رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام
تاج الدين الفاكهاني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رِيَاضُ الأَفْهَامِ فِي شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 7 - 13 - 418 - 9933 - 978 ISBN دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالِب سوريا - دمِشق ص. ب: 34306 لبنان - بِيروت ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com
مقدمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد لله الذي أنزل الشرائع والأحكام، وبين على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - الحلال والحرام، وهدى من اتبع رضوانه سبل السلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للأنام، ورفع به الناس من دركات الظلام، إلى درجات النور والإيمان. ورضي الله عن أصحابه الكرام، ومن اتبع سنته، واقتفى هديه إلى يوم الوفاء والتمام. أما بعد: فلما كان كتاب: «العمدة في الأحكام في معالم الحلال والحرام، عن خير الأنام، محمد عليه الصلاة والسلام»، مما اتفق عليه الشيخان، للإمام الحافظ الكبير تقي الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي - رحمه الله -، من بين تلك الكتب المعتمدة في الإسلام، التي اشتملت على جملة من الأحاديث النبوية التي ترجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء الإسلام عليها، «وقد
طار كتابه في الخافقين ذكره، وذاع بين الأئمة نشره، واعتنى الناس بحفظه وتفهمه، وَأَكَبُّوا على تعليمه وتعلمه، لا جرم اعتنى الأئمة بشرحه، وانتدبوا لإبراز معانيه عن سهام قدحه» (¬1). وكان من أولئك الذين عكفوا على شرحه، وبيان أحكامه ومسائله، وإبراز فوائده، واستنباط الدرر منه: الإمام، العلامة، المتفنن، تاج الدين الفاكهاني المالكي - رحمه الله -، الذي يعد كتابه الأول من بين شروح العمدة المطبوعة الذي تناول فقه مذهب إمام دار الهجرة مالك - رحمه الله -. وهو المطبوع الأول من بين شروحها التي عنيت بمسائل ونكات العربية، جامعة مادة كتابه من تقييدات أكابر شراح الحديث؛ كالخطابي، والمازري، وابن العربي، والقاضي عياض، والنووي، وابن دقيق العيد - رحمهم الله أجمعين-. وحافظا لنا كثيرا من النصوص عن كتب مفقودة، أو ما زالت في عالم المخطوط؛ كـ «رجال العمدة» للصعبي، و «شرح الأحكام لعبد الحق الإشبيلي» لابن بزيزة، و «البيان والتقريب في شرح التهذيب للبراذعي» لابن عطاء الله لمالكي، وغيرها. ولله در الإمام الفاكهاني حيث يقول: «فسبيلك -أيها الناظر المنصف في هذا المصنف- أن تنظره بعين الرضا، ولا ترمقه معرضا إن رمت له إنصافا، ولم توله منك ¬
إجحافا، فإن عثرت فيه على خلل، فالعذر أني لست معصوما من الزلل، وما من قائل إلا وعليه قائل، والله المستعان وعليه التكلان» (¬1). هذا، وقد تم -بفضل الله وتوفيقه- تحقيق الكتاب بالوقوف على ثلاث نسخ خطية؛ قريبة العهد بمؤلفها، معتمدة في الضبط والتوثيق في مجملها. وتم التقديم للكتاب بفصلين؛ تضمن الأول منهما ترجمة الإمام الفاكهاني - رحمه الله -، وكان الآخر لدارسة الكتاب، وفي كل منهما مباحث متعددة. * هذا، ولا بد في الختام من تقديم الشكر والثناء للجنة العلمية التي ساهمت في إخراج هذا العمل، وأخص بالذكر منهم: عبد الرحمن بن محمد كشك (في التدقيق اللغوي)، ومحمد خلوف العبد الله (في التحقيق والدراسات)، ومؤمنة أزعط (في النسخ والمقابلة)، وعدنان دنون، وجمعة الرحيم (في الفهرسة والمراقبة). وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. نور الدين طالب دمشق-الشام 17 صفر 1430 هـ ¬
الفصل الأول ترجمة الإمام الفاكهاني
الفصل الأول ترجمة الإمام الفاكهاني
المبحث الأول اسمه ونسبه وولادته، ونشأته وطلبه للعلم
المبحث الأول اسمه ونسبه وولادته، ونشأته وطلبه للعلم * اسمه ونسبه وولادته: هو الإمام، العلامة، المتقن، ذو الفنون، عمر بن علي بن سالم بن صدقة اللخمي، أبو حفص بن أبي اليمن بن أبي النجا، الإسكندراني، المالكي، المعروف ب: الفاكهاني، ويقال: ابن الفاكهاني، ويقال: الفاكهي (¬1). ولد سنة (654 هـ) على المعتمد المشهور، وقيل: (656)، بالإسكندرية (¬2). * نشأته وطلبه للعلم: نشأ - رحمه الله - بالإسكندرية، فقرأ القرآن فيها على شيخ قرائها المكين الأسمر عبد الله بن منصور الإسكندراني، كما قرأ بالقراءات على أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد العزيز المازوني المعروف ب: حافي ¬
رأسه، وسمع منه. ثم اشتغل بالفقه على مذهب الإمام مالك - رحمه الله -، وبرع فيه، وتقدم، كما مهر في علوم العربية، وأقام بمصر سنين، وسمع من أبي عبد الله محمد بن طرخان «الشفا» للقاضي عياض، و «الترمذي»، كما سمع على القاضي جمال الدين أبي بكرمحمد بن عبد العظيم بن السقطي المصري «سنن ابن ماجه» بإجازته من عبد العزيز بن باقا، بقراءة المحدث تقي الدين عتيق بن عبد الرحمن العمري في مجالس آخرها في ربيع الآخر سنة (707 هـ) بالقاهرة بشاطئ النيل، وأجاز له. كما صحب ابن المنيِّر، وحضر دروسه، وسمع من أبي الحسن علي بن أحمد الغرافي، وصحب جماعة من الأولياء الصالحين، وتخلق بأخلاقهم، وتأدب بآدابهم. ثم سافر إلى القدس سنة (731 هـ)، وحدث هناك ببعض مؤلفاته، وأخذ عنه جماعة من علمائها؛ منهم: الإمام المحدث عبد الله بن علي بن أحمد بن حديدة الأنصاري. ثم قدم دمشق في نصف شهر رمضان، فأنزله القاضي الشافعي بدار السعادة، فسمع عليه جماعة من العلماء، منهم: الحافظ ابن كثير، كما سمع من جماعة من أئمتها منهم: الإمام الذهبي. ثم توجه - رحمه الله - إلى الحج، بصحبة الركب الشامي، الذي كان فيه أربع مائة فقيه؛ ذكر منهم: الإمام ابن قيم الجوزية، وشمس الدين الكردي، وفخر الدين البعلبكي، وغيرهم، ومن المصريين جماعة من الفقهاء،
منهم: قاضي المالكية تقي الدين الآخنائي، وفخر الدين النويري، وغيرهم. وقد سُمع على الإمام الفاكهاني - رحمه الله - في الطريق. ثم عاد إلى بلده، وبقي يفتي ويدرس إلى أن توفاه الله - عز وجل -. * * *
المبحث الثاني مشايخه
المبحث الثاني مشايخه 1 - الإمام، المجتهد، تقي الدين محمد بن علي بن وهب المصري، أبو الفتح ابن دقيق العيد. كان إماما عديم النظير، ثخين الورع، متين الديانة، متبحرا في العلوم، قل أن ترى العيون مثله. توفي سنة (702 هـ) (¬1). 2 - العلامة، الفاضل، أحمد بن محمد بن منصور الجذامي، ناصر الدين ابن المنيِّر الإسكندراني المالكي. برع في الفقه، والأصول، والنظر، والعربية، والبلاغة، وصنف التصانيف النافعة، توفي سنة (683 هـ) (¬2). 3 - الإمام، العلامة، الحافظ، النسابة، عبد المؤمن بن خلف، أبو محمد شرف الدين الدمياطي الشافعي. ¬
كان إماما حافظا، صادقا متقنا، جيد العربية، غزير اللغة، واسع الفقه، ورأسا في النسب، كيسا متواضعا. توفي سنة (705 هـ) (¬1). 4 - قاضي القضاة، شيخ الإسلام، محمد بن إبراهيم بن سعد الله، بدر الدين بن جماعة الكناني الحموي الشافعي. كان قوي المشاركة في الحديث، عارفا بالفقه وأصوله، ذكيا فطنا، مناظرا متفننا، ورعا صيتا، حسن الهدي، متين الديانة. توفي سنة (733 هـ) وهو في عشر الثمانين (¬2). 5 - شيخ قراء الإسكندرية، عبد الله بن منصور، أبو محمد المكين الأسمر اللخمي الإسكندراني. تصدر للإقراء، وحدث عن أصحاب السلفي، وكان عارفا بالقراءات، ذا حظ من صلاح وعبادة، تخرج به جماعة، وتفي سنة (692 هـ) عن نيف وثمانين سنة (¬3). 6 - الإمام المقرئ، النحوي، محمد بن عبد الله بن عبد العزيز، أبو عبد الله الزناتي، المازوني، المعروف ب (حافي رأسه). ¬
كان شيخ أهل الإسكندرية في النحو، وقد تخرج به أهلها، وكان مكبا على النظر، والإقراء، والتدريس. توفي سنة (693 هـ) (¬1). 7 - الإمام المحدث، عتيق بن عبد الرحمن العمري، تقي الدين أبو بكر القرشي المالكي. كان محدثا، زاهدا، له رحلة وفضائل، توفي بمصر سنة (722 هـ) (¬2). 8 - الإمام، الحافظ، المؤرخ، محمد بن أحمد بن عثمان بن قيماز الذهبي، التركماني الدمشقي. صنف التصانيف النافعة؛ مثل: «تاريخ الإسلام»، و «سير أعلام النبلاء»، و «تذكرة الحفاظ» وغيرها. توفي سنة (748 هـ) (¬3). 9 - الإمام، الفقيه، أحمد بن محمد بن علي، نجم الدين بن الرفعة، المصري، الشافعي. اشتهر بالفقه إلى أن صار يضرب به المثل، وإذا أطلق الفقيه، انصرف إليه من غير مشارك، مع مشاركته في العربية والأصول. توفي سنة (710 هـ) (¬4). ¬
* وللمؤلف - رحمه الله - مشايخ كثيرون غير المذكورين، ومن أولئك العلماء: 10 - الإمام المحدث، جمال الدين أبو بكر محمد بن عبد العظيم السقطي المصري. 11 - العلامة أبو الحسن علي بن أحمد الغرافي. 12 - الشيخ العارف أبو العباس المرسي. 13 - الشيخ أبو عبد الله بن قُرْطال. 14 - المحدث أبو عبد الله محمد بن طرخان. 15 - الصعبي، صاحب «رجال العمدة»، وقد قرأه عليه المؤلف، ونقل عنه في مواطن عدة في كتابه هذا دون الإشارة إليه، كما ذكر ابن الملقن في «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» (5/ 449). 16 - جمال الدين يوسف الصُّنهاجي. 17 - أبو علي البَجائي. * * *
المبحث الثالث تلامذته
المبحث الثالث تلامذته 1 - الإمام، المفسر، المحدث، المؤرخ، إسماعيل بن عمر، عماد الدين، أبو الفداء بن كثير البصروي. كان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته، وقد سمع على الإمام الفاكهاني حين قدومه إلى دمشق. توفي سنة (774 هـ) (¬1). 2 - الإمام النحوي، الفاضل، المشهور، عبد الله بن يوسف بن عبد الله، جمال الدين أبو محمد بن هشام صاحب «مغني اللبيب»، وغيره من التآليف النافعة. انفرد بالفوائد الغريبة، والمباحث الدقيقة، والاستدراكات العجيبة، وقد قرأ على الفاكهاني جميع «شرح الإشارة» له، إلا الورقة الأخيرة. توفي سنة (761 هـ) (¬2). ¬
3 - الشيخ، أحمد بن علي بن أحمد الشقوري الحميري، أبو جعفر. تلا بالإسكندرية على الإمام الفاكهاني وغيره، وبالقاهرة على ابن سيد الناس، وجماعة. توفي سنة (756 هـ) (¬1). 4 - الشيخ، محمد بن محمد، أبو الخير الحسني الفاسي، ثم المكي. سمع بمكة، ثم رحل، فسمع بدمشق، والإسكندرية، وأخذ بها عن الفاكهاني، وأذن له في الإفتاء والتدريس، ورجع إلى مكة، فاستمر بها يفتي ويدرس، واشتهر بالخير والعبادة، إلى أن توفي سنة (747 هـ) (¬2). 5 - الإمام، المتفنن، محمد بن أحمد بن محمد، أبو عبد الله، شمس الدين بن مرزوق التلمساني. كان مشاركا في فنون كثيرة من أصول وفروع، متسع الرواية، كثير السداد. وله من التصانيف البديعة: «شرح العمدة» في خمس مجلدات، جمع فيه بين شرحي الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وتاج الدين الفاكهاني، وأضاف إلى ذلك كثيرا من الفوائد الجليلة النفيسة. توفي سنة (781 هـ) (¬3). ¬
6 - الشيخ، المحدث، عبد الله بن علي بن أحمد، جمال الدين ابن حديدة الأنصاري. عني بالحديث، وكتب الأجزاء، وكان خازن الكتب بالخانقاه الصلاحية بالقاهرة. توفي سنة (783 هـ) (¬1). * * * ¬
المبحث الرابع مؤلفاته
المبحث الرابع مؤلفاته وُصِفَ الإمام الفاكهاني - رحمه الله - بالمتفنن في العلوم (¬1)، فقد ألف في الحديث، والفقه، والتفسير، واللغة، وقد وصفت هذه التآليف بالحسنة الدالة على فضله (¬2). وقد تم الوقوف على أسماء مؤلفاته - رحمه الله - مجموعةً من كتب من ترجم له، ومما ذكره في كتابه هذا: 1 - «التحرير والتحبير» شرح «رسالة» ابن أبي زيد القيرواني (¬3). 2 - «رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام»، وهو هذا الكتاب. ¬
3 - «المنهج المبين في شرح الأربعين» النووية (¬1). 4 - «الفوائد المكملة في شرح البسملة» (¬2). 5 - «اللمعة في وقفة الجمعة» (¬3). 6 - «رسالة في مسح الرأس» (¬4). 7 - «الفجر المنير في الصلاة على البشير النذير» (¬5). 8 - «شرح التنقيح» (¬6). 9 - «التحفة المختارة في الرد على منكر الزيارة» (¬7). ¬
10 - «المورد في الكلام على عمل المولد» (¬1). 11 - «الدرر القمرية في الآيات النظرية» (¬2). 12 - «الغاية القصوى في الكلام على آية التقوى» (¬3). 13 - «الإشارة في العربية» (¬4). 14 - «شرح الإشارة في العربية» (¬5). وللمؤلف - رحمه الله - غير ذلك من النظم، والنثر، والأدب. ¬
المبحث الخامس ثناء العلماء عليه
المبحث الخامس ثناء العلماء عليه 1 - قال الذهبي: «الإمام، النحوي، المتقن». 2 - وقال ابن كثير: «الشيخ، الإمام، ذو الفنون». 3 - وقال الصفدي: «كان شيخا، فقيها، مالكيا، نحويا، له ديانة وتصون». 4 - وقال ابن الجزري: «الشيخ الإمام، العالم الزاهد، كان شيخا، فقيها، مالكيا، نحويا، عنده فضائل وديانة». 5 - وقال ابن فرحون: «كان فقيها، فاضلا، متفننا في الحديث، والفقه، والأصول، والعربية، والأدب، وكان على حظ وافر من الدين المتين، والصلاح العظيم، واتباع السلف الصالح، حسن الأخلاق، صحب جماعة من الأولياء، وتخلق بأخلاقهم، وتأدب بآدابهم». 6 - وقال أبو الطيب الفاسي: «كان جامعاى للعمل والعلم». 7 - وقال السيوطي: «كان فقيها، متفننا في العلوم، صالحا عظيما». 8 - وقال ابن العماد: «العلامة النحوي». * * *
المبحث السادس وفاته
المبحث السادس وفاته اختلف العلماء المترجمون للإمام الفاكهاني - رحمه الله - في سنة وفاته على قولين: أحدهما: أنه توفي سنة (734 هـ)، ذكره الذهبي، وابن كثير، وابن فرحون، والسيوطي في «حسن المحاضرة»، وابن مخلوف. والثاني: أنه توفي سنة (731 هـ)، ذكره الصفدي، والحافظ ابن حجر، وأبو الطيب الفاسي، والسيوطي في «بغية الوعاة»، وابن العماد، وهو الذي اعتمده كحالة في «معجم المؤلفين»، وصححه الزركلي في «الأعلام»، وقال: «ولعل هذا هو الأصح؛ لما جاء في مخطوطة من كتابه «التحرير والتحبير»: كتبت سنة (733 هـ)، وفي نهايتها: قال المصنف - رحمه الله -». وكانت وفاته - رحمه الله - ليلة الجمعة، سابع جمادى الأولى، بالإسكندرية، ودفن ظاهر باب البحر. وكان قد صلي عليه بدمشق صلاة الغائب لما بلغهم خبر موته؛ كما قال الذهبي في «معجمه».
ولما حضرته الوفاة - رحمه الله -، جعل بعض أقاربه -وهو صهره الفقيه ميمون- يتشهد بين يديه ليذكره، ففتح الشيخ عينيه، وأنشد: وَغَدَا يُذَكِّرُنَي عُهُودًا بِالْحِمَى ... وَمَتَى نَسِيتُ الْعَهْدَ حَتَّى أَذْكُرَا ثم تشهد، وقضى نحبه (¬1) - رحمه الله تعالى-، ورضي عنه. ¬
المبحث السابع مصادر الترجمة
المبحث السابع مصادر الترجمة 1 - «معجم الشيوخ» للذهبي (ص: 127). 2 - «البداية والنهاية» لابن كثير (14/ 168). 3 - «أعيان العصر وأعوان النصر» للصفدي (3/ 644). 4 - «ذيل التقييد لرواة السنن والأسانيد» لأبي الطيب الفاسي (2/ 247). 5 - «الدرر الكامنة» لابن حجر (4/ 209). 6 - «تاريخ حوادث الزمان» لابن الجزري (3/ 704). 7 - «الديباج المذهب» لابن فرحون (ص: 186). 8 - «بغية الوعاة» للسيوطي (2/ 221). 9 - «حسن المحاضرة» للسيوطي (1/ 458). 10 - «شذرات الذهب» لابن العمادد (6/ 96). 11 - «تاريخ ابن الوردي» (2/ 287). 12 - «كشف الظموم» لحاجي خليفة (1/ 59، 98، 841). 13 - «شجرة النور الزكية» لابن مخلوف (ص: 204).
14 - «الأعلام» للزركلي (5/ 56). 15 - «معجم المؤلفين» لكحالة (7/ 299).
الفصل الثاني دراسة الكتاب
الفصل الثاني دراسة الكتاب
المبحث الأول تحقيق اسم الكتاب
المبحث الأول تحقيق اسم الكتاب قال المؤلف - رحمه الله - في مقدمة كتابه هذا: «سميته ب: «رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام». وكذا جاء على النسخة الخطية لمكتبة خدابخش، والقرويين. وكذا ذكره الزركلي في «الأعلام». وجاء على ظاهر النسخة الخطية للمكتبة السليمانية قوله: «هذا كتاب شرح رياض الأفهام وعمدة الأحكام»، وهو خطأ، ولعله تصرف من الناسخ - رحمه الله -، أو غيره. وقد ذكر بقية المترجمين ممن ترجم للإمام الفاكهاني - رحمه الله - أنه صنف شرح العمدة. وتسمية المؤلف - رحمه الله - الكتاب ب «رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام» جاءت مناسبة لموضوع كتابه؛ حيث قال: «ليكون لفظه وفق معناه، ومترجما عن فحواه».
فقصد المؤلف من هذا الكتاب تمرين الطلاب، وتوجيههم إلى البحث والنظر، وكيفية الاستدلال والاستنباط من النصوص والآثار.
المبحث الثاني إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف
المبحث الثاني إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف اجتمع في هذا الكتاب إثباتات كثيرة تدلل على صحة نسبته إلى مؤلفه الإمام الفاكهاني - رحمه الله -، ومن ذلك: 1 - ما جاء على طرة النسخة الخطية للمكتبة السليمانية، وخدابخش، والقرويين، والأزهرية: أن الكتاب من تأليف الإمام تاج الدين الفاكهاني - رحمه الله -. 2 - ذكر المؤلف - رحمه الله - لجملة من مؤلفاته، والإحالة في الرجوع عليها، ومن تلك الكتب: «شرح الرسالة لابن أبي زيد»، و «شرح التنقيح»، و «الفوائد المكملة في شرح البسملة». 3 - ذكره لبعض مشايخه، ونقل كلامهم في مسائل الكتاب؛ كشيخه ابن دقيق العيد، والمازوني، وأبي علي البجائي، وأبي العباس المرسي. 4 - كل من ترجم للإمام الفاكهاني ذكر أن له كتابا في شرح عمدة الأحكام. 5 - اعتماد الإمام ابن الملقن - رحمه الله - في كتابه: «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» على كتاب الفاكهاني هذا، حتى إنه لا يبعد القول: إن
كتاب ابن الملقن يصح أن يكون نسخة خطية أخرى -في الجملة- لكتاب الإمام الفاكهاني هذا، ولولا خوف الإطالة في حواشي الكتاب، لذكرت كل نقل يذكره الإمام ابن الملقن عن الإمام الفاكهاني - رحمهم الله أجمعين-. 6 - نقل الحافظ ابن حجر في «الفتح»، والعيني في «عمدة القاري»، والدماميني في «مصابيح الجامع»، والقسطلاني في «إرشاد الساري»، والحطاب في «مواهب الجليل»، وغيرهم في غيرها، جملا كثيرة من كلام الإمام الفاكهاني في كتابه هذا «رياض الأفهام». وأخيرا؛ فإن نَفَسَ الإمام الفاكهاني في هذا الكتاب قد ظهر في علم العربية، وهو الإمام اللغوي، وفي فقه المالكية الكثير المبثوث في ثنايا الكتاب، وهو إمامهم في وقته، حتى يصح أن يقال: إن «رياض الأفهام» أحد مصادر مذهب المالكية، - رحمهم الله أجمعين.-
المبحث الثالث منهج المؤلف في الكتاب
المبحث الثالث منهج المؤلف في الكتاب بين المؤلف - رحمه الله في ديباجة كتابه هذا- ما قصد إليه من هذا التأليف؛ فذكر جملة من الأمور: -فقال: إنه أراد أن يجمع في هذا التعليق ما يمضي في أثناء ذلك من المباحث المحققة، والفوائد المنقحة. -مع شرح غريبه. -والتنبيه على نكت من إعرابه. -والبيان لأحكامه. -والاستدلال بأحاديثه. -والإيضاح لمشكلاته. -والتعريف برواته بحسب الإمكان. -مضيفا إلى ذلك ما نقله أئمة هذا الشأن، إلى ما تفضل به المولى من الإلهام. * ثم ذكر مُعْتَمَدَهُ من الكتب التي يكثر النقل عنها؛ فذكر: «إكمال المعلم» للقاضي عياض، ورمز له برمز (ع)، و «شرح مسلم»
1 - المباحث المحققة، والفوائد المنقحة
للنووي، ورمز له ب (ح)، و «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق، ورمز له ب (ق). * ثم شرط أن يعين من عدا أصحاب هذه الكتب ممن ينقل عنهم. * وتفصي منهجه - رحمه الله - على النحو والترتيب المذكورين؛ أن يقال: 1 - المباحث المحققة، والفوائد المنقحة: لا يخفى على مطالع الكتاب كثرة الفوائد التي ذكرها المؤلف في ثنايا مباحثاته، سواء ابتدأ به، أو التقطه من كتب العلماء، أو أفواه مشايخه، ومن هنا امتدحه الشيخ ابن فرحون بأنه لم يسبق إليه؛ لكثرة فوائده. 2 - شرح الغريب: ذكر المؤلف - رحمه الله - شرح الألفاظ والمفردات الواردة في متن الحديث، فيذكر الكلمة، وجمعها، وتصريفاتها، ولغاتها، ويحشد لها -أحيانا- شواهد الشعر والنثر، معتمدا في أكثر ذلك على كتاب «الصحاح» للجوهري، حتى لكأنه بيته؛ لكثرة ما يستشهد بمواده في شرح ألفاظ اللغة وغريب الحديث. 3 - التنبيه على نكت من إعرابه: وهذه إحدى مزايا هذا الكتاب، والتي تقدم بها كتاب المؤلف - رحمه الله - على غيره من شروح العمدة؛ فالإمام الفاكهاني وصف باللغوي، والنحوي، وبأنه إمام في العربية، وقد أكثر من ذكر نكات العربية، وعلم النحو، والصرف، والاشتقاق، وغير ذلك.
4 - بيان الأحكام
4 - بيان الأحكام: يذكر الشارح - رحمه الله - الأحكام الفقهية المتعلقة بالحديث، ويقدم في بعض الأحيان بين يدي الكتاب أو الباب مقدمات أو مسائل فقهية تمت إلى موضوع الحديث بصلة، ثم يذكر الأحكام المتعلقة بالحديث، مقدما مذهب الإمام مالك في ذلك، وذكر الروايات عنه والمسائل، وترجيحات متأخري المذهب، ثم يتبعه بذكر المذاهب الأخرى؛ خصوصا الشافعية، ولا يذكر مذهب الحنابلة والحنفية إلا قليلا، وإذا نقل عنهم، فإنه ينقل من غير كتبهم، بل حتى مذهب الشافعية ينقله أحيانا من كتب المالكية؛ كـ «البيان والتقريب»، وغيرها. 5 - الاستدلال بأحاديثه: يذكر الشارح - رحمه الله في أثناء شرحه ألفاظ الحديث- بعض الاستدلالات والاستنباطات الفقهية، وبعض الفوائد التي تؤخذ من الحديث، وغالبها يكون منقولا من غيره، دون الإشارة إلى ذلك. ولا بد من التنبيه على أن الشارح - رحمه الله - كان يتتبع ألفاظ الحديث على الترتيب؛ كما نوه بذلك في أكثر من موضع من الكتاب. 6 - إيضاح المشكلات: كدفع وهم التعارض بين الأحاديث، وحل إشكال وقع في ألفاظ الحديث أو مسألة فقهية اكتنفها شيء من الغموض وغير ذلك. 7 - التعريف بالرواة: وذلك بحسب الإمكان؛ كما قال الشارح - رحمه الله -؛ حيث إنه لم يعرف بطائفة كثيرة من الأعلام الوارد
8 - مصادره التي عينها في مقدمة الكتاب
ذكرهم في «العمدة»، وطريقته في التعريف: أن يذكر اسم العلم كاملا بلقبه، وكنيته، والقبيلة التي ينسب إليها، وضبط ما اشتبه من الأسماء، ثم يذكر شيئا من مناقبه أحيانا، وما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديثه، ثم سنة وفاته. 8 - مصادره التي عَيَّنَهَا في مقدمة الكتاب: قد ذكر المؤلف - رحمه الله - في مقدمته الكتب الثلاثة التي أكثر النقل عنها، وهي: «إكمال المعلم» للقاضي عياض، و «شرح مسلم» للنووي، و «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق. وذكر الرموز المستعملة في تعيين كل نقل عنهم، فللقاضي: (ع)، وللنووي: (ح)، ولابن دقيق: (ق). وإنما استعمل المؤلف الترميز لكتب هؤلاء العلماء؛ لكثرة النقل عنهم في كتابه هذا، فلا يفوته حديث إلا ويذكر كلام أحد من هؤلاء العلماء، ويلحظ أن المؤلف - رحمه الله - قد اعتمد -مع هذه الكتب الثلاثة- كلا من كتاب «الصحاح» للجوهري، فيما يتصل بالغة، و «رجال العمدة» للصعبي، فيما يتصل بتعريف الأعلام، و «المحرر الوجيز» لابن عطية، فيما يتصل بتفسير الآيات، بل وذكر المسائل والمذاهب الفقهية، و «البيان والتقريب» لابن عطاء الله المالكي، فيماى يتصل بنقل مذاهب المالكية، والمذاهب الأخرى أيضا. وليس يبعد القول: إن أكثر مادة الكتاب من هذه الكتب السبعة: «إكمال المعلم»، و «شرح مسلم»، و «شرح عمدة الأحكام»،
و «الصحاح»، و «المحرر الوجيز»، و «رجال العمدة» للصعبي، و «البيان والتقريب» لابن عطاء الله، والله أعلم. * * *
المبحث الرابع موارد المؤلف في الكتاب
المبحث الرابع موارد المؤلف في الكتاب * اللغة وغريب الحديث: 1 - «الصحاح» للجوهري. 2 - «تهذيب اللغة» للأزهري. 3 - «مجمل اللغة» لابن فارس. 4 - «جمهرة اللغة» لابن دريد. 5 - «غريب القرآن» للعزيري أبي بكر السجستاني. 6 - «الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي» للأزهري. 7 - «درة الغواص في أوهام الخواص» للحريري. 8 - «تحرير ألفاظ التنبيه» للنووي. 9 - «مشارق الأنوار» للقاضي عياض. 10 - «مطالع الأنوار» لابن قرقول. 11 - «حواشي الصحاح». 12 - «مقاييس اللغة» لابن فارس. 13 - «الزاهر في معاني كلمات الناس» لابن الأنباري.
التفسير
14 - «غريب الحديث» لأبي عبيد. 15 - «غريب الحديث» للخطابي. 16 - «إعراب القرآن» للعكبري. 17 - «المفصل» للزمخشري. 18 - «شرح المفصل» لابن يعيش. 19 - «شرح المفصل» جمال الدين بن عمرون. 20 - «ليس في كلام العرب» لابن خلويه. 21 - «الكتاب» لسيبويه. 22 - «الشيرازيات» لأبي علي الفارسي. 23 - «مقامات الحريري». 24 - «الخصائص» لابن جني. 25 - «فقه اللغة» للثعالبي. 26 - نقل عن ابن السيد البطليوسي في بعض كتبه. * التفسير: 1 - «الكشاف» للزمخشري. 2 - «تفسير الرازي». 3 - «أحكام القرآن» لابن العربي. 4 - «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي. 5 - «المحرر الوجيز» لابن عطية.
الحديث
* الحديث: 1 - «صحيح البخاري». 2 - «صحيح مسلم». 3 - «سنن أبي داود». 4 - «سنن النسائي». 5 - «سنن الترمذي». 6 - «سنن ابن ماجه». 7 - «الموطأ» للإمام مالك. 8 - «مسند الإمام أحمد». 9 - «عمل اليوم والليلة». 10 - «السنن الكبرى» للبيهقي. 11 - «دلائل النبوة» للبيهقي. 12 - «الجمع بين الصحيحين» للحميدي. 13 - «السيرة النبوية» لابن هشام. 14 - «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار» للحازمي. 15 - «المجتبى» لابن الجوزي. 16 - «التقريب والتيسير» للنووي. 17 - «كشف المشكل من حديث الصحيحين» لابن الجوزي.
شروح الحديث
* شروح الحديث: 1 - «التمهيد» لابن عبد البر. 2 - «الاستذكار» لابن عبد البر. 3 - «المنتقى» للباجي. 4 - «القبس» لابن العربي. 5 - «المعلم» للمازري. 6 - «إكمال المعلم» للقاضي عياض. 7 - «شرح مسلم» للنووي. 8 - «التحرير في شرح مسلم». 9 - «المفهم» للقرطبي. 10 - «معالم السنن» للخطابي. 11 - «عارضة الأحوذي» لابن العربي. 12 - «شرح الأحكام» لابن بزيزة (¬1). 13 - «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق العيد. 14 - «شرح الإلمام» لابن دقيق العيد. ¬
التراجم والتاريخ
* التراجم والتاريخ: 1 - «الاستيعاب» لابن عبد البر. 2 - «إسد الغابة» لابن الأثير. 3 - «حلية الأولياء» لأبي نعيم. 4 - «الكمال في أسماء الرجال» لعبد الغني المقدسي. 5 - «تهذيب الكمال» للمزي. 6 - «رجال البخاري» للكلاباذي. 7 - «رجال العمدة» للصعبي (¬1). 8 - «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي. 9 - «النواحي في أخبار البلدان» لابن المنجم الأنباري. * الفقه وأصوله: 1 - «جامع الأمهات» لابن الحاجب. 2 - «التفريع» لابن الجلاب. 3 - «عقد الجواهر الثمينة على مذهب عالم المدينة» لابن شاص. ¬
4 - «البيان والتقريب في شرح التهذيب للبراذعي» لابن عطاء الله (¬1). 5 - «التلقين» للقاضي عبد الوهاب. 6 - «شرح التلقين» للمازري. 7 - «المدونة». 8 - «العتبية». 9 - «بداية المجتهد» لابن رشد الحفيد. 10 - «المقدمات الممهدات» لابن رشد. 11 - «البيان والتحصيل» لابن رشد. 12 - «الرسالة» لابن أبي زيد. 13 - «شرح الرسالة» للقاضي عبد الوهاب. 14 - «عيون المجالس». 15 - «ترجيز التهذيب» لناصر الدين بن المنيِّر. ¬
أخرى
16 - «المجموعة على مذهب مالك». 17 - «المجموع في شرح المهذب» للنووي. 18 - «روضة الطالبين» للنووي. 19 - «الإفصاح» لابن هبيرة. 20 - «الفرائض وشرح آيات الوصية» للسهيلي. 21 - «كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى» للدمياطي شرف الدين. 22 - «المحصول» للرازي. 23 - «الإحكام» للآمدي. * أخرى: 1 - «الروض الأُنف» للسهيلي. 2 - «الشفا» للقاضي عياض. 3 - «التنبيهات» للقاضي عياض. 4 - «عصمة الأنبياء» للرازي. 5 - «الرسالة القشيرية». 6 - «الأذكار» للنووي. 7 - «البرهان» لابن خطيب زملكا، المتوفى سنة (651 هـ). 8 - «التذكرة في أحوال الموتى والآخرة» للقرطبي.
كتبه التي ذكرها في شرحه هذا، وأحال في الرجوع إليها
9 - «المقدمات» لابن فورك. * كتبه التي ذكرها في شرحه هذا، وأحال في الرجوع إليها: 1 - «التحرير والتحبير شرح رسالة ابن أبي زيد». 2 - «شرح التنقيح». 3 - «رسالة في مسح الرأس». 4 - «الفوائد المكملة في شرح البسملة». * * *
المبحث الخامس منزلة الكتاب العلمية
المبحث الخامس منزلة الكتاب العلمية وفيه مطلبان: * المطلب الأول: أهمية الكتاب ومزاياه: قال العلامة ابن فرحون المالكي: «وله -أي: الإمام الفاكهاني- شرح العمدة في الحديث، لم يسبق إلى مثله؛ لكثرة فوائده». وتتجلى هذه الفوائد في الكتاب بأنه: 1 - الأول من بين شروح العمدة المطبوعة الذي تناول بيان فقه المذهب المالكي بالطرح والتدليل على مسائله، وذكر الراجح والمشهور في المذهب. 2 - نقل المعتمد في مذهب المالكية، وذكر روايات الإمام مالك - رحمه الله -. 3 - الاعتماد على كلام أئمة شراح الحديث المتقدمين؛ ولإكثار في النقل عنهم؛ كالخطابي، والمازري، وابن العربي، والقاضي عياض، والنووي، وابن دقيق العيد، - رحمهم الله أجمعين-. 4 - النقل عن كتب مفقودة، أو ما زالت في عالم المخطوط؛ من أمثال: «رجال العمدة» للصعبي، و «شرح الأحكام» لابن بزيزة،
المطلب الثاني: المآخذ على الكتاب
و «البيان والتقريب في شرح التهذيب للبراذعي» لابن عطاء الله، و «البرهان» لابن خطيب زملكا، وغيرها. 5 - تميز الشرح عن باقي شروح العمدة المطبوعة، بالإكثار من ذكر الفوائد والنكات النحوية والعربية؛ فالمؤلف - رحمه الله - كان ذا باع واسع في العربية؛ كما شهد له بذلك أهل العلم. * المطلب الثاني: المآخذ على الكتاب: 1 - تقصير المؤلف في التعريف بالأعلام الوارد ذكرهم في «عمدة الأحكام»؛ حيث ترجم لثمانين علما فقط، بينما بلغ رجال «العمدة» المئتين تقريبا. 2 - ترك المؤلف - رحمه الله - التنبيه على ما خالف فيه صاحب «العمدة» من الألفاظ، ونسبتها إلى الصحيحين، وما كان له من تنبيهات، فقد نقلها عن الإمام ابن دقيق العيد فقط. 3 - إغفال المؤلف - رحمه الله - ذكر المصادر التي ينقل عنها -أحيانا- حتى يظن المطالع -أحيانا- أن الكلام من إنشائه هو، ونظره في الحديث. وكان - رحمه الله - قد اشترط في ديباجة كتابه أن يعين كل من ينقل عنه. 4 - يلقل المؤلف - رحمه الله - في كثير من الأحيان كلام الأئمة من غير كتبهم؛ فتراه ينقل أحيانا القاضي عياض عن الإمام النووي في «شرح مسلم» (¬1)، وينقل كلام الإمام الغزالي -مثلا- عن النووي في ¬
«الأذكار» (¬1)، وينقل كلام الراغب الأصفهاني والجواليقي عن الإمام ابن دقيق في «شرح الإلمام» (¬2)، وهكذا. 5 - يغلظ المؤلف - رحمه الله - في بعض المواضع على المخالف له في الرأي، بل ويشتد حتى يقع في الانتقاص من علم إمام من الأئمة الكبار (¬3). * * * ¬
المبحث السادس وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق
المبحث السادس وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق تم الاعتماد في تحقيق هذا السفر الجليل على ثلاث نسخ خطية للكتاب؛ وهي: 1 - النسخة الخطية لمكتبة خدابخش في الهند. 2 - النسخة الخطية للمكتبة السليمانية في تركيا. 3 - النسخة الخطية لمكتبة القرويين في فاس بالمغرب. بالإضافة إلى ما وجد من أوراق من الجزء الثالث من النسخة الأزهرية في مصر. وهذا وصف لكل واحدة من هذه النسخ الخطية: * النسخة الأولى: وهي من محفوظات مكتبة خدابخش في الهند، وتقع في (269) لوحة، وفي اللوحة وجهان، وفي الوجه (27) سطرا، وفي السطر (15) كلمة تقريبا. جاء على غلافها: كتاب: «رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام»، للشيخ تاج الدين الفاكهاني - رحمه الله -، ورضي عنه.
النسخة الثانية
أولها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رب يسر وأعن يا كريم، الحمد لله ... آخرها: قال مصنفه - رحمه الله -: وكان الفراغ من تصنيفه في الكرة الثانية، يوم الأربعا، في شهر جمادى الأولى، سنة عشر وسبع مئة، أحسن الله خاتمتها. وكان الفراغ من نسخه ... وناسخها: هو الشيخ قاسم بن محمد بن مسلم بن مخلوف الترومجي (¬1) المالكي، كما ثبت آخر النسخة. وتاريخ نسخها: سنة (792 هـ). وهذه النسخة جيدة، ذكر في هوامشها بعض الفوائد والتصويبات، وبعض العناوين للمسائل المطروحة، وفيها بعض التصحيفات وبعض الأخطاء، وقد تأثرت بعض أوراقها بالرطوبة. وجاء على غلافها بعض التملكات. وتم رمز لهذه النسخة بالرمز (خ). * النسخة الثانية: وهي من محفوظات المكتبة السليمانية بتركيا، وتقع في (323) لوحة، وفي اللوحة وجهان، وفي الوجه (22) سطرا، وفي السطر (14) كلمة تقريبا. ¬
جاء على غلافها: هذا كتاب «شرح رياض الأفهام وعمدة الأحكام»، للشيخ تاج الدين الفاكهاني - رحمة الله عليه-، آمين. وهي نسخة مخرومة الأول، تبدأ من الحديث الثامن من الباب الجامع في الصلاة (¬1)، بقوله: «روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: «من أكل ثوما أو بصلا، فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته». وآخرها: قال المصنف: وكان الفراغ من تصنيفه في الكرة الثانية، يوم الأربعاء، في أثناء جمادى الأولى، سنة عشر وسبع مئة، أحسن الله تقضيها .... وناسخها: هو الشيخ علي بن سودون الإبراهيمي الحنفي - رحمه الله تعالى- (¬2). وتاريخ نسخها: سنة (876 هـ). وهي نسخة جيدة، لولا ما اعتراها من بعض الأسقاط القليلة، والتصحيفات. وقد علق ناسخها الشيخ علي على هوامشها بعض الفوائد والتعليقات عن شيوخه؛ مثل الإمام السيوطي، والشيخ عبد السلام البغدادي الحنفي. وتم الرمز لهذ النسخة بالرمز (ت). ¬
النسخة الثالثة
* النسخة الثالثة: وهي من محفوظات مكتبة القرويين في مدينة فاس بالمغرب، وتحتوي على جزأين في مجلد واحد، الموجود منها الجزء الأول فقط؛ كتب على غلافها: السفر الأول من «رياض الأفهام في شرح عمدة الحكام»، تأليف الشيخ الصالح الزاهد الورع العالم العامل، إمام وقته، وفريد عصره، إمام المحدثين، وقدوة المتكلمين، تاج الدين عمر بن علي اللخمي نسبا، الإسكندري بلدا. ويقع هذا الجزء في (162) لوحة، وفي اللوحة وجهان، وفي الوجه (28) سطرا، وفي السطر (16) كلمة تقريبا. أولها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا، نبي ... الكبرياء والكمال، المنفرد بالعزة والجلال، المنزه في ديمومية جلاله من مناسبة الأشباه والأمثال، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ... وآخرها: عند الحديث الرابع عشر من كتاب الجنائز عند قوله: ومثل هذا ما جاء في الحديث الصحيح: «من صلى العشاء الآخرة في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما قام ليلة»، هذا اختلف فيه. ويظهر أن هناك لوحة واحدة سقطت، وبها يتم الجزء الأول من هذه النسخة، والله أعلم.
النسخة الأزهرية
وهذه النسخة بخط مغربي جيد، عليها بعض أختام مكتبة كلية القرويين، وفيها بعض الأسقاط التي نبه عليها في أثناء التحقيق والمقابلة. وتم الرمز لهذه النسخة بالرمز (ق). * النسخة الأزهرية: وهي تحتوي على بعض الأوراق من الجزء الثالث من الكتاب، وتقع في (58) لوحة، وفي اللوحة وجهان، وفي الوجه (28) سطرا، وفي السطر (10) كلمات تقريبا. جاء على غلافها: الجزء الثالث من شرح «العمدة» للشيخ الإمام تاج الدين الفاكهاني المالكي، وجاء عليها: وقف الله على رواق المغاربة بجامع الأزهر. أولها في باب: ما يجوز قتله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رب يسر وأعن يا كريم، الحمد لله على مننه، ونعمه الباطنة والظاهرة، والصلاة على محمد رسوله ذي الآيات القاهرة، والمعجزات الباهرة، وعلى آله وأصحابه الأنجم الزاهرة، صلاة تبلغهم أبهى مراتب الآخرة. وبعد: أما قوله: قلت: وأما الأسد والنمر والفهد وما في معناها، فالمشهور جواز قتل صغارها. وآخرها: (وهل) هنا بمعنى أبقى؛ أي: ما ترك لنا عقيل من دار. قال أهل العربية: إن لها أقساما أربعة: استفهامية، وهو أصل وضعها، وبمعنى قد؛ مثل قوله -تعالى-. تم هذ الجزء الثالث، ويتلوه الرابع، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.
وهذه النسخة مقابلة، وخطها جميل، حليت هوامشها بالتنبيهات على الفوائد، ورؤوس الأحاديث والمسائل. وهذا الجزء ليس كاملا، ففيه أسقاط كثيرة، وأوراقه مختلطة، إلا أن هذه الأوراق أفادت في مواضع عدة من الكتاب. وتم الرمز لهذه النسخة بالرمز (ز). * * *
المبحث السابع بيان منهج التحقيق
المبحث السابع بيان منهج التحقيق 1 - نسخ الأصل الخطي من مكتبة خدابخش، المرموز لها ب (خ)؛ وذلك لكتمال نصها، بحسب رسم قواعد الإملاء الحديث. 2 - معارضة المنسوخ بالمخطوط؛ للتأكد من صحة النص واستقامته. 3 - إثبات الفروق والأسقاط والزيادات بين النسخ الخطية: خدابخش، والسليمانية، والقرويين، والأزهرية؛ وذلك بإثبات الصواب في النص، والإشارة إلى الفروق الأخرى في هوامش الكتاب، وإهمال فروق المقابلات التي لا تؤثر في النص، وذلك من أمثال الأخطاء التي تقع في الأرقام؛ كـ: (عشر) و (عشرة)، و (اثنين) و (اثنتين)، وكالفروق في ألفاظ الصلاة والتسليم، ونحو ذلك؛ وترك الإشارة إلى الجمل والعبارات المكررة في الغالب. 4 - معارضة المنسوخ بعد مقابلاته بالمصادر التي نقل عنها الشارح - رحمه الله - حسب الجهد والطاقة؛ وخصوصا ما نقله عن «المعلم» للمازري، وإكمال المعلم «للقاضي عياض، وشرح مسلم «لنووي، وشرح عمدة الأحكام «لابن دقيق العيد - رحمهم الله أجمعين-.
5 - ضبط أحاديث المتن بالشكل الكامل، وضبط ما أشكل من نص الكتاب. 6 - ترقيم أحاديث المتن بالشكل التسلسلي. 7 - إدخال علامات الترقيم المعتادة على النص، ووضع الكتاب والمصنفات بين قوسي تنصيص لتمييزها. 8 - عزو الآيات القرآنية الكريمة إلى مواضعها من الكتاب العزيز، وإدراجها برسم المصحف الشريف، وجعل العزو بين معكوفتين في صلب الكتاب، بذكر اسم السورة ورقم الآية. 9 - تخريج الأحاديث النبوية، وهو قسمان أ-أحاديث المتن: -تخريج الحديث من الكتب الستة، واستقصاء طرق الحديث وألفاظه عندهم؛ بذكر رقم الحديث، والكتاب، والباب الذين ورد فيهما. -ذكر صاحب اللفظ الذي ساقه المصنف - رحمه الله -. -الاستدراك على كلام المصنف في عزوه الحديث إلى «الصحيحين» -إن كان ثمة استدراك- بكلام الأئمة والحفاظ الذين تكلموا على أحاديث العمدة «. ب-أحاديث الشرح: -الالتزام بتخريج ما يعزوه الشارح في النص، والإضافة عليه -إن كان هناك مقتض لذلك-.
-إن كان الحديث في الصحيح «، أو في أحدهما، تم العزو إليهما دون غيرهما، وذلك بذكر رقم الحديث والكتاب والباب، والتنبيه إلى صاحب اللفظ، وذكر اسم الصحابي الذي روى الحديث إن لم يذكره الشارح. -إن كان الحديث في السنن الأربعة، أو أحدها، فيتم العزو إليها بذكر رقم الحديث والكتاب وصاحب اللفظ، وذكر اسم الصحابي إن لم يذكر في الأصل، وقد يضاف إليها -أحيانا- تخريجات كتب السنة المشهورة؛ كمسند الإمام أحمد «، وصحيح ابن حبان «، ومعاجم الطبراني «، وغيرها مما يقتضيه الحال-إن لم يكن الحديث في الكتب الستة-، تم تخريجه بذكر المصدر، ورقم الحديث، أو الجزء والصفحة، مع ذكر اسم الراوي إن لم يذكر في الأصل. 10 - ذكر مصادر شرح الحديث، سواء التي أخذ عنها الشارحأو لم يأخذ، وذلك لتقريب وتذليل عمل الباحثين والمطالعين للعمدة، بالرجوع إليها للتوسع والاطلاع والإفادة. 11 - تخريج الآثار الواردة عن السلف الصالح، بذكر اسم المصدر ورقم الأثر، أو الجزء والصفحة. 12 - توثيق تراجم الصحابة من الكتب التي أخذ عنها المؤلف، ومن غيرها، وذلك بالاعتماد على أمات المصادر والمراجع الرئيسة في الباب.
13 - توثيق ما يذكره الشارح من مفردات اللغة وغريب الحديث، من الكتب التي صرح باسمها، أو التي لم يصرح بها، ونقل عنها. 14 - عزو كل قول إلى قائله، سواء صرح الشارح بذكر القائل، أو الكتاب الذي أخذ منه، أو لم يصرح، وذلك على حسب الطاقة. 15 - تخريج الأبيات الشعرية بالإحالة على الديوان أو كتب العربية التي اعتنت بذلك دون الاستقصاء. 16 - التعريف ببعض البكلمات الغريبة والكتب المفقودة، أو غير المطبوعة. 17 - ذكر بعض الفوائد والإيضاحات والاستدراكات، وذكر تعقبات ابن الملقن -في الغالب- من كتابه الإعلام بفوائد عمدة الأحكام «؛ فإنه قد أكثر النقل عن الفاكهاني - رحمه الله - وتعقبه في مواطن عدة. 18 - كتابة مقدمة للكتاب، مشتملة على ترجمة وافية للمؤلف، ودراسة الكتاب. 19 - تذييل الكتاب بفهارس علمية متعددة، وهي: 1 - فهرس الآيات القرآنية الكريمة. 2 - فهرس الأحاديث النبوية الشريفة -المتن. 3 - فهرس الأحاديث النبوية الشريفة -الشرح. 4 - فهرس الآثار والأقوال. 5 - فهرس الأشعار والأرجاز.
6 - فهرس الأعلام المترجم لهم عند المؤلف. 7 - فهرس غريب اللغة والحديث. 8 - فهارس الموضوعات. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
صور المخطوطات
صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة خدابخش المرموز لها ب (خ)
صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية لمكتبة خدابخش المرموز لها ب (خ)
صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية لمكتبة خدابخش المرموز لها ب (خ)
صورة غلاف النسخة الخطية للمكتبة السليمانية المرموز لها ب (ت)
صورة اللوحة الأولى من النتسخة الخطية للمكتبة السليمانية المرموز لها ب (ت)
صورة الوحة الأخيرة من النسخة الخطية للمكتبة السليمانية المرموز لها ب (ت)
صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية بمكتبة القرويين المرموز لها ب (ق)
صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية بمكتبة القرويين المرموز لها ب (ق)
صورة غلاف النسخة الخطية للمكتبة الأزهرية المرموز لها ب (ز)
صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية للمكتبة الأزهرية المرموز لها ب (ز)
صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية للمكتبة الأزهرية المرموز لها ب (ز)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رِيَاضُ الأَفْهَامِ فِي شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 7 - 13 - 418 - 9933 - 978 ISBN دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالِب سوريا - دمِشق ص. ب: 34306 لبنان - بِيروت ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com
مقدمة المصنف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رب يسر وأعن يا كريم (¬1) الحمد لله المتوحد بالكبرياء والكمال، المنفرد بالعزة والجلال، المتنزه (¬2) في ديمومية جلاله عن مناسبة الأشباه، ومشاكلة (¬3) الأمثال، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو الله (¬4) الكبير المتعال، أحمده عدد آياته [حمدا] مستمر النوال، وأشكره وشكري له من جملة الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، شهادة لا امتراء فيها ولا اعتلال (¬5)، وأصلي على أكرم رسله محمد الهادي من الكفر والضلال، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، أرسله وطرقُ الإيمان قد دثرت معالمها، وتغيرت مراسمها، ووهت أركانها، وخفي بيانها، ودجت أنوارها، وجهلت آثارها، وسدت مسالكها، وعمي ¬
سالكها، فشيد - صلى الله عليه وسلم - من معالمه ما دثر، وميز من مراسمه ما قد أبهم واستتر، وأعلى من أركانه ما وهى، وأظهر من بيانه ما اختفى، وأوضح من أنواره ما دجا، وفتح ما سد من مسالكه واعتفى، وأنهج السبيل لسالكيه بعدما عفا، وأنقذ بكلمة التوحيد من كان من النار على شفا، - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والوفا. أما بعد: فإنه لما عزم جماعة من الطلبة النبهاء، و (¬1) الحذاق الفضلاء، على قراءة كتاب «عمدة الأحكام في أحاديثه عليه الصلاة والسلام»، للشيخ الإمام الحافظ تقي الدين عبد الغني (¬2) - رحمه الله - علي قراءة دراية، لا مجرد رواية، أردت أن أجمع في هذا التعليق ما يمضي في أثناء ذلك (¬3) من المباحث المحققة، والفوائد المنقحة، مع شرح غريبه، والتنبيه على نكت من إعرابه، والبيان لأحكامه، والاستدلال بأحاديثه، والإيضاح لمشكلاته، والتعريف برواته بحسب الإمكان، مضيفا إلى ذلك ما نقله أئمة هذا الشأن إلى ما تفضل به المولى من الإلهام (¬4)، خشية استيلاء يد النسيان، واندراج ذلك في خبر كان، وسميته ب: ¬
رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام ليكون لفظه وفق معناه، ومترجما عن فحواه. وحيث تجد في هذا الكتاب: (ع) هكذا، فهو للقاضي عياض. أو (ح) هكذا، فهو للشيخ محيي الدين النواوي. أو (ق) هكذا، فهو للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد - رحمهم الله -. ومن عدا ذلك ممن نقلت عنه، أعينه، وإلى الله أرغب في أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم، وموصلا إلى النظر إليه في جنات النعيم، وأن ينفع به قارئه، وكاتبه، وسامعه، والناظر فيه، وجميع المسلمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فسبيلك أيها الناظر المنصف في هذا المصنف (¬1) أن تنظره بعين الرضا، ولا تَرْمُقُهُ معرضا إن رمت له إنصافا، ولا توله منك إجحافا، فإن عثرت فيه على خلل، فالعذر أني لست معصوما من الزلل، وما من قائل إلا وعليه قائل، والله المستعان، وعليه التكلان. ¬
كتاب الطهارة
كِتْابُ الطَّهَارَة
[باب]
كِتْابُ الطهارة الحديث الأول 1 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِالنِّيَّاتِ -، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى , فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا , فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» (¬1). ¬
* الشرح: مادة (كتب) (¬1) مع هذا التبويب دالة على الجمع والضم، ومنه الكتيبة، والكتابة، والكتب، واستعملوا ذلك فيما (¬2) يجمع أشياء من الأبواب والفصول والمسائل؛ لحصول معنى الجمع والضم فيه، ثم قد يحتمل أن يكون حقيقة إذا جنحت (¬3) بالضم إلى المكتوب من الحروف بالنسبة (¬4) إلى محلها، ويحتمل أن يكون مجازا بالنسبة إلى المعنى المدلول عليه بالألفاظ المذكورة، فإن الجمع والضم حقيقة في الأجسام (¬5). والطهارة: فعالة من الطُّهر، وهي على قسمين: لغوية، وشرعية. ¬
فاللغوي: النزاهة والخلوص من الأدناس، قال الله (¬1) -تعالى-: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55]؛ أي: مخلصك من أدناسهم، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وليس على المجاز، والتشبيه بالتطهير (¬2) بالماء لتأكيد الفعل بالمصدر، وهو في الأغلب يمنع المجاز. وأما الشرعية: فرفع الحدث، وإزالة الخبث، أو ما (¬3) في معناهما؛ من تجديد الوضوء، وإزالة النجاسة (¬4)، والتيمم، وغير ذلك مما لا يرفع حدثا، ولا يزيل خبثا، ولكنه في معناه. وأما الطُّهارة -بضم الطاء-، فقيل: هي بقية الماء المتطهر به (¬5). * التعريف: عمر - رضي الله عنه -: هو الفاروق، وكنية أبو حفص بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح -بكسر الراء المهملة بعدها المثناة تحت- ابن عبد الله بن قرطِ بن رزاح -بفتح الراء المهملة-، بعدها زاي معجمة ابن عدي بن كعب القرشي العدوي؛ يجتمع (¬6) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
في كعب بن لؤي. وأمه: حنتمة -بحاء مهملة بعدها نون، بعدها المثناة فوق- بنت هاشم بن المغيرة، أخي هشام بن المغيرة، والد أبي جهل بن هشام، والحارث بن هشام، وهاشم جد عمر لأمه -على الأصح-، يقال له: ذو الرمحين. أوصى له أبو بكر - رضي الله عنه - بالخلافة، فتولاها يوم مات أبو بكر - رضي الله عنه -، وهو يوم الثلاثاء، لثلاث بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة. أسم قديما، وهاجر إلى المدينة قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وشهد المشاهد كلها، ومناقبه أشهر من أن تذكر، ومآثره أكثر من أن تحصر. ولي الخلافة عشر سنين وخمسة أشهر، وقيل: ستة أشهر، وقتل يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة، وقيل: لثلاث بقين منه (¬1) سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، سِنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - رضي الله عنه - على الصحيح من ذلك. ودفن مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع أبي بكر - رضي الله عنه - في بيت عائشة، وصلى عليه صهيب بن سنان الرومي. مات شهيدا، قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، طعنه وهو ¬
يصلي بالناس صلاة الصبح، فأقام ثلاثة أيام ومات، وقيل: سبعة أيام. قال عمرو (¬1) بن علي: «مات يوم السبت غرة المحرم، سنة أربع وعشرين» (¬2). * وقد روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد خلق كثير، ينيِّف عن المئتين بكثير (¬3). وقد روي من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، ومعاوية؛ قالوا: «ولا يصح مسندا إلا من (¬4) أربعة حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وقد اتفق على صحته مع أنه غريب، إذ لم يصح إلا من رواية ¬
عمر - رضي الله عنه -، ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي (¬1)، ولم يروه عن محمد إلا يحيى بن سعيد الأنثاري، ورواه عن يحيى بن سعيد نحو من مئتين وخمسين رجلا، كما تقدم. * ثم (¬2) الكلام على الحديث من وجوه: الأول: هذا الحديث متفق على صحته -كما تقدم-، مجمع على عظم موقع وجلالته، وهو وأحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف فيها؛ فقيل: هي أربعة أحاديث: «الأعمال بالنيات»، «الحلال بين والحرام بين» (¬3)، و «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (¬4) ¬
«وازهد في الدنيا يحبك الله» (¬1)، وقد نظمها أبو الحسن طاهر بن الْمُفَوَّز (¬2) - رحمه الله تعاتلى-، فقال: عُمْدَةُ الدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ ... أَرْبَعٌ مِنْ كَلَامِ خَيْرِ الْبَرِيَّهْ اِتَّقِ الشُّبُهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ مَا ... لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ (¬3) وقال أحمد بن حنبل: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث؛ «الأعمال بالنية»، و «الحلال بين، والحرام بين»، و «من أحدث في أمرنا ما ليس منه (¬4) فهو رد» (¬5) (¬6). ¬
وقال أبو داود: «الفقه يدور على خمسة أحاديث، «الأعمال بالنيات»، و «الحلال بين، والحرام بين» (¬1)، و «وما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» (¬2)، و «لا ضرر ولا ضرار» (¬3) (¬4). وروي عن أبي داودالسجستاني، قال: «كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة ألف حديث، الثابت منها أربعة آلاف حديث، وهي ترجع إلى أربعة أحاديث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إنما الأعمال بالنيات»، وقوله: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (¬5)، وقوله: «لا يكون المؤمن مؤمنات حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه» (¬6) ¬
الحديث (¬1)، وقوله: «الحلال بين، والحرام بين» (¬2). وقال الشافعي - رحمه الله -: «يدخل هذا الحديث في سبعين بابا من الفقه» (¬3). قلت: يحتمل أن يريد بالسبعين: التحديد، ويحتمل أن يريد: المبالغة (¬4) في التكثير؛ لأن العرب تستعمل السبعين في ذلك، ومن ذلك (¬5) قوله -تعالى-: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (¬6) الآية [التوبة: 80]، والله أعلم. وكان السلف وتابعوهم - رحمهم الله - يستحبون استفتاح المصنفات بهذا الحديث؛ تنبيها للمطالع على حسن النية، واهتمامه بذلك، واعتنائه به. وقال أبو سليمان الخطابي: «كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون ¬
تقديم حديث: «الأعمال بالنيات»، أمام كل شيء ينشأ ويبدأ (¬1) من أمور الدين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها (¬2). قلت: ومثل هذا الحديث في اعتبار النية قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبشاركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (¬3)، وكلاهما يشير إلى قوله -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وقوله -تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، والمراد من ذلك: أن تكون أفعال العبد وأقواله متمحضة (¬4) لإرادة التقرب إلى الله -تعالى-، أعاننا الله على ذلك. الثاني: كلمة (إنما) تقتضي الحصر لوجهين: أحدهما: أن (¬5) ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يعارض في فهمه الحصر منها في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الربا في النسيئة» (¬6)، وعورض بدليل آخر يقتضي ¬
ربا الفضل، ففي ذلك أيما اتفاق على أنها للحصر. الثاني: قالوا: إنها مركبة من الإثبات والنفي، فإما أن تفيد نفي المذكور وإثبات غيره، أو العكس، والأول لا سبيل إليه، فتعين الثاني، وهو المطلوب. و (¬1) قال أبو علي الفارسي في «شيرازياته»: «يقول ناس من النحويين في قوله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33]: إن المعنى: ما حرم ربي إلا الفواحش، قال: ووجدت ما يدل على صحة قولهم في هذا، وهو قول الفرزدق: [من الطويل] أَنَا الذَّئِدُ الْحَامِي الذِّمَارَ وَإِنّمَا ... يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي و (¬2) قال الزجاج: «والذي أختاره في قوله -تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173]: أن تكون (ما) هي التي تمنع (إن) من العمل، ويكون المعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة؛ لأن (إنما) تأتي إثباتا لما يذكر بعدها، ونفيا لما سواه. وقال أبو علي: التقدير في البيت: وما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي (¬3). وقال ابن عطية: (إنما) لفط لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث ¬
وقع، ويحصل مع ذلك للحصر، فإذا دخل في قصة (¬1) وساعد معناها على الانحصار، صح ذلك، وترتب؛ مثل قوله -تعالى-: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]، وغير ذلك من الأمثلة، وإذا كانت (¬2) القصة لا يتأتى فيها انحصار، بقيت (إنما) للمبالغة والتأكيد فقط؛ كقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إنما الربا في النسيئة»، وقولهم (¬3): إنما الشجاع عنترة. قال: وأما من قال: (إنما) لبيان البموصوف، فهي عبارة فاترة؛ إذ بيان الموصوف يكون في مجرد الإخبار دون (إنما) انتهى كلامه (¬4). قلت: وأبسط من هذا أن يقال: إن (إنما) تارة تقتضي الحصر المطلق، وتارة تقتضي حصرا مخصوصا، ويفهم ذلك بالقرائن والسياق. فالأول: كقوله -تعالى-: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]، هاهنا على إطلاقه؛ لشهادة العقول والنقول على وحدانيته -تعالى-، وغير ذلك من الأمثلة مما في هذا المعنى. والثاني: كقوله -تعالى-: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]؛ أي: بالنسبة ¬
لمن لا يؤمن، وإلا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا تحصر صفاته الجميلة من البشارة، والشجاعة، والكرم، وغير ذلك، وكذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي» (¬1)، أي: بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصم، لا بالنسبة إلى كل شيء، على ما تقرر، وكذلك قوله -تعالى-: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36]؛ أي: باعتبار من آثرها، والله أعلم، وإلا، فقد تكون سبيلا إلى الخيرات، وموصلة إلى الدرجات، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر، أو يكون ذلك من باب التغليب لحال الأكثر؛ إذ الواقع كذلك، فاعتبر هذا الأص، فحيث دل السياق على الحصر في شيء مخصوص، فقل به، وإلا (¬2)، فالأصل الإطلاق، ومن قوله -عليه السلام-: «إنما الأعمال بالنيات». فائدة: قال ابن خطيب زملكا (¬3) - رحمه الله -: أودع فهمك أن الأصل في ¬
في (إنما): أن تجيء بخبر لا يجهله المخاطب، أو لما هو منزل (¬1) هذه المنزلة، ومثال الأول: قولهم: إنما يعجل من يخشى الفوت، وفي التنزيل: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36]، و {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]، كل ذلك يذكر بأمر معلوم، فإن كل عاقل يعلم أنه لا تكون استجابة إلا ممن يسمع، وأن الإنذار إنما يجدي إذا كان مع من يصدق بالبعث، ومنه قولك: إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم لمن يقر به ويعلمه (¬2)، غير أنك تريد أن تنبهه على ما يجب من حق الأخوة عليه. ومثال الثاني قوله: [الخفيف] إِنَمَا مُصْعَبٌ شِهَابٌ مِنَ اللَّ ... هِ تَجَلَّتْ عَنْ وَجْهِهِ الظَّلْمَاءُ (¬3) ادعى أن الممدوح بهذه الصفة ثابت له ذلك، معلوم لا خفاء به، على عادة الشعراء في دعواهم أن الصفات التي ذكرت للممدوح لا يكتنفها النزاع، كما قال البحتري: [الكامل] لَا أَدَّعِي لِأَبِي الْعَلَاءِ فَضِيلَةً ... حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ عِدَاهُ ومثله: إنما هو أسد وسيف صارم، كان ذلك مما لا يدفع (¬4). ¬
الثالث: الأعمال ثلاثة: بدنية، وقلبية، ومركبة منما: فالأول: كل عمل لا يشترط فيه النية؛ كرد الغصوب والعواري، والودائع والنفقات، وإزالة النجاسات، ونحو ذلك. والثاني: كالاعتقادات، والتوبة، والحب والبغض في الله -تعالى-، وما أشبه ذلك. والثالث: كالوضوء، والصلاة، والحج، وكل عبادة بدنية مشترط في حصولها النية، قولا كان أو فعلا، وبعض الخلافيين يخصص العمل بما لا يكون قولا (¬1)، واستبعد؛ لأن القول (¬2) عمل جارحي، ولا فرق في ذلك بين جارحة وجارحة، أما الأفعال فقد استعملت مقابلة للأقوال (¬3)، ولا شك أن هذا الحديث يتناول الأقوال، والله أعلم. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: (بالنيات» يتعلق بمحذوف هو الخبر. فمن أوجب النية، قدره: إنما الأعمال مجزئة، أو: معتبرة بالنيات، أو (¬4): إنما صحت الأعمال، أو: اعتبار الأعمال بالنيات، فيكون قد ¬
حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. ومن لم يوجبها، قدره: إنما الأعمال كاملة بالنيات، أو (¬1): إنما كمال الأعمال بالنيات. ورجح الأول من حيث إن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى؛ لأن ما كان ألزم للشيء، كان أقرب خطور بالبال عند إطلاق اللفظ، وهذا الحديث أصل في وجوب النية في سائر العبادات. واحتجوا -أيضا- بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» الحديث (¬2). واحتجوا -أيضا- بقوله -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه ابن مسعود: «إذا أنفق الرجل على أهله، وهو يحتسبها، فهي له صدقة» (¬3). وفي حديث سعد: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا ¬
أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك» (¬1)، وغير ذلك من الأحاديث. وأما ما في الكتاب العزيز، فقوله -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]، قال البخاري: على نيته (¬2) (¬3). وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، فأخبر سبحانه أنه لا يكون في الآخرة نصيب إلا لمن قصدها بالعمل، والله أعلم. الخامس: وجه إفراد النية على هذه الرواية كونها مصدرا، وإنما جمعت (7) في رواية «بالنيات»؛ لاختلاف أنواعها ومعانيها؛ لأن المصدر إذا اختلفت أنواعه، جمع، نحو: الحلوم، والعلوم، وما أشبه ذلك، فمتى أريد مطلق النية من غير نظر لأنواعها، تعين الإفراد، ومتى أريد ¬
غير (¬1) ذلك جمعت. السادس: حقيقة النية قصد المكلف (¬2) الشيء المأمور به، وقيل: قصد الشيء وتخصيصه ببعض أحكامه وأوصافه. ومحلها القلب عند الجمهور، لا الدماغ؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، والإخلاص إنما يكون بالقلب. وقال تعالى: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]. وقال -صلى الله عليه وسلم- (¬3): «التقوى ها هنا» وأشار إلى صدره ثلاثًا (¬4) (¬5). وهذا مما لا يدرك إلا بالسمع، وظواهر السمع تقتضي الأول، وإذا ثبت أن محلها القلب، فالذي يقع به الإجزاء عندنا أن ينوي العبادة بقلبه من غير نطق بلسانه، وهو الأفضل -أيضا-؛ إذ اللسان ليس محلاً للنية على ما تقرر. ونقل التلمساني من أصحابنا عن صاحب «الاستلحاق» (¬6): ¬
استحباب النطق، وهو غير المعروف من مذهب مالك رحمه الله. فائدة: قيل: جميع النيات المعتبرة في العبادات لا بد لها من المقارنة للفعل، إلا الصيام، والكفارات، فإنه يجوز تقديمها على الفعل والشروع (¬1). السابع: إن قلت: ما فائدة قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وإنما لكل امرئ ما نوى» بعد تقدم لفظ يقتضي التعميم، وهو قوله: «إنما الأعمال بالنيات»؟ قلت: فيه معنى جليل، وهو أن اللفظ الأول إنما يقتضي اشتراط النية لكل عمل، وذلك لا يقتضي منع الاستنابة في النية؛ إذ لو نوى واحد عن غيره لصدق عليه أنه عمل بنية، وذلك ممتنع، فلما قال - صلى الله عليه وسلم -: «وإنما لكل امرئ ما نوى»، أفادنا النص على منع الاستنابة في النية، فاعرفه. وقد استثني من هذا نية الولي عن الصبي في الحج، والمسلم عن زوجته الذمية عند طهرها من الحيض، على القول بذلك، وحج الإنسان عن غيره. الثامن: يقال: امرؤ، وَمَرْءٌ، قال الله -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ ¬
يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، وفي المؤنث: امرأة، ومَرْأة، ومَراة، بغير همز في الثالث (¬1). و (ما) بمعنى الذي، وصلته (نوى)، والعائد محذوف، أي: نواه، وإن قدرت (ما) مصدرية، لم يحتج إلى حذف؛ إذ (ما) المصدرية عند سيبويه حرف، والحروف لا تعود عليها الضمائر (¬2)، والتقدير: لكل امرئ نيته. التاسع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» إلى آخره. القاعدة في صناعة النحو: التغاير بين فعلي (¬3) الشرط والجزاء، والمبتدأ والخبر في الأمر العام، ولم يتغايرا هنا، فلا بد من تقدير محذوف يصح معه الكلام، وقد قدره بعضهم: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وعقدا، فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا. العاشر: الهجرات الواقعة في الإسلام، قيل: هي خمس: الأولى: الهجرة إلى الحبشة، حين آذى المشركون أصحاب (¬4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
