العُقْدَةُ الأخيرة، وجعل جبريل يقول: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن حاسد وعين، والله يشفيك. فقالوا: يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث فنقلته؟ فقال: «أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شرّا» .

_ ذكره الحافظ ابن كثير 4/ 614- 615 بأتم منه، ونسبه للثعلبي، وقال: هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة. ولبعضه شواهد مما تقدم، والله أعلم. وانظر ما بعده.

(1588) وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها حديث سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد بينا معنى «أعوذ» في أول كتابنا. وفي الْفَلَقِ ستة أقوال «1» : أحدها: أنه الصبح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والقرظي وابن زيد، واللغويون قالوا: ويقال: هذا أبين من: فَلَق الصبح وَفَرَقَ الصبح. والثاني: أنه الخلق كلّه. رواه الوالبي عن ابن عباس. وكذلك قال الضحاك: العلق: الخَلْق كلُّه. والثالث: سِجْن في جهنم، روي عن ابن عباس أيضاً. وقال وهب والسدي: جُبٌّ في جهنم. وقال ابن السائب: وادٍ في جهنم. والرابع: شجرة في النار، قاله عبد الله بن عمر. والخامس: أنه كُلُّ ما انفلق عن شيء كالصبح، والحَبُّ، والنَّوى، وغير ذلك، قاله الحسن. قاله الزجاج: وإذا تأملت الخلق بَانَ لك أن أكثره عن انفلاق، كالأرض بالنبات، والسحاب بالمطر. والسادس: أنه اسم من أسماء جهنم، قاله أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحبلي. قوله عزّ وجلّ: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر: «خُلِق» بضم الخاء، وكسر اللام. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عام، وهو الأظهر. والثاني: أن شر ما خُلِق: إبليسُ وذُريته، قاله الحسن. والثالث: جهنم، حكاه الماوردي. وفي «الغاسق» أربعة أقوال: أحدها: أنه القمر، روت عائشة قالت: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى القمر، فقال: (1589) «استعيذي بالله من شره فإنه الغاسق إذا وقب» ، رواه الترمذي، والنسائي في كتابيهما. قال ابن قتيبة: ويقال: الغاسق: القمر إذا كسف فاسودَّ. ومعنى وَقَبَ دخل في الكسوف.

_ صحيح. أخرجه البخاري 3175 و 6063 ومسلم 2189 وابن ماجة 3545 وأحمد 6/ 63 وابن حبان 6584 عن عائشة قالت: مكث النبي صلّى الله عليه وسلم كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي، قالت عائشة: فقال لي ذات يوم «يا عائشة إن الله تعالى أفتاني في أمر استفتيته فيه، أتاني رجلان فجلس أحدهما عند رجليّ والآخر عند رأسي، فقال الذي عند رجليّ للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب يعني مسحورا، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم، قال: وفيم؟ قال في جفّ طلعة ذكره في مشط ومشاطة تحت رعوفة في بئر ذروان، فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: هذه البئر التي أريتها كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، وكأن ماءها نقاعة الحنّاء، فأمر به النبي صلّى الله عليه وسلم فأخرج، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، فهلا- تعني تنشّرت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم أمّا الله فقد شفاني، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا، قالت: «ولبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف ليهود» لفظ البخاري بحروفه في الرواية الثانية، فعليك به، ودع الروايات الواهية والضعيفة. ضعيف. أخرجه أحمد 6/ 206 والبغوي في «شرح السنة» 1361 من طريق وكيع عن ابن أبي ذئب عن خالد بن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن عائشة به. وأخرجه الترمذي 3366 وأحمد 6/ 61 و 206 و 215 و 237 و 252 وأبو يعلى 4440 وأبو الشيخ في «العظمة» 681 والحاكم 2/ 541. والطبري 38377 من طرق عن ابن أبي ذئب به. -

(1590) والثاني: أنه النجم، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. والثالث: أنه الليل، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والقرظي، والفراء، وأبو عبيد، وابن قتيبة، والزجاج. قال اللغويون: ومعنى «وقب» دخل في كل شيء فأظلم. و «الغسق» الظلمة. وقال الزّجّاج: الغاسق: البارد، وقيل لِلَّيل: غاسق، لأنه أبرد من النهار. والرابع: أنه الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام، والطواعين تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها، قاله ابن زيد. فأما النَّفَّاثاتِ فقال ابن قتيبة: هن السواحر ينفثن، أي: يَتْفُلن إذا سحرن، ورَقَيْن. قال الزجاج: يَتْفُلْنَ بلا ريق، كأنه نفخ. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: تفسير نَفَثَ: نَفَخَ نفخاً ليس معه ريق، ومعنى تفل: نفخ نفخا معه ريق. وقال ذو الرّمّة: ومن جوف ماء عرمض الحفل فوقه ... متى تحس منه ماتح القومِ يَتْفُلِ وقد روى ابن أبي سُرَيج «النافثات» بألف قبل الفاء مع كسر الفاء وتخفيفها. وقال بعض المفسرين: المراد بالنَّفَّاثات هاهنا: بنات لبيد أعصم اليهودي سحرن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ يعني: اليهود حسدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا حدَّ الحسد في البقرة. والحسد: أخس الطبائع. وأولُ معصية عُصِيَ الله بها في السماء حَسَدُ إبليس لآدم، وفي الأرض حسد قابيل لهابيل.

_ وقد توبع الحارث عند أحمد في الرواية 6/ 215، تابعه المنذر بن أبي المنذر، وهو مجهول وأخشى أن يكون أخذه الحارث عن المنذر، وهو محتمل، فالمتن غريب. وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: حسن صحيح! قلت: والمتن غريب لأن عامة أهل التفسير والأثر على أن المراد بذلك الليل إذا دخل. أخرجه الطبري 38364 عن ابن عباس لكن سنده واه، وكرره عن الحسن 38365 وكرره 38366 عن القرظي، وكرره 38368 عن مجاهد والحسن، وكرره 38369 و 38370 عن الحسن. وكرره 38371 عن ابن عباس بسند رجاله ثقات لكن فيه إرسال، وهذه الروايات تتأيد بمجموعها، وهو الذي اختاره البخاري في «صحيحه» . فقال 8/ 741 «فتح» : وقال مجاهد: الفلق: الصبح، وغاسق الليل إذا وقب غروب الشمس. قلت: فهذا ما عليه عامة أهل العلم، ولو ثبت الحديث عند البخاري لرواه ولو تعليقا أو تبويبا. ضعيف جدا. أخرجه الطبري 38375 عن أبي هريرة مرفوعا، وإسناده ضعيف، فيه محمد بن عبد العزيز، وهو متروك، وقال الحافظ ابن كثير 4/ 694: لا يصح رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم. وانظر «تفسير الشوكاني» 2893.

سورة الناس

سورة النّاس وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها مكّيّة، رواه أبو كريب عن ابن عباس. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) فإن قيل: لم خص الناس هاهنا بأنه ربُّهم، وهو ربُّ كل شيء؟ فعنه جوابان جوابان: أحدهما: لأنهم معظَّمون متميزون على غيرهم. والثاني: لأنه لما أمر بالاستعاذة من شَرِّهم أعلم أنه ربهم، ليعلم أنه هو الذي يعيذ من شرهم. ولما كان في الناس ملوك قال عزّ وجلّ: مَلِكِ النَّاسِ ولما كان فيهم من يعبد غيره قال عزّ وجلّ: إِلهِ النَّاسِ. والْوَسْواسِ الشيطان، وهو الْخَنَّاسِ يوسوس في الصدور، فإذا ذُكِرَ اللهُ، خَنَس، أي: كفَّ وأَقصر. قال الزّجّاج: الوسواس هاهنا: ذو الوسواس. وقال ابن قتيبة: الصدور هاهنا: القلوب. قال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل، وسوس، فإذا ذكر الله، خنس. قوله عزّ وجلّ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ الجنّة: الجنّ. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: يوسوس في صدور الناس جِنَّتهم وناسهم، فسمى الجن هاهنا ناساً، كما سمّاهم رجالا في قوله عزّ وجلّ: يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وسمّاهم نفرا بقوله عزّ وجلّ: اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ هذا قول الفراء. وعلى هذا القول يكون الوسواس موسوساً للجن، كما يوسوس للإنس. والثاني: أن الوسواس: الذي يوسوس في صدور الناس، هو من الجِنَّة، وهم من الجن. والمعنى: من شر الوسواس الذي هو من الجنّ. ثم عطف قوله عزّ وجلّ: وَالنَّاسِ على الْوَسْواسِ والمعنى: من شر الوسواس، ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من الجنّ والإنس «1» ، وهذا قول الزّجّاج. تمّ الكتاب بحمد الله ومنّه.

_ (1) فائدة: أخرج البخاري 5016 ومسلم 2192 ح 51 وأبو داود 3902 وأحمد 6/ 181 و 256 و 263 وابن حبان 2963 من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتهما.

فهذا آخر «زاد المسير» ، والحمد لله على الإنعام الغزير، وإذ قد بلغنا بحمد الله مرادنا فيما أمّلنا، فلا يعتقدنّ من رأى اختصارنا أنّا أقللنا، فقد أشرنا بما ذكرنا إلى ما تركنا ودللنا، فليكن الناظر في كتابنا متيقظا لما أغفلنا، فإنّا ضمنّا الاختصار مع نيل المراد، وقد فعلنا. ومن أراد زيادة بسط في التفسير، فعليه بكتابنا «المغني» في التفسير. فإن أراد مختصرا، فعليه بكتابنا المسمّى ب «تذكرة الأريب في تفسير الغريب» . والحمد لله ربّ العالمين، أوّلا وآخرا وباطنا وظاهرا وصلواته على سيدنا محمّد النبيّ وآله أجمعين، وعلى أبيه آدم، وذريّته الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين. ووافق الفراغ من هذا المجلّد وهو آخر الكتاب يوم الاثنين حادي والعشرين شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وثمانين وثمان مائة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خليفة غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدّعوات، ونقل هذا المجلّد جميعه من أصل ثم من أصل المصنّف وعليه سماع المصنّف وهو الشيخ الإمام العالم الأوحد جمال الدّين أبو الفرج عبد الرّحمن بن عليّ ابن الجوزي مصنّفه رضي الله عنه وأرضاه والحمد لله ربّ العالمين. بلغ مقابلته بحسب الطاقة والإمكان ونعوذ بالله من الزّيادة والنّقصان.

الفهارس

الفهارس 1- فهرس الأحاديث القدسية 515 2- فهرس الأحاديث والآثار النبوية 516 3- فهرس قوافي الأشعار 533 4- فهرس أنصاف الأبيات 549 5- المصادر والمراجع 550

1- فهرس الأحاديث القدسية طرف الحديث الجزء/ الصفحة أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً 2/ 277 ادخلوا الجنة (لأصحاب الأعراف) ، فإني قد غفرت لكم 2/ 125 إِذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه 2/ 429 أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما المؤمن فقال: مطرنا بفضل الله 4/ 229 أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت 3/ 441 أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ 2/ 277 أنا أبلغهم عنكم 1/ 347 أنا أهل أن أُتقى فلا يشرك بي غيري 4/ 367 أنا العزيز، فمن أراد عِزَّ الدَّارَيْن فليُطِع العزيز 3/ 507 أنا عند ظن عبدي بي 4/ 264 أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه 3/ 470 أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ 4/ 26 أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ 4/ 26 انفخ نفخة الفزع (يقولها عز وجل لإسرائيل) 4/ 37 أنَّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ 4/ 340 إني خلقت عبادي حنفاء 3/ 423 ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهن، وأسأله عما سوى ذلك 4/ 486 قسمت الصلاة بيني وبين عبدي 2/ 542 كفى بنفْسك اليومَ عليكَ شهيداٍ، وبالكرام الكاتبين شهودا 4/ 49 لم تقنط عبادي؟ نبّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم 2/ 536 من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أَزِيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها 2/ 97 هل جزاءُ مَنْ أنْعَمْنا عليه بالتوحيد إلاّ الجنة؟! 4/ 214 يا آدم، قم فابعث بعث النار 3/ 221 يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني 4/ 174 يا أهل الجنة، هل رضيتم؟ 2/ 277 يا داود، إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة 2/ 103 يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ 3/ 582

2- فهرس الأحاديث والآثار النبوية طرف الحديث الجزء/ الصفحة- الألف- آخر آية أنزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلم 1/ 13 آخر آية أنزلت: واتقوا 1/ 13 آخر آية نزلت: لقد جاءكم 1/ 13 آخر آية نزلت: يستفتونك 1/ 13 آخر سورة نزلت جميعا: إذا جاء 1/ 13، 4/ 501 آذني أصلي عليه 2/ 286 آلى صلّى الله عليه وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا 3/ 460، 4/ 305 الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه 1/ 254 ائتني بأربعة شهداء وإِلا فحدٌّ في ظهرك 3/ 281 ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها 4/ 470 أبطأتَ عليَّ حتى ساء ظني واشتقتُ إِليك 3/ 140 أبكي للذي عرض عليَّ أصحابُك من الفداء 2/ 224 أبوك وأبو عائشة والِيا الناس من بعدي 4/ 307 أتبع السيئة الحسنة تمحها 2/ 407 أتحلف 1/ 297 أتدرون ما أخبارها 4/ 478 أتدرون ما المعيشة الضنك 3/ 180 أتدري ما الجمعة؟ 4/ 282 أتردين عليه حديقته؟ 1/ 203 أتركهم حتى يتوب تائبهم 2/ 65 أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين 1/ 255 أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ 1/ 204 طرف الحديث الجزء/ الصفحة أتُعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم 3/ 560 اتق الله 3/ 467 اتق الله حيثما كنت 2/ 407 اتق الله واصبر وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله 4/ 298 اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله 2/ 539 أجاز صلّى الله عليه وسلم للمحرم قتل الحية والعقرب 1/ 585 اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم 4/ 113 اجتنبوا السبع الموبقات 1/ 396 أجدني مغموما 3/ 206 أجدني مكروبا 3/ 206 أجورهم: يدخلهم الجنة 1/ 503 أحب صلّى الله عليه وسلم أن يرى جبريل على حقيقته 4/ 184 أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود 3/ 563 احبسوا عليّ الركب 2/ 275 احترسوا من الناس بسوء الظن 4/ 151 أحسنت 1/ 577 اختصم يهود المدينة ونصارى نجران 1/ 102 أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان 2/ 167 أخذ صلّى الله عليه وسلم كفا من تراب فرماهم به 2/ 247 اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذِّن 2/ 232 اخرج يا أبا بكر، فهذا حين دلكت الشمس 3/ 45 اخرج يا فلان من المسجد فانك منافق 3/ 484 اخرجوا إلى أرض المحشر 4/ 254