الثانية: الهجرة المفترضة على أهل مكة، أن يهاجروا إلى المدينة عند مهاجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها. وفي هذه الهجرة نزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار» (¬1)، إشارة (¬2) إلى هذه الهجرة. الثالثة: هجرة القبائل للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الفتح، كانوا يأتونه يقتبسون منه الشرائع، ويتعلمون منه سنن الهدى والإسلام؛ كوفد عبد القَيْس، وغيرهم، ثم يرجعون إلى مواطنهم، ويعلمون قومهم. الرابعة: الهجرة الواجبة على من أسلم من أهل مكة أن يأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجعوا إلى مكة؛ كفعل صفوان بن أمية. الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه، وهي المشار إليها بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (¬3). قال بعض المتأخرين من أصحابنا: وهي الهجرة العظمى التي اندرج جميع الأقسام تحتها. ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه». فائدتان: ¬
فائدة ترجع للمهاجرين؛ لكي لا يتكل على نفس الهجرة، فبين لهم -عليه الصلاة والسلام- أن الهجرة التامة الكاملة هي (¬1) هجران الفواحش، ففيه حض على التزام الطاعات (¬2)، وعدم الاغترار بالهجرة، وحث على الجد في الفضائل، وأن لا يعتمدوا على الهجرة ويتركوا العمل. والفائدة الثانية: ترجع إلى من لم يهاجر، ففيه ترجية لهم، وإيناس وتبيين أن سبل الطاعات باقية، وأعمال الخير متلاحقة، وأن اسم الهجرة باقٍ لهم مقول عليهم عند هجران المحارم وجميع ما نهى الله عنه، بل هو أعظم هجرة، وأكبر فضيلة. قلت: وينبغي أن تُسَدَّسَ بهجرة من أمكنه من المسلمين الخروج من دار الكفر؛ كما قيل، والله أعلم. ومعنى الحديث يتناول الجميع، غير أن السبب يقتضي الهجرة من مكة إلى المدينة (¬3)؛ لما نقل: أنَّ رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأةً تسمى: أم قيس، فسمي: مهاجر أم قيس (¬4)؛ ولهذا خص -عليه الصلاة والسلام- ¬
في الهجرة ذكر المرأة دون سائر ما تنوى به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية. فإن قلت: لم ذم على طلب الدنيا، وهو أمر مباح، والمباح لا ذم فيه، ولا مدح؟ قلت: لم يخرج في الظاهر لطلب الدنيا، وإنما خرج في صورة طالب (¬1) فضيلة الهجرة، فأبطن خلاف ما أظهر؛ فلذلك توجه عليه الذم، والله أعلم. الحادي عشر: إن قلت: لم أعاد - صلى الله عليه وسلم - ما بعد الفاء الواقعة جوابا للشرط بلفظ الأول، أعني: قوله: «فهجرته إلى الله ورسوله»، ولم يعده في قوله: «ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها»، بل قال: «فهجرته إلى ما هاجر إليه»؟ قلت: سر ذلك والله أعلم الإعراض عن تكرير ذكر (¬2) الدنيا، والغض منها، وعدم الاحتفال بأمرها، وذلك مناسب؛ لما قيل: من أحب شيئًا، أكثر من ذكره، وهو -عليه الصلاة والسلام- أبعد الناس عن حبها، وهذا معنى لطيف، فاعرفه، وبالله التوفيق. ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 2 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» (¬1). * * * * التعريف: أبو هريرة كنيته، واختلف في اسمه على نحو من ثلاثين قولاً، ¬
وقد أفرد بعض الحفاظ له جزءً، وأصح ما قيل فيه: عبد الرحمن بن صخر. وأما نسبه: فهو عبد الرحمن بن صخر، وهو دوسي النسب، نسبة إلى دَوْس -بفتح الدال وسكون الواو، وآخره سين مهملة-، وهي قبيلة في (¬1) الأسد، وهو دَوْسَ ابن عُدْثَان -بضم العين وسكون الدال (¬2) المهملتين بعدها ثاء مثلثة- ابن عبد الرحمن بن زهران (¬3) بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن أزد، هكذا نسب. وأما اتصال نسبه بدوس، فقال خليفة بن خياط: هو عمير بن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبه بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس (¬4). قال ابن إسحاق: حدثني بعض أصحابناعن أبي هريرة، قال: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس، فسميت في الإسلام عبد الرحمن، وإنما كنيت بأبي هريرة؛ لأني وجدت هرةً، فحملتها في كمي، فقيل لي: ما هذه؟ فقلت: هرة، فقيل: فأنت أبو هريرة (¬5). ¬
قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روينا (¬1) عنه: أنه قال: كنت أحمل هرة يوما في كمي، فرآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ما هذه؟»، فقلت: هرة، فقال: «يا أبا هريرة». قال أبو عمر: أشبه ما عندي أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كناه بذلك، والله أعلم. قال أبو عمر: أسلم أبو هريرة عام خيبر، وشهدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لزمه، وواظبه (¬2) رغبة في العلم راضيا بشبع بطنه، كانت يده مع [يد] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يدور معه حيثما دار، وكان من أحفظ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه حريص على العلم والحديث، وقال له: يا رسول الله! إني سمعت منك حديثًا كثيرا، وإني أخشى أن أنساه، قال: «ابسط رداءك»، فبسطته، فغرف بيده فيه، ثم قال: «ضمه»، فضممته، فما نسيت شيئًا بعد (¬3). وقال البخاري: روى عنه أكثر من ثمان مئة رجل من بين صاحب وتابع، وممن روى عنه من الصحابة: ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأنس، وواثلة بن الأسقع، وروى عنه من التابعين: أبو سلمة، وسعيد بن المسيب، والأعرج، وأبو صالح، وسعيد المقبري (¬4)، ¬
وابن سيرين، وعكرمة. استعمله عمر على البحرين، ثم عزله، ثم أراده على العمل، فأبى، ولم يزل يسكن المدينة، وبها كانت وفاته. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة آلاف حديث، وثلاث مئة حديث، وأربعة وسبعون حديثًا، اتفقا على ثلاث مئة وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين، ومسلم بمئة وتسعين (¬1). ¬
قال خليفة: توفي أبو هريرة سنة سبع وخمسين. وقال الهيثم بن علي: توفي أبو هريرة سنة ثمان وخمسين. وقال الواقدي: سنة تسع وخمسين. وقال غيره: مات بالعقيق، وصلى عليه الوليد بن عتبة (¬1) بن أبي سفيان، وكان أميرا يومئذ على المدينة، ومروان معزول. روى له الجماعة، والله أعلم (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يقبل الله» هو (¬3) بفتح الموحدة في المضارع، وكسرها في الماضي؛ كَعَلِمَ يَعْلَمُ، والقبول فُسِّرَ بترتب (¬4) الغرض المطلوب من الشيء على الشيء، يقال: قبل فلان عذر فلان: إذا رتب على عذره الغرض المطلوب منه، وهو محو الجناية والذنب. ¬
قال القرطبي في «المفهم»: هذا الحديث دليل لمالك، وابن نافع على قولهما: إن من عَدِمَ الماء والصعيد، لم يصلِّ، ولم يقض، إن خرج وقت الصلاة؛ لأن عدم قبولها (¬1) لعدم شرطها، يدل على أنه ليس مخاطبا بها حالة عدم شرطها، فلا يترتب شيء في الذمة، فلا يقضي، وعلى هذا فتكون الطهارة من شروط الوجوب. واختلف أصحاب مالك في هذه المسألة؛ لاختلافهم في هذا الأصل انتهى (¬2). وفي هذه المسألة أربعة أقوال معروفة في مذهب مالك، والمشهور منها: أنه (¬3) يصلي، ويقضي، وقد نظمها بعض أصحابنا من (¬4) المتأخرين: [وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا مُتَيَمَّمًا ... فَأَرْبَعَةُ الْأَقْوَالِ يَحْكُونَ مَذْهَبا (¬5)] يُصَلِّي وَيَقْضِي عَكْسَ مَا قَالَ [1] ... وَأَصْبَغُ يَقْضِي وَالْأَدَاءُ لِأَشْهَبا (¬6) ¬
وتوجيه (¬1) هذه الأقوال في كتب الفقه، وقصدنا هاهنا ما يتعلق بلفظ الحديث. الثاني: هذا الحديث نص في وجوب الوضوء وشرطيته في الصلاة، وهو مما أجمعت عليه الأمة. ع: واختلفوا متى فرضت الطهارة للصلاة؟ فذهب ابن الجهم: إلى أن الوضوء كان في أول الإسلام سنة، ثم نزل فرضه في آية التيمم. وقال الجمهور: بل كان قبل ذلك فرضا. واختلفوا في أن الوضوء فرض على كل قائم (¬2) إلى الصلاة، أم على المحدث خاصة؟ فذهب ذاهبون من السلف إلى أن الوضوء لكل صلاة فرض، بدليل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية [المائدة: 6]، وذهب قوم إلى أن ذلك قد كان ثم نسخ. وقيل: الأمر به لكل صلاة على الندب، وقيل: بل لم يشرع إلا لمن أحدث، ولكن تجديده لكل صلاة مستحب، وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك، ولم يبق بينهم فيه خلاف، ومعنى الآية عندهم: إذا قمتم محدثين. ¬
وأما الوضوء لغير الفرائض: فذهب بعضهم إلى أن الوضوء بحسب ما يفعل له من نافلة أو سنة. وذهب بعضهم إلى أنه فرض على كل حال، ولكل عبادة لا تستباح إلا به، إذا عزم على فعلها، فالمجيء بها بغير الطهارة معصية، واستخفاف بالعبادة، فلزمه المجيء بشرطها فرضا (¬1)؛ كما إذا دخل في عبادة نفلًا، لزمته (¬2)، ووجب عليه تمامها لهذا الوجه (¬3). ح: ولو صلى محدثًا متعمدا بلا عذر، أثم، ولا يكفر عندنا، وعند الجمهور، وحكي عن أبي حنيفة: أنه يكفر بتلاعبه، ودليلنا أن الكفر بالاعتقاد، وهذا المصلي اعتقاده صحيح (¬4). قلت: وفي هذا الاستدلال عندي نظر؛ للاتفاق على تكفير من استهان بالمصحف استهانة مخصوصة في الصورة المخصوصة، والله أعلم. الثالث: ظاهر هذا الحديث يقتضي انتفاء الصحة عند انتفاء القبول، ويحتاج ذلك إلى تحقيق؛ إذ لا يتم الاستدلال على وجوب (¬5) الطهارة إلا بذلك. ¬
ق (¬1): وقد حرك في هذا بحثا؛ لأن انتفاء القبول قد ورد في مواضع مع ثبوت الصلاة؛ كالعبد إذا أبق لا تقبل له صلاة، وكما ورد فيمن أتى عرافًا، وفي شارب الخمر، فإذا أراد أن يقوي الدليل على انتفاء الصحة بانتفاء القبول، فلا بد من تفسير معنى (¬2) القبول. وقد فسر (¬3) بأنه تَرَتُّبُ الغرض المطلوب من الشيء على الشيء، فإذا ثبت ذلك، فيقال مثلاً: في هذا المكان الغرض من الصلاة؛ وقوعها مجزئة لمطابقتها للأمر، فإذا حصل هذا الغرض، ثبت القبول على ما ذكر من التفسير، وإذا ثبت القبول على هذا التفسير، ثبتت الصحة، وإذا انتفى القبول على هذا التفسير، انتفت الصحة. وربما قيل من جهة بعض المتأخرين: إن القبول كون العبادة بحيث يترتب الثواب والدرجات عليها، والإجزاء كونها مطابقة للأمر. والمعنيان إذا تغايرا، وكان أحدهما أخص من الآخر، لم يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، والقبول على هذا التفسير أخص من الصحة، فإن (¬4) كل مقبول صحيح، وليس كل صحيح مقبولاً، وهذا إن نفع في تلك الأحاديث التي نفي (¬5) فيها القبول مع بقاء الصحة، فإنه يضر في ¬
الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة؛ كما حكينا عن الأقدمين، اللهم إلا أن يقال: دلَّ الدليل على كون القبول من لوازم الصحة، فإذا انتفى، انتفت، فيصح الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة، ويحتاج في تلك الأحاديث التي نفي فيها القبول مع بقاء الصحة إلى تأويل أو تخريج جواب على أنه يَرِدُ على من فسر القبول بكون العبادة مثابا عليها ومرضية، أو ما أشبه ذلك، إذا كان مقصوده بذلك أن لا يلزم من نفي القبول نفي الصحة أن يقال: القواعد الشرعية تقتضي أن العبادة إذا أتي بها مطابقة للأمر، كانت سببا للثواب، والظواهر في ذلك لا تحصى انتهى (¬1). وحاصل هذا أن الإشكال باقٍ حتى تتأول تلك الأحاديث التي نفي فيها القبول مع بقاء الصحة بما يكون جمعا بينها وبين هذا الحديث. ويحتمل أن يقال في ذلك -والله الموفق-: إنَّ الأصل فيمن أتى بالعبادة المأمور بها ناقصة عما أمر به (¬2)؛لترك شرط من شروطها، ونحو ذلك: أن تكون غير صحيحة؛ إذ لم يأت بما أمر به، صح لنا ذلك في هذا الحديث، وخالفناه في تلك الأحاديث الأخر لدليل دلَّ على ذلك، فبقي ما كان على ما كان، فثبت بذلك انتفاء الصحة عند انتفاء القبول، والله أعلم. ¬
الرابع: ق: الحدث قد يطلق بإزاء معان ثلاثة: أحدها (¬1): الخارج المخصوص الذي يذكره الفقهاء في باب نواقض الوضوء، ويقولون: الأحداث كذا، وكذا. الثاني: نفس خروج الخارج. الثالث: المنع المرتب على ذلك الخروج، وبهذا المعنى يصح قولنا: رفعت الحدث، أو (¬2): نويت رفع الحدث، فإن كل واحد من الخارج والخروج قد وقع، وما وقع يستحيل رفعه؛ بمعنى أن لا يكون واقعا، وأما المنع المرتب على الخروج، فإن الشارع حكم به، ومد غايته إلى استعمال المكلف الطهور، فباستعماله يرتفع المنع، فيصح قولنا: رفعت الحدث، وارتفع الحدث؛ أي: ارتفع المنع الذي كان ممدودا إلى استعمال المطهر. وبهذا التحقيق يقوى قول من يرى أن التيمم يرفع الحدث؛ لما بينا أن المرتفع إنما هو المنع من الأمور المخصوصة، وذلك المنع مرتفع بالتيمم، فالتيمم يرفع الحدث. غاية ما في الباب: أن رفعه للحدث (¬3) مخصوص بوقت ما، أو بحالة ما، وهو عدم الماء، وليس ذلك ببدع؛ فإن الأحكام قد تختلف ¬
لاختلاف محالها، وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبا لكل صلاة على ما حكوه، ولا شك أنه كان رافعا للحدث في وقت مخصوص، وهو وقت الصلاة، ولم يلزم من انتهائه بانتهاء وقت الصلاة في ذلك الوقت (¬1) أن لا يكون رافعا للحدث، ثم نسخ ذلك الحكم عند الأكثرين، ونقل عن بعضهم أنه مستمر، ولا شك أنه لا يقول: إن الوضوء لا يرفع الحدث. نعم (¬2) هاهنا معنى رابع يدعيه كثير من الفقهاء، وهو أن الحدث وصف حُكْمِيٌّ مقدر قيامه بالأعضاء على مقتضى الأوصاف الحسية، ويُنْزِلُون ذلك الحكمي منزلة الحسي في قيامه بالأعضاء. فما نقول: إنه يرفع الحدث؛ كالوضوء، والغسل يزيل ذلك الأمر الحكمي، فيزول المعنى المرتب على ذلك الأمر المقدر الحكمي. وما نقول بأنه لا يرفع الحدث، فذلك المعنى (¬3) المقدر القائم بالأعضاء حكما باق لم يزل، والمعنى المرتب عليه زائل. فبهذا الاعتبار نقول: إن التيمم لا يرفع الحدث، بمعنى: أنه لم يزل ذلك الوصف الحكمي المقدر، وإن كان المنع زائلاً. وحاصل هذا: أنهم أثبتوا للحدث معنى رابعا غير ما ذكرناه من ¬
المعاني الثلاثة، وجعلوه مقدرا قائما بالأعضاء حكما كالأوصاف الحسية، وهم مطالبون بدليل شرعي يدل على إثبات هذا المعنى الرابع الذي ادعوه مقدرا قائما بالأعضاء، فإنه منفي بالحقيقة (¬1)، والأصل موافقة الشرع لها، ويبعد أن يأتوا بدليل على ذلك، وأقرب ما يذكر فيه: أن الماء المستعمل قد انتقل إليه المانع؛ كما يقال. والمسألة متنازع فيها، فقد قال جماعة بطهورية الماء المستعمل، ولو قيل بعدم طهوريته، أو بنجاسته، لم يلزم منه انتقال مانع إليه، فلا يتم الدليل، والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله (¬2). وهذا تحقيق لا ينازع فيه منصف، ولا ينكره إلا مجحف متعسف، فلينظر توجيه المذهبين؛ أعني: مذهب مالك، والشافعي رحمهما الله تعالى، فإن المشهور فيهما أن التيمم لا يرفع الحدث، والله أعلم (¬3). الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «حتى يتوضأ» معناه: أو يتيمم بشرطه، وإنما اكتفى بالوضوء عن التيمم؛ لأصالته، وأكثريته. السادس: لا بد في الحديث من تقدير حذف وهو: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ، ويصلي؛ إذ يستحيل قبول صلاة غير مفعولة. ¬
ق: استدل بهذا الحديث على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة، ووجه الاستدلال منه: أنه -عليه الصلاة والسلام- نفى القبول ممتدا (¬1) إلى غاية الوضوء، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها، فيقتضي ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا، وتدخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء (¬2) لها ثانيا (¬3). قلت: ويحققه أن (صلاة) (¬4) اسم جنس، وقد أضيف، فعم، وبالله التوفيق. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 3 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ -رضي الله عنهم-، قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» (¬1). ¬
* التعريف: قد تقدم الكلام على أبي هريرة -رضي الله عنه- (¬1). وأما عبد الله بن عمرو بن العاصي: فقرشي سهمي. يكنى أبا محمد، وقيل: أبا عبد الرحمن، وقيل: أبا نصير. قال ابن معين: كنيته أبو عبد الرحمن، والأشهر أبو محمد. ولم يَفُتْهُ أبوه في السن إلا باثنتي عشرة سنة، ولد لعمرو عبد الله (¬2) وهو ابن اثنتي عشرة سنة، أسلم قبل أبيه، وكان فاضلاً حافظًا عالمًا، قرأ الكتب، واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يكتب حديثه، فأذن له، قال: يا رسول الله! أكتب كل ¬
ما سمعته (¬1) منك في الرضا والغضب؟ قال: «نعم، فإني لا أقول إلا حقًا» (¬2). وقال عبد الله: حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف مثل (¬3). واختلف في وقت مماته، فقال أحمد بن حنبل: مات ليالي الحرة في ولاية يزيد بن معاوية، وكانت (¬4) الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين. وقال غيره: مات سنة ثلاث وسبعين. قال (¬5) يحيى بن عبد الله: مات بأرضه بالسبع من فلسطين سنة خمس وستين. وقيل: سنة سبع وستين، وهو ابن اثنين وسبعين سنة (¬6). وقيل: توفي سنة خمس وخمسين بالطائف. وقيل: إنه مات بمصر سنة خمس وستين، وهو ابن اثنتين ¬
وسبعين سنة (¬1). وأما عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وهي بنت ست سنين، وقيل: سبع، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع. قال أبو عمر بن عبد البر: لا أعلمهم اختلفوا في ذلك. وتزوجها بعد موت خديجة بثلاث سنين، وتوفي عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة، وعاشت بعده أربعين سنة (¬2)، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تكني بابنك عبد الله بن الزبير» (¬3)، يعني: ابن أختها. وكان مسروق إذا حدث عنها، يقول: حدثتني الصادقة بنت الصادق، و (¬4) البرة المبرأة بكذا وكذا (¬5). ¬
وكان أشياخ الصحابة يسألونها عن الفرائض. قال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس (¬1). وفضائلها كثيرة جمةٌ. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديث، ومئتا حديث، وعشرة أحاديث، اتفقا منها على مئة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثًا، ومسلم بثمانية وستين حديثًا. روى عنها: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن قيس الرومي الأشعري، وعبد الله بن عامر بن ربيعة. وروى عنها من التابعين نَيِّفٌ وستون رجلاً وامرأة في الصحيح. روى لها الجماعة (¬2). توفيت -رضي الله عنها سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان، وأمرت أن تدفن ليلاً بعد الوتر بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، ونزل في قبرها خمسة: عبد الله، وعروة ابنا الزبير، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر (¬3). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: كلمة (ويل) من المصادر التي لا أفعال لها، ومثلها (ويح)، و (وَيْب)، و (وَيْس)، ويقال: ويل، وَوَيْلَةٌ، قال تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ} [هود: 72]، والأصل: يا ويلتي، فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفًا. كـ: يا غُلَامًا في إحدى اللغات الست، ويستعمل (ويل) مفردا ومضافًا، فإذا أفرد فالأكثر الرفع، وإذا أضيف فالأكثر النصب، فالرفع على الابتداء، والنصب إما على المصدرية، أو بإضمار فعل، كأنه قال: ألزمه الله ويلاً، ونحو ذلك، ويقال: ويل له، وويل عليه، وويل منه، قال (¬1) الشاعر: [البسيط] قَالَتْ هُرَيْرَةُ لَمَّا جِئْتُ زَائِرَهَا ... وَيْلِي عَلَيْكَ، وَوَيْلِي مِنْكَ يَا رَجُلُ (¬2) وهي كلمة عذاب وقبوح. وعن أبي سعيد الخدري، وعطاء بن يسار: هو واد في جهنم، لو أرسلت فيه الجبال، لماعت من حره (¬3). ¬
وقال ابن مسعود: هو صديد أهل النار (¬1). ع: هي كلمة تقال لمن وقع في هَلَكَةٍ، وقيل: لمن يستحقها، وقيل: هي الهلكة، وقيل: المشقة من العذاب، وقيل: الحزن (¬2). الثاني: الأعقاب: جمع عَقِبٍ، وَعَقِبُ كل شيء: طرفه وآخره، والعقب هنا مؤخر القدم، وجاء -أيضا-: «ويل للعراقيب» (¬3)، وهي جمع عُرْقوب، وهو العصب الغليظ الموتر (¬4) فوق عقب الإنسان، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها. قال الأصمعي: وكل ذي أربع عرقوباه في رجليه، وركبتاه في يديه (¬5). الثالث: معنى الحديث: أن الأعقاب أو العراقيب تعذب إن لم تعم بالغسل، وإنما خص الأعقاب أو العراقيب؛ لأن الحديث ورد على سبب، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى قوما وأعقابهم تلوح؛ فقال: «ويل للأعقاب من النار» (¬6). ¬
وفيه دليل على أن العقب محل للتطهير؛ خلافًا لمن لم يوجب ذلك، وظاهر الحديث أو نصه وجوب غسل الرجلين في الطهارة دون المسح، وهو مذهب جمهور السلف وأئمة الفتوى. قال القرطبي: وقد حكي عن ابن عباس، وأنس، وعكرمة: أن فرضهما المسح، إن صح ذلك عنهم، وهو مذهب الشيعة، وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح. وسبب الخلاف اختلاف القَرأَة (¬1) في قوله تعالى: {وَأَرْجُلِكُمْ} {وَأَرْجُلَكُمْ} بالخفض والنصب، وقد أكثر الناس في تأويل هاتين القراءتين، والذي ينبغي أن يقال: إن قراءة الخفض عطف على الرأس، فهما يمسحان، لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقَّينا هذا القيد (¬2) من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، والمتواتر عنه غسلهما، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم- بفعله الحال التي تغسل فيها الرجل، والحال التي تمسح فيها، فليكتف بهذا، فإنه بالغ، انتهى (¬3). وبالتخيير المذكور قال داود. و (¬4) حكي عن بعض أهل الظاهر، والإمامية من الرافضة: إيجاب (¬5) ¬
المسح، ولا يجزئ الغسل، وهم قوم لا يعتد بوفاقهم، ولا بخلافهم (¬1). وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه قال: يجب الجمع بينهما. والمسألة ليست بالسهلة، فلا بد من بسطها بأكثر من هذا، فنقول، والله الموفق: شبهة القول بالمسح قراءة من قرأ: (وأرجلِكُم) بالخفض، ولم يتقدم ما يصح عطف الأرجل عليه إلا الرأس، والرأس ممسوح بالإجماع، فلتكن (¬2) الرجلان كذلك. فإذا قيل لهؤلاء: قد قرأ نصف (¬3) القراء بالنصب، قالوا: لا يمتنع العطف على الموضع في اللغة الفصيحة، والمجرور في قوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ} في محل النصب؛ لأنه مفعول به، وإنما قصر الفعل عنه، فاحتيج في تعديته إلى حرف الجر، وقد قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْإِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] بالرفع نَعْتًا للإله على الموضع، وقال الشاعر: [الرجز] يَسْلُكْنَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرًا (¬4) ¬
وقال آخر: [الوافر] فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا (¬1) فعطف على الموضع في البيتين فقد تظافرت القراءتان على المسح في الرجلين. فإن قيل لهم: وجه قراءة الجر على أنه خفض على الجوار. قالوا في الجواب عن (¬2) ذلك: إن الخفض على الجوار لغة شاذة ركيكة، ويتحاشى القرآن عن حمله على الشاذ (¬3) الركيك، مع إمكان حمله على الفصيح. ويقوي قولهم: ما ذكره إمام الحرمين في «برهانه»: من أن كل تأويل يؤدي إلى حمل القرآن على ركيك شاذ في اللغة لا يقبل، ويعد متأوله معطِّلاً، لا متأولا، وضرب المثال بمسألتنا هذه، وقال: لا يبعد أن تحمل قراءة النصب على العطف على الموضع، ومن لغتهم: يا عمر الجوادا (¬4)، أو تكون قراءة النصب مظافرة لقراءة الجر، على أن المراد في الرجلين المسح. ¬
ولكنه ذكر في الجواب: أن الكلام الجزل الفصيح (¬1) يسترسل في الأحايين استرسالاً، ولا تختلف مبانيه لأدنى تغير معانيه، والعرب ترى المسح قريبًا من الغسل؛ إذ كل واحد منهما إمساس (¬2) العضو بالماء، وهو مسكوت عنه في المعطوف، فسهل احتماله (¬3)، وهو كقول الشاعر: [مجزوء الكامل المرفل] وَلَقَدْ رَأَيْتُكَ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا (¬4) سَيْفًا وَرُمْحَا والرمح يعتقل ويتأبط، ولا يتقلد. وكذلك قول الآخر: [الكامل] فَعَلَى فُرُوعِ الْأَيْهُقَانِ، وَأَطْفَلَتْ ... بِالْجَلْهَتَيْنِ (¬5) ظِبَاؤُهَا وَنَعَامُهَا (¬6) وقول الآخر: [الرجز] فَعَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا (¬7) وَالنَّعَامُ تَبِيضُ وَلَا تُطْفَلُ، أي: لا تلد طفلاً، والماء يسقى ¬
ولا يعلف، ولكن لمَّا اشترك المعطوف والمعطوف عليه في الجهة العامة، جاز العطف، وكره التصريح بالفعل الثاني في المعطوف عليه؛ لئلا ينقطع استرسال الكلام الفصيح، وتسيطر المتكلم (¬1) واستحقاره، وعدم التفاته إلى تفاصيل ذلك، مع الاشتراك في أمر كلي هو الذي حسن ذلك، وهذا ينضم إلى ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا علمهم الوضوء، غسل رجليه، وما فهمته الصحابة رضي الله عنهم، واستمر عليه فعل السلف، هذا آخر كلام الإمام في «البرهان» (¬2). وإنما أطلنا الكلام في هذه المسألة؛ لأن بعض من يقول بالمسح في الرجلين يدعي أن ذلك بنص القرآن، وأن من يقول بالغسل متعلقه خبر واحد، ولا يصح نسخ القرآن بخبر الواحد (¬3)، ولو كان القرآن نصا فيما ادعاه، لكان الأمر كما قال (¬4)، فأردنا أن نبين بما ذكرناه خروج الآية عن رتبة النصوص (¬5) في الدلالة على المسح، وإمكان تطرق التأويل إليها. ثم نقول: الذي يعضد هذا التأويل ما ذكرناه من كون الرسول -عليه الصلاة والسلام- لمَّا علمهم الوضوء، غسل رجليه، وكل ¬
من وصف وضوءه -عليه الصلاة والسلام- لم يذكر في الرجلين إلا الغسل. قال صاحب «البيان والتقريب»: وتقييد الرجلين بالكعبين يحقق أنهما معطوفتان (¬1) على اليدين المقيدتين (¬2) بالغسل إلى المرفقين، وقراءة أكثر القراء بالنصب في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} يقوي ذلك، فإن الظاهر أن يعطف المنصوب على المنصوب لفظًا، وغاية ما في (¬3) ذلك: الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه: وذلك لا يمتنع. قلت: قوله: أكثر القراء، ليس كذلك، بل القراءتان متساويتان. ثم قال (¬4): وقد (¬5) قال الله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] عطفًا على قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]، ولم يضر الفصل بينهما. وأيضا: فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها لمَّا رأت من مسح رجليه، أنكرت عليه، وقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للأعقاب من النار» (¬6). ¬
وما رواه البخاري عن ابن عمر [و]، قال: تخلف عنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة، ونحن نتوضأ ونمسح على أرجلنا؛ فنادى بصوته: «ويل للأعقاب من النار»، مرتين، أو ثلاثًا، ورواه مسلم، وأبو داود، والنسائي (¬1). وإطباق حملة الشرع على الغسل في الرجلين عملاً وقولاً، كل ذلك يحقق التأويل، ويرجحه على الظاهر، وفيما ذكرناه مقنع، والله أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 4 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً , ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ (¬1) , وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ , وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ ثَلاثاً؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» (¬2). ¬
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخَرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ» (¬1)، وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ» (¬2). ¬
* الشرح: الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا توضأ أحدكم» معناه: إذا أراد الوضوء، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]؛ أي: إذا أردت القراءة. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فليجعل في أنفه»؛ أي: ماء: فحذف ذلك؛ للعلم به، وقد جاء مبينا في الرواية الأخرى، ومعنى (يجعل) هنا يلقي. ول (جعل) (¬1) معان أربعة: خلق، وصير، وألقى، وشرع: فمن الأول قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، فيتعدى إلى مفعول واحد، ومن الثاني: جعلت البصرة بغداد، فيتعدى إلى مفعولين بنفسه. ومن الثالث: جعلت المتاع بعضه على بعض، فيتعدى للأول بنفسه، وللثاني بحرف الجر. ومن الرابع: جعل زيدٌ يقول كذا، فيكون من أفعال المقاربة، يرفع الاسم، وينصب الخبر، إلا أن خبره لا يكون إلا فعلاً مضارعا ¬
فيه ضمير يعود على اسمها كما تقدم تمثيله. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ثم لينتثر»: الاستنثار: إيصال الماء إلى الأنف، ونثره منه بنفَس، أو بأصبعه. قال القرطبي: وسمي استنثارا لآخر (¬1) الفعل، وقد يسمى استنشاقًا بأوله (¬2)، وهو استدعاء الماء بنفس الأنف (¬3) (¬4). ق: قال جمهور أهل اللغة، والفقهاء، والمحدثين (¬5): الاستنثار: هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق. وقال ابن الأعرابي، وابن قتيبة: الاستنثار: هو الاستنشاق (¬6). والصواب: الأول، وتدل عليه الرواية الأخرى: «استنشق»، و «استنثر»، فجمع بينهما (¬7). قلت: ولعل الجمع بينهما على ما ذكر القرطبي من تسميته بأول الفعل وآخره، فلا يكون في هذه الرواية دليل. قال أهل اللغة: وهو مأخوذ من النَّثْرَة، وهو طرف الأنف. ¬
وقال الخطابي وغيره: هي (¬1) الأنف (¬2). والمشهور الأول. قال الأزهري: روى سلمة عن الفراء: أنه يقال: نثر الرجل، وانتثر، واستنثر: إذا حرك النثرة في الطهارة (¬3). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ومن استجمر، فليوتر» الاستجمار: هو التمسح من الغائط والبول (¬4) بالجمار، وهي الحجارة الصغار، ومنه الجمار التي يرمى بها في الحج، وقد نص عليها في حديث سلمان (¬5). وقال القاضي أبو الحسن بن القصار: ويجوز أن يقال: إنه أخذ من الاستجمار بالبخور؛ لأنه يزيل الرائحة القبيحة، وقد روي ذلك عن مالك -أيضا-، يريد: فيأخذ منه ثلاث قطع، أو يأخذ منه ثلاث مرات، والصحيح الأول. وقد تمسك الشافعي، وأحمد -رضي الله عنهما- بقوله: «فليوتر) على وجوب ¬
تعداد ثلاثة أحجار، وإن حصل الإنقاء بدونها، وبذلك قال القاضي أبو الفرج، والشيخ أبو إسحاق من أصحابنا -رحمهما الله-، ولا دليل لهم في ذلك؛ لأن الإيتار أعم من أن يكون بواحد، أو بثلاث، أو بغير ذلك، ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص. ونقل عن الخطابي أنه قال: فيه دليل؛ إذ معقول أنه لم يرد الوتر الذي هو واحد فرد؛ لأنه زيادة وصف على الاسم، والاسم لا يحصل بأقل من واحد، فعلم أنه قصد به ما زاد على الواحد، وأقّله (¬1) الثلاث (¬2). قلت: أما قوله: إنه (¬3) لم يرد به الواحد، فممنوع؛ إذ ليس في اللفظ ما يدفعه، ولا في العقل ما يمنعه، وأما قوله: لأنه زيادة وصف، فلم أفهمه. وأما مذهب مالك، وأبي حنيفة -رحمهما الله-، فالواجب الإنقاء لا غير، كان ذلك بحجر، أو أكثر. وقد استدل القاضي عبد الوهاب - رحمه الله - بهذا الحديث نفسه على عدم وجوب التعداد، فقال: لأن أقل ما يقع عليه اسم الوتر مرة واحدة، فإذا أتى بذلك، فيجب أن يجزئه. وروى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من استجمر، ¬
فليوتر؛ من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج» (¬1)، وهذا نص؛ ولأن الإنقاء قد وجد (¬2) بما يجوز الاستنجاء به، دليله: إذا أتى بالثلاث؛ ولأن الاعتبار في ذلك بالإنقاء دون العدد، بدلالة أنه لو لم ينق بالثلاث، زاد عليها، فلما وجبت الزيادة على الثلاث مع عدم الإنقاء، جاز الاقتصار على ما دونها عند وجوده، ولأن القصد من الاستنجاء بالأحجار التجفيف، والأصل هو الماء؛ بدلالة أنه لا يلزمه قلع الأثر بالحجر، وإذا ثبت ذلك، ثم لم يجب في الماء الذي هو أغلظ حكما من الأحجار عدد، ولا عبادة (¬3) غير الإنقاء، فأن (¬4) لا يجب ذلك في الأحجار أولى، ولأنه أحد نوعي ما يستنجى به، فوجب (أن يكون المستحق فيه الإنقاء دون (¬5) العدد أصله الماء، ولأنه إزالة نجس، فأشبهت النجاسة على سائر البدن (¬6)، ولأنها طهارة مسح، فوجب أن لا يستحق تكراره في الحدث، ولأن ما زاد على الإنقاء لما كان مسحا ¬
لا يحتاج إليه في تجفيف النجاسة، لم يكن واجبا؛ كالحجر الرابع والخامس. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وإذا استيقظ أحدكم من نومه» إلى آخره، فإن (¬1) قلت: ما الفائدة في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من نومه»، ومعلوم (¬2) أن الاستيقاظ إنما يكون من النوم؟ قلت: لا ينحصر الاستيقاظ في النوم؛ مشاركة الغفلة والغشية في ذلك، ألا ترى أنه يقال: استيقظ فلان من غشيته، أو من غفلته. فإن قلت: لم أضاف (عليه الصلاة والسلام) النوم (¬3) إلى ضمير أحدنا، ومعلوم قطعا أن أحدا لا يستيقظ من نوم غيره، فما فائدة هذه الإضافة، حتى لم يقل: من النوم، أو من نوم، وكان ذلك مغنيا عنها، مع خفة الإفراد، وثقل التركيب الإضافي؟ قلت: إنما كان ذلك لمعنى جليل (¬4) جدا، وهو الإشارة والتنبيه على أن نومه (¬5) - صلى الله عليه وسلم - مغاير لنومنا؛ إذ كان -عليه الصلاة والسلام- تنام عيناه، ولا ينام قلبه. فإن قلت: قوله: (أحدكم) يعطي هذا المعنى المذكور. ¬
قلت: أجل، ولكنه جاء على طريق المبالغة والتأكيد، وربما سمى أهل علم البيان مثل هذا توطئة (¬1)، وهو أن يكون المعنى مستقلاً بالأول، ويؤتى باللفظ الثاني لما ذكر، فتنبه لها إشارة ما أسناها، ولطيفة ما أحلاها (¬2)، زادنا الله فهما وعلما من كلامه وكلام رسوله، وبّلغ كُلاً منا غاية قصده وسؤله (¬3)، آمين، بمنه وَطوله. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فليغسل يديه):) اختلف أصحابنا في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، هل هو تعبد، أو معلل؟ فمن نظر إلى العدد، قال بالتعبد؛ لأن هذا الغسل إما للنجاسة، وإما للشك في وجودها، وكلاهما لا يقتضي عدداا مخصوصا. ومن نظر إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فإنه لا يدري أين باتت يده)،) قال بالتعليل، قالوا: وذلك أنهم كانوا يستنجون بالأحجار، وربما عرق الإنسان، وجالت يده، فوقعت على المحل، أو على بثرة في جسمه، أو قملة، وشبه ذلك، فأمروا بغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء؛ إذ الغالب من آنية الوضوء أن تكون صغيرة يؤثر فيها ما يتحلل من اليدين، هكذا يقول من نحا إلى التعليل. وتظهر فائدة هذا الخلاف في موضعين: ¬
أحدهما: من انتقض وضوؤه وهو قريب عهد (¬1) بغسل يديه، فعلى التعبد: يعيد الغسل، وعلى التعليل: لا يعيد؛ لوجود النظافة فيهما. والثاني: من قال بالتعبد، قال بغسلهما مفترقتين؛ لأن صفة التعبد في غسل الأعضاء: أن لا يشرع في عضو حتى يكمل غسل ما قبله. قال المازري: وهو ظاهر حديث ابن زيد (¬2)؛ لأنه ذكر في صفته لوضوئه -عليه الصلاة والسلام-: أنه غسل يديه مرتين مرتين، وإفراد (¬3) كل واحدة بالذكر يدل على إفرادها بالغسل. ومن قال بالتعليل المذكور، قال: يغسلان مجتمعتين؛ لأنه أبلغ في المراد من تنظيفهما (¬4). وعلى القولين جميعا، فالغسل ليس بواجب. وهل هو سنة أو فضيلة؟ قولان لأصحابنا. وهل يفتقر غسلهما إلى نية؟ قال الباجي ما معناه: إن من جعلهما من سنن الوضوء؛ كابن القاسم، اشترط النية في غسلهما، ومن (¬5) رأى النظافة فيها؛ كأشهب، ويحيى بن يحيى، لم يشترطها. ¬
قال ابن حبيب: فإن أدخل يده في الإناء قبل الغسل، فسد الماء. وقال مالك: لا يفسد، وإن قلَّ، إِلَّا أن تتبين نجاسته (¬1). قال سند (¬2): يستحب إراقة ذلك الماء؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يدري أين باتت يده» منه يقتضي كراهية (¬3) ذلك الماء إن لم يغسلهما، وقد طرح سؤر الدجاج، وإن لم تتيقن نجاسته، وقال بإراقته الحسن البصري، وابن حنبل. قلت: إنما يقول الحسن بإراقته إذا كان من نوم الليل خاصة، وحكي عن أحمد رواية: أنه إن قام من نوم الليل، كره كراهة تحريم، وإن قام من نوم النهار، كره كراهة تنزيه، ووافقه داود الظاهري، اعتمادا على لفظ المبيت في الحديث، وهذا ضعيف جدا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبه على العلّة بقوله: «فإنه لا يدري أين باتت يده»، ومعناه: لا يأمن النجاسة على يده، وهذا عام؛ لاحتمال وجود (¬4) النجاسة في نوم الليل والنهار، وفي اليقظة، وذكر الليل أولاً؛ لأنه (¬5) الغالب، ولم يقتصر ¬
عليه خوفًا من توهم أنه مخصوص به، بل ذكَر العلة بعده، والله أعلم. وأما دليل مالك، والشافعي على عدم الوجوب، فأمران: أحدهما: حديث الأعرابي (¬1). والثاني: أنه قد قامت القرينة على عدم الوجوب، وهي تعليله -عليه الصلاة والسلام- للغسل بأمر يقتضي الشك، وهو قوله: «لا يدري أين باتت يده». والقواعد: أن الشك لا يقتضي وجوب الحكم إذا كان الأصل المستصحب على خلافه موجودا، والأصل في اليد الطهارة، فليستصحب. ولتعلم أن القائلين باستحباب غسل اليدين قائلون باستحباب ذلك في ابتداء الوضوء مطلقًا، سواء قام من النوم، أم لا؛ لوجهين: أحدهما: أنه صفة (¬2) وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كاف. والثاني: أن المعنى المعلل به في الحديث، وهو جولان اليد موجود في كل منتقض الطهارة، فيعم الحكم؛ لعموم عِلَّتِه. السابع: ق: فرق أصحاب الشافعي بين حالة المستيقظ من النوم وغير المستيقظ، فقالوا في المستيقظ من النوم: يكره له (¬3) أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها ثلاثًا، وفي غير المستيقظ: يستحب له (¬4) غسلها ¬
قبل إدخالها في الإناء، قال: ولتعلم الفرق بين قولنا: يستحب فعل كذا، وبين قولنا: يكره تركه؛ فإنه لا تلازم بينهما، فقد يكون الشيء مستحب الفعل، ولا يكون مكروه الترك؛ كصلاة الضحى، وكثير من النوافل، فغسلهما لغير المستيقظ من النوم قبل إدخالهما الإناء من المستحبات، وترك غسلهما للمستيقظ من المكروهات، فقد ورد صيغة النهي عن إدخالهما في الإناء (¬1) قبل الغسل في حق المستيقظ من النوم، وذلك يقتضي الكراهة على أقل الدرجات (¬2). قلت: وظاهر كلام أصحابنا، أو نصه: أنه لا فرق بين المستيقظ وغيره، وإن كانوا يفرقون بين المكروه وترك الأولى، كما قال. الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فإنه (¬3) لا يدري أين باتت يده»، فيه استحباب استعمال الكنايات فيما يستحيى من التصريح به، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدري أين باتت يده»، ولم يقل: فلعل يده وقعت على دبره، أو ذكره، أو على نجاسة ونحو ذلك، وإن كان هذا في معنى قوله (عليه الصلاة والسلام)، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز، والأحاديث الصحيحة. وهذا إذا علم أن (¬4) السامع يفهم بالكناية ¬
المقصود، فإن لم يكن كذلك، فلا بد من التصريح؛ لينتفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب، وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحا به، والله أعلم. التاسع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر». ع: يدل على أنهما مشروعان -كما تقدم-، وهما عندنا سنتان، وقد عدهما بعض شيوخنا سنة واحدة. وقال ابن قتيبة: الاستنشاق والاستنثار سواء، مأخوذ من النَّثْرَة، وهو طرف الأنف. ولم يقل شيئًا، بل الاستنشاق) (¬1) من التنشق، وهو جذب الماء إلى الأنف بالنفس، والنشوق: الدواء الذي يصب في الأنف، والاستنثار من النثر، وهو الطرح، وهو هنا طرح الماء الذي ينشق، قيل: ليخرج ما تعلق به (¬2) من قذر الأنف، وقد فرق بينهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «فليستنشق بمنخريه من الماء، ثم لينتثر». قلت: قد تقدم أنه يحتمل أن يكون سماه استنشاقًا باعتبار أول الفعل، واستنثارا باعتبار آخره. ¬
ثم قال: وقد احتج بعضهم بأمره (¬1) - صلى الله عليه وسلم - بهما على وجوبهما على المتوضئ، وذلك عند أكثر العلماء على الندب. وإلى أنهما سنتان في الوضوء والغسل ذهب مالك، والأوزاعي، وربيعة، والشافعي. وذهب الكوفيون إلى وجوبهما في الغسل دون الوضوء. وذهب ابن أبي ليلى وغيره إلى وجوبهما (¬2) فيهما. وذهب أحمد، وإسحاق، وأبو ثور (¬3) إلى وجوب الاستنثار فيهما دون المضمضة؛ بدليل هذا) (¬4) الحديث (¬5). العاشر: قال الشافعية: يؤخذ من هذا الحديث الفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورود النجاسة على الماء، ووجهه: أنه نهى (¬6) عن إدخالهما في الإناء؛ لاحتمال النجاسة، وذلك يقتضي أن ورود النجاسة على الماء (¬7) مؤثر فيه، وأمر بغسلهما بإفراغ الماء عليهما للتطهير، ¬
وذلك يقتضي أن ملاقاتهما للماء (¬1) على هذا الوجه غير مفسد للماء بمجرد الملاقاة، وإلا، لما حصل المقصود من التطهير. الحادي عشر: ق: استنبط من هذا الحديث أنّ الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه؛ فإنه منع من (¬2) إدخال اليد فيه؛ لاحتمال النجاسة، وذلك دليل على أنّ يقينها (¬3) مؤثر، وإلا، لما اقتضى احتمال النجاسة المنع. وفيه عندي نظر؛ لأنَّ مقتضى (¬4) الحديث: أنَّ ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه، ومطلق التأثير أعم من التأثير بالتنجيس، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين، فإذا سلم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروها، فقد ثبت مطلق التأثير، ولا يلزم ثبوت (¬5) خصوص التأثير بالتنجيس (¬6). الثاني عشر: الْمَنْخِرُ: ثقب الأنف، وقد تكسر الميم إتباعا لكسرة الخاء، كما قالوا: مِنْتِنٌ، قال الجوهري: وهما نادران؛ لأنَّ مِفْعِلًا ليس من الأبنية. ¬
وَالْمُنْخُورُ لغة في الْمَنْخِرِ، قال الشاعر: مِنْ لَدُ لِحْيَيْهِ (¬1) إلى مُنْخُورِهِ (¬2) قلت: ومثله فيما كسر للإتباع، قولهم: الْمِغِيرَة، وَرِغِيفٌ، بكسر أولهما. وانظر ذكر المنخرين في الحديث ما فائدته؛ فإن الاستنشاق لا يكون إلا بهما؟ وليس لقائل أن يقول: إن ذلك من باب قوله تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]؛ لأن ذلك جاء لرفع المجاز؛ كما قيل؛ إذ كان يقال: فلان (¬3) يطير في حاجتك، ونحو ذلك، وقد استغني عن ذكرهما في الرواية الأخرى، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من توضأ فليستنشق»، والله الموفق. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 5 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: - «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي , ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ (¬1)» (¬2). وَلِمُسْلِمٍ: «لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» (¬3). ¬
* الشرح: * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: هل هذا النهي على التحريم، أو على الكراهة؟ فمالك رحمه الله حمله على الكراهة؛ لاعتقاده أنَّ الماء لا ينجس إِلَّا بالتغيير (¬1)؛ لدليل دله (¬2) على ذلك. وحمله غيره على التحريم، وسيأتي الكلام على ذلك (¬3) بعد إن شاء الله تعالى. الثاني: الدائم: الراكد الساكن، والدائم -أيضا-: الدائر، قيل: هو من الأضداد، يقال للساكن والدائر: دائم (¬4)، ويقال: به (¬5) دُوَامٌ -بالضم-؛ أي: دُوار، وهو دوار الرأس. ¬
قال الجوهري: وتدويم الطير: تحليقه، وهو دورانه في تحليقه؛ ليرتفع إلى السماء، وقال بعضهم: تدويم الكلب: إمعانه في الهرب (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الذي لا يجري»، قيل: هو توكيد لمعنى الدائم، وتفسير له. وهذا عندي ضعيف، والذي يليق بالحديث غيره، وهو أن يقال: لا يمتنع أن يطلق على البحار والأنهار الكبار التي (¬2) لا ينقطع ماؤها؛ أنها دائمة، بمعنى أنها غير منقطع ماؤها، وقد اتفق على أنها غير مرادة في هذا الحديث، فيكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: «الذي لا يجري»، مخرجا لها من حيث كان يطلق عليها أنها دائمة (¬3) بالمعنى المذكور. و (¬4) هذا أولى من حمله على التوكيد الذي الأصل عدمه، ولأنَّ حمل الكلام على فائدة جديدة أولى من التوكيد، لاسيما كلام الشارع، بل أقول: لو لم يأت قوله: «الذي لا يجري»، لكان مجملاً بحكم (¬5) الاشتراك بين الدائر والدائم، فلا يصح الحمل على التوكيد، والله أعلم. ¬
وقال بعض الشافعية: يجوز أن يكون تحرزا عن الراكد الذي لا يجري بعضه؛ كالبرك، ونحوها (¬1). وهذا كأنه راجع لما قلناه، ولكن في العبارة فتور. الثالث: أصل الماء: مَوْهٌ؛ بدليل مُوَيْه وأمواه تصغيرا، أو تكسيرا، فحركت (¬2) الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا، فاجتمع (¬3) خفيان: الألف والهاء، فقلبت الهاء همزة، والله أعلم (¬4). الرابع: الألف واللام في الماء لبيان حقيقة الجنس، ويقال فيها -أيضا-: للمح الحقيقة، كما يقال ذلك في نحو: أكلت الخبز، وشربت الماء، وليست للجنس الشامل؛ إذ لا ينهى الإنسان عن البول في جميع مياه الأرض؛ إذ النهي (¬5) إنما يتعلق بالممكن دون المستحيل، ويجوز أن تكون للعهد الذهني، والأول أظهر. فائدة: الألف واللام لها تسعة أقسام: للجنس: نحو قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]. وللعهد: نحو قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]. ¬
ولبيان حقيقة الجنس، أو لتعريف (¬1) الحقيقة: نحو ما تقدم من قولنا: أكلت الخبز، وشربت الماء. وللحضور: نحو يا أيها الرجل! وخرجت هذا (¬2) الحين، وهذا الوقت، ونحو ذلك. وَلِلَمْحِ الصفة: نحو الحارث، والعباس، على ما هو مبين في كتب النحو. وبمعنى الذي: نحو الضارب، والمضروب، أي: الذي ضَرَبَ، والذي ضُرِبَ. وغالبة (¬3): نحو النجم، والعَيُّوق، فإنه غلب على نجم مخصوص، وعَيُوقٍ مخصوص، وكذلك قولنا: قرأت الكتاب العزيز، فإنه غلب على القرآن الكريم، وإن كان الكتاب صالحًا لغيره. وللتزيين: في نحو: الذي، والتي، على الصحيح عند النحاة رحمهم الله تعالى، لا للتعريف، وهي كذلك عند بعض الأصوليين في قولهم: دلَّ الدليل على كذا. وزائدة: كقولهم: ادخلوا الأول فالأول، وجاؤوا الجماء الغفير، ومن ذلك قول الشاعر: [الرجز] ¬
بَاعَدَ أُمَّ الْعَمْرِ وَمِنْ أَسِيرِهَا ... حُرَّاسُ أَبْوَابٍ عَلَى قُصُورِهَا (¬1) فأدخل الألف واللام على الاسم العلم زيادة (¬2). الخامس: قال القرطبي في «المفهم»: الرواية الصحيحة «يغتسلُ» برفع اللام، ولا يجوز نصبها؛ إذ لا ينصب بإضمار أن بعد (¬3) ثم، وبعض الناس قيده (ثم يغتسل) مجزوم اللام على العطف على (¬4) (يبولن)، وهذا ليس بشيء، إذ لو أراد ذلك، لقال: ثم لا يغتسلن؛ لأنه إذ ذاك عطفُ فعل على فعل، لا عطف جملة على جملة، وحينئذ يكون الأصل مساواة الفعلين في النهي عنهما، وتأكيدهما بالنون الشديدة؛ فإن المحل الذي تواردا عليه هو شيء واحد، وهو الماء، فعدوله (¬5) عن «ثم لا يغتسلن» دليل على أنه لم يرد العطف، وإنما جاء (ثم يغتسل) على التنبيه على مآل الحال، ومعناه: أنه إذا بال فيه، قد يحتاج إليه، فيمتنع عليه استعماله؛ لما أوقع فيه من البول، وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يضرب أحدكم امرأته ضرب الأمة، ثم يضاجعُها» (¬6)، ¬
برفع يضاجعها، ولم يروِه أحد بالجزم، ولا تخيله فيه؛ لأن المفهوم منه: أنه إنما نهاه عن ضربها؛ لأنه يحتاج إلى مضاجعتها في ثاني حال، فيمتنع عليه بما أساء من معاشرتها، ويتعذر عليه المقصود لأجل الضرب، وتقدير اللفظ: ثم هو يضاجعها، وثم هو يغتسل، انتهى كلامه (¬1). ح: الرواية: (يغتسل) مرفوع، أي: لا تبل، ثم أنت تغتسل منه. قال: وذكر شيخنا أبو عبد الله (¬2) بن مالك: أنه يجوز أيضا جزمه عطفًا على (يبولن)، ونصبه بإضمار أن؛ بإعطاء (ثم) حكم واو الجمع، فأما الجزم فظاهر، وأما النصب فلا يجوز؛ لأنه يقتضي أن (¬3) المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقله أحد، بل البول منهي عنه، سواء (¬4) أراد الاغتسال فيه، أو منه (¬5)، أو لا (¬6)، انتهى كلامه. ¬
فقد رأيت موافقته في جواز الجزم لابن مالك، وهو ضعيف، كما قاله القرطبي آنفًا. ق (¬1): وهذا التعليل الذي عّلل به يحيى -يعني (¬2) النواوي- امتناع النصب ضعيف؛ لأنه ليس فيه أكثر من كون هذا الحديث لا يتناول النهي عن البول في الماء الراكد بمفرده، وليس يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة بلفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع من هذا الحديث (¬3)، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر، والله أعلم (¬4). قلت: ووقع لي أن مثل هذا الحديث على القول بجواز النصب: قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42]، على أحد الوجهين، وهو النصب لا الجزم؛ فإن النهي في الآية أيضا عن شيئين: أحدهما: لبس الحق بالباطل، وهو زيادتهم في التوراة ما ليس منها. والثاني: كتمان الحق، وهو جحدهم ما فيها من نعوته -عليه الصلاة والسلام-، وغير ذلك، حتى إنه يقال في الآية أيضا على ¬
وجه النصب -إنه يؤخذ منها النهي عن الجمع، ويؤخذ النهي عن الإفراد من دليل آخر، كما قاله ق في الحديث المذكور، ثم إني بعد ذلك وجدت الآية المذكورة منصوصا عليها في «شرح المفصل» لابن يعيش رحمه الله. قال: وجرت هذه المسألة يوما في مجلس قاضي القضاة بحلب، فقال أبو الحزم الموصلي: لا يجوز النصب في الآية؛ لأنه لو كان منصوبا، لكان من قبيل: لا تأكلِ السمك وتشربَ اللبن، وكان مثله في الحكم، فيجوز (¬1) تناول كل واحد منهما، كما يجوز ذلك في (¬2) لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فقلت: يجوز أن يكون منصوبا، ويكون النهي عن الجمع بينهما، ويكون كل واحد منهما منهيا (¬3) عنه بدليل آخر، ونحن إنما قلنا في قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، إنه يجوز تناول كل واحد منهما منفردا؛ لأنه لا دليل إلا هذا (¬4)، ولو قدرنا دليلاً آخر للنهي عن كل واحد منهما منفردا، لكان كالآية، فانقطع الكلام عند ذلك، انتهى كلامه. فالحمد لله الذي أرشدنا لما أرشد إليه من قبلنا. فإذا ثبت جواز النصب في الآية المذكورة، ثبت جوازه في الحديث ¬
المذكور على ما تقرر؛ إلا أن الرفع فيه هو (¬1) الأصل، كما أن الجزم في الآية هو الأصل، وبالله التوفيق. فائدة أصولية: النهي المتعلق بشيئين؛ تارة يكون نهيا عن الجمع (¬2) بينهما (¬3)، وتارة يكون على (¬4) الجمع بينهما. أما النهي عن الجمع (¬5) بينهما (¬6)، فيقتضي المنع من كل واحد منهما. وأما النهي على (¬7) الجمع بينهما، فمعناه: النهي عن فعلهما معا بقيد الجمعية، ولا يلزم منه المنع من أحدهما إلا (¬8) مع الجمعية، فيمكن أن يفعل أحدهما من غير أن يفعل الآخر، والنهي عن الجمع مشروط بإمكان الانفكاك بين الشيئين، والنهي على (¬9) الجمع مشروط بإمكان الخلو عن الشيئين، والنهي على الجمع (¬10) منشؤه أن يكون في ¬
كل واحد منهما مفسدة تستقل بالمنع، والنهي عن الجمع حين تكون المفسدة ناشئة عن اجتماعهما، وهذا الحديث من باب النهي عن الجمع؛ أي: لا يجمع بين البول في الماء الراكد، والاغتسال منه، وقد جاءت فيه رواية تقتضي النهي على (¬1) الجمع، وهي رواية محمد بن عجلان، وهي: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه»، والله أعلم (¬2). * السادس: وفيه مسائل: الأولى: الماء إما جارٍ، أو راكد، فالراكد إذا خلط بنجاسة، ولم تغيره، فإن كان مستبحرا جدا، لم تؤثر (¬3)، وإن كان دون ذلك ففيه مذاهب: أحدها: قال مالك: لا ينجس إلا بالتغيير، قليلاً كان أو كثيرا، ونقل ذلك عن بعض الصحابة، وهو مذهب الأوزاعي، وداود، وقول (¬4) لأحمد بن حنبل، نصره بعض المتأخرين من أتباعه، ورجحه الروياني (¬5)، من أتباع الشافعي. ¬
وأما أبو حنيفة ومن تابعه، فإن الطحاوي قال في «مختصره»: وإذا وقعت نجاسةٌ في ماء ظهر لونها أو طعمها، أو ريحُها، أو لم يظهر ذلك فيه، فقد نجّسه، قليلاً كان (¬1) أو كثيرا؛ إلا أن يكون جاريا، أو حكمه حكم الجاري؛ كالغدير الذي لا يتحرك أحد أطرافه بتحرك (¬2) سواه من أطرافه (¬3). وأما الشافعي رحمه الله، فاعتبر القلتين، وقال: إنه ينجس ما دونهما بوقوع النجاسة وإن لم يتغير (¬4)، وهي رواية عن أحمد، ورجحها جماعة من أتباعه في غير بول الآدمي، وعذرتِهِ المائعة، فأما هما فينجسان الماء، وإن كان قلتين فأكثر على المشهور، ما لم يكثر إلى حيث لا يمكن نزحه (¬5)؛ كالمصانع التي بطريق مكة. وأما الجاري: فهو عندنا كالكثير إذا كان المجموع كثيرا. هذا على الجملة، ولا حاجة بنا هنا (¬6) إلى التفصيل والتفريع؛ إذ ذلك مبسوط في كتب الفقه، والقصد (¬7) هنا ما يتعلق بألفاظ الحديث. ¬
* الثانية: عموم هذا الحديث لا بد من تخصيصه بالاتفاق، فإن المستبحِرَ لا يثبت فيه هذا الحكم -كما تقدم-، ولا تؤثر فيه النجاسة. واتفق على منع استعمال المغير (¬1) بالنجاسة، فمالك رحمه الله وإن حمل (¬2) النهي على الكراهة؛ لاعتقاده أن الماء لا ينجس إلا بالتغير (¬3) -كما سبق-، فلا بد أن تخرج صورة التغير (¬4) بالنجاسة؛ فإن الحكم ثم التحريم، والحنفي خصصه بما حكيناه آنفًا، وكذلك أحمد بن حنبل رحمهما الله، فقد اتفق الكل على التخصيص، فاعرفه. * الثالثة: ارتكب الظاهرية ها (¬5) هنا مذهبا شنيعا، واخترعوا في الدين أمرا بديعا، فوَّق سهام الملامة إليهم، وأوجب عظيم الإزراء عليهم، حتى أخرجهم بعض الناس من (¬6) أهلية الاجتهاد، بل من العلم مطلقًا، واعتبار الخلاف في الإجماع، منهم: ابن حزم القائل: إن كل ماء راكد، قلّ أو كثر، نحو (¬7) من البرك العظام وغيرها، بال فيه إنسان (¬8)، ¬
لا يحل لذلك البائل خاصة الوضوء منه، ولا الغُسل، وإن لم يجد غيره، وفرضه (¬1) التيمم، وجائز لغيره الوضوء منه والغُسل، وهو طاهر مطهر لغير الذي بال فيه، قال: ولو تغوط فيه، أو بال خارجا منه، فسال البول إلى الماء الدائم، أو بال في إناء (¬2) وصبه في ذلك الماء، ولم تتغير له صفة، فالوضوء منه والغُسل جائز لذلك المتغوط فيه، والذي سال بوله فيه، ولغيره (¬3). فيا له مذهبا ما أشنعه، ومعتقدا ما أبشعه! وممن شنع على ابن حزم في ذلك، الحافظ أبو بكر بن مفوز، فقال (¬4) بعد حكاية كلامه: فتأمل -أكرمك الله- ما جمع هذا القول من السخف، وحوى من الشناعة! ثم يزعم أنه الدين الذي شرعه الله تعالى، وبعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. واعلم -أكرمك الله- أن هذا الأصل الذميم مربوط إلى ما أقول، ومخصوص على ما أمثل: أن البائل في (¬5) الماء الكثير -ولو نقطة، أو جزءًا من نقطة-، فحرام عليه الوضوء منه، وإن تغوط فيه حِملًا، أو ¬
جمع بوله في إناء شهرا، ثم صبه فيه، فلم يغير له (¬1) صفة، جاز له الوضوء منه، فأجاز له الوضوء منه بعد حمل غائط أنزله به (¬2)، أو صب من بول صبه فيه، وحرمه عليه لنقطة من بول بالها فيه، جَلَّ الله تعالى عن قوله، وكرم دينه عن إفكه. السابع: النهي عن الاغتسال لا يخص الغسلَ، بل الوضوءَ كذلك. كما ورد مصرحا به في الرواية الأخرى المتقدم ذكرها، وهو قوله: «ثم يتوضأ منه»، ولو لم ترد، لكان ذلك معلوما؛ إذ لا فرق بين الوضوء والغسل في المعنى؛ لما تقدم من أن المقصود: إنما هو التنزه عن النجاسات والمستقذرات مطلقًا، كان ذلك في وضوء، أو غسل. الثامن: أما الرواية الثانية، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب»، فقد استدل به بعض الشافعية على مسألة الماء المستعمل، وأن الاغتسال في الماء يفسده؛ لأن النهي هاهنا وارد على مجرد الغسل، فدل على وقوع المفسدة بمجرده، وهي خروجه عن كونه أهلاً للتطهير (¬3)، إما لنجاسته، أو لعدم طهوريته، وإن كان للشافعي قولان، لكن أشهرهما: أنه غير طهور، وهذا بناء منهم على أن النهي على التحريم. ¬
وأما مالك رحمه الله تعالى، فقد تقدم أنه يحمله على الكراهة دون التحريم -كما تقرر-، وإذا ثبت أن النهي على الكراهة، أو احتمل ذلك، سقط الاستدلال على عدم طهورية الماء المستعمل بهذا الحديث. هذا، وقد روى أبو داود: أنه عليه الصلاة والسلام مسح رأسه من فضل ماء كان في يده (¬1)، وقد قال في بئر بُضاعة: خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء» (¬2)، ومن جهة المعنى: أن هذا الماء لم يلاقِ إلا جسما طاهرا، ولم يخرج عن اسم الماء، وكونه أديت به عبادة لا تأثير له كما لو صلى بالثوب الواحد مرارا، وكالمد من الطعام يكفر به مرارا. فإن قلت: لم كُره عند وجود غيره، عند مالك رحمه الله؟ قلت: اختلف في علة ذلك، فقيل: لاختلاف العلماء فيه، فغيره مما لا خلاف فيه أولى، وقيل: لشبهه بالماء المضاف؛ وإن كانت الإضافة لم تغيره، إذ الأعضاء -في الأغلب- (¬3) لا تخلو عن الأعراق ¬
والأوساخ، لا سيما أعضاء الوضوء؛ لأنها بارزة للغبرات والقترات -غالبا-، فتخالط الماء. هذا هو المشهور من مذهب مالك رحمه الله تعالى؛ أعني: طهورية الماء المستعمل، لكن كره لما ذكرناه. وقال أصبغ: إنه (¬1) غير طهور. وقيل: مشكوك فيه، فيتوضأ به، ويتيمم. وأما أبو حنيفة رحمه الله، فقال في إحدى الروايات عنه: إنه نجس نجاسة صريحة، إلا أنه يقول على هذه الرواية: إن ما يترشش منه على الثوب، وما يعلق بالمنديل عند التنشيف (¬2) من بلله طاهر، وإنما يحكم بنجاسته عند استقراره متصلاً إلى الأرض، أو إلى الإناء. وعنه رواية ثانية: أنه طاهر غير مطهر. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: هو طاهر غير مطهر. وروي عنه أيضا: أنه مطهر كما يقول مالك. التاسع: مادة الجنابة، البعد؛ هذا أصلها في اللغة، قال الشاعر: [الطويل] يَنَالُ يَدَاكَ الْمُعْتَفِي عَنْ جَنَابَةٍ ... وَلِلْجَارِ حَظٌّ مِنْ نَدَاكَ سَمِينُ (¬3) ¬
أي: يناله عن بعد. والجُنُبُ من الرجال: البعيد الغريب، قال الله عز وجل: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. وقال الشاعر: [المنسرح] مَا ضَرَّهُ لَوْ غَدَا (¬1) لِحَاجَتِنَا ... غَادٍ كَرِيمٍ أَوْ رَائِدٌ جُنُبُ (¬2) أي: بعيد، وقد حمل عليه قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11]، فقيل: أي (¬3): عن بعد، ويثنى هذا، ويجمع، فيقال (¬4): جُنُبَان، وهم جُنُبُون، وأجناب. قالت (¬5) الخنساء: [البسيط] فَابْكِي أَخَاكِ لِأَيْتَامٍ وَأَرْمَلَةٍ ... وَابْكِي أَخَاكِ إِذَا جَاوَرْتِ أَجْنَابَا (¬6) أي: أقواما بُعَدَاء. وقيل: معنى تَجَنَّبَ الرجل الشيء: جعله جانبا، وتركه، فقيل: من هذا يقال: رجل جُنُبٌ؛ أي: أصابته الجنابة، كأنه في جانب عن الطهارة. ¬
ولتعلم أن الجنابة في عرف حملة الشرع تطلق (¬1) على إنزال الماء، والتقاء الختانين، أو ما يترتب على ذلك. قال أبو القاسم الراغب في «المفردات»: وقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ أي: أصابتكم الجنابة، وذلك بإنزال الماء، أو بالتقاء الختانين. ثم قال: وسميت الجنابة بذلك؛ لكونها سببا لتجنب الصلاة في حكم الشرع، والله أعلم (¬2)، هكذا نقله ق في «شرح الإلمام» (¬3). * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 6 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً» (¬1). وَلِمُسْلِمٍ: «أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ» (¬2). وَلَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا وَلَغَ ¬
الْكَلْبُ فِي الإِناءِ (¬1)، فَاغْسِلُوهُ سَبْعاً، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» (¬2). * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: يقال: شرب الكلب، وولغ، والظاهر تغايرهما؛ أعني: الشرب (¬3)؛ والولوغ. قال ابن هشام: ولغ الكلب في الإناء: أدخل لسانه فيه، وَلَحَسَهُ، ¬
شرب أو لم يشرب، كان فيه ماء أو لم يكن. قال: وقيل لا يكون الولوغ إلا في الشيء المائع وشبهه. قال أبو عمر المطرز: ولغ الكلب: إذا حرك لسانه في كل مائع بتصويت في الماء وغيره، ولا يكون الولوغ إلا باللسان وحده. قال: وحكى المطرز وَلَغَ، على وزن فَعِلَ، بكسر اللام (¬1). الثاني: مذهبنا: أن الإناء يغسل سبعا، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يعتبر العدد، بل يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من النجاسة كسائر النجاسات، وهذا مناقض لظاهر الحديث، بل ظاهر الأحاديث الصحيحة (¬2) الدالة صريحا على وجوب اعتبار (¬3) العدد، احتج بأمرين: أحدهما: ما روى عبد الوهاب بن الضحاك، عن إسماعيل بن عياش، عن عروة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الكلب يلغ في الإناء: «يغسله ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا» (¬4)، فدل على أنه لا يعتبر عدد؛ كقوله في الميتة: «اغسلنها ثلاثا، ¬
أو خمسا، أو أكثر من ذلك» (¬1). والثاني: القياس على سائر النجاسات. وأجيب عن الأول: بأن عبد الوهاب راوي الحديث ضعيف، وقد رواه (¬2) غيره عن إسماعيل بن عياش، وقال: سبعا، ولو تنزلنا على صحته، ففيه لفظة: «أو»، وهي محتملة للشك والتخيير، ولعلها للشك من الراوي (¬3)، فيجب التوقف عن العمل به، ويجب العمل بما لا شك فيه، وهو هذا الحديث وغيره من الصحيح. وأما القياس على سائر النجاسات، فضعيف (¬4) من وجوه: أحدها: أنه قياس شبه، وفي قبول قياس (¬5) الشبه خلاف بين الأصوليين، ثم إذا تنزلنا على (¬6) قبوله، وهو هاهنا في مقابلة نص (¬7) خبر الواحد، والصحيح عند أهل الأصول تقديم نص خبر الواحد على القياس المظنون، وإن كان جليا، وادعى الإمام أبو المعالي في ذلك ¬
إجماع الصحابة، قال بعض المتأخرين من أصحابنا: ونحن، وإن لم يصح عندنا الإجماع؛ لكون الإمام إنما ذكره تقديرا لا تحقيقًا، فقال: لو عرض ذلك على الصحابة، لابتدروا العمل بالخبر، فإذا رجعنا إلى النظر في الترجيح بين الأمارتين، فلا شك أن ظن الخبر أرجح من ظن القياس؛ إذ ليس في الخبر إلا احتمال كذب الراوي عمدا أو سهوا، وهو بعيد جدا. وفي القياس سبعة أوجه من الاحتمال، كل واحد منها يضعف الظن: أحدها: احتمال أن يكون الأصل غير معلل. الثاني: أن تكون علته غير ما جمع به الجامع. الثالث: أن يكون ما جمع به غير مستقل، وإن كان معتبرا. الرابع: احتمال أن لا يكون موجودا في الأصل. الخامس: احتمال أن لا يكون موجودا في الفرع. السادس: احتمال أن يكون ثم وجه في الفرق أوقع من الجمع. السابع: أن يعارضه في الأصل والفرع ما هو أرجح، والله أعلم. الثالث: هل غسل الإناء تعبد، أو معلل؟ قولان لأصحابنا. واختلف في التعليل، فقيل: النجاسة، وهو قول عبد الملك، وسحنون، وبه قال الشافعي.