طرف الحديث الجزء/ الصفحة اخرجوا إليه واكتموا 2/ 203 أخّرهم إلى ليلة الجمعة 2/ 472 ادعوا لي المقداد 1/ 472 ادعوا لي المقداد 1/ 452 إِذا أحب الله عبداً قال: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبوه 3/ 149 إِذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم 2/ 523 إذا أخذتم الساحر فاقتلوه 3/ 167 إِذا اقشعرَّ جِلْد العَبْد من خَشْية الله تحاتت ذنوبه 4/ 14 إِذا تكلَّم اللهُ بالوحي سمع أهلُ السماء صلصلة 3/ 497 إذا جَمَع اللهُ الخلائق يوم القيامة أمر مناديا 4/ 203 إِذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار 3/ 132 إِذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدَّ ولا يثرب 2/ 469 إذا ظننتم فلا تحققوا 4/ 151 إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم 1/ 22 إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان 2/ 185 إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة 4/ 473 إذا مات العبد تلقى رُوحُه أرواحَ المؤمنين 4/ 484 إِذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة 2/ 500 إذن ترعد له آنف كبيرة 4/ 286 أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن مَلَك من ملائكة الله 4/ 331 إذن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه 4/ 286 اذْهَبْ إِلى قريش فأَخْبِرْهم أنّا لَمْ نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارا 4/ 126 اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة 4/ 143 اذهب فاذكرها عليّ 3/ 468 اذهب فاطرحه في القبض 2/ 186 اذهب فخذ سيفك 2/ 187 اذهب فسلهم عما كانوا يضحكون منه 2/ 274 أرأيتُكم إن أخبرتُكم أن العدوَّ مصبِّحكم أو ممسيكم 4/ 502 اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا 2/ 129 ارجع اليه فادعه 2/ 488 ارفق به وأحسن إليه 4/ 252 أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر 1/ 423 أري صلّى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة هو وأصحابه 3/ 34 أري صلّى الله عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه 3/ 35 أري صلّى الله عليه وسلم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلاً يقول له: لتدخلن المسجد الحرام 4/ 137 أريت ليلة القدر ثم أنسيتها 4/ 471 استشار صلّى الله عليه وسلم الناس يوم خرج إلى بدر 1/ 534 استعيذي بالله من شره، فإنه الغاسق إذا وقب 4/ 508 اسجدوا للرحمن 2/ 495 اسق ثم أرسل إلى جارك 1/ 428 اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر 1/ 428 اسقه عسلا 2/ 570 أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا 2/ 302 اشهدوا 4/ 196 أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر 4/ 229 اصبروا فإني لم أومر بالقتال 3/ 240 أضعفوا على العباس الفداء 2/ 226 اطلبوها الليلة (ليلة ثلاث وعشرين) 4/ 471 اعتكف صلّى الله عليه وسلم العشر الأوسط واعتكفنا معه 4/ 470 أعوذ بك من دعاء لا يسمع 1/ 111 أقتلته بعد ما قال: آمنت! 1/ 453 اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران 1/ 24 أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد 4/ 468

اكتب: لا يستوي القاعدون 1/ 454 ألا احتطتَ فانَّ البِضْع ما بين السبع والتسع 2/ 441، 3/ 416 ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم 3/ 129 ألا أخبركم بخير من ذلك؟ 1/ 327 ألا أُخْبِرُكم لِمَ سمَّى اللهُ إِبراهيمَ خليله الذي وفّى 4/ 192 ألا أراكم تضحكون؟ 2/ 536 ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم 2/ 258 أَلا إِن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع 1/ 248 ألا أنبئكم بأكبر الكبائر 1/ 397، 398 ألا رجل صالح يحرسني الليلة 1/ 568 ألّا يحج بعد العام مشرك 2/ 232 التمسوها في العشر الأواخر من رمضان 4/ 470 التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين 4/ 470 الذي في عينيه بياض 3/ 197 الذين إذا رأوا ذكر الله عز وجلّ 2/ 337 ألست ترين أردّ عليهم ما يقولون 4/ 246 ألك بينة؟ 1/ 297 الله أخبرني 2/ 226 الله (يمنعني منك) 1/ 568 اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا 3/ 427 اللهم ارزق ثعلبة مالا 2/ 282 اللهم اشدد وطأتك على مضر 4/ 354 اللهم أَعِنِّي على قريش بسنين كَسِنِيِّ يوسف 3/ 268 اللهم اكفنيهما بما شئت 2/ 487 اللهم أنجز ما وعدتني 2/ 191 اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه 1/ 547 اللهم صلّ على آل أبي أوفى 3/ 551 اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير 1/ 99 اللهم لا يعلون علينا 1/ 328 اللهم هؤلاء أهلي 1/ 289 اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي 3/ 463 اللهم هل بلغت 3/ 152 ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا؟ أظننتم 1/ 342 ألم أنه عن القتال 3/ 444 ألم يقل الله: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم 2/ 200 إلى الله عز وجل (أدعكم) 4/ 505 إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله وأنِّي رسولُ الله 1/ 507 إليّ عباد الله، أنا رسول الله 1/ 335 أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شرا 4/ 507 أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم 2/ 252 أما إني لو قلت نعم لوجبت 1/ 591 أما ترضى أن تكون مثل نبي الله 2/ 281 أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب 3/ 513 أمَّا ما ظهر فالإِسلام وما سوَّى اللهُ من خلقك 3/ 433 أما واللهِ لا يسألوني خُطَّةً فيها تعظيمُ حرمة الله إلا أعطيتهم إياها 4/ 126 أمر صلّى الله عليه وسلم بالصفح عنهم 1/ 101 أمر صلّى الله عليه وسلم بقتل الكلاب 1/ 514 أمر صلّى الله عليه وسلم عليا أن يتخذ طعاماً ويدعو إِليه أشراف قريش من المشركين 3/ 28 أمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا 1/ 604 أمسك عليك زوجك واتق الله 3/ 467 أمسلمة جئت؟ 4/ 266 أن أبا لبابة ربط نفسه إلى سارية 2/ 203 أن إبليس جاء حواء فقال: ما يدريك 2/ 177 إنَّ أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقْعَدُه بالغداة والعشي 4/ 40 إن الإسلام لا يقال 3/ 225 أن الأولى كانت نسيانا من موسى 3/ 99

طرف الحديث الجزء/ الصفحة إِن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه 3/ 55 إن الله تعالى أعطاني السبع الطول مكان التوراة 4/ 141 أن الله تعالى أَنزل على إبراهيمَ عشر صحائف 4/ 191 إن الله تعالى بعثني مبلغا ولم يبعثني متعنتا 3/ 460 إِن الله تعالى حاط حائط الجنة لَبِنَة من ذهب ولبنة من فضة 3/ 254 إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها 1/ 51 إِن الله طَيِّب لا يقبل إِلا الطيِّب 3/ 115 إِن الله تعالى في ثلاث ساعات يبقَين من الليل ينظر في الكتاب 2/ 501 إن الله قد صدّقك 4/ 287 إن الله قد منعني أن أقبل صدقتك 2/ 282 إنَّ الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا 4/ 190 إن الله كتب عليكم الحج 1/ 590 إن الله لا يقبض العلم انتزاعا 3/ 52 إن الله لا يقبل إلا الطيب 1/ 590 إن الله لم يمسخ قوماً أو يهلك قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة 1/ 563 إِن الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد 1/ 179 أن الله تعالى يجعل البحار كلَّها ناراً 4/ 176 إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الناس 2/ 103 إن الله تعالى يسلم على أهل الجنة 3/ 471 إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة 1/ 222 إِن الله تعالى يُنزل في كل ليلة ويوم 1/ 110 أن امرأةً حسناءَ كانت تصلي خلف رسول الله 2/ 531 أن تجعل لله ندا وهو خلقك 1/ 398، 3/ 328 أن تزاني حليلة جارك 1/ 398، 3/ 328 أن تصدّق وأنت صحيح شحيح 1/ 303 طرف الحديث الجزء/ الصفحة إِن تقبلوا مِنِّي ما جئتكم به فهو حظكم 3/ 52 أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك 1/ 398، 3/ 328 أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار، فانطبقت عليهم صخرة 2/ 428 أن جبريل أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان 2/ 203 أن جبريل جعل يدسُّ الطين في فم فرعون 2/ 348 إن الجنة لا يدخلها العجائز 3/ 197 إِن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين 1/ 209 أن داود سأل ربه أن يريه الميزان 2/ 103 إن الدخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار 4/ 88 إن ربكم حيي كريم 1/ 46 إِنَّ ربَّكم يقول كل يوم: أنا العزيز 3/ 507 إِن الرجل من بني إِسرائيل كان إِذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيراً 1/ 574 إِن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي 3/ 343 أن زكريا كان نجارا 3/ 120 إن الزمان قد استدار لهيئته يوم خلق الله السموات والأرض 1/ 165، 2/ 234 إن شئت أنبأتك بأبواب الخير 3/ 440 إِن عجزتم عن الليل أن تكابدوه وعن العدو 3/ 88 إن عفريتا من الجِنّ تفلَّت عليّ البارحةَ ليَقْطَعَ عَلَيَّ صلاتي 3/ 575 إِن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً 3/ 103 إنَّ فَضْل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب 4/ 178 إن فعلت تؤمنون؟ 4/ 196 إن فعلت تصدقوني؟ 2/ 65 إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب 3/ 196 إِن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته 4/ 152 إن كان وسادك إذا لعريض 1/ 149

طرف الحديث الجزء/ الصفحة إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف 2/ 445 إن للمؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤةٍ واحدة مجوّفة 4/ 216 إن مقعد ملَكَيك على ثنيَّتيك ولسانُك قلمهما 4/ 160 إِن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت 1/ 491 إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء 2/ 337 إِنَّ من المنشَآت اللاّتي كُنَّ في الدنيا عجائز عمشا رمصا 4/ 224 إِن موسى قام خطيباً في بني إِسرائيل فسئل 3/ 94 إن موسى كان رجلا حييا 3/ 486 إن هذه الآية نزلت في القدرية 4/ 203 إِن يأجوج ومأجوج ليَحفرون السدَّ كل يوم 3/ 110 أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى 1/ 310 أن يطعمها إذا طعم ويكسوها 1/ 200 أنا أكرم ولد آدم على ربه 2/ 451 الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور 2/ 75 أنا بين خيرتين: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم 2/ 286 إنا حاملوك على ولد الناقة 3/ 197 أنا عَبْدُ الله ورسوله لن أُخالِف أمره 4/ 128 أنا على ملّة إبراهيم 1/ 304 أنا فرطكم على الحوض 3/ 161 أنا المنذر 2/ 484 أنت صاحب هذا الكلام؟ 4/ 286 أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد 3/ 530 أنت الهادي يا عليُّ، بك يُهتدى من بعدي 2/ 484 أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت 1/ 226 أنتم خصماء الله 4/ 203 أنشدُك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حدّ الزاني 1/ 547 طرف الحديث الجزء/ الصفحة أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين 2/ 53 انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شقتين 4/ 196 انصرفوا أيها الناس، فقد عصمني الله تعالى 1/ 568 انطلق صلّى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ 2/ 526، 4/ 112 انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه 2/ 297 انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ 4/ 266 انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود 4/ 149 انظر في ذلك 1/ 465 أنفقه على نفسك 1/ 180 أنفقها على خادمك 1/ 180 أنفقها على قرابتك 1/ 180 أنفقها على والديك 1/ 180 أنفقها في سبيل الله، وهو أحسنها 1/ 180 إنك قلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي 2/ 226 إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها 1/ 314 إنَّكم سَترُونَ ربَّكم عِيانا كما ترون هذا القمر 4/ 165 إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق 1/ 416 إنكن أكثر أهل النار 2/ 446 إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة 4/ 301 إنما ذلكم الله 4/ 144 إنما سمّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء 3/ 97 إِنما سمى الله البيت: العتيق، لأن الله أعتقه 3/ 234 إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قاله لقمان 2/ 49 إِنه أتاني داعي الجن فذهبت أُقْرِئهم القرآن 4/ 112 إنه أنزلت عليّ آنفا سورة 4/ 497 إنه أول من سن القتل 1/ 536 إنه ذهب في حاجة الله ورسوله 4/ 127 إنه سيأتيكم إِنسان ينظر إِليكم بعيني شيطان 4/ 250