وقيل: بل العلة استقذاره؛ لكثرة ملابسته للنجاسة، ولأن في اتخاذه مخالفة دأب أهل (¬1) المروءات، ولما فيه من الترويع للمسلمين (¬2)، فغلظ في اتخاذه بوجوب غسل الإناء من ولوغه سبعا. فإذا قلنا: علته النجاسة، لم يجب الغسل إلا على من أراد استعمال ذلك الإناء (¬3)؛ كالوضوء للنافلة. وإن قلنا: علته غير النجاسة، أو هو تعبد، فهل الغسل واجب أو مستحب؟ لأصحابنا قولان منشؤهما الاختلاف (¬4) في مسألة أصولية، وهي أن صيغة الأمر المطلقة هل تحمل على الوجوب، أو على (¬5) الندب؟ الرابع: هل يلحق الخنزير بالكلب، أو لا؟ في ذلك قولان منشؤهما: هل الغسل تعبد؟ فلا يقاس (¬6) على الكلب غيره، أو معّلل بالإبعاد أو التنجيس (¬7)؟ فالخنزير بذلك أولى. والمشهور: أنه تعبد، فلا يقاس الخنزير عليه، وكذلك إن كانت ¬
العلة بهذا ما كانوا يتخذونه؛ لما فيه من المنافع التي ليست في الخنزير، فشدد عليهم فيه، فلا يقاس على الخنزير؛ لعدم العلة. وروى مطرف عن مالك: أن الخنزير كالكلب، يغسل الإناء من ولوغه (¬1) سبعا بناءً على (¬2) التعليل بكثرة ملابسته للنجاسة، والخنزير أكثر ملابسة لها، ولأنها طعامه، وقد (¬3) ورد النهي عن أكله، وحرم اتخاذه، فكان أولى بذلك من الكلب. والأول أشهر وأظهر. الخامس: هل يختص وجوب غسل الإناء بالكلب المنهي عن اتخاذه، أو هو عام في كل الكلاب؟ فيه قولان لمالك رحمه الله منشؤهما: التعبد، أو التعليل: فعلى التعبد: يبقى اللفظ على عمومه في كل الكلاب، وهو المشهور. وعلى التعليل بالإبعاد: يخرج منه المأذون في اتخاذه، وهو قول أحمد بن المعذل (¬4)، وفي ذلك نظر أصولي؛ فإن هذا يؤدي إلى ¬
تخصيص العموم بالمعنى المستنبط من محل النص، وفيه خلاف بين الأصوليين؛ الأكثرون على المنع منه؛ لأن الاستنباط إنما شرع لتوسيع مجال الأحكام، وهذا الاستنباط يؤدي إلى تضييقها، وإخراج بعض ما تناوله (¬1) اللفظ. وقيل: لا يمتنع ذلك إذا صح الاستنباط بشروطه؛ لغلبة الظن في أن ذلك مراد الشارع بلفظه (¬2). ولكن هذا الخلاف إنما هو في المعنى الخفي الذي يحتاج في استنباطه إلى فكر ونظر، وأما المعنى الجلي الذي يفهم عند ورود اللفظ من غير حاجة إلى فكر، فلا إشكال في تنزيل اللفظ عليه؛ كقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» (¬3)، فإن ¬
فُهم بأن (¬1) العلة الدهش والحيرة، وعدم التهدي لفصل الخصومات، فيقتضي ذلك خروج الغضب اليسير الذي لا دهش معه، وإن كان ذلك غير (¬2) مقتضى اللفظ، فيجوز أن يقضي القاضي مع وجود ذلك الغضب اليسير، وقد يدعي من يخصص هذا الخبر بالكلب المأذون في اتخاذه المعنى، ومساوقة فهمه لورود اللفظ، والأول أظهر، وهو ظاهر «المدونة»، والله أعلم. السادس: هل يغسل من ولوغ الكلب كل إناء، أو إناء الماء خاصة؟ والذي في «المدونة»، وهو المشهور: أن يغسل إناء الماء دون الطعام، ولذلك قال مالك: إن كان يغسل سبعا للحديث، ففي الماء وحده. قال صاحب «البيان والتقريب»: ووجهه أمران: أحدهما: ما قدمناه من تقييد المطلق بالعرف الغالب، والعرف أن الطعام محفوظ عن الكلاب، مصون عنها؛ لعزته عند العرب، فلا تكاد الكلاب تصل إلا إلى آنية الماء، فيقيد (¬3) اللفظ بذلك. ¬
الأمر الثاني: أن في الحديث: «فليرقه، وليغسله سبع مرات»، والطعام لا تجوز إراقته؛ لحرمته، ولنهيه -عليه الصلاة والسلام- عن إضاعة المال. قال في «المدونة»: ورآه عظيما أن يعمد إلى رزق من رزق الله، فيراق؛ لكلب ولغ فيه (¬1). وروى عنه ابن وهب: أنه يؤكل الطعام، ويغسل الإناء (¬2). ورجح القاضي عبد الوهاب، واللخمي: أن يغسل إناء الماء والطعام؛ لعموم الحديث. والقول الأول أظهر عندنا؛ لأن قوله: «فليرقه» يقتضي تقييد النهي بإناء الماء. فإن قيل: فقد ورد في بعض طرق الخبر الأمر بالغسل مطلقًا؟ قلنا: القاعدة الأصولية: أنه إذا ورد مطلق ومقيد في واقعة واحدة، قيد المطلق، وترك حكم المقيد، بلا خلاف. قلت: قوله: بلا خلاف، ليس كذلك، بل الخلاف منقول شائع في كتب الأصول، نقله القاضي عبد الوهاب وغيره، وقد بينت ذلك في «شرح التنقيح»، أعان الله على إكماله (¬3). ¬
السابع: هل يجب أن يراق ما في الإناء؟ فقيل: يجب أن يراق الماء والطعام، وهو مبني على التعليل بالنجاسة. وقيل: لا يراقان، وهو مبني على التعبد. وقيل: يراق الماء دون الطعام؛ ليسارة أمر الماء، وحرمة الطعام وماليته. وقال عبد الملك في «ثمانية أبي زيد» (¬1): إن شرب من لبن، وكان بدويا، أكل، وإن كان حضريا، طُرح، بخلاف الماء، فإنه يطرحه الحضري والبدوي، قال: فإن عجن به طعام، طُرح؛ لأنه نجس. قال اللخمي: يريد عبد الملك: أنه أذن للبدوي في اتخاذه، ولم يؤذن (¬2) للحضري. واستشكل بعض المتأخرين قول عبد الملك؛ إذ (¬3) كان الكلب عنده نجسا، قال: فكيف يبيح للبدوي أكل لبن فيه نجاسة؟ إلا أن يكون راعى الخلاف في البدوي في الطعام؛ لماليته، والضرورة إليه. ¬
وقال مطرف: البدوي والحضري سواء، إن كان الطعام كثيرا، أكل، وإن كان قليلاً، طُرح؛ إذ لا ضرورة في القليل بخلاف الكثير. والصواب: أن الطعام لا يطرحه بدوي ولا حضري، قليلاً كان أو كثيرا؛ لأن كونه طعاما مظنة الحاجة إليه، والمالية، ولا (¬1) ينظر إلى آحاد الصور، انتهى. الثامن: هل يغسل الإناء بالماء الذي ولغ فيه الكلب (¬2)؟ قال القزويني من علمائنا: لا أعلم لأصحابنا فيه نصا. وحكى ابن بشير عن أشياخه (¬3): أن في المذهب في ذلك قولين منشؤهما (¬4): التعليل بالنجاسة، فلا يغسل به، أو التعبد، فيغسل به. التاسع: إذا تعدد الولوغ من كلب واحد، أو من كلاب، فهل يغسل للجميع سبعا، أو يتكرر بتكرار (¬5) الولوغ؟ في المذهب قولان منشأهما: هل الألف واللام في (الكلب) (¬6) جنسية، أو عهدية؛ أي: الإشارة إلى الكلب الواحد؟ ¬
والمشهور: الأول، ويعتضد (¬1) بأن الأسباب إذا اتحد موجبها تداخلت، وكانت كالسبب الواحد. العاشر: هل الأمر بالغسل على الفور، أو عند إرادة الاستعمال للإناء؟ قال الإمام أبو عبد الله المازري (¬2): إنما ذلك عند إرادة الاستعمال، هذا هو مذهب الجمهور. وذهب بعض المتأخرين: إلى غسله، وإن لم يرد استعماله. قال بعض المتأخرين: وهذا القول أقرب إلى القول بأن الأمر بغسله تعبد (¬3) إذا قلنا: إنه يغسله على الفور، إذا بنينا على أن صيغة الأمر المطلقة تقتضي الفور، وإن قلنا: لا تقتضيه، فينبغي أن يقول هذا القائل: يجب غسله من غير تقييد، بل متى غسله، فقد امتثل، والله أعلم. الحادي عشر: لم يثبت عند مالك رحمه الله رواية زيادة التراب، فلم يقل بها، وإن كانت في رواية ابن سيرين، وقال بها الشافعي رحمه الله، وأصحاب الحديث (¬4). ¬
الثاني عشر: اختلفت الروايات (¬1) في غسلة التتريب. فجاء: «إحداهن» (¬2)، و «أخراهن» (¬3)، و «أولاهن» (¬4)؛ والمقصود عند الشافعي وأصحابه: حصول التتريب في مرة من المرات، ورجح بعض متأخريهم الأولى. الثالث عشر: الرواية التي فيها: «وعفروه الثامنة» تقتضي زيادة مرة ثامنة (¬5) ظاهرا، وبه قال الحسن البصري، قيل: ولم يقل به غيره. ق: ولعله يريد بذلك: من المتقدمين، والحديث قوي فيه، قال: ومن لم يقل به، احتاج إلى تأويله بوجه فيه (¬6) استكراه (¬7). قلت: ولم أدر الاستكراه الذي أراده، ولعله أراد: قول من نزل استعمال التراب في غسلة من الغسلات بمنزلة (¬8) غسلة أخرى (¬9). ¬
الرابع عشر: قوله (¬1): «بالتراب» تقتضي تخصيصه به، وعند الشافعية خلاف هل يقوم مقامه ما (¬2) في معناه من صابون وأشنان، أو الغسلة الثامنة، أو لا بد من التراب نفسه؟ ورجح بعض متأخريهم التراب ولا بد؛ لوجود النص فيه، ولأنه أحد المطهرين (¬3). * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 7 - عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي اللهُ عنه: أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ - رضي الله عنه - دَعَا بِوَضُوءٍ , فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ , فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ , ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً , وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثًا , ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ , ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلاثًا , ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا , ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ , لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ (¬1)، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬2). ¬
* التعريف: عثمان بن عفان: بن أبي (¬1) العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، يلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف، وهو الأب الخامس في نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -. كنيته: أبو عبد الله، وأبو عمرو، وقيل: أبو ليلى، والأولان (¬2) أشهر. وأمه: أروى بنت (¬3) كريز - بضم (¬4) الكاف وكسر الراء المهملة ¬
بعدها ياء باثنتين تحتها، بعدها زاي معجمة - بن (¬1) ربيعة، بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب. أسلم قديما، وهاجر الهجرتين، وتزوج ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقية، وأم كلثوم، واحدة بعد أخرى، ولذلك لقب بذي النورين، وقيل: لم يجمع أحد بين ابنتي نبي قبله غيره (¬2) (¬3)، وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له (¬4): «لو أن لي ثالثة، لأنكحتك إياها» (¬5). وكان مولده في السنة السادسة من عام الفيل، وولي الخلافة اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما، وُقتل في ذي الحجة (¬6) لثمان عشرة ليلة خلت منه، بعد العصر، وهو صائم، سنة خمس وثلاثين، وقيل: ست، وكان سنه يوم قُتل اثنتين وثمانين سنة، وقيل: ستا وثمانين، ¬
وقيل: ثمانيا وثمانين، وقيل: تسعين، ودفن ليلاً بحش كوكب، وكوكب رجل من الأنصار، والحُش: البستان، بضم الحاء وفتحها، وكان عثمان قد اشتراه، وزاده في البقيع، فكان أول من دفن فيه. وروي: أن عثمان رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام يقول: يا عثمان! أفطر الليلة عندنا، فُقتل وهو صائم، وصلى عليه حكيم بن حزام، وقيل: الْمِسْوَرُ بن مَخْرَمَةَ، وقيل: ابنه عمرو بن عثمان (¬1)، وقيل: كانوا خمسة أو ستة: جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، وامرأتان: نائلة، وأم البنين، ولما دفنوه، غيبوا قبره. قال مالك: وكان عثمان رضي الله عنه يمر بحش كوكب فيقول (¬2): إنه سيدفن ها (¬3) هنا رجل صالح (¬4). روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث وستة وأربعون حديثًا، اتفقا منها على ثلاثة أحاديث، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة. روى عنه: زيد بن خالد الجهني، وعبد الله بن الزبير بن العوام، والسائب بن يزيد (¬5)، ومحمود بن لبيب الأنصاري، وابنه أبان بن عثمان، ¬
وعبيد الله بن عدي بن الخيار، وسعيد بن العاصي، وجماعة غيرهم. روى له الجماعة. ومناقبه أشهر من أن تشهر، ومآثره أكثر من أن تحصر. وكان جميلاً، حسن الهيئة، مليح الصورة، ليس بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، رقيق البشرة، كثير اللحية، أسمر اللون، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، يصفر (¬1) لحيته، يشد أسنانه بالذهب، رضي الله عنه، وكان أكبر الخلفاء الأربعة سنا، وأكثرهم في الخلافة إقامة (¬2). ومولاه حمران بن أبان بن خالد، من سبي عين التمر، وهو أول سبي دخل المدينة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، سباه خالد بن الوليد، فرآه غلاما أحمر مختونا كيسا، وكان عثمان أقطعه إياها، وأقطعه أيضا أرضا على فراسخ من الأيلة مما يلي البحر، وكان أحد العلماء ¬
الأجلاء، من (¬1) أهل الوجاهة، والرأي والشرف بولائه ونسبه، واحتج به الجماعة رضي الله عنهم (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قال جمهور أهل اللغة: الوضوء -بالفتح-: الماء، وبالضم: الفعل، الذي هو المصدر، هكذا نقله ابن الأنباري، وجماعات (¬3) من أهل اللغة وغيرهم، عن أكثر أهل اللغة. وذهب الأصمعي، وأبو حاتم السجستاني، والأزهري، وجماعة: إلى أنه بالفتح فيهما. قال صاحب «المطالع»: وحكي الضم فيهما جميعا (¬4) (¬5). قلت: وهو شاذ، والمعروف المشهور الأول. والطهور كالوَضوء، والوُضوء في جميع ما ذُكر، وأصل الوضوء ¬
من الوضاءة، وهي النظافة والحُسن، وجه وضيء: سالم مما يشينه. تنبيه: إذا (¬1) قلنا: الوَضوء - بالفتح - اسم للماء، فهل هو اسم للماء على الإطلاق، أو اسم للماء المعد للوضوء، أو لما استعمل في أعضاء الوضوء؟ ق: فيه نظر، ويحتاج إلى كشف، وتنبني عليه فائدة فقهية، وهو أنه في بعض الأحاديث التي استدل بها على أن الماء المستعمل طاهر قول جابر: فصب علي من وضوئه، فإنا إن جعلنا الوضوء اسما (¬2) لمطلق الماء، لم يكن في قوله: (فصب علي من وضوئه) دليل على طهارة الماء المستعمل؛ لأنه يصير التقدير: فصب علي من مائه، ولا يلزم أن يكون ماؤه هو الذي استعمله في أعضائه؛ لأنا نتكلم على أن الوضوء اسم لمطلق الماء، فإذا لم يلزم ذلك، جاز أن يكون المراد بوضوئه فضلة مائه الذي توضأ (¬3) ببعضه، لا ما استعمله في أعضائه، فلا دليل من جهة اللفظ على ما أراده من طهارة الماء المستعمل. وإن جعلنا الوضوء - بالفتح - مقيدا بالإضافة إلى الوضوء - بالضم -؛ أعني: استعماله في الأعضاء، أو إعداده لذلك، فهاهنا يمكن أن يقال في الدليل: إن وضوءه - بالفتح - متردد بين مائه المعد للوضوء -بالضم-، وبين مائه المستعمل في الوضوء، وحمله على ¬
الثاني أولى؛ لأنه الحقيقة، واستعماله بمعنى المعد مجاز، والحمل على الحقيقة أولى، انتهى (¬1). الثاني: قوله: «فأفرغ على يديه»: فيه استحباب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في ابتداء الوضوء (¬2) مطلقًا، والحديث المتقدم يعطي استحبابه عند القيام من النوم (¬3)، والحكم عندنا في ذلك سواء، أعني: استحباب غسل اليدين قبل إدخالهما في (¬4) الإناء، كان المحدث (¬5) قائما من النوم، أو لا. وقد تقدم أن الشافعية يفرقون بين الحكمين، وأن الحكم عند عدم القيام من النوم الاستحباب، وعند القيام الكراهة لإدخالهما في الإناء قبل غسلهما. الثالث: قوله: «على يديه» ظاهره: الإفراغ عليهما معا، وقد جاء في رواية أخرى: «أفرغ بيده اليمنى على اليسرى، ثم غسلهما» (¬6). وقوله: «غسلهما»: قدر مشترك بين أن يكون غسلهما مجتمعتين، ¬
أو مفترقتين، وقد تقدم ذكر الخلاف في أيهما أفضل. الرابع: قوله: «ثلاث مرات»: فيه بيان لما أهمل من ذكر العدد في حديث أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة المتقدم، من رواية مالك، وغيره. الخامس: قوله: «ثم تمضمض»: أصل هذه اللفظة مشعر بالتحريك، ومنه مضمض النعاس في عينيه، واستعملت هاهنا لتحريك الماء في الفم (¬1)، هذا موضوعها في اللغة (¬2). وأما في الشرع: فقال القاضي عبد الوهاب رحمه الله تعالى: وصفتها: أن يوصل الماء إلى فيه، ثم يخضخضه، ويمجه، فأدخل المج في ذلك، فعلى هذا إذا ابتلعها، لم يكن آتيا بالسنة، ويمكن أن يكون ذكر ذلك؛ لأنها (¬3) العادة والغالب، لا أنها تتوقف على المج ولا بد (¬4). ح: وأما أقلها، فأن يجعل الماء في فيه، ولا تشترط إدارته، على المشهور الذي قاله الجمهور، وقال جماعة: يشترط (¬5). قال ابن عطية: واختلف في المضمضة والاستنشاق، فجمهور ¬
الأمة يرونهما (¬1) سنة، ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه. وقال مجاهد: إن ترك الاستنشاق في الوضوء، أعاد الصلاة. وقال أحمد بن حنبل: يعيد من ترك الاستنشاق، ولا يعيد من ترك المضمضة. والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله، إلا ما روي عن عبد الله بن عمر: أنه كان (¬2) ينضح الماء في عينيه. السادس: قوله: «ثم غسل وجهه»: قال ابن عطية: الغسل في اللغة: إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه؛ كاليد، أو ما قام مقامها (¬3)، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء، والتقليل منه. وغسل الوجه في الوضوء (¬4): هو نقل الماء إليه، وإمرار اليد عليه. والوجه: مشتق من المواجهة، فالوجه في اللغة: ما واجه الناظر، وقابله (¬5). و (¬6) قال القاضي عبد الوهاب رحمه الله: وحده: ما انحدر من منابت ¬
شعر الرأس إلى آخر الذقن للأمرد، واللحية للملتحي طولاً، وما دار عليه من العِذارين عرضا، وإنما قال: وما دار عليه من العذارين عرضا؛ لاعتقاده أن غسل ما بين الصدغ والأذن (¬1) سنة، وكأنه شيء تفرد (¬2) به، والله أعلم. قال ابن عطية: واختلف في حده عرضا، فهو في المرأة والأمرد: من الأذن إلى الأذن، وفي ذي اللحية: ثلاثة أقوال: من الشعر إلى الشعر؛ يعني: شعر العارضين. ومن الأذن إلى الأذن، ويدخل البياض الذي بين العارض (¬3) والأذن في الوجه. وقيل: يغسل ذلك البياض استحبابا، وهذا قول القاضي المتقدم، والله أعلم. واختلفوا في الأذنين، فقيل: هما من الرأس، وقال الزهري (¬4): من الوجه، وقيل: عضو قائم بنفسه، لا من الوجه، ولا من الرأس، وقيل: ما أقبل منهما من الوجه، وما أدبر من الرأس (¬5). ¬
ولم يذكر في الحديث تخليل اللحية، وللعلماء في وجوبه قولان، وقد روي تخليلها من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكره الطبري (¬1). وظاهر قوله: «ثم تمضمض» يقتضي الترتيب بين غسل الوجه والمضمضة، فيؤخذ منه الترتيب بين المسنون والمفروض (¬2)،. وقد اختلف أصحابنا في الترتيب في الوضوء على ثلاثة أقوال: الوجوب، والندب، والاستحباب، والمشهور من المذهب أنه سنة. ولم يختلف قول الشافعي في وجوبه، وإن كان بين الشافعية خلاف. ق: وقد قيل في حكمة تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه المفروض: أن صفات الماء ثلاث؛ أعني: المعتبرة في التطهير: لون يدرك بالبصر، وطعم يدرك بالذوق، وريح يدرك بالشم، فقدمت هاتان السنتان؛ ليعتبر حال الماء قبل أداء الفرض به. قال: وبعض الفقهاء رأى الترتيب بين المفروضات، ولم يره بين ¬
المفروض والمسنون، كما بين المفروضات (¬1). قلت: وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى. وقوله: «ثلاثا» يفيد استحباب هذا العدد في كل ما ذكر فيه. السابع: قوله: «ويديه إلى المرفقين»، المرفق: موصل الذراع، قاله الجوهري (¬2). وقال ابن بشير من أصحابنا: تردد بعض أهل اللغة في اسم المرفق على ماذا يطلق؟ (¬3) فقيل: على طرف الساعد، وقيل: على مجمع الساعد والعضد، انتهى. وفيه لغتان: فتح الميم وكسر الفاء: والعكس. وقوله: «إلى المرفقين» غير مفصح بدخول المرفقين في الغسل. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فنقل ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على وجوب غسل (¬4) اليدين مع المرفقين، وإن كان لأشهب رواية عن مالك بعدم وجوب غسل المرفقين، وزيفها القاضي عبد الوهاب في شرح «الرسالة»، قال: وهذا قول الفقهاء كلهم، إلا ما يحكى عن زفر، وبعض المتأخرين. ¬
قلت: ومنشأ الخلاف في ذلك: هل الحد داخل في المحدود، أم لا، أو يفرق بين كون الحد من جنس المحدود فيدخل، والعكس؟ ومّثله أبو العباس المبرد بأن تقول: اشتريت الفدان إلى حاشيته، وبأن تقول: اشتريت الفدان (¬1) إلى الدار، وبقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (¬2). وقيل: إنما دخلت المرفقان هاهنا؛ لأن (إلى) (¬3) غاية للإخراج، لا للإدخال؛ فإن اسم اليد ينطلق على العضو إلى المنكب، فلما دخلت (إلى)، أخرجت عن الغسل ما زاد على المرفقين، فانتهى الإخراج إلى المرفقين، فدخلا في الغسل. ق: وقال آخرون (¬4): لما تردد اللفظ في الآية بين أن تكون إلى (¬5) للغاية، وبين أن تكون بمعنى (مع)، وجاء فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أدار الماء على مرفقيه كان ذلك بيانا (¬6) للمجمل، وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان المجمل محمولة على الوجوب. وهذا عندنا ضعيف؛ لأن (إلى) حقيقة في انتهاء الغاية، مجاز ¬
بمعنى (مع)، ولا إجمال (¬1) في اللفظ بعد تبيين (¬2) حقيقته، ويدل على أنها حقيقة في انتهاء الغاية كثرة نصوص أهل العربية على ذلك، ومن قال: إنها بمعنى (مع)، فلم ينص على أنها حقيقة في ذلك، فيجوز أن يريد المجاز، انتهى (¬3). وقال أبو البقاء العكبري رحمه الله في «إعرابه»: والصحيح أنها (¬4) على بابها، وأنها لانتهاء الغاية، وإنما وجب غسل المرافق بالسنة، وليس بينهما تناقض؛ لأن (إلى) تدل على انتهاء الفعل، ولا تتعرض لنفي (¬5) المحدود إليه، ولا لإثباته؛ لأنك إذا قلت: سرت (¬6) إلى الكوفة، فغير ممتنع أن تكون بلغت أول حدودها، ولم تدخلها، وأن تكون دخلتها، فلو قام الدليل على أنك دخلتها، لم يكن مناقضا لقولك: سرت (¬7) إلى الكوفة (¬8). فائدة: (إلى)، و (حتى) يكونان لانتهاء الغاية، مع كونهما ¬
جارتين، ويفترقان من وجهين: أحدهما: أن ما بعد (إلى) غير داخل فيما قبلها، على الصحيح، إلا أن تقترن به قرينة دالة على دخوله، و (حتى) على العكس من ذلك. والثاني: أن (¬1) (إلى) تجر الظاهر والمضمر، و (حتى) لا تجر إلا (¬2) الظاهر دون المضمر في الأمر العام. الثامن: قوله: «ثم مسح برأسه» ظاهره استيعاب (¬3) الرأس؛ لأن اسم الرأس حقيقة في العضو كله، لكن هل الاستيعاب على سبيل الوجوب، أو بعضه على سبيل الوجوب، وبعضه على سبيل الندب؟ اختلف في ذلك، فنقل صاحب «البيان والتقريب» (¬4) في المذهب أربعة أقوال: أولها وأشهرها: وجوب استيعاب جميعه، قال: وهذا (¬5) الذي نص عليه مالك، وبه قال ابن القصار، وابن الجلاب، وغيرهما، فيحتاج على (¬6) هذا القول إلى معرفة حده، وحده: من منقطع الوجه إلى ما تحوزه الجمجمة. ¬
وقال ابن شعبان: بل إلى آخر منبت الشعر من القفا. قال اللخمي: وليس يحسن؛ لأن ذلك من العنق، وليس من الرأس. وقال محمد بن مسلمة: يجزئ مسح الثلثين. وقال القاضي أبو الفرج عمرو بن محمد الليثي: يجزئ مسح الثلث. وعن أشهب روايتان: إحداهما: إجزاء الناصية. والثانية: مطلقة، فإن لم يعم رأسه، أجزأه، ولم يقدر ما لا يضره تركه. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: وهذه الأقاويل مذاهب لأصحابه، لا أنها تخريج على مذهبه، وأما مذهبه: فالإيعاب، هذا ما ذكره القاضي. وقال اللخمي: قال مالك في «العتبية»: إن مسح المقدم، أجزأه، قيل له: فإن مسح بعض رأسه، ولم يعم (¬1)، يعيده؟ قال: أرأيت إن (¬2) غسل بعض وجهه، أو بعض ذراعيه؟ وذهب إلى التفرقة بين المقدم والمؤخر. وأما الأقوال الخارجة عن المذهب: فقال الشافعي: يجزئه أقل ما ينطلق عليه الاسم. ¬
وحكي عن بعض أصحابه: أنه قدر ذلك بثلاث شعرات، قال: وبأقل ما ينطلق عليه الاسم. قال النواوي (¬1): وحكي عنه: أنه قال: لو مسح شعرة واحدة، أجزأه؛ وهو مذهب عبد الله بن عمر، وبه قال داود (¬2). قال صاحب «عيون المجالس» من أصحابنا: سواء مسح بيده، أو بخشبة، أو وقف تحت ميزاب حتى قطر على رأسه (¬3)، يحكي مذهب الشافعي، قال: وبه قال الأوزاعي، والنخعي، وسفيان الثوري. وعن أحمد روايتان: إحداهما: يجب مسح جميعه. والثانية: يجب مسح أكثره، فإن ترك الثلث فما دون (¬4)، أجزأه. وحكي عن المزني: يجب مسح جميعه. وعن أبي حنيفة ثلاث روايات: إحداها (¬5): الربع. ¬
والثانية: قدر الناصية. والثالثة: قدر ثلاث (¬1) أصابع بثلاث أصابع. ومنهم من قال: كل ذلك يجب إلى (¬2) الربع، وعليه يعولون. وقال أبو يوسف: لا بد من مسح ربع الرأس بثلاث أصابع، فإن مسح بثلاث (¬3) أصابع دون ربع الرأس، لم يجزئه (¬4)، وإن مسح بأصبعين ربع الرأس، لم يجزئه (¬5)، فحد الممسوح به، والممسوح. وقال زفر: الفرض منه ربع الرأس، سواء مسحه بثلاث (¬6) أصابع، أو دونها، فحد الممسوح دون ما يمسح به، وهذا يرجع (¬7) إلى أحد أقوال أبي حنيفة المتقدمة، والله أعلم. والصحيح من هذه الأقوال كلها (¬8): ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ومن تابعه؛ من وجوب التعميم، ووجهه التمسك بظاهر القرآن، ¬
والأخبار الصحيحة (¬1). أما القرآن: فقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، وهو كقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُهَكُمْ} (¬2) [المائدة: 6]، وكقوله تعالى في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6]. و (الباء) إما للإلصاق، أو للاستعانة، على معنى أن الأصل: وامسحوا رؤوسكم بالماء، فحذف الماء الذي هو الآلة؛ للعلم به، فدخلت الباء، التي هي في الأصل داخلة على الماء للاستعانة، على المفعول به. فإن قلت: من معاني (الباء) التبعيض؟ قلت: هذا لا يصححه أهل اللغة، وقد قال ابن جني في «سر الصناعة» هذا لا يعرفه أصحابنا، يعني: البصريين (¬3)، ولو كانت (¬4) للتبعيض، لم يصح أن يقال: امسح برأسك كله، ولا أن يقال: امسح ببعض رأسك. فإن قلت: يصح أن يقال: مسح رأس (¬5) اليتيم، أو قَبَّلَ رأسه أو ¬
ضرب رأسه، وإن فعل ذلك ببعضه. قلت: هذا مجاز؛ لكونه أطلق الرأس على بعضه، والذي سهله أمن اللبس، وفهم المعنى، والأصل الحقيقة. ولتعلم أن القائلين بالتبعيض اشترطوا أن تكون مع فعل يتعدى بنفسه، حتى لا تكون للتعدية، وزعموا أن من ذلك قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، قالوا: فإن العرب (¬1) تقول: مسحت رأسي، ومسحت برأسي، فلم يبق فرق إلا التبعيض، وليس كذلك، بل نقول: (مسح) له مفعولان، يتعدى لأحدهما بنفسه، وللآخر بالباء، ولم تخير العرب بين المفعولين في هذه الباء، بل عينتها لما هو آلة المسح. فإذا قلت: مسحت يدي بالحائط، فالرطوبة الممسوحة عن (¬2) يدك، والحائط هو الآلة التي أزلت بها (¬3) عن يدك. وإذا قلت: مسحت الحائط بيدي، فالشيء المزال هو على الحائط، ويدك هي الآلة المزيلة، وكذلك مسحت يدي بالمنديل، المنديل الآلة، والمنديل بيدي، التنشف (¬4) إنما وقع في المنديل، لا في يدك؛ هذه قاعدة عربية، و (¬5) لم ¬
تخير العرب في ذلك، وحيث قالت العرب: مسحت رأسي، فالشيء المزال إنما هو عن (¬1) الرأس، وحيث قالت: برأسي، فالشيء المزال عن غيره، وقد أزيل بها (¬2). ولنا قاعدة أخرى إجماعية: وهي أن الأمة أجمعت أن الله تعالى لم يوجب علينا إزالة شيء عن رؤوسنا، ولا عن جميع أعضائنا، بل أوجب علينا أن ننقل رطوبة أيدينا إلى رؤوسنا، وجميع أعضاء الوضوء. وعلى هذا يتعين أن يكون الرأس آلة مزيلة عن غيرها، لا أنها مزال عنها، فيتعين أن تكون (الباء) في هذه للتعدية؛ لأن العرب لا تعدي مسح الآلة بنفسه، بل بالباء، فالباء ليست للتبعيض إلا حيث يتعدى الفعل. وأما ما نقل من قول بعض (¬3) الفقهاء الشافعية -وأظنه الإمام رحمه الله-: من أنه ينزل الوصف الحكمي، وهو الحدث، منزلة الحسي قائما بالأعضاء حكما، فهو مطالب (¬4) بدليل شرعي يدل على إثبات هذا المعنى الذي ادعاه؛ فإنه منفي بالحقيقة، والأصل موافقة الشرع لها على ما تقدم في حديث: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ». ¬
وأيضا: فإنا نقول: قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] لفظ يصح معه الاستثناء، فيقال (¬1): امسح برأسك إلا بعضه، والاستثناء عبارة عن ما لولاه، لوجب اندراج المستثنى تحت الحكم، وكل بعض يصح استثناؤه، ولم يستثن، فيندرج، فيجب الجمع، وهو المطلوب. وفي «الموطأ»، و «البخاري»، و «مسلم»: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بيديه من مقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع (¬2) إلى المكان الذي بدأ منه (¬3)، وهذا صريح في أنه مسح جميع رأسه. وفي «مسلم»: عن المغيرة بن شعبة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل ذراعيه، ومسح ناصيته، وعلى (¬4) العمامة، وعلى خفيه (¬5). وفي «مسلم» - أيضا -: ومسح على مقدم رأسه، وعلى العمامة (¬6)، وأصحاب الشافعي يستدلون بهذا الحديث على أنه لا يجب الاستيعاب؛ ¬
لأنهم يعتقدون، أو بعضهم: أن ذلك في وضوءين، على ما نقله بعض أصحابنا عنهم؛ تارة مسح بناصيته (¬1)، وتارة مسح على العمامة. ونحن نقول: هو حجة على من لم يوجب الاستيعاب؛ لأن الظاهر: أنه فعل ذلك في وضوء واحد؛ مسح بناصيته (¬2)؛ لكونه لم يضره كشفها، ثم مسح على العمامة لعذر منع من (¬3) كشف بقية رأسه - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان يجزئ مسح البعض البعض، لم يتكلف المسح على العمامة نيابة عن بقية رأسه، وكل من وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما علمهم الوضوء، لم يقل فيه: إنه مسح بعض رأسه. ولو تنزلنا على أن (الباء) للتبعيض، فلا خلاف أنها تكون أيضا زائدة، وغير ذلك على ما (¬4) هو مبين في كتب النحو، فتبقى الآية مجملة، فينزل فعل الرسول -عليه الصلاة والسلام- على البيان. فإن قالوا: قد (¬5) ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح على مقدم رأسه، وعلى العمامة، فينزل فعله على البيان (¬6) لمجمل الآية، كما ادعيتم سواء، ويكون الفرض بعض الرأس، لا كله. ¬
قلنا: قد تقدم أن الظاهر أنه فعل ذلك في وضوء واحد، الدليل المتقدم إلى آخره. قال القاضي عبد الوهاب رحمه الله: ومن جهة النظر؛ فلأن المسح أحد نوعي طهارة الوضوء، فوجب أَلَّا يتعلق فرضه بالربع، أو بأقل ما يقع عليه الاسم أصله الغسل؛ ولأنه عضو من أعضاء الوضوء، فوجب أن لا يتقدر تطهيره بالربع، وَأَلَّا يكون الواجب منه (¬1) أقل ما يقع عليه الاسم؛ اعتبارا بسائر الأعضاء، ولأنه عضو من أعضاء الوضوء غير منصوص على حده، فوجب استيعاب جميعه؛ أصله الوجه، ولأنه عضو ورد النص بإيجابه مطلقًا من غير تحديد، فوجب إيعابه، أصله الوجه، عكسه اليدان والرجلان، ولأن الإيعاب أحد نوعي فرض الوضوء، فوجب أن يكون في شطر الأعضاء أصله التبعيض المحدود، ولأنها طهارة من حدث، فوجب أن لا يتقدر فرض عضو منها بأقل ما يقع عليه الاسم؛ كالتيمم؛ ولأن (¬2) كل بعض من عضو كان محلاً لأداء الفرض به (¬3)، كان تطهيره واجبا، أصله سائر الأبعاض، ولا يلزم عليه (¬4) الخف؛ لأنه ليس بعضه. فإن قالوا: قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] أعم ¬
من أن يراد (¬1) به مسح الكل، أو مسح البعض؟ قلنا: لا نسلم؛ لأن إطلاق المسح بالرأس لا يفهم منه إلا المسح لجميعه، دون الاقتصار على بعضه، هذا هو الحقيقة، واستعمال الكل في البعض مجاز، والأصل عدم المجاز. ولو جئنا نتتبع (¬2) الأدلة على ذلك، لخرجنا عن مقصود الكتاب. وقد (¬3) أفردت لهذه المسألة جزءًا مفردا لا يكاد يبقي في النفس منها شيئًا، وبالله التوفيق. ق: وليس في الحديث (¬4) هذا ما يدل على الوجوب؛ لأنه في آخره إنما ذكر ترتب ثواب مخصوص على هذه الأفعال، وليس يلزم من ذلك عدم الصحة عند عدم كل جزء من تلك الأفعال، فجاز (¬5) أن يكون ذلك الثواب مرتبا على كمال مسح الرأس، وإن لم يكن واجبا - أعني: إكماله- كما يترتب على المضمضة والاستنشاق، وإن لم يكونا واجبين (¬6) عند كثير من الفقهاء، أو الأكثرين منهم، فإن سلك سالك ما قدمناه في المرفقين من ادعاء الإجمال في الآية، وأن الفعل ¬
بيان، فليس بصحيح؛ لأن الظاهر من الآية متبين؛ إما على (¬1) أن يكون المراد: مطلق المسح على ما يراه الشافعي، بناءً على أن مقتضى الباء في الآية التبعيض (¬2)، أو على أن المراد: الكل على ما قاله مالك رحمه الله بناء على أن اسم الرأس حقيقة في الجملة، وأن الباء لا تعارض ذلك، وكيف ما كان، فلا إجمال (¬3). قلت: وهذا صحيح، لكنه يؤخذ وجوب الاستيعاب مما تقدم من الأدلة (¬4) على ذلك. التاسع: قوله: «ثم غسل كلتا رجليه»: اعلم أن (كلا) و (كلتا) إذا أضيفا إلى مضمر، أعربا إعراب التثنية؛ بالألف رفعا، وبالياء جرا، ونصبا، وإذا أضيفا إلى ظاهر؛ كما هو (¬5) هاهنا، أعربا إعراب المقصور، نحو عصا، ورحى (¬6). وهذا الحديث صريح في وجوب غسل الرجلين، وقد تقدم في حديث: «ويل للأعقاب من النار» (¬7) الرد الواضح على القائلين بالمسح، ¬
بما (¬1) يغني عن الإعادة. العاشر: قوله: «ثلاثا ثلاثا»: فيه مسائل: الأولى: أن الأعداد (¬2) في الوضوء غير واجبة، وأن الواجب الإسباغ، أسبغ بمرة، أو مرات. الثانية: أن تكرار الغسل ثلاثًا مستحب فيه، إن أسبغ بها، أو بما دونها. الثالثة: أن ما فوق الثالثة مكروه، إن أسبغ بها، أو بما دونها. الرابعة: أن الثلاثة أفضل من الاثنتين، وأنه مخير بين الثلاث والاثنتين. الخامسة: أن الاقتصار على الواحدة مكروه، واختلف في وجه الكراهة لذلك، فقيل: إنما (¬3) كُره لتركه الفضيلة جملة، وقيل: إنما كُره ذلك، مخافة ألا يعم فيها، وهو دليل ما روي عن مالك أنه قال: لا أحب الواحدة إلا من العالم بالوضوء (¬4). السادسة (¬5): أن استحباب التكرار مقصور على المغسول دون ¬
الممسوح، كما هو ظاهر الحديث، ألا ترى أنه ذكر (¬1) الأعداد في الأعضاء الثلاثة دون الرأس؟ وهذا مذهب مالك، والمشهور عن أبي حنيفة، وأحمد. وقال الشافعي: يستحب تكرار الممسوح ثلاثًا كالمغسولظ (¬2) (¬3). السابعة: أن التكرار إنما يكون بماء جديد، ولذلك لا يقال في رد اليدين في مسح الرأس: إنه تكرار. الثامنة: اختلفت الآثار في أعداد الوضوء، فروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة (¬4)، ومرتين مرتين (¬5)، وثلاثا ثلاثا (¬6)، في بعض الأعضاء، ومرتين (¬7) في بعضها. قال القاضي أبو الوليد بن رشد رحمه الله: وليس الاختلاف في هذا ¬
اختلاف تعارض، وإنما هو اختلاف تخيير، وإعلام بالتوسعة. الحادي عشر: قوله: «نحو وضوئي هذا»: ينبغي أن يشاهد الفرق بين لفظة (نحو)، ولفظة (مثل)؛ فإنه لا مطابقة بينهما، إذ كانت لفظة (مثل) تقتضي بظاهرها المساواة من كل الوجوه، إلا من الوجه الذي به يقع الامتياز بين الحقيقتين بحيث يخرجهما عن الوحدة (¬1)، ولفظة (نحو) تقتضي المقاربة دون المماثلة من كل وجه، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: «نحو وضوئي»، ولم يقل: مثل وضوئي؛ لأن مثل وضوئه لا يأتي به غيره، فالثواب يترتب في ذلك على المقاربة، لا على المماثلة، ولا بد لما ذكرناه من تعذر الإتيان بمثل وضوء النبي (¬2) - صلى الله عليه وسلم -، وذلك مما تقتضيه الشريعة السمحة (¬3) من التوسعة، وعدم التضييق على المكّلف، والله أعلم (¬4). الثاني عشر: قوله: «ثم صلى ركعتين»: فيه استحباب صلاة ركعتين فأكثر عقب كل وضوء، وذلك عند الشافعية من السنن المؤكدة، حتى تفعل عندهم في أوقات النهي؛ لأن لها سببا، واستدلوا على ذلك (¬5) ¬
بحديث بلال رضي الله عنه المخرج في «البخاري» (¬1): أنه كان متى توضأ، صلى، وقال: إنه أرجى عمل له (¬2)، (¬3). وأما مذهبنا: فلا يتنفل في أوقات النهي مطلقًا، وليست هاتان الركعتان بعد الوضوء عندنا (¬4) معدودة في جملة السنن، وإنما يستحب ذلك في غير أوقات النهي، وأما حديث بلال رضي الله عنه، فيجوز أن يكون ذلك مخصوصا بغير أوقات النهي، كما نقوله، وليس ذلك بأول عام خص بدليل، ويكون ذلك جمعا (¬5) بين حديثه، وحديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي؛ إذ ذاك أولى من إلغاء أحد الحديثين، والله أعلم. الثالث عشر: قوله: «لا يحدث فيهما نفسه»: فيه (¬6) إثبات حديث النفس، وهو مذهب أهل الحق، والمراد بحديث النفس هنا: ¬
ما يكون من كسب العبد، واجتلابه له، يشهد لذلك إسناد الفعل إليه (¬1) في قوله: «يحدث فيهما نفسه»؛ فإنه يقتضي تكسبا منه. وأما الخواطر التي ليست من جنس مقدور العبد، فليست داخلة في هذا الحديث، والله أعلم. وقد عفي لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر، حتى لو كان كفرا - والعياذ بالله-، وهذا كله فيما كان من أمور الدنيا، وما لا يتعلق بالصلاة؛ إذ لا بد من حديث النفس فيما يتعلق بالآخرة من معاني المتلو، والدعوات، والأذكار، وغير ذلك. ق: ولا يريد بما (¬2) يتعلق بأمر الآخرة كل أمر محمود أو مندوب إليه؛ فإن كثيرا من ذلك لا يتعلق بأمر الصلاة، وإدخاله (¬3) فيها أجنبي عنها، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه: أنه قال: إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة (¬4)، أو كما قال، وهذه قربة، إلا أنها أجنبية عن مقصود الصلاة، انتهى (¬5). ¬
ونقل ع (¬1) عن بعضهم: أن هذا الذي يكون من غير قصد يرجى أن تقبل معه الصلاة، ويكون دون صلاة من لم (¬2) يحدث نفسه بشيء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ضمن الغفران لمراعي ذلك؛ لأنه قل من تسلم صلاته من حديث النفس، وإنما حصلت له هذه المرتبة؛ بمجاهدة نفسه من خطرات الشيطان، ونفيها عنه، ومحافظته عليها، حتى لم يشتغل عنها طرفة عين، وسلم من الشيطان باجتهاده، وتفريغه قلبه (¬3). ولم يرتض هذا. ح: وأشار إلى معنى (¬4) ما قدمته، وأن هذه الفضيلة تحصل مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة (¬5)، حتى قال: وهو الصواب (¬6). قلت: وانظر إذا تعمد حديث النفس، وتشاغل بذلك جدا (¬7) والحالة هذه، وقلنا: لا يحصل له (¬8) الغفران، هل تكون صلاته مع ذلك صحيحة، أو يكون ذلك مبطلاً لها، فرضا كانت أو نفلاً، أو ¬
يفرق في ذلك (¬1) بين القليل والكثير؟ فإني لم أقف على نص صريح في ذلك لأصحابنا. لكن ذكر القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله في مسألة النية ما ظاهره البطلان، ولفظه: إن عزبت بأمر خطر في الصلاة، أو سبب عارض، لم يضر، وإن كانت بأسباب متقدمة قد لزمت العبد؛ من الانهماك في الدنيا، والتعلق بعلائقها الزائدة، والتشبث بفضولها، فيقوى ترك الإعداد (¬2) بالصلاة؛ لأن ذلك واقع باختياره (¬3). الرابع عشر: هل يدخل في هذا الغفران الكبائر، أو ذلك مختص بالصغائر؟ ق: ظاهره العموم في جميع الذنوب، وقد خصوا مثله بالصغائر، وقالوا: إن الكبائر إنما تكفر بالتوبة، وكان المستند في ذلك: أنه ورد مقيدا في مواضع؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن (¬4) ما اجتنبت الكبائر» (¬5)، ¬
فجعلوا (¬1) هذا القيد في هذه الأمور مقيدا للمطلق في غيرها (¬2). ح: ومعنى ذلك: أن الذنوب كلها تغفر، إلا الكبائر، فأنها لا تغفر، وليس المراد: أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة، فإن كانت (¬3)، لا يغفر شيء من الصغائر؛ فإن (¬4) هذا، وإن كان محتملاً، فسياق الأحاديث يأباه (¬5). ع: هذا المذكور في الحديث (¬6)؛ من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وهو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما (¬7) تكفّر بالتوبة، ورحمة الله تعالى، والله أعلم (¬8). وقد يقال: إذا كفَّر الوضوء، فماذا تكفّر الصلاة؟ وإذا كفّرت الصلاة فماذا تكفّر الجمعات ورمضان؟ وكذلك صوم يوم عرفة كفارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق (¬9) تأمينه تأمين الملائكة ¬
غفر له ما تقدم من ذنبه؟ والجواب ما أجاب به العلماء: إن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر، كفّره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة، كُتبت به حسنات، ورفعت به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر، ولم يصادف صغيرة، رجونا أن يخفف من الكبائر، والله أعلم (¬1). * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 8 - عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ، سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ، عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ (¬1) - صلى الله عليه وسلم -؟ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ , فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَكْفَأَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرِ , فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاثاً , ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ , فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثاً بِثَلاثِ غَرْفَاتٍ , ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ (¬2)، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَديْهِ مَرَّتَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ, فَمَسَحَ رَأْسَهُ , فَأَقْبَلَ (¬3) بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ , حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ , ثُمَّ ¬
رَدَّهُمَا، حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ (¬2). ¬
التَّوْرُ: شِبْهُ الطَّسْتِ. * * * * التعريف: عمرو بن يحيى بن عُمارة (¬1) بن أبي حسن المازني الأنصاري، المدني. سمع أباه، وعباد بن تميم، وعباس (¬2) بن سهل، وسعيد بن يسار، ومحمد بن يحيى بن حبان، ومحمد بن عمرو بن عطاء. روى عنه: يحيى بن سعيد (¬3) الأنصاري، ومالك بن أنس، ووهيب (¬4) بن خالد بن عبد الله، وسليمان بن بلال، وعبد العزيز الدراوردي، ويحيى بن أبي كثير، وزيادة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة بن ¬
عبد العزيز بن المختار. مات في الأربعين ومئة، أخرج له في «الصحيحين» (¬1) (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «فدعا بتور»؛ أي: طلبه، والتور -بالتاء المثناة فوق-: لفظ مشترك يقع على الطست - بفتح الطاء، وكسرها -، والطسُّ -بحذف التاء (¬3) وتشديد السين المهملة-، وَالطَّسَّةِ -أيضا -. وفي «الصحاح»: التور: إناء يشرب فيه، والتور: الرسول بين القوم (¬4)، فهو مشترك بين هذين. ¬
وقوله: «من ماء»: الظاهر أنه من باب تسمية الشيء بما يجاوره، كالراوية، و (من) هنا لبيان الجنس، لا تحتمل غير ذلك، والله أعلم. الثاني: قوله: «فتوضأ لهم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، تقديره: وضوءًا نحو وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فحذف المصدر وصفته، وهو المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وهذا من باب المبالغة في التشبيه، من باب قولهم: زيد أسد، والله أعلم. الثالث: قوله: «فأكفأ (¬1) على يديه»؛ أي: قلب وصب. قال الجوهري: كفأت الإناء: قلبته، وكببته، فهو مكفوء، وزعم ابن الأعرابي: أن أكفأته لغة (¬2). فيه: استحباب غسل اليدين لغير المستيقظ. وفيه: جواز الوضوء من آنية الصفر، والطهارة جائزة بكل إناء طاهر ما عدا الذهب والفضة؛ لثبوت النهي عن الأكل والشرب فيهما، وقيس الوضوء على ذلك، وسائر الاستعمالات. قوله: «فغسل يديه ثلاثًا، فمضمض»: قد تقدم الكلام على غسل اليدين مستوعبا في حديث: «إذا استيقظ (¬3) أحدكم من نومه». ¬
وقوله: «فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات»: تقدم - أيضا - الكلام على حد (¬1) المضمضة والاستنشاق، وذكر الخلاف في أحكامهما، والكلام هاهنا في كيفيتهما فصلاً وجمعا. وقد اختلف في الأفضل من ذلك، فمذهبنا: أن التفريق أفضل؛ لما في «أبي داود» أنه -عليه الصلاة والسلام- فصل بين المضمضة والاستنشاق (¬2)، ولأنهما عضوان متعددان، فيتعدد الماء لهما كبقية الأعضاء. قال الإمام أبو عبد الله المازري: قيل: المختار أن يغسل الفم ثلاثًا بثلاث غرفات، ثم الأنف بعده كذلك، وقيل: يغسلان ثلاث مرات من غرفة واحدة؛ لأنهما كعضو واحد. وقيل: يجمعان في كل غرفة؛ لأنهما كالعضو الواحد، فيتكرر فيه أخذ الماء. قلت: وهو الأصح عند الشافعية (¬3)، وهو ظاهر الحديث، والله أعلم. ¬
السادس: قوله: «ثم غسل وجهه»: تقدم الكلام على حد الوجه وحقيقته. وقوله: «ثم أدخل يده مرتين إلى المرفقين»: هذه إحدى الروايات المتقدم ذكرها، وفيه حذف؛ أي: فغسلهما مرتين، فالعامل في مرتين: أدخل، و (إلى) متعلقة بالمحذوف، والله أعلم. السابع: قوله: «ثم أدخل يديه، فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» دليل لمالك رضي الله عنه على عدم استحباب تكرار المسح -كما تقدم-، وبذلك قال أبو حنيفة، وأحمد في المشهور عنهما -كما تقدم أيضا -، ودليلهم: ما جاء في الصحيح من اقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على المرة الواحدة. قال الشيخان ح، ق، ما (¬1) معناه: أن المسح ورد في بعض الروايات مطلقًا، وفي بعضها مقيدا بمرة واحدة (¬2). قلت: فيتعين حمل المطلق على المقيد، فلا تكرار، ومن جهة المعنى: أن المسح مبني على التخفيف، والتكرار ثقيل، ولا (¬3) يناسبه، ¬
ولا يحسن قياسه على بقية الأعضاء المغسولة؛ لتغاير الحقيقتين. استدل الشافعي رحمه الله بحديث عثمان رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثًا ثلاثا (¬1)، وبما رواه أبو داود في «سننه»: أنه (¬2) - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثًا (¬3)، وبالقياس على سائر الأعضاء. وأجاب عن حديث المسح مرة واحدة: بأن ذلك لبيان الجواز. والجواب عن حديث عثمان رضي الله عنه: أن نقول: ليس فيه دليل بَيِّنٌ لجواز تغليب أكثر الأعضاء على أقلها، وهو الرأس؛ إذ لا يمتنع في لسان العرب أن يقال (¬4): جاءني القوم ثلاثة ثلاثة، أو غير ذلك من الأعداد، وقد جاء الواحد منهم، أو الاثنان على (¬5) غير هذه الهيئة؛ تغليبا للأكثر منهم على الأقل، وإذا احتمل ذلك، سقط الاستدلال به (¬6)، لا سيما والاحتمال قوي؛ بدليل مجيء الأحاديث الصحيحة بمرة واحدة نصا صريحا، مع ذكر العدد في المغسولات، فتعين أن يكون مراد الراوي ثلاثا ثلاثا: في المغسولات خاصة؛ دفعا للتعارض. وأما حديث أبي داود، فمعارض بأحاديث مسلم، والبخاري، ¬
وأحاديثهما تترجح من وجهين: أحدهما: اشتراط الصحة. والثاني: تعداد الرواة، وذلك صالح للترجيح عند المعارضة. وأما قياس الممسوح على المغسول: فقد تقدم أنه لا يحسن؛ لتنافي الحقيقتين، ولا يقال: إن المسح مرة واحدة لبيان الجواز؛ لأنا نقول: القول كاف في ذلك. فإن قالوا: الفعل أوقع، قلنا (¬1): مسّلم، ولكن لم (¬2) لا يكتفى في بيان الجواز بمرة واحدة، ورواية (¬3) التثليث نادرة بالنسبة إلى رواية الإفراد -على ما تقدم-، فرواية التثليث - إن صحت - كانت هي أولى بأن يقال فيها: إنها لبيان الجواز؛ لندورها، وكثرة غيرها، والله أعلم (¬4). وقوله: «فأقبل بهما وأدبر»: اختلف (¬5) في كيفية هذا الإقبال والإدبار، فذهب مالك والشافعي: أنه يبدأ بمقدم الرأس، ويذهب إلى القفا، ثم يردهما إلى حيث بدأ، وهو مبتدأ الشعر من حد الوجه، وعلى ¬
هذا يدل ظاهر الحديث، إلا أنه استشكل من حيث إن هذه الصفة تقتضي: أنه أدبر بهما وأقبل؛ لأن ذهابه إلى جهة القفا إدبار، ورجوعه إلى جهة الوجه إقبال. وأجيب عنه: بأن الواو لا ترتب، والمراد: أدبر بهما، وأقبل، ولكن ابتدأ بذكر الإقبال تفاؤلاً (¬1). قلت: وعكس هذا قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات: 22]، والمراد: على ما (¬2) قيل: ثم أقبل يسعى، كما تقول: أقبل فلان يفعل كذا، بمعنى: أنشأ يفعل، فوضع أدبر موضع أقبل؛ لئلا يوصف بالإقبال؛ قاله الزمخشري في «تفسيره» (¬3). وجواب آخر (¬4): وهو أن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية، أعني: أنه ينسب إلى ما يقبل إليه، ويدبر عنه، والمؤخر محل يمكن أن ينسب الإقبال إليه، والإدبار عنه. وهو معنى كلام عبد الحق في «النكت». وذهب بعض الناس إلى أنه يبدأ بالناصية، ويذهب إلى ناحية الوجه، ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس، ثم يعود إلى ما بدأ منه، ¬
وهو الناصية؛ محافظةً على قوله (¬1): «بدأ بمقدم رأسه» (¬2)، فإن الناصية مقدم الرأس، ويصدق عليه أنه أقبل -أيضا-، فإنه ذهب إلى ناحية الوجه، وهو القبل. ق: إلا أن قوله في الرواية المفسرة بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه قد يعارض هذا؛ فإنه جعله بادئا بها بالمقدم إلى غاية الذهاب إلى قفاه. وهذه الصفة التي لهذا القائل تقتضي أنه بدأ بمقدم رأسه غير ذاهب إلى قفاه، بل إلى ناحية وجهه، وهو مقدم الرأس، انتهى (¬3). قال (¬4) ابن بزيزة من أصحابنا: وحكي عن جدنا الفقيه العابد الولي المشهور محرز بن خلف: أن (أقبل) هنا، مأخوذ من القَبَل في العين، وهو ميل الناظر، وكثيرا ما يكون في الخيل، يقال: فرس أقبل، فمعنى أقبل بهما: أمالهما. وأما ما يتعلق بغسل الرجلين، فقد تقدم الكلام عليه، وأما الرواية الثانية، فمصرحة بالوضوء من الصفر، وهو الحقيقة، وأما الأولى (¬5) -أعني قوله: «بتور من ماء» -، فمجاز -على ما تقدم-، أنه من باب تسمية الشيء بمجاوره. ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع 9 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ (¬1) - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ , وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ (¬2) .. ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: معنى التيمن هنا: الابتداء باليمين قبل الشمال، وهو من الألفاظ المشتركة؛ لأن التيمن - أيضا - مصدر تيمن بالشيء: إذا تبرك به، مأخوذ من اليُمْن -بضم الياء-، وهو البركة، والتيمن - أيضا -: النسب إلى اليَمَن -بفتح الياء والميم-، يقال: تيمن: إذا انتسب إلى اليمن. الثاني: التنعل: لبس النعل، وهي الحذاء، مؤنثة، وتصغيرها: نعيلة، قال الجوهري: تقول: نعلت، وانتعلت: إذا احتذيت (¬1). قلت: وتنعلت - أيضا -، كما هو في الحديث؛ لأن التنعل مصدر تنعل، كالتعلم مصدره تعلم، وفي مسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب التيمن في طهوره إذا تطهر، وفي ترجله إذا ترجل، وفي انتعاله إذا انتعل (¬2). ومعنى التيمن في التنعل: البداية بالرجل اليمنى، ومعناه في الترجل، وهو التسريح: البداية بالشق الأيمن من الرأس في تسريحه ¬
ودهنه، وفي الطهور: البداية باليد اليمنى، والرجل اليمنى في الوضوء، وبالشق الأيمن في الغسل، والابتداء بالميامن في ذلك عندنا من الفضائل، وكذلك يقول الشافعي، وإن كان الترتيب عنده واجبا؛ لأنهما كالعضو الواحد؛ حيث جمعا في التنزيل بلفظ: {أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [الأعراف: 124] (¬1). ح: هذه قاعدة مستمرة في الشرع؛ وهي أن (¬2) ما كان من باب التكريم والتشريف؛ كلبس الثوب والسراويل والخف، ودخول المسجد، والسواك، والانتعال، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، وترجيل الشعر، وهو مشطه، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة، والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، وغير ذلك مما هو في معناه يستحب (¬3) التيامن فيه. فأما ما كان بضده؛ كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثوب، والسراويل، والخف، وما أشبه ذلك، فيستحب التياسر فيه، وذلك كله (¬4) لكرامة اليمين وشرفها، والله أعلم. ¬
وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، لو خالفه، فاته الفضل، وصح وضوؤه. وقالت الشيعة: هو واجب، ولا اعتدادبخلاف الشيعة. واعلم أن الابتداء باليسار، وإن كان مجزئا، فهو مكروه، نص عليه الشافعي في «الأم». قلت: وهو الظاهر من مذهبنا، والله أعلم. ثم قال: وهو ظاهر (¬1)، وقد ثبت في «سنن أبي داود»، و «الترمذي»، وغيرهما بأسانيد جيدة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا لبستم أو توضأتم، فابدؤوا بميامنكم» (¬2)، فهذا نص في الأمر بتقديم اليمين، فمخالفته مكروهة، أو محرمة، [وقد انعقد الإجماع على أنها ليست محرمة، فوجب أن تكون مكروهة] (¬3). ¬
قلت:.لم لا يقال: إن ذلك من باب ترك الأولى؟ فلا يتم استدلاله على الكراهة، والله أعلم. ثم قال: ثم اعلم: أن من أعضاء الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن، وهو الأذنان، والكفان، والخدان، بل يطهران دفعة واحدة، فإن تعذر ذلك، كما (¬1) في حق الأقطع ونحوه، قُدم اليمين، والله أعلم، انتهى (¬2). وقول عائشة رضي الله عنها: و (¬3) في شأنه كله، ليس على عمومه، بل هو مخصوص بما تقدم من دخول الخلاء، والخروج من المسجد، وخلع النعل، وأشباه ذلك، والله أعلم. * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العاشر 10 - عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ» (¬1). وَفِي لَفْظٍ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ , فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ , ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْنِ , ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ (¬2) يُدْعَوْنَ غُرَّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ» (¬3). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: سَمِعْتُ خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» (¬4). ¬
* التعريف: نعيم المجمر (¬1): هو نعيم بن عبد الله المُجمر -بضم الميم وإسكان الجيم، وكسر الميم الثانية-، ويقال: المُجَمِّر -بفتح الجيم وتشديد الميم الثانية المكسورة (¬2) -، القرشي، العدوي، المدني. كنيته: أبو عبد الله، مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال له عمر: تُحَسِّنُ تُجَمِّرُر المسجد، أي: تبخره (¬3): قال: نعم، فكان (¬4) يجمر المسجد، فعرف به (¬5). ¬
سمع أبا هريرة، وعلي بن يحيى (¬1) بن خالد، وسالماً مولى شداد، ومحمد بن عبد الله بن زيد. روى عنه: مالك، وسعيد بن أبي هلال، وفليح بن سليمان، وعمارة بن غزية (¬2)، وهو تابعيٌّ، أخرج حديثه في «الصحيحين»، رضي الله عنه (¬3). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قال الشيخ أبو بكر العزيزي (¬4) رحمه الله: أمة على ثمانية أوجه: أمة (¬5): جماعة؛ كقوله تعالى: {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ ¬
يَسْقُونَ} [القصص: 23]. وأمة: أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام؛ كما تقول: نحن أمة محمد -عليه الصلاة والسلام-. وأمة: رجل جامع للخير يقتدى به؛ كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120]. وأمة: دين وملة؛ كقوله (¬1) تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. وأمة: حين وزمان؛ كقوله تعالى: {إلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8]، وقوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]؛ أي: بعد حين، ومن قرأ: (بعد أمة): -بفتح الهمزة، وتخفيف الميم (¬2)، فنسيان. وأمة: قامة، يقال: فلان حسن الأمة، أي: القامة. وأمة: رجل منفرد بدين لا يشركه فيه أحد، قال رسول الله (¬3) - صلى الله عليه وسلم -: «يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده» (¬4). ¬
وأمة: أُمٌّ، يقال: أمة زيد (¬1). قلت: والمراد (¬2) بالأمة إذا قلنا: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - المؤمنون خاصة، هذا هو الحقيقة، وقد يطلق على غيرهم؛ بعلاقة كونه مرسلاً إلى الناس أجمعين، والله أعلم. الثاني: قوله: «يوم القيامة»: (يوم) من الأسماء الشاذة؛ لوقوع الفاء والعين فيه حرفي (¬3) علة، فهو من باب ويل، وويح. و (¬4) القيامة: فِعالة من قام يقوم، أصله: القوامة، فُقلبت الواو فيه ياء؛ لانكسار ما قبلها. الثالث: قوله: «يدعون غرا محجلين»، (غرا ومحجلين)، منصوبان على الحال من الضمير في (يدعون)، وهو الواو، والأصل: يدعوون -بواوين- تحركت الأولى، وانفتح ما قبلها، فُقلبت (¬5) ألفا، اجتمع ساكنان الألف والواو بعدها، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار: يدعون. ومعناه - والله أعلم -: يدعون إلى موقف الحساب، أو إلى (¬6) ¬
الميزان، أو إلى غير ذلك من المواطن (¬1). وقد خلط بعض الناس في هذا الموضع في إعراب (غرا)، و (¬2) (محجلين)، وليس من شأنه. قال أهل اللغة: الغرة: بياض في جبهة الفرس، والتحجيل: بياض في يديها ورجليها. قال العلماء: سمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة: غرةً، وتحجيلاً؛ تشبيها بغرة الفرس، والله أعلم (¬3). الرابع: ظاهر الحديث يقتضي اختصاص أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالغرة والتحجيل دون سائر الأمم، بل قد جاء مصرحا به في الحديث الآخر الصحيح، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لكم سيما ليست لأحد من الأمم، تردون علي غرا محجلين من أثر الوضوء» (¬4). ح: استدل جماعة من أهل العلم بهذا الحديث؛ يعني (¬5): حديث: «لكم سيما»، على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، زادها الله شرفًا. ¬
وقال آخرون: ليس الوضوء مختصا بها، وإنما الذي اختصت (¬1) به هذه الأمة الغرة والتحجيل، واحتجوا بالحديث الآخر: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي» (¬2). وأجاب الأولون عن هذا بجوابين: أحدهما: أنه حديث ضعيف (¬3)، معروف بالضعف. والثاني: لو صح، احتمل أن يكون الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- اختصت بالوضوء دون أممهم، إلا هذه الأمة (¬4). الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل»، حذف التحجيل؛ للعلم به، فكأنه من باب قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، ولم يذكر البرد؛ للعلم به. ¬
ق: كأن ذلك من باب التغليب لأحد الشيئين على الآخر (¬1). قلت: وفي ذلك نظر؛ لأن القاعدة في التغليب: أن يغلّب المذكر على المؤنث، لا العكس، والأمر هاهنا بالعكس؛ لتأنيث الغرة، وتذكير التحجيل، وأيضا: فمثل هذا لا يسمى تغليبا: إذ لم يؤت فيه إلا بأحد الاسمين، والتغليب اجتماع الاسمين أو الأسماء، وتغليب أحدهما على الآخر، نحو: العمرين، والقمرين، والأبوين، وما أشبه ذلك، فهذا كما ترى. وإطالة الغرة: بأخذ جزء من الرأس، وفي اليدين: غسل بعض العضدين، وفي الرجلين: غسل بعض الساقين، ولم أر لأصحابنا نصا على استحباب ذلك، بل نقل (¬2) ابن بطال (¬3)، وع (¬4): اتفاق (¬5) العلماء على أنه لا تستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين (¬6)، واحتجا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من زاد على هذا أو نقص، فقد أساء وظلم» (¬7). ¬
ق: وقد استعمل أبو هريرة رضي الله عنه هذا (¬1) الحديث على إطلاقه، وظاهره طلب إطالة الغرة، فغسل إلى قريب (¬2) من المنكبين، ولم ينقل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا كثر استعماله في الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فلذلك لم يقل به الفقهاء (¬3). قلت: انظر قوله: ولم يقل به الفقهاء، مع نقل ح عدم اختلاف الشافعية في استحباب ذلك. قال: واختلفوا في القدر المستحب على أوجه: أحدها: أنه يستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير توقيت (¬4). والثاني: إلى نصف العضد والساق. والثالث: يستحب إلى المنكب والركبتين (¬5). ويبعد أن يريد (¬6) ق بالفقهاء الأئمة الأربعة، ويكون الشافعية كلهم خالفوا الشافعي في ذلك (¬7)، فتأمل هذا. ¬
السادس: المنكب: مجمع عظم العضد والكتف، قاله الجوهري (¬1). وقال غيره: المنكب: مجمع رأس العضد والكتف وطرف الترقوة (¬2). السابع: انظر إلى قول أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم -، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت متخذًا خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً» (¬3) الحديث، فقد نفى -عليه الصلاة والسلام- أن يكون له خليل. فإن قلت: نفى - صلى الله عليه وسلم - (¬4) أن يتخذ هو خليلاً، وما نفى أن يتخذه غيره خليلاً. قلت: المخاللة مفاعلة، وهي لا تكون إلا من اثنين -غالبا-، والذي يظهر لي: أن أبا هريرة رضي الله عنه إنما أراد مجرد الصحبة فقط، فعبر عنها بالخلة مجازا (¬5)، والله أعلم. وقد اختلف الناس في الخليل (¬6)، فقيل: هو الصاحب، وقيل: هو ¬
الخالص في الصحبة، وهو أخص من الصاحب. واختلفوا - أيضا - في اشتقاقه، فقيل: من الخلة - بفتح الخاء -، وهي الحاجة، وقيل: من الخُلة - بضم الخاء -، وهي تخلل المودة في القلب، وقيل: من الخلة، وهو نبت تستحليه الإبل، ومن أمثالهم: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها. وقيل: الخليل: هو المختص بشيء دون غيره، ولا يجوز أن يختص النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا بشيء من (¬1) الديانات دون غيره، قاله النحاس (¬2). ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذًا خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن» يعني: نفسه (¬3)، فهذا (¬4) الحديث الصحيح قطع المخالَّة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره، والله أعلم. * * * ¬
باب الاستطابة
باب الاستطابة الحديث الأول 11 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» (¬1). ¬
[الْخُبُثُ -بضم الخاء والباء-، وهو جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، استعاذة من ذكران الشياطين وإناثهم]. * التعريف: أنس بن مالك: بن النضر -بالضاد المعجمة الساكنة (¬1) - ابن ضمضم -بضادين- ابن زيد بن حرام -بفتح الحاء (¬2) والراء المهملتين- ابن جندب بن عامر ابن غنم بن عدي بن النجار، الأنصاري، النجاري، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يكنى: أبا حمزة، كناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلة كان يجتنيها (¬3). قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة (¬4) وهو ابن عشر سنين، فأتت به أمه، ¬
أم سليم الأنصارية، امرأة أبي طلحة اسمها الرميصاء - بالراء المهملة المضمومة والميم المفتوحة، وبعدها ياء ساكنة باثنتين تحتها بعدها صاد مهملة وهمزة ممدودة - ويقال: الغميصاء بنت ملحان، فعرضت عليه خدمته، فقبلها، قالت: يا رسول الله! أنس غلام (¬1) كاتب لبيب، يخدمك، فخرج معه في خدمته إلى بدر، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن عشرين سنة، وبقي بعده نحوا من ثمانين سنة (¬2). وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وتسعين (¬3)، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، وهو ابن مئة وثلاث سنين، وقد قيل: ابن مئة وعشر سنين، ومات في قصره بالطَّفِّ (¬4) على فرسخين من البصرة، وصلى عليه قطن بن مدرك الكلابي، وهو آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول: لم يبق على وجه الأرض من صلى القبلتين غيري (¬5). ولم يبق بعده (¬6) ممن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى أبي الطفيل عامر بن ¬
واثلة الليثي من بني كنانة، وهو الذي يقول: وَبُقِّيتُ سَهْمًا فِي الْكِنَانَةِ وَاحِدًا ... سَيُرْمَى بِهِ أَوْ يَكْسِرِ السَّهْمَ نَاضِلُهْ (¬1) وكانت وفاته سنة مائة، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمانية أعوام، ولد عام أُحُد. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعا لأنس بالبركة في ماله وولده، فكان يقول: إني لمن أكثر الأنصار مالاً وولدا (¬2). ويقال: إنه ولد له ثمانون ولدا ليس فيهم أنثى سوى (¬3) اثنتين: حفصة، وأم عمرو، وثمانية وسبعون ذكرا، وتوفي في حياته من ولده وولد ولده نحو مائة (¬4). روي لأنس بن مالك ألفا حديث، ومائتا حديث، اتفقا منها على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاث وثمانين، وانفرد مسلم بأحد وسبعين حديثًا (¬5). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»: (كان) هنا هي التي تدل على الملازمة والمداومة. وقوله: «إذا دخل الخلاء»؛ أي: إذا أراد الدخول، وهو كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]، هذا أولى من حمله على ظاهره؛ لأنه لا خلاف فيه؛ أعني: جواز الذكر قبل الوصول إلى المكان المعد لقضاء الحاجة. وأما فيه نفسه: فقد اختلف فيه المذهب على قولين، وحمله على المجمع عليه أولى من المختلف فيه؛ لأن الخلاء المذكور في الحديث هو المعد لقضاء الحاجة بلا (¬1) إشكال، أما لو كان غير معد؛ كالصحارى، فلا خلاف في جواز الذكر فيه نفسه (¬2). الثاني: (الخلاء) -بالمد-، وهو المتوضأ، وأصله: الموضع ¬
الخالي، كانوا ينتابونه لقضاء الحاجة، ثم كثر حتى تجوز به عن ذلك (¬1). وأما الخلا -مقصورا-، فهو الرطب من الحشيش، وحسن الكلام - أيضا -، ومنه قولهم: هو حلو الخلا؛ أي: حَسَن الكلام، وقد يكون خلا مستعملاً (¬2) في باب الاستثناء. وللعرب فيه حينئذ مذهبان: منهم من يجعله حرفًا، ومنهم من يجعله فعلاً. فإن كسرت الخاء مع المد، فهو عيب في الإبل، كالحران في الخيل (¬3)، وفي الصحيح: «ما خلأت القصواء، ولكن حبسها حابس الفيل» (¬4)، وفي حديث أم زرع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: «كنت لك كأبي زرع في الألفة والوفاء، لا في الفرقة والخلاء» (¬5). وسمي موضع الحاجة خلاءً -بالفتح والمد-؛ لخلائه في غير ¬
أوقات الحاجة، وهو أيضا: الكنيف، والمرحاض، والحُش. قال الشعبي: ما حدثوك (¬1) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاقبله، وما حدثوك (¬2) عن آرائهم، فاجعله في (¬3) الحُش (¬4). يعني: المرحاض. قال ابن بزيزة: إشارة إلى بطلان الرأي والقياس في الدين. وانتصابه على أنه مفعول به، لا على (¬5) الظرف؛ لأن (دخل) عدته العرب بنفسه إلى كل ظرف مكان مختص، تقول: دخلت الدار، ودخلت المسجد، ونحو ذلك، كما عدت ذهب إلى الشام خاصة، فقالوا: ذهبت الشام، ولا يقولون: ذهبت العراق، ولا ذهبت اليمن، فاعرفه. الثالث: قوله: «اللهم»: فيه لغتان: أفصحهما (¬6) أن تستعمل بالألف واللام، والثانية (لاهم) - بحذف الألف واللام، والثانية (لاهم) - بحذف الألف واللام-، والميم في آخره زائدة على حد زيادتها في: زرقم، وجلكم (¬7)، وزيدت لأن تجعل ¬
كالمعوض منه، ولما (¬1) كانت الميم المشددة عوضا من (يا)، لم يجز الجمع بينهما، فلا يقال: يا اللهم في فصيح الكلام، فأما قوله: [الرجز] وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا ... سَبَّحْتِ أَوْ هَلَّلْتِ يَا اللَّهُمَّا اُرْدُدْ عَلَيَّ شَيْخَنَا مُسَلَّمَا (¬2) فضرورة، كما جمع الآخر بين العوض والمعوض منه في قوله: [الطويل] هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مَنْ (¬3) فَمَويهما ... على النابح العاوي أشد الرجام (¬4) فجمع بين الميم والواو في قوله: فمويهما، مع (¬5) أنها عوض عنها (¬6)، هذا هو الصحيح عند البصريين، وللكوفيين خلاف مذكور في كتب العربية (¬7)، لا نطول بذكره. الرابع: «أعوذ»: أصله أعوُذ -بسكون العين وضم الواو-، ¬
استثقلت الضمة على الواو، فنقلت (¬1) إلى العين، فبقيت الواو ساكنة، ومصدره: عوذ، وعِياذ، ومَعاذ (¬2). ومعنى الاستعاذة: الاستجارة، والاعتصام (¬3)، فمعنى أعوذ بالله: أستجير بالله، وأعتصم به (¬4) (¬5). الخامس: «الخبث»: -بضم الخاء والباء-، كما ذكره المصنف رحمه الله، وذكر الخطابي في «أغاليط المحدثين» روايتهم له بإسكان الباء (¬6). ¬
ق: ولا ينبغي أن يعد هذا غلطًا؛ لأن فُعلاً -بضم الفاء والعين - تخّفف عينه قياسا. قلت: وكذلك فعل، بالكسر. قال: ولا يتعين أن يكون المراد بالخبث -بسكون الباء - ما لا يناسب المعنى، بل يجوز أن يكون وهو ساكن الباء بمعناه وهو مضموم الباء، نعم، من حمله وهو ساكن الباء على ما لا يناسب، فهو غالط في الحمل على هذا المعنى، لا في اللفظ (¬1). السادس: ظاهر الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بهذه الاستعاذة ضرورة؛ كونها لولم تسمع، لم تنقل، ويبعد أن يكون ذلك جاء على طريق إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه. السابع: الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إظهارا للعبودية، وتعليما للأمة، وإلا، فهو - صلى الله عليه وسلم - محفوظ من الجن والإنس، وقد ربط عفريتا في سارية من سواري المسجد، الحديث إلى آخره (¬2). فائدة: قال الشيخ زكي الدين عبد العظيم: قال ابن الأعرابي: أصل الخبث في كلام العرب: هو المكروه، فإن كان من الكلام، فهو ¬
الشتم، وإن كان من الملل، فهو الكفر، وإن كان من الطعام، فهو الحرام، وإن كان من الشراب، فهو الضار (¬1). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 12 - عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ , فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلا بَوْلٍ , وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا , وَلَكِنْ شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا». قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ , فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ , فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا , وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ (¬1). ¬
الغائط: المطمئن من الأرض، كانوا ينتابونه للحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث كراهية لذكره بخاص اسمه. والمراحيض: جمع المرحاض، وهو المغتسل، وهو -أيضا- كناية عن موضع التخلي. * * * * التعريف: أبو أيوب رضي الله عنه: اسمه: خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم، وقيل: ابن عبد عوف، وقيل: حسم بن غنم بن مالك بن النجار بن عمرو بن الخزرج. شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحد السبعين الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة الثانية، ونزل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة حتى بنى مسجده ومساكنه. ¬
وروي عن أبي أيوب: أنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل في بيتنا الأسفل، فكنت في الغرفة، فأهريق في الغرفة ماء، فقمت أنا وأم أيوب لقطيفة لنا نتتبع الماء ننشفه؛ أي: نخلص الماء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا مشفق، فنزلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله! ليس ينبغي أن نكون فوقك، انتقل إلى الغرفة، فأمر بمتاعه، فنقل، ومتاعه قليل (¬1). وروي عنه: أنه قال: قدم علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزل في دارنا، فقلنا: العلو يا رسول الله! فقال: «السُّفْلُ أهون علينا، وعلى من يغشانا»، فقالت أم أيوب حين أمسينا: يا أبا أيوب! تنام ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسفل منا؟! فلم ننم حتى أصبحنا، فنزلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت له الذي قالت أم أيوب. وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين مصعب بن عمير، وشهد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجمل، وصفين، ثم سكن دمشق، ولم يزل يغزو الروم حتى قُبض في غزوة غزاها يزيد بن معاوية. وروى ابن السكن في كتاب «الصحابة» له بإسناده إلى أبي أيوب: أنه مرض في الغزوة، فقال لأصحابه: إذا أنا مت، فخذوني فاحملوني، فإذا صاففتم العدو، فادفنوني تحت أقدامكم، انتهى. وكانت تلك الغزوة غزوة قسطنطينة، ودفن أبوا أيوب في أصل سور القسطنطينة في تلك الغزوة، سنة إحدى وخمسين، وقيل: اثنتين ¬
وخمسين، وقيل: سنة خمسين، والمشهور الثاني، وقيل: إن الروم إذا أجدبوا، استسقوا بقبره، وبنوا الروم على قبره بناءً، وعّلقوا عليه أربعة قناديل تسرج (¬1). وكان قد نزل على عبد الله بن عباس البصرة، فأنزله ابن عباس منزله، وقاسمه ماله. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وخمسون حديثًا، اتفقا منها على سبعة، وانفرد البخاري بحديث واحد، ومسلم بخمسة. روى عنه البراء بن عازب، وجابر بن سمرة، والمقداد بن معدي كرب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن خالد الجهني، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن يزيد الخطمي. ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعطاء بن يزيد، وعبد الله بن حنين، وخلق سواهم. روى له الجماعة (¬2). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: اختلفوا في هذا النهي، هل هو على عمومه في الصحراء والبنيان، أو هو مختص بالصحراء؟ فذهب مالك، والشافعي، (وإسحاق بن راهويه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه رضي الله عنهم: إلى أن ذلك لا يجوز في الصحارى، ويجوز في البنيان، وروي ذلك عن العباس بن عبد المطلب، وابن عمر رضي الله عنهما وجعل مالك المراحيض إذا ألجأت إلى ذلك، وإن لم يكن ساتر، كما لو كان ثم ساتر. وفي جواز الاستقبال والاستدبار مع وجود الساتر، وإن لم يكن ثم مراحيض روايتان عنه. وقال أبو حنيفة، وسفيان الثوري، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبو ثور، وأحمد في رواية: لا يجوز، لا في البنيان، ولا في الصحارى؛ وهو مذهب أبي أيوب راوي الحديث رضي الله عنه. وقال عروة بن الزبير، وربيعة، وداود الظاهري: يجوز ذلك في الصحارى والبنيان. ¬
وفي رواية عن أبي حنيفة، وأحمد: منع الاستقبال في الصحارى والبنيان، وجواز الاستدبار فيهما، فهذه أربعة مذاهب. احتج المانعون مطلقًا بهذا الحديث، وغيره من الصحيح؛ كحديث سلمان: قال المشركون: لقد علمكم نبيكم كل شيء، حتى الخراءة!! قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو نستنجي برجيع أو عظم، رواه مسلم، والترمذي، وأبو داود، والنسائي (¬1)، وبحديث أبي هريرة: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد، فإذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه»، وكان يأمرنا بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث، والرمة (¬2)، وغير ذلك من الصحيح، وأبقوا العموم على ظاهره، قالوا: ولأنه إنما مُنع لحرمة القبلة، وهذا المعنى موجود، كان البنيان، أو لم يكن، قالوا: ولأنه لو كان الحائل كافيا، لجاز في الصحراء؛ لأن بيننا وبين الكعبة جبالاً وأودية، وغير ذلك من أنواع الحائل. ¬
وتعّلق من أجاز ذلك مطلقًا بحديث ابن عمر الآتي: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبلاً بيت المقدس، مستدبرا الكعبة (¬1)، وبحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن ناسا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال النبي: أوقد فعلوها؟! استقبلوا بمقعدتي للقبلة» (¬2) رواه أحمد بن حنبل في «مسنده»، وابن ماجه، وإسناده حسن. قال صاحب «البيان والتقريب»: فحمله ربيعة وداود على الإطلاق، وليس بمستقيم؛ فإن في الحديث ما يدل على أن ذلك في البنيان. قلت: وهو ظاهر مكشوف، واحتج مالك رحمه الله ومن وافقه بحديث ابن عمر المذكور آنفًا؛ وهو في البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، فأخذوا منه جواز ذلك في البنيان، وبحديث جابر، قال: نهى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها. رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، وإسناده حسن (¬3). وبحديث مروان الأصفر، قال: رأيت ابن عمر أناخ ¬
راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ قال: بلى! إنما نُهِيَ عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك، فلا بأس. رواه أبو داود وغيره (¬1). فهذه أحاديث صحيحة صريحة بالجواز في البنيان، وحديث أبي موسى، وسلمان، وأبي هريرة، وغيرهما وردت بالنهي، فتحمل على الصحراء للجمع بين الأحاديث. ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث: أنه لا يصار إلى ترك بعضها، بل يجب الجمع بينها، والعمل بجميعها، وقد أمكن الجمع على ما ذكرناه، فوجب المصير إليه. وفرقوا بين الصحراء والبنيان من حيث المعنى؛ بأنه تلحقه المشقة في البنيان في تكليفه ترك القبلة، بخلاف الصحراء. وأما من أباح الاستدبار، ومنع الاستقبال، فحجته: أن حديث سلمان ليس فيه إلا الاستقبال، فبقي جواز الاستدبار على أصل الإباحة. قال صاحب «البيان والتقريب»: وهو ضعيف، فإنه إن سكت ¬
عنه في حديث، فقد صرح به في حديث آخر، فإن قالوا في حديث ابن عمر: إنه استدبر، قلنا: كان ذلك في البنيان، فأصح الأقوال ما قاله (¬1) مالك. إلا أني أقول: في تخصيص عمومات هذه الأخبار الواردة بالمنع مطلقًا بحديث ابن عمر نظر؛ فإنه إنما يخصص العموم بأمر (¬2) يغلب على الظن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قصد به أن يكون بيانا لتخصيص اللفظ (¬3) العام، ويبعد -في المعروف من عادته- أن يكون قصد أن يطلع عليه ابن عمر لينقل عنه ذلك للأمة، حتى يخصص لفظ (¬4) العام بذلك؛ فإنه -عليه الصلاة والسلام- كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، فكيف يقصد أن يرى في مثل هذه الحال؟! وقد كان إذا أراد الخلاء، أبعد في المذهب. لكن الجواب عن ذلك أن نقول: لعله عليه الصلاة والسلام كان عازما على أن يبين لهم تخصيص لفظه بغير هذا الفعل، فلما جلس ظانا أنه لا يراه أحد (¬5)، ثم رأى ابن عمر قد رآه، علم أنه يروي ذلك للناس، فيخصصون به عموم لفظه، فاكتفى بذلك، انتهى. ¬
قلت: وتعين أن يعتقد أن ابن عمر رضي الله عنه (¬1) لم يقصد الاطلاع على النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحال، وإنما كان ذلك منه على سبيل الاتفاق، وأنه لم ير إلا أعاليه - صلى الله عليه وسلم - دون أسافله. الثاني: اختلف أصحابنا في تعليله: فقيل: حرمة القبلة، وقيل: حرمة المصلين من الملائكة، والصحيح الأول؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أتى أحدكم البَراز، فليكرم قبلة الله، فلا يستقبلها، ولا يستدبرها» رواه الدارقطني (¬2). وينبني على ذلك مسألة: وهي ما إذا كان في الصحراء، وثمّ ساتر لا يلجئ (¬3)؛ فإن عللنا باحترام القبلة، فالمنع، وإن عللناه برؤية المصلين، فالإباحة (¬4). الثالث: هل الجماع كقضاء الحاجة أو لا، ينبني على محل العلة - أيضا -، هل (¬5): هو الخارج، فيجوز الجماع؛ إذ لا خارج، أو كشف ¬
العورة، فيمتنع إذا كشف. الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: «ولكن شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»: قال الخطابي، وغيره: هو محمول على محل يكون التشريق والتغريب مخالفًا لاستقبال القبلة واستدبارها؛ كالمدينة، والشام، والمغرب، وما في معناها من البلاد (¬1). الخامس: الشأم: -مهموز مقصور-، ويجوز: تخفيف الهمزة، ويجوز: الشآم - بفتح الشين والمد -، وهي ضعيفة، وإن كانت مشهورة. قال صاحب «المطالع»: وأنكرها أكثرهم (¬2)، وهو من العريش إلى الفرات طولاً، وقيل: إلى نابلس (¬3). وانتصابه على الظرفية، لا على المفعولية، أعني قوله: «فقدمنا الشام». السادس: قوله: «فننحرف عنها»: قيل: معناه: نحرص على اجتنابها بالميل عنها قدرتنا. السابع: قوله: «ونستغفر الله عز وجل»: قال صاحب «المفهم»: هذا دليل على أنه لم يبلغه حديث ابن عمر، أو لم يره مخصصا، ¬
وحمل (¬1) ما رواه على العموم (¬2). قلت: إن صح هذا الثاني، فهو يضعف قول بعض المتأخرين من أهل الأصول: إن العموم في الذوات مطلق في الزمان والمكان، والأحوال والمتعلقات، والراجح عند جماعة من المحققين خلافه. وقوله: «نستغفر الله»، قيل: لباني الكنف على هذه الصفة الممنوعة عنده، وإنما حملهم على هذا التأويل: أنه إذا انحرف (¬3) عنها، لم يفعل ممنوعا، فلا يحتاج إلى الاستغفار. ق: والأقرب أنه استغفار لنفسه، ولعل ذلك لأنه استقبل واستدبر (¬4) بسبب موافقته لمقتضى البناء غلطًا، أو سَهْوًا، فيتذكر، فينحرف، ويستغفر الله. قال: فإن قلت: فالغالط والساهي لم يفعل إثمًا، فلا حاجة للاستغفار. قلت: أهل الورع والمناصب العلية في التقوى، قد يفعلون مثل هذا، بناءً على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في التحفظ ابتداءً، والله أعلم، انتهى كلامه (¬5). ¬
* ولنذكر من آداب الاستنجاء ما تمس الحاجة إليه في حق كل مكلف: فمنها: الإبعاد عن أعين الناظرين بحيث لا يرى شخصه، ولا يسمع صوت خارجه. ومنها: أن يرتاد موضعا دمثًا؛ لئلا يتطاير عليه. ومنها: الستر بحيث لا يكشف عن عورته حتى يدنو من الأرض. ومنها: اتقاء المواضع المنهي عن ذلك فيها، وهي طرق المسلمين، وظلالهم، ومواردهم، والحجرة، والماء الراكد، والشجرة المثمرة. ومنها: أن يستعد ما يزيل به النجاسة. ومنها: أن يستعيذ بالله قبل التلبس، على ما تقرر. ومنها: أن يعتمد في جلوسه على يساره. ومنها: أن ينزع خاتمه، إذا كان فيه اسم الله تعالى. قال اللخمي: واختلف إذا كان في شماله خاتم فيه اسم الله تعالى، هل يستنجي وهو في يده؟ قال: وأن لا يفعل ذلك (¬1) أحسن؛ للحديث، وقد ثبت في «الصحيحين»: أنه نهى أن يمس الذكر (¬2) بيمينه (¬3)، فإذا نزهت اليد اليمنى ¬
عن ذلك، فذكر الله أولى وأعظم، وقد كره مالك أنتدفع الدراهم التي فيها اسم الله لكافر، فهذا أولى. قال ابن بزيزة من أصحابنا في «شرح الأحكام» لعبد الحق: وقعت في «العتبية» رواية منكرة مستهجنة، قال مالك: لا بأس أن يستنجي بالخاتم، وفيه (¬1) اسم الله تعالى، وهذه رواية لا يحل سماعها، فكيف العمل عليها؟! وقد كان الواجب أن تطرح «العتبية» كلها لأجل هذه الرواية وأمثالها؛ مما حوته من شواذ الأقوال التي لم تلف في غيرها، ولذلك أعرض عنها المحققون من علماء المذهب، حتى قال أبو بكر بن العربي حين حكى أن من العلماء من كره بيع كتب الفقه، وإن كان ففي (¬2) «العتبية». قال أبو بكر بن العربي - أيضا -: وقد كان لي خاتم فيه منقوش: محمد بن العربي، فتركت الاستنجاء به؛ إجلالاً لاسم محمد - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وروى الأوزاعي مثل ما وقع في «العتبية»، وقال الحسن: لا بأس أن يدخل (¬3) الخلاء، وفي إصبعه الخاتم (¬4). ¬
وقال إبراهيم النخعي: يدخل الناس الخلاء بالدراهم للضرورة (¬1)، وكره ذلك مجاهد في الدراهم والخاتم (¬2). وهذا الذي وقع في «العتبية» إنما هو (¬3) بناءً على أن الخاتم يحبس في الشمال، وقد اختلفت (¬4) الآثار في ذلك: فصح عن جماعة من العلماء أنهم كانوا يرون حبسه في اليمين. وروى بعض أصحاب قتادة، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تختم في يساره، ولا يصح، والصحيح أنه كان يتختم في يمينه، وهي رواية أنس، وعبد الله بن جعفر، وابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وصح عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمد: أنهم كانوا يتختمون في اليسار. وصح ذلك - أيضا - عن أبي بكر، وعمر، والحسن، والحسين (¬5). وخرج قاسم بن أصبغ عن علي، قال: نهاني (¬6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
أن أتختم في هاتين؛ يعني: السبابة، والوسطى (¬1). وروى ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كان يجعل فص خاتمه في باطن كفه في يمينه، رواه ابن وهب (¬2)،. والآثار فيه مختلفة (¬3). وفي مذهب مالك في المستحب من ذلك قولان: والصحيح: أنه يحبس في الشمال، ولا يستنجى به، وقد صح عن مالك: أنه كان لا يقرئ الحديث إلا على طهارة، فهذا يناقض ما وقع في «العتبية». قال بعض أصحاب مالك: كنا نأتي إلى باب داره، فنضرب عليه الباب، فيقول خادمه: يقول لكم الشيخ: الحديث تريدون أم المسائل؟ فإن قالوا: نريد (¬4) الحديث، دخل إلى مغتسله، واغتسل، ولبس أحسن ¬
ثيابه، وخرج، وإن قالوا: نريد المسائل، لا يبالي كيف يخرج، انتهى كلامه. ومنها: أن لا يتكلم في تلك الحال، ولا يرد سلاما، ولا يشمت عاطسا، ولا بأس أن يحمد الله إن عطس هو، هكذا نقله ابن رشد في «بيانه» عن ابن القاسم، ولا يحكي المؤذن. ومنها: أن لا يمس ذكره بيمينه، فإن فعل، فقد اختلف العلماء في ذلك، فقال أكثر الفقهاء: بئس ما صنع، واستنجاؤه مجزئ. قال ابن بزيزة: وقال بعض الشافعية، وأهل الظاهر: لا يجزئه الاستنجاء باليمنى؛ للنهي الثابت، قالوا: وهو ضعيف في النظر؛ لأن النهي تأديب، والمقصود حاصل. قلت: وهو كما قال. ومنها: أن لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها؛ لما تقرر، والله أعلم. * * *
الحديث الثالث
الحديث الثالث 13 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما، قَالَ: رَقِيْتُ يَوْماً عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ , فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ , مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ». (¬1). ¬
* التعريف: عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، القرشي، العدوي. كنيته: أبو عبد الرحمن، كان من فقهاء الصحابة ومفتيهم، وزهادهم، ومتورعيهم (¬1)، وممن اعتزل الفتنة، فلم (¬2) يقاتل مع أحد من (¬3) الفريقين تورعا لما أشكل عليه الأمر، ثم ندم على ترك القتال مع علي رضي الله عنه لما تبينت له الفئة الباغية، وقال لمن سأله: عففت يدي فلم أقاتل، والمقاتل على الحق أفضل (¬4). وقال عند موته: لا آسى على شيء من الدنيا إلا تركي لقتال الفئة الباغية (¬5). ¬
ولم يكن يتخلف عن سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أولع بالحج في الفتنة، وبعدها، وكان من أعلم الناس بالمناسك. وهو شقيق حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أمهما زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة الجمحية. وقيل: إنه أسلم قبل أبيه، قالوا: ولا يصح، بل كان ينكر ذلك، والصحيح أنه هاجر قبل أبيه، وقيل: بل هاجر معه، ولم يكن حينئذ بالغا، واستصغره النبي - صلى الله عليه وسلم - عام أُحُد، وهو ابن أربع عشرة، وأجازه في الخندق، وهو ابن خمس عشرة سنة. وقال الواقدي: استصغر (¬1) عام بدر، وأجازه عام أحد. والأول أصح. وُفتحت مكة وله عشرون سنة، وقيل: إنه أول من بايع بالحديبية بيعة الرضوان تحت الشجرة، ولم يصح. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخته حفصة: «إن أخاك رجل صالح لو أنه يقوم من الليل»، فلم يترك قيام الليل بعدها (¬2). قال جابر: ما منا إلا من نال من الدنيا، ونالت منه، إلا عمر وابنه (¬3). ¬
روي أنه رئي ساجدا في الكعبة، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنه لا يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدنيا إلا خوفك (¬1). وكان كثير الصدقة، ومن عادته إذا استحسن شيئًا من ماله، تصدق به، وكان رقيقه قد عرفوا منه ذلك، فكانوا يقبلون على الطاعة (¬2)، ويلازمون المسجد فيعتقهم، فقيل: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله، انخدعنا له (¬3).قال نافع: ما مات ابن عمر حتى أعتق (¬4) ألف إنسان، أو أزيد. روى ابن وهب عن مالك: أنه قال: بلغ ابن عمر ستا وثمانين سنة، وأفتى (¬5) في الإسلام ستين سنة، وروى عنه نافع علما جما. وروى ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: اجتمع في الحجر مصعب، وعروة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أما أنا، فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أما أنا، فأتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أما أنا، فأتمنى إمرة العراق، ¬
والجمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين، وقال ابن عمر: أما أنا، فأتمنى المغفرة، فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غُفر له (¬1). وذكر غير واحد منالعلماء: أنه توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين بعد ابن الزبير بثلاثة أشهر، وقيل: بستة (¬2) أشهر، وأوصى أن يدفن في الحل، فلم يقدر على ذلك من أجل الحجاج، فدفن بذي طوى. وكان ابن عمر يتقدم الحَجاج في المواقف وغيرها، وقال له -وقد خطب فأخر الصلاة-: إن الشمس لا تنتظرك، فقال: لقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك، فقال: إن تفعل، فإنك سفيه مسلط، فعز ذلك عليه، فأمر رجلاً فسم زج رمحه وزحمه، في الطواف، فوضع الزج على قدمه، فمرض منها أياما، فدخل عليه الحجاج، فقال: من فعل بك يا أبا عبد الرحمن؟! فقال (¬3): وما تصنع به؟ قال: قتلني الله إن لم أقتله، قال: لست بفاعل، قال: ولم؟ قال: لأنك الذي أمرت به (¬4). وروي عنه أنه قال: قتلني الذي أمر بإدخال السلاح الحرم، ولم يكن يدخل به. ومات، فصلى عليه الحجاج. ¬
روى عنه: أولاده: سالم، وحمزة، وعبد الله، وبلال، وابن ابنه محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، وابن أخي حفص بن عاصم بن عمر، ونافع مولاه، وعبد الله بن دينار، وزيد بن أسلم، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وطاوس بن كيسان اليماني، ومجاهد بن جبر - بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة وراء مهملة -، وسعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعمرو بن دينار، وخلْق سواهم. روي له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألف حديث، وست مئة وثلاثون حديثًا، اتفقا على مئة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بثمانين حديثًا، ومسلم بأحد وثلاثين حديثًا (¬1)، والله أعلم. * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: (رقي) - بكسر القاف- يرقى- بفتحها-: إذا صعد منبرا، أو سُلَّمًا، ونحو ذلك، وعكسه من الرقية، يقال: رقيت ¬
الرجل أرقيه (¬1). الثاني: قد تقدم الكلام في حديث أبي أيوب رضي الله عنه على الجمع بينه وبين هذا الحديث، وقد تقدم أيضا ذكر اختلاف مذاهب العلماء في ذلك بما يغني عن الإعادة، وتقدم أيضا الكلام على الشام. وأما الكعبة - شرفها الله تعال -، فهي البيت الحرام. قال الجوهري: سمي بذلك؛ لتربيعه (¬2). قلت: وأصل التكعب في اللغة: الارتفاع، ومنه الكاعب، وهي الجارية التي بدا ثديها للنهود، وكعوب الرمح: النواشر في أطراف الأنابيب، ومنه أيضا: الكعبان، وهما الناتئان عند ملتقى الساق والقدم. وأنكر الأصمعي قول الناس: إنه في ظهر القدم (¬3)، وقد أوضحت ذلك في شرح «الرسالة»، أعان الله على إكماله. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 14 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ الْخَلاءَ , فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلامٌ نَحْوِي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، وَعَنَزَةً , فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ (¬1). * * * ¬
الْعَنَزَةَ: الْحَرْبَةُ. * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «كان يدخل الخلاء»؛ أي: يريد دخول الخلاء، وقد تقدم أن الخلاء ممدود، وأنه الغائط، وظاهره هنا: البراح دون البنيان؛ لقرينة حمل العنزة للصلاة؛ فإن السترة إنما تكون في البراح؛ حيث يخشى المرور بين يديه؛ ولأنه لو كان المراد البنيان، لكان الذي يناسب ذلك خدمة أهل بيته من نسائه ونحوهن، دون الرجال (¬1). الثاني: فيه جواز استخدام الأحرار إذا كانوا أتباعا، أو أرصدوا أنفسهم لذلك (¬2). الثالث: قوله: «أنا وغلام»، قال أهل اللغة: الغلام: من فُطم إلى سبع سنين. قال أبو جعفر أحمد ابن محمد النحوي في «خلق الإنسان» له: وحكى ثابت ما دام الولد (4) في بطن أمه، فهو جنين، فإذا ولد، سمي صبيا ما دام رضيعا، فإذا فُطم سمي غلاما إلى سبع سنين، ثم يصير يافعا إلى عشر حجج، ثم حزورا إلى خمس عشرة سنة، ثم يصير فمدا إلى خمس وعشرين سنة (¬3)، ثم يصير عنطنطا إلى ثلاثين سنة، ثم ¬
يصير ملًا إلى أربعين سنة، ثم يصير كهلاً إلى خمسين سنة، ثم يصير شيخا إلى ثمانين سنة، ثم يصير بعد ذلك همًا فانيا كبيرا (¬1). وقد تقدم الفرق بين (نحو)، و (مثل) في حديث حمران (¬2) بما يغني عن الإعادة. يريد: نحوي في السن، لا غير، والله أعلم. الرابع: الإداوة: هي (¬3) المطهرة، والجمع الأداوى، مثل المطايا، قال الراجز: إذا الأداوى ماؤها تصبصبا قال الجوهري: وكان قياسه: أدائي، مثل رسالة ورسائل، فتجنبوه وفعلوا به ما فعلوا بالمطايا والخطايا، فجعلوا فعائل فعالى، وأبدلوا هنا الواو؛ لتدل على أنه قد كانت في الواحدة واو ظاهرة، فقالوا (¬4): أداوى، فهذه (¬5) الواو بدل من الألف الزائدة في إداوة، والألف التي في آخر الأداوى بدل من الواو التي في إداوة، وألزموا الواو هنا كما ألزموا الياء في مطايا (¬6). ¬
الخامس: قوله: «فيستنجي بالماء»: دليل على أن استعمال الماء أفضل من الاقتصار على الأحجار، وإن كان الأكمل الجمع بينهما، أعني: الماء والأحجار. وقد كره سعيد بن المسيب استعمال الماء، فإنه سئل عن الاستنجاء بالماء، فقال: إنما ذلك وضوء النساء (¬1). ق: والسنة دلّت على الاستنجاء بالماء في هذا الحديث وغيره، وهي (¬2) أولى من الاتباع)، ولعل سعيدا (¬3) رحمه الله فهم من أحد غلوًا في هذا الباب؛ بحيث يمنع الاستجمار بالحجارة، فقصد في مقابلته أن يذكر هذا اللفظ لإزالة ذلك الغلو، وبالغ بإيراده إياه على هذه الصيغة، وقد ذهب بعض الفقهاء من أصحاب مالك إلى أن الاستجمار بالحجارة إنما هو عند عدم الماء قلت: هو ابن حبيب. _قال: وإذا ذهب إليه بعض الفقهاء، فلا يبعد أن يقع لغيرهم ممن في زمن سعيد -رحمه الله-، وإنما استحب الاستنجاء بالماء؛ لإزالة العين والأثر معا، فهو أبلغ في النظافة، والله أعلم (¬4). ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 15 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْحَارِثِ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ، وَلا يَتَمَسَّحْ مِنْ الْخَلاءِ بِيَمِينِهِ، وَلا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ» (¬1). ¬
* التعريف: أبو قتادة: الحارث بن ربعي بن بلدمة- بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وفتح الدال (¬1) -، ويقال: بلدمة- بضم الباء الموحدة (¬2) والدال-، ويقال: بالذال المعجمة. فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد أحدا، والخندق، وما بعد ذلك من المشاهد. وقيل: اسمه عمرو بن ربعي، وهو مشهور بكنيته، غلبت عليه. مات بالمدينة سنة أربع وخمسين، وهو ابن سبعين سنة، وقيل: بالكوفة، سنة ثمان وثلاثين، والأصح الأول، وصلى عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ¬
وذكر ابن عبد البر: أن عَلِيًّا عليه السلام كبر عليه سبعا. وذكره الحافظ ابن قانع في «الوفيات» له، وابن طاهر المقدسي الحافظ في «رجال الصحيحين». روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث، وسبعون حديثًا، اتفقا منها على أحد عشر حديثًا، وانفرد البخاري بحديثين، وانفرد مسلم بثمانية أحاديث. روى عنه: ابنه عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعمرو بن سليم الزرقي، وعبد الله بن معبد الزماني (¬1) -بالزاي المعجمة المكسورة والميم المشددة-، وعطاء بن يسار. روى له الجماعة (¬2). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: هذا من الآداب النبوية الجامعة. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى (¬1) لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه، وما كان من أذى (¬2). وروينا في «الحلية الكبرى» لأبي نعيم الحافظ: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: ما تغنيت ولا تمنيت -يعني: كذبت -، وما مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وهذا من التقوى والأدب، الذي يؤيد الله به من يشاء من عباده المتقين. وروي (¬5) عن علي رضي الله عنه: أنه قال: يميني لوجهي، وشمالي لحاجتي. وقد امتخط ابنه الحسن بيمينه عند معاوية فأنكر عليه (¬6)، فقال له: بشمالك. ¬
ولا (¬1) مفهوم لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «وهو يبول»؛ إذ المعنى على (¬2) النهي مطلقًا، في حال البول وغيره، بل قد وردت رواية أخرى في النهي عن مسه باليمنى غير مقيدة ببول ولا غيره (¬3)؛ تنزيها لليمين، وتكريما لها عن الشمال. ق: وقد يسبق إلى الفهم أن العام محمول على الخاص، فيختص (¬4) النهي بهذه الحالة. وفيه بحث؛ لأن هذا الذي يتجه في باب الأمر والإثبات. قالوا: لو جعلنا الحكم للمطلق في صورة الإطلاق مثلاً، كان فيه إخلال باللفظ الدال على المقيد، وقد تناوله لفظ الأمر، وذلك غير جائز. وأما في باب النهي، فإذا جعلنا الحكم للمقيد، أخللنا بمقتضى اللفظ المطلق، مع تناول النهي له، وذلك غير سائغ، هذه كلها بعد مراعاة أمر من صناعة الحديث، وهو أن ينظر في الروايتين، أعني: رواية الإطلاق، والتقييد، هل هما حديثان، أو حديث مخرجه واحد؟ فإن كانا حديثين، فالأمر على ما ذكرناه في حكم الإطلاق والتقييد. ¬
وإن كان حديثًا واحدا مخرجه واحد، اختلف (¬1) [عليه] الرواة، فينبغي حمل المطلق على المقيد؛ لأنها تكون زيادة من عدل في حديث واحد، فتقبل، وكذلك (¬2) -أيضا - يكون بعد النظر في دلالة المفهوم، وما لايعمل به، وبعد أن ينظر في تقديم المفهوم على ظاهر العموم، انتهى (¬3). قلت: وهذا كلام حسن، وتفصيل جيد كما ترى. الثاني: جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، على أن النهي على الكراهة دون التحريم، وإن كان ظاهر الحديث التحريم، وكذلك (¬4) حمله أهل الظاهر على التحريم (¬5)، فقالوا: لا يجوز مس الذكر باليمين إلا من ضرورة، والعجب منهم أنهم أجازوا مس المرأة فرجها بيمينها وشمالها، وأجازوا لها مس ذكر زوجها بيمينها وشمالها، وأجازوا مس الخاتن ذكر الصغير للختان باليمين، وكذا الطبيب، وحرموا مس الإنسان ذكره (¬6). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ولا يتمسح من (¬7) الخلاء ¬
بيمينه»، معنى التمسح هنا: الاستنجاء، فيدخل فيه القبل والدبر، وقد تقدم أن الخلاء ممدود، وهو الغائط. وقد اختلف أصحاب الشافعي رحمه الله في كيفية التمسح في القبل إذا كان الحجر صغيرا، لا بد من إمساكه بإحدى اليدين، فمنهم من قال: يمسك الحجر باليمنى، وتكون الحركة باليسرى واليمنى قارة، ومنهم من قال: يأخذ الذكر باليمنى (¬1)، والحجر باليسرى، ويحرك اليسرى، والأول أشبه بظاهر الحديث (¬2)، ولم أر لأصحابنا في ذلك نصا صريحا. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ولا يتنفس في الإناء»: النهي - أيضا - على الكراهة -كما تقدم-، وذلك حمل لأمته - صلى الله عليه وسلم - على مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب؛ لأنه إذا تنفس في الإناء، ربما انفصل من ريقه شيء، فيعافه الغير، ويستقذره، هذا مع ما في ذلك من الضرر (¬3)، فهو مكروه نزاهة وطبا، ولا يختص ذلك بالشراب، بل بالطعام (¬4)، والكتاب كذلك، أعني: أنه يكره النفخ فيهما كالشراب، أما الشراب: فكما تقدم، وأما الطعام والكتاب فللاحترام والتنزيه. والتنفس في معنى النفخ، يدل على ذلك حديث مالك رضي الله عنه: أن ¬
أبا سعيد الخدري رضي الله عنه دخل على مروان بن الحكم، فقال له مروان: أسمعت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب؟ فقال أبو سعيد: نعم، فقال رجل: يا رسول الله! إني لا أروى من نفس واحد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَأَبِن القدح عن فيك، ثم تنفس»، قال: إني أرى القذى فيه، قال: «فأهرقه» (¬1). قال بعض من شرح هذا الحديث: قوله: «نهى عن النفخ في الشراب»، المعنى: ما ذكرناه في التنفس، وهو خشية أن يقع من ريقه شيء، وقول الرجل: يا رسول الله! إني لا أروى من نفس واحد، يقتضي أن التنفس (¬2) في الإناء في معنى النفخ يتقذره الناظر (¬3)، كما ذكرناه. قلت: ومن آداب الشرب: أن يمص الماء مصا، ولا يعبه، كما في الحديث. وظاهر حديث مالك المذكور آنفًا جواز الشرب من نفس واحد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على الرجل القائل: إني لا أروى من نفس واحد، بل أقره عليه، فاقتضى ذلك إباحته، وإن كان الأولى التنفس ثلاثًا؛ أعني: ¬
أن يبِين الإناء عن فيه ثلاث مرات، ويتنفس في كل مرة، فإنه أهنأ وأمرأ؛ كما في الحديث (¬1). فائدة: التنفس يستعمل حقيقة ومجازا: فالحقيقة؛ كقولنا: تنفس الرجل، وتنفس الصعداء. قال الجوهري: وكل ذي رئة متنفس، ودواب الماء لا رئات لها. والمجاز؛ كقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18]؛ أي: تَبَلَّجَ، وكذا: تنفست (¬2) القوس: إذا تصدعت، وتنفس النهار، إذا زاد، وكذلك الموج: إذا نضح الماء، والله أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 16 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَبْرَيْنِ , فَقَالَ: «إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ , وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا، فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ , وَأَمَّا الآخَرُ، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»، فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً , فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ , فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا» (¬1). ¬
* التعريف: عبد الله بن عباس: هو أبو العباس بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، الهاشمي، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخي أبيه، حبر الأمة، وبحر العلم، أبو الخلفاء، وترجمان القرآن، ولد وبنو هاشم في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين. وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقد ناهز الاحتلام، وقيل: ابن عشر سنين، وقيل: ابن خمس عشرة سنة، قاله (¬1) أحمد بن حنبل. قيل (¬2): وهو الأصح (¬3)، والذي عليه أهل التواريخ هو الأول. وروى الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عنه، في حجة الوداع: ¬
أنه قال: وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام (¬1)، وهو يشهد لذلك. وروي عنه: أنه قال: قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ختن، ولم يثبت. وقيل: إنهم كانوا يختتنون بالبلوغ. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه (¬2) أنه قال: «اللهم فَقِّههُّ في الدين، وعلمه التأويل» (¬3). وروي عنه أنه قال (¬4): «اللهم عّلمه الحكمة، وتأويل القرآن» (¬5). وروي عنه أنه قال: «اللهم بارك فيه، وانشر منه، واجعله من عبادك الصالحين» (¬6). ¬
وأنه قال: «اللهم زده علِمًا وفقها» (¬1). وهي أحاديث صحاح كلها. وروى مجاهد عنه: أنه قال: رأيت جبريل عليه السلام مرتين، ودعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين (¬2). وكان عمر يقول: ابن عباس فتى (¬3) الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول (¬4). وكان يحبه ويدخله مع كبار الصحابة، ويستشيره، ويعده للمعضلات. وروى مسروق، عن ابن مسعود، قال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس، لو أدرك أسناننا، ما عاشره منا أحد (¬5). وقال طاوس: أدركت نحو خمس مئة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا خالفوا ابن عباس، لم يزل يقررهم حتى يرجعوا إلى ما قال (¬6). ¬
وعن مسروق، قال: كنت إذا رأيت ابن عباس، قلت: أحكم الناس، وإذا تكلم، قلت: أفصح الناس، وإذا حدث، قلت: أعلم الناس (¬1). وقال محمد بن القاسم: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلاً قط، وما سمعت فتوى أشبه بالسنة من فتواه (¬2). وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مجلسا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس (¬3). وقال يزيد بن الأصم: خرج ابن عباس حاجا مع معاوية، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب لمن يطلب العلم (¬4). وقال شقيق: خطبنا ابن عباس وهو على الموسم، فافتتح سورة النور، فجعل يقرأ ويفسر، فقلت: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، لو رآه الروم وفارس والترك، لأسلمت (¬5). وكان ابن عباس قد عمي في آخر عمره. وروي أنه رأى رجلاً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعرفه، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
عنه، فقال: «أرأيته؟»، قال: نعم، قال: «ذاك جبريل، أما إنك ستفقد بصرك»، وفي ذلك يقول: إِنْ يَأْخُذِ اللَّه مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا ... فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي مِنْهُمَا نُورُ قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ ... وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ (¬1) وعن ميمون بن مهران، قال: شهدت جنازة ابن عباس، فلما وضع ليصلى عليه، جاء طائر أبيض حتى وقع على أكفانه، ثم دخل، فالتمس، فلم يوجد، فلما سوي عليه، سمعنا من يسمع صوته ولا يرى شخصه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30] (¬2). روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث، وست مئة وستون حديثًا، اتفقا منها على خمسة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين حديثًا، ومسلم بتسعة وأربعين. روى عنه: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل عامرو بن واثلة، وثعلبة بن الحكم، وأبو أمامة ابن سهل بن حنيف، وأخوه كثير بن العباس، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وكريب، وعكرمة، وشعبة، ونافذ ¬
أبو معبد مواليه، وطاوس، وكيسان، وابن (¬1) علي بن عبد الله بن عباس، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبد الله بن عوف الزهري، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وخلق سواهم. مات بالطائف سنة ثمان وستين، في أيام ابن الزبير، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة سبعين، والأول أكثر، وأشهر، وكان سنه يوم مات إحدى وسبعين سنة، وقيل: اثنتان وسبعون، وقيل: أربع وسبعون، وصلى عليه محمد بن الحنفية، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة (¬2). روى له الجماعة رضي الله عنهم (¬3). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «إنهما»: من الضمير الذي يفسره سياق الكلام؛ إذ ليس في اللفظ ما يعود عليه الضمير، فهو من باب قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وأشباه ذلك، و (أن) يجوز أن تكون مبتدأة، ويجوز أن تكون جوابا لقسم محذوف، أي: والله إنهما ليعذبان. الثاني: فيه نص صريح على إثبات عذاب القبر - أجارنا الله منه (¬1) - كما هو مذهب أهل السنة، وقد اشتهرت الأخبار بذلك. ق (¬2): وفي إضافة عذاب القبر إلى البول خصوصية تخصه دون سائر المعاصي، مع العذاب بسبب (¬3) غيره - أيضا -، وإن أراد الله ذلك في [حق] بعض عباده، وعلى هذا جاء الحديث: «تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» (¬4)، وكذا (¬5) جاء - أيضا -: أن بعض من ذُكر عنه (¬6) أنه ضمه القبر أو ضغطه، فسئل أهله، فذكروا أنه كان منه (¬7) ¬
تقصير في الطهور (¬1). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وما يعذبان في كبير» هكذا هو في مسلم، وجاء في رواية البخاري: «وإنه لكبير، كان أحدهما لا يستتر من البول»، الحديث، ذكره في كتاب: الأدب، في باب: النميمة من الكبائر، وفي كتاب: الوضوء من البخاري - أيضا -: «وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير»، فثبت هاتين الزيادتين الصحيحتين أنه كبير، فذكر العلماء في ذلك ثلاث تأويلات: أحدها: «وما يعذبان في كبير» في زعمهما. الثاني (¬2): «في كبير» تركه. والثالث: ما قاله ع؛ أي: ليس ذلك بأكبر الكبائر (¬3). ح: فعلى هذا يكون المراد بهذا: الزجر والتحذير لغيرهما؛ أي: لا يتوهم أحد أن التهذيب لا يكون إلا في الكبائر الموبقات، فإنه يكون في غيرهما (¬4)، والله أعلم. وسبب كونهما كبيرين: أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة، وتركها كبيرة بلا شك، والمشي بالنميمة، والسعي بالفساد ¬
من أقبح القبائح، لا سيما مع قوله - صلى الله عليه وسلم - «كان يمشي بالنميمة» بلفظ (كان) التي هي للحال المستمرة غالبا، والله أعلم (¬1). تنبيه: (في) من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «في كبير» للسبب؛ أي: وما يعذبان بسبب أمر كبير، وقد أنكر أن تكون «في» للسبب جماعة من الأدباء، والصحيح ثبوته؛ لهذا الحديث، ولقوله -صلى الله عليه وسلم: «في النفس المؤمنة مئة من الإبل» (¬2)؛ فإن النفس ليست ظرفًا للإبل، وكذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث الإسراء: «فرأيت في النار امرأة حميرية عجل بروحها إلى النار؛ لأنها حبست هرة (¬3) حتى ماتت جوعا وعطشا، فدخلت النار فيها» (¬4)، معناه: بسببها؛ لأنها ليست في الهرة، وكذلك قولهم: أحب في الله، وأبغض في الله؛ أي: أحب بسبب طاعة الله، وأبغض بسبب معصية الله. الرابع: (أما) حرف تفصيل، نائب عن حرف الشرط وفعله، ¬
وبيان ذلك أن يقول القائل: زيد عالم، كريم شجاع - مثلاً (¬1) -، فيعدد أوصافًا لا يعلم السامع إلا بعضها، فيقول حينئذ: أما زيد، فعالم، أي: وفي الباقي نظر، ففصل (¬2) ب (أما) ما أجمله الأول، هذا معنى التفصيل. وأما كونه نائبا عن حرف الشرط وفعله، فإن معنى قولنا: أما زيد فعالم: مهما يكن (¬3) من شيء، فزيد عالم، فناب أما مناب حرف الشرط، وهو (مهما)، والمجزوم (¬4) وهو (يكن) وما تضمنه من الفاعل، فلذلك ظهر بعده الجواب، ولم يظهر الشرط؛ لقيامه مقامه، وأجيب بالفاء كما يجاب الشرط (¬5)، وجوابه هنا (¬6) الفاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فكان يمشي بالنميمة». ولتعلم أن (أما) المفتوحة الهمزة تستعمل في الكلام على وجهين: أحدهما: ما تقدم. والثاني: أن تكون بمعنى كان، فترفع الاسم، وتنصب الخبر، ومنه قول الشاعر: [البسيط] ¬
أَبَا خُرَاشَةَ أَمَّا أَنْتَ ذَا نَفَرٍ ... فَإِنَّ قَوْمِيَ لَمْ تَأْكُلْهُمُ الضَّبُعُ (¬1) أي: لئن كنت ذا نفر، ف (أنت) اسمها، و (ذا) خبرها؛ لقيامها مقام كان. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يستتر من البول» فيه ثلاث روايات: «لا يستتر من البول» -بتاءين-، و «يستنزه» -بالزاي والهاء-، و «يستبرئ» -بالباء الموحدة، [و] بالهمز بعد الراء، وهذه الثلاثة في البخاري وغيره، ومعناها (¬2): لا يتجنبه، ولا يتحرز منه. ق: وهذه اللفظة -أعني: (يستتر) -اختلف فيها الرواة على وجوه، وهذه اللفظة تحتمل وجهين: أحدهما: أن تحمل على حقيقتها؛ من الاستتار عن الأعين، ويكون العذاب على كشف العورة. والثاني: -وهو الأقرب-: أن تحمل على المجاز، ويكون المراد بالاستتار: التنزه عن البول، والتوقي منه، إما بعدم ملابسته، وإما بالاحتراز عن مفسدة تتعلق به؛ كانتقاض الطهارة، وعبر عن التوقي بالاستتار مجازا، ووجه العلاقة بينهما: أن المستتر عن الشيء فيه بعد عنه واحتجاب، وذلك شبيه بالبعد عن ملابسة البول، وإنما (¬3) رجحنا ¬
المجاز- وإن كان الأصل الحقيقة -لوجهين (¬1): أحدهما: أنه لو كان المراد العذاب على مجرد كشف العورة، كان ذلك سببا مستقلاً أجنبيا عن البول؛ فإنه حيث حصل الكشف للعورة، حصل العذاب المرتب عليه، وإن لم يكن ثمّ بول، فيبقى تأثير البول بالنسبة إلى عذاب القبر بخصوصه مطرحا عن الاعتبار، والحديث (¬2) يدل على أن للبول (¬3) بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، فالحمل على ما يقتضيه الحديث المصرح بهذه الخصوصية أولى، وأيضا: فإن لفظه (من) لما أضيفت إلى البول، وهي لابتداء الغاية حقيقة، أو ما يرجع إلى معنى ابتداء (¬4) الغاية مجازا، يقتضي نسبة الاستتار الذي عدمه سبب (¬5) العذاب إلى البول، بمعنى: أن ابتداء سبب عذابه من البول، وإذا حملناه على كشف العورة، زال هذا المعنى. والوجه الثاني: أن بعض الروايات في هذه اللفظة تشعر بأن المراد: التنزه من البول، وهي رواية وكيع: (لا يتوقى)، وفي رواية بعضهم: (لا يستنزه)، فتحمل هذه اللفظة على تلك؛ ليتفق معنى (¬6) الروايتين (¬7). ¬
قلت: فتكون أربع روايات، وتزاد إلى الثلاثة المتقدمة: (لا يتوقى)، على ما ذُكر. السادس: النميمة: فعيلة من نمّ الحديث، ينمه، وينمه: إذا قته، أي: نقله عن المتكلم به إلى غيره (¬1)، وهي حرام بإجماع إذا قُصد بها الإفساد بين المسلمين، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على تحريمها، قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، وقال تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]، وروينا في «صحيحي» البخاري ومسلم، عن حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدخل الجنة نمام» (¬2)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة. قال الغزالي رحمه الله تعالى: النميمة إنما تطلق في الغالب على من ينم قول الغير إلى المقول فيه،؛كقوله: فلان يقول فيك كذا، وليست النميمة مخصوصة بذلك، بل حدها كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو ثالث، وسواء كان الكشف بالقول، أو الكناية، أو الرمز، أو بالمكاتبة أو الرمز (¬3) الإيماء (¬4)، أو نحوها، ¬
وسواء كان المنقول من الأقوال أو الأعمال، وسواء كان عيبا، أو غيره، فحقيقة النميمة: إفشاء السر، وهتك الستر (¬1) عما يكره كشفه. قال: وينبغي للإنسان أن يسكت (¬2) عن كل ما يراه من أحوال الناس، إلا ما (¬3) في حكايته فائدة لمسلم، أو دفع معصية، وإذا رآه يخفي مال نفسه، فذكره، فهو نميمة. قال: فكل من حملت إليه نميمة، وقيل له: قال فيك فلان كذا، لزمه (¬4) ستة أمور: الأول: أن لا يصدقه؛ لأن النمام فاسق، وهو مردود الخبر. الثاني: أن ينهاه عن ذلك، وينصحه، ويقبح فعله. الثالث: أن يبغضه في الله تعالى؛ فإنه بغيض عند الله تعالى، والبغض في الله تعالى واجب. الرابع: أن لا يظن بالمنقول عنه السوء؛ لقول الله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]. الخامس: ألا يحمله ما حكي له (¬5) على التجسس، والبحث ¬
عن تحقيق ذلك، قال الله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]. السادس: ألا يرضى لنفسه ما نهى (¬1) النمام عنه، فلا يحكي نميمته، انتهى (¬2). وقد حكي أن رجلاً ذكر لعمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- رجلاً بشيء، فقال عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا، فأنت من أهل هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقًا، فأنت من أهل هذه الآية {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]، وإن شئت، عفونا عنك، قال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه (¬3) أبدا (¬4). وحكى ح: أن إنسانا رفع إلى الصاحب ابن عباد رقعة يحضه فيها على أخذ مال يتيم، وكان مالاً كثيرا (¬5)، فكتب على ظهرها: النميمة قبيحة، وإن كانت صحيحة، والميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمرة الله، والساعي لعنه الله (¬6). السابع: وأما وضعه (¬7) الجريدتين على القبرين، فقال العلماء: ¬
هو محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - سأل الشفاعة لهما، فأجيبت شفاعته - صلى الله عليه وسلم - للتخفيف عنهما إلى أن ييبسا. وقد ذكر مسلم -رحمه الله تعالى- في آخر الكتاب في الحديث الطويل، حديث جابر في صاحبي (¬1) القبرين: «فأجيبت شفاعتي أن يرفه (¬2) عنهما ما دام الغصنان (¬3) رطبين» (¬4). وقيل: يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو لهما تلك المدة. وقيل لكونهما يسبحان ما داما رطبين، وليس لليابس تسبيح، وهذا مذهب كثيرين، أو (¬5) الأكثرين من المفسرين في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، قالوا: معناه (¬6): وإن من شيء حي، ثم قالوا: حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشب ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع. وذهب المحققون من المفسرين وغيرهم إلى أنه على عمومه. ثم اختلف هؤلاء: هل يسبح حقيقة، أم فيه دلالة على الصانع، ¬
فيكون مسبحا منزها بصورة حاله؟ والمحققون على أنه يسبح حقيقة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى فقال: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، وإذا كان العقل لا يحيل جعل التمييز فيها، وجاء النص به، وجب المصير إليه، والله أعلم. واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر؛ لهذا الحديث؛ لأنه إذا كان يرجى التخفيف لتسبيح الجريد، فبتلاوة (¬1) القرآن أولى، والله أعلم. وقد ذكر البخاري في «صحيحه»: أن بريدة بن الحصيب الصحابي- رضي الله عنه -أوصى (¬2) بأن يجعل في قبره جريدتان (¬3)، ففيه: أنه- رضي الله عنه- تبرك بفعل مثل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أنكر الخطابي ما يفعله (¬4) الناس على القبور من الأخواص (¬5) ونحوها، متعلقين بهذا الحديث، وقال: لا أصل له، ولا وجه له (¬6). ¬
وقال القرطبي في «تذكرته»: قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: ويستفاد من هذا- يشير إلى وضع الجريدتين- غرس الأشجار، وقراءة القرآن على القبور، وإذا خّفف عنهم بالأشجار، فكيف بقراءة (¬1) الرجل المؤمن القرآن (¬2)؟! والعجب من الخطابي -رحمه الله- في قوله: لا أصل له، ولا وجه له، مع هذا الحديث المتفق عليه، والله سبحانه أعلم. * * * ¬
باب السواك
باب السواك الحديث الأول 17 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه، - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي؛ لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضَوءٍ (¬1)» (¬2). ¬
قال أهل اللغة: السواك: - بكسر السين -، وهو يطلق على الفعل، وعلى العود الذي نتسوك به، وهو مذكر، وقيل: يذكر (¬1) ويؤنث، والأول هو الصحيح، يقال: ساك فاه، يسوكه سوكًا، فإن قلت: استاك، لم تذكر الفم، وجمع السواك: سُوُك - بضمتين - ككتاب، وكُتُب. ح: وذكر صاحب «المحكم» (¬2): أنه يجوز - أيضا - سؤك بالهمز (¬3). قلت: وهو القياس في كل واو مضمومة ضمة لازمة، نحو وقتت، وأقتت، وسماع في المفتوحة اتفاقًا، قالوا: ولم يجئ من ذلك إلا كلمتان: أحد في وحد، وإناة في وناة، وهي المرأة البطيئة القيام، وهل ذلك في المكسورة (¬4) قياس أو سماع؟ خلاف. ثم قال (¬5): ثم قيل: إن السواك مأخوذ من ساك: إذا دلك، وقيل من: جاءت الإبل تساوك، أي: تتمايل هزالاً. ¬
وهو في اصطلاح العلماء: استعمال عود ونحوه في الأسنان (¬1)؛ لتذهب الصفرة وغيرها عنها، انتهى (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: السواك مطلوب في الشرع على سبيل الندب، وليس بواجب بإجماع (¬3) من يعتد به في الإجماع، وقد (¬4) حكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني من الشافعية، عن داود الظاهري: أنه أوجبه للصلاة، وحكاه - أيضا - الماوردي عنه، وقال: هو عنده واجب، لو تركه لم تبطل صلاته. وحكي - أيضا - وجوبه عن إسحاق بن راهويه، والإبطال بتركه عمدا. ح: وقد أنكر بعض أصحابنا المتأخرين على الشيخ أبي حامد وغيره نقل الوجوب عن داود، وقالوا (¬5): مذهبه أنه سنة؛ كالجماعة، قال: ولو صح إيجابه عن داود، لم تضر مخالفته في انعقاد الإجماع، على المختار الذي عليه المحققون والأكثرون. قال: وأما إسحاق، فلم يصح هذا المحكي عنه، والله أعلم (¬6). ¬
قلت: وهو عندنا من فضائل الوضوء، ووقته قبل الوضوء، ولا يكره الاستياك عندنا في وقت من الأوقات لصائم ولا لغيره، بل يستاك الصائم عندنا أول النهار، ووسطه، وآخره. وقالت الشافعية: يكره الاستياك للصائم بعد الزوال خوف إزالة رائحة الخلوف المستحبة، وسيأتي الكلام (¬1) في شيء من هذا بعد. قالوا: ويتأكد استحبابه في خمسة أوقات: [الأول]: عند الصلاة، سواء كان متطهر بها بماء، أو تراب، أو غير متطهر؛ كمن لم يجد ماء ولا ترابا. الثاني: عند الوضوء. الثالث: عند قراءة القرآن. الرابع: عند الاستيقاظ من النوم. الخامس: عند تغير الفم، وتغيره يكون بأشياء، منها: ترك الأكل والشرب، ومنها: ما له رائحة كريهة، ومنها: طول السكوت، ومنها: كثرة الكلام (¬2). وأما سر (¬3) مشروعيته: فقيل: إن العبد إذا قام إلى الصلاة يقرأ القرآن، لا يزال الملك يدنو منه حتى يستقبله إعجابا منه بالقرآن، ¬
فيضع فاه على فيه، فلا تخرج آية إلا في جوف ملك، فأُمر بالسواك لتطيب (¬1) الفم للملائكة الذين معك، حافظيك، والملك الذي يستقبلك ويضع فاه على فيك، وقد قال (¬2) -عليه الصلاة والسلام-: «من أكل من هاتين الشجرتين - يعني: الثوم والكراث- فلا يقرب مسجدنا»، قيل: يا رسول الله! فإذا (¬3) كان أحدنا خاليا؟ فقال (عليه الصلاة والسلام): «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه (¬4) ابن آدم» (¬5). هذا كلام الحكيم الترمذي رحمه الله تعالى في بعض كتبه. وقال ابن عباس رضي الله عنه: في السواك عشر خصال: يذهب الحفر، ويجلو البصر، ويشد اللثة، ويطيب الفم، وينقي البلغم، وتفرح له الملائكة، ويرضي الرب- تبارك وتعالى-، ويوافق السنة، ويزيد في حسنات الصلاة، ويصح الجسم (¬6). وزاد الحكيم الترمذي: ويزيد الحافظ حفظًا، وينبت الشعر، ويصفي اللون. ¬
وأحسن ما يستاك به: الأراك رطبا أو يابسا، إلا الصائم، فإنه يكره له أن يستاك (¬1) بالأخضر الذي يجد له طعما، وأما الجوزة المحمرة، فحرام للصائم، فإن لم يجد الأراك؛ فبشيء خشن، ويجزئ) (¬2) عندنا الأصبع (¬3). وللشافعية فيه خلاف، قالوا: إن كانت لينة، لم يحصل بها السواك، وإن كانت خشنة، فثلاثة أوجه: المشهور: لا تجزئ. والثاني: تجزئ. والثالث: تجزئ إن لم يجد غيرها (¬4). ويستحب أن يكون السواك متوسطًا بين الليونة واليبوسة، وينبغي أن يستاك عرضا؛ فإن الشيطان يستاك طولاً، إلا في اللسان، فإنه يستاك فيه (¬5) طولاً. وينبغي أن يبدأ بالسواك من الجانب الأيمن (¬6) من فيه. قال الترمذي الحكيم رضي الله عنه: وتجعل الخنصر من يمينك أسفل السواك ¬
تحته، والبنصر والوسطى والسبابة فوق السواك، والإبهام أسفل السواك تحته (¬1)، ولا تقبض القبضة على السواك، فإن ذلك يورث البواسير. ح: ويستحب أن يمر (¬2) السواك على أطراف أسنانه، وكراسي أضراسه (¬3)، وسقف حلقه إمرارا لطيفًا (¬4). قال الترمذي الحكيم: وابلع ريقك من أول ما تستاك به (¬5)؛ فإنه ينفع من الجذام، والبرص، وكل داء سوى الموت، ولا تبلع بعده شيئًا؛ فإنه يورث الوسوسة، يرويه علاثة. ولا تمص السواك مصا (¬6)؛ فإن ذلك يورث العمى. قال: ولا تضع (¬7) السواك إذا وضعته عرضا، وانصبه نصبا؛ فإنه (¬8) يروى عن سعيد بن جبير، قال: من وضع سواكه بالأرض، فجن من ذلك، فلا يلومن إلا نفسه. قال: ويروى عن كعب: أنه قال: من أحب أن يحبه الله، فليكثر ¬
من السواك والتخلل؛ فالصلاة بهما مئة (¬1) صلاة. قال: ويروي خالد (¬2) عن أبيه، قال: السواك شطر الوضوء، والوضوء شطر الصلاة، والصلاة شطر الإيمان. قلت: وهذه آداب حسنة ينبغي تعاهدها في السواك؛ فإن ذلك لا يجلب إلا خيرا، والله أعلم. الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك). اعلم أن كلمة (لولا) تستعمل في كلام العرب على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف تخصيص، بمعنى هلا، فلا يليها إلا الأفعال؛ نحو: لولا صليت، لولا (¬3) تصدقت، ومنه قوله تعالى: {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف: 15]، و (¬4) {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]، وأشباه ذلك من الآي وغيرها. والثاني: أن يكون حرفًا يدل على امتناع الشيء لوجود غيره، كما هي في هذا الحديث، إذ المعنى: امتنع أمري بالسواك لوجود المشقة الحاصلة، فهذه لا يليها إلا الأسماء، عكس التي قبلها، تقول: لولا زيد، لأكرمتك؛ أي: امتنع إكرامي إياك لوجود زيد. ¬
ومعنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لأمرتهم بالسواك»: لأمرتهم أمر إيجاب وإلزام، وإلا، فمعلوم أنا مأمورون (¬1) به على طريق الندب، كما تقدم، وهو مذهب أكثر الفقهاء، وجماعات (¬2) من المتكلمين، وقد أخذ بعض الأصوليين من هذا أن الأمر يقتضي الوجوب، وهو الصحيح، ما لم تقترن به قرينة تصرفه عن ذلك، ووجه الاستدلال منه: أن الممتنع (¬3) لأجل المشقة إنما هو الوجوب دون الاستحباب- كما تقدم-، فاقتضى ذلك أن يكون الأمر للوجوب، والله أعلم (¬4). الثالث: هذا الحديث بظاهره يقتضي عموم استحباب الاستياك عند كل صلاة، فيدخل في ذلك الظهر والعصر، للصائم وغيره، وقد تقدم ذكر كراهية الشافعية الاستياك للصائم بعد الزوال، وهو ضعيف. ق: ومن يخالف في تخصيص عموم هذا الحديث، يحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به هذا العموم، وفيه بحث (¬5). الرابع: في ظاهر الحديث دليل لمن يرى (¬6) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له أن يحكم ¬
بالاجتهاد؛ لكونه -عليه الصلاة والسلام- جعل المشقة سببا لعدم أمره، ولو كان الحكم موقوفًا على النص، لكان (¬1) سبب انتفاء أمره - صلى الله عليه وسلم - عدم ورود النص به، لا (¬2) وجود المشقة (¬3). وقد اختلف الأصوليون في هذه المسألة على أربعة أقوال: ثالثها: كان له - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد في الحروف والآراء دون الأحكام. ورابعها: الوقف. والمسألة مبسوطة في كتب الأصول، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 18 - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ النبي (¬1) - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ، يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ (¬2). ¬
[«يشوص» معناه: يغسل. يقال: شاصه يشوصه، وماصه يموصه: إذا غسله]. * التعريف: حذيفة بن اليمان: واليمان اسمه (¬1): حسيل، ويقال: حسل (¬2) - بكسر الحاء وإسكان السين -، واليمان لقبه، أعني: اليمان بن جابر بن عمرو العبسي، القطعي، حليف بني (¬3) عبد الأشهل، يكنى: أبا عبد الله. وأمه: الرباب بنت كعب بن عدي، امرأة من الأنصار، من الأوس، من بني (¬4) عبد الأشهل، وإنما لُقِّب أبوه حسيل (¬5) باليمان؛ لأن جروة بن الحارث جده، كان أصاب في قومه دما، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد (¬6) الأشهل، فسماه قومه اليمان؛ لأنه حالف باليمانيةة (¬7). شهد حذيفة وأبوه حسيل (¬8)، أُحُدًا، وقتل أبوه، قتله بعض المسلمين ¬
خطأً، وهو يحسبه من المشركين، فتصدق بدم أبيه وديته على المسلمين، وأراد أن يشهد بدرا، فاستحلفهما المشركون - أعني: حذيفة وأباه - أن لا يشهداها (¬1) مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحلفا لهم، ثم سأل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم» (¬2). وكان حذيفة من كبار (¬3) أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ينظر إلى قريش، فجاءه (¬4) بخبر رحيلهم. وهو مهاجري (¬5)، هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخيره بين الهجرة والنصرة، فاختار النصرة، وأعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - المنافقين بأسمائهم وأعيانهم، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب سرية وحده، وكان يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشر ليجتنبه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن المنافقين، وهو معروف في الصحابة ب: صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان (¬6) عمر ينظر إليه عند موت من مات من المنافقين، فإن لم يشهد جنازته حذيفة، لم يشهدها عمر. ¬
وشهد رضي الله عنه نهاوند، فلما قُتل النعمان بن مقرن، أخذ الراية، وكان فتح نهاوند، والري، والدينور على يد حذيفة، وكانت (¬1) فتوحه كلها سنة اثنتين وعشرين. ومات سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان رضي الله عنه بأربعين ليلة في أول خلافة علي رضي الله عنه. وقيل: توفي سنة خمس وثلاثين. قال ابن عبد البر: والأول أصح. وذكر الحافظان ابن قانع (¬2)، وابن طاهر: أنه توفي بالمدائن سنة خمس وثلاثين، ولم يذكرا غير ذلك، وكان موته بعد أن أتى نعي عثمان رضي الله عنه إلى الكوفة، ولم (¬3) يدرك الجمل، وُقتل صفوان وسعيدابنا حذيفة بصفين، بعدما بايعا عَلِيًّا بوصية أبيهما بذلك رضي الله عنهم أجمعين. روي لحذيفة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (حديث كثير)، إلا أنه أخرج له في «الصحيحين» سبعة وثلاثين حديثا، اتفقا منها على اثني عشر) (¬4) وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر. روى له عمار بن ياسر، وجندب بن عبد الله العلقي، وعبد الله بن ¬
يزيد (¬1) الخطمي، وخلق سواهم. وكان عمر قد ولاه المدائن، فمات بها في التاريخ المتقدم ذكره (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: «كان» هذه للدلالة على الملازمة والاستمرار، ففيه الاعتناء بالسواك (¬3)، والمداومة عليه. قال الترمذي الحكيم ما معناه: إن الإنسان إذا نام، ارتفعت معدته، وانتفخت، وتصعد بخارها إلى الفم والأسنان، فينتن وتغلط ، ويروى أن الشيطان ذلك طعامه، ويمسح لسانه (¬4) عليه، ويرمي به، فهذا سر استحباب السواك عند القيام من النوم، والله أعلم. ¬
الثاني: قوله: «إذا قام من الليل»: ظاهره يقتضي تعلق الحكم بمجرد القيام. ق: ويحتمل إذا قام من الليل للصلاة، فيعود إلى معنى الحديث الأول (¬1). قلت (¬2): ويرجح هذا الاحتمال، أن في مسلم رواية أخرى: «إذا (¬3) قام يتهجد» (¬4)، فتفسر هذه بتلك، و (من) هاهنا بمعنى (في)؛ أي: إذا قام في الليل، وهي نظيرة قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]؛ أي في يوم الجمعة. الثالث: قوله: «يشوص فاه»، اختلف في تفسيره: فقال ابن الأعرابي: الشوص: دلك الأسنان عرضا (¬5)، ونقل عنه - أيضا -: الشوص: الدلك، والموص: الغسل والتنظف. وقال أبو عبيدة، والداودي: هو التنقية، وقيل: من الحك. وقال أبو عمر بن عبد البر: تأوله بعضهم أنه بأصبعه. ¬
وقال ابن دريد: الشوص: الاستياك من سفل إلى علو، ومنه الشوصة: وهي ريح ترفع مع القلب عن موضعه (¬1) (¬2). فهذه أقوال كلها متقاربة جدا، إلا قول (¬3) ابن دريد، وإن كان الاول أظهرها. وقيل: شاصه يشوصه، وماصه يموصه بمعنى، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 19 - عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -، قَالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ - عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إلَى صَدْرِي , وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ؛ فَأَبَدَّهُ النبي (¬1) - صلى الله عليه وسلم - بَصَرَهُ؛ فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ، فَقَضَمْتُهُ , فَطَيَّبْتُهُ , ثُمَّ دَفَعْتُهُ إلَى رسول - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَنَّ اسْتِنَانًا أَحْسَنَ مِنْهُ , فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يَدَهُ، أَوْ إصْبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: «فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى»، ثَلاثاً، ثُمَّ قَضَى، وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي (¬2). ¬
وَفِي لَفْظٍ: فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ , وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ (¬1) لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ؛ أَنْ: نَعَمْ، لَفْظُ الْبُخَارِيِّ (¬2) وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ (¬3). * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: معنى يستن (¬4): يستاك، قال الخطابي: وأصله من السن، وهو (¬5) إمرار الشيء الذي فيه حروشة على شيء أخر، ومنه المسن الذي يستحد (¬6) عليه الحديد ونحوه، يريد: أنه كان يدلك به أسنانه. ¬
الثاني: معنى «أبده»: أطال النظر إليه. ق: فكأن أصله من معنى التبديد، الذي هو التفريق. قلت: بل هو بالجمع أولى منه بالتفريق؛ فإن من أطال نظره إلى الشيء، فقد جمع نظره فيه. قال: ويروى: أن عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) لما حضرته الوفاة، قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه، فأبد النظر، ثم قال: إني لأرى حضرة ما هم بإنس، ولا جن، ثم قُبض (¬1). قلت: وهذا - أيضا - كما تقدم، من أنه بمعنى: جمع نظره في الحضرة؛ لا أنه فرق نظره وبدده. الثالث: فيه: العمل بما يفهم من الإشارة والحركات، وقد أعملها الفقهاء في غير ما مسألة من الأخرس وغيره. وفيه: جواز الاستياك بسواك الغير من غير كراهة. قال الخطابي: على ما يذهب إليه بعض من يتقزز. وفي كلام الترمذي الحكيم ما يشعر بكراهة ذلك، وهذا الحديث يرده. قال الخطابي: إلا أن السنة أن يغسله، ثم يستعمله (¬2). ¬
وفيه: إصلاح السواك، وتهيئته؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (فقضمته). قال ابن هشام: والقضم: لكل شيء يابس؛ كالبسر (¬1)، والشعير، والخضم - يعني: بالخاء المعجمة - لكل شيء رطب؛ كالقثاء وغيره. وذكر ابن جني: أن العرب اختصت اليابس بالقاف، والرطب بالخاء؛ لأن في القاف شدة، وفي الخاء رخاوة (¬2). وقيل: إن القضم بمقدم الأسنان، والخضم بالفم كله (¬3)، وقالوا في تصريف فعله: خضم وخضِم، بفتح الضاد وكسرها. وقولها: «فطيبته»: يحتمل أن تريد: أنعمته ولينته، ويحتمل أن تريد: غسلتُه، والأول أظهر؛ لعطفها بالفاء السببية؛ إذ التليين والتنعيم مسبب عن القضم، وليس الغسل كذلك، ولذلك لما لم يكن الدفع مسببا عن القضم، أتت ب: (ثم) التي لا سبب فيها، ولما بين الأخذ والدفع من التراخي، والله أعلم. الرابع: قولها: «فأشار بيده، أو إصبعه»، في الإصبع عشر لغات: ضم الهمزة، وكسرها، وفتحها، وكذلك الباء، فهذه تسع، والعاشرة: ¬
أُصبوع، ويجمعها هذا البيت: تَثْلِيثُ بَا إِصْبَعٍ مَعْ شَكْلِ هَمْزَتِهِ ... بِغَيْرِ قَيْدٍ مَعَ الْأُصْبُوعِ قَدْ كَمُلَا (¬1) فائدة: قال القرطبي - رحمه الله - فيأحكام القرآن له (¬2): وروي عن أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المشيرة فيها (¬3) كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى. قال: وروى يزيد بن هارون، قال: أخبرنا عبد الله بن مقسم، [من أهل الطائف، قال حدثتني سارة بنت مقسم] (¬4)، أنها سمعت ميمونة بنت كردم، تقول (¬5): خرجت مع أبي في حجة حجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) على راحلته، وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتُني أتعجب وأنا جارية، من طول إصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه (¬7). ¬
قلت: وفي «دلائل النبوة» للبيهقي رحمه الله: أن ذلك في أصابع رجليه (عليه الصلاة والسلام)، لا في يده، فانظره (¬1) هناك (¬2). الخامس: الرفيق هنا يؤخذ من) (¬3) معنى الجمع؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]، وهو منه - صلى الله عليه وسلم - إشارة منه إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، والله أعلم. ق (¬4): وقد ذكر بعضهم: أن قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] إشارة إلى ما في هذه الآية، وهو قوله: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69]، فكأن هذا تفسير لتلك. قال: وبلغني: أنه صنف في ذلك كتاب يفسر فيه القرآن بالقرآن. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «في الرفيق الأعلى»: من الصفات اللازمة التي ليس لها (¬5) مفهوم يخالف المنطوق؛ كما (¬6) في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ¬
آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117]، وليس ثمّ داع آخر له (¬1) برهان. قلت: فهو من وادي (¬2) قوله: [الطويل] عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ (¬3) ثم قال: وكذلك {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61]، ولا يكون القتل للنبيين (¬4) إلا بغير حق. قلت: بل ليس من هذا الباب، على ما قاله صاحب «الكشاف»، ولفظه: إن قلت: فقتل (¬5) الأنبياء لا يكون إلا (¬6) بغير حق، فما فائدة ذكره؟ قلت: معناه: أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم؛ لأنهم لم يقتلوا، ولا أفسدوا في الأرض، ولا استوجبوا القتل لسبب (¬7) يكون شبهة لهم ومستندا، بل نصحوهم، ودعوهم إلى ما ينفعهم، فقتلوهم، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم، لم يذكروا وجها يوجب عندهم القتل، انتهى (¬8). ¬
فهذه فائدة حسنة جليلة، أعني: قوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61]، فليعل ذلك (¬1). ثم قال: فيكون الرفيق لم يطلق إلا على الذي اختص الرفيق به، ويقوي هذا ما ورد في بعض الروايات: «وألحقني بالرفيق» (¬2)، ولم يصفه بالأعلى، وذلك دليل على أن المراد بلفظ الرفيق: «الرفيق الأعلى»، ويحتمل أن يراد بالرفيق: ما يعم الأعلى وغيره، ثم ذلك على وجهين: أحدهما: أن يختص الفريقان معا بالمقربين المرضيين، ولا شك أن مراتبهم متفاوتة، فيكون - صلى الله عليه وسلم - طلب أن يكون في أعلى مراتب الرفق، وإن كان الكل من السعداء المرضيين. الثاني: أن يطلق (¬3) الرفيق بالمعنى الوضعي الذي يعم كل رفيق، ثم يخص منه الأعلى بالطلب، وهو مطلق المرضيين، ويكون الأعلى بمعنى: العالي، ويخرج عنه (¬4) غيرهم، وإن كان اسم الرفيق منطلقًا (¬5) عليهم، انتهى (¬6). قلت: والوجه الأول أليق بمحله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
السادس: الحاقنة، قال الجوهري: هي النقرة بين الترقوة وحبل (¬1) العاتق. قلت: والعاتق: موضع الرداء. ثم قال: وهما حاقنتان، وفي المثل: لألحقن حواقنك بذواقنك، والذاقنة: طرق الحلقوم، قال: ويقال: الحاقنة: ما سفل من البطن (¬2). وقال غيره: الذاقنة: أعالي البطن، والحوقن: أسافله (¬3). قلت: وقد جاء في رواية أخرى: مات بين سحري ونحري (¬4)، والسحر: الرئة، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 20 - عَنْ أَبِي مُوسَى (¬1)، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ يَسْتَاكُ بِسِوَاكٍ (¬2)، قَالَ: وَطَرَفُ السِّوَاكِ عَلَى لِسَانِهِ؛ يَقُولُ: «أُعْ , أُعْ» , وَالسِّوَاكُ فِي فِيهِ؛ كَأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ (¬3). * * * ¬
* التعريف: أبو موسى: اسمه (¬1) عبد الله بن قيس، وفي نسبه اختلاف كثير، نذكر بعض ما وقع لنا منه. قال ابن عبد البر: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار (¬2) بن حرب ابن عامر، الأشعريُّ، ابن سبأ. ذكر الواقدي: أن أبا موسى الأشعري قدم مكة، فحالف سعيد ابن العاصي بن أمية أبا أُحَيْحَةَ (¬3)، وكان قدومه مع إخوته في جماعة من الأشعريين، ثم أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة. وقال ابن إسحاق: هو حليف آل (¬4) عتبة بن ربيعة، وذكره (¬5) في من هاجر من حلفاء بني عبد شمس إلى أرض الحبشة. وقالت طائفة من أهل العلم بالنسب والسير: إن أبا موسى لما قدم مكة، وحالف سعيد بن العاصي، انصرف إلى بلاد قومه، ولم يهاجر إلى أرض الحبشة، وقدم (¬6) مع إخوته، فصادف قدومه ¬
قدوم (¬1) السفينتين من أرض الحبشة. قال أبو عمر: الصحيح أن أبا موسى رجع بعد قدومه ومحالفته (¬2) من حالف من بني عبد شمس إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قدم مع الأشعريين، نحو خمسين رجلاً في سفينة، فألقتهم الريح إلى أرض النجاشي بأرض الحبشة، فوافقوا بها خروج جعفر وأصحابه منها، فأتوا معهم، وقدمت السفائن (¬3) معها سفينة الأشعريين، وسفينة جعفر وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حين فتح خيبر. وقد قيل: إن الأشعريين إذ رمتهم الريح إلى النجاشي، أقاموا بها مدة، ثم خرجوا في حين خروج جعفر، فلهذا ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض الحبشة. وولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مخاليف اليمن زبيد وذواتها إلى السواحل، وولاه عمر البصرة في حين عزل المغيرة عنها (¬4)، فلم يزل عليها إلى صدر من خلافة عثمان، فعزله عثمان عنها، وولاها عبد الله بن عامر بن كُرَيْزٍ، فنزل أبو موسى حينئذ الكوفة، وسكنها، فلما دفع أهل مكة سعيد بن العاصي، ولوا أبا موسى، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه، فأقره عثمان على الكوفة إلى أن مات، وعزله علي عنها. ¬
ثم كان من أمره يوم الحكمين ما كان، ومات في داره بها (¬1) سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وهو ابن ثلاث وستين سنة. قلت: وقال غيره: خرج إلى مكة، فمات بها سنة خمسين، وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن، قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد أوتي أبو (¬2) موسى مزمارا من مزامير آل داود» (¬3). سئل (¬4) علي رضي الله عنه: عن موضع أبي موسى من العلم، فقال: صُبِغَ في العلم صبغة (¬5)، انتهى كلام ابن عبد البر. قلت: وأمه اسمها طيبة ابنة وهب، أسلمت وماتت بالمدينة، وكان من فقهاء الصحابة ونساكهم. وشهد وفاة أبي عبيدة بالأردن، وقدم دمشق على معاوية، وانتقل إلى الكوفة ووليها، كما تقدم. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مئة وستون حديثًا، اتفقا منها على خمسين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة عشر. ¬
وروى عن عمر بن الخطاب. روى عنه: أنس بن مالك، وطارق بن شهاب، وابنه إبراهيم بن أبي موسى، وسعيد بن المسيب، وخلق سواهم. روى له الجماعة (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: فيه الاستياك على اللسان، وقد صرح بذلك في بعض الروايات، والعلة المقتضية للاستياك (¬2) على الأسنان موجودة في اللسان، أو هي أبلغ؛ لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، وقد تقدم أنه يستحب الاستياك في الأسنان عرضا دون اللسان؛ فإن في بعض الروايات التصريح بالاستياك فيه طولاً (¬3). ¬
الثاني: الضمير في (يقول) يحتمل أن يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الظاهر، فيكون القول حقيقة، ويبعد أن يعود إلى السواك، ويكون من باب: [الرجز] اِمْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ (¬1) قَطْنِي (¬2) إذ السواك ليس له صوت يسمع، ولا قرينة حال تشعر بذلك، فيتعين الأول، والله أعلم. الثالث: ق: ترجم [النسائي] (¬3) هذا الحديث باستياك الإمام بحضرة رعيته، والتراجم التي يترجم بها أصحاب التصانيف على الأحاديث إشارة إلى المعاني المستنبطة منها على ثلاث مراتب: منها: ما هو ظاهر في الدلالة على المعنى المراد، مفيد لفائدة (¬4) مطلوبة. ¬
ومنها: ما هو خفي الدلالة على المراد، بعيد مستكره (¬1) لا يتمشى إلا بتعسف. ومنها: ما هو ظاهر في الدلالة على المراد، إلا أن فائدته قليلة لا تكاد تستحسن، مثل ما ترجم: باب السواك عند رمي الجمار. وهذا القسم -أعني: ما يظهر منه قلة (¬2) الفائدة- يحسن إذا وجد معنى في ذلك المراد يقتضي تخصيصه بالذكر، ويكون عدم استحسانه في بادئ (¬3) الرأي؛ لعدم الاطلاع على ذلك المعنى. فتارة يكون سببه الرد على مخالف في المسألة (¬4) لم تشتهر مقالته؛ مثل: من ترجم على أنه يقال: ما صلينا، فإنه نقل عن بعضهم أنه كره ذلك، فردعليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن صليتُها» (¬5)، أو «ما صليتُها» (¬6). وتارة يكون سببه الرد على فعل شائع بين الناس لا أصل له، فيذكر ¬
الحديث للرد على من فعل ذلك الفعل، كما اشتهر بين (¬1) الناس في هذا المكان التحرز عن قولهم: ما صلينا؛ إذ لم يصح أن أحدا كرهه. وتارة يكون لمعنى يخص الواقعة، لا يظهر لكثير من الناس في بادئ الرأي؛ مثل من ترجم على هذا الحديث: استياك الإمام بحضرة (¬2) رعيته؛ فإن الاستياك من الأفعال (¬3) الْبِذْلَة والمِهْنة، ويلازمه (¬4) - أيضا - من إخراج البصاق وغيره ما لعل بعض الناس يتوهم أن ذلك يقتضي إخفاءه، وتركه بحضرة الرعية، وقد اعتبر الفقهاء في مواضع (¬5) كثيرة هذا المعنى، وهو الذي يسمونه ب: حفظ المروءة، فأورد هذا الحديث؛ لبيان أن الاستياك ليس من قبيل ما يطلب إخفاؤه، ويتركه الإمام بحضرة (¬6) الرعية؛ إدخالاً له في باب العبادات والقربات. انتهى (¬7). مسألة: مذهبنا: كراهة الاستياك في المسجد؛ خشية أن يخرج من فيه دم نحوه مما ينزه (¬8) المسجد عنه، والله أعلم. ¬
باب المسح على الخفين
باب المسح على الخفين الحديث الأول 21 - عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ , فَأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ , فَقَالَ: «دَعْهُمَا؛ فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» , فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا (¬1). ¬
* التعريف: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود (¬1) بن مُعَتِّب - بضم الميم وفتح العين المهملة وسكونها (¬2) وكسر المثناة فوق وتخفيفها وتشديدها وآخره باء موحدة - ابنِ قَسِيّ - بفتح القاف وكسر السين المهملة وتشديد الياء - ابنِ منبه، وهو ثقيفُ بنُ بكرِ بن هوازنَ بنِ منصورِ ابنِ عكرمةَ بنِ خصفةَ (¬3) بنِ قيسِ بنِ عَيْلانَ (¬4) بنِ مُضَرَ (¬5) بنِ نزار. ¬
يكنى أبا عيسى، ويقال (¬1): أبو عبد الله، ويقال (¬2): أبو محمد. أسلم عام الخندق، وقدم مهاجرا. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة وستة وثلاثون حديثًا، اتفقا منها على تسعة، وللبخاري حديث، ولمسلم حديثان. روى عنه: المسور بن مخرمة، وقيس بن أبي حازم، ومسروق ابن الأجدع، وعروة بن الزبير، عروة، وحمزة، وغفار (¬3) بنو المغيرة، ومولاه وراد، وزياد بن علاقة (¬4)، وعلي بن ربيعة الوالبي، وأبو إدريس الخولاني، وغيرهم. شهد المغيرة فتح الشام، وشهد اليرموك، والقادسية، وفتح الأهواز، وهمدان، وشهد نهاوند، وكان على ميسرة (¬5) النعمان بن مقرن، وولاه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- الكوفة، فلم يزل عليها إلى أن قُتل عمر، فأقره عثمان -رضي الله عنه-، ثم عزله، فلم يزل كذلك، واعتزل صفين، فلما كان التحكيم، لحق بمعاوية، فلما قُتل علي، وصالح معاوية الحسن، ودخل الكوفة، ولاّه عليها، فلم يزل عليها (¬6) حتى توفي بها ¬
في داره، سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وهو أمير عليها، فاستخلف عند موته ابنه عروة، فولّى معاوية حينئذ الكوفة زيادا مع البصرة، وجمع له العراقين، وكانت وفاة المغيرة في شعبان، وله سبعون سنة، روى له الجماعة -رضي الله عنهم- (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «فأهويت» يقال: أهوى إلى كذا بيده؛ ليأخذه. وقال الأصمعي: أهويت بالشيء: إذا أومأت به، ويقال: أهويت له بالسيف، هذا في الرباعي. وأما الثلاثي، فهو - بفتح الواو - هوى: إذا سقط، قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]، يهوي - بالكسر-، وهوي - بالكسر- يهوى- بالفتح-: إذا عشق (¬2). الثاني: قوله: «لأَنزِعَ» (¬3): هو بكسر الزاي، وإن كان فيه حرف ¬
حلق، قال الله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ}، الآية [مريم: 69]، والضمير في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «دعهما» للخفين، وفي «أدخلتهما» للرجلين، فالضميران مختلفان، ومعنى «طاهرتين»؛ أي: بطهر الوضوء؛ إذ ذلك (¬1) من شرط المسح عليهما على ما سيأتي. ق: كلا الحديثين -يعني: هذا، والذي بعده- يدل على جواز المسح على الخفين، وقد كثرت (¬2) فيه الروايات، ومن أشهرها: رواية المغيرة. ومن أصحها - أيضا -: رواية جرير بن عبد الله البجلي، بفتح الباء والجيم (¬3). كان أصحاب عبد الله بن مسعود يعجبهم حديث جرير بن عبد الله؛ لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة (¬4)، ومعنى (¬5) هذا الكلام: أن المائدة إن كانت متقدمة على المسح على الخفين، كان جواز المسح ثابتا من غير شبهة، وإن كان المسح على الخفين متقدما، كانت المائدة تقتضي خلاف ذلك، فيكون المسح على الخفين منسوخا (¬6) بها، فلما ترددت ¬
الحال، توقفت الدلالة عند قوم، فشكّوا في جواز المسح، وقد نقل عن بعض الصحابة: أنه قال: قد علمنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين، ولكن قبل المائدة أو بعدها؟ إشارة منهم بهذا الاستفهام إلى ما ذكرناه (¬1)، فلما جاء حديث جرير بن عبد الله مبينا بأن المسح بعد نزول المائدة، زال الإشكال، وفي بعض الروايات التصريح بأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين بعد نزول المائدة، وهو أصرح من رواية من روى عن جرير: وهل أسلمت إلا بعد نزول المائدة (¬2)؟ انتهى (¬3). الثالث: فيما يتعلق بأحكام المسح على الخفين، وينحصر (¬4) ذلك في ستة أطراف، أذكرها مختصرة؛ إذ بسطها في كتب الفقه: الطرف الأول: في جواز المسح على الخفين. ولمالك رحمه الله في ذلك ثلاثة أقوال: ثالثها: يمسح المسافر دون المقيم، ومشهورها: جواز المسح مطلقًا؛ وهو مذهب الكل، وأنكره الشيعة والخوارج مطلقًا (¬5). ح (¬6): وقد اشتهر جواز المسح على الخفين عند علماء الشريعة، ¬
حتى عد شعارا لأهل السنة، وعد إنكاره شعارا لأهل البدع. وقال الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين (¬1). واختلف العلماء في أن المسح على الخف أفضل، أم غسل الرجل؟ فمذهب (¬2) أصحابنا: أن الغسل أفضل؛ لكونه الأصل، وإليه ذهب جماعة من الصحابة، منهم: عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنهم-. وذهب جماعة من التابعين إلى أن المسح أفضل، ذهب إليه: الشعبي، والحكم، وحماد، وعن (¬3) أحمد روايتان؛ أصحهما: المسح أفضل، والثانية: هما سوءا، واختاره ابن المنذر، والله أعلم (¬4). الطرف الثاني: في شروط المسح، وهي خمسة: الأول: أن يلبسهما على طهارة. الثاني: أن تكون الطهارة مائية، وفي الترابية قولان. الثالث: أن تكون الطهارة كاملة، وينشأ من هذا الشرط فرعان: أحدهما: من غسل إحدى رجليه وأدخلها في الخلف، ثم غسل ¬
الأخرى، وأدخلها في الخف، هل يسمح، أو لا؟ المشهور من مذهبنا: لا (¬1) يمسح، وبه قال سحنون، وابن الجلاَّب. وقال مُطَرِّف: يمسح. الفرع الثاني: لو نكس وضوءه، فبدأ برجليه، فغسلهما وأدخلهما في الخفين، ثم كمل وضوءه، فهل يمسح بعد ذلك؟ قال مالك في العتبية: لايفعل، فإن فعل، فلا شيء عليه. قال صاحب البيان والتقريب: والمشهور من المذهب: عدمُ المسح. الشرط الرابع: أن يكون اللبس مباحا لِلاَّ بس؛ لأنا نقول: لو لبِسَ المُحرِمُ الخفين من غير عذر، أو لبس الإنسان خفين مغصوبين، لم يجز المسح في المسألتين. الشرط الخامس: أن يكون لبس الخفين على الوجه المعياد عند الناس في لباس الخفاف، فإن لبس الخفين لا لغرض سوى (¬2) الترخص بالمسح، أو امرأة خضبت بالحناء (¬3)، فلبست الخف للمسح حتى يسقط عنها غسل الرجلين لئلا تغسل الحناء، ومن أراد أن ينام، فيتعمد لباس الخفين لمحض (¬4) المسح، فالمشهور عندنا: أن هؤلاء ¬
لا يمسحون، فإن فعل، فهل يعيد أو لا؟ خلاف (¬1). الطرف الثالث: في صفة المسح: ولا شك في (¬2) أنه كيفما أوعب، أجزأه، وإنما النظر في الصفة المستحبة، وفيها ثلاث طرق: الأولى: ما في المدونة، وهو أن يضع اليمنى على أطراف (¬3) أصابعه من ظاهر قدمه، ويضع اليسرى تحتها من باطن خفه، ثم يمرهما إلى حد الكعبين (¬4). وهذه الطريقة تسهل في اليمنى، وتعسر في اليسرى. الطريقة الثانية: أن يبدأ بيديه من الكعبين مارًا إلى الأصابع، عكس الأولى (¬5) (¬6). الطريقة الثالثة: أن يبدأ باليمنى كالطريقة الأولى، وباليسرى كالطريقة الثانية، وهي اختيار ابن عبد الحكم، واستحبها (¬7) بعض المتأخرين. ¬
وزاد اللخمي طريقه رابعة، وهي: أن تكون العليا من مقدَّم الرجل، والسفلى من مؤخرها، فيمرهما مختلفين. قال: وكل ذلك واسع، إلا أن الأحسن ما ذكر في المدونة: أن يكون الابتداء من مقدم الرجلين والانتهاء إلى الكعبين؛ لأن السنة أن يبدأ بأول كل عضو، ولأن المسح بدل من الغسل، والكعبان هما نهاية الغسل؛ أي: آخره؛ لأن الله تعالى ذكره بعد (إلى)، و (إلى) للغاية. الطرف الرابع: في صفة الخف: وصفته: أن يكون جِلْداً، هو خفُّ (¬1) في العادة، طاهراً، ساتراً لمحل الفرض، يمكن متابعة المشي فيه منفرداً، فإذا اجتمعت هذه الشروط الخمسة، جاز المسح، قولاً واحداً (¬2)، وفي المسألة فروع في كتب الفقه لا نطوِّل (¬3) بذكرها. الطرف الخامس: في بيان القدر الذي يجب مسحه من الخف: وفي المذهب (¬4) ثلاثة أقوال: مشهورها: يجب مسحُ الأعلى، ويستحب مسحُ الأسفل، لكنه إن اقتصر على، استُحب له الإعادةُ في الوقت. وقال أشهب: أيهما مسح، أجزأه. ¬
وقال ابن نافع: يجب مسح الأعلى والأسفل (¬1). الطرف السادس: في توقيت المسح: والمشهور عندنا: عدم التوقيت للمقيم والمسافر، وهذا على طريق الاختصار، كما تقدم، والله الموفق (¬2). الرابع: قوله: وهما طاهرتان: ع: قال داود: ويجوز المسح عليهما إذا كانا طاهرتين، وإن لم يستبح (¬3) الصلاة، والفقهاء على خلافه؛ بناء على حمل كلامه- عليه الصلاة والسلام- على الطهارة اللغوية، أو الشرعية، وهو مختلف فيه بين الأصوليين، هل يقدم العرف على اللغة، أم لا؛ كما وقع الخلاف في وضوئه- عليه الصلاة والسلام-فيما مست النار (¬4)؟ قلت: والصحيح المعتمد عند (¬5) أهل الأصول: الحمل على الشرعي دون اللغوي. ق: وقد استدل به (¬6) بعضهم على أن إكمال الطهارة فيهما شرط، حتى لو غسل إحداهما، وأدخلها في الخف، ثم غسل الأخرى، وأدخلها ¬
في الخف (¬1)، لم يجز المسح. وفي هذا الاستدلال عندنا ضعف؛ أعني: في دلالته على حكم هذه المسألة، فلا يمتنع أن يعبر بهذه العبارة عن كون كل واحدة منهما أدخلت طاهرة، بل ربما يدعي أنه طاهر في ذلك؛ فإن الضمير في قوله: «أدخلتهما» (¬2) يقتضي تعلق الحكم بكل واحدة منهما، نعم من روى: «فإني أدخلتهما وهما طاهرتان»، فقد يتمسك برواية هذا القائل من حيث إن قوله: «أدخلتهما» إذا اقتضى كل واحدة منهما، فقوله: «وهما طاهرتان» حال من كل واحدة منهما (¬3)، فيصير التقدير أدخلت كل واحدة في حال (¬4) طهارتها، وذلك إنما يكون بكمال الطهارة، وهذا الاستدلال بهذه الرواية من هذا الوجه قد لا يتأتى في رواية من روى: «أدخلتهما طاهرتين»، على كل حال، فلييس الاستدلال بذلك بالقوي جدا (¬5)؛ لاحتمال الوجه الآخر في الروايتين معا، اللهم إلا أن يضم إلى دليل على أنه لا تحصل الطهارة لأحدهما إلا بكمال الطهارة في جميع الأعضاء، فحيتنئذ يكون ذلك مع هذا مستندا لقول القائلين بعدم الجواز -أعني: أن يكون المجموع هو المستند-، ¬