طرف الحديث الجزء/ الصفحة إنه طلوع الشمس من مغربها 2/ 95 إنه عبد الله وروحه وكلمته إلى مريم 1/ 292 إنه كان ذهبا وفضة 3/ 104 إِنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب 1/ 316 إنه لَيُخفَّفُ على المؤمِن حتى يكون أَخَفَّ عليه من صلاة مكتوبة 4/ 336 إنه ليغان على قلبي 4/ 415 أنه مَلِكٌ كان له ساحر فبعث إليه غلاما 4/ 425 إنه واد في جهنم 3/ 138 إِنَّها تذهب حتى تسجُد بين يَدَي ربِّها 3/ 524 إنها تعدل ثلث القرآن 4/ 505 إنها الحنظلة 2/ 512 إنها ذات وبر وريش 3/ 369 إنها (الزهرة) فتنت ملكين 1/ 95 إنها في علم الله قليل 3/ 434 إنها النخلة 2/ 510 أنهم قوم قُتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم 2/ 123 إني أراه من شراب شربته عند سودة 4/ 306 إِني أشهدكِ أن سِرِّيَّتي هذه عليَّ حرام رضى لك 4/ 305 إنِّي أُمِرْتُ أن أقرأ على الجن فأيُّكم يتبعني؟ 4/ 112 إني رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها 4/ 471 إِني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إِلا فرّج الله عنه 3/ 210 إني لست بشاعر ولا ينبغي لي 3/ 531 إِني لمَّا خرجت، جاء جبريل عليه السلام 2/ 536 إِني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله 1/ 499 أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ 1/ 547 الأوّاه: الخاشع الدعّاء المتضرّع 2/ 306 أوفاهما وأطيبهما 3/ 382 أو فعلته؟ 4/ 251 أو ليس قد بيّن الله تعالى ذلك 1/ 504 أول سورة أعلنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة 4/ 183 طرف الحديث الجزء/ الصفحة أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون 4/ 318 أول ما نزل من القرآن: اقرأ 1/ 12 أول من يُكْسى من أهل النار يوم القيامة إبليس 3/ 314 أي ذلك كتبت فهو كذلك 2/ 584 أي شيء تحبون؟ 2/ 65 أي عم، قل معي: لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله 2/ 304 أيام الله: نعم الله 2/ 504 إِيت بني النجّار فأقرئهم مني السلام وقل 1/ 450 أيكم أحسن عقلا، وأروع عن محارم الله عز وجل 2/ 359 أيكم يحتمل خبيباً عن خشبته وله الجنة 1/ 171 أيما حلف كان في الجاهلية 1/ 401 أين الذهب الذي تركته عند أم الفضل 2/ 226 أين ترون أن أصلي بكم 1/ 110 أيها الناس، البيعة، البيعة 4/ 133- الباء- بئس عبد الله 2/ 546 الباقيات الصالحات: لا إله إلا الله 3/ 88 بخ بخ، ذاك مال رابح 1/ 304 برئ من الشُّحِّ من أدَّى الزكاة وَقَرَى الضيف 4/ 260 البرق: مخاريق يسوق بها الملك السحاب 1/ 40 بالسيف 3/ 572 بشر الكنازين بكيّ في الجباه 2/ 256 بشراهم: الجنة 2/ 339 بعث صلّى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الموسم ليقيم للناس 2/ 231 بعث صلّى الله عليه وسلم إلى بعض فراعنة العرب يدعوه 2/ 487 بعث صلّى الله عليه وسلم سريَّة إِلى بني العنبر وأمَّر عليهم عيينة 4/ 145

طرف الحديث الجزء/ الصفحة بعث صلّى الله عليه وسلم غلاما يقال له مدلج إلى عمر 3/ 304 بعث صلّى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم 4/ 146 بعثنا صلّى الله عليه وسلم في سرية، فغنمنا إبلا 2/ 188 البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام 3/ 276 البكر تستأمر في نفسها 1/ 340 بل إلى كتاب الله 1/ 269 بل أنا وا رأساه 3/ 207 بل تحسن صحبته ما بقي معنا 4/ 287 بلى فانكحيه فإني قد رضيته لك 3/ 465 بلى والله، لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم 2/ 305 بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها 1/ 569 البيت المعمور: في السماء الدنيا 4/ 175 البيت المعمور: في السماء السابعة 4/ 175 بينا أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدر المجوّف 4/ 497 بينما أنا في الحطيم (أو في الحجر) 3/ 8 بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون 3/ 370 بيني وبينكم التوراة 1/ 269- التاء- تحب ذلك؟ 2/ 307 تخرج الدابَّة معها خاتم سليمان وعصا موسى 3/ 370 تخرج الدابة من شعب أجياد 3/ 370 تدرون أي يوم ذلك؟ 3/ 221 تسع، أعظمهن الإشراك بالله 1/ 397 تَسِم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن 3/ 371 تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار 3/ 46 تشويه النار فتقلِّص شفته العليا حتى تبلغ 3/ 271 تعطيني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟ 4/ 454 تقعد أيام أقرائها 1/ 198 طرف الحديث الجزء/ الصفحة تنزيه الله عن كل سوء 3/ 7 توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصلّ 2/ 405 التيمم: ضربة للوجه والكفين 1/ 413- الثاء- ثماني عشرة سنة 3/ 205- الجيم- جاء الحقّ وزهق الباطل 3/ 49 جاء رجل فقال: حدثني يا محمد عن إلهك 2/ 487 جاءت المجادلة فكلمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم 4/ 241 جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري 4/ 358 جبل من نار يكلف أن يصعده 4/ 363 جعل صلّى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة 3/ 237 جلس في فروة بيضاء فاخضرت 3/ 97 جنان الفردوس أربع، ثنتان من ذهب 3/ 113 الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين 3/ 113 جنتان من ذهب وجنتان من فضة 4/ 215- الحاء- حاربت يهود 4/ 253 الحج عرفة 1/ 164 حجي عنه 4/ 193 حرّض صلّى الله عليه وسلم على الصف الأول فازدحموا 2/ 532 حرّق صلّى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع 4/ 255 الحزن: الجوع 3/ 513 حسدته صلّى الله عليه وسلم اليهود على مقامه بالمدينة 3/ 43 الحمد الله الذي جعل في أُمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام 2/ 34 الحمد الله الذي لم يُمتني حتى أمرني أن أصبر 3/ 79- الخاء- خالق الناس بخلق حسن 2/ 407

طرف الحديث الجزء/ الصفحة خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا 1/ 382 خرج صلّى الله عليه وسلم يعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ 4/ 147 خلق الله تعالى آدم بعد العصر يوم الجمعة 1/ 51 خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعاً 1/ 51 خلق الله عز وجل التربة يومَ السبت وخلق الجبال فيها يومَ الأحد 2/ 126، 4/ 46 خلق فرعون في بطن أمه كافرا 4/ 291 خلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً 4/ 291 خيّر صلّى الله عليه وسلم بريرة بين المقام مع زوجها وفراقه 1/ 391 خيرات الأخلاق حسان الوجوه 4/ 216 خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم 2/ 10- الدال- دثروني 4/ 359 دخل صلّى الله عليه وسلم بيت المقدس وصلّى فيه بالأنبياء 3/ 8 دخل صلّى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما 3/ 49 دعا صلّى الله عليه وسلم على قريش بسنين كسني يوسف 4/ 89 دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى 1/ 113 دنا الجبّار ربُّ العِزَّة فتدلَّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى 4/ 185 دواب الأرض 1/ 127- الذال- ذكرك أخاك بما يكره 4/ 152 ذلك الى الله عز وجل 3/ 52 ذلك العرض 4/ 420- الراء- رأى صلّى الله عليه وسلم إدريس في السماء الرابعة 3/ 135 رأى صلّى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلق عليها 4/ 186 رأى صلّى الله عليه وسلم عسكر المشركين في المنام قبل لقائهم 2/ 214 رأى صلّى الله عليه وسلم في المنام أنه هاجر إلى أرضٍ ذاتِ نخل وشجر وماء 4/ 104 رأى صلّى الله عليه وسلم في النَّوم كأن قائلاً يقول له: لَتَدْخُلُنْ المسجد الحرام 4/ 126 رأيت ربي عز وجل فقال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ 3/ 582 الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له 2/ 338 ربح البيع يا أبا يحيى 1/ 173 رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل: اجعلني 2/ 450 رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركن شديد 2/ 391 الركعتان قبل صلاة الفجر 4/ 182 رمى صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر بسهم، فأقبل السهم 2/ 196 رميتهم بالسرقة على غير بينة! 1/ 466 الروح: جند من جند الله تعالى 4/ 391- الزاي- الزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل 2/ 326- السين- سابقُنا سابق ومقتصدُنا ناجٍ وظالمُنا مغفورٌ له 3/ 511 سأخبركم غدا 4/ 456 سأقضي بينكما بكتاب الله 4/ 181 سأل صلّى الله عليه وسلم ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته 1/ 270 سأل صلّى الله عليه وسلم اليهود عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره 1/ 358 سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة 2/ 40 سبأ رجل من العرب 3/ 358 سبحان مقلب القلوب 3/ 466

طرف الحديث الجزء/ الصفحة سبى صلّى الله عليه وسلم ريحانة القرظية فلم يَدْنُ منها حتى أسلمت 3/ 477 سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أثر فيه 3/ 166 سدرة المنتهى فوق السماء السابعة 4/ 187 سدرة المنتهى في السماء السادسة 4/ 187 سقتني حفصة شربة عسل 4/ 305 سلاني 1/ 266 سلوني، فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم 1/ 590 سمى صلّى الله عليه وسلم زيد الخيل: زيد الخير 3/ 571 سنوا بهم سنة أهل الكتاب 1/ 519 سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين، لعل الله يغفر لهم 2/ 284 سوّموا، فإن الملائكة قد سومت 1/ 321- الشين- شاهت الوجوه 2/ 195 الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة 4/ 423 شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة 2/ 494 شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر 1/ 214 الشفع والوتر: الصلاة، منها الشفع ومنها الوتر 4/ 438 الشفع: يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر: ليلة النحر 4/ 438 الشفع: يوم النحر، والوتر: يوم عرفة 4/ 438 الشفق: الحمرة 4/ 421 شهرا عيد لا ينقصان 4/ 461 شيبتني هود وأخواتها 2/ 355- الصاد- صالح صلّى الله عليه وسلم يهود على أرضهم وعلى الحلقة 4/ 255 صدق الله عز وجل: إنما أموالكم وأولادكم فتنة 4/ 294 صدق الله وكذب بطن أخيك 2/ 570 صدقة تصدّق الله بها عليكم 1/ 460 الصراط المستقيم: الإسلام 2/ 325 الصراط المستقيم: كتاب الله 1/ 20، 2/ 325 صلى صلّى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا 1/ 118 صلى صلّى الله عليه وسلم بذي قرد، فصف الناس خلفه 1/ 459 صلى صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق الظهر والعصر والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشفق 1/ 216 صلى صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد 1/ 520 الصمد: السيد الذي يصمد إليه في الحوائج 4/ 506 الصور: قرن ينفخ فيه ثلاث نفخات 2/ 45 الصوم جنة، والصدقة تكفّر الخطيئة 3/ 440- الضاد- الضبع صيد، وفيه كبش إِذا قتله المحرم 1/ 585 ضحك الله الليلة، أو عجب من فَعالكما 4/ 259 ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله 3/ 498 ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا 2/ 231- الطاء- الطاء: طور سيناء، والسين الإسكندرية 3/ 334 طلق إحداهما 1/ 390 الطوفان: الموت 2/ 148، 3/ 402 طولها ستون ذراعا 3/ 370- العين- عبد سوء 2/ 547 عَجِبَ ربُّكَ مِنْ شابٍ ليست له صَبوةٌ 3/ 538 عُرضتْ عليَّ أُمتي وأُعلمت من يؤمن بي 1/ 351 عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم 2/ 428 علام تشتمني أنت وأصحابك؟ 4/ 250 على ملّة إبراهيم 1/ 269

طرف الحديث الجزء/ الصفحة عليّ وفاطمة وولداها 4/ 64 عليكم منازلكم، فإنما يكتب آثاركم 3/ 519 عمدا فعلته يا عمر 1/ 520 العيادة فواق ناقة 3/ 562- الغين- الغاسق: النجم 4/ 509 غدا أخبركم بذلك 3/ 76 غراما: دائما 3/ 327 غشيها فراش من ذهب 4/ 187 غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ 1/ 477- الفاء- فأخرجوا التوراة، فإني مكتوب فيها 1/ 269 فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة 4/ 478 فأنت الحبر السمين 2/ 53 فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربّها 2/ 564 فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته 2/ 527 فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد 4/ 502 فأين أنت من شباب أهل مكة؟ 4/ 266 فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء 1/ 13 فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلّى الله عليه وسلم في الحضر أربعا 1/ 459 فكذلك يُحيي اللهُ الموتى، وتلك آيتُه في خلقه 3/ 507 فلا تعد إليه 4/ 251 فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربه 3/ 443 فما حملك على ما صنعت؟ 4/ 267 فما رأيت عبقريا يفري فري عمر 3/ 128 فما يدريكم أنها إناث؟ 4/ 75 فهلموا إلى التوراة 1/ 269 فيؤمر الملك بأربع كلمات: بكتبِ رزقِهِ وأجلِهِ 4/ 291 فيه جمع أبوك 4/ 282- القاف- قال جبريل: ألا أراك وضعت اللأمة 3/ 458 قال جبريل: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب 1/ 515 قال ذو الخويصرة: اعدل يا رسول الله 2/ 269 قال علي: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي 4/ 249 قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا 1/ 183 قال عمر: لو اتخذنا من مقام إبراهيم 1/ 109 قالت اليهود: من يأتيك من الملائكة؟ 1/ 90 قام قيام ليلة بآية يرددها 1/ 606 قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا 1/ 268 قد أذنت لك 2/ 266 قد حرمت عليه 4/ 242 قد سمع الله ما تقول، فإن شاء أجابك 1/ 480 قد فعلت 3/ 139 قد قبلتك 3/ 465 قد كنت أُحِبُّ أن أراك على غير جوار 3/ 329 القرن: أربعون سنة 2/ 9 القرن: مائة سنة 2/ 10 قسم صلّى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين 4/ 257 قضى صلّى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار 3/ 203 قل: لا إِله إِلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة 3/ 388 قل له: إِن رسول الله يقول: بعني كذا 3/ 182 قلتم كذا وكذا 2/ 275 قم يا فلان، فإنك منافق 3/ 484 قم يا فلان، قم يا فلان 4/ 247 القنطار: اثنا عشر ألف أوقية 1/ 264 القنطار: ألف ومائتا أوقية 1/ 264 القنطار: ألف ومائتا دينار 1/ 264 القوة: الرمي 2/ 221

طرف الحديث الجزء/ الصفحة قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد 3/ 481 قيام العبد من الليل 3/ 440 قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا 1/ 69 قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبيّ 4/ 147- الكاف- كاتب الحسنات على يمين الرجل 4/ 159 كاد يصيبنا في خلافك بلاء 2/ 225 كان صلّى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر أذّن بلال 4/ 282 كان صلّى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره 2/ 286 كان صلّى الله عليه وسلم إِذا سئل: لِمَنْ هذا الأمرُ من بعدك؟ لم يخبر بشيء 4/ 79 كان صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى بالمسجد الحرام قام رجلان 2/ 209 كان صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى رفع بصره إلى السماء 3/ 255 كان صلّى الله عليه وسلم تحت الشجرة يبايع الناس 4/ 133 كان ثعلبة يقول: إنما يعطي محمد من يشاء 2/ 269 كان جبريل يتمثل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجُل 4/ 184 كان (خلقه القرآن 4/ 319 كان ذو الكفل رجلا لا ينزع عن ذنب 3/ 208 كان صلّى الله عليه وسلم قد عاهد يهود قريظة أن لا يحاربوه 2/ 219 كان صلّى الله عليه وسلم لا يقبل الجزية إِلا من أهل الكتاب 1/ 594 كان ليعقوب أخ مؤاخٍ، فقال له ذات يوم 2/ 465 كان صلّى الله عليه وسلم يتزمَّل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فرقا منه حتى أنس به 4/ 352 كان صلّى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيم 3/ 315 كان صلّى الله عليه وسلم يثقل عليه إذا أوحي إليه 4/ 353 كان يجاء بالغنيمة فيقسمها صلّى الله عليه وسلم على خمسة 2/ 211 كان صلّى الله عليه وسلم يجهز بالقراءة في الصلوات كلها 1/ 26 كان صلّى الله عليه وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه 4/ 247 كان صلّى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران 4/ 294 كان صلّى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير 4/ 284 كان صلّى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه، يقوم على رجل 3/ 150 كان صلّى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن بمكة 3/ 60 كان صلّى الله عليه وسلم يستحلف المرأة بالله: ما خرجتِ من بغض زوج 4/ 272 كان (إسرائيل) يسكن البدو فاشتكى عرق النسا 1/ 305 كان يصعد لإدريس من العمل مثلما يصعد 3/ 135 كان صلّى الله عليه وسلم يصلي بمكة عند الصفا فجهر بالقرآن 3/ 61 كان صلّى الله عليه وسلم يطعم معه بعض أصحابه فأصابت يدُ رجل منهم يد عائشة 3/ 479 كان صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان يشتد عليه حفظه 4/ 371 كان صلّى الله عليه وسلم يكتب: باسمك اللهم 3/ 60 كان صلّى الله عليه وسلم يمتحنهن بشهادة أن لا إله إلا الله 4/ 272 كان صلّى الله عليه وسلم يوما يناجي عتبة وأبا جهل وأمية.. فجاء ابن أم مكتوم 4/ 399 كانا من جلد حمار ميت 3/ 153 كانت الأولى من موسى نسيانا 3/ 95 كانت الملائكة تحج إِلى البيت قبل آدم 1/ 111 كانوا أهل قرية لئاما 3/ 101 كانوا مائة ألف يزيدون عشرين ألفا 3/ 554 الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين 1/ 397 الكبائر سبع: الإشراك بالله أولهن 1/ 396 الكبائر: الشرك بالله، وقتل النفس 1/ 397 كتب صلّى الله عليه وسلم إلى هجر يدعوهم الى الإسلام 1/ 594 كذا أنزلت عليّ فاكتبها 2/ 55 كذب إبراهيم ثلاث كذبات 2/ 457، 3/ 196 كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا 3/ 530 كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم 3/ 411

طرف الحديث الجزء/ الصفحة كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إِلا ما كان من يحيى بن زكريا 1/ 279 كل خير أرجوه من ربي 3/ 197 كل شيء بقدر حتى العجز والكيس 4/ 204 كل مال أديت زكاته فليس بكنز 2/ 254 كل مولود يولد على الفطرة 2/ 13، 3/ 422 كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم 1/ 300 كلمة التقوى: لا إله إلا الله 4/ 136 كلهم في الجنة 3/ 511 كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح 1/ 221 كنا نتعلم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم العشر 1/ 11 كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد 3/ 449 الكنود: الذي يأكل وحده، ويمنع رفده 4/ 484 كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم 1/ 323- اللام- لا آكل حتى تَشهد أن لا إِله إِلا الله وأني رسول الله 3/ 318 لا أجد ما أحملكم عليه 2/ 289، 3/ 21 لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء 1/ 343 لا إله إلا الله 3/ 557 لا، بل أستأني 3/ 33 لا، بل لكل من عُبد من دون الله 3/ 215 لا، بل للناس كافة 2/ 405 لا، بل هم الذين يصلُّون وهم مشفقون 3/ 265 لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم 1/ 244 لا تجالسوهم ولا تكلموهم 2/ 290 لا تجعلوا بيوتكم مقابر 1/ 24 لا تحلفوا بآبائكم 1/ 367 لا تذكري لعائشة ما رأيت 4/ 305 لا تذكريه لأحد 4/ 305 طرف الحديث الجزء/ الصفحة لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها 2/ 95 لا تَسُبُّوا الدَّهْر، فإنَّ الله هو الدَّهْر 4/ 100 لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحقّ 3/ 57 لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم 3/ 410 لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها 1/ 537 لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها 2/ 95 لا تكرهنَّ أحداً من أصحابك على المسير معك 1/ 181 لا تمككوا على غرمائكم 4/ 135 لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة 3/ 275 لا حاجة لي فيه 4/ 305 لا خير في دين ليس فيه ركوع 4/ 386 لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب 1/ 23 لا، فإنه لا ينبغي أن يُسجَد لأحد من دون الله 1/ 298 لا نبرح حتى نناجزهم 4/ 126 لا، ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني 2/ 232 لا يبقى على رأس مائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد 3/ 97 لا يتم بعد حلم 2/ 212 لا يخضد شوكها 4/ 222 لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة 3/ 458 لا يضرك بأيهما بدأت 3/ 530 لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاه 1/ 146 لا ينحني له 2/ 474 لأستغفرن لك ما لم أنه عنك 2/ 304 لأمثلن بكذا وكذا منهم 1/ 324 لَئِن ظفرتُ بقاتل حمزة لأمثلنَّ به مثلة 2/ 594 لسرادق النار أربعة جدر كثف 3/ 80 لعن صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه 1/ 247 لعن صلّى الله عليه وسلم الزهرة وقال: إنها فتنت ملكين 1/ 95

طرف الحديث الجزء/ الصفحة لعن صلّى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة 2/ 545، 3/ 167 لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة 3/ 254 لقد حكمتَ بحُكم الله من فوق سبعة أرقعة 3/ 459 لقد خُتمتْ بما تكلمتَ به يا ابن الخطاب 3/ 258 لقد ذهبتم فيها عريضة 1/ 325 لقد عجب من فعالكما أهل السماء 4/ 259 لقريش 4/ 79 لكن الله يدري، وسيقضي بينهما 2/ 25 لم أومر بذلك 1/ 576 لَمْ نأتِ لقتال أحَد إِنما جئنا لنطوف بهذا البيت 4/ 126 لم يدخل صلّى الله عليه وسلم بيت المقدس ولم يصلّ فيه 3/ 8 لم يصافح صلّى الله عليه وسلم في البيعة امرأة 4/ 274 لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في شك ولا سأل 2/ 350 لم ينظر موسى إلى الله 4/ 70 لما أراد صلّى الله عليه وسلم العمرة استنفر من حول المدينة 4/ 130 لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر 1/ 347 لما انصرف صلّى الله عليه وسلم من الخندق وضع عنه اللأمة واغتسل 3/ 458 لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعاً 1/ 567 لما بويع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة العقبة 2/ 204 لما تزوج صلّى الله عليه وسلم زينب دعا القوم فطعموا 3/ 478 لما حاصر صلّى الله عليه وسلم قريظة سألوه أن يصالحهم 2/ 202 لما دعا صلّى الله عليه وسلم على أهل مكة بالجرب فقحطوا 2/ 322 لمّا غَشِيَها مِنْ أمْر الله ما غَشِيَها تغيرت 4/ 187 لما قدم صلّى الله عليه وسلم المدينةَ كانت تَنُوبه نوائبُ وليس في يده سعة 4/ 64 لما كان يوم الفتح أمر صلّى الله عليه وسلم بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذّن 4/ 152 لما مات النجاشي أمرهم صلّى الله عليه وسلم بالصلاة عليه 1/ 103 طرف الحديث الجزء/ الصفحة لما نزل عليه صلّى الله عليه وسلم القرآن صلّى هو وأصحابه فأطال القيام 3/ 150 لما هزم الله المشركين يوم بدر 2/ 224 لمّا يئس (من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم 4/ 113 لمن عمل بها من أمتي 2/ 405 لو اتبع آخرُهم أوَّلَهم التهب عليهم الوادي نارا 4/ 284 لو أعطاني لأوفيته، إني لأمينٌ في السماء أمين في الأرض 1/ 363 لو أمرتُ أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة 1/ 200 لو أن يوسف قال: إِني حفيظ عليم إن شاء الله، لملك من وقته 2/ 450 لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا 1/ 106 لو تَعْلَمونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكتم قليلاً ولبَكَيتم كثيرا 4/ 193 لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم 1/ 334 لو كان على أبيك دين قضيته أفكان ذلك يجزئ عنه؟ 1/ 168 لولا أن بني إسرائيل استثنوا لم يعطوا 1/ 77 لولا أن تحزن النساء، أو تكون سنَّة بعدي لتركته 2/ 594 ليت شعري ما فعل أبواي؟ 1/ 106 ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم 1/ 557 ليلة خمس وعشرين 4/ 471 ليهنك العلم يا أبا المنذر 1/ 229- الميم- المؤمن أكرم على الله عز وجل من بعض الملائكة 3/ 40 ما أخت خالك منك؟ 3/ 197 ما أدري تُبَّعاً، نبيّ أو غير نبيّ 4/ 93

طرف الحديث الجزء/ الصفحة ما أردت بما أرى 2/ 297 ما الذي أثنى الله به عليكم؟ 2/ 300 ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً 2/ 294 ما أنا بالذي يسأل ربه هذا 3/ 52 ما أوحي إليّ في هذا شيء 4/ 242 ما بالشعر بُعِثْتُ ولا بالفخَار أُمِرْتُ ولكن هاتوا 4/ 144 ما بهذا بُعثتُ وقد أبلغتكم ما أُرسلتُ به 3/ 52 ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها 1/ 326 ما ترى يا ابن الخطاب 2/ 224 ما توضأ عبد فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة، إلا غفر له 1/ 523 ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل 4/ 126 ما السموات السبع في الكرسي إِلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة 1/ 230 ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا 1/ 179 ما ظنك باثنين الله ثالثهما 2/ 261 ما علَيَّ لو فعلت والله يعلم إِني لكاره 3/ 42 ما عند رسول الله ما يطعمكَ هذه الليلة 4/ 259 ما عندنا اليوم شيء 3/ 21 الماعون: الإبرة والماء والنار والفأس 4/ 496 ما كنتم تقولون إِذا كان مثل هذا في الجاهلية 2/ 527 ما لي أراك محزونا؟ 1/ 430 ما لي أراكم سكوتا؟ 4/ 209 ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار 2/ 121 ما من أحد يلقى الله تعالى إِلا وقد هم بخطيئة 2/ 430 ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاع أقرع 1/ 353 ما مِنْ مُسْلِمٍ إٍلاّ وله في السماء بابان 4/ 91 ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم 1/ 146 طرف الحديث الجزء/ الصفحة ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر 1/ 534 ما هُزم قوم إذا بلغوا اثني عشر ألفا من قلة 2/ 195 ما يُغْني عنه قميصي من عذاب الله تعالى 2/ 286 ما ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين 3/ 468 متعنا بنفسك يا أبا بكر 4/ 251 متعها ولو بقلنسوتك 1/ 212 مثل المنافق مثل الشاة العائِرة بين الغنمين 1/ 489 مرا بثعلبة وبفلان 2/ 282 مرجت عهودهم وأماناتهم 3/ 324 مرحبا بمن عاتبني فيه ربي 4/ 399 مررت بقبر أمي فصليت ركعتين 2/ 303 مستقرها تحت العرش 3/ 524 معاذ الله، ما بذلك بعثني 1/ 298 المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء 2/ 114 المغضوب عليهم: اليهود 1/ 21 مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله 2/ 37 المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ 1/ 369 ملعون من أتى النساء في أدبارهن 1/ 193 ملك من الملائكة موكل بالسحاب 1/ 39 من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ (إذا الشمس كورت) 4/ 405 من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أحبني 1/ 436 من أعطاكه؟ 1/ 561 من أغلق بابه فهو آمن 3/ 444 من توضأ وضوئي، ثم صلى الظهر غُفر له ما كان بينها وبين صلاة الصبح 2/ 407 من حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا 3/ 63 من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف 3/ 63 من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف 3/ 63 من رغب عن سنتي فليس مني 1/ 577 من زوجك؟ 3/ 197 من سره أن يقوم له الرجال صفونا 3/ 571