فيكون هذا (¬1) الحديث دليلا على اشتراط طهارة كل واحدة منهما، ويكون ذلك الدليل دالا على أنها تطهر إلا بكمال الطهارة، ويحصل من هذا المجموع حكم المسألة المذكورة في عدم الجواز، انتهى (¬2). قلت: ولا يخلو بعض هذا الكلام من نظر، والله أعلم، فليتأمل. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 22 - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضيَ اللهُ عنه، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَالَ , وَتَوَضَّأَ , وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ (¬1) مختصر. ¬
الحديث صريح في جواز المسح عن حدث البول. ث: وفي حديث صفوان بن عسال (¬1) -بالعين المهملة والسين المهلة المشددة- ما يقتضي جوازه عن حدث الغائط، وعن النوم أيضا، ومنعه عن الجنابة (¬2). * * * ¬
باب المذي وغيره
باب المذي (¬1) وغيره الحديث الأول 23 - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً , فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنِّي , فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، فَسَأَلَهُ , فَقَالَ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ , وَيَتَوَضَّأُ» (¬2). وَلِلْبُخَارِيِّ: «اغْسِلْ ذَكَرَكَ، وَتَوَضَّأْ» (¬3). وَلِمُسْلِمٍ: «تَوَضَّأْ، وَانْضَحْ فَرْجَكَ» (¬4). ¬
* التعريف: علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب: عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، يجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد المطلب جده، القرشي، الهاشمي، يكنى: أبا الحسن، وكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي تراب (¬1). وأمه، فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي هاشميا، أسلمت، وهاجرت إلى المدينة، وتوفيت في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى عليها، ونزل في (¬2) قبرها. ¬
ولي الخلافة بعد قتل عثمان، وذلك يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة (¬1) خمس وثلاثين. وكانت خلافته أربع سنين، وستة أشهر، وثلاثة أيام، وقيل: خمس سنين إلا أربعة أشهر، وقيل: إلا شهرين. وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها إلا تبوك، فإنه استخلفه، فقال له (¬2): يا رسول الله! تخلفني في (¬3) النساء والصبيان؟! فقال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس بعدي نبي»، وهذا الحديث في الصحيح، رواه البخاري، عن مسدد (¬4). وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أول من آمن بعد خديجة رضي الله عنها، وأول من صدق الرسول بعدها، فيما قاله ابن عباس، وروي عنه بالأسانيد الصحيحة (¬5). وكان أصغر ولد أبي طالب، كان علي أصغر من جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أصغر من عقيل بعشر سنين، وكان عقيل أصغر من ¬
طالب بعشر سنين، أم (¬1) الجميع فاطمة بنت أسد المتقدم ذكرها. واختلف في سنه حين أسلم، فقيل: أسلم وهو ابن ثمان سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة (¬2)، وقيل: ست عشرة، وقيل: ثماني عشرة، وقيل: ابن عشرين، وأصح ما قيل في ذلك: ثلاث عشرة سنة. وعن أنس، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء. وعن ابن عباس رضي الله عنه، قال: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية لعلي يوم بدر وهو ابن عشرين سنة؛ ذكره محمد بن إسحاق السراج في تاريخه. روى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: بنوه؛ أبو محمد الحسن، وأبو عبد الله الحسين، وأبو القاسم محمد بن الحنفية، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن قيس، وخلق سواهم من الصحابة، ومن التابعين: النزال بن سبرة، ومروان بن الحكم، وعبيدة بن عمرو السلماني، وعبد الله بن أبي رافع، والأحنف بن قيس، وعلقمة، وغيرهم. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الشجاعة بالمحل الأعلى الذي يضرب به المثل، وزهده في الدنيا في المنزلة العليا، وكان رضي الله عنه ممن ¬
بذل نفسه في الله عز وجل، ووقى (¬1) رسوله بنفسه، فنام على فراشه، وخلفه في مكانه حين أرادوا قتله، فعلم الله مكانه وصدقه، فوقاهما سيئات ما مكروا. وكان رضي الله عنه آدم، شديد الأدمة، أقبل (¬2) العينين، عظيمهما، ذا بطن، أصلع، إلى القصر أقرب .. قُتل بالكوفة صبيحة يوم الجمعة لسبع بقين، وقيل: لسبع عشرة خلت، وقيل: لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، سنة أربعين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الأصح -رضي الله عنه-. روى له الجماعة (¬3). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: «مذاءً»: فعال، من المذي، كضراب من الضرب، وهو من كثر منه، والمذي -: بفتح الميم وإسكان الذال المعجمة، ¬
وتخفيف الياء، وبكسر الذال وتشديد الياء (¬1)، وبكسر الذال وإسكان الياء، فالأوليان (¬2) مشهورتان، أولاهما أفصحهما، والثالثة: حكاها أبو عمر الزاهد، عن ابن الأعرابي، يقال منه (¬3): مَذَى، وأَمْذَى، ومَذَّى، الثالثة بالتشديد، وهو ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند شهوة، لا بشهوة، ولا دفق (¬4)، ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس بخروجه، ويكون ذلك للرجل والمرأة، قيل (¬5): وهو في النساء أكثر منه في الرجال (¬6). وقوله: «كنت»: يحتمل أن يكون حكاية لحاله فيما مضى، وقد انقطع المذي عنه حين (¬7) إخباره به، ويحتمل أن تكون هذه الحالة مستديمة له، ويكون من باب قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [للنساء: 17]؛ أي: أنه لما علم الناس أنه -تعالى- عليم حكيم، قيل لهم: وكذلك كان في الأزل على ما هو عليه الآن. وقوله: «فاستحييت»، قيل، الحياء: تغير وانكسار يعرض (¬8) للإنسان من خوف ما يعاتب به (¬9)، أو يذم عليه. وهذه هي اللغة ¬
الفصحى (¬1)، وقد يقال: استحيت، بياء واحدة (¬2). وقوله: «أن أسأل»: تقديره: من أن أسأل، وحرف الجر يحذف من «أنْ» و «أنَّ» قياسا، ثم اختلف هل يكون «أنّ» و «أنْ» في موضع نصب، أو جر؟ للنحويين خلاف. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «وانضح» هو بكسر الضاد المعجمة، نص عليه الجوهري (¬3)، وغيره، ولا يكاد قراء الحديث يقرؤونه إلا بفتح الضاد، وهو خطأ على ما تقدم، فليحذر، والله أعلم. قال الباجي في «المنتقى»: المراد بالنضح هنا: الغسل، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬4). ق: وهو (¬5) بالحاء المهملة، لا يعرف غيره، ولو روي بالخاء المعجمة، لكان أقرب إلى معنى الغسل؛ فإن النضخ -بالمعجمة- أكثر منه بالمهملة (¬6). قلت: ومنه قوله -تعالى-: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66]. الثاني: في حكم المذي، وهو ينقض الوضوء بلا خلاف أعلمه ¬
بين الأئمة (¬1)؛ لهذا الحديث، واختلف أصحابنا هل يجب غسل جميع الذكر منه، أو محل النجاسة خاصة؟ والمشهور: الأول، ووجهه (¬2): أن الذكر حقيقة يقع على العضو كله، وقد قال (عليه الصلاة والسلام): «يغسل ذكره». ووجه القول الآخر، وهو مذهب الشافعي والجمهور: النظر إلى المعنى، وهو أن الموجب للغسل إنما هو خروج الخارج، وذلك يقتضي الاقتصار على محله، وهذا كلام بعض المتأخرين (¬3). وخرجه ابن بشير من أصحابنا على الخلاف بين الأصوليين في الأسماء، هل تحمل على أوائلها، أو على أواخرها؟ قال: فمن (¬4) حملها على الأوائل، قال: يقتصر على مخرج المذي (¬5)، ومن حملها على الأواخر، قال: يغسل الجميع. قلت: وفي هذا التخريج نظر، وذلك أن الحكم المتعلق (¬6) بالشيء المذكور في مثل الركوع والسجود مثلاً؛ -الذي هو قدر مشترك بين أشياء، فيه أقل أو أكثر (¬7)، فأقله هو أوله، ويصدق اللفظ عليه حقيقة؛ ¬
لوجود القدر المشترك. قال: واختلف القائلون بغسل جميعه، هل يفتقر إلى نية، أم لا (¬1)؟ وسبب الخلاف: هل غسل جميع الذكر تعبد، أو عبادة تعدت محل سببها، فأشبهت الوضوء والغسل في افتقارهما إلى النية، أو غسله لتنقطع مادة الأذى، فلا يفتقر إلى نية؟ وهذا على القول بأن المذي مختص بأحكام ينفرد بها عن البول والوَدْي، وفيما يخالف البول، المشهور: أنه لا يجزئ فيه الاستجمار بالحجارة؛ لأنه -في الغالب- إنما يأتي مستجلبا؛ بخلاف البول والغائط؛ فإنهما يخرجان بطبع الغداء، انتهى. وقال سند [في] «طرازه»: ولما فيه من اللزوجة والتخيط؛ فقد ينتشر بالمسح إلى محل آخر، فينجسه؛ ولأن الحديث إنما جاء فيما يذهب فيه إلى الغائط، وليس هذا بغائط، ولا يذهب فيه إلى الغائط، ولا في معنى الغائط، حتى يلحق به. قال ابن بشير: وأما على القول إنه بمنزلة البول، فلا تفريع. قلت: وقد غّلط اللخمي القول بغسل جميع الذكر، وخالف مشهور المذهب، وقد بسطت الكلام عليه في شرح «الرسالة»، أعان الله على إكماله. تنبيه: لا يؤخذ من هذا الحديث وجوب الوضوء على صاحب سلس المذي، وإن كان علي -رضي الله عنه- قد وصف نفسه بكونه مذاءً، وهو ¬
الذي يكثر منه المذي؛ لأنا نقول: الكثرة قد تكون مع الصحة؛ لغلبة الشهوة؛ بحيث يمكن رفعه، وقد يكون على وجه المرض والاسترسال؛ بحيث لا يمكن رفعه، ففي الأول: يجب دون الثاني، على تفصيل سيمر بك - إن شاء الله تعالى- في الحديث ما يعين أحد الوجهين (¬1). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «يغسل ذكره»، هو برفع اللام، أمر بلفظ الخبر، ومثله قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]، {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228]، وجاء أيضا الخبر بلفظ الأمر، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]. فإن قلت: ما السر في العدول عن الأصل فيهما؟. قلت: أما ورود الأمر بلفظ الخبر، فسره - والله أعلم -: أن الخبر يستلزم ثبوت مخبره ووقوعه إذا كان مثبتا؛ بخلاف الأمر، فإذا عبر عن الأمر بلفظ الخبر، كان ذلك آكد لاقتضاء (¬2) الوقوع، حتى كأنه واقع، ولذلك اختير للدعاء لفظ الخبر؛ تفاؤلاً بالوقوع. وأما سر التعبير عن الخبر بلفظ الأمر، فإن الأمر شأنه أن يكون بما فيه داعية للأمر، وليس الخبر كذلك، فإذا عبر عن الخبر بلفظ الأمر، أشعر ذلك بالداعية، فيكون ثبوته وصدقه أقرب. ويبعد فيه الجزم بلام مقدرة، نحو قوله: [الوافر] ¬
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إِذَا مَا خِفْتَ مِنْ أَمْرٍ تَبَالا (¬1) لأن ذلك بابه الضرورة دونَ السَّعة. الرابع: ق: قد (¬2) يُتمسك به، أو تُمُسِّكَ به في قبول خبر الواحد؛ من حيث إن عَلِيًّا -رضي الله عنه- أمر المقدادَ بالسؤال؛ ليقبلَ خبرَه. والمراد بهذا: ذكرُ صورة من الصور التي تدل على قبول خبرٍ واحد، وهي فرد من أفرادٍ لا تحصى، والحجة تقوم بجملتها، لا بفردٍ معينٍ منها؛ فإنه لو استدل بفرد معين، لكان ذلك إثباتاً للشيء نفسه (¬3)، وهو محال، وإنما تذكر (¬4) صورة مخصوصة؛ [على أمثالها، لا] للاكتفاء بها، فليعلم ذلك؛ فإنه مما انتقد على بعض العلماء، حيث استدل بآحاد. وقيل: أثبت خبر الواحد بخبر الواحد، وجوابه ما ذكرناه. ومع هذا، فالاستدلال عندي لا يتم بهذه الرواية وأمثالها؛ لجواز أن يكون المقداد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المذي (¬5) بحضرة عليٍّ -رضي الله عنه-، وسمع عليُّ الجوابَ (¬6)، فلا يكون من باب قبولِ خبرِ الواحد، وليس من ضرورةِ كونِه سأل عن المذي بحضرة عليٍّ -رضي الله عنه- أن يذكر أنه هو ¬
السائل، نعم، إن وجدت رواية تصرِّح أن عَلِيًّا -رضي الله عنه- أخذ هذا الحكم من المقداد، ففيه الحجة، انتهى (¬1). قلت: وهو كما قال الشيخ رحمه الله. الخامس: فيه من الفوائد: أن المذي لا يوجب الغسل. وفيه: أن الاستنجاء لا يجزئ في المذي؛ بخلاف غيره من النجاسة المعتادة، وهو المشهور عندنا، كما تقدم. وفيه: استحباب حسن العشرة مع الأصهار، وأن الزوج يُستحب له ألا يذكر ما يتعلق بأمور النساء، من وجوه (¬2) الاستمتاع بحضرة أبيها أو أخيها أو ابنها، وغيرهم من أقاربها (¬3). ولا ينبغي لأحد الزوجين أن يذكر ما يجري بينهما من ملاعبة ونحوها (¬4) لقريب ولا أجنبي؛ فإن ذلك ليس من مكارم الأخلاق، نعم يجوز أن يقول الرجل: أتيت أهلي، ونحو ذلك، وكذلك المرأة، قالت عائشة -رضي الله عنها- لما سئلت عن الغسل: «فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاغتسلنا» (¬5)، وإن كانت لم تذكر ذلك -رضي الله عنها- إلا لإفادة حكم شرعي دعت الحاجة إليه، والله أعلم. ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 24 - [عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ]، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ (¬1)، قَالَ: شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ, قَالَ: «لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً, أَوْ يَجِدَ رِيحاً» (¬2). ¬
* التعريف: عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو (¬1) بن مازن، المازني الأنصاري، من بني مازن بن النجار، يعرف (¬2) بابن أم عمارة، شهد أحدا، ولم يشهد بدرا. قال ابن عبد البر: وقال أبو نعيم في كتاب «الصحابة»: إنه شهد بدرا. ولم يذكر الحافظ عبد الغني في كتاب «الكمال» أنه شهدها، ولا بلغني عنه شهودها، وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه راوي الأذان على ما سيأتي في باب الأذان -إن شاء الله تعالى-. وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب فيما ذكر خليفة (¬3) بن خياط: وكان مسيلمة قد قتل أخاه حبيب بن زيد، وقطّعه عضوا عضوا. قال ابن عبد البر: فقضى الله أن يشارك أخوه (¬4) عبد الله في قتل مسيلمة. ¬
قال خليفة: اشترك وحشي بن حرب وعبد الله بن زيد في قتل مسيلمة (¬1)، رماه وحشي بالحربة، وضربه عبد الله بن زيد (¬2)، فقتله. وُقتل عبد الله بن زيد يوم الحرة، وكانت الحرة سنة ثلاث وستين، وهو صاحب حديث الوضوء. روى عنه سعيد بن المسيب، وابن أخيه عباد بن تميم (¬3). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الياء في «شُكي» منقلبة عن واو؛ لانكسار ما قبلها؛ لأنه من شكا يشكو، ويجوز أن تكون أصلية غير منقلبة في لغة من قال: شكا يشكي، والذي يقوم مقام الفاعل لشكي: الرجل، لا المجرور؛ لأنه مفعول به -أعني: الرجل-، وإذا وجد المفعول به، لم يقم سواه عند الأكثرين. والجملة من قوله: «يخيل إليه»: صفة للرجل، وإن كان فيه الألف واللام، وهو من وادي قوله: [الكامل] ¬
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّني فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لا يَعْنِيني (¬1) فإنه لم يُرِدْ لئيماً معيناً، فهو نكرة في المعنى - والله أعلم -. والقائمُ مقامَ المفعول ل «يُخَيَّلُ»: «أَنَّ» وما عملت فيه (¬2)، والشاكي عبد الله بن زيد الراوي، هكذا جاء في رواية البخاري. الثاني: ونذكر (¬3) فيه نواقضَ الوضوء مختصرةً، فنقول: يجب الوضوء من شيئين: أحداث، وأسباب أحداث. فالأحداث: ما يخرج من القبل والدبر، والخارج من القبل ثلاثة: وهي: البول، والمذي، والودي، والخارج من الدبر ثلاثة أيضا: هي: الغائط، والريح، والصوت. وأسباب الأحداث ثلاثة أيضا: مس الذكر، ولمس النساء، والنوم، وما في معناه؛ من فقدان العقل أو استتاره؛ كالجنون، والسكر، والإغماء. واختلف في الرِّدة هل تُنقض إذا عاد إلى الإسلام، أم لا؟ وكذلك اختلف في رفض الوضوء، هل يؤثِّر أم لا؟ على ما سيأتي تفصيله (¬4). فالأحداثُ (¬5) المذكورةُ إن خرجتْ من المخرج المعتاد على وجه ¬
الاعتياد، أوجَبَتِ (¬1) الوضوء، قولاً واحداً. فقولنا: من المخرج المعتاد، تحرُّز مما يخرج من الفم من دم أو قيء أو ما يخرج من جرح (¬2) من دم أو قيح؛ فإن أبا حنيفة اعتبر الخارجَ دون المخرَج، والشافعي اعتبرَ المخرجَ دون الخارج (¬3)، وتابعه على ذلك ابن عبدِ الحكم من أصحابنا. وقولنا: على سبيل الاعتياد: تحرُّز مما ليس بمعتاد؛ كالدم من الدبر، والدود يخرج جافًا، ومن سلس البول، والمذي، والريح، ودم الاستحاضة، فهذا لا يوجب الوضوء عند مالك، ولا ينقضه، على ما نفصله. وإن خرجت على غير وجه العادة؛ كالمستنكح؛ فإنه لا (¬4) يخلو من كانت به تلك العلة من أن يقدر على إزالتها؛ كمن (¬5) يعتريه المذي لطول عزبة، وهو قادر على رفعه بالنكاح، أو التسرِّي. وَكَمَنْ يعتريه ذلك لأبْرِدَةٍ، أو يعتريه شيء من الأحداث، ويلازمه، فإن قدر على رفع ذلك كما قلناه، فلم يفعل، ففيه قولان لأصحابنا، مشهورُهما: إيجاب الوضوء؛ لأن قدرته على الرفع ألحقته بالمعتاد، والشاذُّ: إسقاط الوضوء؛ لخروجه على غير العادة، فأشبه غير القادر. ¬
قال ابن بشير: وقد يقال هاهنا: إن هذا على الخلاف فيمن ملك أن يملك، هل يعد مالكًا، أم لا؟ وإن لم يقدر على الرفع، فلا يخلو من أربعة أحوال: إما أن يلازم ولا يفارق، أو يأتي المرة بعد المرة، أو تكون ملازمته أكثر، أو العكس. فإن كان يلازم، ولا يفارق، فهذا لا يجب منه الوضوء، ولا يستحب، وهو المعروفُ عندنا. وقد جسر الركراكي من متأخري أصحابنا، وقال: لكنه مستحب، ولم ينقل ذلك عن غيره، ولم أره لأحد غيره، فلينظر. فإن بال هذا بول العادة، أو كانت المستحاضة من أهل التمييز، فيجب الوضوء على صاحب السلس، والغسل على المستحاضة. وإن استوت ملازمته ومفارقته، فقولان: الوجوب، والإسقاط. وإن كانت ملازمته أكثر، فالمشهور: استحباب الوضوء، والشاذُّ: وجوبُه. وإن كان العكس، فالمشهور: إيجاب الوضوء، والشاذُّ سقوطه، وهو رأي جماعة من البغداديين. ومنشأ الخلاف: وجودُ الحَرَجِ وعدمُه، هذا هو التفصيل المعروف في (¬1) المذهب. ¬
وقال الركراكي أيضا: إن كان غير دائم، ففي هذا الوجه يفترق حكم صاحب البول، وصاحب المذي، فصاحب البول لا خلاف أنه يتوضأ لكل صلاة، وهل ذلك على معنى الوجوب، أو الندب؟ قولان للمتأخرين متأولان على «المدونة»، والظاهر منها: أنه على ... ثم رجع إلى التفصيل في غير البول المتقدم ذكره، ولم أر هذا التفصيل لغيره، فتأمله أيضا. واختلف ... هل يكون ذلك رخصة للإنسان في نفسه لا تتعداه، أو سقوط ذلك يجعل الخارج كالعدم؟ فيه قولان، وتظهر فائدة الخلاف في إمامته لغيره، وكذلك الحكم فيمن كانت تنفصل منه نجاسة لا يقدر على الاحتراز منها؛ كمن به قروح، فيه قولان - أيضا -: هل تجوز له الإمامة أم لا؟ ويقوِّي أحد القولين أخبارُ عمر -رضي الله عنه- بتحدُّره على وركه كالخُريزة، وأنه لا ينصرف حتى يقضي صلاته، وهذا مشعر بكونه مستنكحا، وقد كان إماما، ولم يذكر أنه ترك الإمامة بسببه، وفي «المدونة» عنه: هذا، وعنه: الأمرُ: بغسله والوضوءِ منه، وتأول بعض الأشياخ أن أخباره على حالتين مختلفتين. قال ابن بشير: وهذا لا يحتاج إليه؛ لأنه إنما أخبر في أحد الأثرين عن حالته، وأمر في الأثر الآخر (¬1)، فتكلم على حكم نفسه في الاستنكاح، وعلى حكم غيره إذا لم يكن مستنكحا. ¬
وأما أسباب الأحداث المتقدمة، فالأول مس الذكر. قال صاحب «البيان والتقريب»: وقد اختلف فيه قول مالك، فله فيه ثلاثة أقوال. قال: أولاً: لا وضوء فيه. وقال في سماع ابن وهب: الوضوء من مس الذكر حسن، وليس سنة (¬1). وقال في الرواية الأخيرة: يجب منه الوضوء؛ وهي اختيار ابن القاسم. وروى سحنون: إعادة الوضوء منه ضعيف. هذا ما قيل في المذهب (¬2). وممن قال لا وضوء فيه من الصحابة -رضي الله عنهم- ثمانية، وهم: علي -كرم الله وجهه-، وعمار، وابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة، وعمران بن حصين، وأبو الدرداء، وسعد بن أبي وقاص. ومن التابعين ومن بعدهم: الحسن البصري، وقتادة، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه. وممن قال فيه الوضوء، من الصحابة -رضي الله عنهم-: عمر، وابنه، وعائشة، وأبو هريرة، ورواية عن سعد بن أبي وقاص، وابن عباس. ¬
ومن التابعين ومن بعدهم: عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، وأبان بن عثمان، وعروة، وسليمان بن يسار، والزهري، وأبو العالية، ومجاهد، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والشافعي، والمزني. ومنشأ الخلاف فيه: اختلاف الأخبار؛ إذ لا محل للقياس فيه. فروى أبو داود، والترمذي، والنسائي، عن طلق بن علي، قال: قدمنا وفدا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلينا معه، فلما قضينا الصلاة، جاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا نبي الله! ما ترى في رجل مس ذكره في الصلاة؟ فقال: «وهل هو إلا بضعة، أو -مضغة- منه؟» (¬1)، فتمسك بهذا الحديث من قال: لا وضوء عليه. وروى مالك في «الموطأ»، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، عن بسرة بنت صفوان: أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا مس أحدكم ذكره، فليتوضأ»، وقال أبو عيسى: «فلا يصل حتى يتوضأ» (¬2). ¬
قال أبو عيسى: وفي الباب: عن أم حبيبة، وأبي أيوب، وأبي هريرة، وأروى بنت أنيس، وعائشة، وجابر، وزيد بن خالد، وعبد الله بن عمر، وقال: هذا حديث حسن صحيح (¬1). قال: وبه يقول الشافعي، والأوزاعي، وأحمد (¬2)، وإسحاق. وقال (¬3) محمد -يعني البخاري-: أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة. وقال أبو زرعة: حديث أم حبيبة في هذا الباب صحيح (¬4). فأخذ مالك أولاً بالحديث الأول، وقال (¬5): لا وضوء فيه، وأخذ في القول الثاني بوجوب الوضوء بالحديث الثاني، ورأى في القول الثالث الاستحباب؛ لكون الحديثين متعارضين، فأثار له (¬6) شكًا، فاستحب الوضوء فيه، وهو أحد أقواله فيمن تحقق الطهارة، وشك في الحدث بعد، هل يعيد الوضوء، أم لا؟ ولذلك اختلف القول فيمن مسه ثم صلى، ولم يتوضأ. ¬
فقيل: يعيد أبدا بناءً على الوضوء، وهو قول ابن نافع. وقيل: لا إعادة عليه، وهو قوله في «المجموعة» بناءً على أنه لا وضوء فيه. ثم رجع فقال: يعيد في الوقت، وإن خرج، فلا إعادة؛ بناءً على الاستحباب المتأكد، ولم يصل إلى حد الوجوب. وقال سحنون في كتاب ابنه، في هذا، وفيمن قبل للذة: يعيد، وإن خرج الوقت، فإن (¬1) طال، وجاوز اليوم واليومين والثلاثة، فلا وضوء عليه، ووجهه ضعيف إلا في وجوبه، وقوة الاختلاف فيه، فتوسط الأمر فيه، والمشهور من قول ابن القاسم: ما في الكتاب، وهو القول بالوجوب والإعادة أبدا إذا صلى ولم يتوضأ؛ للحديث الثاني. فإن قيل: فقد قال يحيى بن معين: لا يصح حديث مس الذكر. قلنا: لا يقبل هذا القول المطلق حتى يتبين وجه الطعن فيه، وقد صححه مالك، وهو النجم في العلم، وأمير المؤمنين في الحديث، وكذلك أحمد، وقال الترمذي: حديث بسرة حسن -صحيح كما تقدم -، وقال أبو زرعة: حديث أم حبيبة صحيح، فقول هؤلاء الأئمة الأربعة الحفاظ أرجح من قول يحيى بن معين، كيف وقد روى حديث بسرة خمسة عشر نفسا من بين رجل وامرأة من الصحابة وغيرهم؟! ولو تنزلنا على صحة الحديثين وتعارضهما، فحديثنا أكثر رواةً، ¬
وأعدل، والأصوليون اختلفوا في الترجيح بكثرة الرواة، ولم يختلفوا في مزية العدالة. ثم ولو تنزلنا على أن لا مزية في أحدهما، رأينا أن حديثنا ناسخ؛ لتأخره عن حديث طلق، ودليله أمران: أحدهما: أن في بعض طرق حديث طلق قدمنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤسس المسجد. الثاني: أن أبا هريرة إنما روى بعد إسلامه، فإنه إنما يصغي إلى الرسول، ويحافظ على ما سمعه منه (¬1) المؤمنون. ثم ولو تنزلنا على التعارض، وعدم الترجيح، وعدم العلم بالتاريخ فيهما، فعلماؤنا متفقون على أنه لا يجب الوضوء من مسه على الإطلاق في كل الأحوال، بل لا بد من قيد سنذكره، فلا شك أنَّ ثمّ حالةً لا ينقض مسه فيها، فينزل حديث طلق على تلك الحال، وحديثنا على غيرها، فنكون قد أعملنا الخبرين في حالين، وهو أولى من تعطيل أحدهما بالكلية. ثم ولو تنزلنا على التعارض في جميع الحالات، وتعذر الجمع على كل حال، فلنا أن نقول: من أصلنا إذا تحقق الإنسان أنه تطهر، ثم شك هل أحدث بعد الوضوء أم لا؟ أنه يجب عليه الوضوء في القول المشهور، فمن توضأ، ثم مس ذكره، قد شك؛ لتعارض الخبرين، هل انتقض وضوءه أم لا؟ فينبغي على ما ذكرناه: أن يجب ¬
عليه الوضوء؛ فإذا ثبت ذلك، قلنا: قد اتفق المذهب على أن لإيجاب الوضوء منه قيدا (¬1)، ثم اختلفوا في تعيينه: فرأى العراقيون: أنه وجود اللذة، فقال ابن القصار: الذي عليه العمل من الروايات - يعني: عندهم -: على أنه من مسه لشهوة بباطن كفه (¬2)، أو سائر أعضائه، من فوق ثوب، أو تحته، انتقضت طهارته، قال الأبهري: وعلى هذا يعمل شيوخنا كلهم. ورأى (¬3) في «المجموعة»: أن قيد إيجابه للوضوء العمد. وكذلك روى عنه ابن وهب في «العتبية»، قال: لا وضوء إلا في تعمد مسه. ورأى في رواية أشهب في سماعه منه: أن القيد أن يمسه بباطن الكف، قال: وسئل (¬4) مالك: إذا مسه بباطن الأصابع؟ فقال: الذي آخذ به لنفسي: إذا مسه بباطن الكف. ورأي في الكتاب، وهو اختيار ابن القاسم: أن القيد أن يمسه بباطن الكف، أو بباطن الأصابع. قال ابن بشير: والكل محوِّمون على مراعاةِ وجودِ اللذة ومَظِنَّتِها، ¬
فعدوا أن فقدها مع ما قيدوه نادر، فلا يراعى، وراعاه العراقيون. وقال شيخه الإمام أبو عبد الله المازريُّ: من لم يراعِ اللذةَ من أصحابنا، وراعى مجردَ مسه بباطن الكف، سهوا أو عمدا، انتقض الوضوء؛ رأى أن نقض الوضوء به تعبد. وهذا الذي أشار إليه المازري هو منشأ الاختلاف، وهو أن وجوب الوضوء منه معّلل، أو تعبد: فمن عّلله: قيد الوضوء بوجود اللذة في رأي، أو بوجود مظنتها، وهو العمد في رأي، أو بباطن الكف، أو باطنها وباطن الأصابع في رأي. ومن رأى أنه تعبد: تمسك بمقتضى لفظ الخبر، وهو الأظهر، واعتبر ما يسمى مسا، وما يسمى إفضاءً؛ لأن في بعض رواياته: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه» (¬1)، والعرب لا تسمي مسا ولا إفضاءً إلا ما كان بباطن الكف، أو الأصابع، وما كان سوى ذلك، يسمى لمسا لا مسا. ووافقنا الشافعي على (¬2) أنه لا ينتقض إذا لمسه بظاهر كفه، أو بساعده. ¬
وحكي عن أحمد: أنه ينتقض بذلك، وحجتنا عليه ما قدمناه، انتهى (¬1). قلت: وفي المسألة فروع اختصرتها خشية الإطالة. وأما مس المرأة فرجها: فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: إحداها: ما في «الكتاب» من قوله: ولا ينتقض. وروي عنه: على أن عليها الوضوء، وأنكره سحنون (¬2)، وهو قول الشافعي، وتمسك بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «من أفضى بيده إلى فرجه». وروي عن مالك أيضا: أنه لا ينتقض وضوءها إذا مست ظاهره، وأما إن قبضت عليه، أو ألطفت، فعليها الوضوء، وهي رواية إسماعيل ابن أبي أويس، هذه طريقة. وفي المذهب طريقتان (¬3) أخريتان: إحداهما: أن المذهب على قولين: أحدهما: (¬4) النقض مطلقًا، والثاني: التفصيل. ¬
والثانية: أن المذهب على قول واحد، والتفصيل تفسير (¬1)؛ فمن قال: لا ينتقض يعني: إذا مست ظاهره، ومن قال بالنقض يعني: إذا ألطفت. وقد فسر مالك الإلطافَ حين سأله إسماعيل بن أبي أويس بأن قال: تدخل يديها بين الشفرين (¬2). وروي عن مالك أيضا: استحباب الوضوء لها. وأما لمس النساء، فينقض الوضوء عندنا إذا كان على وجه (¬3) اللذة. قال ابن بشير: والمعتمد في ذلك: قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النسائي: 43]. تفصيل: اللمس لا يخلو من أربع صور: إحداها: أن يقصد به اللذة، ويجدها، فيجب الوضوء بلا خلاف. والثانية: أن يجد، ولا يقصد، فكذلك يجب الوضوء - أيضا - بلا خلاف، قاله القاضي أبو الوليد بن رشد -رحمه الله-، وغيره (¬4). والثالثة: ألا يقصد، ولا يجد فلا يجب الوضوء. والرابعة: أن يقصد، ولا يجد، فهاهنا مقتضى الروايات وجوب الوضوء. ¬
قال ابن بشير: والأشياخ يحكون عن المذهب قولين: أحدهما: الإيجاب والثاني: الإسقاط. وإنما يعولون في ذلك على الخلاف في الوضوء؛ هل يرتفض بالنية؟ وفي المذهب قولان في ذلك، وهذا الذي يعولون عليه مطلوب؛ لأن اللامس ها هنا قد وجد منه فعل، بخلاف الرفض بمجرد النية من غير فعل. وهذا التفصيل كله في حق اللامس. وأما الملموس، فلا تفصيل فيه، وإنما يقال: إن وجد اللذة، توضأ، وإن لم يجد، فلا وضوء عليه. قال ابن بشير: وكذلك - أيضا - لا تفصيل في القبلة على الفم، على المشهور من المذهب، بل توجب الوضوء إذا كانت فيمن توجد منه اللذة بقبلة على الإطلاق، وهذا لأن الغالب وجود اللذة بها، فإن شَذَّت نادرة، فلا يلتفت إليها، وقيل: هي بمنزلة اللمس، فإن فُقدت اللذة والقصد إليها، لم تنقض وضوءًا، وهذا على الخلاف؛ هل تراعى الصورة النادرة، أو يعطى الحكم للغالب؟ ومتى كان اللمس دون حائل، فإنما يراعى فيه وجدان اللذة، فيجب الوضوء، أو فقدها، فلا يجب. مسألة: إذا أنعَظ، فله أربعة أحوال:
أحدها: أن يلتذ، فيخرج منه الماء، فهذا لا خلاف في وجوب الوضوء. والثانية: أن يلتذ ولا يخرج منه ماء، ففيه قولان: المشهور: وجوب الوضوء عليه. والثالثة: أن يخرج منه الماء عاريا عن اللذة، فالمشهور - أيضا -: وجوب الوضوء؛ إذ الغالب أن خروج المذي لا يكون إلا عن لذة. والرابعة: أن لا يكون منه إلا مجردُ الإنعاظ، وانكسر عن غير ماء، ففيه - أيضا - قولان قائمان من «المدونة» على اختلاف الروايات في إثبات الألف (¬1) في قوله: إذا التذ وأنعظ، وفي رواية أخرى إذا التذ، أو أنعظ، هذا مذكور في كتاب الوضوء، وكتاب الصيام، هذا تلخيص كلام الركراكي من المتأخرين من أصحابنا، والله أعلم (¬2). وأما النوم وما ذكر معه من فقدان العقل، فتلخيصه أن يقال: هذه المسألة تشتمل على أربعة أنواع: ثلاثة لا تفصيل فيها، أعني: أن القليل منها والكثير (¬3) يوجب الوضوء، وهي: الإغماء، والسكر، والجنون. والرابع مختلف فيه، وهو النوم، هل هو حدث في نفسه، وهو الشاذ، وإن كان قد نقل عن ابن القاسم، أو هو سبب للحدث، وهو المشهور؟ قال القاضي عبد الوهاب: وهو قول أكثر أهل العلم، بل ¬
هو عندنا إجماع الصحابة (¬1). وإذا بنينا على المشهور، وهو أن النوم سبب للحدث، فقد اختلفت طريقتا الشيخ أبي الحسن اللخمي، والشيخ أبي محمد عبد الحميد في تحرير المشهور من ذلك، فاعتبر أبو الحسن زمانه، وكيفيته، فقسمه بحسب ذلك أربعة أقسام: طويلاً ثقيلاً: يؤثر في نقض الوضوء بلا خلاف، وقصيرا خفيفًا: لا يؤثر على المعروف منه. وخفيفًا طويلاً: يستحب منه الوضوء. وثقيلاً قصيرا: في تأثيره في النقض قولان. وقال بعض المتأخرين: القولان جاريان في الثالث - أيضا -. واعتبر أبو محمد عبد الحميد الهيئات فقال: إن كان النائم على هيئة يتهيأ منها الطول وخروج الحدث؛ كالساجد، نقض، وإن كان العكس؛ كالقائم والمحتبي؛ لم يؤثر. قال: وإن انقسم الأمر، وكان (¬2) إمكان الطول مع عدم إمكان خروج الحدث غالبا؛ كالجالس مستندا، أو عكسه؛ كالراكع، ففي نقضهما قولان، سببها (¬3): تعارض موجب و (¬4) مسقط. ¬
قلت: وظاهر هذا: أن الساجد لا خلاف فيه، والمنقول خلافه، والقولان في الساجد - أيضا - نقلهما التلمساني وغيره. قال ابن بشير: وهذه الطريقة أشبه بمقتضى الروايات. ثم قال: ومقصود الجميع النظر إلى الغالب؛ فإن كان يمكن خروج الحدث، ولا يشعر به، وجب الوضوء، وإن كان الأمر بالعكس، لم يجب، وإن أشكل الأمر، فهو بمنزلة من تيقن الطهارة (¬1)، ثم شك في الحدث (¬2). وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في شرح «الرسالة)، أعان الله على إكماله. الثالث: من الكلام على الحديث: ونذكر فيه مسألة أصولية، وهي مسألة استصحاب الحال، وهي أحد أدلة الشريعة الثلاثة التي هي: أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال. ونعني بالأصل: الكتاب، والسنة، والإجماع. وبمعقول الأصل: فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، والحصر، ومعنى الخطاب، على ما تقرر في كتب الأصول. ونعني باستصحاب حال الأصل: البقاء عليه حتى يدل دليل على خلافه، وهو على ضربين: ¬
أحدهما: استصحاب حال العقل. والثاني: استصحاب حال الإجماع. فالأول: نحو أن يدعي أحد الخصمين حكما شرعيا في مسألة، ويدعي الآخر البقاء على حكم العقل؛ مثل: أن يسأل المالكي أو الشافعي عن وجوب الوتر، فيقول: الأصل براءة الذمة، وطريق شغلها الشرع، فمن ادعى شرعا يوجب ذلك، فعليه الدليل، وهذه طريقة صحيحة في الاستدلال. وأما الثاني: وهو استصحاب حال الإجماع، فمثل استدلال داود على أن أم الولد يجوز بيعها، فإنا (¬1) قد أجمعنا على جواز بيعها قبل الحمل، فمن ادعى المنع من ذلك بعد الحمل، فعليه الدليل. قالوا: وهذا غير صحيح من الاستدلال؛ لأن الإجماع لا يتناول موضع الخلاف، وإنما يتناول موضع الاتفاق، وما كان حجة، فلا يصح الاحتجاج به في الموضع الذي لا يوجد فيه؛ كألفاظ صاحب الشرع إذا تناولت موضعا خاصا، لا يجوز الاحتجاج بها في الموضع الذي لا تتناوله. وهذه القاعدة قيل: إن العلماء اتفقوا على العمل بها، وإن كانوا قد اختلفوا في كيفية استعمالها. فالشافعي رضي الله عنه أعمل الأصل السابق، وهو الطهارة في مثل هذه ¬
المسألة، أعني: مسألة من تيقن الطهارة، وشك في الحدث، على ما يقتضيه لفظ الحديث، ولم يعتبر الشك الطارئ عليها، وأجاز الصلاة بهذه الحالة. ومالك رحمه الله منع من الصلاة مع الشك في بقاء الطهارة، وكأنه أعمل الأصل الأول، وهو ترتب الصلاة في الذمة، ورأى أن لا تزال إلا بطهارة متيقنة، وظاهر هذا الحديث: إعمال الطهارة الأولى، واطراح الشك. وأما من يقول من أصحابنا: إن كان في الصلاة والحالة هذه تمادى، فوجهه: أن مورد النص إذا وجد فيه معنى يمكن أن يكون معتبرا في الحكم، فالأصل يقتضي اعتباره، وعدم اطراحه، وهذا الحديث يدل على اطراح الشك إذا وجد في الصلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فلا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا»، وكونه موجودا في الصلاة معنى يمكن أن يكون معتبرا؛ فإن الدخول في الصلاة مانع من إبطالها؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، فصارت صحة الصلاة أصلاً سابقًا على حالة الشك، مانعا من الإبطال، ولا يلزم من إلغاء الشك مع وجود المانع من اعتباره إلغاؤه مع عدم المانع، وصحة العمل ظاهرا معنى يناسب عدم الالتفات إلى الشك، عكس اعتباره، فلا ينبغي إلغاؤه. وأما من فرق من أصحابنا - أيضا - بين أن يستند إلى سبب حاضر؛ كما في الحديث أولا، حتى لو شك في تقدم الحدث على وقته
الحاضر، لم تبح له الصلاة، فوجهه ما تقدم من أن مورد النص ينبغي اعتبار أوصافه الممكن اعتبارها، ومورد النص قد اشتمل على الشك في سبب حاضر، فلا يلحق به ما في معناه من الشك في سبب متقدم، والله أعلم (¬1). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 25 - عَنْ أُمِّ قَيْسِ بِنْتِ مِحْصَنٍ الأَسَدِيَّةِ: أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ؛ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حِجْرِهِ , فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ؛ فَدَعَا بِمَاءٍ، فَنَضَحَهُ, وَلَمْ يَغْسِلْهُ (¬1). ¬
وَحَدَّثَتْ (¬1) عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِصَبِيٍّ , فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ , فَدَعَا بِمَاءٍ , فَأَتْبَعَهُ إيَّاهُ (¬2). وَلِمُسْلِمٍ: فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ , وَلَمْ يَغْسِلْهُ (¬3). ¬
* التعريف: أم قيس: اسمها آمنة بنت محصن بن جرثان - بضم الجيم وسكون الراء المهملة وثاء مثلثة - بن قيس بن مرة بن كبير - خلاف صغير (¬1) - ابن غنم بن ذودان بن أسد بن خزيمة، وهي أخت عكاشة -بتشديد الكاف- ابن محصن. أسلمت بمكة قديما، وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهاجرت إلى المدينة. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرون حديثًا، اتفقا منها على حديثين، روى عنها: من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وابصة بن معبد، ومن التابعين: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ونافع مولى حمنة بنت شجاع. روى لها الجماعة (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الابن لا يقع إلا على الذكر خاصة إجماعا، والولد يقع على الذكر والأنثى، و «لم يأكل الطعام» في موضع خفض صفة (لابن)، ¬
وهو باب اجتماع المفرد والجملة صفتين، وتقديم المفرد على الجملة، وهو الأحسن، وإن كان الآخر حسنا جميلا (¬1)، ومنه قوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، ومن الآخر قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92]، وإنما كان تقديم المفرد أولى؛ لأصالته دون الجملة (¬2). والطعام: ما يؤكل، وربما خص الطعام بالبر دون غيره، قاله الجوهري (¬3). وفي حديث أبي سعيد الخدري (¬4): كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صاعا من طعام، أو صاعا من شعير (¬5). ومعنى قولها: «لم يأكل الطعام»؛ أي: لم يستغن به ويصير له غذاءً عوضا عن الرضاع، لا أنه لم يدخل جوفه شيء قط؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأتون بأبنائهم ليدعو لهم، لا سيما عند شيء يجده أحدهم من مرض أو شبهة، ويؤيد ذلك جلوسه في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ ¬
الصبي عند الولادة لا يجلس، ويقويه - أيضا -: قولها: «لم يأكل الطعام»، ولم تقل: لم يرضع، ويبعد أن يكون عبر بالإجلاس عن الوضع كما قاله الباجي؛ لأنه خلاف الحقيقة والأصل (¬1). والحَجر - بفتح الحاء وكسرها - لغتان مشهورتان. الثاني: اختلف أصحابنا في نجاسة بول الصبي والصبية اللذين لم يأكلا الطعام على ثلاثة أقوال: مشهورها، وهو قول مالك: أنه نجس. وقال ابن وهب: بول الصبي الذي لم يأكل الطعام طاهر، لا يجب غسله، ويغسل بول الجارية لنجاسته. هكذا حكاه الباجي في «المنتقى»، ثم قال عقب ذلك: وبه قال الشافعي، يعني: التفرقة بين الصبي والصبية. وليس كما قال رحمه الله، فإن الشافعي رحمه الله لم يختلف قوله: إن البول منهما نجس، وإن كان بول الصبي عنده ينضح، وبول الجارية يغسل، وابن وهب يقول بطهارة بول الصبي -على ما تقدم-، فليس قوله موافقًا لقول الشافعي، فليعلم ذلك. والقول الثالث: وهو رواية الوليد بن مسلم عن مالك في «مختصر ما ليس في المختصر»: لا يغسل بول الجارية ولا الغلام حتى يأكل الطعام. ¬
قال الباجي: وهذه رواية شاذة، والصحيح المشهور ما تقدم، يريد: أنه يغسل منهما، أكلا الطعام، أم لا. قال: ودليلنا من جهة القياس؛ أن هذا بول آدمي، فوجب غسل الثوب منه، أصل ذلك بول آكل الطعام، انتهى (¬1). وممن قال بالفرق بينهما: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وجماعة من السلف، وأصحاب الحديث، وروي عن أبي حنيفة. * فصل: ذكر ح في «شرح مسلم» -بعد أن ذكر الخلاف المتقدم-: أن هذا الخلاف إنما هو في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبي، ولا خلاف في نجاسته. قال: وقد نقل بعض أصحابنا إجماع العلماء على نجاسة بول الصبي، وأنه لم يخالف فيه إلا داود الظاهري. قال: وأما ما حكاه الحسن بن بطال، ثم القاضي عياض، عن الشافعي وغيره: أنهم قالوا: بول الصبي طاهر، فينضح، فحكاية باطلة قطعا. انتهى كلامه (¬2). قلت: قوله: «لا خلاف في نجاسته»، ليس كذلك؛ لما قدمناه من ¬
الخلاف الصريح فيه، وقوله: «فحكاية باطلة»، كلام ليس بمحرر؛ إذ غير الشافعي اللذين حكيا - أعني: ابن بطال: والقاضي عياض - عنهم (¬1) طهارة بول الصبي هم الذين تقدم ذكرهم في التفرقة بين بول الصبي والصبية، فكان وجه الكلام أن يقول: ما حكياه عن الشافعي، من غير عطف غيره عليه، فهو رحمه الله بالغلط أولى؛ لنقله الإجماع في موضع الخلاف، وقد صرح بالخلاف - أيضا - ق في شرح هذا الكتاب، فقال: اختلف العلماء في بول الصبي الذي لم يطعم الطعام في موضعين: أحدهما: طهارته أو نجاسته .... إلى آخر كلامه (¬2)، ثم إنه ناف، وغيره مثبت، وهو أولى من النافي، وبالله التوفيق. توجيه: وجه المشهور: القياس على سائر النجاسات، وتأويل الحديث بأنه لم يغسله؛ أي: غسلاً مبالغا فيه كغيره. ق: وهو خلاف الظاهر، فيحتاج إلى دليل يقاوم الظاهر (¬3). قلت: وهو كما قال، وقد تقدم. ووجه النضح: التمسك بظاهر الحديث. وأما وجه التفرقة بين الصبي والصبية: فقد اعتل بعضهم في هذا بأن بول الصبي يقع في محل واحد، وبول الصبية يقع منتشرا، فيحتاج إلى صب الماء في مواضع متعددة، ما لا يحتاج إليه في بول الصبي. ¬
وقيل: إن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث (¬1)، فيكثر حمل الذكور، فيناسب التخفيف بالاكتفاء بالنضح؛ دفعا للعسر والحرج؛ بخلاف الإناث؛ لقلة هذا المعنى فيهن، فيجري على القياس في غسل النجاسة (¬2). وقد قيل غير ذلك مما لا يستحق أن يحكى لضعفه، فاقتصرنا على هذا. الثالث: في الحديث فوائد: منها: التبرك بأهل الصلاح والفضل. ومنها: استحباب حمل الأطفال إلى أهل الفضل والتبرك بهم. ح: وسواء في هذا الاستحباب للمولود حال ولادته وبعدها. ومنها: الندب إلى حسن المعاشرة، واللين والتواضع والرفق بالصغار وغيرهم (¬3). الرابع: / قولها: «فبال على ثوبه» إلى آخره. قال الباجي: يريد: أنه صب عليه من الماء ما غمره، وأذهب لونه وطعمه وريحه، فطهر بذلك الثوب. قال: وهذه حجة مالك رحمه الله في أن قليل الماء لا ينجسه (¬4) قليل ¬
النجاسة إذا غلب عليها، وليس يفتقر تطهير النجاسة إلى إمرار اليد، وإنما المقصود إزالة العين، والحكم بأي وجه كان من غلبة الماء عليها، أو غير ذلك، والله أعلم (¬1). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 26 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ , فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ , فَزَجَرَهُ النَّاسُ , فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ، أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ؛ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: (الأعرابي): الذي يسكن البادية، وإن لم يكن من العرب، والعربي: منسوب إلى العرب، وإن كان في الحضر، والعربُ: ولد إسماعيل عليه السلام، وإنما نسب (¬1) الأعرابي إلى الجمع دون الواحد؛ لأنه جرى مجرى القبيلة؛ كأنمار، وقيل: لأنه لو نسب إلى الواحد، وهو عرب، لقيل: عربي، فيشتبه المعنى؛ فإن العربي كل من هو من ولد إسماعيل (عليه الصلاة والسلام)؛ كما تقدم، سواء كان ساكنا في البادية، أو لا، وهذا عين المعنى الأول (¬2). الثاني: (الطائفة من الشيء): القطعة منه. و (المسجد) - بكسر الجيم وفتحها-، وقيل: بالفتح: اسم لمكان السجود، وبالكسر اسم للموضع المتخذ مسجدا. ح: قال الإمام أبو حفص عمر بن خلف بن مكي الصقلي في كتابه «تثقيف (¬3) اللسان»: ويقال للمسجد: مَسْيِد -بفتح الميم -، حكاه غير ¬
واحد من أهل اللغة (¬1). و (الزجر): المنع والنهي (¬2)، يقال: زجره، وازدجره، فانزجر، وازدجر (¬3). والذَّنوب - بفتح الذال المعجمة -: من الألفاظ المشتركة، وهو في الحديث: الدلو الملأى ماء (¬4). وقال (¬5) ابن السكيت: فيها قريب من الملء، تؤنث وتذكر (¬6)، ولا يقال لها وهي فارغة: ذنوب (¬7). والجمع في أدنى العدد أَذْنِبَةٌ، والكثير ذَنَائِبُ، مثل قَلُوصٌ وَقَلَائِصُ، والذنوب - أيضا ت: - الفرس الطويل والنصيب، ولحم أسفل المتن (¬8). و (أهريق عليه): صُبَّ عليه، والأصل: أريق (¬9)، والهاء زائدة. الثالث: أما أحكامه: ¬
ففيه: إثبات نجاسة بول الآدمي، وهو مجمع عليه إذا أكل الطعام. وفيه: احترام المسجد، وتنزيهه عن الأقذار. وفيه: أن الأرض تطهر بصب الماء عليها، من غير حفرها، ونقل ترابها؛ خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله في اشتراطه حفرها. قال الفقهاء: يصب على البول ما يغمره من غير تحديد، واستحب بعضهم أن يكون محددا بسبعة أمثال البول (¬1). وفيه: أن غُسالة النجاسة طاهرة، وهذه المسألة اختلف العلماء فيها، ومذهبنا: إذا انفصلت الغُسالة عن المحل متغيرة، فهي نجسة، وإن انفصلت غير متغيرة، فهما طاهران، وأنه لا يشترط الاستقصاء في إزالة الغُسالة عن محل النجاسة بعد انفصال الماء غير متغير، بل يطهر، وإن لم يعصر الثوب، وكذلك لا يستقصي في إزالة الرطوبة عن الإناء؛ لأن المنفصل من الماء عن المحل جزء من المتصل، والمتصل طاهر، فالمنفصل (¬2) مثله، فيستوي انفصال الكل والبعض (¬3). وللشافعية في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنها طاهرة. والثاني: نجسة. ¬
والثالث: إن انفصلت وقد طهر المحل، فهي طاهرة، وإن انفصلت ولم يطهر المحل (¬1)، فهي نجسة، وهو الصحيح عندهم. وهذا كله إذا انفصلت غير متغيرة، أما إذا انفصلت متغيرة، فهي نجسة إجماعا، سواءً تغير طعمها، أو لونها، أو ريحها، وسواء كان التغير قليلاً، أو كثيرا، كان الماء قليلاً أو كثيرا، والله أعلم (¬2). وفيه: الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء، إذا لم يأت بالمخالفة استخفافًا ولا عنادا. وفيه: دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما؛ لنهيه -عليه الصلاة والسلام- عن زجره. قال العلماء: كان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوه» لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله، تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به. والثانية: إن التنجيس قد حصل في جزء يسير (¬3) من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله، لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد، والله أعلِم (¬4). ¬
قلت: ففي هذا: الإبانة عن كريم أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -، وعظيم علمه وسني حكمته، وجميل (¬1) صفاته؛ من اللطف، والرفق بالجاهل، وغيره - صلى الله عليه وسلم -. مسألة: قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: وإذا أصابت الأرض نجاسة، ومطرت مطرا عاما، كان ذلك مطهرا لها، وكانت في معنى صب الذنوب وأكثر. قلت: ولا ينبغي أن يختلف في ذلك، والله أعلِم. وقال - أيضا -: روي عن أبي قلابة: أنه قال: جفوف الأرض طهورها (¬2). وقال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن: الشمس تزيل النجاسة عن الأرض إذا ذهب الأثر. وقال الشافعي، وأحمد بن حنبل: في الأرض إذا أصابتها النجاسة: لا يطهرها إلا الماء. قلت: ولا أعلم في مذهبنا ما يخالف هذا؛ أعني: أن الماء مشترط في التطهير، إلا ما حكي عن أشهب، من أن النجاسة تزال بالخل ونحوه، والله أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 27 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ , وَالاسْتِحْدَادُ , وَقَصُّ الشَّارِبِ , وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ , وَنَتْفُ الإِبِطِ» (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: جاء في هذه الرواية: «الفطرة خمس»، بصيغة الحصر الابتدائي، وفي الرواية الأخرى: «خمس من الفطرة» (¬1)، بلا حصر، والجمع بينهما: أن يكون المراد برواية الحصر، المجاز دون الحقيقة؛ فإن الحصر يستعمل حقيقة تارة ومجازا أخرى. فالحقيقة كقولنا: الله ربنا، ومحمد نبينا، والعالم في البلد زيد، إذا لم يكن فيها عالم غيره. والمجاز كقوله -عليه الصلاة والسلام-: «الدين النصيحة» (¬2)، جعل النصيحة كل الدين، وكأنه لا دين إلا النصيحة؛ على طريق المبالغة، فإن في الدين خصالاً أخر غير النصيحة، وكذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: «الحج عرفة» (¬3)، والحج مشتمل على أركان أخر ¬
غير عرفة، لما أراد تخصيص عرفة لمزية على غيرها من الأركان، لمعنى مذكور في موضعه. ومما يدل على أن المراد برواية الحصر: الحصر المجازي: أنه جاء في بعض الروايات الصحيحة أيضا: «عشر من الفطرة» (¬1)، وهذا نص صريح في عدم الحصر في الخمس، فتعين رجوع إحدى الروايتين إلى الأخرى؛ توفيقًا بينهما بالمعنى المذكور، والله الموفق (¬2). وأما رواية: «الفطرة خمس»، أو «خمس من الفطرة»، فقيل: إنه شك من الراوي. والله أعلم (¬3). الثاني: وأما تفسير «الفطرة»، فاعلم أنها من الألفاظ المشتركة. ق: قال أبو عبد الله بن جعفر التميمي المعروف بالقزاز في كتاب «تفسير» غريب صحيح (¬4) «البخاري»: الفطرة في كلام العرب تتصرف ¬
على وجوه أذكرها؛ ليرد هذا إلى أولاها به (¬1). فأحدها: فطر الله الخلق فطرة: أنشأه، والله فاطر السموات والأرض؛ أي: خالقهما. والفطرة: الجبلّة التي خلق الله الناس عليها، وجبلهم على فعلها، وفي الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» (¬2)، قال قوم من أهل اللغة: فطرة الله التي فطر الناس عليها: خلْقه لهم. وقيل: معنى قوله: «على الفطرة»: أي: على الإقرار بالله الذي كان أقر به لما أخرجه من ظهر آدم -عليه الصلاة والسلام-. والفطرة: زكاة الفطر. وأولى الوجوه بما ذكرنا أن تكون الفطرة ما جبل الله الخلق عليه، وجبل طباعهم على فعله، وهي كراهة ما في جسده مما هو ليس من زينته. وقال غير القزاز: الفطرة: السنة. انتهى (¬3). وقال أبو سليمان الخطابي -رحمه الله- وجماعة غيره: ذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة، قالوا: ومعناه أنه (¬4) من سنن الأنبياء -صلوات الله ¬
وسلامه عليهم - (¬1). وهذا هو الظاهر عندي، والله أعلم. وقيل: الفطرة: الدين. الثالث: وأما «الختان»، فما ينتهي إليه القطع من الصبي والجارية، وذلك قطع الجلدة الساترة للحشفة حتى تنكشف جميعها، وفي الصبية قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج، يقال: ختن (¬2) الصبي، يختنه ويختنه - بكسر التاء وضمها - ختن، بإسكان التاء (¬3). وأما حكمه، فهو عند مالك - رحمه الله - وأكثر العلماء سنة. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد -رحمه الله-، وغيره: الختان للرجال سنة، والخفاض في النساء مكرمة (¬4)؛ تمسكًا بهذا الحديث، ونصيته على ذلك؛ إذا فسرنا الفطرة بالسنة، وهو مذهب الجمهور كما تقدم، والتمسك به من وجهين: أحدهما: أن السنة تذكر في مقابلة الواجب. والثاني: أن قرائنه المذكورة معه كلها غير واجبة، فتعين أن يكون الختان كذلك. ¬
وقال الشافعي -رحمه الله- بوجوبه على الرجال والنساء جميعا، واستدل له ابن سريج (¬1) بالإجماع على ستر العورة، وتحريم النظر إليها. قال: فلولا أن الختان فرض، لما أبيح النظر لعورة المختون، ولا انتهك هذا المحرم (¬2). والجواب عنه من وجهين: أحدهما: لا نسّلم ثبوت الإجماع على تحريم النظر إلى العورة مطلقًا، بل المنقول في مذهبنا: إجماع المسلمين على أنه ينظر إلى مبال الخنثى المشكل حيث يراد تبيين أمره، هكذا نقله ابن يونس من أصحابنا، ثم قال: فإن كان صغيرا ممن يجوز النظر إلى عورته، كشف عن ذلك، وإن كان كبيرا، فيبول إلى حائط، أو من أعلى حائط، إلى آخر كلامه. وقد ذكر ابن بطال في شرح «البخاري» في أبواب صلة الرحم، قال: ويقبل الرجل حيثما شاء من جسد ولده الصغير، روي (¬3) عن جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بالحسين بن علي (¬4) رضي الله عنهما، ففرج بين فخذيه، فقبل زبيبته (¬5). ¬
والثاني: ع وغيره: مثل هذا يباح لمصلحة الجسم، ونظر الطبيب ومعاناة ذلك الموضع. قال: وليس الطب بواجب إجماعا، فما فيه مصلحة دينية، وتمام فطرته، وشعار ملته أولى بذلك (¬1). قلت: قول ع: إن الطب ليس بواجب إجماعا، فيه نظر؛ فإن من خيف عليه الهلاك، وقدر على مداواته، لا ينبغي أن يختلف في وجوب مداواته، والله أعلِمَ. وربما نقل بعضهم (¬2) الإجماع في هذه الصورة، فيما أظن، فانظره. وقد أورد على أحد الوجهين المتقدمين، أعني: قولنا: إن قرائنه المذكورة كلها غير واجبة؛ أنه لا يمتنع قرن الواجب بغيره؛ كما قال الله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، والأكل ليس بواجب إجماعا. وأجيب عنه: بأن بين الآية والحديث فرقًا دقيقًا لطيفًا ينبغي أن يتنبه له، وذلك أن لفظة الفطرة لفظة واحدة استعملت في هذه الأشياء الخمسة، وفي الآية كل جملة مستقلة على حيالها (¬3)، وإنما تضعف ¬
دلالة الاقتران إذا استقلت الجمل؛ كما في الآية، لا كما في الحديث، فاعرفه (¬1). فائدة: قال صاحب «الوجيز» من أصحابنا، وفي «مختصر السنن» للبيهقي: كان بالمدينة (¬2) امرأة يقال لها أم عطية، تخفض الجواري، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - «يا أم عطية! أخفضي ولا تنهكي؛ فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند الزوج»، ثم قال: وروينا في رواية ضعيفة عن أنس في هذا الحديث: «إذا خفضت، فأشمّي، ولا تنهكي» (¬3)، قال: يعني: أبقاءً لماء الوجه ودمه وأحسن في جماعها، والله أعلم. مسألة: استحب مالك رحمه الله تعالى تأخير الختان إلى الإثغار، ويكره عندنا أن يختن الصبي في سابع يوم ولادته (¬4)، واستحب ذلك الشافعي. ودليل مالك: ما نقل من أن ذلك من فعل اليهود. ووجه الشافعي أن إسحاق -عليه الصلاة والسلام- ختن وهو ابن سبعة أيام (¬5) (¬6). ¬
وقد يعترض عليه بأن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ختن ابن ثمانين سنة، وقيل: ابن مئة وعشرين سنة، وإسماعيل ابن ثلاث عشرة سنة (¬1) فرع: الخنثى المشكل هل يختن، أم لا؟ وإذا قلنا: يختن، ففي أحد الفرجين، أو فيهما؟ وإذا قلنا: في أحدهما، فأيهما؟ لم أر لأصحابنا في ذلك نقلاً. واختلف أصحاب الشافعي في ذلك، فقيل: يجب ختانه في فرجيه (¬2) بعد البلوغ، وقيل: لا يجوز حتى يتبين، وهو الأظهر عندهم. ح: وأما من كان له ذكران، فإن كانا عاملين، وجب ختانهما، وإن كان أحدهما عاملاً دون الآخر، ختن العامل. وبم يعتبر العمل به؟ وجهان: أحدهما: بالبول، والآخر: بالجماع. قال: ولو مات إنسان غير مختون، ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا: الصحيح المشهور: أنه لا يختتن، صغيرا كان أو كبيرا. قلت: ولا أعلم في هذا خلافًا في مذهبنا؛ أعني أنه لا (¬3) يختتن. قال: والثاني: يختتن. ¬
والثالث: يختتن الكبير دون الصغير (¬1). فائدة جليلة: قال ابن الجوزي في كتابه المسمى ب: «المجتبي»: أسماء من ولد من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مختونا: آدم، شيث، إدريس، نوح، سام، هود، صالح، لوط، شعيب، يوسف، موسى، سليمان، زكريا، عيسى، يحيى، حنظلة بن صفوان؛ نبي أصحاب الرس، محمد -صلى الله عليهم وعلى آلهم وسلم-، فذلك سبعة عشر نبيا - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وقد اختلف في نبوة حنظلة ابن صفوان هذا، والله أعلم. قلت: وانظر لعده آدم عليه السلام فيمن ولد، وكأنه جاء على طريق التغليب، والله أعلم. الرابع: وأما «الاستحداد»، وهو (¬2) استفعال من الحديد، قيل: سمي بذلك؛ لاستعمال الحديدة فيه، وهو الموسى، وهو حلق العانة بالحديدة (¬3)، فإن أزيل بغير حلق؛ كالقص، والنتف، والنورة، حصل المقصود من ذلك، ولكن الحلق هو السنة في ذلك، الدال عليها لفظ الحديث (¬4). والمراد ب «العانة»: الشعر الذي فوق الذكر (¬5) وحواليه، وكذلك ¬
الشعر الذي حول فرج المرأة. ح: ونقل عن أبي العباس بن سريج (¬1): أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر، قال: فتحصل (¬2) من مجموع هذا: استحباب [حلق جميع] ما على القبل والدبر وحولهما. قلت: وهذا على اختلاف القولين (¬3) بين العلماء في جواز حلق شعر الدبر ومنعه. وأما وقت حلقه، فلم أر لأصحابنا فيه تحديدا، والظاهر: أنه بحسب الحاجة إلى حلقه، عندما يطول، وهو المختار من مذهب الشافعي على ما ذكره ح. قال: وأما وقت حلقه، فالمختار أنه يضبط (¬4) بالحاجة، وطوله، فإذا طال حلق، وكذلك الضبط في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وأما حديث أنس: وقِّت لنا في (¬5) قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا يترك أكثر من أربعين ليلة (¬6)، فمعناه: لا يترك تركًا يتجاوز به أربعين، لا أنهم وقِّت لهم الترك أربعين، والله أعلم. انتهى (¬7). ¬
الخامس: وأما قص الشارب، فمطلق يطلق (¬1) على إحفائه، وعلى ما دون ذلك، والمستحب عندنا: إزالة ما زاد على الشفة، وهو (¬2) الإطار - بكسر الهمزة - وهو طرف الشعر المستدير على الشفة، لا إحفاؤه بالكلية، وكل شيء أحاط بشيء فهو إطار له، وأما رواية (¬3): «أحفوا الشوارب» (¬4)، فقيل: معناها: احفوا ما طال على الشفتين (¬5)، وفي همزة: أحفوا، وأعفوا: القطع، والوصل، وكأن الأكثر القطع، والله أعلِم. ق: وقوم يرون إنهاكها، وزوال شعرها، ويفسرون به الإحفاء: فإن اللفظة تدل على الاستقصاء (¬6)، ومنه: إحفاء المسألة، وقد ورد في بعض الروايات: «أنهكوا الشوارب» (¬7). والأصل في قص الشوارب وإحفائها (¬8) وجهان: أحدهما: مخالفة الأعاجم، وقد وردت هذه العلة منصوصة في «الصحيح»؛ حيث قال -عليه الصلاة والسلام-: «خالفوا المجوس» (¬9). ¬
والثاني: أن زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في النظافة، وأنزه من وضر الطعام، انتهى (¬1). السادس: وأما تقليم الأظفار: فهو تفعيل من القلم، وهو القطع. قال الجوهري: قلَمت ظفري، يريد: بتخفيف اللام، وقّلمت أظفاري شدد (¬2) للكثرة (¬3). قلت: هذا التضعيف يسميه أهل العربية: تضعيف المبالغة، وهو خلاف تضعيف التعدية في نحو فرحت زيدا، على ما هو مقرر في كتب العربية. والقلامة: ما سقط منه، ولم أر لأصحابنا في كيفية التقليم شيئًا، والمنقول عند الشافعية: أنه يستحب أن يبدأ باليدين قبل الرجلين، فيبدأ بمسبحة يده اليمنى، ثم الوسطى، ثم البنصر، ثم الخنصر، ثم الإ بهام، ثم يعود إلى اليسرى، فيبدأ بخنصرها، ثم ببنصرها، إلى آخرها، ثم يعود إلى الرجل اليمنى، فيبدأ بخنصرها، ويختم بخنصر اليسرى. ولم أدرِ ما وجه استحباب ذلك إلا أن يكون ورد في السنة شيء، فالسمع والطاعة (¬4). ¬
ق: وفي التقليم معنيان: أحدهما: تحسين الهيئة، والزينة، وإزالة القباحة في طول الأظفار. والثاني: أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه؛ لما عساه أن يحصل تحتها من الوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة، وهذا على قسمين. أحدهما: أن لا يخرج طولها عن العادة خروجا بينا، فهذا الذي أشرنا إلى (¬1) أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه؛ فإنه إذا (¬2) لم يخرج طولها عن العادة، يعفى عما تعّلق بها من يسير الوسخ، وأما إذا زاد على المعتاد، فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة، وقد ورد في بعض الأحاديث الإشارة إلى هذا المعنى، انتهى (¬3). قلت: ولم أر لأصحابنا هذا التفصيل، بل ولا الكلام على هذه ¬
المسألة جملة، والظاهر: أنه يتكلم على مذهب الشافعي. والله أعلم. السابع: وأما نتف الإبط، فالمستحب أن يبدأ بالأيمن، ويجوز إزالة شعره بالحلق، والنورة، ولكن السنة نتفه، وقد فرق في الحديث بين إزالة شعر العانة، وإزالة شعر الإبط، فذكر في الأول الاستحداد، وفي الثاني النتف. ق: ولعل السبب فيه: أن الشعر بحلقه يقوى أصله، ويغلظ جرمه، ولهذا يصف الأطباء تكرار حلق الشعر في الموضع الذي يراد قوته فيها، والإبط إذا قوي فيه الشعر، وغلظ جرمه، كان أفوح للرائحة الكريهة المؤذية، لمن يقار بها، فيناسب فيه النتف المضعف لأصله، المقلل للرائحة الكريهة، وأما العانة، فلا يظهر فيها من الرائحة الكريهة ما يظهر في الإبط، فزال المعنى المقتضي للنتف، فرجع إلى الاستحداد؛ لأنه أيسر وأخف على الإنسان من غير معارض (¬1). قلت: وهذا فيمن لا يتضرر بالنتف، ولا يتألم له، فإن كان ممن يتألم له، جاز له الحلق. والله أعلِمَ. وقد حكي عن يونس بن عبد الأعلى، قال: دخلت على الشافعي -رحمه الله-، وعنده المزين يحلق إبطه، فقال الشافعي: قد (¬2) علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع (¬3)، والله أعلم. ¬
باب الجنابة
بابُ الجنابةِ الحديث الأول 28 - عنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَهُ في بعْضِ طُرُقِ المدينَةِ وهو جُنُبٌ، قالَ: فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبْتُ فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ، فقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ ياأَبا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: كُنْتُ جُنُبَاً فَكَرِهْتُ أَنْ أُجالِسَكَ على غَيْرِ طَهارَةٍ، فَقَالَ: سُبْحانَ اللهِ، إِنَّ المُؤْمِنَ لايَنْجُسُ» (¬1). ¬
الجنابة فعالة من البعد، ومنه قوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]، وهو البعيد الذي ليس بقرابة، على أظهر الأقوال فيه. وعن الشافعي -رحمه الله-: إنما سمي جنبا؛ من المخالطة، ومن كلام العرب: أجنب الرجل: إذا خالط امرأته. قال بعضهم: وكأن هذا ضد المعنى الأول؛ كأنه من القرب منها. ق: وهذا لا يلزم؛ فإن مخالطتها مؤدية للجنابة التي معناها: البعد (¬1). قلت: وفيه نظر. * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «فانخنست منه» قال الجوهري: خنس عنه يخنس - بالضم -؛ أي: تأخر، وأخنسه غيره: إذا خلفه، ومضى عنه (¬2). وقال غيره: الانخناس: الانقباض والرجوع، وما قارب ذلك في المعنى (¬3). ¬
وهو -والله أعلم- راجع إلى معنى قول الجوهري. وقيل: خنس: يستعمل لازما ومتعديا، فاللازم نحو ما جاء في الحديث: «الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، إذا ذكر الله، خنس، وإذا غفل وسوس» (¬1)، أو كما قال، والمتعدي كما جاء (¬2) في الحديث أيضا: «وخنس إبهامه» (¬3). قلت: يحتمل أن لا يكون في (¬4) ذلك دليل على تعدي خنس؛ لاحتمال أن يكون قد أشرب معنى حبس - بالحاء المهملة والباء الموحدة - أو قبض، فيرجع إلى ما قاله الجوهري. ق: وقد روي في هذه اللفظة «فانتجست (¬5) منه) (¬6) - بالجيم - من الانبجاس (¬7)، وهو الاندفاع؛ أي: اندفعت عنه، ويؤيده قوله في حديث ¬
آخر: «فانسللت منه» (¬1)، وروي في هذه اللفظة أيضا: «فانبخست منه» (¬2)؛ من البخس الذي هو النقص، وقد استبعدت هذه الرواية، ووجهت -على بعدها- بأنه اعتقد نقصان نفسه بجنابته عن مجالسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو مصاحبته؛ لاعتقاده نجاسة نفسه، هذا، أو معناه، انتهى (¬3). قال القاضي أبو بكر بن العربي: ويروى: «فانتجست» (¬4) - بالنون ثم التاء المعجمة باثنتين فوق -، المعنى: اعتقدت نفسي نجسا، ومعنى «منه»: من أجله؛ أي: رأيت نفسي نجسا بالإضافة إلى طهارته وجلالته (¬5). الثاني: قوله: «كنت جنبا»، يقال: جنب الرجل، وأجنب: إذا أصابته الجنابة، ويقال: جنب: للمذكر والمؤنث، والمثنى والمجموع، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وقال بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني كنت جنبا (¬6). وقد يقال: جنبان، ¬
وجنبون، وأجناب (¬1). الثالث: قوله: «فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة»: فيه استحباب الطهارة عند مجالسة العظماء، وأهل الدين والفضل، حتى يكون على أكمل الحالات، وأحسن الهيئات، وقد استحب العلماء لطالب العلم أن يحسن حاله في مجالسة شيخه، فيكون متطهرا، متنظفًا بإزالة الشعور المأمور بإزالتها، وقص الأظفار، وإزالة الأروائح الكريهة، وغير ذلك مما في هذا المعنى؛ فإن ذلك من إجلال العلم والعلماء (¬2). لا ما يفعله أكثر فقهاء العصر؛ من تكبير العمائم، وتوسيع الثياب والأكمام، وإطالتها وترفيعها وصقالها؛ لقصد المباهاة بينهم، حتى يخرجوا في ذلك إلى أن يتجاوزوا (¬3) بها الكعبين، وينسون قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أزرة المؤمن إلى نصف الساق، لا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جر إزاره بطرا، لم ينظر الله إليه» رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬4). وهذا من أكبر دليل ¬
على أنهم لم يقصدوا بالعلم وجه الله تعالى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر (¬1) إليه، فنسأل الله تعالى إخلاص النية في القول والعمل بمنه وفضله. وفي الحديث -أيضا - من الآداب: أن العالم إذا رأى من تابعه أمرا يخالف العادة، ويخاف عليه خلاف الصواب، أن يسأله عنه، ويبين حكمه، وينبه على صوابه (¬2). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «سبحان الله»: هو من المصادر اللازمة للنصب كريحان الله، بمعنى: استرزاقه، ومعاذ الله، وغفرانك لا كفرانك، وأشباه ذلك مما هو منصوب بفعلٍ مضمر لا يجوز إظهاره، ومعناه: تنزيه الله وبراءته عن الصفات التي لا تليق بجلاله وكماله، وهو يستعمل مفرَدًّا، ومضافًا، فإذا أفرد، فمنهم من ينونه، ومنهم من لا ينونه، فمن ترك تنوينه قوله: [السريع] أَقولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفاخِرِ (¬3) ومن تنوينه قوله: ¬
سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا نَعُوذُ بِهِ ... وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ (¬1) (¬2) فمن ترك تنوينه، جعله علما، فمنعه الصرف؛ للتعريف، وزيادة الألف والنون، ومن نونه، جعله نكرة، وقيل: بل صرفه للضرورة، وأما من قال: إنه مقطوع عن الإضافة، فضعيف، أو باطل (¬3). والمراد به في الحديث: التعجب من أن أبا هريرة -رضي الله عنه- اعتقد نجاسة نفسه بسبب (¬4) الجنابة، ولم يرد عليه - صلى الله عليه وسلم - استحبابه الطهارة في مجالسته. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إن المؤمن لا ينجس»: يقال: نَجِسَ يَنْجَسُ -بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع: كعَلِم يَعْلَم، وَنجَس ينجُس - بفتح الماضي، وضم المضارع -؛ كقَتل يقتُل، لغتان مشهورتان (¬5). ح: هذا أصل عظيم في طهارة المسلم حيا وميتا، فأما الحي ¬
فطاهر بإجماع المسلمين، حتى الجنين إذا ألقته أمه وعليه رطوبة فرجها، قال بعض أصحابنا: هو طاهر بإجماع المسلمين، ولا يجيء فيه (¬1) الخلاف المعروف في نجاسة رطوبة فرج المرأة، ولا الخلاف المذكور في كتب أصحابنا في نجاسة ظاهر بيض الدجاج ونحوه؛ فإن فيه وجهين؛ بناءً على رطوبة الفرج، هذا حكم المسلم الحي، وأما الميت، ففيه خلاف للعلماء، وللشافعي فيه قولان؛ الصحيح منهما: إنه طاهر، ولهذا غسل، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ المؤمن (¬2) لا ينجسُ». قلت: والقولان في مذهب مالك أيضاً: قال: وذكر البخاري في «صحيحه» عن ابن عباس -رضي الله عنها- تعليقًا: «المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا» (¬3)، هذا حكم المسلم. وأما الكافر، فحكمه في الطهارة والنجاسة حكم المسلم، هذا مذهبنا ومذهب الجماهير من السلف والخلف، وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، فالمراد: نجاسة الاعتقاد والاستقذار، وليس المراد: أن أعضاءهم نجسة كنجاسة البول والغائط ونحوهما. ¬
قلت (¬1): وقد ذهب بعض الظاهرية إلى أن المشرك نجس في حال حياته، أخذًا بظاهر قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. قال: فإذا ثبت طهارة الآدمي مسلِمَا كان أو كافرا، فعرقه، ولعابه، ودمعه، طاهرات، سواء كان محدثًا، أو جنبا، أو حائضا، أو نفساء، وهذا كله بإجماع المسلمين، وكذلك الصبيان؛ أبدانهم وثيابهم ولعابهم محمولة على الطهارة حتى تتبين النجاسة، فتجوز الصلاة في ثيابهم، والأكل معهم من المائع إذا غمسوا أيديهم فيه، ودلائل هذا كله من السنة والإجماع مشهورة، والله أعلم، انتهى (¬2). قلت: وينبغي أن يكون هذا الخلاف -في طهارة الآدمي ونجاسته بعد الموت-، مختصا بغير الأنبياء، على جميعهم الصلاة والسلام، ولم أر من تعرض لهذا، ولكن (¬3) هو الذي يقوى في نفسي؛ لعظيم المرتبة وعلو المنزلة، وشريف المزية على سائر الخلق، والله أعلم. ومما يوجب القطع بذلك: الاتفاق على طهارة الشهيد بعد الموت -على ما نقله القاضي أبو بكر بن العربي-، فلتكن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم- بذلك أولى. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 29 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: كَانَ الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، غَسَلَ يَدَيْهِ , ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ , ثُمَّ اغْتَسَلَ , ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدَيْهِ شَعْرَهُ , حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ؛ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ , ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ. وقالت: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ , نَغْتَرِفُ مِنْهُ جَمِيعاً (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: «كان» هذه التي تدل على الملازمة والتكرار - كما تقدم -، ولتعلم أن قولها: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة» يحتمل أن يكون من باب قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]؛ أي: إذا أراد (¬1) الاغتسال، ويحتمل أن يكون اغتسل بمعنى: شرع في الغسل؛ فإنه يقال: فعل إذا فرغ، وفعل: إذا شرع في الفعل أيضا، فإذا حملنا اغتسل على شرع، صح؛ لأنه يمكن أن يكون الشروع به وقتا للبداية بغسل اليدين، وهذا بخلاف قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]؛ فإنه لا يمكن أن يكون وقت الشروع في القراءة وقت الاستعاذة، هذا معنى كلام ق، وأكثر لفظه (¬2) (¬3). ¬
الثاني: قولها: «غسل يديه»: يعني: قبل إدخالهما في الإناء، على ما تقرر، ولا خلاف في مشروعية ذلك، وإنما الخلاف بيننا وبين أهل الظاهر في وجوبه، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوعبا في حديث: «إذا استيقظ أحدكم من نومه» بما يغني عن الإعادة. الثالث: قولها: «وتوضأ وضوءه للصلاة»: فيه: استحباب تقديم أعضاء الوضوء في الغسل؛ كما هو المعروف من مذاهب العلماء. ق: ما معناه: أنه ينبغي أن يقع البحث في هذا الغسل لأعضاء الوضوء، هل هو وضوء حقيقة، فيكتفى به عن غسل هذه الأعضاء للجنابة؟ فإن موجب الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحد، أو يقال: إن غسل هذه الأعضاء إنما هوعن الجنابة، وإنما قدمت على بقية الجسد؛ تكريما لها، وتشريفًا، ويسقط غسلها عن الوضوء باندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى. وقد يقول قائل: قولها: «وضوءه للصلاة» مصدر مشبه، تقديره: وضوءًا مثل وضوء الصلاة، فيلزم لأجل ذلك أن تكون هذه الأعضاء مغسولة عن الجنابة؛ لأنها لو كانت مغسولة للوضوء حقيقة، لكان قد توضأ عين الوضوء للصلاة، فلا يصح التشبيه؛ لأن التشبيه يقتضي تغاير المشبه والمشبه به، فإذا جعلناها مغسولة للجنابة، صح التغاير، وكان التشبيه في الصورة الظاهرة. وجوابه بعد تسليم كونه مصدرا مشبها من وجهين: أحدهما: أن يكون شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة
بالوضوء للصلاة في غير غسل الجنابة، والوضوء بقيد كونه في غسل الجنابة مغاير للوضوء بقيد كونه خارج غسل الجنابة، فيحصل التغاير الذي يقتضي صحة التشبيه، ولا يلزم منه عدم كونه وضوءًا للصلاة حقيقة. الثاني: لما كان وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية، شبه هذا الفرد الذي وقع في الخارج بذلك المعلوم في الذهن، كأنه يقال: أوقع في الخارج ما يطابق الصورة الذهنية لوضوء الصلاة (¬1). قلت: و (¬2) هذا بحث حسن، وتنقيح جيد، لكن لا يظهر له فائدة حكمية؛ لأنا متفقون على صحة الغسل، والحالة هذه، سواء اعتقدنا أنه وضوء أجزأ عن غسل، أو غسل لهذه الأعضاء عن الجنابة، والله أعلم. الرابع: قولها: «ثم يخلل بيديه شعره»: فيه: استحباب التخليل باليدين جميعا، وهل التخليل بإدخال الأصابع مبلولة فيما بين أجزاء الشعر، أو لا بد من نقل الماء حتى يسمى تخليلاً؟ أشار بعضهم إلى ترجيح نقل الماء؛ لما في مسلم: ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر (¬3) ورد به على من يقول: إن التخليل بغير نقل الماء. ح (¬4): وذكر النسائي في السنن مايبين هذا، قال: باب تخليل ¬
الجنب رأسه، وأدخل حديث عائشة، فقالت فيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب رأسه، ثم يحثي عليه ثلاثًا (¬1) قال: فهذا بين في التخليل بالماء (¬2). الخامس: قولها: «حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته»: يحتمل أن يريد بالظن هنا: اليقين، وقد جاء ذلك كثيرا في كلام العرب، قال الله تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]؛ أي: أيقنوا؛ لأنه وقت رفع الشكوك والظنون. وقال الشاعر: [الطويل] فقلت لهم: ظنوا بألفي ... سراتهم بالفارسي المسرد (¬3) أي: أيقنوا، وهو كثير، وأظن أنه قد جاء العكس؛ أعني: العلم بمعنى الظن، ويحتمل أن يكون الظن هنا على بابه؛ لأنه يكتفى بالظن في هذا الباب، فيحمل على ظاهره. وقولها: «أروى»: هو من الري الذي هو خلاف العطش، وهو مجاز في ابتلال الشعر بالماء، والمقصود بالإرواء هنا: إيصال الماء إلى جميع الجلد، والظاهر: أنه لا يصل إلى جميع الجلد إلا وقد ابتلت أصول الشعر، أو الشعر كله (¬4). ¬
السادس: قولها: «ثم غسل سائر جسده»: غّلط الحريري في «درة الغواص» من استعمل سائرا بمعنى: الجميع، ووهمه، واستدل على ذلك بحديث غيلان، الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - وفارق سائرهن (¬1)؛ أي: من بقي بعد الأربع اللاتي تختارهن، قال: ولما وقع سائر في هذا الموضع بمعنى: الباقي الأكثر، منع بعضهم من استعماله بمعنى: الباقي الأقل. قال: والصحيح أنه يستعمل في كل باق قل أو كثر؛ لإجماع أهل اللغة على أن معنى الحديث: «إذا شربتم فاسأروا» (¬2)؛ أي: أبقوا في الإناء بقية ماء؛ لأن المراد به: أن يشرب الأقل، ويبقي الأكثر، وإنما ندب إلى التأدب بذلك؛ لأن الإكثار من المطعم والمشرب منبأة عن النهم، وملأَمة عند العرب. قال: ومما يدل أن «سائرا» بمعنى باق: ما أنشده سيبويه: [الطويل] ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه .... وسائره باد إلى الشمس أجمع (¬3) ¬
قال: ويشهد لذلك أيضا، قول الشنفرى [الطويل] لا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر ... إذا احتملت رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري (¬1) فعنى كل شاعر بلفظه (سائر) ما بقي من جثمانه بعد إبانة رأسه، والجسد للبدن، وهوه من الألفاظ المشتركة، والجسد أيضا: الزعفران نحوه من الصبغ، وهو من الدم أيضا، قال النابغة: [البسيط] وما هريق على الأنصاب من جسد (¬2) والجسد: أيضا: مصدر قولك: جسِد به الدم يجسد: إذا لصق به، والله أعلم (¬3). السابع: أجمع المسلمون على جواز تطهر الرجل والمرأة من إناء واحد كما هو نص الحديث، وكذلك تطهر المرأة بفضل الرجل، وأما تطهر الرجل بفضلها، فهو جائز عندنا، وعند الشافعي، وأبي حنيفة، ¬
وجماهير العلماء، سواء خلت به، أو لم تخل. قال أصحاب الشافعي: لا كراهة في ذلك؛ للأحاديث الصحيحة الواردة به، وذهب أحمد بن حنبل، وداود إلى أنها إذا خلت بالماء واستعملته، لا يجوز للرجل استعمال فضلها وروي عن عبد الله بن سرجس، والحسن البصري، وروي عن أحمد كمذهبنا، وروي عن الحسن وسعيد بن المسيب كراهة فضلها مطلقًا (¬1). والمختار: ما قاله الجماهير؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في تطهره - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه، وكل واحد منهما مستعمل لماء صاحبه، ولا تأثير للخلوة. وقد ثبت في الحديث الآخر: أنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل بفضل بعض أزواجه رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأصحاب السنن، قال الترمذي: وهو حديث حسن صحيح (¬2). ح: وأما الحديث الذي جاء بالنهي، وهو حديث الحكم بن عمرو (¬3)، فأجاب العلماء عنه بأجوبة: ¬
أحدها: أنه ضعيف، ضعفه أئمة الحديث، منهم: البخاري، وغيره. والثاني: أن المراد: النهيُ عن فضل أعضائها، وهو المتساقط منها، وذلك مستبعد. الثالث: أن النهي للاستحباب، والأفضل، والله أعلم (¬1). * * * ¬________ = نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة. والحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (11)، قال الحافظ في الفتح (1/ 300): وأغرب النووي فقال: اتفق الحافظ على تضعيفه. ثم ذكر الحافظ أن الجمع بين أحاديث المنع والجواز ممكن؛ بأن تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطابي، أو يحمل النهي على التنزيه؛ جمعاً بين الأدلة، والله أعلم. (¬1) انظر: شرح مسلم للنووي (4/ 3).