طرف الحديث الجزء/ الصفحة من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع أُخرى إلا كتب الله له بها حسنة 1/ 306 من عقر جواده 2/ 135 من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر 2/ 186 من كان متحرياً فليتحرها ليلة سبع وعشرين 4/ 471 من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين 4/ 471 من لعن شيئاً لم يكن للعنه أهلاً رجعت 1/ 566 من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا 3/ 408 من مخاطبة العبد ربه 4/ 49 من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها 3/ 154 من نوقش الحساب هلك 4/ 420 من هؤلاء؟ 2/ 293 من وجد الزاد والراحلة 1/ 308 من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله 4/ 259 مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش 4/ 246- النون- نادِ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة 2/ 247 ناولني حصيات 2/ 247 ناولني كفا من حصباء 2/ 195 نبزهم الرافضة 4/ 150 نَبِقُها مِثْلُ قِلال هَجَر، ووَرَقُها مِثلُ آذان الفيلة 4/ 186 نبي ضيعه قومه 1/ 531 نحن الآخرون السابقون يوم القيامة 1/ 178 نحن معاشر الأنبياء لا نورث 3/ 118 النخلة لك ولعيالك 4/ 454 نزل صلّى الله عليه وسلم يوم بدر وبينه وبين الماء رملة 2/ 192 نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما 1/ 603 نزلت في المؤذنين 4/ 52 طرف الحديث الجزء/ الصفحة نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور 2/ 215 نظرت إِلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر 4/ 294 نعم 3/ 44 نعم، (نهيت عن القتال في الشهر الحرام) 1/ 156 نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما 3/ 251 نعم، يُميتُكَ الله ثُمَّ يُحْييكَ ثُم َّيُدخلكَ نار جهنم 3/ 533 النعيم: الأمن والصحة 4/ 486 النعيم: الماء البارد 4/ 486 نفاعا حيثما توجهت 3/ 130 نهى (أن تنكح المرأة على عمتها 1/ 392 نهى (عن البول في الماء الدائم 4/ 339 نهى (عن قتل النساء والصبيان 1/ 544 نهى (عن متعة النساء 1/ 392 نور يقذفه الله في القلب فينفتح القلب 2/ 75- الهاء- هات المفتاح 1/ 423 هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني 2/ 282 هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو 2/ 237 هذا ما أُوحي إليَّ أنَّه محرَّم على المسلمين وعلى اليهود 2/ 89 هذا وقومُه، والذي نفسي بيده لو أن هذا الدِّين معلَّق بالثُّريَّا لتناوله رجال من فارس 4/ 124 هذه أمتي، بالحقّ يأخذون ويعطون 2/ 173 هذه لكم، وقد أعطي القوم مثلها 2/ 173 هل أعطاك أحد شيئا؟ 1/ 561 هل تدرون ما الكوثر؟ 4/ 497 هل تدرون ما قال ربكم؟ 4/ 214، 229 هل تدرون مم أضحك؟ 4/ 49

طرف الحديث الجزء/ الصفحة هل تعرف هذا الكتاب؟ 4/ 267 هل جئتم في عهد؟ 4/ 134 هل جعل لكم أحد أمانا؟ 4/ 134 هل عندكن شيء؟ 4/ 258 هل متعتها بشيء؟ 1/ 212 هل مررتَ بوادي أهلك مَحْلاً ثم مررتَ به يهتز خضرا؟ 3/ 507 هلاّ قُلْتِ: إِن أبي هارون وإِن عمِّي موسى وإن زوجي محمد 4/ 149 هلك المصرون 2/ 426 هم الجن، وإن الشيطان لا يخبِّل أحداً في داره 2/ 221 هم اليوم أربعة 4/ 331 هم قوم هذا 1/ 560 همّت يهود بالغدر فأخبرني الله بذلك 4/ 253 هو قرن ينفخ فيه 2/ 45 هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل 1/ 99 هو مسجدي هذا 2/ 298 هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة 4/ 497- الواو- والذي بعثني بالحق، لو فعلا لأمطر الوادي 1/ 289 والذي نفسي بيده إنها لَتَعْدِل ثُلُثَ القرآن 4/ 505 والذي نفسي بيده، لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا 4/ 467 والذي نفسي بيده، ما أُنزل في التوراة ولا في الانجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها 1/ 17 والله لأُرْضِيَنَّك، وَإني مُسِرٌّ إليك سراً فاحفظيه 4/ 305 والله لأمثلن بسبعين منهم 2/ 594 والله لو باعني أو أسلفني لقضيته 3/ 182 والله ما أخرجكنَّ الا حبُّ الله ورسولهِ 4/ 271 وإليك نسعى ونحفد 2/ 572 وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم 2/ 293 وأي شيء أقول فيه! هو عبد الله 1/ 502 وتجعلون رزقكم، قال: شكركم 4/ 229 وجدني في أهل غنيمة بشق 2/ 551 الورود: الدخول، لا يبقى بَرّ ولا فاجر إلا دخلها 3/ 143 وفَّى عملَ يومه بأربع ركعات في أول النهار 4/ 192 ولا تجزي عن أحد بعدك 2/ 250 ولَذِكْرُ الله إِيَّاكم أكبرُ من ذِكْركم إِيَّاه 3/ 409 وما تصنع بها؟ 4/ 251 وما هي يا عبد الله؟ 1/ 187 وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر 4/ 267 وممّ ذاك؟ 3/ 465 ومن صاحبكم 1/ 502 ويأتيك من لم تزوده بالأخبار 3/ 531 ويحك يا ثعلبة، قليلٌ تؤدي شكرَهُ خير من كثير 2/ 281 ويسعى بذمتهم أدناهم 2/ 239 ويل: واد في جهنم 1/ 82- الياء- يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام 4/ 444 يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب العظيم 2/ 103، 3/ 112 يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه 3/ 330 يؤتى يوم القيامة بناس إلى الجنة 3/ 132 يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ 1/ 229

طرف الحديث الجزء/ الصفحة يا أبا ذر، أتدري فيما انتطحتا؟ 2/ 25 يا أبا ذر، تدري أين ذهبت الشمس؟ 2/ 563 يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض 1/ 155 يا ثوبان، ما غير وجهك؟ 1/ 430 يا جابر، لا أراك ميتاً من وجعك هذا 1/ 504 يا جبريل، لم اتخذ الله إِبراهيم خليلا؟ 1/ 478 يا جبريل، ما يمنعك أن تزورنا 3/ 139 يا جَدُّ، هل لك في جِلاد بني الأصفر؟ 2/ 266 يا رب، كيف أصنع؟ إِنما أنا وحدي يجتمع عليّ الناس 1/ 568 يا رب، كيف بالغضب 2/ 181 يا رحمن يا رحيم 3/ 60 يا صباحاه 4/ 502 يا عائشة، أما شعرتِ أن الله أخبرني بدائي 4/ 507 يا عبد الله، هذه مؤمنة 1/ 187 يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب 3/ 557 يا عمّاه، إِن الله قد عصمني من الجن والإنس 1/ 568 يا عمر، إِن أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم 4/ 109 يا عمر، ضع سيفك 4/ 98 يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ 1/ 396 يا فلان، أخرج فإنك منافق 2/ 293 يا فلان، يا فلان، اشهدوا 4/ 196 يا معشر الشباب، عليكم بالباءة 3/ 293 يا مَعْشَر قريش، اشْتَرُوا أنفُسَكم من الله 3/ 350 يا مقداد، أقتلت رجلاً قال: لا إِله إلا الله 1/ 452 يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة 2/ 282 يا يهودي، إن الإسلام يسبك الرجال 3/ 225 يأجوج أمة، ومأجوج أمة 3/ 109 يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى 4/ 37 يبسطها ويمدها مد الأديم 2/ 520 يتجلى لهم الرب 4/ 164 يجزئك الثلث 2/ 203 يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل 1/ 119 يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا 3/ 217 يخرج رجل من النار قد ذهَبَ حِبْرُه وسبره 1/ 551 يخلُصُ المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار 2/ 121 يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة 4/ 26 يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات 4/ 331 يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما 4/ 211 يَقْبِضُ اللهُ الأرض يومَ القيامة ويَطْوي السماءَ بيمينه 4/ 26 يُقرَّب إِليه فيكرهه، فإذا أُدني منه شوى 2/ 508 يقوم أحدهم في رَشَحِهِ إلى أنصاف أذنيه 4/ 414 يكشف ربنا عن ساقه 4/ 325 يمنعني الله منك 1/ 525 يوضع في مسامعهم مسامير من نار 3/ 214

3- فهرس القوافي القافية: الشاعر: ج/ ص- الألف- جزى: أبو النجم: 1/ 605 العلا: أبو النجم: 1/ 605 وإن شرا فا:: 1/ 26 إلا أن تا:: 1/ 26 ألا تا:: 1/ 26 ألا فا:: 1/ 26 السرى:: 3/ 102 ما مضى:: 3/ 154 اليمنى:: 3/ 383 يبلى:: 3/ 383- الهمزة- وراءها: قيس بن الخطيم: 4/ 204 نساء: زهير بن أبي سلمى: 1/ 66 السواء: زهير بن أبي سلمى: 1/ 290 بقاء: زهير بن أبي سلمى: 1/ 290 نشاء: زهير بن أبي سلمى: 1/ 431 كفاء: حسان بن ثابت: 1/ 91 هواء: حسان بن ثابت: 2/ 518 ضوضاء: الحارث بن حلزة: 1/ 437 مبوؤها: إبراهيم بن هرمة: 2/ 134 الأحياء: عدي بن الرعلاء: 1/ 271 البناء:: 2/ 123 القافية: الشاعر: ج/ ص الأعداء:: 2/ 220 السواء:: 2/ 220- الباء- العجب:: 3/ 560 الذّنب:: 3/ 560 صبّا:: 4/ 496 مخضّبا: الأعشى: 3/ 64 واصبا: أبو الأسود الدؤلي: 2/ 564 دائبا:: 2/ 260 طنبا: أوس بن حجر: 2/ 527 صليبا: الهذلي: 1/ 509 قريبا: الأعشى: 2/ 145 يتذبذب: النابغة الذبياني: 1/ 44 مذهب: النابغة الذبياني: 2/ 507 ومذنب: الكميت بن زيد: 2/ 23 ومعرب: الكميت بن زيد: 4/ 29 فتصوّبوا: النابغة الجعدي: 2/ 179 يغضبوا: ابن الضريبة: 2/ 366 وعقرب:: 1/ 331 أرغب:: 2/ 506 والمهلّب:: 3/ 83 عاتب:: 1/ 386 صاحب:: 1/ 386 سارب:: 2/ 485

القافية الشاعر ج/ ص الأسباب:: 2/ 429 الطرب: الكميت: 1/ 280 غضبوا: ابن قيس الرقيات: 2/ 280 العرب: ابن قيس الرقيات: 2/ 280 منقضب: ذو الرمة: 2/ 527 ولا ندب: ذو الرمة: 2/ 533 الكذوب: ابن الزبعرى: 1/ 27 مجيب: كعب بن سعد الغنوي: 1/ 36 و 146 و 348 وقليب: كعب بن سعد الغنوي: 2/ 238 دبيب: علقمة بن عبدة: 1/ 39 فصليب: علقمة بن عبدة: 1/ 232 و 290 و 430 و 4/ 204 طبيب: علقمة بن عبدة: 3/ 326 و: 4/ 335 لبيب: المضرب بن كعب: 1/ 506 لغريب ضابئ البرجمي: 2/ 255 يصوب:: 1/ 49 ذنوب:: 1/ 175 و 2/ 138 طبيب:: 2/ 115 تشيب: 2/ 115 ذنوب:: 4/ 174 القليب:: 4/ 174 وغاربه: أبو الغمر الكلابي: 1/ 470 وأخاطبه: ذو الرمة: 2/ 530 وملاعبة: ذو الرمة: 2/ 530 ثاقبه:: 1/ 36 كذابه: الأعشى: 4/ 390 طلابها: أبو ذؤيب: 1/ 316 جوابها: الفرزدق: 1/ 358 و 2/ 398 ثوابها:: 1/ 331 أبي كعب:: 3/ 213 القافية الشاعر ج/ ص الكواكب: بشر بن أبي خازم: 2/ 527 المعذّب: امرؤ القيس: 4/ 162 تطيّب: امرؤ القيس: 4/ 162 تطيّب امرؤ القيس: 4/ 162 لغرّب:: 4/ 366 عائبي: أبو الغول الطهوي: 1/ 402 العقارب: جرير: 2/ 89 الكتائب: النابغة الذبياني: 2/ 280 الكواكب: النابغة الذبياني: 2/ 565 بالحواجب: القناني: 2/ 385 وبالشراب: امرؤ القيس: 3/ 29 بالإياب امرؤ القيس: 4/ 164 السحاب:: 4/ 356 نشب: عمرو بن معديكرب: 1/ 242 و 2/ 382 النّقب: دريد بن الصمة: 1/ 527 والذّهب: مالك بن نويرة: 4/ 214 الذّنب:: 1/ 55 تأويب: سلامة بن جندل: 3/ 513 بالكوب: عدي بن زيد: 4/ 83 كالزبيب:: 4/ 386- التاء- طولت:: 4/ 29 أمئيت:: 4/ 29 فكررت:: 4/ 29 ثلثت:: 4/ 29 سبعت:: 4/ 29 مقيتا: أحيحة بن الجلاح: 1/ 441 أتيتا:: 2/ 426 هيتا:: 2/ 426

القافية الشاعر ج/ ص أسكتا:: 2/ 426 لهيّتا:: 2/ 426 البغت: يزيد بن ضبة: 2/ 21 ودعوت: قيس لبنى: 2/ 503 وقضيت: قيس لبنى: 2/ 503 سريت رؤبة:: 4/ 154 ليت: رؤبة: 4/ 154 ميت:: 1/ 271 واستقيت:: 1/ 271 مشيت:: 4/ 401 مقيت:: 1/ 441 برّت كثير عزة: 1/ 196 و: 581 تقلّت كثير عزة: 2/ 267 ملّت: كثير عزة: 4/ 72 فاستقرّت: العجاج: 4/ 478 فاقفعلت:: 1/ 23 واللاتي:: 1/ 381 لداتي:: 1/ 381- الجيم- الفلج:: 3/ 231 و 4/ 320 بالفرج:: 3/ 126 و 231 و 4/ 320 الساج:: 4/ 457 النساج:: 4/ 457 تأججا:: 3/ 329 تهملج: النابغة الجعدي: 3/ 372- الحاء- أروح:: 4/ 461 برّح:: 4/ 461 يسنح:: 4/ 461 نشرح:: 4/ 461 القافية الشاعر ج/ ص فافرح:: 4/ 461 ورمحا: ابن الزبعرى: 1/ 522 و 4/ 222 الصروحا: أبو ذؤيب الهذلي: 3/ 365 شيحا المضرس بن ربعي: 4/ 162 أكدح: تميم بن مقبل: 1/ 416 و 3/ 420 و 4/ 420 يبرح: ذو الرمة: 1/ 41 أملح:: 1/ 38 و 100 أروح:: 3/ 83 الطوائح: نهشل بن حري: 2/ 529 الرياح: الهذلي: 1/ 199 مذبوح: أبو ذؤيب الهذلي: 3/ 81 الريح:: 2/ 131 وأستريح:: 2/ 131 كشوحها: النمر بن تولب: 1/ 323 راح: جرير: 1/ 50 و 3/ 302 و 414 جناحي: جرير: 3/ 383 بقرواح: أوس بن حجر: 1/ 470 القماح: بشر بن أبي خازم: 3/ 518 والجناح:: 3/ 156 رزاح:: 4/ 85 وذبائح:: 2/ 456- الدال- من أحد: منظور الوبري: 1/ 287 من أسد: منظور الوبري: 1/ 287 في العدد: منظور الوبري: 1/ 287 الصّمد: سبرة الأسدي: 4/ 506 معدّ: الحارث بن دوس: 4/ 198 وبرد:: 2/ 568 الممتاد: رؤبة: 1/ 601

القافية الشاعر ج/ ص تغريد:: 4/ 25 بإقليد:: 4/ 25 بردا: العرجي: 1/ 583 و 4/ 390 بعدا:: 1/ 23 وجدا:: 1/ 23 جهدا:: 1/ 23 بها بدّا:: 1/ 509 محمدا: الأعشى: 1/ 381 مخلدا: حطائط بن يعفر: 2/ 383 جلمدا: الأحوص: 3/ 30 جامدا: الأحوص: 3/ 30 الذائدا:: 1/ 464 واحدا:: 1/ 464 باردا:: 1/ 522 و 4/ 222 نكدا:: 2/ 132 صردا:: 2/ 552 بددا:: 2/ 552 الوالدة:: 2/ 346 جيدها:: 2/ 390 والبعد: الحطيئة: 1/ 555 قدّوا: الحطيئة: 2/ 238 الفرد: حسان بن ثابت: 4/ 321 يخلّد: حسان بن ثابت: 3/ 113 ويولد:: 2/ 171 يبرد:: 4/ 337 سبد: الراعي النميري: 2/ 270 سود: الأعشى: 1/ 323 بعيد: عروة بن حزام: 2/ 130 ومحصود : 2/ 327 و: 3/ 579 المجلود:: 2/ 420 تعود:: 3/ 199 وقعود:: 3/ 199 أمده: الطرماح: 1/ 273 عهد: الحكم بن عبدل: 1/ 470 العبد: المقنع الكندي: 2/ 178 عن خدّ:: 2/ 208 أصدّي:: 2/ 208 ضحى: غد عدي بن زيد: 2/ 66 المتردّد عدي بن زيد: 3/ 153 متهجّد: النابغة الذبياني: 3/ 47 يرشد: النابغة الذبياني: 3/ 47 نقعد: امرؤ القيس: 3/ 154 قدي: حميد الأرقط: 3/ 551 موقد الحطيئة: 4/ 78 يوأد: الفرزدق: 4/ 406 [مخلدي] : طرفة: 3/ 420 تزوّد: طرفة: 3/ 531 بأوحد: طرفة: 3/ 421 و 4/ 455 المتشدّد: طرفة: 4/ 482 باليد:: 2/ 489 المتعمّد:: 3/ 164 أم خالد الأشهب بن رميلة: 1/ 37 و: 4/ 19 الأساود: الأشهب بن رميلة: 4/ 324 وتالد: متمم بن نويرة: 1/ 351 رماد: حسان بن ثابت: 3/ 361 الأوتاد: الأسود بن يعفر: 3/ 561 وغادي:: 1/ 112 فقد: النابغة الذبياني: 1/ 47 البرد:: 2/ 392 شديد: أبو زبيد الطائي: 2/ 157 المنجود: أبو زبيد الطائي: 2/ 444 بمردود: هانئ بن شكيم: 2/ 471

القافية الشاعر ج/ ص وثمود:: 1/ 41 جحود:: 1/ 41 رود:: 4/ 430 المديد:: 4/ 442 المشيد:: 4/ 442 الحشيد:: 4/ 442 وعيدي:: 4/ 442 شديد:: 4/ 442 والعديد:: 4/ 442 هود:: 4/ 442 الرشيد:: 4/ 442 محيد:: 4/ 442 البعيد:: 4/ 442 حصيد:: 4/ 442 حدادها: الأعشى: 1/ 151 [فادها] : الأعشى: 1/ 387- الراء- أو مضر: لبيد: 1/ 38 اعتذر: لبيد: 2/ 287 و 288 و 4/ 431 أنتصر: امرؤ القيس: 1/ 259 و 2/ 516 نكر: عبيدة بن همام: 1/ 298 و 437 نسر: النمر بن تولب: 1/ 513 درر: النمر بن تولب: 4/ 207 معتصر: ابن أحمر: 2/ 445 الضجر:: 1/ 172 الشّجر:: 2/ 552 ضرر:: 2/ 552 اعتكر:: 4/ 378 زهر:: 4/ 378 المسير:: 4/ 95 القافية الشاعر ج/ ص الحير:: 4/ 95 سمرا: الفرزدق: 1/ 335 قدرا: ذو الرمة: 1/ 501 تمرا:: 2/ 209 وزبرا:: 2/ 209 خضرا:: 4/ 217 أحمرا: امرؤ القيس: 2/ 60 بيقرا: امرؤ القيس: 4/ 180 أضمرا: الفرزدق: 2/ 335 مسكّرا: الفرزدق: 3/ 23 أبجرا: الأبيرد الرياحي: 3/ 541 وأقهرا: المخبل السعدي: 3/ 545 المنفّرا: ليلى الأخيلية: 4/ 360 موفّرا:: 2/ 429 مشارا: الأعشى: 1/ 340 و 4/ 379 نارا: أبو دؤاد الإيادي: 1/ 401 [واستنارا] : الراعي النميري: 2/ 94 ووقارا: أبو عريف الكلبي: 2/ 247 الإزارا: ابن أحمر: 2/ 360 عقارا: المسيب بن علس: 4/ 417 إعصارا:: 1/ 240 حمارا:: 1/ 309 مستعارا:: 2/ 116 و 435 إكبارا:: 2/ 436 نفرا: الربيع بن منيع الفزاري: 3/ 532 والقمرا: جرير: 4/ 92 سكرا:: 2/ 569 كفورا: الأسود بن عامر بن جوين: 1/ 437 كبيرا: أمية بن أبي الصلت: 2/ 128 سريرا: أمية بن أبي الصلت: 2/ 128 صورا: أمية بن أبي الصلت: 2/ 128

القافية الشاعر ج/ ص ذكورا: الأعشى: 4/ 116 مستطيرا: الأعشى: 4/ 377 والفقيرا:: 1/ 175 كسيرا:: 3/ 571 ستر: مسكين الدارمي: 1/ 38 الخدر: مسكين الدارمي: 1/ 38 وقر: مسكين الدارمي: 1/ 38 الدهر: حاتم الطائي: 2/ 139 الفقر: حاتم الطائي: 2/ 139 الصّدر: حاتم الطائي: 4/ 230 الفجر: أبو صخر الهذلي: 2/ 470 الشّكر: أبو صخر الهذلي: 3/ 209 أجر:: 1/ 55 يعصر:: 2/ 444 المقادر: ذو الرمة: 3/ 64 القصائر: كثير عزة: 4/ 216 البحاتر: كثير عزة: 4/ 216 عامر:: 2/ 429 الهواجر:: 4/ 364 قماطر:: 4/ 378 الصّفر: الأعشى: 1/ 246 الزفر: أعشى باهلة: 1/ 312 و 4/ 50 الغمر: أعشى باهلة: 4/ 225 الصدور: العباس بن مرداس: 2/ 345 و 3/ 224 بور: ابن الزبعرى: 3/ 315 القدور:: 1/ 114 و 2/ 236 و 366 صور:: 1/ 236 لمغرور:: 1/ 263 الصّور:: 2/ 45 القافية الشاعر ج/ ص لصبور:: 2/ 516 كثير:: 2/ 571 قذور:: 2/ 571 يضرّه: النابغة الذبياني: 1/ 339 و: 2/ 381 مرّه: النابغة الذبياني: 2/ 381 يسرّه: النابغة الذبياني: 2/ 381 نشورها: خالد بن زهير الهذلي: 1/ 68 و 340 وبسورها: توبة بن الحميّر: 4/ 363 الجمر: عمران بن حطان: 1/ 106 الجزر: خرنق بنت هفان: 1/ 498 الأزر: خرنق بنت هفان: 1/ 498 شهر: زهير بن أبي سلمى: 2/ 298 و 552 لا يفري: زهير بن أبي سلمى: 3/ 258 و 4/ 265 البحر: ذو الرمة: 2/ 316 الخمر: المسيب بن علس: 4/ 379 عمرو: عبد الرحمن المحاربي: 3/ 212 بنكر: زيد بن عمرو بن نفيل: 3/ 395 ضرّ: زيد بن عمرو بن نفيل: 3/ 395 بالغدر:: 1/ 88 أبي بكر:: 1/ 225 وذا ظفر:: 2/ 88 ولا ظفري:: 2/ 88 بني صخر:: 2/ 464 إلى وكر:: 2/ 516 الصّدر:: 3/ 148 والنّكر:: 4/ 265 وحمير: لبيد: 1/ 29 المسحّر: لبيد: 3/ 29 منكر: عبيد بن وهب العبسي: 3/ 72 الحميري: أبو ذؤيب: 4/ 415

القافية الشاعر ج/ ص لعامر: الراعي النميري: 1/ 44 عامر: الراعي النميري: 3/ 226 بالجرائر: الشنفري: 2/ 43 الناشر: الأعشى: 2/ 131 و 4/ 402 قابر: الأعشى: 4/ 402 للحوافر: زيد الخيل: 2/ 563 المواطر:: 1/ 22 المقادر:: 1/ 22 المقادر:: 3/ 246 وانتظاري: عدي بن زيد: 1/ 49 اعتصاري: عدي بن زيد: 2/ 445 نهار: ربيع بن زياد: 1/ 293 الأسحار: ربيع بن زياد: 1/ 293 الساري: الأخطل: 4/ 178 إزاري:: 1/ 148 وعار:: 4/ 395 قدر: جرير: 1/ 38 عوري: ابن مقبل: 2/ 524 دعر: ابن مقبل: 3/ 382 بالسّور:: 3/ 231 منثور: الفرزدق: 3/ 39 القدور:: 1/ 259 أظفور:: 2/ 88 زور:: 2/ 128 غدور:: 2/ 255 الأمير:: 3/ 568 دارها:: 4/ 398 سرارها:: 4/ 398- الزاي- الأجراز:: 3/ 65 القافية الشاعر ج/ ص عزّ بزّا: الخنساء: 1/ 487 و 2/ 319 اللمزة: زياد الأعجم: 2/ 269 و 4/ 489 مبزي: رؤبة: 1/ 70 بالرجز: رؤبة: 1/ 70- السين- الأخماس: رؤبة: 2/ 29 وإبلاس: رؤبة: 2/ 29 بسّا:: 4/ 219 مكرسا: العجاج: 2/ 29 وأبلسا: العجاج: 2/ 29 تنفسا: علقمة بن قرط: 4/ 408 وعسعسا: علقمة بن قرط: 4/ 408 التباسا: النابغة الجعدي: 1/ 36 لباسا: النابغة الجعدي: 4/ 211 بئيسا: ذو الإصبع العدواني: 2/ 164 رأس:: 3/ 213 المجلس: المهلهل: 1/ 89 و 3/ 43 الجلّس:: 1/ 78 الفوارس: ذو الرمة: 3/ 71 نفسي: الخنساء: 4/ 78 بالتأسي: الخنساء: 4/ 78 حندس:: 3/ 82 السندس:: 3/ 82 الجواميس: جرير: 2/ 563- الشين- قريشا:: 4/ 494 ريشا:: 4/ 494