الحديث الثالث
الحديث الثالث 30 - عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَضُوءَ الْجَنَابَةِ؛ فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثاً، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ , ثُمَّ ضَرَبَ يَدَهُ بِالأَرْضِ , أَوْ الْحَائِطِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثاً، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ , وَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَذِرَاعَيْهِ, ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ , ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ , ثُمَّ تَنَحَّى , فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ , فَأَتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا؛ فَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ (¬1). ¬
* التعريف: ميمونة بنت الحارث - زوج النبي صلى الله عليه وسلم -، ابن حزن بن بحير (¬1) -، بفتح الباء الموحدة بعدها حاء مكسورة - بن الهُزمِ (¬2) بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة، الهلالية. تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ست من الهجرة، وقيل: سنة سبع. وروي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا رافع ورجلاً من الأنصار، فزوجاه ميمونة، وكانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أبي رهم (¬3) بن عبد العزى من ¬
بني مالك بن حسل. ويقال: إنها التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ويقال: إن التي وهبت نفسها هي زينب بنت جحش. ويقال: أم شريك العامرية، من بني عامر بن لؤي. وتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة قبل أن يخرج. وروي عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة في سفره في عمرة القضية، وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب، وكانت أختها أم الفضل تحت العباس، وهي أم عبد الله بن عباس، فهي خالة ابن عباس، وخالد بن الوليد. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون حديثًا، اتفقا على سبعة، وللبخاري حديث، ولمسلم خمسة. روى عنها: ابن عباس، ومولاه كُريب، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وإبراهيم بن عبد الله ابن معبد، ويزيد بن الأصم. توفيت بسرف، وهو ماء بينه وبين مكة تسعة أميال، وقيل: اثنا عشر ميلاً، وصلى عليها عبد الله بن عباس، ودخل قبرها هو، ويزيد بن الأصم، وعبد الله بن شداد، وهم أبناء أخواتها، وعبيد الله بن شداد، وكان يتيما في حجرها. وكانت وفاتها سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وقيل: سنة ست وستين.
ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في سرف الموضع الذي توفيت فيه، وهي آخر من تزوج بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي آخر أزواجه موتا، على المشهور. وقيل: إن أم سلمة كانت آخرهن موتا، والصحيح الأول، وأما أنها آخر هن زواجا، فلا نعلم فيه خلافًا. روى لها الجماعة، رضي الله عنها (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قولها: «وضوء الجنابة»: هو بفتح الواو، وقد تقدم أن الوضوء- بفتح الواو- هل هو اسم لمطلق الماء، أو للماء مضافًا إلى الوضوء؟ ق: وقد يؤخذ من هذا اللفظ: أنه اسم لمطلق الماء؛ فأنها لم تضفه إلى الوضوء، بل إلى الجنابة (¬2). كأنه يريد: أنه لو كان إنما يطلق على الماء مضافًا إلى الوضوء، لم تضفه للجنابة، والذي يظهر لي: أن الوضوء - بالفتح -: هو الماء ¬
المعد للطهارة من حيث الجملة، وضوءًا كان، أو جنابة، والله أعلم. الثاني: قولها: «فأكفأ»؛ أي: قلب، واختلف: هل يستعمل رباعيا وثلاثيا بمعنى واحد، أو كفأت -ثلاثيا- بمعنى: قلبت، وأكفأت -رباعيا - بمعنى: أملت، وهو مذهب الكسائي وغيره (¬1). الثالث: يقال: يمين ويمنى، ويسار ويسرى، وهما مؤنثان. «ومرتين وثلاثًا» منصوبان على الظرف، والعامل فيهما: أكفأَ. الرابع: قال الجوهري: الفرجُ العورة (¬2). وفي هذا التفسير نظر؛ فإنه يلزم منه أن يقع الفرج على السوءتين: القبل والدبر؛ إذ هما عورة بلا خلاف، والمعروف أن الفرج مختص بالقبل، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أفضى بيده إلى فرجه، فليتوضأ» (¬3). والاستُ: الدُّبر، ومنه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: فَخَرَرْتُ لاستي (¬4)، فتأمله. ق: والبدايةُ بغسل الفرج لإزالة ما علَقَ به من أذى، وينبغي أن ¬
يغسل في ابتداء الغسل من الجنابة؛ لئلا يحتاج إلى غسله مرة أخرى، وقد يقع ذلك بعد غسل أعضاء الوضوء، فيحتاج إلى إعادة غسلها، فلو اقتصر على غسلة واحدة لإزالة النجاسة، والغسل عن الجنابة، فهل يكتفى بذلك، أم لا بد من غسلتين؛ مرة للنجاسة، ومرة للطهارة عن الحدث؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعي رحمه الله، ولم يرد في الحديث إلا مطلق الغسل من غير ذكر تكرار، وقد يؤخذ منه الاكتفاء بغسلة واحدة؛ من حيث إن الأصل عدم غسله ثانيا (¬1). الخامس: قولها: «ثم ضرب يده بالأرض»: كأنه من المقلوب، والأصل: ضرب الأرض بيده؛ لأن اليد هي الآلة، والباء لا تدخل إلا على الآلة، كضربت بالعصا، وخطت بالإبرة، وكتبت بالقلم، وأشباه ذلك، وقد جاء القلب كثيرا في كلامهم، قالوا: عرضت الناقة على الحوض، والأصل: عرضت الحوض على الناقة، وقالوا: أدخلت القلنسوة في رأسي، والأصل: أدخلت رأسي في القلنسوة، ومنه قوله تعالى: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76]؛ أي: العصبة تنوء بالمفاتيح لثقلها، على ما قيل (¬2)، والله أعلم. وضربه - صلى الله عليه وسلم - يده بالأرض والحائط؛ لإزالة ما عساه علق باليد من الرائحة، مبالغة في التنظيف. ¬
السادس: قولها: «ثم تمضمض واستنشق»: قد تقدم تفسير المضمضة والاستنشاق، وذكر أحكامهما، وذكر اختلاف العلماء في وجوبهما، وأن الصحيح: أنهما سنتان في الوضوء والغسل، لا واجبتان، وليس في الحديث ما يدل على وجوبهما. وليس لقائل أن يقول: إن مطلق أفعاله - صلى الله عليه وسلم - تدل على الوجوب؛ لأن (¬1) المختار: أن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب، إلا إذا كان بيانا لمجمل تعلق به الوجوب، وليس الأمر بالغسل من الجنابة من قبيل المجلات، والله أعلم. السابع: قولها: «ثم تنحى، فغسل رجليه»: قد يقتضي ظاهره تأخير غسل الرجلين عن إكمال الوضوء، وهو (¬2) أحد الأقوال الثلاثة في مذهبنا (¬3). قال الإمام أبو عبد الله المازري: استحب بعض العلماء أن يؤخر غسل الرجلين إلى آخر غسله من الجنابة؛ ليكون الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء، وأخذ ذلك من حديث ميمونة هذا، وليس فيه تصريح، بل هو محتمل؛ لأن قولها: «توضأ وضوءه للصلاة»، الأظهر فيه إكمال وضوئه، وقولها آخرا: «تنحى، فغسل رجليه» يحتمل أن يكون لما نالهما من تلك البقعة (¬4). ¬
وقال ع: ظاهر قوله في الأحاديث إتمام الوضوء، وإليه نحا ابن حبيب من أصحابنا، قال: يتوضأ وضوءه كله. وروي عن مالك: ليس العمل على تأخير غسل الرجلين، وليتم وضوءه في أول غسله، فإن أخرهما، أعاد عند الفراغ وضوءه. وروي عنه: أن تأخيرهما واسع. قال (¬1): وفي تنحيه لغسل رجليه حجة في أن التفريق اليسير غير مؤثر في الطهارة. انتهى (¬2). قلت: هذه الحجة إذا قلنا: إنه لم يكمل وضوءه، وإلا، إن قلنا: إنه أكمله فلا حجة. وبالجملة: ففي المسألة لأصحابنا ثلاثة أقوال - كما تقدم -، التأخير، وعدمه، وهو المشهور، والثالث: التفريق بين أن يكون الموضع نظيفًا، فلا يؤخر، أو وسخا فيؤخر، ع: ولم يأت في شيء من وضوء الجنب ذكر التكرار، فقال بعض شيوخنا: إن التكرار في الغسل لا فضيلة فيه انتهى (¬3). وانظر الفرق بينه وبين الوضوء؛ فإنه لم يتحرر (¬4) لي. ¬
الثامن: قولها: «فأتيته بخرقة، فلم يردها»: أخذ الشافعي من هذا الحديث كراهة التنشف، والظاهر: أنه لا دليل له في ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل ينفض الماء بيده، والنفض في معنى التنشف، أو هو هو؛ لأن كل واحد منهما إنما هو إزالة الماء عن البدن، وأما رده الخرقة أو المنديل، فقيل: واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون لا لكراهة التنشف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو غير ذلك (¬1). قال الإمام المازري: وأما تنشيف الماء عن الأعضاء في الطهارة، فلا خلاف أنه لا يحرم، ولا يستحب، ولكن هل يكره ذلك؟ للصحابة فيه ثلاثة أقوال: فروي عن أنس بن مالك: أنه قال: لا يكره في الوضوء والغسل، وبه قال مالك، والثوري، وحجتهم: ما رواه قيس بن سعد بن عبادة: دخل علينا (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضعت له الغسل، فاغتسل، فأتيته بملحفة، فالتحف، فرأيت الماء والورس على كتفيه. وروى معاذ: أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يمسح وجهه بطرف ثوبه، فدل ذلك على أنه لا يكره. وروي (¬3) عن ابن عمر: أنه كرهه، وبه قال ابن أبي ليلى، وإليه مال أصحاب الشافعي، وحجتهم ظاهر حديث ميمونة، ولأنه أثر ¬
عبادة، فيكره قلعه (¬1)؛ كدم الشهيد، وخلوف فم الصائم، على أصل من نهى عنه. وروي عن ابن عباس: أنه يكرهه في الوضوء دون الغسل، وحجته: ما روي أن أم سلمة ناولته الثوب ليتنشف به، فلم يأخذه، وقال: «إني أحب أن يبقى علي أثر الوضوء» (¬2)، ولم يثبت عنده في الغسل دليل قاطع على الكراهة (¬3). ع: يحتمل أن يكون رده للمنديل لمعنى رآه فيه، أو لاستعجاله للصلاة، أو تواضعا، أو خلافًا لعادة أهل الترفه، ويكون الحديث الآخر في أنه كانت له خرقة يتنشف بها عند الضرورة وشدة البرد؛ ليزيل برد الماء عن أعضائه - صلى الله عليه وسلم - (¬4). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 31 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ , إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَرْقُدْ» (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قال ابن بشير: لا خلاف أن الجنب مأمور بالوضوء قبل النوم، وهل الأمر بذلك واجب، أو ندب؟ في المذهب قولان. قلت: وكأن القول بالوجوب، انفرد به أصحابنا - والله أعلم - مع داود الظاهري. قال: وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه أمر الجُنب بالوضوء، وبين الأصوليين خلاف في أوامره - صلى الله عليه وسلم - هل تحمل على الوجوب، أو على الندب؟ قلت: أمره للجنب بالوضوء جاء في حديث صحيح أيضا، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «توضأ، واغسل ذكرك، ثم نم» لما سأله عمر -رضي الله عنه-: أنه تصيبه الجنابة من الليل (¬1). ق: و [ليس] في حديث ابن عمر متمسك للوجوب؛ فإنه وقف إباحة الرقاد على الوضوء، فإن هذا الأمر ليس للوجوب، ولا للاستحباب؛ فإن النوم من حيث هو نوم لا يتعلق به وجوب ولا استحباب، فإذاً هو للإباحة، فتتوقف الإباحة على الوضوء، وذلك هو المطلوب (¬2). الثاني: اختُلف (¬3) في علة أمره بالوضوء، فقيل: لينشط للغسل، ¬
وقيل: ليبيت على إحدى الطهارتين خشية الموت في المنام. وتظهر فائدة هذا الختلاف في التعليل في فرعين: أحدهما: لو فقد الجُنب الماء، لم يؤمر بالتيمم إن عّللنا بالنشاط، وعلى التعليل الآخر: يتيمم. والثاني: الحائض هل تؤمر بالوضوء، أم لا؟ فعلى النشاط: لا، وعلى التعليل الآخر: نعم (¬1). الثالث: لفظة «نعم» يعبر عنها النحاة بأنها لفظة (¬2) عدة وتصديق. زاد الجوهري: وجواب الاستفهام، وربما ناقض ب «لا» إذا قال: ليس لي عندك وديعة، فقولك: نعم، تصديق له، لا تكذيب، ونعم - بكسر العين - لغة فيه، حكاها الكسائي - رحمه الله - (¬3). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 32 - عَنْ أُمِّ سَلَمَة زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ , هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ إذَا رَأَتِ الْمَاءَ» (¬1). ¬
* التعريف: أم سلمة: اسمها هند بنت أمية بن عمرو بن مخزوم، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، تزوجها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعا، فولدت له بأرض الحبشة زينب، ثم ولدت سلمة، وعمر، ودرة، ثم مات أبو سلمة سنة أربع من الهجرة، وأبو سلمة ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب. وأم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة من المهاجرات، وآخر من مات من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على قول بعض العلماء، على ما تقدم. تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال سنة أربع، وتوفيت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، وقيل: صلى عليها سعيد ابن زيد. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مئة وثمانية وسبعون حديثًا، ¬
اتفقا على ثلاثة عشر حديثًا، ولمسلم مثلها. روى عنها: ابنها عمر، وابنتها زينب, وسعيد بن المسيب, وأبو بكر بن عبد الرحمن, وكريب مولى ابن عباس, وسليمان بن يسار، وقبيصة بن ذؤيب, وعكرمة بن عبد الرحمن، وغيرهم. روى لها الجماعة (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قولها: «إن الله لا يستحيي من الحق»: توطئة واعتذار لما ستذكره بعد مما يُستحيي النساء من ذكره غالباً، وهو عند الكتاب والأدباء أصل في المكاتبات والمحاورات، ووجه ذلك: أن تقديم الاعتذار سبب لإدراك النفس المعتذر منه صافياً خالياً عن التعب، بخلاف ما إذا تأخر؛ فإن النفس تستقبل المعتذر عنه بقبحه، ثم يأتي العذر رافعا، وفي الأول يكون دافعا (¬2)، ولا يخفى عليك الفرق بين الرافع والدافع، وقريب من هذا عندي: الإعلام بالمكروه قبل وقوعه؛ فإن النفس تتوطن عليه؛ بخلاف ما إذا فاجأ على غفلة - والعياذ بالله-، وإن ذهب بعد ذلك. ¬
وقد اختلف العلماء في معنى قولها: «إن الله لا يستحيي من الحق»، فقيل: معناه: أن الله (¬1) لا يمتنع من بيان الحق وضرب المثل بالبعوضة وشبهها؛ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، وكذا (¬2) أنا، لا أمتنع عن سؤالي عما أنا محتاجة إليه. وقيل: معناه: إن الله لا يأمر بالحياء في الحق، ولا يبيحه. وقيل: إن سنة الله وشرعه أن لا يستحيا من الحق. ق: أما تأويله على أن لا يمتنع من ذكره، فقريب؛ لأن المستحيي يمتنع من فعل ما استحيا منه، فالامتناع من لوازم الحياء، فيطلق الحياء على الامتناع؛ إطلاقًا لاسم الملزوم على اللازم. وأما قولهم: لا يأمر بالحياء فيه، ولا يبيحه، فيمكن في توجيهه أن يقال: التعبير بالحياء عن الأمر بالحياء؛ لأن الأمر بالحياء متعلق بالحياء، فيصح إطلاق الحياء على الأمر به على سبيل إطلاق المتعلِّق على المتعلَّق، وإذا صح إطلاق الحياء على الأمر بالحياء، صح إطلاق عدم الحياء من الشيء على عدم الأمر به. وهذه الوجوه من التأويلات تذكر لبيان ما يحتمله اللفظ من المعاني؛ ليخرج ظاهره عن النصوصية، لا على أنه يجزم بإرادة ¬
المعين، إلا أن يقوم على ذلك دليل. وأما قولهم: معناه: أن سنة الله وشرعه أن لا يستحيا من الحق، فليس فيه تحرير بالغ؛ فإنه إما أن يسند فعل الاستحياء إلى الله تعالى، أو يجعله فعلاً لم يسم فاعله، فإن أسنده إلى الله تعالى، فالسؤال باقٍ بحاله، وغاية ما في الباب: أنه زاد قوله: سنة الله وشرعه، وهذا لا يخلص من السؤال. وإن بنوا الفعل لما لم يسم فاعله، فكيف نفسر فعلاً بني للفاعل، والمعنيان متباينان، والإشكال إنما ورد على بنائه للفاعل؟ قال: والأقرب أن يجعل في الكلام حذف تقديره: إن الله لا يمتنع من ذكر الحق، والحق هاهنا خلاف الباطل، ويكون المقصود من الكلام: أن تقتدي بفعل الله- سبحانه وتعالى- في ذلك، وتذكر هذا الحق الذي دعت الحاجة إليه من السؤال عن (¬1) احتلام المرأة، انتهى كلامه رحمه الله تعالى (¬2). الثاني: قال أهل العربية: استحيا يستحيي - بياءين -، ويقال أيضا: يستحي - بياء واحدة -، وأصله يستحيي كالأول، فاستثقلت الكسرة تحت الياء الأولى التي هي عين الكلمة، فنقلت إلى الحاء، واستثقلت الضمة على الياء الثانية التي هي لام الكلمة، فحذفت، فاجتمع ساكنان، فحذفت الأولى فيما يظهر. ¬
قال ابن عطية: وقرأ ابن كثير في بعض الطرق عنه، وابن محيصن، وغيرهما: {يستحي} - بكسر الحاء -، وهي لغةٌ تميم (¬1) الثالث: قولها: «إذا هي»: الذي يظهر أن (هي) زائدة لتوكيد المعنى وتحقيقه، وإن كان الأصل عدم الزيادة لوجهين: أحدهما: أن المعنى على ذلك، ألا ترى أنها لو سقطت، لم يختل أصل المعنى؟ والثاني: أن (إذا) هنا فيها معنى الشرط، وهي لا تليها الأسماء عند البصريين، غير الأخفش، فلا يجوز أن تكون في موضع المبتدأ، ولا يجوز أن تكون فاعلاً بفعل مضمر يفسره ما بعده من باب قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]؛ لأن الفاعل لا يكون ضميرا منفصلاً بغير واسطة، فتعين زيادتها، نعم، يصح، أن تكون مبتدأ عند الكوفيين والأخفش على أصلهم، وبالله التوفيق. الرابع: ق: الاحتلام في الوضع: افتعال من الحلْم - بضم الحاء وإسكان اللام -، وهو ما يراه النائم في نومه، يقال منه: حلَم - بفتح اللام -، واحتلَمَ، واحتلمْتُ به، واحتلمْتُه (¬2). قلت: وأما حَلِمَ الأديمُ: إذا تثقب (¬3)، فبكسر اللام، وحَلُم: إذا صفَح وتجاوز، بضمهما، والله أعلم. ¬
قال: وأما في الاستعمال والعرف العام، فإنه قد خص هذا الوضع اللغوي ببعض ما يراه النائم، وهو ما يصحبه إنزال الماء، فلو رأى غير ذلك، لصح أن يقال له: احتلم وَضْعاً، ولم يصح عرفًا (¬1). الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا رأت الماء»: ظاهره بروز ماء المرأة إلى ظاهر الفرج، وهي مسألة خلاف، فذهب بعضهم إلى أنه لا يبرز، وأظنه صاحب «الطراز»، وتبعه الفقيه ناصر الدين بن المنير (¬2) -رحمه الله- في ترجيزه للتهذيب، فقال: إِنْ قُلْتَ كَيْفَ تُنْزِلُ النِّسَاءَ ... وَهُنَّ لاَ يَبْدُو لَهُنَّ الماءُ فَاعْلَمْ بِأَنَّ فَرْجَهَا مَقْلُوبُ ... يَعْرِفُ شَرْحَ ذَلِكَ الطَّبِيبُ فنقول: إنما يعرف إنزالها بشهوتها خاصة. وظاهر هذا الحديث يرد هذا المذهب، ويبعد جدا أن تحمل الرؤية هنا على رؤية القلب، وهو علمها بلذتها بانتقال مائها من مكان ¬
إلى مكان آخر من باطن فرجها، والمعروف من المذهب التسوية بينها وبين الرجل في ذلك، والله أعلم. فائدة: ح في شرح مسلم له: أنها إذا كانت ثيباً، فنزل المني إلى فرجها، ووصل إلى الموضع الذي يجب عليها غسله في الجنابة والاستنجاء، وهو الذي يظهر حال قعودها لقضاء الحاجة، وجب عليها الغسل بوصول المني إلى ذلك الموضع؛ لأنه في حكم الظاهر، وإن كانت بكرا لم يلزمها، ما لم يخرج من فرجها؛ لأن داخل فرجها كداخل إحليل الرجل (¬1). السادس: ق وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا رأت الماء»: يحتمل أن يكون مراعاة للوضع اللغوي في قوله: احتلمت؛ فإنا قد بينا أن الاحتلام رؤية المنام كيف كان وضعا، فلما سألت: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ وكانت لفظة احتلمت عامة، خصص الحكم بما إذا رأت الماء، أما لو حملنا لفظة احتلمت على المعنى العرفي، كان قوله: «إذا رأت الماء» كالتوكيد والتحقيق؛ لما سبق من دلالة اللفظ الأول عليه. ويحتمل أن يكون الاحتلام الذي يحصل به الإنزال على قسمين: تارة يوجد معه (¬2) البروز إلى الظاهر، وتارة لا، فيكون قوله -عليه ¬
الصلاة والسلام-: «إذا رأت الماء» مخصصا للحكم بحالة البروز للظاهر، وتكون فائدة زائدة، ليست لمجرد التوكيد (¬1). * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 33 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: كُنْت أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَخْرُجُ إلَى الصَّلاةِ، وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ (¬1). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرْكاً, فَيُصَلِّي فِيهِ (¬2). ¬
ليس في هذا الحديث من الأحكام إلا ما يتعلق بنجاسة المني أو (¬1) طهارته. قال القاضي أبو بكر بن العربي -رحمه الله- في شرح الترمذي: اختلف العلماء في المني على أربعة أقوال: الأول: قال مالك: إنه نجس يجب غسله، وأحمد في إحدى روايتيه. الثاني: قال أبو حنيفة: إنه نجس يجزئ فركه. قلت: ونُقل عن (¬2) ابن هبيرة: أنه إن كان رطبا، فيغسل، وإن كان يابسا، فيفرك، والفرك - بفتح الفاء -: الدلك، وبكسرها: البُغْض. الثالث: قال الشافعي: هو طاهر لا غَسْلَ فيه، ولا فركَ إلا على ¬
معنى الاستحباب؛ لقباحة منظره، واستحياءً مما يدل عليه من حالته. الرابع: قال الحسن بن صالح بن حيي (¬1): لا يعيد الصلاة من المني في الثوب، ويعيدها من المني في البدن، وإن قَلّ. قال: وللعلماء فيه طرق من الأثر والنظر: فأما طريق الشافعي من الأثر: فما تقدم من إنكار عائشة على من غسل ثوبه، وإخبارها: أنها كانت تفركه من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا شأن الطاهرات. وأما طريقه من جهة النظر، فمن ثلاثة أبواب: أحدها: أنه قال: نظرت، فإذا المني يخلق منه البشر، وإذا الطين يخلق منه البشر، فألحقته به، وتحريره: أن يقال في المني: مبتدأ خلق بشر، فكان طاهرا كالطين. الثاني: أنه قال: نظرت المني، فإذا به في الآدميين كالبيض في البهائم، فألحقته به. وتحريره أن يقال في المني: خارج من حيوان طاهر يخلق منه مثل أصله، فكان طاهرا كالبيض. الثالث: أنه قال: حرمة الرضاع إنما هي مشبهة بحرمة النسب، ثم اللبن (¬2) الذي يحصل به الرضاع طاهر، فالمني الذي يحصل به النسب أولى. وأما طريق أبي حنيفة من الأثر، فأحاديث ضعاف، وربما تعلق ¬
بالفرك، وهو ضعيف؛ إذ (¬1) قال: إنه يجزئ دون الغسل (¬2). وأما طريقه من النظر، فمن بابين: أحدهما: أنه قال: إن خروج المني يوجب الطهارة، ولا تجب الطهارة إلا عن خارج نجس، وهذا أصل ينفرد به دوننا. الثاني: أنه قال: إن المني لا يتكلم في أصله، إنما علينا النظر في فصله، وهو ينفصل من مخرج البول، وهو نجس، فإذا مرعلى مجرى نجس، وجب أن ينجس بنجاسة مجراه. وأما طريق الحسن بن صالح؛ فلأنه رأى الفرك يجرئ في يابسه، فدل ذلك على طهارته، ورأى أن الحديث الصحيح (¬3): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة، غسل ما بفرجه (¬4) من الأذى، فدل ذلك على نجاسته. وأما طريقة مالك في الأثر والنظر، فمهيع، يشارك أبا حنيفة والحسن في بعض الطرق، ويخالفهما في المناقضة. أما تعويله من جهة النظر، فعلى أنه خارج من مخرج البول، فينجس بنجاسة المجرى، فإن زعموا أن له مخرجا آخر، وتحكموا بنسبة ذلك إلى أهل التشريح، لم يتشعب معهم فيه، وإن كان الدعوى عريضة. ¬
بيد أنا نقول: إنهما عند أصل الثقب يجتمعان، وهو نجس بما (¬1) يخرج عليه، ولا جواب لهم عن هذا، ولا يصح لأصحاب أبي حنيفة التعلق به، فإن لبن الميتة عندهم طاهر مع نجاسة وعائه، فهو تناقض ظاهر منهم. وأما تعويله على الأثر، فغسل النبي - صلى الله عليه وسلم - البدن منه والثوب، وهذا دليل على نجاسته؛ فإن الغسل حكم النجاسة المخصوص بها، وأقرب دليل على الشيء خصيصته التي لا يشارك فيها؛ كالحل (¬2) دل على النكاح وجودا وعدما، والملك على البيع نفيا وإثباتا، والنكتة العظمى في ذلك: أن الأحاديث الصحاح ليس فيها أكثر من أن عائشة قالت: «كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، والمراد: إزالة عينه، فأما الصلاة به كذلك، فليس بمروي عنها (¬3)، بل المروي فيها: غسله عنها. روى القشيري (¬4) عن علقمة والأسود جميعا: أن رجلاً نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: «إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تره، نضحت حوله، لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركًا، فيصلي فيه» (¬5). وهذا الرجل الذي أصبح يغسل ¬
ثوبه، لم يكن رأى فيه شيئًا، إنما شك هل احتلم أم لا؟ كما قدمنا (¬1) من رواية عبد الله بن شهاب الخولاني، ولذلك أنكرت عليه الغسل، ثم أخبرته أنه إنما يجزئه الغسل إذا رآه، فإن لم يره نضحه، وهذا نص في الغسل، ثم قالت بعد: «لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيصلي فيه»، معناه: أفركه وأغسله؛ بدليل رواية سليمان بن يسار عنها، ولولا ذلك لنقض آخر كلامها (¬2) أوله، لا سيما وحديث عائشة هذا بزيادة قولها (¬3): «ثم يصلي فيه» من رواية علقمة والأسود، والأسود متكلم (¬4) عليه؛ فإن القشيري خرجه عن يحيى بن يحيى، عن خالد بن عبد الله، عن خالدٍ -يعني: الحذّاء - (¬5)، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، فذكره، وغمزه الدارقطني وغيره، فإذا كان حديث هذه الزيادة مغموزا، فلم يبق إلا حديث الفرك وحده دون زيادة فيه كما بيناه، وهذه هي الغاية في المسألة، انتهى (¬6). قلت: ونقل ح عن الشافعية قولا: بأن مني المرأة نجس، دون مني الرجل، قال: وهو شاذ ضعيف، ثم قال: وقول أشذ منه: إن مني ¬
الرجل والمرأة نجس (¬1). هذا حكم مني الآدمي. فأما غيره (¬2)، فأما الكلب والخنزير، وما توّلد من أحدهما، فنجس بلا خلاف أعلمه، وأما غيرهما فعلى قسمين: مأكول، وغير مأكول: فالمأكول منيه طاهر (¬3) إن عّللنا نجاسة (¬4) المني بجريانه على مجرى البول؛ لأن بول (¬5) ما يؤكل لحمه طاهر عندنا، وإن عّللناها بأن أصله دم، كان نجسا. وأما غير المأكول تحريما، فيلحق بالكلب والخنزير؛ لأنا إن عللنا النجاسة بمجرى البول، فالبول نجس، وإن عللناها بأن المني دم في الأصل، فذلك موجود - أيضا -، والله أعلم، هذا مذهبنا. وفي «الروضة» للشيخ ح: وأما مني غير الآدمي: فمني الكلب والخنزير وفرع أحدهما نجس، ومن غيرهما فيه أوجه؛ أصحها: نجس، والثاني: طاهر، والثالث: طاهر من مأكول اللحم، نجس من غيره؛ كاللبن. ¬
قلت: الأصح عند الأكثرين والمحققين الوجه الثاني، انتهى (¬1). فصل: المني مشدد، سمي منيا؛ لأنه يمنى، أي: يصب، وسميت (منى)؛ لما يمنى فيها من الدماء، ويقال: أَمْنَى ومَنَى، ومنَّى -بالتشديد -، وبالأولى جاء القرآن، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58]. فمنيُّ الرجل -في حال صحته- أبيض ثخينٌ يتدفق في خروجه دفعةً بعد دفعة، يخرج بشهوة ولذة، ويعقب خروجه فتورٌ، ورائحته كرائحة الطَّلْع، قريبة من رائحة العجين، وإذا يبس، كان كرائحة البيض، وقد تفقد بعض هذه الصفات، ويسمى -مع ذلك- منيا بأن يرق ويصفر لمرض، أو يخرج بلا شهوة ولا لذة؛ لاسترخاء وعائة، أو يحمر لكثرة الجماع، ويصير كماء اللحم، وربما خرج دما عبيطًا. قالوا: وخواصه ثلاث: الأولى: الخروج بشهوة مع الفتور عقبه. الثانية: الرائحة كرائحة الطلع، على ما سبق. الثالثة: الخروج بتدفق. وكل واحدة من هذه الثلاث إذا انفردت، اقتضت كونه منيا، فإن فقدت كلها، فليس بمني. وماء المرأة أصفر رقيق، وقد يبيض بفضل قوتها، والله أعلم (¬2). ¬
مسألة: فإن خرج عريا عن اللذة، فهل يجب الغسل، أو لا؟ قولان. فلو قارنته لذة غير معتادة، كالمحتك ينزل، أو المغتسل بماء حار فينزل، وكمن لدغته عقرب، أو ضرب بالسياط، أو بالسيف، فأنزل، فقولان. وإذا قلنا: لا يجب الغسل، فهل يجب الوضوء؟ قولان. فلو التذ ثم خرج منه مني بعد ذهاب اللذة جملة، ففي مذهبنا ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث: بين أن يكون عن جماع، وقد اغتسل، فلا يعيد، وضعف القول بالتفرقة. وعلى وجوب الغسل إن كان قد صلى، ففي وجوب الإعادة قولان. وإذا قلنا: لا غسل، فهل يؤمر بالوضوء على الوجوب، أو الندب؟ قولان (¬1). مسألة: فلو انتبه، فوجد بللاً لا يدري أمنيٌّ أم مذيٌ، وجبَ الغسل على المشهور، ولو رأى في ثوبه احتلاماً، اغتسل، وفي إعادته من أول نوم، أو من أحدثِ نوم، ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين أن [...] أو لا؟ ففي الأول، وفي الثاني، من [...] (¬2). والمرأة في ذلك كالرجل. ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 34 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ , ثُمَّ جَهَدَهَا؛ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» (¬1) , وَفِي لَفْظٍ: «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ» (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الضمير المستتر في (جلسَ)، والضميران البارزُ والمستتر في (جهدَها) للرجل والمرأة، وإن لم يجرِ لهما ذكر، فهو من المضمر الذي يفسره سياق الكلام؛ كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وأشباه ذلك، وقد تقدم مثله. الثاني: (الشُّعَب): جمع شُعْبَة، وهي من الألفاظ المشتركة: واحدة الأغصان، والفُرْقة، يقال: شعبتهم المنيةُ؛ أي: فَرَّقتهم، والرؤبة. وهي قطعة يشعب بها الإناء، والشعبة - أيضا -: الطائفة من الشيء، وهي القطعة منه (¬1). واختلف في المراد بالشعب الأربع في الحديث، فقيل: يداها ورجلاها، وقيل: يداها وفخذاها، وقيل: فخذاها وإسكتاها - بكسر الهمزة وإسكان السين وفتح الكاف -، وهما حرفا شقِّ فرج المرأة، وقيل: نواحي الفرج الأربع، واختار هذا الأخير ع (¬2). ¬
وقال ق: الأقربُ عندي أن يكون المراد: اليدين والرجلين، أو الرجلين والفخذين، ويكون الجماع مَكْنِيًّا عنه بذلك، فاكتفى بما ذكر عن التصريح. قال: وإنما رجحنا هذا؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة، أو هو حقيقة في الجلوس بينهما، وأما إذا حمل على نواحي الفرج، فلا جلوس بينهما حقيقة (¬1). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ثم جهدها»: قال الخطابي: معناه: حفزها، وقال بعضهم: بلغ مشقَّتها، يقال: جَهَدْتُه، وأَجْهَدْتُه: بلغتُ مشقته (¬2). ع: والأَوْلى هنا أن يكون جهد؛ أي: بلغ جهدَه في عمله فيها، والجهد: الطاقة، والاجتهاد منه، وهي إشارة إلى الحركة وتمكّن صورة العمل، وهو نحو من قول من قال: حَفَزَها؛ أي كدَّها بحركته، وإلا فأيُّ مشقة تبلغ بها في ذلك؟ وقال ابن الأنباري: جَهَدْتُ الرجلَ: إذا حملته على أن يبلغ مجهوده، وهو أقصى قوته، ولعله - أيضا - من هذا؛ أي: طلب منها مثل ما فعل، وهي بمعنى قوله في الحديث الآخر: «إِذَا خَالَطَ» (¬3)، ¬
وهي كناية عن مبالغة الجماع، ومغيب الحشفة، واختلاط العضوين. والخِلاط: الجماع، قاله الحربي، وخالطها: جامَعَهَا. وقال الخطابي: الجهدُ: من أسماء النكاح (¬1). قلت: فعلى قول الخطابي لا يكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا جَلسَ بينَ شُعبها الأربع، ثم جهدَها» كنايةً عن النكاح، بل هو صريح، ولم أر هذا القول -أعني: قول الخطابي - في شيء من دواوين اللغة المشهورة، وأكثر ما قال الجوهري وغيره مما رأيت: الجاهد: الشهوان (¬2)، فإن كان أخذَه من هذا، فلا دليلَ له فيه؛ إذ الشهوان فَعْلان؛ من الشهوة، وهو أعمُّ من أن يكون للنكاح أو غيره، وليس من باب عَيْمان لمشتهي اللبن جداً، ولا قَرِمٍ لمشتهي اللحم جداً، فإن ذلك مخصوص بهما، والله أعلم. الرابع: المقصود من الحديث: وجوب الغسل بالجماع، وإن لم ينزل، وهذا هو الحكم عند الجمهور، ولم يذهب إلى غير ذلك إلا داودُ الظاهريُّ. ق: وخالفه بعضُ الظاهرية، ووافقَ الجماعة. ومستند الظاهري: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إنما الماءُ مِنَ الماءِ» (¬3)، وقد جاء في الحديث: إنما كان الماءُ من الماء رخصةً في ¬
أول الإسلام، ثم نُسخ، ذكره الترمذي (¬1)، انتهى (¬2). وقال القاضي أبو بكر ابن العربي -رحمه الله-: وقد روي عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-: أنهم لم يروا غُسلاً إلا من إنزال الماء، ثم رُوي أنهم رجعوا عن ذلك، حتى روي عن عمر: أنه قال: من خالفَ في ذلك، جعلتُهُ نكالاً. واختلف الفقهاء في وجوب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل، وما خالف في ذلك إلا داودُ، ولا يُعبأ به؛ فإنه لولا الخلاف ما عرف، وإنما الأمر الصعب خلاف البخاري لذلك، وحكمه بأن الغسل مستحب، وهو أحد علماء الدين، ومن أجلّ علماء المسلمين معرفةً وعدلاً، وما بهذه المسألة خفاءً؛ فإن الصحابة اختلفوا فيها، ثم رجعوا عنها، واتفقوا على وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وإن لم يكن إنزال. هذا مالك قد روى عن عثمان رجوعَه وعن أبي بن كعب، وقد روى أبو موسى أن الصحابة اختلفوا، وأسندوا أمرهم إلى عائشة، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك، فأحال على فعله مع عائشة، وهذا يدل على أن فعله في الدين متبع، وهي مسألة بديعة من أصول الفقه، والعجبُ من البخاري أن يساوي بين حديث عائشة في إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وحديث عثمان وأُبي في نفي الغسل إلا بالإنزال، ¬
وحديث عثمان ضعيف؛ لأن مرجعه إلى الحسين بن ذكوان المعلم يرويه عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن الحسين، لم يسمعه من يحيى، وإنما نقله له قال يحيى بن أبي كثير. وكذلك أدخله البخاري عنه بصفة المقطوع، وهذه علة، وقد خولف حسين فيه عن يحيى، فرواه عنه غيره موقوفًا على عثمان، ولم يذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه علة ثانية. وقد خولف أيضا فيه أبو سلمة، فرواه زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، عن زيد بن خالد: أنه سأل خمسة أو أربعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمروه بذلك، ولم يرفعه، وهذه علة ثالثة. وكم من حديث ترك البخاريُّ إدخاله بواحدة من هذه العلل الثلاث، فكيف بحديث اجتمعت فيه؟! وحديث أُبي- أيضا - يَضْعُفُ التعلق (¬1) به؛ لأنه قد صح رجوعه عما روى لما سمع وعلم، مما كان أقوى منه. ويحتمل قول البخاري: الغسل أَحْوَطُ، يعني: في الدين من باب حديثين تعارضا، فقدَّم الذي يقتضي الاحتياطَ في الدين، وهو باب مشهور في أصول الفقه، وهو الأشبه بإمامة الرجل وعلمه، والله أعلم (¬2). مسألة: قال ابن العربي ما معناه: إذا غاب الذَّكَرُ في فرج امرأة غير متلذذ، أو أدخلته هي بيدها مرغوما، أو استدخلته وهو نائم، وجب ¬
عليهما الغسلُ لمغِيبِ الحشفة، وكذا لو أدخله في دبر أو فرج البهيمة (¬1)، أو في فرج ميتة. وقال أبو حنيفة: لا يجب الغسل في هذه والتي قبلها. ولا يعاد غسل الميتة عندنا إن كانت غُسلت قبل ذلك، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وكذلك لو استدخلت المرأة ذكر بهيمة، فهو كوطء البهيمة. فإن غيب بعض الحشفة، أو قدرَ دونها من مقطوعها، فلا غسل. فإن أولجه في دُبر خنثى مشكل، فالغسل، وإن أولجه في قُبله، فقد خرج على من تيقَّن (¬2) الطهارة، وشك في الحدث. فلو لفَّ خِرقة على ذَكَره فأولجه في فرج امرأة، فثلاثة أقوال: ثالثها - وهو الأشبه (¬3) بمذهبنا -: يفرق بين خفة الخرقة، فيجب، وكثافتها، فلا يجب. مسألة: لو انتقل المني، ولم يظهر، لم يوجب غسلاً، خلافًا لأحمد. مسألة: لو جومعت بكر (¬4)، فحملت، وجب الغسلُ عليها؛ لأن المرأة لا تحمل حتى تُنزل. ¬
قال ابن العربي: أفادناها شيخنا الفهري -رحمه الله- (¬1). وهذا كله في البالغين، فلو عدم البلوغ فيهما، أو في أحدهما، فإن كانا غير بالغين، فقال ابن بشير: مقتضى المذهب: أن لا غسل، وقد يؤمران به على جهة الندب، وأما إن وطئ الصغير كبيرةً، فلا يجب عليها الغسل إلا أن تُنزل، وقيل: يجب. وإن وطئ الكبيرُ صغيرةً ممن تؤمر بالصلاة، فهل تغتسل الصغيرة، أو لا (¬2)؟ قولان. فلو جامع فيما دون الفرج، فأنزل، فوصل الماء إليه، فإن أنزلت وجب الغسل، وإن لم تنزل، ولم تلتذَّ، لم يجب، وإن التذَّت، ولم يظهر منها إنزال، فقولان: وجوب الغسل؛ لأن التذاذها قد يحصل به (¬3) الإنزال، ولا يبرز، وغالب حالها الإنزال عند ذلك. قال الشيخ أبو إسحق: وهو الاختيار؛ للاحتياط (¬4). قال القاضي أبو الوليد: وهو عندي قول مالك. والقول الثاني: نفيُ الغسل، وهو تأويلُ قول ابن القاسم عن مالك، والله أعلم (¬5). ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 35 - عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللهُ عنهم-: أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَعِنْدَهُ قَوْمُهُ (¬1)؛ فَسَأَلُوهُ عَنْ الْغُسْلِ؛ فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِي , فَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى (¬2) مِنْك شَعَرَاً , وَخَيْراً مِنْكَ - يُرِيدُ: النَّبِيَّ (¬3) - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أَمَّنَا فِي ثَوْبٍ (¬4). ¬
وَفِي لَفْظٍ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُفْرِغُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثاً (¬1). قال - صلى الله عليه وسلم -: الرجل (¬2) الذي قال: مايكفيني: هو الحسنُ بن محمدِ ابن عليِّ بن أبي طالب أبوه (¬3) ابن الحنفية. * * * ¬
* التعريف: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي، المدني، كنيته أبو جعفر كما ذُكر، سمع جابر بن عبد الله، وعبد الله بن أبي رافع، وسعيد بن المسيب. روى عنه: أبو إسحاق الهمداني، ومخول بن راشد (¬1)، ومعمر ابن يحيى، وابنه جعفر، والأوزاعيُّ، وعمرو بن دينار. مات سنة أربعَ عشرةَ ومئة، وهو يومئذ ابن ثلاث وسبعين، وقيل: ابن ثمان وخمسين سنة، تابعي، أخرج حديثه في الصحيحين، -رضي الله عنه- (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الجمهور على عدم التحديد في الوضوء والغسل، وإنما ذلك على حسب حال المستعمِل، وعادته في الاستعمال؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وقال تعالى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، فأمر بالغسل مطلقًا، ولم يقيده بمقدار معين، وعلى نحو ذلك روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدٍ حَتَّى يَغْسِلَ ¬
وَجْهَهُ وَبَدَنَهُ»، الحديث. ولم يعلِّقه بحدِّ، وروي: أن الرجال والنساء كانوا يغتسلون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، وهذا يفيد سقوط التحديد؛ إذ الحدُّ لا يثبت في ذلك إلا من الشرع، وليس في ذلك شرع؛ ولأنه لو كان في ذلك حد لا يجزئ دونه، للزم منه الحرجُ العظيم، والمشقة الشديدة؛ لِمَا عُلم من اختلاف عادات الناس في استعمالهم، وتفاوتها، فمنهم من يكفيه اليسيرُ؛ لاقتصاده ورفقه، واعتدالِ بشرته، ومنهم لا يكفيه إلا الكثير؛ لإسرافه وخرقه، فلو كان في ذلك حدٌّ موقوت، لوجب أن يفارق كل إنسان عادته، وأن يستعمل من يكفيه دون ذلك الحد زيادة على ما يحتاج إليه، وأن يقتصر من لا يتمكن من أداء الواجب إلا بأكثر مما قدر له على ما لا يمكن معه أداء الواجب، وهذا فاسد، فبطل التقدير، لذلك قال القاضي عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: ومن الناس من حُكي عنه: أنه لا يجوز الاقتصار في الوضوء على أقلَّ من مُدٍّ، وفي الاغتسال على أقلِّ من صاع؛ لورود الخبر بذلك. (قلت: ظاهرُ كلام القاضي يقتضي أن هذا القول بالتحديد خارج المذهب، وليس كذلك، بل هو منقول في مذهب مالك -رحمه الله تعالى - (¬1). قال: وهذا لا معنى له؛ لأن ذلك إنما ورد على أنه إخبار عن القَدْر الذي كان يكفيه -صلى الله عليه وسلم-، لا أنه حد لا يجزئ دونه، وإنما قصد به التنبيه على فضيلة الاقتصاد، وتركِ الإسراف. ¬
قلت: وانظر نقل (¬1) ح الإجماعَ على أن الماء الذي يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدر في شرح مسلم له (¬2)، مع ما تقدم من نقل الخلاف في ذلك، والله أعلم. الثاني: الصاع: أربعة أمداد، والمدُّ: رِطلٌ وثلثٌ بالبغدادي، والرطل: مئة وثلاثون درهمًا، أو ثمانية وعشرون وثُلث، فالصاع وزناً: خمسة أرطال وثُلث، هذا المعروف المشهور، وعند الشافعية وجه شاذ: أن الصاع ثمانية أرطال، والمدَّ رطلان (¬3). وقد أُجمع على النهي عن الإسراف في الماء، وإن كان على شاطئ البحر، وهل ذلك على الكراهة أو التحريم؟ الأظهرُ أنه على الكراهة، والله أعلم. الثالث: قوله: «يكفي»: هو - بفتح الياء -، و «أوفى» يحتمل أن يكون بمعنى: أطولَ، ويحتمل أن يكون بمعنى: أكثرَ، فالأول: يرجع إلى الصفة، والثاني: يرجع إلى الكمية. وقوله: «وخيراً منك»: هو بالنصب معطوف على (مَنْ) الذي هو مفعول يكفي (¬4)، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والله أعلم. ¬
وقوله: «فأَمَّنَا فِي ثوب»: بيان لمشروعية ذلك، وعدم كراهته (¬1)، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- «وَأَيُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟» (¬2)، والله أعلم. * * * ¬
باب التيمم
بابُ التَّيَمُّمِ الحديث الأول 36 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً مُعْتَزلاً لَمْ يُصَلِّ فِي (¬1) الْقَوْمِ فَقَالَ: «يَا فُلانُ! مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ؟»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ , وَلا مَاءَ , قَالَ: «عَلَيْك بِالصَّعِيدِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفِيَكَ» (¬2). ¬
التيممُ في اللغةً: القصدُ، قال تعالى: {وَلاءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]؛ أي: قاصديه. وهو في الشرع: القصدُ إلى الأرض، ومسح الوجه واليدين منها (¬1)، عندنا. وعند الشافعي: القصدُ إلى التراب الطاهر (¬2). وهو مصدرُ: تَيَمَّمَ؛ كالتعلُّم لتعلَّم. قال الأزهري: يقال: تَيَمَّمْتُ فُلاَناً، وَيَمَّمْتُهُ، وأَمَّمْتُهُ وَتَأَمَّمْتُهُ إذا قصدتُه، وأصلُه من الأَمِّ، وهو القصدُ (¬3). قال الإمام المازري: ومنه قوله: [الطويل] سَلِ الرَّبْعَ أَنَّى يَمَّمَتْ أُمُّ أَسْلَمَا ... وَهَلْ عَادَةٌ لِلرَّبْعِ أَنْ يَتَكَلَّمَا (¬4) التعريف: هو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن عبدِ نُهْم - بضم النون وسكون الهاء، وآخره ميم - ابن سالم بن غَضِرَةَ - بالغين ¬
المعجمة والضاد المكسورة - ابن سلول - بالسين المهملة المفتوحة - ابن حُبْشِيَّة - بالحاء المهملة المضمومة، والباء الموحدة الساكنة، والشين المعجمة المكسورة وبعدها ياء باثنتين تحتها مشددة وآخره هاء - ابن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة، الخزاعيُّ، الكعبي، يكنى: أبا نُجَيْد، بنون مضمومة وجيم مفتوحة. أسلم عمران بن حصين هو وأبو هريرة (¬1) عام خيبر، وهي سنة سبع من الهجرة، وكان من فضلاء الصحابة المشهورين. روي: أنه كان يرى الحفظة، وأنه يسلم عليه بكرة وعشيا، وكان قد سكن البصرة، وكان قاضيا، استقضاه عبد الله بن عامر، فأقام بها أياما، ثم استعفاه فعفاه، ومات بها في سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية. وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قَدِمَهَا -يعني: البصرة- راكبٌ خيرٌ من عمران بن حصين. وقال محمد بن سيرين: أفضل من بالبصرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمران بن حصين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث، وثمانون حديثًا، اتفقا منها على ثمانية أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بتسعة (¬2). ¬
روى عنه: أبو رجاء العطاردي، ومضرب، وزرارة بن أوفى، وأبو السوار حسان، وخلق سواهم. روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي، والله أعلم (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: بعد مقدمة بين يديه في أحكام التيمم على طريق الاختصار، فنقول وبالله التوفيق. التيمم ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وهو خصيصة خص الله تعالى بها هذه الأمة، زادها الله شرفًا. قال ابن العربي: وفيها حكمتان: إحداهما: أن طهارتهم الأصلية كانت بالماء، فنقل الله منها -عند عدمِها- إلى التراب الذي هو أصل الخِلْقة؛ لتكون العبادة دائرة بين قوام الحياة، وأصل الخلقة. الثانية: أن النفس خلقها الله تعالى على جِبِلَّة، وهي أنها كلما ¬
تركت عنه، وأعرضت، كسلت عنه ونفرت، وكلما تمرنت عليه، واعتادت، أنست به، واستمرت عليه، فلو لم يوظف (¬1) عليها عند عدم الماء حركة في الأعضاء، وإقبال على الطهور (¬2)، لكانت عند وجود الماء تبعد عنها العادة، فتشق عليها العبادة، فشرع الله لها ذلك دائما حتى يكون أنسها به قائما، فالخير عادة، والشر لجاجة. وإذا ثبت أنه قائم مقام الماء، فإنه عامل عمله في إباحة الصلاة، ورفع الحدث؛ فإن الحديث ليس بمعنىً حسيًّ، وإنما هو عبارة عن المنع من الصلاة، فإذا تيمم، وصلى فقد زال المانع، وارتفع حكم الحدث. قال: وهذا هو مذهب مالك رحمه الله الذي لا خلاف فيه، وقد قال بلفظه في كتابه، الذي هو نخبته، ولباب علمه: ولا بأس أن يؤم المتيمم للمتوضئين (¬3)؛ لأن المتيمم قد أطاع الله، وليس الذي وجد الماء بأطهرَ منه، ولا أتم (¬4) صلاةً (¬5). وهذا نص. فإن قيل: قد قيل: لا يصلي فرضين بتيمم واحد. قلنا: في ذلك تفصيل مذهبي. ¬
وبالجملة: فيجب أن تعلموا أن الله مدَّ طهارة الماء إلى غاية، وهي وجود الحدث، ومد طهارة التيمم إلى غاية، وهي وجود الماء، فإذا وجد الماء، ارتفع حكم التيمم، كما إذا وجد الحدث ارتفع حكم الماء. والذي نقول: إن عليه أن يطلب الماء لكل صلاة، فإن وجده، استعمله، وصلى، وإن لم يجده، بقي على حكم التيمم الأول. سمعت الإمام الشيخ أبا الحسن السلمي من أصحاب علي بن نصر بن إبراهيم المقدسي يقول: إذا تيمم للصلاة، فالتيمم قربة مبيحة للمحظور، وهو فعل الصلاة، فلا تتعدى إباحتها؛ كالكفارة في الظهار، فقلت له: إنما هو للطهارة، ورفع المانع؛ كالوضوء بالماء، فقال لي: لو كان كالوضوء بالماء، لما لزمه استعمال الماء إذا وجده بالحدث الأول، فقلت له الكلام المتقدم: وهو: أن الله تعالى مد طهارة الماء إلى غاية هي وجود الحدث، ومد طهارة التيمم إلى غاية هي وجود الماء، وجرى في ذلك كلام كثير، أصله مبين (¬1) في كتاب النزهة. انتهى. قلت: وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في حديث: «لاَ يَقْبَلُ اللهَ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتىَ يَتوَضَّأَ» بأوعب من هذا. والتيمُّمُ لا يكون إلا في الوجه واليدين إجماعا، سواء كان عن ¬
حدث أصغر، أو أكبر، سواء يتيمم لكل الأعضاء عندنا، أو بعضها عند من يقول به. إذا ثبت هذا، فالتيمم يتعلق بخمسة أطراف: من يجوز له من المحدثين التيمم، وشروط جوازه، وصفة التيمم، وما يتيمم به، وما الصلوات التي يتيمم لها، وتؤدَّى به. أما الطرف الأول: وهو من يجوز له من المحدثين التيمم، فهو: كل محدث حدثًا أدنى أو أعلى، أو أدنى كما تقدم. وأما الطرف الثاني: وهو شروط جوازه، فشرطان: عدم الماء، أو عدم القدرة على استعماله، فإن وجد بعض ما يكفيه من الماء، لم يلزمه استعماله عندنا، وكان كعادم الجملة، وعّلل ذلك أصحابنا: بأن فيه جمعا بين البدل والمبدل منه، وذلك لا يجوز، ولا يجب؛ كصيام بعض الشهرين، وإعتاق بعض الرقبة؛ لأن الله تعالى أوجب الوضوء على المحدث، والغسل على الجنب، ثم نقلنا عند تعذر الماء إلى التيمم، فمن أوجب الجمع بينهما، فقد وضع شرعا مخالفًا للقرآن؛ ولأن الشافعي وافقنا على أن واجد بعض الرقبة لا يعتق ما وجد، ويصوم، وأدلتنا على هذه المسألة مبسوطة في كتب الفقه، وهذا إنما يمشي إذا ثبت أن التيمم بدل من الوضوء، وإلا، فقد ذكر عبد الحق في تهذيب الطالب عن بعض المتأخرين: أنه قال: لا أقول إن التيمم بدل، وإنما أقول: إنه عبادة مستأنفة.