القافية الشاعر ج/ ص- الصاد- وتبوص: امرؤ القيس: 3/ 559 خميص:: 1/ 30 و 192 2/ 136 و 563 و 4/ 204 حريص:: 2/ 122- الضاد- تقضى: رؤبة: 1/ 250 بعضا: رؤبة: 1/ 250 بالمعضّى: رؤبة: 2/ 544 أرضى:: 2/ 368 ما مضى:: 3/ 154 بعض: طرفة: 3/ 122 نقضي:: 2/ 416 عرضي:: 2/ 416 تبيضّضي:: 2/ 429- الطاء- المناشطا: هميان بن قحافة: 4/ 394 واسطا: هميان بن قحافة: 4/ 394- العين- خدع: سويد بن أبي كاهل: 1/ 31 رتع: سويد بن أبي كاهل: 2/ 417 المستمع:: 1/ 54 جذع:: 2/ 149 أضع:: 2/ 149 بصاع:: 2/ 429 مدفعا: امرؤ القيس: 1/ 436 و 2/ 364 أشنعا: مقاس العائذي: 2/ 39 المقنعا: جرير: 1/ 434 مصنعا:: 2/ 456 القافية الشاعر ج/ ص أطمعا:: 2/ 517 ممنعا:: 4/ 162 اتباعا: القطامي: 4/ 343 ذراعا:: 2/ 389 قد ينعا: الأحوص أو يزيد: 2/ 61 مضطجعا: الأعشى: 2/ 291 والصلعا: الأعشى: 2/ 385 و 4/ 384 خدوعا:: 1/ 294 رفعه: الأضبط بن قريع: 1/ 561 تدفع: أبو ذؤيب الهذلي: 1/ 227 ترقع: أبو ذؤيب الهذلي: 1/ 544 تبّع: أبو ذؤيب الهذلي: 4/ 47 يجزع: أبو ذؤيب الهذلي: 4/ 179 الخشّع: جرير: 2/ 416 وتقطّع: أوس بن حجر: 2/ 464 أتقنّع: غيلان بن سلمة: 4/ 359 مدمع:: 1/ 502 أطمع:: 2/ 166 مجمع:: 2/ 341 و 3/ 166 نوازع: النابغة الذبياني: 1/ 41 سابع: النابغة الذبياني: 1/ 58 الأصابع: النابغة الذبياني: 2/ 434 ساطع: لبيد: 1/ 175 و 3/ 397 و 4/ 420 الأصابع: لبيد: 2/ 507 الزعازع: الفرزدق: 2/ 158 الطوالع: الفرزدق: 4/ 78 الودائع: بيهس العذري: 3/ 95 طالع: عبد الله بن رواحة: 3/ 198 المضاجع: عبد الله بن رواحة: 3/ 198 مجاشع:: 2/ 107 نافع:: 4/ 336

القافية الشاعر ج/ ص وجيع: عمرو بن معديكرب: 1/ 487 صديع: عمرو بن معديكرب: 2/ 545 رجوع: قيس بن ذريح: 2/ 343 رجوعها: الأحوص: 3/ 262 مصرعي: خبيب بن عدي: 1/ 170 ممزّع: خبيب بن عدي: 1/ 170 والأقرع: العباس بن مرداس: 3/ 530 بجائع: امرأة من قشير: 1/ 373 فارع: مقيس بن صبابة: 1/ 450 راجع: مقيس بن صبابة: 1/ 450 القصاع: الحطيئة: 1/ 211 ربوع: الشماخ: 2/ 99 القنوع: الشماخ: 3/ 239- الفاء- قاف:: 1/ 26 و 4/ 157 [الأكفّا] :: 2/ 505 و 506 أوجفا: العجاج: 2/ 406 فزلفا: العجاج: 2/ 406 احقوقفا: العجاج: 2/ 406 دنفا: العجاج: 3/ 46 تزحلفا: العجاج: 3/ 46 الوظيفا: الهذلي: 2/ 506 مشرف: الفرزدق: 1/ 532 مجلّف: الفرزدق: 3/ 164 تقصّف:: 2/ 470 المخلّف:: 2/ 470 وزائف: المزرد: 3/ 78 نزاحف:: 1/ 286 تحانف:: 1/ 286 كاسف:: 2/ 509 القافية الشاعر ج/ ص الرواجف:: 4/ 494 مختلف: عمرو بن امرئ القيس: 2/ 255 أو المرار الأسدي و 3/ 501 و 4/ 159 طرف: جرير: 3/ 194 تنغرف: قيس بن الخطيم: 3/ 283 خلاف:: 1/ 353 الأعراف:: 2/ 123- القاف- المصطلق:: 3/ 100 وانطلق:: 3/ 100 نطق:: 3/ 101 تلق:: 3/ 284 طارق: هند بنت عتبة: 4/ 428 النمارق: هند بنت عتبة: 4/ 428 ساق:: 4/ 325 بالمضيق:: 3/ 333 السرادقا: الفرزدق: 3/ 80 حقائقا:: 4/ 421 سائقا:: 4/ 421 دقيقا:: 1/ 112 لبيقا:: 1/ 112 يبرق: ذو الرمة: 1/ 41 الغرق: العباس بن عبد المطلب: 3/ 525 شرق:: 3/ 337 وتنطلق:: 3/ 337 تذوق: حميد بن ثور: 2/ 490 إبريق: عدي بن زيد: 4/ 221 يذوق:: 1/ 281 أطيق:: 3/ 392

القافية الشاعر ج/ ص تشقّق: عقفان بن قيس: 2/ 88 تفتّق: الشماخ أو المزرد: 3/ 17 تبرق: طرفة: 4/ 369 موثق:: 1/ 42 متألق:: 1/ 42 أيانق: عمارة بن طارق: 4/ 503 شقاق: بشر بن أبي خازم: 1/ 570 مراق: عوف بن الأحوص: 2/ 43 العراق:: 2/ 128 مهراق:: 2/ 128 طبق: الأقرع بن حابس: 4/ 422- الكاف- حلالك: عبد المطلب: 4/ 491 محالك: عبد المطلب: 4/ 491 عيالك: عبد المطلب: 4/ 491 جلالك: عبد المطلب: 4/ 491 بدا لك: عبد المطلب: 4/ 491 مكّا:: 4/ 135 وعكّا:: 4/ 135 عذلكا:: 1/ 116 مثلكا:: 1/ 116 مباركا: أبو خالد القناني: 1/ 16 إيثاركا: أبو خالد القناني: 1/ 16 أنا ذلكا: خفاف بن ندبة: 1/ 27 عزائكا: الأعشى: 1/ 198 نسائكا: الأعشى: 1/ 198 مالكا:: 1/ 297 سواكا: عبد المطلب: 4/ 491 حماكا: عبد المطلب: 4/ 491 عاداكا: عبد المطلب: 4/ 491 القافية الشاعر ج/ ص قراكا: عبد المطلب: 4/ 491 الدوالك: ذو الرمة: 3/ 46- اللام- الطفل: لبيد: 1/ 24 سأل: لبيد: 1/ 49 وعجل: لبيد: 2/ 187 فاضمحلّ: لبيد: 2/ 490 [غفل] : لبيد: 3/ 47 وحائل: الطرماح: 2/ 529 مقبلا: أوس بن حجر: 1/ 205 أعضلا: أوس بن حجر: 1/ 205 أسهلا: عمر بن أبي ربيعة: 1/ 500 المغفلا:: 1/ 381 أرملا:: 2/ 467 المطافلا:: 1/ 59 الأوعالا: الفرزدق: 1/ 78 الأبطالا: الفرزدق: 3/ 23 خيالا: الأخطل: 2/ 48 و 4/ 179 ميكالا: جرير: 1/ 91 أبوالا: أمية بن أبي الصلت: 1/ 175 مقالا: الحطيئة: 3/ 122 الأبطالا:: 2/ 389 الطوالا:: 2/ 389 وقبالا:: 4/ 223 والجبالا:: 4/ 223 فصلا: عدي بن زيد: 1/ 71 يخون إلى: الأعشى: 2/ 133 حملا: الأخطل: 2/ 575 معقولا: الراعي النميري: 2/ 420 تحويلا: ابن رواحة: 3/ 113

القافية الشاعر ج/ ص السبيلا:: 1/ 309 الجبلّة:: 3/ 347 أمر الله:: 4/ 324 المغلّه:: 4/ 324 قالها: الخنساء: 1/ 290 أوعالها: الخنساء: 1/ 290 أمثالها: الخنساء: 1/ 290 ما لها: الخنساء: 2/ 464 حبالها: الأعشى: 1/ 311 أطفالها: الأعشى: 2/ 467 إبقالها: عامر بن جوين الطائي: 2/ 444 و 3/ 14 ثعل: ابن همام السلولي: 1/ 294 يستهلّ: تأبط شرا: 2/ 386 البقل: زهير بن أبي سلمى: 3/ 259 فيستعلوا: زهير بن أبي سلمى: 4/ 217 القتل:: 1/ 84 رحل:: 4/ 243 أصل:: 4/ 243 منزل: ورقة بن نوفل: 1/ 90 وأطول: الفرزدق: 2/ 153 و 3/ 421 أول: معن بن أوس: 2/ 188 و 3/ 421 لأميل: الأحوص: 3/ 421 العواذل: الهذلي: 4/ 243 والوسائل:: 1/ 544 البطل: الأعشى: 1/ 34 وينتعل: الأعشى: 2/ 122 عجل: الأعشى: 4/ 176 ما يئل: الأعشى: 3/ 93 هطل: الأعشى: 3/ 418 الأصل: الأعشى: 3/ 418 القافية الشاعر ج/ ص الأمل: الراعي النميري: 3/ 379 الزّلل: القطامي: 4/ 36 حملوا:: 2/ 464 الإبل:: 2/ 464 معازيل: عبدة بن الطبيب: 2/ 179 يعيل: أحيحة بن الجلاح: 2/ 249 و 4/ 458 طويل: مجنون ليلى: 2/ 490 أقول:: 1/ 111 و 2/ 141 قليل:: 1/ 239 جزيل:: 2/ 327 فمطيل:: 2/ 327 أو كلّه:: 2/ 113 فلا أحلّه:: 2/ 113 آجله: توبة بن مضرس: 1/ 539 كاهله: ابن ميادة: 2/ 51 أنامله: ضابئ البرجمي: 2/ 489 [حلائله] : ضابئ البرجمي: 3/ 154 حواصله:: 2/ 568 نواصله:: 3/ 262 يستبيلها: الفرزدق: 1/ 55 قبيلها: الأعشى: 3/ 54 والأهل: المنخل: 2/ 416 قبلي: أبو ذؤيب الهذلي: 2/ 506 بالمهل: ذو الرمة: 3/ 316 رسل:: 1/ 81 و 3/ 246 لا أقلي:: 3/ 85 التبقل: أبو النجم: 1/ 71 ونهشل: أبو النجم: 1/ 71 مقتّل: امرؤ القيس: 1/ 259 بكلكل: امرؤ القيس: 1/ 259

القافية الشاعر ج/ ص يفعل: امرؤ القيس: 2/ 343 تنجلي: امرؤ القيس: 2/ 398 مرحّل: امرؤ القيس: 2/ 398 تنسل: امرؤ القيس: 4/ 360 كالسجنجل: امرؤ القيس: 4/ 429 ممحل: عبد قيس بن خفاف: 1/ 279 فانزل: عبد قيس بن خفاف: 1/ 279 الأعزل: لبيد: 2/ 270 بهيضل: أبو كبير الهذلي: 2/ 522 فانزل: عنترة العبسي: 3/ 180 المتحوّل: هدبة بن خشرم: 3/ 392 يتفل: ذو الرمة: 4/ 509 ذائل: النابغة الذبياني: 1/ 93 عوامل: الهذلي: 1/ 464 بالأصائل: أبو ذؤيب الهذلي: 2/ 184 حابل:: 1/ 325 والأغلال: أمية بن أبي الصلت: 1/ 34 الأذيال: أمية بن أبي الصلت: 1/ 59 إسرال: أمية بن أبي الصلت: 1/ 59 العقال: أمية بن أبي الصلت: 2/ 524 أمثالي: امرؤ القيس: 1/ 210 ميّال: امرؤ القيس: 2/ 326 إذلال: امرؤ القيس: 1/ 276 و 2/ 326 وأوصالي: امرؤ القيس: 1/ 538 و 2/ 464 أغوال: امرؤ القيس: 3/ 543 مالي: زيد الخيل: 2/ 383 دلال: أمية بن عائذ الهذلي: 2/ 181 الهلال: جرير: 2/ 416 و 3/ 335 المحال: الأعشى: 2/ 488 يبالي: الأعشى: 2/ 488 هلال: لبيد: 2/ 530 القافية الشاعر ج/ ص [بالرجال] : عدي بن زيد: 3/ 538 بخيال: تميم بن مقبل: 4/ 28 الذليل: سري السقطي: 1/ 179 وقيل: سري السقطي: 1/ 179 القتيل: عنترة الطائي: 2/ 208 عقيل: الراعي: 3/ 101 برسول: كثير عزة: 3/ 336 بالعقول:: 2/ 116 قلله: جميل بن معمر: 2/ 435 برجله: أم الأحنف: 1/ 116 هزله: أم الأحنف: 1/ 116 مثله: أم الأحنف: 1/ 116 خليله: ابن رواحة: 3/ 222- الميم- إبرهم: عبد المطلب: 1/ 107 ينتقم: الأعشى: 1/ 296 حرم: الأعشى: 2/ 347 حطم: الحطم البكري: 1/ 507 غنم: الحطم البكري: 1/ 507 وضم: الحطم البكري: 1/ 507 لم ينم: الحطم البكري: 1/ 507 كالزّلم: الحطم البكري: 1/ 507 القدم: الحطم البكري: 1/ 507 من صمم: المثقب العبدي: 2/ 18 كم وكم:: 1/ 163 و 4/ 208 القوم:: 3/ 196 اليوم:: 3/ 196 سلّما: وضاح اليمن: 1/ 277 و 3/ 567 أينما: النمر بن تولب: 1/ 436 مبهما: حاتم الطائي: 1/ 514