قال: وأراه إنما قال ذلك؛ لأن البدل يقوم مقام المبدل منه، ويسد مسده في كل الأحوال، والتيمم لا يقوم مقام الطهارة بالماء، ولا يسد مسدها في كل الأحوال؛ لأنه لا يصلَّى به صلوات، ولا يرفع حدثًا، فهو بخلاف الطهارة بالماء، وإن كان قد تستباح به الصلاة كما تستباح بالطهارة بالماء، فهو بخلافها فيما ذكرنا، فامتنع لذلك أن نسميه بدلاً. انتهى (¬1). وهو بخلاف خصال الكفارة، فإن كل واحدة تسد مسد الأخرى على الإطلاق، فلا شبه (¬2) بينهما، أعني: التيمم، وما قيس عليه من خصال الكفارة، على هذا التقدير، وإن قلنا: إن التيمم بدل من الوضوء، فالظاهر اعتدال القياس، والله أعلم. وأما الطرف الثالث: في صفة التيمم، فهو: أن يضع يديه على الصعيد، ثم يمسح بهما وجهه كله، ويديه إلى المرفقين على المشهور. وقيل: إن اقتصر على مسحهما إلى الكوعين، أجزأه. ع: وقال ابن شهاب: إلى الآباط (¬3)، فمن قال: إلى الكوعين، فكأنه بنى على تعليق الحكم بأول الاسم، ويؤيده - أيضا - بحديث ¬
فيه: «وَجْهُكَ وَكَفَّيْكَ» (¬1). ومن قال: إلى الآباط، بناه على تعليق الحكم بآخر الاسم؛ إذ ذلك أكثر ما ينطلق عليه اسم يد، ويؤكده ما وقع في بعض روايات حديث العقد: أن الراوي قال: فتيممنا إلى الآباط، أو قال: إلى المناكب. وأما من قال: إلى المرافق، فكأنه رده إلى الوضوء لما كان تستباح الصلاة به كما تستباح بالوضوء، والحكم إذا أطلق في شيء، وقيد فيما بينه وبينه مشابهة، اختلف أهل الأصول في رده إليه؛ كهذه المسألة، والعتق في الكفارة على (¬2) الظهار، هل يشترط فيها الإيمان، وترد إلى كفارة القتل؟ انتهى (¬3). قلت: وقد نقل ح عن أبي سليمان الخطابي: أنه قال: لم يختلف أحد من العلماء في أنه لا يلزمه مسح ما وراء المرفقين (¬4). وهذا لا يلتئم مع ما قدمناه من الخلاف في ذلك عن ابن شهاب، فلينظر (¬5). ¬
وإذا ثبت هذا، فلا بد من مراعاة الصفة في مسح اليدين على المشهور من مذهبنا، وهي (¬1): أن يبدأ بيسرى يديه يمسح بها ظاهر اليمنى، مارا إلى المرفق، ثم يعيد على الباطن مارا إلى الكف، وفي اليسرى كذلك. وعلى هذا: هل يمسح كف اليمنى قبل الشروع في اليسرى، أو يشرع فيها إذا وصل إلى الكوع، ثم إذا وصل إليه من الأخرى مسح الكفين بعضهما ببعض؟ قولان لأصحابنا. والمأمور به ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين، فإن اقتصر على ضربة واحدة؛ فالمشهور: لا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقيل: يعيد في الوقت. وقال ابن سيرين: إنه لا يجزئه أقل من ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة ثانية لكفيه، وثالثة لذراعية، كذا نقله عنه ح، في شرح مسلم (¬2). وأما الطرف الرابع، وهو ما يتيمم به: فالمشهور من مذهب مالك -رحمه الله تعالى-: الأرض، وما تصاعد عليها، مما لا ينفك عنها غالبا، فيجزئ عندنا التيمم على الحجر الصَّلْد، والرمل، والسِّباخ، والنورة، والزرنيخ، وجميع أجزاء الأرض، ما دامت على جهتها، ما لم ¬
تغيرها صنعة آدمي بطبخ وغيره (¬1)، سواء فعل ذلك مع وجود التراب، أو مع عدمه. وقيل: لا يجزئ بغير التراب مطلقًا كما يقوله الشافعي. وخصص ابن حبيب من أصحابنا الإجزاء بعدم التراب. واختلف أصحابنا في التيمم على الثلج والملح والحشيش (¬2). ع: والحجة للقولة (¬3) المشهورة عن مالك: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، والصعيد ينطلق على الأرض، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً» (¬4). ويحتج الشافعي، والقولة الشاذة عندنا: بما وقع في أحد (¬5) طرق هذا الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَتُرَابُهَا طَهُوراً» (¬6)، فذكر التراب (¬7). وأما الطرف الخامس، وهو ما يتيمم له: فقال القاضي عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: كلُّ قُربة لزم التطهيرُ لها بالماء؛ كالصلوات كلها، ¬
ومس المصحف، وغسل الميت، ولا يكاد يتصور في الطواف إلا لمريض، انتهى. قيل: وإنما قال: كل قُربة، ولم يقل: كل ما لزم التطهير له مطلقًا؛ لئلا يدخل فيه وطء الحائض إذا انقطع دمُها؛ لأن الاغتسال له واجب إذا أراد الزوج وطأها، ومع ذلك، لا يتيمم له، وأظن هذا أيضا كلامه، والله أعلم. وهذا ما أردنا من المقدمة. وأما الوجوه، فالأول: المعتزل، المنفرد عن القوم المتنحي (¬1) عنهم. قال الجوهري: اعتزلَهُ، وتَعَزَّلَهُ بمعنى. قلت: وانعزل أيضا في غير المتعدِّي. والاسم العزلة، يقال: العزلةُ عبادةٌ (¬2). واعتزالُه عن القوم استعمالٌ للأدب (¬3) والسنة في ترك جلوس الإنسان عند المصلين إذا لم يصلِّ معهم. فإن قلت: لم قال - صلى الله عليه وسلم - للرجل الآخر الذي وجده جالسا: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ؟ أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟» (¬4) وهذا إنكار ¬
لهذه الصورة (¬1)، وقال لهذا: «يَا فُلاَنُ! مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي القَوْمِ؟»، وهذا كلام لا إنكار فيه، بل فيه حسن الملاطفة والرفق، حتى أخرج كلامه -عليه الصلاة والسلام- له في معرض السؤال عن السبب المقتضي للترك خاصةً من غير لفظٍ يُشعر بإنكارٍ ما ولا إغلاظ، بخلاف الأول. قلت: الرجل الذي أنكر عليه - صلى الله عليه وسلم -كان في الحَضَر في المسجد، والذي لم (¬2) ينكر عليه كان في السفر؛ لأن هذا هو حديث ال وادي، والمصنف لم يورده على الوجه بكماله من بعض الروايات، والسفر مظنة الأعذار؛ من إعواز الماء وغيره، فهو أقرب إلى احتمال ما هو عذر من حالة الحضر. الثاني: فلان وفلانة: كناية عن الأعلام، ولذلك لا يثنيان، ولا يجمعان من حيث كان الاسم لا يثنى ولا يجمع إلا بعد التنكير (¬3)، وهناه: كنايةٌ عن النكرات، والظاهر أنه -عليه الصلاة والسلام- ¬
خاطب الرجل بلفظ: يا فلان! ويحتمل أن يكون خاطبه باسمه، ولكن الراوي كَنَّى عنه، إما لأنه نسي اسمه، أو لأمر آخر. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ما منعك أن تصلي في القوم؟» وقد روي: «مَعَ القَوْمِ»، ومعنى الحرفين مختلف، فإن (في) للظرفية، فكأنه جعل اجتماع القوم ظرفاً خرج منه هذا الرجل، و (مع) وإن كانت ظرفًا، لكن فيها معنى المصاحبة، فكأنه قال: ما منعك أن تصحبهم في فعلهم؟ تنبيه: وقولي: إن (مع) ظرف -أعني: المفتوحة العين-، وأما الساكنة العين، فهي حرف على رأي، والأكثرون على أنها اسم مطلقًا؛ لأن الخليل حكى: جئتُ مِنْ مَعَه، فأدخلوا عليها حرف الجر، وقالوا: جئنا معاً، فنونوا. قال بعضهم، وما يبعد في الإسكان تقوية الحرفية؛ لأنها إذا كانت اسماً مع الإسكان، فقد أسكن المنصوب، ولم يقل به أحد، وإذا قلنا: إنها ظرف، فهي ظرف مكان؛ بدليل وقوعها خبرا عن الجثث في نحو قولنا: زيدٌ مع بَكْر، وظروف الزمان لا تكون إخبارا عن الجثث، فاعرفه. الرابع: قال الجوهري: القوْمُ: الرجال دون النساء، لا واحدَ له من لفظه. قال زهير: [الوافر] وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وقال الله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11]، ثم قال (¬1): {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات: 11]، وربما دخل النساء فيه على سبيل التبع؛ لأن قوم كل نبي رجال ونساء، وجمعُ القوم: أقوام، وجمعُ الجمع: أقاوم. قال أبو صخر: فَإِنْ يَعْذِرِ القَلْبُ العَشِيَّةَ فِي الصَّبا ... فُؤَادَكَ لا يَعْذِرْكَ فِيهِ الأَقَاوِمُ عنى بالقلب: العقل. وقال ابن السَّكّيت: يقال: أقايِم (¬2)، وأقَاوِم. والقوم يذكر: ويؤنث؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كان للآدميين، يذكر ويؤنث؛ مثل: رَهْط، ونَفَر، قال الله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66]، فذكّر، وقال: {كَذَّبِتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105]، فأنث، فإن صُغِّرَتْ، لم يدخل فيها الهاء، وقلت: قُوَيْم، ورُهَيْط، ونُفَير، وإنما يلحق التأنيث فعله، وتدخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين؛ مثل: الإبل، والغنم؛ لأن التأنيث لازم له، وأما جمع التكسير مثل، جِمال ومساجد، فإن ذكّر وأنث، فإنما تريد الجمعَ إذا ذَكَّرت، والجماعةَ إذا أَنثت (¬3)، انتهى (¬4). ¬
الخامس: ق: في شرح الإلمام في هذا الحديث: فيه: الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن هذا المعتزل عن الناس لأجل الجنابة، مع احتمال الحال لوجوه عديدة، وتعينه (¬1) لبعضها طريقه الاجتهاد، فإنه يحتمل أن يكون لأنه لا يعلم مشروعية التيمم، ويحتمل أن يكون لاعتقاده أن الجنب لا يتيمم، وإن تيمم المحدث كما نقل عن بعض الصحابة، ثم إذا لم يتيمم، كان كمن عدم الماء والصعيد، فاحتمل أن يصلي ويقضي، ويصلي ولا يقضي، ولا يصلي ويقضي، ولا يصلي ولا يقضي، كما اختلف الفقهاء في ذلك، والذي يتعلق بالقضاء لا يعلم لما اعتقده فيه، لكنه رجح عدم الأداء، ويقع احتماله التيمم مع احتماله للتيمم وعدمه، وتعيين المحتملات طريقه الاجتهاد، ولأنه عمل على كونه لم يكن التيمم مشروعا؛ فإن (¬2) ذلك قبل نزول الآية؛ لأن (¬3) قوله -عليه الصلاة والسلام-: «عليك بالصعيد، فإنه يكفيك» دليل على تقدم مشروعية التيمم على هذا القول؛ لأن مشروعية التيمم لم تعلم إلا بالآية ونزولها، فالحكم بمقتضاها يقتضي تقدمها، وأخص من هذا: الاجتهاد بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع إمكان مَنْ يُفتيه (¬4). ¬
السادس: قوله: «أصابتني جنابةٌ، ولا ماءَ»: لا ينبغي أن يحمل على أنه اعتقد أن المحدث (¬1) لا يتيمم؛ لأن مشروعية التيمم كانت متقدمة على زمن إسلام عمران بن حصين (¬2) راوي هذا الحديث - كما تقدم -؛ فإنه أسلم عام خيبر، ومشروعية التيمم كانت قبل ذلك في غزاة المريسيع، وهي (¬3) واقعة مشهورة، وإنما ينبغي أن يحمل على أنه اعتقد أن الجنب لا يتيمم، كما ذكر عن عمر، وابن مسعود - رضي الله عنهما-، وتكون الملامسة المذكورة في قوله -تعالى-: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، عندهم -أعني: عند من شك في تيمم الجنب -محمولة على غير الجماع؛ لأنهم لو حملوها على الجماع، لكان تيمم الجنب مأخوذًا (¬4) من الآية، فلم يقع لهم شك في تيمم الجنب، إلا أن يكون هذا الرجل لم يبلغه نزول الآية، فيحمل على أنه لم يعلم مشروعية التيمم، وفيه بعد، والله أعلم (¬5). وقوله: «ولا ماءَ»: هو بفتح الهمزة: اسم لا مبني معها، والخبر محذوف، أي: لا ماء معي، أو عندي، أو موجود، أو نحو ذلك. ق: وفي حذفه بسطٌ لعذره؛ لما فيه من عموم النفي، كأنه نفى ¬
وجود الماء بالكلية؛ بحيث لو وجد بسبب، أو سعي، أو غير ذلك، لحصله، فإذا نفي وجوده مطلقًا، كان أبلغ في النفي، وأعذر له. قال: وقد أنكر بعض المتكلمين على النحاة في تقديرهم في قولنا: لا إله إلا الله: لنا، أو في الوجود، وقال: إن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة؛ فإنها إذا نفيت مقيدة، كان ذلك دليلاً على سلب الماهية مع القيد، وإذا نفيت غير مقيدة، كان نفيا للحقيقة، وإذا انتفت الحقيقة (¬1)، انتفت مع كل قيد، أما إذا نفيت مقيدة بقيد مخصوص، لم يلزم نفيها مع قيد آخر، هذا، أو معناه (¬2). قلت: وفي هذا الإنكار عندي نظر، فإن قولن: لا إله في الوجود إلا الله، يستلزم نفي كل إله غير الله تعالى قطعا، فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة، وقد قدره (¬3) ابن عطية: لا إله (¬4) معبودٌ، أو موجودٌ (¬5)، وهو قريب مما تقدم، أو هو هو من حيث المعنى، ولا معنى لهذا الإنكار، وليت شعري ما يقدِّرُ هذا المنكِرُ فيه؛ إذ لا بد من تقدير الخبر، وإلا، أدى ذلك إلى خرم قاعدة عربية مجمَع عليها. ¬
السابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «عليك بالصعيد، فإنه يكفيك» (¬1). قال الأزهري: الصعيد في كلام العرب على وجوه: فالتراب الذي على وجه الأرض يسمى صعيدا، ووجه الأرض يسمى صعيدا، والطريق يسمى صعيدا. قال: وقد قال بعض الفقهاء: الصعيد: وجه الأرض، سواء كان عليه التراب، أو لم يكن، ويرى التيمم بوجه الصفاة الملساء جائزا، وإن لم يكن عليها ترابٌ إذا تمسح بها للتيمم، وسمي وجه الأرض صعيدا؛ لأنه صعد على الأرض. ومذهب أكثر الفقهاء أن الصعيد في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]: أنه التراب الطاهر، وجد على وجه الأرض، أو أخرج من باطنها، ومنه قوله عز وجل: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، انتهى (¬2). ق: في شرح الإلمام: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «عليك بالصعيد» يحتمل أن تكون الألف واللام فيه للعهد؛ إذ هاهنا صعيد معهود، وهو المكان الذي هم فيه، ويحتمل أن تكون للجنس، فإذا حمل على العهد، دل على جواز التيمم بما هو صعيد حينئذ بذلك المكان، ولا دليل لنا على تعين ذلك الصعيد، مما اختلف فيه من ¬
المسائل، ولا يمكن الاستدلال بهذا عليه. وإن حمل على الجنس، رجع الحال إلى معرفة ما يسمى صعيدا، ويكون الحديث كالآية سواء في أخذ حكم التيمم منه، ولا شك في تناول اللفظ لذلك الصعيد، إما بخصوصه، أو بعمومه. قلت: فتحصيل هذه المسألة: أن ما يتيمم به على ثلاثة أقسام: جائز باتفاق: وهو التراب المنبت الطاهر. ومقابله، وهو التراب النجس. والثالث: مختلف فيه، وهو ما كان طاهرا ليس بتراب؛ كالرمل، والحجر، والجِصِّ، والنورة، ونحو ذلك مما تقدم ذكره، والله أعلم. الثامن: في الحديث دليل صريح على جواز تيمم الجنب، ولم يختلف الفقهاء في ذلك، إلا أنه روي عن عمر، وابن مسعود -رضي الله عنهما-: أنهما منعا تيمم الجنب، وقيل: إن بعض التابعين وافقهما، وأظنه الحسن، وقيل: إنهما رجعا عن ذلك. ق: وكأن سبب التردد ما أشرنا إليه من حمل الملامسة على غير الجماع، مع عدم وجود دليل عندهم على جوازه، والله أعلم (¬1). التاسع: فيما اشتمل عليه الحديث من الفوائد، وذلك مسائل: الأولى: أن على العالم إذا رأى من فعل فعلاً يحتمل أن يسوغ، ويحتمل ألا يسوغ: أن يسأله؛ ليتبين حاله. ¬
الثانية: فيه أن انفراد الإنسان بحضرة المصلين أمر معفي على صاحبه. الثالثة: فيه حسن الملاطفة والرفق في إنكار ما هو منكر، أو محتمل لما هو منكر؛ لإخراجه -عليه الصلاة والسلام- كلامه في معرض السؤال عن السبب المقتضي للترك، على ما تقدم تقريره. الرابعة: فيه أمر الصلاة جماعة. الخامسة: فيه ذكر إبداء العذر لنفي اللوم. السادسة: هذه اللفظة قد تدل على أن الذي عرض للمنعزل هو اعتقاد أن التيمم ليس سائغا للجنب؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- أحاله على الصعيد من غير بيان للتعبد بما يفعله فيه، وصفة تيممه به، ولم يزد على قوله: «عليك بالصعيد»، هذا هو الظاهر من اللفظ، ولو كان غير عالم بكيفية التيمم، وصفة العمل فيه، لوجب بيانه، واحتمال بيانه من غير أن ينفك البيان خلاف ما دل عليه ظاهر اللفظ. السابعة: فيه الاكتفاء في البيان الأحكام الشرعية بما يحصل به المقصود من الإفهام، دون تعيين ما هو صريح في البيان غير محتمل لشيء آخر؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «عليك بالصعيد». الثامنة: فيه دليل على اعتبار ما دلت عليه القرائن من فهم المقصود في العام والمطلق، إذا اقتضت القرائن تخصيصا أو تقييدا (¬1)؛ فإن قوله -عليه الصلاة والسلام-: «عليك بالصعيد؛ فإنه ¬
يكفيك» لا بد أن يفهم منه: فإنه يكفيك في هذه الحالة، أو في مثل هذه الحالة، ولا يؤخذ (¬1) منه إطلاق الكفاية، بل يتقيد بما يوجد فيه الشرط، والركن في التيمم. التاسعة: قد يؤخذ من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فإنه يكفيك» دليل على عدم القضاء للمسافر المتيمم (¬2). العاشرة: في الحديث: الجريان على سنة العادة التي أجراها الله تعالى في خلقه، وعدم التوقف لأجل انخراقها، وأن ذلك غير منعي، ولا ناقص في التوكل، والتوحيد يحرك نظرا كثيرا في مسائل التوكل، والاقتضاب، وما ينافي التوكل في المباشرات للأسباب، وما لا (¬3) ينافيه، وله موضع آخر، إلا أن الذي يحتاج إليه هاهنا: هو أن مثل هذا السبب غير مناف، والله أعلِمَ. ولتعلم: أن أكثر هذه الفوائد العشر من كلام ق في شرح الإلمام (¬4)، غير أني لخصت بعضها من حيث العبارة خاصة، والله الموفق. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 37 - عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَاجَةٍ , فَأَجْنَبْتُ , فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ؛ فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ , ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ , فَقَالَ: «إنَّمَا يَكْفِيَكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً , ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ , وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ (¬1). ¬
* التعريف: عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين، العنسيُّ، ثم المذحجيُّ، يكنى: أبا اليقظان حليف لبني مخزوم بن يقظة. قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: وممن شهد بدرا عمار بن ياسر. وقال الواقديُّ، وطائفة من أهل (¬1) العلم بالنسب والخبر: إن ياسرا أبا عمار بن ياسر عربيٌّ قحطاني، مذحجي، من عنس (¬2) بن مذحج، إلا أن ابنه عمارا مولى لبني مخزوم؛ لأن أباه ياسرا تزوج أمة لبعض بني مخزوم، فولدت له عمارا، وذلك أن ياسرا والد عمار قدم ¬
مكة مع أخوين له يقال لهما: الحارث، ومالك، في طلب أخ لهم رابع، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فزوجه أبو حذيفة أمةً له، يقال لها: سمية، فولدت له عمارا، فأعتقه أبو حذيفة، فمن هنا هو عمار، مولى لبني مخزوم، وأبوه عربي كما ذكرنا، قال ابن عبد البر: لا يختلفون في ذلك. قال أبو عمر: كان عمار وأمه سمية ممن عذب في الله عز وجل، ثم أعطاهم عمار ما أرادوا بلسانه، واطمأن بالإيمان قلبه، فنزلت فيه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وهاجر إلى أرض الحبشة، وصلى القبلتين، وهو من المهاجرين الأولين، ثم شهد بدرا، والمشاهد كلها، وأبلى ببدر إبلاءً حسنا، ثم شهد اليمامة، فأبلى فيها أيضا، ويومئذ قُطعت أذنه. وكان -فيما ذكر الواقدي- طويلاً، أشهل، بعيدَ ما بين المنكبين. زاد غيره: آدم اللون، أصلع، في مقدم رأسه شعرات، وفي مؤخره شعرات، مجدع الأنف. قال ابن عبد البر: روى سفيان، عن قابوس أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، في قول الله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122]، قال: عمار بن ياسر، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، قال: أبو
جهل بن هشام. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ عَمَارًا مُلِئَ إِيماناً إِلىَ مُشَاشِهِ» (¬1). ومن حديث خالد بن الوليد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَبْغَضَ عَمَّارًا، فَقَدْ (¬2) أَبْغَضَهُ اللهُ»، قال خالد: فما زلتُ أحبه من يومئذ (¬3). وروى عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: «اشْتَاقَتِ الجَنَّةُ إِلَى عَمَّارٍ، وَسَلْمَانَ، وَبِلاَلٍ» (¬4). وجاء عمار يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: «مَرْحَبَا باِلطَّيِّبِ المُطَيِّبِ، ائْذَنُوا لَهُ» (¬5). ¬
قلت: وفي هذا فائدة أخرى (¬1)، وهو أن يقال: مرحبا؛ للغائب عنك. وروى الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: ما من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أشاء أن أقول فيه إلا قلت، إلا عمار بن ياسر؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول-: «ملئ عمار إيمانا حتى أخمص قدميه». وقال عبد الرحمن بن أبزى: شهدنا مع علي صفين في ثمان مئة ممن بايع بيعة الرضوان، قُتل منا ثلاثة وستون، منهم عمار بن ياسر، لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام- يتبعونه كأنه علم لهم، وسمعت عمارا يقول يومئذ لهاشم بن عتبة: يا هاشم! تقدم، الجنة تحت الأبارقة، اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه، والله! لو هزمونا حتى بلغوا بنا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، ثم قال: نحن ضربناكم على تنزيله .. فاليوم نضربكم على تأويله ضربا يزيل (¬2) الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق إلى سبي له ¬
قال: فلم أر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ. وقال ابن مسعود وطائفة لحذيفة حين احتضر، وقد ذكر الفتنة: إذا اختلف الناس بمن تأمرنا؟ قال: عليكم بابن سمية؛ فإنه لن يفارق الحق حتى يموت، أو قال: فإنه يزول مع الحق حيثما زال. وبعضهم يرفع هذا الحديث. قُتل مع علي رضي الله عنه بصفين، وسنه ثلاث وتسعون سنة، سنة سبع وثلاثين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وستون حديثًا، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث واحد. روى له الجماعة (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: يقال: (بعثه)، وابتعثه بمعنى؛ أي: أرسله، فانبعث، ¬
فهو من المطاوع، ومنه: بعثت الناقة أثرتها (¬1)، وبعثه من منامه؛ أي: أهبه، وبعث الله (¬2) الموتى؛ أي: نشرهم ليوم البعث، وأبعث في السير: أسرع فيه (¬3). الثاني: (الحاجة) معروفة. قال الجوهري، والجمع (¬4) حاج، وحاجات، وحِوَجٌ، وحوائج، على غير قياس، كأنهم جمعوا حائجة، وكان الأصمعي ينكره، ويقول: هو موّلد، وإنما أنكره؛ لخروجه (¬5) عن القياس، وإلا، فهو كثير في كلام العرب، والحَوْجاء: الحاجة، يقال: ما في صدري به حوجاء ولا لَوْجاء، ولا شك، ولا مرية، بمعنى واحد (¬6). الثالث: قوله: «فأجنبت»: قد تقدم أنه يقال: جَنَبَ، وجَنُبُ - بالفتح والضم -، وأجنب - أيضا -. والتمرغ في الشيء: التمعك فيه، ويقال للموضع المتمرغ فيه: متمرغ، ومَراغ، ومَراغة (¬7). ¬
وقوله: «كما تمرغ الدابة»: الأصل: تتمرغ، فحذف إحدى التاءين تخفيفًا، وهو قياس في كل تاءين اجتمعتا في أول الفعل المضارع، بشرط اتحاد حركتهما، فإن اختلفتا، وجب الإثبات، نحو تتغافر الذنوب، وتتواضع الأمة، وشبه ذلك، ومنه قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} (¬1)، [القدر: 4]، وقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا} [النمائدة: 2]، وهو كثير، وفي الحديث: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به نفوسها، ما لم تكلم أو تعمل» (¬2). الرابع: «الدابة) في أصل اللغة: كل ماشٍ على الأرض، وقد أخرجها العرف عن هذا الأصل، فاستعملها أهل العراق في الفرس خاصة، وأهل مصر في الحمار. وقال الجوهري: وقولهم: أكذب من دب ودرج؛ أي: أكذب الأحياء والأموات (¬3). الخامس: ق: كأنه استعمال لقياس، لا بد فيه من تقدم العلم بمشروعية (¬4) التيمم، وكأنه لما رأى أن الوضوء خاص ببعض ¬
الأعضاء، وكان بدله - وهو التيمم - خاصا، وجب أن يكون بدل الغسل الذي يعم جميع البدن عاما لجميع (¬1) البدن. قال أبو (¬2) محمد بن حزم الظاهري: في هذا الحديث إبطال القياس؛ لأن عمارا قدر أن المسكوت عنه من التيمم للجنابة حكمه حكم الغسل للجنابة؛ إذ هو بدل منه، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأعلمه أن لكل شيء حكم المنصوص عليه فقط. والجواب عما قال: إن الحديث دل على بطلان هذا القياس الخاص، ولا يلزم من بطلان الخاص بطلان العام، والقائسون لا يعتقدون صحة كل قياس، ثم في هذا القياس شيء آخر، وهو أن الأصل الذي هو الوضوء قد ألغي فيه مساواة البدل له؛ فإن التيمم لا يعم جميع أعضاء الوضوء، فصار مساواة البدل للأصل ملغى في محل النص، وذلك لا يقتضي المساواة في الفرع. بل لقائل أن يقول: قد يكون الحديث دليلاً على صحة أصل القياس؛ فإن قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إنما يكفيك» كذا وكذا، يدل على أنه لو كان فعله، لكفاه، وذلك دليل على صحة قولنا: لو كان فعله، لكان مصيبا، ولو كان فعله، لكان قائسا التيمم على الجنابة، للتيمم على الوضوء، على تقدير أن يكون (¬3) اللمس المذكور ¬
في الآية ليس هو الجماع؛ لأنه لو كان عند عمار هو الجماع، لكان حكم التيمم مبينا في الآية، فلم يكن (¬1) يحتاج إلى أن يتمرغ، فإذن فعله ذلك يتضمن (¬2) اعتقاد كونه ليس عاملاً بالنص (¬3)، بل بالقياس (¬4)، وحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يكفيه التيمم على الصورة المذكورة، مع ما بينا من كونه فعل ذلك لفعله بالقياس عنده [لا] بالنص (¬5). قلت: وهذا من مستحسنات بحثه رحمه الله تعالى. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أن تقول كذا بيديك» (¬6)؛ أي: أن تفعل، فأطلق القول على الفعل مجازا. وقيل (¬7): إن العرب أطلقت القول في كل فعل. السابع: قوله: «ثم ضرب بيديه (¬8) الأرض ضربة واحدة» دليل على المشهور من مذهب مالك، وهو الإعادة في الوقت عند الاقتصار ¬
على ضربة واحدة؛ لأن الإعادة في الوقت دليل على إجزاء الفعل إذا وقع ظاهرا، ولا يعيده (¬1)، وقد تقدم ذكر، الخلاف في ذلك في الحديث الأول، وإن كان ورد في حديث آخر: ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين (¬2)، قالوا: إلا أنه لا يقاوم هذا الحديث في الصحة، ولا يعارض مثله بمثله. الثامن: قوله: «ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه، ووجهه»: قدم في اللفظ مسح اليدين على مسح الوجه؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وقد جاء في غير هذه الرواية: «ثم مسح وجهه» (¬3)؛ يعني بعد اليدين، و (ثم) للترتيب، فاستدل (¬4) بذلك على أن ترتيب اليدين على الوجه ليس بواجب؛ لأنه إذا ثبت ذلك في التيمم، ثبت في الوضوء ضرورة عدم القائل بالفرق بينهما، فاعرفه (¬5). التاسع: قوله: «وظاهر كفيه» دليل على الاجتزاء بالكفين، وقد تقدم تقرير الخلاف في المسألة، وتوجيه كل قول بما يغني عن الإعادة. العاشر: فيه: أن [على] من أرسل في أمر عظيم أن يتحفظ ¬
ويتثبت، ولا يشهر ما أرسل فيه إلا إذا رأى ذلك مصلحة، ويفعل كما فعل عمار حيث قال: أرسلني النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، ولم يقل: في كذا، فيصرح بما أرسل فيه (¬1). وفيه من الفقه: أن المتأول المجتهد لا إعادة عليه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر عمارا بالإعادة، وإن كان قد أخطأ في اجتهاده؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة (¬2). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 38 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ , وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا؛ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، فَلْيُصَلِّ , وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ, وَلَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي , وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ, وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً» (¬1). ¬
* التعريف: جابر بن عبد الله (¬1) بن حرام (¬2) بن عمرو بن سواد بن سلمة، ويقال: جابر بن عبد الله بن عمر (¬3) بن حرام، ولا بد منه. ومن قال في نسبه: عمرو بن حرام بن عمرو بن سواد بن سلمة، فليس بصحيح؛ إذ ليس في بني سلمة لصلبه سواد، إنما سواد في عقبه، هو سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، والله أعلِم. وهو أنصاري، سلمي، كنيته: أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو طلحة، والأول أصح. وأمه أنيسة بنت غنمة بن عدي بن سنان، أسلمت، وبايعت (¬4)، ذكرها ابن سعد في النساء الصحابيات. قدم جابر الشام ومصر، وكان من سكان المدينة، وأبوه عبد الله عَقَبي بدري أحدي، وشهد جابر العقبة الثانية مع أبيه صغيرا، ولم يشهد الأولى، وذكره بعضهم في البدريين، ولا يصح؛ لأنه روي عنه: أنه قال: لم أشهد بدرا، ولا أحدا، منعني أبي، فلما قُتل أبي، ¬
لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة قط، أخرجه مسلم في «صحيحه» (¬1). وذكر البخاري: أنه كان ينقل الماء يوم بدر (¬2)، فيحتمل أنه كان شهدها وهو صغير بحيث إنه لم يعد من البدريين، ويكون ذلك جمعا بين القولين. وذكر ابن الكلبي: أنه شهد أحدا، ولعله كالأول. وروى عنه [أبو] الزبير: أنه قال: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه إحدى وعشرين غزوة، شهدت معه منها تسع عشرة غزوة (¬3)، فيحتمل أنه لم يحتسب ببدر وأحد؛ لأنه لم يحضرهما، أو لكونه صغيرا، والله أعلِم. وكان من الحفاظ المكثرين في الرواية، وممن طال عمره حتى اتسع الأخذ منه (¬4)، وعمي في آخر عمره، ومات وهو ابن أربع وتسعين سنة، واختلف في وفاته، فقيل: في سنة ثلاث وسبعين، وقيل: أربع، وقيل: (¬5) ثمان، وقيل: (¬6) تسع وسبعين، وقيل: ثمان وستين بالمدينة، ¬
وصلى عليه أبان بن عثمان ابن عفان رضي الله عنهما، وهو أميرها، ويقال: إنه آخر من مات من الصحابة بالمدينة رضي الله عنه (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «نصرت بالرعب»: قال ابن فارس في «مجمله»: النصر: العون، وانتصر الرجل: انتقم، والنصر: الإتيان، يقال: نصرت أرض بني فلان: أتيتها، والنصر: المطر، يقال: نُصرت الأرض، أي: مطرت، والنصر: العطاء، قال (¬2): [الرجز] ¬
إنِّي وَأَسْطارٍ سُطِرْنا سَطْرًا ... لَقائِلٌ: يا نَصْرُ نَصْرٌ نَصْرًا (¬1) انتهى (¬2). وهو مصدر، والاسم: النصرة. وأما الرعب: فهو الخوف والوجل مما يحاذر في المستقبل، يقال منه: رعبته، فهو مرعوب: إذا فزعته، ولا يقال: أرعبته (¬3). وهذا الرعب - والله أعلم - هو الذي ألقاه الله تعالى في قلوب الكفار في قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151]، وقوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26]. الثاني: ق: الخصوصية التي يقتضيها لفظ الحديث متقيدة بهذا القدر من الزمان، ويفهم منه أمران: أحدهما: أنه لا ينفي وجود الرعب من غيره في أقل من هذه المسافة. والثاني: أنه لم يوجد لغيره في أكثر منها؛ فإنه مذكور في سياق الفضائل والخصائص، ومناسبته (¬4) أن لا تذكر الغاية فيه. وأيضا: فإنه لو وجد أكثر من هذه المسافة لغيره، لحصل الاشتراك (¬5) ¬
في الرعب في هذه المسافة، وذلك ينفي الخصوصية، انتهى (¬1). قلت: وانظر هل كان ذلك مختصا به في نفسه - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى لو لم يكن هو في معسكر قوم أرسلهم -مثلاً- لم يسبقهم الرعب إلى قلوب أعدائهم، أو ذلك له ولأمته على الإطلاق؟ والظاهر: الأول، وإن كان في بعض الأحاديث: «والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرا»: ذكره أحمد بن حنبل في «مسنده» (¬2)، فإن صح، ففيه نظر؛ لأن الواقع قد لا يكون كذلك، فإنا نرى من العساكر القوية الشوكة من لا يسبقهم الرعب، فانظر علام يحمل ذلك إن صح الحديث؟ وبالله التوفيق. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»: قد تقدم أنه يقال: مسجد، ومسجَد - بكسر الجيم وفتحها -، وقيل: بالفتح اسم لمكان السجود، وبالكسر اسم للموضع (¬3) المتخذ مسجدا، هذا أصله في اللغة. وأما في العرف، فينطلق على الموضع المبني للصلاة التي السجود منها. ¬
والذي ينبغي أن يحمل عليه في الحديث الوضع اللغوي دون الاصطلاحي، وهو موضع السجود في أي مكان كان؛ أي: جعلت الأرض كلها موضع سجود، ولا (¬1) يختص السجود منها بمكان دون غيره. ق ق: ويجوز أن يجعل مجازا عن المكان المبني للصلاة؛ لأنه لما جازت الصلاة في جميعها، كانت كالمسجد (¬2) في ذلك، فأطلاق (¬3) اسمه عليها من مجاز التشبيه. والذي يقرب هذا التأويل: أن الظاهر أنه إنما أريد: أنها موضع للصلاة بجملتها، لا للسجود فقط منها؛ لأنه لم ينقل أن الأمم الماضية كانت تخص السجود وحده بموضع دون موضع (¬4). قلت: ويحتمل أن يكون من باب تسمية البعض بالكل، من حيث كان موضع السجود بعضا للمسجد العرفي، والله أعلم. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وطهورا»: ينبغي أن تعلم أن (فعولاً) المشتق في الكلام؛ إما للمبالغة، وإما لغيرها، فالذي للمبالغة شرطه أن يكون زائدا على معنى فاعل مع مساواته له فيما له من تعد ولزوم؛ كضروب بالنسبة إلى ضارب، وولوج بالنسبة إلى والج. ¬
والذي لغير المبالغة إما بنية مفتتحة دالة على معنى فاعل، مغنية عنه، نحو: عقوق، وحصور للناقة الضيقة الإحليل، وهي التي ضاق مجرى لبنها من ضرعها، وإما دالة على ما يفعل به الشيء؛ كرقوء، وهو ما يرقأ به الدم؛ أي: ينقطع، وأشباهه. فطهور في الحديث من القسم الأول، وهو الذي للمبالغة، فهو معنى: مطهر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره في معرض الخصوصية، ولو كان بمعنى: طاهر (¬1)، لم تكن فيه خصوصية؛ لأن طهارة الأرض عامة بالنسبة إلى سائر (¬2) الأمم. وقد استدل بهذا الحديث على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض - كما تقدم -؛ للعموم الذي في قوله: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»، ومن اشترط التراب، استدل بما جاء في الحديث الآخر: «وجعلت تربتها طهورا» (¬3)، وهذا خاص، فينبغي (¬4) أن يحمل العام عليه؛ كما يحمل المطلق على المقيد، على القول بذلك، وتختص الطهورية بالتراب. واعترض على هذا بوجوه: منها: منع كون التربة مرادفة للتراب، وادعى أن تربة كل مكان: ¬
ما فيه، ترابا كان أو غيره مما يقاربه. ومنها: أنه مفهوم لقب؛ أعني: تعلق الحكم بالتربة، ومفهوم اللقب ضعيف، لم يقل به إلا الدقاق. ق: ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن في الحديث قرينة زائدة على مجرد تعلق الحكم بالتربة، وهي الافتراق (¬1) في اللفظ بين جعلها مسجدا، وجعل تربتها طهورا، على ما في الحديث، وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على الاقتران في الحكم، وإلا، لعطف أحدهما على الآخر نسقًا؛ كما في الحديث الذي ذكره المصنف. انتهى. ومنها: أن حديث التربة، لو سلِّم أن مفهومه معمول به، لكان الحديث الآخر يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض، أعني: قوله: «مسجدا وطهورا» بمنطوقه، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم (¬2). الخامس: أخذ بعض أصحابنا من هذا الحديث أن لفظ (طهور) يستعمل لا بالنسبة إلى الحدث، ولا الخبث، وقال: إن (¬3) الصعيد قد سمي طهورا، وليس بحدث، ولا خبث؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، هذا أو معناه، وجعل ذلك جوابا عن استدلال الشافعية على نجاسة فم الكلب بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل ¬
سبعا» (¬1) حين قال الشافعية: طهور يستعمل إما عن حدث، أو خبث، ولا حدث على الإناء، فتعين أن يكون عن خبث، فمنع هذا الحصر. وقال: لفظة طهور تستعمل في إباحة الاستعمال؛ كما في التراب؛ إذ لا يرفع الحدث كما قلناه، فيكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: «طهور إناء أحدكم» مستعملاً في إباحة استعماله؛ أعني: الإناء كما في التيمم (¬2). قلت: ومنه قول الشاعر: عِذابِ الثَّنايا رِيقُهُنَّ طَهُورُ (¬3) إذ لا حدث هناك - أيضا -، ولا خبث، فلا حصر إذن، وهذا إنما يتمشى إذا قلنا: بأن التيمم لا يرفع الحدث، وقد تقرر الكلام على هذه المسألة مستوعبا بما يغني عن الإعادة (¬4). السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل»: ق: مما يستدل به - أيضا - على عموم التيمم بأجزاء الأرض؛ لأن قوله: «أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة» (¬5) صيغة عموم، فيدخل تحته من لم يجد ترابا، ووجد غيره ¬
من أجزاء الأرض، ومن خص التيمم بالتراب يحتاج (¬1) أن يقيم دليلاً يخص به هذا العموم، أو يقول: دلّ الحديث على أنه يصلي، وأنا أقول (¬2) بذلك، فمن لم يجد ماءً ولا ترابا، صلى على حسب حاله، فأقول بموجب الحديث: إلا أنه قد جاء في رواية أخرى: «فعنده طهوره ومسجده» (¬3)، والحديث إذا جمعت طرقه، فسر بعضها بعضا (¬4). السابع: «أي): اسم مبتدأ فيه معنى الشرط، و (ما): زائدة لتوكيد معنى (¬5) الشرط، والجملة التي هي «أدركته الصلاة»: في موضع خفض صفة للرجل، والفاء في «فليصل»: جواب للشرط، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره - والله أعلم -: فيما يقص عليكم، أو فيما فرض عليكم «أيما رجل» الحديث، وهو من باب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]، {وَالزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]، وأشباه ذلك على مذهب سيبويه رحمه الله تعالى، فإن قدره (¬6): فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم (¬7)، كما تقدم. وقيل: الخبر ما بعده؛ كما تقول: زيد فاضربه، وكأن الفاء زائدة، ¬
فعلى هذا يكون «فليصل» الخبر، لكن فيه بُعد من حيث إن (أيا) شرط صريح يقتضي الجواب، ولا جواب له هنا إلا الفاء، بخلاف الآيتين؛ فإنهما غير صريحتين في الشرط، فتعين الوجه الأول، وهو حذف الخبر، والله أعلم. الثامن: هذا العموم؛ أعني: عموم قوله -عليه الصلاة والسلام-: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» مخصوص بما استثناه الشرع من المواضع التي تحرم الصلاة فيها؛ كالأماكن المغصوبة، ونحو ذلك، أو تكره؛ كالمزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، وظهر بيت الله الحرام، والحمام؛ حيث لا يوقن منه بطهارة، ومقابر المشركين، وكنائسهم، وغير ذلك مما هو مبسوط في كتب الفقه. التاسع: وجه اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بذلك: أن من كان قبلنا كانوا - على ما قيل - لا يصلون إلا فيما يتيقنون طهارته من الأرض، كالبيع، والكنائس، وخصصنا نحن بجواز الصلاة في جميع بقاع الأرض، إلا ما تيقنا نجاسته (¬1)، وما ذكر مع النجاسة آنفًا مما استثني. العاشر: قد يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل»: أنه لا يجوز التيمم إلا بعد دخول الوقت؛ كما هو مذهب الجمهور، وأنه يضعف قول من يقول: إن التيمم يرفع الحدث، وإن كان هو الذي يقوم عليه الدليل من غير هذا الحديث، كما تقدم تقريره. ¬
الحادي عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأحلت لي الغنائم»: الغنائم: جمع غنيمة، وهي والمغنم بمعنى واحد، يقال منه: غنم القوم غنُما -بالضم- لا غير (¬1). قال العلماء: كان الأمم قبلنا على ضربين: منهم: من لم يحل لأنبيائهم جهاد الكفار، فلا غنائم لهم، ومنهم: من أحل لهم ذلك، إلا أنهم كانوا إذا غنموا مالاً، جاءت نار فأحرقته، فلا يحل لهم أن يتملكوا منه شيئًا، وأباح الله لهذه الأمة الغنائم، وطيبها لها (¬2). ق: ويحتمل أن يريد بالغنائم؛ بعض الغنائم، وفي بعض الأحاديث: «وأحل لنا الخمس»، أخرجه ابن حبان (¬3)، بكسر الحاء وبعدها باء موحدة (¬4). الثاني عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وأعطيت الشفاعة». ق: الأمثل الأقرب أن تكون الألف واللام في (الشفاعة) للعهد، وهو ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشفاعة العظمى التي امتاز بها على سائر الخلق، وهي الشفاعة في إراحة الناس من طول القيام؛ بتعجيل حسابهم؛ كما جاء مبينا في «الصحيح»، وهو المقام المحمود الذي ¬
يحمده فيه الأولون والآخرون من أهل المحشر، ولا خلاف في هذه الشفاعة، ولا تنكرها المعتزلة. ق: والشفاعات: الأخروية خمس (¬1): إحداها: هذه، وقد ذكرنا اختصاص الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها، وعدم الخلاف فيها. وثانيها: الشفاعة في إدخال قوم الجنة دون حساب، وهذه - أيضا - وردت لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، ولا أعلم الاختصاص فيها، ولا عدم الاختصاص. وثالثها: قوم استوجبوا النار، فيشفع في عدم دخولهم لها، وهذه - أيضا - قد تكون غير مختصة. ورابعها: قوم دخلوا النار، فيشفع في خروجهم منها، وهذه قد ثبت فيها عدم الاختصاص؛ لما صح في الحديث من شفاعة الأنبياء والملائكة، وقد ورد - أيضا -: الإخوان من المؤمنين. وخامسها: الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها، وهذه - أيضا - لا تنكرها المعتزلة. فتلخص من هذا: أن من الشفاعات ما علم الاختصاص به، ومنها ما علم عدم الاختصاص به، ومنها ما يحتمل الأمرين، فلا تكون الألف واللام للعموم، فإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تقدم منه إعلام ¬
الصحابة بالشفاعة الكبرى المختص بها التي صدرنا بها الأقسام الخمسة، فلتكن الألف واللام للعهد. وإن كان لم يتقدم ذلك على هذا (¬1) الحديث، فلتجعل الألف واللام لتعريف الحقيقة، وتتنزل على تلك الشفاعات؛ لأنه كالمطلق حينئذ، فيكفي تنزيله على فرد. وليس لك أن تقول: لا حاجة إلى هذا التكلف، فإنه ليس في الحديث إلا قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أعطيت الشفاعة»، فكل هذه الأقسام التي ذكرتها قد أعطيها - صلى الله عليه وسلم -، فليحمل اللفظ على العموم؛ لأنا نقول: هذه الخصلة مذكورة في الخمس التي اختص بها - صلى الله عليه وسلم -، فلفظها - وإن كان مطلقًا -، إلا أن ما سبق في صدر الكلام يدل على الخصوصية (¬2). الثالث عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة»: ظاهره أو نصه يقتضي اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الخصلة كغيرها مما تقدم، لكن قد يعارضه أن يقال: إن نوحا -عليه الصلاة والسلام- عمت - أيضا - رسالته أهل الأرض كلهم؛ لأنه حين خروجه من السفينة لم يبق معه إلا من كان مؤمنا، وهو مرسل إليهم، وهم أهل الأرض كلها حينئذ؛ لأن الغرق قد عم جميع الأرض، وعم الماء جميعها على ما طفحت به التفاسير، قاله ابن ¬
عباس، وغيره. ويجاب عنه: بأن يقال: عموم رسالة نوح -عليه الصلاة والسلام- جاءت بطريق الاتفاق، ولم يكن في أصل البعثة، وإنما وقعت بسبب ما حدث من انحصار الخلق في الموجودين حينئذ بسبب هلاك غيرهم، وأما نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فعموم رسالته متأصل من أصل البعثة، فحصلت الخاصيةُ (¬1) له - صلى الله عليه وسلم -، وزال الاعتراض المذكور، والحمد لله، وأيضا: لم تدم بعده نبوة عامة؛ بخلاف نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). الرابع عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أعطيت خمسا» إلى آخر الحديث، لا يقتضي حصر خصوصياته في هذه الخمس، بل يجوز أن يكون له خصائص أخر، وإذا جمعت روايات هذا الحديث، وأضيف بعض ما ذكر فيها من الخصائص إلى بعض، كانت أكثر من خمس. فإنه قد جاء في رواية لمسلم عدها ستا، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أوتيت جوامع الكلم» (¬3). ¬
وفي رواية: «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض» (¬1). وجاء: «وفضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها طهورا، وأوتيت هذه الآيات: خواتم البقرة من كنز تحت العرش، ولم يعطهن أحد قبلي، ولا يعطهن أحد بعدي» (¬2). وفي رواية: «وختم بي النبيون» (¬3). فقد تحصل من مجموع هذه الروايات عند إضافة بعض هذه الخصائص (¬4) إلى بعض: أنها عشر، لا خمس، وهي: النصر بالرعب، وجعل الأرض مسجدا وطهورا، وإحلال الغنائم، والشفاعة العظمى، وعموم الرسالة، وجعل صفوفنا كصفوف الملائكة، وإيتاؤه جوامع الكلم، ومفاتيح خزائن الأرض، وخواتم البقرة، وكونه -عليه الصلاة والسلام- ختم به النبيون، فهذه عشر خصائص بالنسبة إلى ¬
ما رأيناه، ولعلها أكثر من ذلك (¬1)، ولا حاجة بنا إلى تأويل الحديث برد بعض هذه الخصائص إلى بعض من حيث التداخل، أو غير ذلك؛ لما تقدم من كون اللفظ لا يقتضي حصرا، بل خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة - لا تحصى، ومآثره أكثر من أن يحاط بها فتستقصى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وشرف وكرم. * * * ¬
باب الحيض
بابُ الحيضِ الحديث الأول 39 - عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ، سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ، فَلا أَطْهُرُ, أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ قَالَ (¬1): «لا، إنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ؛ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلاةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا, ثُمَّ اغْتَسِلِي، وَصَلِّي» (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ: (¬3) «وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ, فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ؛ فَاتْرُكِي ¬
الصَّلاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا، فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ، وَصَلِّي» (¬1). ¬
الحيض أصله: سيلان الدم، قالوا: وله ستة أسماء: الحيض، والطمث، والعراك، والضحك، والإكبار، والإعصار. وللحائض ثمانية أسماء: حائض، وطامث، وطامس، وعارك، وفارك، وضاحك، ودارس، وكابر. وهو دم ترخيه المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة. والاستحاضة: سيلانه في غير أوقاته، وهو يسيل من عرق فمه في أدنى الفرج، يسمى: العاذل - بالعين المهملة وكسر الذال المعجمة -، يقال: حاضت المرأة حيضا، ومحيضا، ومحاضا، فهي حائض. قال الفراء: ويقال: حائضة في لغة قليلة، ودرست، وطمثت، ونفست - بفتح النون وكسر الفاء -، وربما فتحت وضمت، وأعصرت، وأكبرت، وضحكت (¬1). ع: قيل: أصله من قول العرب: حاضت السَمُّرَة: إذا خرج منها ماء أحمر؛ فكأنه من الحمرة، قال: ولعل السمرة إنما شبهت بالمرأة. وقيل: الحيض والمحيض: اجتماع الدم هناك، ومنه سمي الحوض؛ لاجتماع الماء فيه (¬2). ¬
قلت: قولهم: ومنه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه، رده الفارسي رَدًّا عنيفًا، وخطأ قائله من جهة اللفظ والمعنى، فقال: هذا زلل ظاهر؛ لأن الحوض من الواو، ويقال: حُضْتُ، أحوضُ؛ أي: اتخذتُ حوضاً، واستحوض الماء: إذا اجتمع، والحائض تسمى حائضا عند سيلان الدم منها، لا عند اجتماع الدم في رحمها، وكذلك المستحاضة عند استمرار السيلان بها، فإذن أخذُ الحيضِ من الحوض خطأ لفظًا ومعنى (¬1). قلت: أما كونه خطأ من جهة اللفظ، فظاهر من حيث اختلاف الاشتقاقين. وأما من جهة المعنى، ففيه نظر؛ لأن السيلان فرع ثبوت الاجتماع، فهو يجتمع، ثم يسيل، لا يقال حالة اجتماعه: لا تسمى المرأة حائضا حتى يسيل؛ لأنا نقول: إنها تسمى حائضا، إن لم يكن حقيقة، فمجازا، لا سيما والفقهاء يقولون: ما قارب الشيء فله حكمه، وسيلان الدم قريب من اجتماعه، فلا يقطع بالخطأ والحالة هذه. والله أعلم. والحيض شيء كتبه الله -تعالى- على بنات آدم -عليه السلام-، وجعله حفظًا للأنساب، وعلامة يستدل بها على براءة الرحم في الأغلب، وقلنا: في الأغلب؛ لأن الحامل قد تحيض، وقد حده الشيخ أبو عمرو بن الحاجب -رحمه الله تعالى-: بكونه الدمَ الخارجَ بنفسه من فرج الممكِنِ ¬
حملُها عادة، غير زائد على خمسة عشر يَوْمًا، من غير ولادة (¬1). وزاد ابن شاس (¬2): ولا مرض. وأحكامه مبسوطة في كتب الفقه. * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قول عائشة -رضي الله عنها-: «أن فاطمة بنت أبي حُبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله!» ولم تقل: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قالته السائلة يحتمل أمرين: أحدهما: أن ذلك خشية تكرير اللفظ الواحد؛ فإنه مستهجَنٌ في العادة غالبا. والثاني: أن فيه إثبات النبوة والرسالة بالتصريح دون التضمين، وشبيه بهذا ما جاء في الصحيح من قوله -عليه الصلاة والسلام- عند النوم: «آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ»، حتى أمر القائل: وبرسولِكَ الذي أرسلتَ أن يقول: «وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» (¬3)، وإن كان قد قيل في هذا الأخير: إنه تحرز ممن أُرسل من الملائكة؛ فإن أحدهم رسولٌ، لا نبي، والله أعلم. ¬
الثاني: قولُها: «أُستحاض»: قد تقدم معنى الاستحاضة، والماضي منه استُحيضت المرأة -مبنيا للمفعول لا غير-، فهو من باب: حُمَّ، وزُهِيَ؛ مما لا يُستعمل إلا مبنيا للمفعول (¬1)، والأصل: أُسْتَحْيَضُ، فنقلت حركة (¬2) الياء إلى الحاء الساكنة قبلها، فتحركت الياء في الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فانقلبت ألفًا، كما هو في: يُقال ويُباع، ونحوِ ذلك، والأصلُ منه: الحاء، والياء، والضاد، والزوائد اللاحقة للمبالغة؛ كقَرَّ، واستقَرَّ، وأعشبَ المكانُ، واعْشَوْشَبَ، وأشباهِ ذلك. الثالث: قولها: «فلا أَطهر»: نفيٌ للطهارة على طريق المبالغة؛ لأنَّ (لا) تنفي المستديم، بخلاف (لن)؛ فإنها تنفي ما قرب. قال ابن خطيب زملكا: وسرُّ ذلك: أن الألفاظ مشاكلة للمعاني، و (لا) آخرُها ألف، والألف يمكن امتداد الصوت به؛ بخلاف النون؛ فإنها - وإن طال اللفظ بها - لا يبلغ طوله مع (لا)، فطابق كلُّ لفظ معناه. قلت: ولا يُلتفت إلى قول الزمخشري في «مفصَّله»: إن (لن) لتأكيد ما تُعطيه (لا) من نفي المستقبل (¬3)؛ لأنه مبنيٌّ على مذهبه في الاعتزال استدراجا إلى قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، ونحو ¬
ذلك، وهذه المسألة مبسوطة في كتب علم البيان، وإنما قصدنا التنبيه على القاعدة من حيث الجملة. إذا ثبت هذا، فالمراد بالطهارة هنا - والله أعلم -: اللغويةُ، وهي النظافةُ، وكنت بها عن عدم النظافة من الدم؛ لأن الطهارة -وإن كانت (¬1) يراد بها استعمال المطهر-، فيقال للوضوء: طهارة، وكذلك الغسل، ويراد بها أيضا الحكم الشرعي المرتب على استعمال المطهر (¬2)، فيقال لمن ارتفع حدثه: هو على طهارة، فلا ينبغي أن تُحمل على استعمال المطهر؛ لأن النساء لم يكنَّ يستعملنَ المطهر في ذلك الوقت، وهي غير عالمة بالحكم الشرعي؛ لأنها جاءت تسأل عنه، فتعين حملُه على الوضع اللغوي، كما تقدم، والله أعلم (¬3). الرابع: قولها: «أفأدع الصلاة؟»: هو كلام من تقرر عنده مانعية الحيض للصلاة؛ كما أجمع عليه السلف والخلف، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج. وقد حكي عن بعض السلف: أنه استحب للحائض إذا دخل وقت الصلاة؛ أن تتوضأ، وتستقبل القبلة، وتذكر الله تعالى، وأنكره بعضهم (¬4). ¬
وكأنه إنما أنكر لكونه لم يرد فيه شيء من الشارع، وإلا، فكان ذلك إشارة إلى بذل الوسع في نهاية ما تقدر (¬1) عليه. وهو شبيه بما نقل عن الشيخ أبي عمرو بن الحاجب -رحمه الله تعالى-: أنه لما سُجن كان إذا أظلته الجمعة، تهيأ لها بالغسل والطيبِ، وغير ذلك من سننها (¬2)، ثم يمشي إلى باب السجن، فإذا رد، قال: اللهم إن هذا نهاية ما أقدر عليه، أو كلاماً ذا معناه. ولكن المعوَّلَ عليه الوقوف مع السنة، وما كان عليه سلف هذه الأمة -رضي الله عنهم- أجمعين. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا، إنَّ ذلك عِرْقٌ»: هو بكسر الكاف من «ذلك»؛ لأنه يخاطب امرأة. فيه: دليل على جواز الصلاة بالجرح، أو القرحِ السائِل دمُه وقيحُه، كما يقوله أصحابنا، ما لم يكثر فيستحب (¬3) غسلُه، وقد صلى عمر -رضي الله عنه- وجرحُه يَثْعَبُ دماً (¬4). السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «قدرَ الأيامِ التي كنتِ تحيضين فيها»: فيه: دليل لقولِ مَنْ يقول من أصحابنا: إن ¬
المستحاضة تقتصر على عادتها من غير استظهار، ولهم في هذه المسألة ثلاثة أقوال: العادة خاصة -كما تقدم-؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - ردها إلى العادة، ولم يأمرها باستظهار (¬1). الثاني: العادة، والاستظهار بثلاثة أيام. الثالث: خمسة عشر يَوْمًا. وبالجملة: فالحُيَّضُ ضربان: مبتدأة، ومعتادة. فالمبتدأة تترك الصلاة برؤية أول دم تراه إلى انقطاعه، وذلك تمام خمسة عشر يوما على المشهور عندنا، وقيل: تجلس قدر أيام لداتها، وهنَّ (¬2) ذوات أسنانها من أهلها وغيرهن، فإن زاد على ذلك، فإن اعتبرنا الخمسة عشر، اغتسلت، وصلت، وكانت مستحاضة، وإذا (¬3) اعتبرنا أيام لداتها، استظهرت بثلاثة أيام ما لم يجاوز خمسة عشر يوما، وقيل: من غير استظهار. وأما المعتادة: فعن مالك فيها روايتان: أشهرهما: بناؤها على عادتها، وزيادة ثلاثة أيام. والأخرى: جلوسُها إلى آخر الحيض، ثم تعملان على التمييز ¬
إن كانتا من أهله، فإن عدمتا التمييز، صلتا أبدا، ولم تعتبرا لعادة. وحكم المستحاضة عندنا حكم الطاهر اتفاقًا، غير أنه يستحب لها أن تغتسل عند انقطاع دم استحاضتها، وأن تتوضأ لفعل كل صلاة ما لم يشق عليها ذلك (¬1). وأما وطؤها: فالجمهور على جوازه حال جريان الدم؛ كذا حكاه ابن المنذر في كتابه الإشراف له، ثم قال: وبه نقول. قال: وروينا عن عائشة -رضي الله عنها-: أنها قالت: لا يأتيها زوجها؛ وبه قال النخعي والحكم، وكرهه ابن سيرين. وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها (¬2). وعنه رواية: أنه لا يجوز وطؤها إلا أن يخاف زوجها العَنَتَ. ودليل الجمهور: ما روى عكرمة عن حَمْنَةَ بنتِ جحش -رضي الله عنها-: أنها كانت مستحاضة، وكان زوجُها يجامعها، رواه أبو داود، والبيهقي، وغيرهما بإسناد حسن (¬3). قال البخاري في صحيحه: قال ابن عباس: المستحاضة يأتيها ¬
زوجها إذا صلَّت، الصلاة (¬1) أعظم (¬2). ولأن المستحاضة كالطاهر في الصلاة، والصوم، وغيرهما، فكذا في الجماع، ولأن التحريم إنما يثبت بالشرع، ولم يرد الشرع بتحريمه (¬3). فائدة: المستحاضات في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس: حَمْنَةُ بنتُ جَحْشٍ، أختُ زينبَ بنتِ جحشٍ زوجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. الثانية: أمُّ حَبيبة، ويقال: حَبيب، بغير هاء (¬4). الثالثة: فاطمةُ بنتُ أبي حُبيش هذه، القرشيةُ (¬5) الأسديةُ. الرابعة: سَهْلَةُ بِنْتُ سُهيل (¬6)، القرشيةُ العامرية (¬7). الخامسة: سَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ زوجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬8). وقد ذكر بعضهم أن زينبَ بنتَ جحش استُحيضت، والمشهور خلافُه، وإنما المستحاضةُ أختُها. ¬
قال أبو عمر: والصحيح عند أهل الحديث أنهما كانتا تستحاضان جميعاً (¬1). السابع: اختار بعضهم، وأظنه الخطابي في قوله -عليه الصلاة والسلام- في رواية: «ليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة، فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها، فاغسلي عنك الدم وصلي»: كسرَ (¬2) الحاء، أي الحالة المألوفة المعتادة (¬3). والحيضة: - بالفتح-: المرةُ من الحيض (¬4)، وظاهر تعلق الحكم بالإقبال والإدبار، يشعر بأنها مميزة، ضرورة كونها لا بد لها من علامة تعرف بها إقبال الحيضة وإدبارها، فإقبالها: بدء الدم الأسود مثلاً، وإدبارها إدبار ما هو بصفة الحيض. ¬
ويحتمل أن تكون معتادة، وتكون علامة الإقبال: وجود الدم في أول أيام العادة، وإدبارها: انقضاء أيام العادة (¬1). الثامن: استُشكل ظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فاغسلي عنك الدم وصلِّي»؛ إذ لم يأمرها بالغُسل، حتى حمل بعضُهم هذا الإشكال (¬2) على أن جعل الإدبار انقضاء أيام الحيض والاغتسال، وجعل قوله: «فاغسلي عنك الدم» محمولاً على دم يأتي بعد الغسل. ق: والجواب الصحيح: أن هذه الرواية -وإن لم يذكر فيها الغسل-، فقد ذكر في رواية أخرى صحيحة، قال فيها: «وَاغْتَسِلِي» (¬3). وفي الحديث: دليل على نجاسة دم الحيض، وعلى تحريم صلاة الحائض، وعدم قضائها؛ إذ لم يأمرها به، وذلك مجمَع عليه. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 40 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ , فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلاةٍ» (¬1). ¬
هذا (¬1) الحديث مغلوط فيه، قيل: إنه سقط بين قوله: «فأمرها أن تغتسل» وبين قوله: «لكل صلاة»: فكانت تغتسل لكل صلاة، فيكون أصل الحديث هكذا: «فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل لكل صلاة»، فليس فيه أمر منه - صلى الله عليه وسلم - لها بالغسل لكل صلاة البتة، وإنما كانت تغتسل لكل صلاة من عند نفسها، لا أنها مأمورة بذلك، وهكذا هو عند مسلم. وفي «البخاري»: أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها أن تغتسل، وقال: «هذا عرق»، فكانت تغتسل لكل صلاة، فسقط منه حينئذ قوله: «فكانت تغتسل لكل صلاة»، وهكذا هو في كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي، وقال بعده ما قال مسلم: قال الليث: ولم يذكر ابن شهاب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ¬
أم حبيبة أن تغتسل لكل صلاة، ولكنه شيء جعلته هي (¬1). فثبت بهذا كله أنه ليس في الصحيحين، ولا أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالغسل لكل صلاة. وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود (¬2)، والبيهقي، وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالغسل، فليس فيها شيء ثابت، فقد بين البيهقي وغيره ضعفها (¬3)، وإنما صح من ذلك ما تقدم من أمره - صلى الله عليه وسلم - بمطلق الغسل، دون أن تغتسل لكل صلاة. وهكذا قال الشافعي -رحمه الله تعالى-، ولفظه: وإنما أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل، وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، قال: ولا أشك - إن شاء الله تعالى- أن غسلها كان تطوعا غير ما أُمرت به، وذلك واسع، والله أعلم (¬4). وقد روي عن ابن عمر، وابن الزبير، وعلي، وابن عباس -رضي الله عنهم-: أنهم قالوا بوجوب الغسل على المستحاضة لكل صلاة. وروي أيضا عن عطاء بن أبي رباح، وجاء ذلك أيضا في رواية ابن إسحاق خارج الصحيح. لكن حمله الجمهور على مستحاضةٍ ناسيةٍ للوقت والعدد، يجوز ¬
في مثلها أن ينقطع دمها عند وقت كل صلاة. ودليل الجمهور: أن وجوب الغسل إنما يكون بالشرع، ولم يصح في ذلك حديث، فلا وجوب، بل جاء في الحديث المتقدم: «اغتسلي وصلِّي»، ولم يأمرها بتكرار الغسل لكل صلاة، ولو كان واجباً، لأمرها به، والله أعلِمَ (¬1). وهذا الخلاف - والله أعلم - ينبني على مسألة أصولية: وهو أن الأمر هل يقتضي التكرار، أو لا؟ والله أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 41 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ؛ كِلانا جُنُبٌ، فكَانَ يَأْمُرُنِي، فَأَتَّزِرُ, فَيُبَاشِرُنِي؛ وَأَنَا حَائِضٌ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إلَيَّ؛ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ, فَأَغْسِلُهُ؛ وَأَنَا حَائِضٌ (¬1). ¬
* الكلام على هذا الحديث من وجوه: الأول: أنه يدل على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد، فقد تقدم الكلام عليه في باب الغسل من الجنابة. الثاني: (كِلا) و (كِلْتا) لفظهما مفرد، ومعناهما التثنية، هذا مذهب البصريين، وهما عند الكوفيين مثنيان لفظًا ومعنى. ودليل البصريين: قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف:]، ولم يقل: أتتا، وقول الشاعر: [الوافر] كِلا يَومَيْ أُمامةَ يَوْمُ صَدٍّ ... وَإِنْ لَمْ نَأْتها إِلاَّ لِمَامَا (¬1) ¬
فإذا ثبت هذا، فالحمل على لفظها أكثر، ويجوز الحمل على معناها، وقد جمع الشاعر بين اللغتين في قوله: [البسيط] كِلاَهُمَا حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنَهُمَا ... قَدْ أقلَعا وَكِلاَ أَنْفَيْهِمَا رَابِي (¬1) والألف في «كلا» منقلبة عن واو، والتاء في (كلتا) كذلك، وليست للتأنيث؛ إذ تاء التأنيث لا تكون قبلَها إلا فتحة، أو ألف، ولأنها لو كانت زائدة، لكان وزنها فِعْتَلاً، وفِعْتَل (¬2) ليس في الكلام، والكلام عليها مبسوط في كتب النحو، وإنما أردنا التنبيه على ذلك من حيث الجملة (¬3). تنبيه: لا ينبغي أن يُستدل للبصريين بقول عائشة -رضي الله عنها-: كلانا جُنُب؛ لأن جنباً في اللغة المشهورة يكون للواحد، والمثنى، والمجموع، والمذكر، والمؤنث، بلفظ واحد، كما تقدم. الثالث: فيه جواز مباشرة الحائض، وكانت اليهود إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، فسأله - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه عن ذلك، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَ النِّكَاحَ» (¬4)، وانعقد الإجماعُ على ¬
تحريم الوطء في الفرج، حكاه القاضي عبد الوهاب، وغيره (¬1). وما تحت الفرج حرام عند مالك، إما لظاهر الآية؛ بناءً على أن المحيض اسم زمان، أو مصدر، أو سدا للذريعة، أو للأحاديث الواردة في ذلك. منها: حديث ميمونة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر نساءه فوق الإزار وهنَّ حُيَّضٌ» (¬2). قال أبو الجهم: الإزار: من السرة إلى الركبتين. قال ابن القصار: لأنه موضع الإزار. وفي أبي داود: قال معاذ: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَمَّا يَحِلُ للرجل من امرأته وهي حائض، فقال: «ما فوق الإزار» (¬3). وفي أبي داود - أيضا -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر المرأة من نسائه وهي حائض، إذا كان عليها إزارُها يبلغ أنصافَ الفخذين، أو (¬4) الركبتين (¬5). ¬
وجوزه ابن حبيب، وأصبغ إذا اجتنب الفرج؛ لقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]، وهو يقتضي الإباحة مطلقًا، والمحيض عنده اسم مكان؛ كالمبيت، والمقيل: مكان البَيات (¬1) والقَيْلولة، فيختص (¬2) التحريم بالفرج؛ لأنه موضع الحيض، ولأن قوله تعالى: {هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] يقتضي الاعتزال لأجل الأذى، فحيث لا أذى، يجوز (¬3)، وما عدا الفرج لا أذى فيه، وأما إباحة أعلاها، فجائزٌ إجماعاً. ولا يعتد بما نقل عن عبيدة السلماني من قوله: لا يباشر شيئًا منها بشيء منه، فإنه مردود، منكر غير مقبول عند العلماء، حتى قال بعضهم: إنها نزعة يهودية. قال مالك في «المجموعة»: والنفساء -أيضا- يباشر منها ما فوق الإزار. فقد تحصل من مجموع ما تقدم: أن مباشرة الحائض على ثلاثة أقسام: قسم جائز باتفاق، وقسم ممتنع باتفاق، وقسم مختلف فيه. فالأول: ما فوق الإزار، وتحت الركبتين. ¬
والثاني: الوطء في الفرج. والثالث: ما بين السرة والركبة، وقد تقدم أنه حرام عند مالك؛ خلافًا لابن حبيب. وعند الشافعية في ذلك ثلاثة أوجه: التحريم، والكراهة، والثالث: التفريق، فإن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج، ويثق من نفسه باجتنابه، إما لضعف شهوة، أو لشدة ورعه، جاز، وإلا، فلا. والأصح الأشهر منها: التحريم؛ كما قاله مالك -رحمه الله تعالى-، وبالتحريم -أيضا- قال أبو حنيفة، وسعيد بن المسيب، وشريح، وطاووس، وعطاء، وسليمان بن يسار، وقتادة، وغيرهم. وممن ذهب إلى الجواز: عكرمة، ومجاهد، والشعبي، والحكم، والثوري، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن الحسن، وأصبغ، وإسحق بن راهويه، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود (¬1). الرابع: فيه جواز استخدام الرجل امرأته فيما خف من الشغل، واقتضته العادة. وفيه: أنه لا يلزمها إلا التمكين من نفسها مع ملازمة بيتها. وفيه: جواز مباشرة الحائض لهذا الفعل كالطاهر، وأن بدنها طاهر إذا لم يلاق النجاسة. ¬
وفيه: أن المعتكف إذا أخرج رأسه من المسجد، لم يفسد اعتكافُه، ويمكن (¬1) أن يقاس على الرأس غيرُه من الأعضاء. وقد يستدل بذلك -أيضا- على أن من حلف لا يخرج من بيت أو غيره، فأخرج يده، أو عضواً من أعضائه: أنه لا يكون حانثًا. ووجه الاستدلال: أن الحديث دل على أن خروج بعض الجسد لا يكون كخروج كلِّه، ولا يبعد عندي أن يكون فيه تقوية لقول من يقول: إن الحالف لا يحنث بفعل بعضِ المحلوفِ عليه، والله أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 42 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي، وَأَنَّا حَائِضٌ، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ (¬1) (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: (يَتَّكئ): مهموزٌ (¬1). وفي الصحاح: رجل تكأة مثال همزة: كثير الاتكاء، والتكأة -أيضا-: ما يتكأ عليه، واتكأَ على الشيء، فهو متَّكئٌ، والموضع مُتَّكَأٌ، وقرئ: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًا} [يوسف: 31]. قال الأخفش: هو في معنى المجلس. وطعنه حتى أتَّكَأَهُ، على أفعله؛ أي: ألقاه على هيئة المتكئ، وتوكأت على العصا، وأصل التاء في جميع ذلك الواو، وأوكأت فلانا إيكاءً: إذا نصبت [له] مُتَّكأ (¬2). قلت: ومثل التكاة -في كون التاء بدلاً من الواو-: التُّخَمَة، والأصل الوُخَمَة؛ لأنه من توخمتُ، وكذلك التراث؛ لأنه من ورثت، وأمثاله كثيرة، والله أعلم. الثاني: حَجْر الإنسان، وحِجْره - بالفتح والكسر -، والجمع: الحُجور، وأما الحَرامُ، فبالفتح، والكسر، والضم، وقرئَ بهنَّ في قوله تعالى: {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] (¬3). الثالث: فيه جواز قراءة القرآن متكئًا، ومضطجعاً، وقد يؤخذ ¬
ذلك من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]، وإن كان (¬1) قد قيل: إن المراد بذلك: الصلوات (¬2)، فيما أظن. وفيه: جواز قراءة القرآن في الموضع القريب من النجاسة؛ كما تجوز الصلاة في المكان الذي بين يدي المصلي وفيه نجاسة؛ كجدار المرحاض، أو القبر، ونحو ذلك. وفيه: ما تقدم من طهارة الحائض وما يلابسها، ما لم تلحقه نجاسة، وجواز ملابستها - أيضا - كما تقدم. وفيه: أن بعض القرآن يطلق عليه قرآن؛ لأن الظاهر: أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يستكمل الختمة حالَ اتكائه. وفيه: جواز الاستخدام اللطيف (¬3) -كما تقدم-، وإن كان هذا فيه نوع استمتاع أيضا. وفيه: أن مس المرأة زوجها لغير لذة في الاعتكاف لا يضر. وفيه: أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ إذ لو لم يكن ثم ما يوهم منعه، لم يحسن التنصيص عليه، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وغير المشهور من مذهب مالك -رحمه الله-. والله أعلم. ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 43 - عَنْ مُعَاذَةَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، فَقَلتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ, وَلا تَقْضِي الصَّلاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟! فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ, وَلَكِنِّي أَسْأَلُ، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ, فَنُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ, وَلا نُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ (¬1). ¬
* التعريف: معاذة بنت عبد الله العدوية: امرأة صلة بن أَشْيَم (¬1)، بصريةٌ، كانت من العابدات، روت عن عائشة في غير موضع. روى عنها: عاصم الأحول، وأبو قِلاَبَةَ، وقتادةُ، وإسحقُ بن سويد، ويزيد الرِّشْكُ. تابعية، روي حديثها في الصحيحين (¬2). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: البال هنا: الحال، والبال أيضا: القلب، يقال: ما يخطر فلان ببالي، والبال: رخاء النفس، يقال: فلان رخي البال، والبال: الحوت (¬1) العظيم من حيتان البحر. قال الجوهري: وليس بعربي. والبالة: وعاء الطيب، فارسيُّ معرب، وأصله بالفارسية بِيْلَه (¬2). الثاني: أجمعوا على أن الحائض والنفساء تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، ولا اعتداد بخلاف الخوارج على ما سيأتي. والفرق بينهما من وجهين: الأول: تكرار الصلاة وكثرتها، وعدم تكرار الصيام في السنة الواحدة. الثاني: أن قضاء الصلاة قد يؤدي إلى تفويت الحاضرة؛ بخلاف الصوم. الثالث: اختلف أهل الأصول هل ما تقضيه الحائض والنفساء بالخطاب الأول، وهو مذهب القاضي عبد الوهاب، والحنفية. أو بخطاب جديد؟ وعليه الجمهور، ودليلهم: أن صوم الحائض والنفساء حرام بإجماع، والمحرم لا يكون واجبا، ولو وجب، لأثمت بتأخيره. ¬
استدل القائلون بالوجوب بأمور: أحدها: عمومات النصوص الدالة على وجوب الصوم. وثانيها: أنها تنوي قضاء رمضان، فلولا تقدم الوجوب، وإلا، لكان هذا واجبا مبتدأ، فلا حاجة لإضافته إلى رمضان. وثالثها: أنه مقدر بقدر الفائت من رمضان، فأشبه تقدير قيم المتلفات بها، فيكون بدلاً؛ كالقيمة بدلاً من المتقوم (¬1)، ويقوم مقام ما تقدم من الوجوب؛ كما تقوم القيمة مقام المتلف، ولذلك سميت قيمةً. وأجيب عن الأول: بأن ظاهر النصوص معارضة بأدلة العقل القطعية؛ فإن الصوم حرام، راجح الترك، وما كان راجح الترك لا يكون راجحا قطعا، وكيف يُتصور فيمن مُنع من الفعل أن يُلزم بذلك الفعل، إلا بناء على تكليف ما لا يطاق، وليس واقعا في الشريعة، وإذا تعارضت الظواهر والقواطع، قدمت القطعيات. وعن الثاني: أن العبادة لا بد لها من نية مخصصة (¬2)، مميزة لها عن غيرها، وهذا القضاء ليس نفلاً، ولا كفارة، ولا نذرا، ولا تجدد سببه، فيتعين لإضافته (¬3) لذلك السبب؛ فلم يبق له معنى إلا إضافته لرمضان؛ ليتميز عن غيره، لا أنه تقدَّمَه وجوبٌ. ¬
وعن الثالث: أن التعذر في رمضان جعله الشرع سببا لوجوب ما هو قدره، فلذلك تبعه في المقدار، لا لتقدم الوجوب؛ لأن السبب كذلك نصبه الشارع. قالت الحنفية: لا يرد علينا مصادمة الوجوب والتحريم في زمن واحد؛ لأنا لم نعين زمن الحيض للوجوب، بل قلنا: هو على السعة، بخلاف القاضي عبد الوهاب. وأجيب: بأنه، وإن لم يرد عليهم هذا الإشكال، يرد عليهم أن الواجب الموسع شأنه أن يفعل في أول الوقت إن شاء المكلف، وهذه لو أرادت أن تصوم في زمن الحيض، منعت، فلم يبق للوجوب ظرف إلا بعد الحيض، فهو متفق عليه، فذكر التوسعة مغالطة لا يحصل منها طائل، فيتعين إما مذهب القاضي، أو مذهب المازري بعدم الوجوب مطلقًا، والله أعلم. الرابع: الحرورية: من ينسب إلى حَروراءَ، وهو موضع، أو قرية بظاهر الكوفة (¬1). قال السمعاني: هو على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به (¬2). قال الهروي: تعاقدوا في هذه القرية، فنُسبوا إليها (¬3). ¬
قال غيره: ثم كثر استعماله حتى استعمل في كل خارجي، ومنه قول عائشة لمعاذة: أحروريةٌ أنت؟! هو بفتح الحاء المهملة وضم الراء الأولى وكسر الثانية؛ أي: خارجية أنت، وإنما قالت ذلك؛ لأن مذهب الخوارج أن الحائض تقضي الصلاة -على ما تقدم-، فالاستفهام هنا استفهام إنكار، وليس على بابه. وإنما حسن إنكار عائشة -رضي الله عنها- على معاذة؛ لأنها أوردت السؤال على غير جهة السؤال المجرَّد، فإن صيغته تشعر بتعجب أو إنكار؛ فلذلك قالت لها: أحرورية أنت؟! فأجابتها بأن قالت: لست بحرورية، ولكني أسأل، أي: أسأل سؤالاً مجرَدًّا عن التعجب والإنكار، لطلب مجرد العلم بالحكمة في ذلك، فأجابتها (¬1) عائشة -رضي الله عنها- بالنص، ولم تتعرض للمعنى؛ لأنه أقوى في الردع عن مذهب الخوارج، وأقطع لمن يعارض، بخلاف المعاني المناسبة فإنها بصدد المعارضة. واكتفت عائشة -رضي الله عنها- في الاستدلال (¬2) على سقوط القضاء بكونه لم تؤمر به. ق: ويحتمل ذلك عندي (¬3) وجهين: أحدهما: أن تكون أخذت إسقاط (¬4) القضاء من سقوط الأداء، ¬
ويكون مجرد سقوط الأداء دليلاً على سقوط القضاء، إلا أن يوجد معارض، وهو الأمر بالقضاء كما في الصوم. الثاني- وهو الأقرب-: أن يكون السبب في ذلك: أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم؛ فإن الحيض يتكرر، فلو وجب قضاء الصلاة فيه، لوجب بيانه، وحيث لم يتبين، دلّ على عدم الوجوب، لا سيما وقد اقترن بذلك قرينة أخرى، وهي الأمر بقضاء الصوم، وتخصيص الحكم به (¬1). قلت: وكلا الوجهين حسن جميل، والله أعلم. الخامس: في الحديث: دليل على ما يقوله أرباب الأصول والحديث: من أن الصحابي إذا قال: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو كنا نؤمر بكذا، أو ننهى عن كذا: أن ذلك في حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا، لم تقم الحجة به (¬2). وهذه المسألة على مراتب سبع: أعلاها: أن يقول الصحابي: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أخبرني، أو ¬
شافهني، وهذا بخلاف ما لو قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن قوله: قال، يصدق مع الواسطة، بخلاف ما تقدم. الثانية: قال -عليه الصلاة؛ والسلام-. الثالثة: أمر -عليه الصلاة والسلام-، أو نهى؛ لأنه يدخله احتمال الوسائط، ويقع الخلل من قبلها مضافًا إلى الخلل الحاصل من اختلاف الناس في صيغتي الأمر والنهي، هل هما للطلب الجازم، أم لا؟ واحتمال آخر: وهو أن ذلك الأمر للكل، أو البعض، وهل دائما، أو غير دائم؟ الرابعة: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فعندنا، وعند الشافعي -رحمه الله تعالى- يحمل على أمره -عليه الصلاة والسلام-؛ خلافًا للكرخي. الخامسة: أن يقول: السنة كذا، فيُحمل عندنا على سنته -عليه الصلاة والسلام-؛ خلافًا لقوم. السادسة: أن يقول: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: يحمل على سماعه هو، وقيل: لا. السابعة (¬1): كنا نفعل كذا: يقتضي كونه شرعا؛ لأن مقصود الصحابي: أن يخبرنا بما يكون شرعا، بسبب أنهم كانوا يفعلون ذلك، وأن الغالب اطلاعه -عليه الصلاة والسلام- على ذلك، وتقريره عليه، وذلك يقتضي الشرعية (¬2). ¬
وأيضا: فالصحابة - رضوان الله عليهم - يقتضي حالهم أنهم لا يقرون بين أظهرهم إلا ما يكون شرعا، فيكون شرعا. وأما غير الصحابي، فله - أيضا - مراتب مذكورة في كتب الأصول، والحديث (¬1)، وإنما ذكرنا ما يتعلق بغرضنا من لفظ هذا الحديث، والله الموفق، وهو المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين. * * * ¬