القافية الشاعر ج/ ص بمنطقها فما: حميد بن ثور: 1/ 259 و 3/ 355 موشّما: حميد بن ثور: 2/ 109 لها ابنما: الملتمس: 2/ 253 ميسما: المتلمس: 3/ 56 لصمّما: المتلمس: 3/ 165 وأزنما: العوام بن شوذب: 4/ 288 وتمما:: 1/ 18 يتندما:: 1/ 318 درهما:: 2/ 401 الدما:: 2/ 401 راهما: هند بنت عتبة: 3/ 567 عرواهما: هند بنت عتبة: 3/ 567 حماهما: هند بنت عتبة: 3/ 567 تراهما: هند بنت عتبة: 3/ 567 غنماهما: أبو أسيدة الدبيري: 4/ 330 سلاما: جرير: 1/ 78 لماما: جرير: 2/ 109 غراما: بشر بن أبي خازم: 3/ 328 ألاما: أم عمير الحنفي: 3/ 552 الطعاما:: 1/ 58 [السناما] :: 3/ 85 ولا ذمما:: 2/ 238 و 239 هامة: يزيد بن مفرغ: 1/ 432 غمامه: يزيد بن مفرغ: 4/ 92 طعم:: 3/ 169 عقم:: 3/ 246 منظم:: 1/ 239 يقدم:: 2/ 514 جاحم: الأعشى: 1/ 106 راغم: الأعشى: 2/ 346 إبراهم: عبد المطلب: 1/ 107 القافية الشاعر ج/ ص قائم: عبد المطلب: 1/ 107 رواغم:: 1/ 445 والغلام: أوس بن غلفاء: 1/ 280 السلام: المثقب العبدي: 2/ 552 أثام: بلعاء بن قيس: 3/ 329 الحمام:: 1/ 259 السلام:: 2/ 96 السّقم: العرجي: 2/ 464 والرّحم:: 3/ 103 والحرم:: 4/ 78 مذءوم: حسان بن ثابت: 2/ 107 يتيم:: 1/ 84 حكيم:: 2/ 219 والحتوم:: 2/ 469 محروم:: 3/ 142 سمه: رؤبة: 1/ 16 مقدّمه:: 1/ 16 سمه:: 1/ 16 حمامها: لبيد: 4/ 36 عقيمها: كثير عزة: 2/ 529 نسيمها:: 2/ 131 همّي: رؤبة: 1/ 36 غمّي: رؤبة: 1/ 36 عكم: الحطيئة: 1/ 298 الرجم: النابغة الجعدي: 1/ 132 و 3/ 23 أم الهيثم: عنترة العبسي: 1/ 65 مخرم: عنترة العبسي: 2/ 233 و 324 و 3/ 142 لم تحرم: عنترة العبسي: 3/ 568 مكلمي: عنترة العبسي: 4/ 242

القافية الشاعر ج/ ص بمحرّم: عنترة العبسي: 4/ 359 المذمّم: الأعشى: 1/ 172 من الدم: الأعشى: 2/ 417 التكلم: زهير بن أبي سلمى: 1/ 331 المرجّم: زهير بن أبي سلمى: 3/ 74 المتخيّم: زهير بن أبي سلمى: 3/ 143 مجثم: زهير بن أبي سلمى: 3/ 327 زهدم: سحيم بن وثيل: 2/ 496 مطعم: أبو وجزة السعدي: 3/ 559 بمعظم:: 1/ 119 وأنعمي:: 1/ 227 لمأثم:: 1/ 331 لم تكلم:: 3/ 93 النواسم: ذو الرمة: 1/ 33 أم القاسم: ابن الرقاع: 1/ 70 و 434 جاسم: ابن الرقاع: 1/ 229 بنائم: ابن الرقاع: 1/ 229 بنائم: جرير: 2/ 340 و 3/ 500 بدارم: الفرزدق: 4/ 85 والأداهم:: 2/ 137 سلّام: الحطيئة: 1/ 93 شمام: الفرزدق: 1/ 163 بالسهام: لبيد: 1/ 350 النعام: حسان بن ثابت: 2/ 239 الأيام: جرير: 3/ 25 أقوام:: 1/ 138 لأقوام:: 1/ 195 أحلام:: 1/ 195 الأقدام:: 4/ 327 الرحيم: جرير: 1/ 120 و 2/ 313- النون- شزن: الأعشى: 1/ 241 أنكرن: الأعشى: 1/ 267 يأتين: الأعشى: 1/ 267 قد عدن: الأعشى: 2/ 277 الجمعين:: 2/ 45 النقعين:: 2/ 45 الصورين:: 2/ 45 ومينا: عدي بن زيد: 1/ 65 أين أينا: عبيد بن الأبرص: 1/ 163 و 4/ 208 لحنا: مالك بن أسماء: 4/ 121 عريانا: سوار بن المضرب: 2/ 110 ومسانا: أمية بن أبي الصلت: 2/ 268 عمرانا:: 2/ 346 أحيانا:: 4/ 74 العالمينا: الحطيئة: 1/ 18 سبعينا: لبيد: 1/ 19 الجاهلينا: عمرو بن كلثوم: 1/ 35 لاعبينا: عمرو بن كلثوم: 1/ 40 جنينا: عمرو بن كلثوم: 1/ 438 العيونا: عمرو بن كلثوم: 3/ 127 مأمونا: عمران بن حطان: 1/ 90 لينا: تميم بن مقيل: 1/ 313 سجّينا: تميم بن مقبل: 2/ 393 شجينا: المسيب بن زيد مناة: 1/ 430 و 3/ 224 و 4/ 204 دفينا: أبو طالب: 2/ 19 عيونا: أبو طالب: 2/ 19 دينا: أبو طالب: 2/ 19 مبينا: أبو طالب: 2/ 19 جنونا: حسان بن ثابت: 2/ 255

القافية الشاعر ج/ ص آمينا:: 1/ 23 لما جينا:: 1/ 59 إسرائينا:: 1/ 59 تشكونا:: 1/ 84 يوصينا:: 1/ 84 جافونا:: 1/ 84 لما جينا:: 1/ 110 اسماعينا:: 1/ 110 متينا:: 1/ 311 القرينا:: 3/ 559 والعيونا:: 4/ 222 إنّه: ابن قيس الرقيات: 3/ 165 المباين: المعطل الهذلي: 2/ 436 المساكن:: 2/ 346 دانوا: الفند الزماني: 1/ 250 أذنوا: قعنب بن أم صاحب: 1/ 587 و 4/ 419 دفنوا: قعنب بن أم صاحب: 2/ 141 و 3/ 506 رهين: النابغة الذبياني: 1/ 34 الظنون: النابغة الذبياني: 2/ 380 فيهون: كثير عزة: 2/ 102 ميزانه:: 2/ 103 بشنّ: النابغة الذبياني: 2/ 217 و 4/ 170 الفرقدان: عمرو بن معديكرب: 1/ 448 طهيان: الأحول الكندي: 1/ 598 و 3/ 70 والشّبهان: الأحول الكندي: 3/ 231 بأرسان: امرؤ القيس: 2/ 392 رماني: ابن أحمر: 4/ 159 الأركان:: 2/ 391 باني:: 2/ 391 القافية الشاعر ج/ ص حقّان:: 2/ 404 بالإحسان:: 3/ 101 الكثبان:: 4/ 221 والحزن:: 4/ 237 لم يكن:: 4/ 237 اللعين: الشماخ: 1/ 127 الوتين: الشماخ: 4/ 333 يليني: المثقب العبدي: 1/ 140 و 316 و 2/ 367 و 576 و 3/ 518 يبتغيني: المثقب العبدي: 1/ 140 و 316 الحزين: المثقب العبدي: 2/ 306 والزيتون: أبو طالب: 2/ 60 تخوفيني: أبو حية النميري: 3/ 395 تستتليني:: 2/ 329 أميني:: 4/ 464- الهاء- فشفاها: ليلى الأخيلية: 1/ 206 سقاها: ليلى الأخيلية: 1/ 206 و 280 و 3/ 99 قلاها:: 1/ 313 [عيناها] :: 1/ 522 ابتناها:: 3/ 407 حاديها: طفيل الغنوي: 1/ 60 لاقيها: حسان بن ثابت: 2/ 364 نبنيها:: 2/ 171 المدّه: رؤبة: 1/ 16 تألهي: رؤبة: 1/ 16 ولهله: رؤبة: 1/ 35 مهمه: رؤبة: 1/ 35 العمّه: رؤبة: 1/ 35

القافية الشاعر ج/ ص- الياء- بدا ليا: عبد الله بن معاوية: 1/ 329 باقيا: النابغة الجعدي: 2/ 209 الخواليا: عنترة العبسي: 2/ 358 ذاليا: عنترة العبسي: 2/ 358 لجاميا: الفرزدق: 2/ 430 ورائيا: سوار بن المضرب: 2/ 468 و 507 ضاحيا: أمية بن أبي الصلت: 3/ 553 ناهيا:: 3/ 530 القافية الشاعر ج/ ص شفائيا:: 4/ 390 معاوية: علي بن أبي طالب: 2/ 89 الحاويه: علي بن أبي طالب: 2/ 89 أنجيه: سحيم بن وثيل: 2/ 461 كالأرشيه: سحيم بن وثيل: 2/ 461 قنسريّ: العجاج: 1/ 48 دواريّ: العجاج: 1/ 48 غنيّ:: 2/ 139

4- أنصاف الأبيات التي لم تعرف قوافيها الشاعر: الجزء: الصفحة لمن الظعائن سيرهن تزحف: الأعشى: 2/ 194 وشر المنايا ميت بين أهله:: 1/ 89 فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم:: 1/ 165 كلوا في نصف بطنكم تعيشوا:: 1/ 192 و 2/ 136 و 4/ 204 تخاطأت إليك أحشاؤه:: 3/ 22 وإن شئتم تعاودنا عوادا:: 4/ 343 يمجّ صبيرة الماعون صبا:: 4/ 496

5- المصادر والمراجع أهم المراجع والمصادر في التخريج: 1- صحيح البخاري. بترقيم فؤاد عبد الباقي، طبع دار المعرفة. 2- صحيح مسلم. بترقيم فؤاد عبد الباقي، طبع دار إحياء التراث العربي. 3- سنن أبي داود. بترقيم محيي الدين عبد الحميد، طبع دار إحياء السنة النبوية. 4- سنن الترمذي. بترقيم أحمد شاكر ثم فؤاد عبد الباقي ثم إبراهيم عطوة عوض، طبع دار إحياء التراث العربي. 5- سنن النسائي جزء وصفحة، طبع دار القلم. 6- سنن ابن ماجة. بترقيم فؤاد عبد الباقي، طبع دار الفكر. 7- سنن الدارمي جزء وصفحة، طبع دار صادر. 9- مسند الطيالسي. بترقيم دار الباز، طبع دار المعرفة. 10- صحيح ابن حبان. بترقيم شعيب الأرناؤوط، طبع مؤسسة الرسالة. 11- مستدرك الحاكم جزء وصفحة، طبع دار المعرفة. 12- سنن الدارقطني. طبع مكتبة المتنبي. 13- سنن البيهقي. طبع دار الفكر. 14- موطأ الإمام مالك. بترقيم فؤاد عبد الباقي، طبع دار الكتب العلمية. 15- مسند الشافعي. طبع دار الكتب العلمية. 16- مجمع الزوائد. طبع دار الكتاب العربي. 17- مسند الفردوس للديلمي. طبع دار الكتب العلمية. 18- الكامل لابن عدي. طبع دار الفكر. 19- العلل المتناهية لابن الجوزي. طبع دار الكتب العلمية. 20- سيرة ابن هشام. طبع دار المكتبة التوقيفية. 21- المنتقى لابن الجارود. بترقيم عبد الله عمر البارودي، طبع دار الجنان. 22- المطالب العالية لابن حجر. بترقيم حبيب الرحمن الأعظمي، طبع دار المعرفة. المراجع اللغوية المعتمدة في هذا العمل: 1- لسان العرب، طبع دار بيروت. 2- القاموس المحيط. طبع دار الفكر. 3- مختار الصحاح للرازي. طبع دار الكتاب العربي.

4- المغرب للمطرّزي. طبع مكتبة أسامة بن زيد. 5- المصباح المنير للفيومي. طبع دار الفكر. كتب الرجال المعتمدة: 1- الجرح والتعديل، للرازي. 2- الكامل في الضعفاء، لابن عدي. 3- الضعفاء، للعقيلي. 4- المجروحون، لابن حبان. 5- ميزان الاعتدال، للذهبي. 6- لسان الميزان، لابن حجر. 7- تقريب التهذيب، لابن حجر. 8- الضعفاء والمتروكون، لابن الجوزي. 9- وفيات الأعيان، لابن خلكان. 10- الوافي بالوفيات، للصفدي. 11- الديباج المذهب، لابن فرحون. 12- جذوة الاقتباس، لابن القاضي. 13- تذكرة الحفاظ، للذهبي. 14- بغية الملتمس، لابن عميرة الضبي. الكتب المعتمدة في الحكم على الحديث: 1- نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، للإمام الحافظ جمال الدين الزيلعي رحمه الله. 2- الدراية في تلخيص نصب الراية، لابن حجر. 3- تلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير، لابن حجر. 4- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لابن الجوزي. 5- العلل، لابن أبي حاتم الرازي.

§1/1