كتاب الصلاة
كِتْابُ الصَّلَاة
باب المواقيت
بابُ المواقيتِ الحديث الأول 44 - عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، وَاسْمُهُ: سَعْدُ بْنُ إيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ - عز وجل -؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» , قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» , قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي (¬1). ¬
المختار في اشتقاق لفظ الصلاة: أنها من الدعاء، وعليه أكثر أهل العربية والفقه. وقيل: لأنها ثانية الشهادتين، وتاليتهما، كالمصلي من السابق في الحلبة، واستضعف. وقيل: بل هي من الصلوين، وهما عرقان مع الردف. وقيل: عظمان ينحنيان في الركوع والسجود، وبه سمي المصلي من الخيل؛ لأن أنفه يأتي ملاصقًا صلَويا السابق، ومنه كتبت بالواو في المصحف. وقيل: بل من الرحمة، ومنه صلاة الله على عباده، أي: رحمته. وقيل: أصلها: الإقبال على الشيء؛ تقربا إليه. وقيل: معناها (¬1): اللزوم، من قولهم: صلَى بالنار. ¬
وقيل: الاستقامة، من قولهم: صلَيت العود على النار: إذا قومته، والصلاة تقيم العبد على طاعة الله (¬1). وهذا القول ظاهر الفساد، بين الخطأ، لأن لام الكلمة في الصلاة واو، وهي في صليت ياء، وكيف يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف الأصلية؟ وهذا كما تقدم في باب: الحيض في قول من أخذه من الحوض. هذا كله إذا كانت اللام من صليت مخففة، وإن كانت مشددة؛ كما نقله الجوهري وغيره من أهل اللغة، وأنشد عليه: [الوافر] فَلاَ تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ وَاسْتَدِمْهُ ... فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمَ (¬2) فيجوز أن يكون الأصل: صّلوت، فلما وقعت الواو رابعة، قلبت ياءً، على القانون المستمر عند أهل العربية، وكذا من قال: أصليت، وقرئ: {وَيُصَلَّى سَعِيرًا} [الانشقاق: 12]-بالتشديد-، قاله الجوهري (¬3). ومن خّفف، فهو من قولهم: صَلِي فلان النار- بالكسر- يصلى صليا، وهذا - أيضا - يحتمل أن الأصل: صَلِوَ، لكن قُلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها، فاعرفه. وقيل: لأنها صلة بين العبد وربه. ¬
وقيل غير ذلك. وأما المواقيت: فجمع ميقات، والأصل: مِوْقات؛ لأنه من الوقت، فهو كميعاد، وميزان من الوعد والوزن، سكنت الواو، وانكسر ما قبلها، قلبت ياء. قال الجوهري: وهو الوقت (¬1) المضروب للفعل، والموضع، يقال: هذا ميقات أهل الشام: للموضع الذي يحرمون منه، ويقول: وقته فهو موقوت: إذا بين للفعل وقتا يفعل فيه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]؛ أي: مفروضا في الأوقات، والتوقيت: تحديد الأوقات، تقول: وقّته ليوم كذا؛ مثل أجلْته، والموقت: مفعل من الوقت. قال العجاج: وَالجَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمِ الْمَوْقِتِ (¬2) انتهى. * التعريف: أبو عمرو الشيبانيُّ: تابعي، واسمه سعد (¬3) بن إياس، الكوفي، ويقال: البكريُّ، وهو من شيبان بن ثعلبة بن عكاية بن الصعبِ بنِ ¬
الصعب بن علي بن بكر بن وائل. أدرك الجاهلية، عاش مئة وعشرين سنة، وأدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عن: عبد الله بن مسعود، وزيد بن أرقم، وأبي مسعود الأنصاري. روى عنه: الوليد ابن العيزار، والحسن بن عبيد، والحارث بن شبل، والأعمش. أخرج عنه في الصحيحين -رضي الله عنه- (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «حدثني صاحب هذه الدار»: فيه الاستغناء بالإشارة عن التصريح بالاسم، وربما كان ذلك أوقع إذا كان المشار إليه معروفًا مميزا؛ لأنه يصير بحيث يوضع اليد عليه، والاسم العلم ربما تطرق إليه الاشتراك، ولهذا - والله أعلم - ذهب بعض النحويين إلى أن اسم الإشارة أعرف من العلم، وإن كان غير الصحيح من حيث النقل. الثاني: سؤاله عن أفضل الأعمال طلب منه لمعرفة أهمها، ¬
وما ينبغي تقديمه منها على غيره عند التعارض؛ ليتأكد القصد إليه، وتستمر (¬1) المحافظة عليه (¬2). الثالث: الأظهر أن يكون المراد بالأعمال هنا: البدنية دون القلبية؛ لأن من الأعمال القلبية ما هو أفضل من الصلاة وسائر العبادات، وهو الإيمان الذي لا يقاومه شيء على الإطلاق، وقد جاء مصرحا بذلك في الحديث، في رواية: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي: الأعمال أفضل؟ فقال: «إيمان بالله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» (¬3)، فيؤخذ من هذا الحديث: أنه أريد به الأعمال مطلقًا؛ قلبية كانت، أو بدنية، وقد تقدم في حديث: «الأعمال بالنيات» الكلام على الأعمال، وهل يتناول أعمال القلوب، أو لا؟ على ما تقرر. الرابع: ينبغي أن تعلم (¬4) أن الأحاديث جاءت مختلفة في فضائل الأعمال، وتقديم بعضها على بعض، وأشبه ما أجيب به عن ذلك: أنها منزلة بحسب الأشخاص والأحوال، فيكون أفضلها في حق الشجاع الباسل مثلاً: الجهاد، وفي حق الجبان الفقير: بر الوالدين، ¬
أو الذكر، ونحو ذلك، وفي حق الغني: الصدقة، والبذل الشرعي، ونحو ذلك، وفي حق الفطن النبيل: طلب العلم، وفي حق الحديد الخلق، أن لا يغضب؛ كما جاء في قوله -عليه الصلاة والسلام- للذي قال له: أَوْصِني، فقال له: «لاَ تَغْضَبْ» (¬1)، كأنه - والله أعلم - تسبب في أن لا تغضب؛ فإن الغضب عند شرطه جبلة في الإنسان لا يمكنه دفعه إلا بمقدمات رياضة، أو أمور مقارنة للغضب؛ كالاستعاذة؛ كما في الحديث، أو الانتقال من حال إلى حال؛ كالقائم يقعد أو يضطجع، والجالس يقوم أو يضطجع - أيضا -، أو يصب عليه ماء، أو نحو ذلك، فيكون الأفضل في حق هذا مخالفًا للأفضل في حق غيره؛ بحسب ترجيح المصلحة (¬2) التي تليق به (¬3)؛ لكن يبقى في النفس شيء من حيث عموم المشروعية في حق كل مكلف، فليتأمل ذلك، والله الموفق. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام: «على وقتها»، أي: إيقاعها أداءً لا قضاءً، بل ينبغي أن يكون المراد: أول الوقت، وإن لم يكن في لفظ الحديث ما يشعر بذلك، وإنما ظاهره أن توقع الصلاة أداءً لا قضاء؛ لكنه جاء في سياق السؤال عن الأفضل (¬4)، ومعلوم أن ¬
أول الوقت أفضل من التأخير، على تفصيل مذكور في كتب الفقه، ويرجح ذلك ويقويه تصريح الرواية الأخرى بذلك، وهي قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لأول وقتها» (¬1)، وقد تقدم أن الحديث إذا جمعت (¬2) طرقه، فسر بعضها بعضا (¬3)، وأما من حيث المعنى، فإن في ذلك المبادرة لامتثال الأمر، وبراءة الذمة، والخروج عن العهدة، والتأخير بخلاف ذلك. السادس: البر خلاف العقوق، والمبرة مثله، تقول: بررت والدي - بالكسر - أبره برا، فأنا بر به، وبار، وجمع البر -بالفتح: الأبرار، وجمع البار: البررة، وفلان يبر خالقه، ويتبرره؛ أي: يطيعه، والأم برة بولدها (¬4). انتهى. هذا معنى البر في اللغة. وأما معناه في الشرع، وما يجب منه: فالغالب أنه يعسر ضبطه، وقد أّلف الناس فيه تصانيف مفردة؛ كالطرطوشي، وغيره. وألخص ما رأيت في ذلك ما قاله ابن عطية في سورة {سبحان} [الإسراء: 1] عند قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. ¬
قال: وجملة هذا الباب: أن طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة، ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، وتستحب في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر جهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب؛ لكن يعلل بخوف هلكها عليه ونحوه مما يبيح قطع الصلاة، فلا يكون أقوى من الندب. قال: وخالف الحسن في هذا الفصل، فقال: إن منعته أمه من شهود عشاء (¬1) الآخرة شفقة عليه، فلا يطعها، انتهى (¬2). قال (¬3) سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]: من صلى الصلوات الخمس، فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه أدبار الصلوات، فقد شكرهما (¬4)، والله أعلم. السابع: تقديم البر على الجهاد يعطي تعظيم أمره، وتفخيم شأنه؛ لأن مزية الجهاد عظيمة في الشرع، بل القياس يقتضي أن يكون أفضل الأعمال التي هي وسائل؛ لأن الأعمال على قسمين: مقصود في نفسه، ووسيلة إلى غيره، والوسائل تتفاوت بحسب المتوسل إليه، ولما كان الجهاد وسيلة إلى إعلاء كلمة الدين، وإظهاره على الكفر، ¬
كان بحسب ما توسل إليه (¬1)، وقد جاء في بعض الأحاديث في ثاني رتبة من الإيمان في قوله: «إيمانٌ بالله، وجهاد في سبيله» (¬2)، والله أعلم. الثامن: أوقع -عليه الصلاة والسلام- البر ثانيا بعد الصلاة؛ كما جاء ثانيا في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وفي قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]. التاسع: قوله: «ثم أيُّ»، ينبغي أو يتعين أن لا ينون؛ لأنه موقوف عليه في كلام السائل ينتظر الجواب منه -عليه الصلاة والسلام-، والتنوين لا يوقف عليه إجماعا، وإنما نبهت على هذا، وإن كان ظاهرا؛ لأني رأيت كثيرا من المحدثين، أو الأكثر ممن رأيته (¬3) ينونه، ويصله بما بعده، وهو خطأ -على ما تقرر-، بل ينبغي أن يقف عليه وقفة لطيفة، ثم يأتي بما بعده، والله أعلم (¬4). العاشر: قوله: «حدثني بهنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»: كأنه تأكيد وتقرير ¬
لما تقدم، إذ لا شبهة ولا ارتياب في أن اللفظ الأول يعطي (¬1): أنه -عليه الصلاة والسلام- حدثه بذلك. وأما قوله: «ولو استزدْتُه، لزادني»، فيحتمل أن يريد: لزادني من هذا النوع المذكور؛ أعني: بمراتب الأعمال، وتفضيل بعضها على بعض، ويحتمل أن يريد: لزادني عما أسأله من حيث الإطلاق فيه على سعة علمه - صلى الله عليه وسلم -. الحادي عشر: فيه: جواز تكرار (¬2) السؤال، والاستفتاء عن مسائل شتى في وقت واحد. وفيه: رفق العالم، وصبره على السائل، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 45 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْفَجْرَ, فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ, مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قد تقدم أن (كان) هذه تعطي الملازمة والاستمرار على الشيء؛ أي: من عادته -عليه الصلاة والسلام- أن يصلي الصبح في هذا الوقت. ومعنى (يشهد) هنا: يحضر، ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة: 185]، أي: حضره. (والنساء): من الجمع الذي لا واحد له من لفظه؛ إذ الواحد امرأة، وله نظائر كثيرة. الثاني: (التلفع): التلحف بالشيء والالتفاف به، فيقال: تلفع الرجل بالثوب، والشجر بالورق إذا اشتمل به، وتغطى، ومنه قول الشاعر: [المنسرح] لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا ... دَعْدُ وَلَمْ تُغْذَ دَعْدُ فِي الْعُلَبِ (¬1) وروي: «متلففات» -بتكرير الفاء-، رواه يحيى بن يحيى في ¬
«الموطأ» (¬1) والأكثرون على متلفعات بالعين، وهما متقاربان، إلا أن التلفع يستعمل مع تغطية الرأس (¬2). والمروط: أكسية مربعة من صوف أو خز، وقيل: سداها شعر، الواحد: مِرْط - بكسر الميم وسكون الراء المهملة -. والغلس: الظلمة آخر الليل، والتغليس: السير بغلس، يقال منه: غلسنا الماء؛ أي: وردناه بغلس، وكذلك إذا فعلنا الصلاة بغلس، فالغلس (¬3) والغبش متقاربان؛ لكن يفترقان من أن الغلس آخر الليل، والغبش قد يكون في أول الليل، وفي آخره (¬4). وأما الغبس - بالسين المهملة - فلون كلون الرماد. قال ابن فارس: الأغبس: لون كلون الرماد، والأغبس من ألوان ¬
الخيل الذي يسمى (¬1): السَّمَنَّد (¬2). الثالث: قولها: «ما يعرفهن أحد من الغلس»، وفي «الموطأ»: «ما يُعرفن من الغلس» على البناء للمفعول. قال الباجي في «منتقاه»: يحتمل أمرين: أحدهما: لا يُعرف أرِجالٌ هن أم نساء من شدة الغلس، إنما يظهر للرائي أشباحهن خاصة، قال ذلك الداودي (¬3). ويحتمل - أيضا -: أن يريد: لا يعرف من هن من الناس من شدة الغلس، وإن عرف أنهن نساء، إلا أن هذا الوجه يقتضي أنهن سافرات عن وجوههن، ولو كن غير سافرات، لمنع النقاب وتغطية الوجه من معرفتهن، لا الغلس. إلا أنه يجوز أن يبيح لهن كشف وجوههن، أحد أمرين: إما أن يكون ذلك قبل نزول الحجاب، أو يكون بعده، لكنهن أَمِنَّ أن تُدرَك صورهن من شدة الغلس، فأبيح لهن كشف وجوههن (¬4). الرابع: الحديث دليل لمالك، والشافعي، وأحمد، على تقديم الصبح في أول وقتها؛ لانصرافهن بعد الصلاة بغلس، لا سيما مع ¬
ما روي من طول قراءته - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح، وخالف في ذلك أهل الكوفة، فقالوا: الإسفار بها أفضل، متمسكين بما ورد من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر» أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه (¬1). وفي حديث رافع بن خديج: «أصبحوا بالفجر؛ فإنه أعظم لأجوركم «أو: «أعظم للأجر» (¬2). وقال الترمذي: حديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح. وأجاب بعضهم: بأن ذلك محمول على تحقق طلوع الفجر عند خفائه في مبدأ طلوعه. وحمله بعض الشافعية على الليالي المقمرة، التي يصبح فيها القمر، فإن الفجر يخفى فيها غالبا؛ لغلبة نور القمر عليه (¬3). وفي هذا الجواب نظر، من حيث إن أفعل التي للمفاضلة تقتضي المشاركة والتفضيل، فيلزم منه: أنه إذا صلى قبل الإسفار بالفجر أن ¬
يكون للمصلي حينئذ أجر عظيم، لا أعظم، وليس الأمر كذلك؛ لأنه إذا لم يتبين له الفجر، لا يجوز له أن يصلي حينئذ، ومن صلى في وقت تحرم عليه فيه الصلاة، كيف يكون له أجر، فضلاً عن كونه عظيما؟! إلا أن يقال: إن (أعظم) هنا، بمعنى: عظيم؛ كما قالوا في قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]: إنه بمعنى: هين، وأشباه ذلك، فيكون المعنى: أسفروا بالفجر، فإنه عظيم أجركم، وذلك بسبب التثبت والتبين (¬1) لطلوع الفجر على طريق التحقيق، والله أعلم. الخامس: فيه دليل على خروج النساء للمساجد لصلاة الصبح، وينبغي أن تقاس عليها العشاء الآخرة؛ لكونها في معناها من حيث وجود الظلمة فيهما، وهذا كله بشرط أمن الفتنة عليهن أو بهن، وليس في الحديث ما يدل على كونهن عُجَّزًا، أو شواب. وقد كره بعضهم للشواب الخروج لذلك، وهو الأليق بزماننا، وقد قال بعض العلماء: لا تخرج المرأة إلا بخمسة شروط: أن يكون ذلك لضرورة. وأن تلبس أدنى ثيابها. وأن لا يظهر عليها ريح الطيب. وأن يكون خروجها في طرفي النهار. ¬
وأن تمشي في أطراف الطريق دون وسطه، أو قريبًا من هذا، والله أعلم. * * *
الحديث الثالث
الحديث الثالث 46 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ , وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ , وَالْعِشَاءَ أَحْيَاناً وَأَحْيَاناً؛ إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا؛ عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا؛ أَخَّرَ , وَالصُّبْحُ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الظهيرة: الهاجرة مأخوذة (¬1) من الهَجْر، وهو الترك؛ لترك الناس التصرف حينئذ لشدة الحر، وقيلولتهم فيه، يقال: أتيته حد الظهيرة، وحين قام قائم الظهيرة (¬2). وأما العصر: فهو في أصل اللغة: الدهر، وفيه لغتان أخريان: عُصْر مثل قُفْل، وعُصُر مثل عنق، والعصران: الليل والنهار، وكذلك الجديدان، والملوان، والعصران - أيضا -: الغداة والعشي، ومنه سميت صلاة العصر (¬3). وقوله: «والشمس نقية»؛ أي: صافية لم تشبها صفرة، ولم تتغير بعد؛ أي: في أول وقتها. وقوله: «والمغرب إذا وجبت»؛ أي: سقطت، والوجوب: السقوط، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]؛ أي: سقطت، وفاعل (وجبت) مستتر، وهو الشمس، وهو من المضمر الذي يفسره سياق الكلام؛ نحو قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، ونحو ذلك. ¬
والمغرب هنا: اسم زمان، مفعل من الغروب؛ أي: وقت الغروب، ويحتمل أن يكون مصدرا، والأول أظهر، وتسمى - أيضا -: صلاة الشاهد؛ لطلوع نجم حينئذ يسمى: الشاهد، فنسبت إليه. وقيل: لاستواء الشاهد -وهو الحاضر والمسافر- في عددها؛ أي: إنها لا تقصر، وهذا عندي ضعيف؛ إذ الصبح - أيضا - لا تقصر، وهي لا تسمى: الشاهد، والله أعلم. والأحيان: جمع حين، قال الفارسي: والحين: اسم مبهم يقع على القليل من الزمان، والكثير؛ كقوله: [من الطويل] تَنَاذَرَهَا (¬1) الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سُمِّهَا ... تُطَلِّقُهُ حِينًا وَحِينًا تُرَاجِعُ (¬2) وقيل: إنه يقع على ستة أشهر. وقيل: على أربعين سنة. وقد تقدم تفسير الغلس قريبا. الثاني: ظاهر الحديث يقتضي عدم الإبراد بالظهر، وهو معارض بقوله (-عليه الصلاة والسلام-: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة» (¬3)، ¬
وما في معناه من الأحاديث الواردة في ذلك في «الصحيح)؛ كحديث خباب (¬1)، وغيره، والغالب: أن الجمع بينهما عسر. وقد تعرض ق للجمع بينهما، ولم يأت بمقنع على ما ستراه. فقال: يمكن الجمع بينهما بأن يكون أطلق اسم الهاجرة على الوقت الذي بعد الزوال مطلقًا؛ فإنه قد تكون فيه الهاجرة في وقت، فيطلق على الوقت مطلقًا بطريق الملازمة، وإن لم يكن وقت الصلاة في حر شديد، قال: وفيه بُعد. قلت: بل هو بعيد جدا. ثم قال: وقد يقر بما نقل عن صاحب «العين»: أن الهجير والهاجرة: نصف النهار (¬2)، فإذا أخذنا بظاهر هذا الكلام، كان مطلقًا على الوقت. قلت: بل ذلك يبعده؛ لاختصاصه بنصف النهار دون ما عداه، ومعلوم أن نصف النهار هو أول الزوال. ثم قال: وفيه وجه آخر: وهو أن الفقهاء اختلفوا في أن الإبراد هل هو رخصة أو سنة؟ لأصحاب الشافعي قولان (¬3) في ذلك، فإن قلنا: إنه رخصة، ¬
فيكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أبردوا» أمرا بإباحة، ويكون تعجيله لها في الهاجرة أخذًا بالأشق، والأولى. قلت: وهذا لا يستقيم؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- نبه على علة الإبراد بقوله: «فإن شدة الحر من فيح جهنم»، وإذا كانت العلة تقتضي الإبراد ولا بد، فكيف يكون ترك الإبراد الأولى؟ ثم قال: أو يقول من يرى الإبراد سنة: إن التهجير لبيان الجواز، وفي هذا بعد؛ لأن قوله: «كان» يشعر بالكثرة والملازمة عرفًا (¬1). قلت: فقد تحصل من مجموع هذا عدم الجمع بين الحديثين على التحقيق، والأشبه عندي أن يكون حديث التعجيل منسوخا بحديث الإبراد؛ كما قاله جماعة من العلماء على ما حكاه ح في «شرح مسلم» وقال آخرون: المختار استحباب الإبراد؛ لأحاديثه، وأما حديث خباب، فمحمول على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا على قدر الإبراد؛ لأن الإبراد أن تؤخر الصلاة بحيث يحصل للحيطان ظل يمشون فيه، والله أعلم (¬2). وأما العصر (¬3)، فلقوله: «والشمس نقية»، وقد تقدم أن ذلك ¬
يقتضي أول الوقت، ويزاد هنا: أن في الحديث دلالة على أن سقوط قرصها علم على دخول الوقت، لكن الأماكن تختلف، فإذا كان في بعض الأمكنة حائل بين الرائي وبين قرصها، لم يكف في ذلك غيبوبة القرص عن العين، بل يستدل على غروبها بطلوع الليل من المغرب؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: والسلام): «إذا غربت الشمس (¬1) من هاهنا، وأقبل الليل من هاهنا، فقد أفطر الصائم» (¬2)، وإن لم يكن ثمّ حائل، فقد قال بعض أصحابنا: إن الوقت يدخل بغيبوبة الشمس وشعاعها المستولي عليها، وقد استمر العمل بصلاة المغرب عقب الغروب، وقد أخذ منه أن وقتها واحد (¬3)، وهو المشهور عندنا. وفي المذهب قول آخر: بامتداده حتى مغيب الشفق، وهو الحمرة دون الصفرة، وهو ظاهر كلام مالك رحمه الله في «الموطأ» (¬4). وأما العشاء الآخرة: فليس في الحديث دليل صريح على تقديمها، ولا تأخيرها، وقد اختلف أصحابنا في ذلك على أقوال أربعة: ¬
ثالثها: الفرق بين حضور الجماعة، فتقدم، أو عدم حضورها، فتؤخر؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث. والرابع: التفصيل، فتؤخر في الشتاء ورمضان، وتقدم في غيرهما، وعّلل هذا: بطول الليل في الشتاء، وكراهة الحديث بعدها، ويفهم منه تقديمها في الصيف، وفي رمضان؛ لتشاغل الناس بفطرهم، ونحو ذلك، فقد لا يدرك الناس الصلاة جماعة، لو قدمت، وظاهر مذهب الشافعي رحمه الله تقديمها على الإطلاق (¬1). وأما الصبح، فلقوله: «والصبح (¬2) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها بغلس»، والغلس: الظلمة، على ما تقدم. مسألة: تحرير مذهب مالك رحمه الله في الأوقات: أن تقديم الصبح والمغرب في أول وقتهما أولى للفذ والجماعة، حتى إذا تعارض أن يصليهما الفذ أول الوقت، أو ينتظر الجماعة، كانت صلاته لهما أول الوقت أفضل من انتظار (¬3) الجماعة. وأما الظهر: فالمستحب عند مالك أن تُصلَّى في الصيف والشتاء والفيء ذراع. والعصر: دون ذلك -على المشهور-، وقيل: هي كالظهر، ولا فرق في ذلك بين الفذ والجماعة. ¬
واستحب ابن حبيب تعجيلها يوم الجمعة؛ ليقرب انصراف المنتظرين لها ممن صلى الجمعة. وأما العشاء الآخرة، فقد تقدم ذكر الخلاف فيها، وهذا على طريق الاختصار، وبسط ذلك في كتب الفقه، إلا أنه لا بد هنا من ذكر قاعدتين: إحداهما: قال صاحب «الجواهر»: قال الإمام أبو عبد الله: وجوب الصلاة متعلق (¬1) عند جمهور المالكية بجميع الوقت. وقيل: بل يتعلق بزمن واحد يسع فعل العبادة، ولكنه غير متعين، وإنما يتعين إذا أوقع المكلف العبادة فيه. وقال القاضي أبو الوليد: إن هذا المذهب هو الجاري على أصول المالكية، وحكي عنه تخريجه على قول أهل المذهب في خصال الكفارة، ثم تعقبه الإمام، وفرق بأن خصال الكفارة متعلق الأحكام، والزمان محل الأفعال، وإذا فرعنا على الأول، ومات المكلف في وسط الوقت قبل الأداء، لم يعصِ، ولو أخر حتى خرج بعض الصلاة من الوقت، فقيل: يكون جميعها أداءً، وقيل: بل القدر الموقع في الوقت فقط (¬2). ¬
وثمرة الخلاف: وجوب القضاء على من أخرت صلاة العصر، ثم صلّت منها ركعة مثلاً، فغربت الشمس، ثم حاضت، وعدم وجوبه، وفي ذلك قولان لسحنون، وأصبغ. القاعدة الثانية: من اشتبه عليه الوقت، فليجتهد، ويستدل بما يغلب على ظنه دخوله، فإن خفي عليه ضوء الشمس، فليستدل بالأوراد وأعمال أرباب الصنائع، وشبه ذلك، ويحتاط. قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف عن مالك: أن من سنة الصلاة في الغيم: تأخير الظهر، وتعجيل العصر، وتأخير المغرب حتى لا يشك في الليل، وتعجيل العشاء، إلا أنه يتحرى ذهاب الحمرة، وتأخير الصبح حتى (¬1) لا يشك في الفجر، ثم إن وقعت صلاته في الوقت، أو بعده، فلا قضاء عليه، وإن وقعت قبل الوقت، قضى؛ كالاجتهاد في طلب شهر رمضان (¬2). قلت: وهذا بخلاف تحري أهل القرى ذبح من يليهم من الأئمة الأربعة؛ فإنهم إن أخطؤوا، وذبحوا قبله أجزأهم؛ للاختلاف في ذلك؛ إذ لم يقل أحد من الأئمة الأربعة (¬3)، باشتراط ذبح الإمام في الأضحية إلا مالك رحمه الله تعالى. ¬
ووقع لأشهب في «المجموعة»: أرجو لمن صلى العصر قبل القامة، والعشاء قبل مغيب الشفق، أن يكون قد صلى، وإن كان بغير عرفة. وقال ابن القاسم فيها - أيضا -: من جمع بين العشاءين في الحضر من غير ضرورة، أعاد الثانية أبدا، والله أعلم (¬1). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 47 - عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلامَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ , فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ , وَيُصَلِّي الْعَصْرَ , ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ؛ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا , وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِئَةِ (¬1). ¬
* التعريف: سيار بن سلامة: كنيته: أبو المنهال الرياحي - بكسر الراء بعدها ياء باثنتين تحتها- الطهوي، البصري، ورياح بن يربوع بن حنظلة تابعي، سمع أبا هريرة، ونَضْلَةَ بن عبيد، هذا أصح ما قيل فيه، وأشهره. وقيل: نضلة بن عبد الله، ويقال: نضلة بن عائذ - بالذال المعجمة - الأسلمي. ¬
روى عنه: سليمان التيمي، وخالد الحذاء، وشعبة، وحماد بن سلمة. أخرج حديثه في «الصحيحين» رضي الله عنه (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قد تقدم أن (كان) هذه تشعر بالملازمة والاستمرار. وقوله: «المكتوبة»؛ أي: الصلاة المكتوبة، وهي المفروضة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وأفرد لإرادة الجنس، ويصح: المكتوبات، على تقدير: الصلوات المكتوبات، والألف واللام فيها للاستغراق، ولهذا أجاب بذكر الصلوات كلها؛ لفهمه من السائل العموم (¬2). وليعلم أن الفرض، والواجب، والحتم، والمكتوب، واللازم، ألفاظ مترادفة عند الجمهور. وفرق أبو حنيفة بين الفرض والواجب، فالفرض عنده: ما ثبت بدليل قطعي؛ كالصلوات الخمس، والواجب: ما ثبت بدليل ظني؛ كالوتر. الثاني: للظهر أربعة أسماء: الظهر؛ لما تقدم، والأولى؛ لأنها ¬
أول صلاة صلاها جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والهجير، والهاجرة. والهجير والهاجرة: نصف النهار، والهجر - أيضا -، فكأنها سميت باسم الزمان الذي توقع فيه، وهما؛ أعني: الهجير والهاجرة في أصل اللغة: اسم لشدة الحر، ومنه قوله: [الطويل] إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرا (¬1) أي: اشتد حره وقوي. وأما العصر: فلها اسمان: هذا، والعشي. وأما المغرب: فهذا، والشاهد، على ما تقدم. وأما العشاء الآخرة: فهذا، والعتمة، وإن كان قد كُره تسميتها بالعتمة، وفي الحديث: «لا يغلبنَّكُم الأعراب على اسم صلاتكم العِشاءِ» (¬2)؛ أي: إن الأعراب كانوا يسمونها العتمة، لكونهم يعتمون بحلاب الإبل؛ أي: يؤخرونه إلى شدة الظلام، وقد سماها الله -تعالى- في كتابه العزيز بالعشاء، فقال تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور: 58]. ¬
وورد في الأحاديث الصحيحة تسميتها بالعتمة، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوا» (¬1). وأجيب عن ذلك بوجوه: إما أنه لبيان الجواز. وإما لعل المكروه أن يغلب عليها اسم العتمة بحيث يهجر تسميتها بالعشاء. وإما لأنه خاطب بذلك من لا يعرف العشاء (¬2). وفي هذا الأخيربعد. وأما الصبح: فلها ثلاثة أسماء: هذا، والفجر، والغداة. وقوله: «تدعونها»؛ أي: تسمونها، قال الشاعر: دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان (¬3) أي: سمتني أخاها. ¬
وقوله: «حين تدحض الشمس» هو بفتح التاء المثناة فوق، وبفتح (¬1) الحاء أيضا؛ أي: حين تزول عن كبد السماء، وأصل الدِّحْض: الزلق (¬2). الثالث: كُره النوم قبلها خشية التمادي فيه إلى خروج وقتها الاختياري، وهو ثلث الليل على المشهور، وقيل: النصف، أو الضروري، أو خشية نسيانها، وكره الحديث بعدها إما خشية أن ينام عن الصبح بسبب سهره أول الليل، وإما خشية أن يقع في الحديث من اللغط واللغو ما لا ينبغي أن تُختم به اليقظةُ (¬3). وهذا العموم؛ أعني: عموم قوله: «والحديثَ بعدها» مخصوص بما استثني من الحديث في العلم وجميع القربات. قالوا: واستُثني - أيضا -: العروس (¬4)، والضيفُ، والمسافر، وما تدعو الحاجة إليه من الحديث الذي تتعلق به مصالح الإنسان الدنيوية؛ كالبيع، والشراء، ومثل: خذْ، وكل، ونم، وغير ذلك مما تدعو الضرورة إليه. وبالجملة: فالأَوْلَى بالإنسانِ تقليلُ الكلام ما استطاع، ما لم تتعلق بذلك مصلحةٌ دينية، أو دنيوية، كان في ليل، أو نهار؛ فإن الله ¬
تعالى يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقال تعالى {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]. وقد قال العلماء: إذا استوى الكلام وتركه، فالسنة الإمساك عن الكلام؛ لأنه قد يجر الكلام المباح (¬1) إلى المكروه، أو المحرَّم، بل هذا هو الأكثر الأغلب في العادة، والله أعلم، والسلامة لا يعدلها شيء (¬2). وفي الصحيحين: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا، أو ليصمت» (¬3). وقد (¬4) قال مالك -رحمه الله-: من عد كلامه من عمله، قلّ كلامه (¬5). وقيل في الحكمة: إنما جُعل لك لسانٌ واحد، وأذنان؛ ليكون ما تسمع أكثر مما تقول. ويقال: لو كان الكلام من فضة، لكان السكوت من ذهب. ¬
وأنشدني بعض الأصحاب (¬1) لعبد الملك بن موسى الشريشِّي: إِذَا مَا اضْطُرِرْتَ إِلَى كَلِمَةٍ ... فَدَعْهَا وَبَابَ السُّكُوتِ اقْصِدِ فَلَوْ كَانَ نُطْقُكَ مِنْ فِضَّةٍ ... لَكَانَ سُكُوتُكَ مِنْ عَسْجَدِ فنظم هذا المعنى الذي ذكرنا (¬2). وقد رأيت في بعض الكتب: أن رجلاً سأل مالكًا -رحمه الله- في مرضه الذي مات فيه، فقال: أوصني، فقال: إن شئت، جمعت لك علم العلماء، وحكم الحكماء، وطب الأطباء في ثلاث كلمات: أما علم العلماء: فإذا سُئِلتَ عمَّا لا تعلم، فقل: لا أعلم. وأما حكم الحكماء: فإذا كنت جليس قوم، فكن أسكتهم، فإن أصابوا، كنت من جملتهم، وإن أخطؤوا، سلمت من خطئهم. وأما طب الأطباء: فإذا أكلت طعاما، فلا تقم إلا ونفسك تشتهيه، فإنه لا يلم بجسدك غير مرض الموت. أو قريبًا من هذا، فنسأل الله العصمة والتأييد، إنه حميد مجيد، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم (¬3). ¬
الرابع: قوله: «وكان ينفتل من صلاته (¬1) ... إلى آخره»: يدل على ما تقدم من تقديم الصبح أول وقتها؛ فإن ابتداء معرفة الإنسان جليسه يكون مع بقاء الغلس (¬2). وقوله: «وكان يقرأ بالستين إلى المئة»؛ أي: بالستين من الآي إلى المئة منها، وهذا - أيضا - يدل على التقديم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل قراءته، ومع ذلك يكون فراغه عند ابتداء معرفة الرجل جليسه، ويركع، وينصرفُ النساءُ متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغَلَس. تنبيه: انظر قوله: «حين يعرف الرجل جليسه»، هل المراد بالجليس هنا: من جرت عادته بمجالسته في غير الصلاة، أو من هو بإزائه في الصلاة عن يمينه، أو شماله خاصة، كائنا من كان؟ والأول أسعد بظاهر اللفظ؛ لأن جليسا (فَعيل) (¬3)، وهو من أبنية المبالغة المشعِرة بالتكرار والكثرة، حتى لو لم يرد ذلك، لقيل (¬4): من بإزائه، ونحو ذلك، ويختلف المعنى باختلاف ذلك؛ فإن معرفة من جرت عادته بمجالسته كثيرا أسرع قطعا من معرفة غيره. الخامس: فيه: تأدب الصغير مع الكبير عند السؤال. ¬
وفيه: جواز سرعة المفتي بالجواب إذا كان مستحضرا له، عالمًا به؛ لقوله: «فقال»، فأتى بالفاء المعقبة، والله أعلم. * * *
الحديث الخامس
الحديث الخامس 48 - عَنْ عَلِيٍّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: «مَلأَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ (¬1) وَبُيُوتَهُمْ نَارًا, كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ» (¬2). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى؛ صَلاةِ الْعَصْرِ»، ¬
ثُمَّ صَلاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (¬1). وَلَهُ (¬2): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ صلاة الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، أَوِ اصْفَرَّتْ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى؛ صَلاةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً» , أَوْ: «حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً» (¬3). * * * * الكلام على الحديث من وجوه: ¬
الأول: قوله: (يوم الخندق): أي: في يوم من أيام حفر الخندق، وكان حفر الخندق سنة أربع من الهجرة، وقيل: سنة خمس، ويسمى أيضا: يوم الأحزاب؛ لتحزيب الكفار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أجلى بني النضير، فخرج نفر منهم إلى مكة - شرفها الله تعالى -، فحرضوا قريشا على قتاله -عليه الصلاة والسلام-، ثم عادوا إلى غطفان وسُليم، فحرضوهم أيضا، فاجتمع الكل على القتال، فأولئك الأحزاب، فلما أقبلوا نحو المدينة، أشار سلمان -رضي الله عنه- بالخندق، فحُفِر. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام- «شغلونا»: هذه هي اللغة الفصحى شغل، وفي لغة رديئة، أشغل. والشغل، قال الجوهري: فيه أربع لغات: شُغْل، وشُغُل، وشَغْل، وشَغَل، والجمع: أشغال (¬1). الثالث: «الوسطى»: (فُعْلَى) مؤنث الأفعل، وهو الأوسط، وكلاهما لا يستعمل إلا بالألف واللام، أو الإضافة، أو من، ف «الوسطى» على الرواية الأولى؛ صفة، وعلى الثانية؛ بدل صلاة العصر من الصلاة الوسطى (¬2)، من باب بدل الكل من الكل، والمعرفة من المعرفة. فائدة: (وس ط) في تركيب لسان العرب عبارة عن أحد معنيين: إما عن الغاية في الجودة، وإما عن معنى يكون ذا طرفين، نسبتهما إلى ¬
الطرفين من جهتهما سواء، وذلك يكون بالعدد، والزمان، والمكان. الرابع: اختلف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى من قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] على أقاويل تنيف على العشرة، على ما ستراه: فقيل: صلاة الصبح، وقيل: الظهر، وقيل: العصر، وقيل: المغرب، وقيل: العشاء الآخرة، وقيل: الجمعة، وقيل: الجمعة يوم الجمعة، والظهر سائر الأيام، وقيل: جميع الصلوات الخمس، وقيل: الصبح والعصر، وقيل: الصبح والعشاء الآخرة، وقيل: مبهمة في الخمس إبهام الساعة في يوم الجمعة، وليلة القدر في رمضان، واسم الله الأعظم في سائر أسمائه تعالى، وشبه ذلك؛ لأنه أبعث على المحافظة على جميعها؛ إذ في إبهامها وترك تعيينها حث على الإتيان بجميعها، فكان أولى بها من التعيين المفضي إلى إهمال ما سواها. وقيل: صلاة الجماعة، وقيل: الوتر، وقيل: صلاة الخوف، فهذه أربعة عشر قولاً (¬1). تفصيل هذه الأقوال، ونسبتها إلى قائليها، وتوجيه ما أمكن توجيهه منها: أما أنها الصبح: فمن (¬2) نُقل عنه ذلك: عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، ¬
والربيع بن أنس، ومالك بن أنس (¬1)، والشافعي، والجمهور من أصحابه، وغيرهم -رضي الله عنهم-. وأما أنها الظهر: فممن (¬2) نقل ذلك عنه: زيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وأبو سعيد الخدري، وعائشة، وعبد الله بن شداد، ورواية عن أبي حنيفة. وأما أنها العصر: فممن (¬3) نقل ذلك عنه: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبو أيوب، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعبيدة السلماني، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والضحاك، والكلبي، ومقاتل، وأبو حنيفة، وأحمد، وداود، وابن المنذر، وابن حبيب من أصحابنا، وغيرهم. قال الترمذي: وهو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم (¬4). وقال الماوردي: وهو مذهب جمهور التابعين (¬5). وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر (¬6). وقال ابن عطية في «تفسيره»: وعلى هذا القول جمهور الناس، ¬
وبه أقول (¬1). وقال الإمام أبو عبد الله المازري (¬2)، وغيره: هذا مذهب الشافعي؛ لصحة الحديث فيه، وإنما نص على أنها الصبح؛ لأنه لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر (¬3)، ومذهبه اتباع الحديث (¬4). قلت: وقد صنف شيخنا شرف الدين الدمياطيُّ -رحمه الله تعالى- في أن مذهب الشافعي أنها العصر مجلدا سماه: «كشف المغطَّى في تبيين الصلاة الوسطى»، أجاد فيه وأحسن، وأوضح فيه وبيَّن، فليقف عليه من أراد تحصيل هذه المسألة. وأما أنها المغرب: فقد روي ذلك عن قبيصة ابن ذؤَيب، وقتادة، على اختلاف عنه. وأما أنها صلاة العشاء الآخرة: فحكي عن علي بن أحمد النيسابوري، وغيره. وأما أنها الجمعة: فحكاه الماوردي في تفسيره الملقب ب «النكت» عن آخرين، ونسبه ابن ظفر إلى بعض المتأخرين، وحكاه - أيضا - الحافظ المقدسي. ¬
وأما أنها الجمعة في يوم الجمعة، والظهر في سائر الأيام، فذكره أبو بكر محمد بن مقسم في «تفسيره»، وعزاه إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-. وأما أنها جميع الصلوات الخمس: فقال النقاش أيضا في «تفسيره»: ثم زعمت طائفة خرجت عن الأقاويل المشهورة: أن معنى الصلاة الوسطى، هي: الصلوات الخمس، وهي الوسطى من الدين، كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «بني الإسلام على خمس» (¬1)، قالوا: فهي الوسطى من الخمس، وهذا القول يروى عن معاذ، وابن حنبل، وعبد الرحمن بن غنم، والله تعالى أعلم بحقيقته. وقال الحافظ أبو الحسن المقدسي: قيل: إنها الصلوات الخمس؛ لأنها وسط الإسلام؛ أي: خياره، وكذلك قال عمر -رضي الله عنه-: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة (¬2)؛ لأن تاركها كافر مطلقًا على قول بعض العلماء، فيكون قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] على هذا عاما في المفروضات والمندوبات، ثم خص المفروضات بمزيد المحافظة؛ تأكيدا لها بالوجوب، وتشريفًا لها بالإفراد بالذكر؛ كقوله تعالى: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، وكقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]. ¬
وأما أنها الصبح والعصر جميعا: فذهب إليه القاضي أبو بكر الأبهري من أصحابنا، على ما نقله شيخنا شرف الدين الدمياطي -رحمه الله تعالى- في كشف المغطى. وأما أنها الصبح والعشاء الآخرة: فذكره ابن مقسم في «تفسيره»، ونسبه إلى أبي الدرداء -رضي الله عنه-، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوا» (¬1)، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة فيهما. وأما أنها مبهمة غير معينة: فهو قول الربيع بن خيثم (¬2)، ويحكى عن سعيد بن المسيب، ونافع، وشريح، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم-. وأما أنها صلاة الجماعة: فحكاه الماوردي في «نكته»؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا» (¬3)، وغير ذلك من الأحاديث الواردة في ذلك. وأما أنها الوتر: فهو اختيار الشيخ أبي الحسن علي بن محمد السخاوي المقرئ النحوي -رحمه الله تعالى-، متمسكًا بأن المعطوف غير المعطوف عليه، وزعم أن الأمر بالمحافظة وقع على الصلوات الخمس، وبالمحافظة على الصلاة الوسطى وقع على صلاة أخرى من غيرهن، وليس لنا صلاة أخرى خارجة عنهن إلا الوتر، وذكر الأحاديث الواردة في فضل الوتر تقوية لما ذهب إليه. ¬
وأما أنها صلاة الخوف: فلم أعلم قائله على التعيين، غير أن الشيخ شرف الدين -رحمه الله- قال في كشف المغطى المذكور: حكاه لنا من يوثق به من أهل العلم؛ لقوله -تعالى- بعد (¬1): {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 238 - 239]، وذكر وجه الدليل من الآية من ثلاثة أوجه، في بعضها أو كلها نظر، لا نطول بذكرها. قال الشيخ شرف الدين -رحمه الله-: وقيل: إنها صلاة عيد الأضحى؛ حكاه لنا من وقف عليه في بعض الشروح المطولة. قال: وذهب آخرون إلى أنها صلاة عيد الفطر (¬2)، حكاه لنا أيضا المشار إليه في صلاة الأضحى، قال: وذاكرت فيها أحد شيوخي الفضلاء، فقال: أظنني وقفت على قول من ذهب إلى أنها صلاة الضحى، ثم تردد فيه، فإن ثبت هذا القول، فهو تمام سبعة عشر قولاً. قال الشيخ: وكان شيخنا الحافظ أبو محمد المنذري -رحمه الله- يقول (¬3): في المراد «بالوسطى»، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أوسط الصلاة مقدارا. والثاني: أنها أوسطها محلاًّ. ¬
والثالث: أنها أفضلها، وأوسط كل شيء أفضله. فمن قال: الوسطى: الفُضْلى، جاز لكل ذي مذهب أن يدعيه، ومن قال: مقدارا، فهي المغرب (¬1)؛ لأن أقلها ركعتان، وأكثرها أربع، ومن قال: محلاً، ذكر كل أحد (¬2) مناسبة يوجه بها قوله. قال الشيخ شرف الدين: وحكى ابن مقسم، عن ابن المسيب: أنه قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا مختلفين في الصلاة الوسطى، وشبك بين أصابعه (¬3). وقال النقاش: قال أنس -رضي الله عنه-: ما اختلفوا في شيء، ما اختلفوا في الصلاة الوسطى، وشبك بين أصابعه. وأما التابعون، والمفسرون، والمتأولون؛ فعلى مثل اختلاف الصحابة فيها، وليس من الصلوات الخمس صلاة إلا قيل فيها: إنها الصلاة الوسطى، انتهى. قلت: وبالجملة: فقد قال غير واحد من العلماء: إن أصح هذه الأقوال قول من قال: إنها العصر، أو الصبح (¬4)، ومال كثيرون إلى ترجيح قول من قال: إنها العصر (¬5)؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك ¬
-على ما تقدم-، ثم الآثار، ثم ما ورد فيها من الاختصاص والفضل، ودل على شرف وقتها في شرعنا وشرع من قبلنا. وأما ما روي عن (¬1) عائشة -رضي الله عنها-: أنها أملَت على كاتبها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وصلاة العصر وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، ثم قالت: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وروي عن حفصة بنت عمر -رضي الله عنها- نحوه (¬3)، والعطف يدل على التغاير، فلا يعارض ما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة؛ لأنه لا حجة فيه من حيث كانت القراءة الشاذة لا توجب علما، ولا عملاً، قال ابن العربي: باتفاق الأمة. قلت: قوله: باتفاق الأمة فيه نظر؛ فإن الشيخ أبا الوليد الباجيَّ -رحمه الله- قال في المنتقى في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ما معناه: إن العلماء اختلفوا ¬
في القراءة الشاذة، هل تجري مجرى خبر الواحد، أو لا؟ على ثلاثة أقوال، ثالثها: الفرق بين أن يسند، أو لا يسند، وصحح عدم العمل بها، واختاره (¬1). وهذا لا يلتئم مع ما نقله ابن العربي -رحمه الله تعالى-. وقال بعض متأخري الشافعية -وأظنه ح-: مذهبنا: أن القراءة الشاذة لا يحتج بها، ولا يكون لها حكم الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر بالإجماع، وإذا لم يثبت قرآنا، لا يثبت خبرا، انتهى (¬2). هذا مع أن حديث عائشة -رضي الله عنها- في أفراد مسلم، وحديث علي متفق عليه. وأيضا: ثبوت الواو رواه واحد، وإسقاطها رواه جماعة، تقرب روايتهم من حد التواتر، بل قد زعم بعض السلف أنها تواتر. وأيضا: ظاهر حديثها يحتمل التأويل، وحديث علي -رضي الله عنه- نص صريح لا يحتمل التأويل. وأيضا: ليس في حديث علي ما يخالف التلاوة القطعية التي قامت بها الحجة، وحديثها يخالفها. وأيضا: فقد روي عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-، قال: نزلت: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر)، فقرأناها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله، ثم نسخها الله -عز وجل-، فأنزل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ ¬
الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فقال له رجل: أفهي العصر؟ قال: قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله تعالى. صحيح عالٍ انفرد به مسلم، فرواه في مسنده الصحيح، وقال فيه: هي إذن صلاة العصر (¬1). فقد تعارض حديث البراء وحديث عائشة -رضي الله عنها- في هذه الرواية، فيتساقطان، ويتعين المصير إلى حديث علي -رضي الله عنه-، على أنه يمكن الجمع بينه وبين حديث عائشة -رضي الله عنها- من وجهين: أحدهما: أن تكون الواو زائدة كما جاءت زائدة في كتاب الله تعالى، وغيره من كلام الفصحاء في غير ما موضع، من ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: 105]، وقاله تعالى: {وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّيْنَ} [الأحزاب: 40]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 25]، معناه فيما حكي عن الخليل: يصدون عن سبيل الله، والواو فيه مُقْحَمة، ومثله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} [الأنبياء: 48]، وكذلك: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103 - 104]، أي: ناديناه، وقال الأخفش والكوفيون في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]: إن الجواب (فتحت أبوابها). ولا اعتبار بما ذكره بعض ضعفة النحويين: من أنها واو الثمانية، على ما قررناه في «شرح رسالة ابن أبي زيد»، أعان الله على إكماله. ¬
ومن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل] فَلَمَّا أَجَزْنَا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى ... بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ أي: انتحى بنا (¬1). وقال آخر: [الكامل] حَتَّى إِذَا قَمِلَتْ بطونُكمُ ... وَرَأَيْتُمُ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا وَقَلَبْتُمُ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا ... إِنَّ اللَّئِيمَ الْعَاجِزُ الخِبُّ (¬2) أي: قلبتم لنا، ومعنى قملت: كبرت. والوجه الثاني: وهو المختار عند محققي النحاة -رحمهم الله-: أن الواو ليست بزائدة، وأن العطف جاء للتنويه والتعظيم، ويكون من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] الآية، وكقوله تعالى: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، كما عطف المطلق على المقيد (¬3) في قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، إلى غير ذلك من الآيات (¬4). ¬
قال (¬1) الزمخشري عند قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]: إن قلت: كيف قال تعالى: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}؟ قلت: الدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص، فجيء بالعام، ثم عطف عليه الخاص؛ إيذانا بفضله؛ كقوله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] (¬2)، ومنه بيت الحماسة: [الطويل] أَكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلَجاً ولَبَانَهُ ... إِذَا مَا اشْتَكَى وَقْعَ الرِّمَاحِ تَحَمْحَمَا (¬3) فعطف لبانه على الصحيح من الرواية -وهو صدره- على (¬4) دعلج، وهو اسم فرس، ومعلوم أن الفرس لا يكر دون صدره، فعطف البعض على الكل الذي هو داخل فيه، لما كان الصدر يلتقي به، وتقع به المصادمة، فأعاده لهذه الفائدة، وكقول الآخر: [المتقارب] إِلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ (¬5) ¬
فعطف (ليثِ الكتيبة، وابنِ الهمام) على (الملكِ القرمِ)، وهو هو في المعنى؛ لما فيه من الزيادة في مدحه، والتنويه بذكر أبيه. فإن قلت: قد حصل التخصيص والتنويه في العطف الأول، وهو قوله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فوجب أن يكون الثاني، وهو قوله: (وصلاة العصر) مغايراً (¬1) له، وأن الوسطى ليست العصر، إذ الشيء لا يعطف على نفسه. قلت: العطف الأول لما ذكر، والثاني: جاء توكيدا وبيانا لما اختلف اللفظان، كما حكى سيبويه: مررت بأخيك وصاحبك، والصاحب هو الأخ (¬2). وقال أبو دؤاد (¬3) الإيادي: [الخفيف] سُلِّطَ المَوْتُ والمَنُونُ عليهِمْ ... فلَهُمْ في صَدَى المَقَابِرِ هامُ (¬4) والمنون: الموت. وقال عديُّ بن زيد العباديُّ: وَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ ... فَأَلْفَى قَوْلهَا كَذِباً وَمَيِناَ (¬5) ¬
والمَيْن: الكذب. وقال آخر: [الطويل] أَلاَ حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ ... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ (¬1) والنأي: البعدُ بعينه. وقال طَرَفَة بن العبد: [الطويل] فَمَالِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّي مَالِكًا ... مَتَى أَدْنُ مِنْهُ يَنْأَ عَنِّي وَيَبْعُدِ وقال عنترة: [الكامل] حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الهَيْثَمِ وأقوى: بمعنى: أقفر. وقال ابن دريد: [الرجز] مَنْزِلَةٌ مَا خِلْتُهَا يَرْضَى بِهَا ... لِنَفْسِهِ ذُو أَرَبٍ وَلا حِجَا والأربُ والحِجا: العقل. حتى إن الشيء يضاف لنفسهِ عند اختلاف اللفظ؛ كما قال ابن دريد أيضا: [الرجز] فَكُلُّ مَا لاقَيْتُهُ مُغْتَفَرٌ ... فِي جَنْبِ مَا أَسْأَرَهُ شَحْطُ النَّوَى (¬2) ¬
والشحطُ (¬1): وهو النوى؛ أي: البعد. وهذا كثير جدا لا يكاد يحصى، والله أعلم (¬2). وإذا ثبت الجمع بين الحديثين، ثبت أنها العصر. وأما ما روي عن مالك -رحمه الله-: أنه بلغه أن علي بن أبي طالب، وابن عباس -رضي الله عنهما- كانا يقولان: الصلاة الوسطى: صلاة الصبح، قال مالك: وذلك رأيٌ. فللمخالف أن يجيب عنه بأن يقول: البلاغ في معنى المرسل الذي لا يثبت به حجة عندي. وأيضا: فقد روينا بالإسناد المتصل إلى علي، وابن عباس -رضي الله عنهما- أنهما قالا: الصلاة الوسطى: صلاة العصر، فيقدم على هذا (¬3) البلاغ. وأيضا: فقد روينا في بعض طرق حديث (¬4) علي -رضي الله عنه- المتقدم: أنه كان يراها الصبح، ثم رجع عنه، والمرجوع عنه لا يكون مذهبا للراجع. فإن قلت: فقد روى النسائي في سننه من حديث جابر بن زيد، ¬
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أَدْلَجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم عَرَّسَ، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس، أو بعضها، فلم نصل حتى ارتفعت الشمس، فصلَّى، وهي صلاة (¬1) الوسطى (¬2). وذلك ظاهر في صلاة الصبح. قلت: يجوز أن يكون قوله: وهي صلاة الوسطى من كلام الراوي، بل هو الظاهر، لا من كلام ابن عباس، سلَّمنا أنه من كلامه، لكن تقدم ما يعارضه من قوله وحديثه، وقد نقل عنه ابن عطية: أنه قرأ: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، صلاة العصر) على البدل. قال: وروى (¬3) هذا القول سمرة بن جندب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: وتواتر الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا»، وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كنا نرى أنها الصبح، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر»، فعرفنا أنها العصر (¬4). هذا كله على الرواية في حديث عائشة -رضي الله عنها-: وصلاة العصر، وإلا، فقد قال ابن عطية في تفسيره: وفي مصحف عائشة ¬
-رضي الله عنها-: والصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر. قال: وهو قولها المرويُّ عنها. قال: ومن روى: وصلاة العصر، فيتأول بأنه عطف أحدى (¬1) الصفتين على الأخرى، وهما لشيء (¬2) واحد؛ كما تقول: جاءني زيد الكريم والعاقل (¬3). وإذا ثبت هذا، ارتفع التعارض بين الحديثين من كل وجه، ولم يحتج إلى استدلال على كونها صلاة العصر، والله أعلم. وأما بقية الأقوال، فتوجيهها مذكور في كشف المغطى المتقدم ذكره، وخشية الإطالة مانعة من ذكره، وبالله التوفيق. السادس: قوله: «فصلاها بين المغرب والعشاء»؛ أي: بين وقت المغرب والعشاء، ويحتمل أن يكون المراد: صلاها بين صلاة المغرب والعشاء، فيؤخذ من الأول الترتيب، ومن الثاني: عدمه، وهذان الاحتمالان متساويان أو متقاربان؛ إذ اللفظ بظاهره (¬4) يعطي تقديم المغرب على العصر، إلا أنه يترجح الأول، أو يتعين بالحديث الآتي في آخر الباب؛ حيث قال فيه جابر: «فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها ¬
المغرب»، فهذا صريح في تقديمها على صلاة المغرب (¬1)، لكن هل ذلك على طريق الوجوب، أو الندب؟ فيه نظر، وينبغي أن يتخرج على مسألة أصولية، وهي: أن أفعاله -عليه الصلاة والسلام- التي ليست بيانا لمجمَل، هل هي على الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، أو الوقف؟ وقد تقدم مثل هذا. وقد (¬2) تقدم أن مذهب مالك -رحمه الله-: أنها على الوجوب، فالترتيب عنده يجب في خمس صلوات فما دونهن، أو أربع. والشافعي يقول: هي على الندب، فالترتيب (¬3) عنده مستحب، قلَّت الفوائت أو كثرت، لكن بشرط (¬4) أن لا يخرج وقت الحاضرة لصلاة فائتة، بخلاف ما نقول؛ فإن مذهبنا البداية بتقديم الفائتة، وإن خرج وقت الحاضرة على ما تقدم من العدد المذكور. ولتعلم: أن العلماء اختلفوا في ترتيب الفوائت على ثلاثة مذاهب: فمذهبنا (¬5): الوجوب -على ما تقدم-، وبه قال أبو حنيفة. ومذهب الشافعي: الاستحباب، وبه قال طاووس، والحسن البصري، ومحمد بن الحسن، وأبو ثور، وداود. ¬
والثالث: قول زفر، وأحمد، وهو أن الترتيب واجب، قلّت الفوائت أو كثرت. قال أحمد: ولو نسي الفوائت، صحت الصلوات التي يصلى بعدها. وقال أحمد، وإسحاق: ولو ذكر فائتة وهو في حاضرة، أتم التي هو فيها، ثم قضى الفائتة، ثم تجب إعادة الحاضرة (¬1). السابع: كان هذا التأخير قبل نزول صلاة الخوف، وسيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى. وهل كان هذا التأخير عمدا، أو نسيانا؟ قيل: إنه أخرها نسيانا؛ لاشتغاله -عليه الصلاة والسلام- بأمر العدو، والله أعلِمَ (¬2). واختلفت الروايات في عدد الصلوات التي أخرها -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث: ففي الكتابين: أنها العصر، وظاهره أنه لم يفته غيرها. وفي الموطأ: أنها الظهر والعصر (¬3). وفي غيرهما: أنه أخر أربع صلوات: الظهر، والعصر (¬4)، والمغرب، ¬
والعشاء، حتى ذهب هَوِيُّ من الليل (¬1)، وقد يمكن الجمع بينهما، بأن يقال: إن وقعة الخندق كانت أياما، فيكون قد وقع هذا في يوم، وهذا في يوم آخر، والله تعالى أعلم. الثامن: لا يتوهم من قوله في الحديث الآخر: «حتى اصفرت الشمس» مخالفته (¬2) للحديث الأول؛ من صلاتها بين المغرب والعشاء؛ لأن الحبس انتهى إلى هذا الوقت، لكن لم تقع الصلاة إلا بعد المغرب؛ كما في الحديث الأول، إما لاشتغاله -عليه الصلاة والسلام- بأسباب الصلاة، أو غيرها؛ مما يصلح أن يكون عذرا في التأخير (¬3). التاسع: فيه دليل على جواز الدعاء على الكفارة بمثل هذا، وإنما تردد ابن مسعود - رضي الله عنه - بين «ملأ»، و «حشا»؛ لاختلاف معناهما، فإن «حشا» يقتضي التراكم، وكثرة أجزاء المحشو، بخلاف «ملأ»، فلا يكون في ذلك متمسك لمن منع رواية الحديث بالمعنى؛ إذ من شرط الرواية بالمعنى أن لا ينقص معنى أحد اللفظين عن الآخر شيئًا، مع الاتفاق على أن رواية اللفظ أولى، فلعل ابن مسعود -رضي الله عنه- تحرَّى الأَوْلى، والله أعلم (¬4). ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 49 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعِشَاءِ، فَخَرَجَ عُمَرُ فَقَالَ: الصَّلاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، يَقُولُ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، أَوْ عَلَى النَّاسِ، لأَمَرْتُهُمْ بِهَذِهِ الصَّلاةِ، هَذِهِ السَّاعَةِ» (¬1). * * * ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «أعتمَ»؛ أي: دخل في العتمة، وهي الظلمة، يقال: عتم الليل يعتم: إذا أظلم، وقد قيل: إن العتمة اسم لثلث الليل الأول بعد غروب الشفق، قاله الخليل -رحمه الله تعالى- (¬1)، فأعتم مثل أصبح وأمسى: إذا دخل في الصباح والمساء، وكذلك أظهر: إذا (¬2) دخل في الظهر، ومثله في المكان، أنجد، وأتهم، إذا نزل بنجد وتهامة، ونحو ذلك، قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18] (¬3)، وقد تقدم الكلام على كراهة اسم العتمة، وما نقل في ذلك. الثاني: قوله: «الصلاةَ» منصوب بفعل مضمر، يجوز إظهاره، تقديره: صل الصلاةَ، أو أقم الصلاة، أو افعل الصلاة، ونحو ذلك مما يصح المعنى عليه، وإنما يجوز حذف الفعل والاكتفاء بالاسم إذا دل على الفعل المحذوف دليل حال حذفه، وإلا، لم يجز الحذف، والضابط في هذا الباب أن يقال: الفعل إما أن يكون عليه دليل حال حذفه، أو لا، فإن لم يكن عليه دليل، لم يجز حذفه، ألا ترى أنك لو قلت: زيدا - مثلاً -، لم يدر هل أردت: اضرب زيدا، أو أكرم زيدا، أو غير ذلك. ¬
وإن كان عليه دليل إذا أضمر، ساغ الإضمار، ولا يخلو بعد الإضمار إما أن تجعل الاسم المنصوب عوضا من الفعل المحذوف، أو لا، فإن لم تجعله عوضا منه، جاز إضماره وإظهاره، نحو قول عمر -رضي الله عنه-: الصلاةَ، وكذلك لو رأيت رجلاً آخذًا في أهبة الحج، لقلت: مكةَ والله؛ أي: قصد مكةَ والله. وإن جعلنا (¬1) الاسم المنصوب عوضا من الفعل المحذوف، لم يجز إظهار ذلك الفعل؛ لأن فيه جمعا بين العوض والمعوض منه، إلا أن جعل الاسم المنصوب عوضا من الفعل المحذوف لا يطرد، وإنما جاء ذلك في مواضع تحفظ، ولا يقاس عليها، ومن (¬2) ذلك قولهم: مرحبا، وأهلاً وسهلاً، ورحبا، جميع ذلك منتصب بفعل لا يجوز إظهاره، وذلك الفعل المضمر يكون خبرا ودعاء؛ فيكون خبرا إذا قلت ذلك لمن قصدك؛ أي: صادقت عندي رَحْباً وأهلاً؛ أي: من يقوم لك مقام الأهل، وصادفت عندي رحبا وسعة، وإن قلت ذلك لمسافر، كان الفعل المضمر دعاء، فكأنك قلت: صادفت أهلاً ورحبا؛ أي: لقاك الله رحبا، ولقاك الله من يقوم لك مقام الأهل، وإنما جعلت العرب هذه الأسماء عوضا من الأفعال؛ لكثرة الاستعمال، وأيضا: فإنهم جعلوا هذه الأسماء -وإن كانت منصوبة بالأفعال المضمرة التي ذكرناها- ¬
عوضا من أفعال شتى تكون من لفظ تلك الأسماء، فكان مرحبا عوضا من رحبت، وكذلك سائرها. ومما يدل على ذلك: أن هذه الأسماء المنصوبة بإضمار فعل لا يجوز إظهاره: أنها تكون مصادر، إلا ما شذ من قولهم: ترباً، وجندلاً، فعدم استعمالهم ذلك في غير المصادر دليل على أنهم قصدوا أن تكون تلك الأسماء قائمة مقام أفعال من لفظها، وكذلك جعل سيبويه - رحمه الله- تربا وجندلاً قائمين مقام: تربتَ، وجندلتَ (¬1)، ليجري جميع (¬2) الباب مجرى واحدا، والله أعلِمَ. فهذا الضابط ينبهك على كل ما يأتي من هذا الباب في الحديث وغيره، والله المستعان. الثالث: فيه: دليل على عدم التنشُّف؛ إذ لو تنشفَ -عليه الصلاة والسلام-، لم يكن رأسه يقطر، ولا قائل بالفرق بين الرأس والبدن في النشف. وفيه: دليل على تنبيه الأكابر، إما لاحتمال نسيان، وإما لاستثارة (¬3) فائدة منهم. وفيه: دليل على ما تقدم في باب السواك من أن الأمر للوجوب، ¬
وأن له أن يجتهد في الأحكام، وقد تقدم الخلاف في ذلك في باب السواك - أيضا (¬1) -. وفيه: دليل على استحباب تأخير العشاء الآخرة، وقد تقدم ذكر مذاهب العلماء في ذلك، إلا أن قول عمر -رضي الله عنه- يدل على أن عادته -عليه الصلاة والسلام- التقديم، وأنه لما تغيرت عادته، قال عمر ما قال، والله أعلم. الرابع: قوله: «رقد النساء والصبيان»؛ أي: ممن حضر المسجد لصلاة الجماعة. ويحتمل أن يكون المراد: من يخلفه المصلون من النساء والصبيان في البيوت، فهم ينتظرون من خلفهم؛ كأنه أشفق عليهم من طول الانتظار. ويحتمل أن يكون مراده: تمكن الوقت حتى دخل وقت رقاد النساء والصبيان في العادة غالبا، والله أعلم (¬2). الخامس: من قال بتفضيل تقديم العشاء الآخرة، قال: لو كان التأخير أفضل، لواظب عليه، ولعموم قوله -عليه الصلاة والسلام-: «الصلاة على وقتها»، حين سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ على ما تقرر. ومن قال بالتأخير: فدليله أن ترك التأخير والملازمة عليه إنما كان لأجل المشقة اللاحقة معه، وخشية أن يفرض عليهم، أو يتوهموا (¬3) ¬
إيجابه، فتركه -عليه الصلاة والسلام- كما ترك صلاة التراويح، وعّلل الترك بخشية فرضها عليهم، وقد يعجزون عنها، وقد أجمع على استحبابها بعده -عليه الصلاة والسلام-؛ لزوال العلة التي خيف منها، وهي الافتراض، والله أعلم (¬1). السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «هذه الصلاة في هذه الساعة». (هذه) الأولى: في موضع المصدر، لوصفها بالمصدر الذي هو الصلاة، ويجوز أن تكون في موضع نصب على المفعولية، إذا استعمل المصدر استعمال الأسماء. و (هذه) الثانية: في موضع الظرف؛ أعني: أنه بدخول (في) عليه خرج عن الظرفية، والله أعلم. * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 50 - عَنْ عائِشَةَ -رضي الله عنها-، عَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «إذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ, وَحَضَرَ الْعَشَاءُ, فَابْدَؤُوا بِالْعَشَاءِ» (¬1). وَلاَبْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ (¬2). ¬
وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: «لا صَلاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ , وَلا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ» (¬1). * * * ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الألف واللام في «الصلاة» ينبغي أن تكون للعموم ولا بد؛ نظرا إلى العلة في ذلك، وهو التشوش المفضي إلى عدم (¬1) الخشوع والحضور بين يدي الله عز وجل، والإقبال عليه بالكلية، وهذا لا يخص صلاة دون صلاة، وإن كان قد ورد ذلك في صلاة المغرب، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا وضع العشاء وأحدكم صائم، فابدؤوا به قبل أن تصلوا» (¬2)، وهو صحيح، وصح أيضا: «فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب» (¬3)؛ إذ ليس يقتضي ذلك حصرا في المغرب؛ ولأن الجائع غير الصائم، قد يكون أتوق إلى الطعام من الصائم، وقد يكون الصائم لا تشوف له إلى الطعام والحالة هذه، فينبغي أن يدور الحكم مع العلة وجودا وعدما، فحيث أمنا التشويش، قدمت الصلاة، والعكس، فلا يختص ذلك بالمغرب، ولا غيرها، على ما تقرر. ¬
ويؤيد ذلك ويوضحه قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الآخر: «لا صلاة بحضرة طعام» الحديث، فهذه نكرة في سياق النفي، فتعم، وإن كان هذا العموم مخصوصا بما ذكرناه بمن لا تشوف له إلى الطعام حينئذ (¬1). فائدة: قال اللخمي: وصلاة من حضر (¬2) الطعام على أربعة أوجه: إن لم يكن متعلق النفس به، جاز أن يبدأ بالصلاة. وإن كان متعلق النفس، ولا يعجله عن صلاته، استحب له البداءة بالصلاة، وإن لم يفعل، فلا بأس (¬3). وإن (¬4) كان يعجله، فيستحب له الإعادة في الوقت. وإذا شغل خاطره، فلم يذكر كم صلى، أعاد، وإن ذهب الوقت. قال صاحب «البيان والتقريب»: لعله يعني: انشغل خاطره في أكثر الصلاة. قال اللخمي: وكذلك إذا لم يقدر معه على إقامة بعض أركان الصلاة، وكذلك من به حقن، أو قرقرة، أو غثيان، أو نزل به ما يهمه، فإن كان الشيء الخفيف، أو يعجله، وهو يقيم (¬5) أركانها وحدودها، ¬
أو شغل قلبه بالشيء الخفيف، وإن شغله حتى لا يدري كيف صلى، فإنه يعيد، ويعيد من ائتم به؛ لأنه بمنزلة من أفسد صلاته متعمدا. قال (¬1) ابن شعبان: من صلى بالحقن الذي يشغل مثله، أجزأه، ولا يعيد. وقد روي أن معاذًا صلى وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد بولاً حتى كاد يشغله، فلما انصرف، ذكر ذلك له، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «إذا وجد أحدكم ذلك، فلينصرف حتى يبول» (¬2)، ولم يأمره بالإعادة. قال ابن يونس: وصفة خروجه إذا أصابه ذلك في صلاته: أن يكون ممسكًا لأنفه كالراعف، وروي ذلك عن النبي (¬3) - صلى الله عليه وسلم -. قال صاحب «البيان والتقريب»: لكن إن نزل كلام ابن شعبان على ما إذا لم يمنعه ذلك من إقامة أركان الصلاة وسننها، فلذلك صحت الصلاة، ولم يأمره بالإعادة. فأما قوله في «الكتاب»: فإن صلى بذلك، أحببت له أن يعيد أبدا؛ يعني: إذا أخل (¬4) ببعض أركان الصلاة، أو شغله في أكثر صلاته عن حضور خاطره، وأحببت هنا بمعنى: الوجوب، لقوله: يعيد أبدا. وأما من نزل به ما يهمه، وشغله قلبه، وغلب على نفسه: ¬
فإن غلب على ظنه أن ذلك يزول قبل خروج الوقت، أخر الصلاة حتى يذهب ذلك، ما لم يخرج الوقت. وإن (¬1) غلب على ظنه أن ذلك يلازمه إلى أن يخرج الوقت، فليدافعه ما أمكنه، ويصلي على حاله، فإن صلى، ثم زال في الوقت، استحب له أن يعيد؛ قياسا على من صلى على الدابة خوفًا من سباع، ثم أمن في الوقت، فإنه يعيد؛ بخلاف العدو، والله أعلم، انتهى. ولتعلم: أن الحديث مخصوص بما إذا كان الوقت يسعهما؛ أعني: الأكل والصلاة، وإلا لو تعارضا، قدمت الصلاة عند جمهور العلماء. وحكى المتولي من الشافعية وجها عن بعض أصحابهم: أنه يقدم الطعام، وإن خرج الوقت ح (¬2). وهذا (¬3) ضعيف وباطل؛ لأن القاعدة: أنه (¬4) إذا تعارضت مفسدتان، اقتصر على أقلهما فسادا، فالشرع يحافظ على تقليل المفسدة ما استطاع، ولا شك أن خروج وقت الصلاة أشد مفسدة من ترك الخشوع، هذا ما لا يُتمارى فيه؛ بدليل صلاة الخوف، وصلاة الغريق، والمصلوب، وغيرهم. وقال أهل الظاهر: إن صلى بحضرة الطعام، فصلاته باطلة؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث، والظاهر: أنهم كذلك يقولون في قوله -عليه الصلاة ¬
والسلام-: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (¬1)، وإن كان الحديث لم يثبت في الصحيح. وقد نقل عن مالك -رحمه الله-: أنه يبدأ بالصلاة، إلا أن يكون طعاما خفيفًا. وذهب بعضهم إلى الاقتصار على ما يكسر سورة الجوع (¬2). وفيه بعد؛ لأنه إذا شرع في الأكل، ورفع يده قبل الشبع، قد يكون ذلك أدعى لتعلق خاطره بالطعام، والله أعلِمَ. وقد جاء في بعض روايات مسلم أيضا: «إذا وضع عشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجلن حتى يفرغ منه» (¬3). وفي رواية: «إذا قرب العشاء، وحضرت الصلاة، فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب (¬4)، ولا تعجلوا عن عشائكم» (¬5)، فهذه الأحاديث ترد هذا القول، والله أعلم. الثاني: أخذ من هذا الحديث: أن وقت المغرب فيه توسعة. ¬
ق: إن أريد به (¬1) مطلق التوسعة، فهو صحيح، لكن ليس محل الخلاف المشهور، وإن أريد به التوسعة إلى غروب الشفق، ففي هذا الاستدلال نظر؛ فإن بعض من ضيق وقت المغرب جعله مقدرا بزمان يدخل فيه مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سورة الجوع، فعلى هذا لا يلزم أن يكون وقت المغرب موسعا إلى غروب الشفق. على أن الصحيح الذي يذهب إليه: أن وقتها موسع إلى غروب الشفق، وإنما الكلام في وجه الاستدلال من هذا الحديث، انتهى (¬2). قلت: والمشهور في مذهب مالك: أن وقتها غير ممتد إلى غروب الشفق. واستدل به أيضا على عدم وجوب صلاة الجماعة. وأخذ منه أيضا: دليل تقديم (¬3) فضيلة حضور القلب على فضيلة أول الوقت. وينبغي أن يقاس على حضور الطعام ما كان في معناه مما يؤدي إلى عدم الخشوع؛ كما قيس على قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» (¬4) ما في معناه؛ من الجوع، والعطش الشديد، والغم، والفرح، ونحو ذلك. ¬
الثالث: (العشاء): ضد الغداء ممدود، وكذلك العشاء - بكسر العين -: الصلاة، وأما العشا: عشا العين، فمقصور (¬1)، وهو الذي يرى صاحبه في النهار دون الليل. و (الأخبثان): البول والغائط، وقد صرح بذلك في بعض الأحاديث. * * * ¬
الحديث الثامن والحديث التاسع
الحديث الثامن والحديث التاسع 51 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ: أَنَّ رَسُّولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ, وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ (¬1). ¬
وما في معناه من الحديث الثاني: 52 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «لا صَلاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ, وَلا صَلاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ» (¬1). * * * * والكلام على الحديث الأول من وجوه: الأول: قوله: «شهد عندي»، (شهد) هنا بمعنى: أعلم، وبين؛ أي: بينوا لي هذا، وأعلموني به. ¬
قال ابن فارس في «مجمله»: فأما قوله -جل ثناؤه-: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، فيقال: بين وأعلم، كما يقال: شهد فلان عند القاضي، إذا بين وأعلم لمن الحق، وعلى من هو (¬1). ومعنى (مرضيون)؛ أي: عُدول، لا شك في صدقهم ودينهم. ق: وفي هذا رد على الروافض فيما يدعونه من المباينة بين أهل البيت وأكابر الصحابة. قلت: صدق -رحمه الله-. الثاني: قوله: «نهى عن الصلاة بعد الصبح»؛ أي: بعد أن تصلى الصبح، وكذلك القول في العصر؛ فإن الأوقات المكروهة قسمان: قسم تتعلق الكراهة فيه بالفعل؛ بمعنى: أنه إن تأخر الفعل، لم تكره الصلاة، ألا ترى أنه يجوز التنفُّل قبل الصلاتين المذكورتين، ويكره بعدهما، وإن كان مذهبنا كراهة التنفل عند طلوع الفجر، لكنه إن لم يصل [سنَّة] الفجر حتى صلى الصبح، لم يصلها حتى تطلع الشمس. والشافعي يخالفنا في كلتا المسألتين: أعني: التنفل، وصلاة الفجر بعد صلاة الصبح لمن لم يصلها؛ أعني: ركعتي الفجر. وقسم تتعلق الكراهة فيه بالوقت؛ كطلوع الشمس قبل ارتفاعها قيد رمح فصاعدا، ووقت الاستواء عند من يقول به، وينبغي هنا أن يكون الحكم معلقًا بالوقت؛ إذ لا بد من أداء صلاة الصبح وصلاة ¬
العصر، فتعين (¬1) أن يكون المراد: بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، كما تقدم. ق: وهذا الحديث معمول به عند فقهاء الأمصار، وعن بعض المتقدمين والظاهرية خلاف فيه من بعض الوجوه. ولتعلم: أن صيغة النفي إذا دخلت على فعل في ألفاظ صاحب الشرع، فالأولى حملها على نفي الفعل الشرعي، لا الوجودي، فيكون قوله: «لا صلاة بعد الصبح» نفيا للصلاة الشرعية، لا الحسية، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الظاهر: أن الشارع يطلق ألفاظه على عرفه، وهو الشرعي. وأيضا: فإنا إذا حملناه على الفعل (¬2) الحسي، وهو غير منتف، احتجنا إلى إضمار لتصحيح اللفظ، وهو الذي يسمى: دلالة الاقتضاء، وينشأ النظر في أن اللفظ يكون عاما ومجملاً، أو ظاهرا في بعض المحامل. أما إذا حملناه على نفي الحقيقة الشرعية، لم يحتج إلى إضمار، فكان أولى. ومن هذا البحث نطلع على كلام الفقهاء: «لا نكاح إلا بوليِّ» (¬3)، ¬
فإنك إن حملته على الحقيقة الحسية، وهي غير منتفية عند عدم الولي حسا، احتجت إلى الإضمار (¬1)، فحينئذ يضمر بعضهم: الصحة، وبعضهم: الكمال، وكذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» (¬2)، انتهى (¬3). الثالث: يقال: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت، وصفت، والظاهر: أنه في الحديث بضم التاء رباعي، وهكذا هو في نسختي المسموعة المقابلة على أصل عليه خط المصنف -رحمه الله تعالى-. وقد أشار إلى ذلك ع في إكماله (¬4). وقد يفسر بالحديث الآخر: «حتى ترتفع الشمس» (¬5)، والارتفاع فيه زيادة على مجرد الطلوع؛ لأنها (¬6) عند الارتفاع تظهر، وتصفو، فعلى هذا لا يكون مجرد طلوعها وظهورها يبيح الصلاة حينئذ. وقد ورد في الصحيح أيضا: نهيُه -عليه الصلاة والسلام- عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد طلوعها حتى ترتفع، وعند استوائها حتى تزول، وعند اصفرارها ¬
حتى تغرب (¬1). وبالجملة: قد (¬2) أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها (¬3)، واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها، واختلفوا في النوافل، والسنن التي لها سبب؛ كتحية المسجد، وسجود التلاوة، والشكر، وصلاة العيد، والكسوف، والجنازة، وقضاء الفوائت. ومذهب مالك، والشافعي: جواز قضاء الفوائت فيها. وخالف في ذلك أبو حنيفة؛ أخذًا بظاهر هذا العموم (¬4)؛ أعني: قوله: «لا صلاة» الحديث، وهو يعارض بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكر»، (¬5)، وفي بعض الروايات: ¬
«لا وقت لها إلا ذلك» (¬1)، فكل واحد من الحديثين عام من وجه، خاص من وجه؛ فحديث «لا صلاة» خاص في الوقت، عام في الصلاة، وحديث: «من نام عن صلاة» عكسه، بقيد كون الصلاة فائتة (¬2)، فاعرفه. وأما النوافل والسنن التي لها سبب، فكرهها مالك في هذين الوقتين؛ أعني: بعد الصبح، وبعد العصر، ولم يكرهها الشافعي، وفي بعضها تفصيل، واختلاف مذكور في كتب الفقه. وأما علة كراهة الصلاة في هذه الأوقات المذكورة: فهي ما جاء أنها: «تطلع بين قرني شيطان»، الحديث (¬3). واختلف في المراد بقرني الشيطان: فقيل: إن له قرنين على ظاهره، ورجحه بعض المتأخرين. وقالوا: معناه: أنه يدلي (¬4) رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات؛ ليكون الساجدون لها من الكفار في هيئة الساجدين له في الصورة، وحينئذ (¬5) يكون له ولشيعته تسلط ظاهر، وتمكن من أن يلبسوا على ¬
المصلين صلاتهم، فكرهت الصلاة حينئذ صيانة لها، كما كرهت في الأماكن التي هي مأوى الشياطين (¬1)، والله أعلم. وقيل: القرنان: حزبه، وأتباعه، وقيل: قوته، وغلبته، وقيل: انتشاره، وفساده. فعلى الأول: القرنان حقيقة، وعلى ما عداه يكون (¬2) مجازا (¬3). وأما الحديث الثاني: فأبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر - بالباء الموحدة والجيم - وهو خدرة (¬4) بن عوف بن الحارث بن الخزرج، كذا نسبه ابن الكلبي، وخليفة بن خياط فيما حكى عنه الرشاطي، وكذلك -أيضا - نسبه ابن إسحاق، وأبو عمر ابن عبد البر في ترجمة أبيه مالك (¬5). غير أن ابن إسحاق قال في عبيد بن الأبجر: عبد، مكبرا، ونسبه ابن سعد: فأسقط عبيد الأول، وكذا نسبه أبو عمر في باب: أبي سعيد، قال الرشاطي: وصوابه ما ذكره ابن الكلبي، والله أعلم. ¬
وقد اختلف في اسمه، فقيل: سعد -كما قدمناه-، وقال ابن هشام: اسمه: سنان، وكذا قال ابن الحذاء، عن يزيد بن أبي حبيب، والأول هو المشهور. وأمه: أنيسة بنت أبي خارجة عمرو بن قيس بن مالك، أسلمت، وبايعت. وهو مشهور بكنيته، والخُدْرُ: قبيلة من الأنصار. توفي أبو سعيد هذا بالمدينة سنة أربع وسبعين، وقيل: ثلاث وسبعين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وقيل: سنة أربع وتسعين، والأول هو المشهور، والقول الأخير وهم ظاهر، والله أعلم. وذكره الحافظ ابن زبر (¬1): في سنة أربع وسبعين، وكان أبو سعيد من نجباء الأنصار، وفضلائهم، ومن حفاظ الصحابة وعلمائهم، حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سننا كثيرة، وروى عنه علما جما. روى عنه من الصحابة: زيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعطاء بن يسار، وغيرهم. استصغر يوم أحد، فرد، واستشهد أبوه يوم أحد، وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة غزوة. ¬
روي (¬1) له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث، ومئة وسبعون حديثًا، اتفقا منها على ستة وأربعين حديثًا، وانفرد البخاري بستة عشر حديثًا، ومسلم باثنين وخمسين حديثًا. روى له الجماعة رضي الله عنه (¬2). وليس فيه زيادة على الحديث الذي قبله، إلا امتداد الكراهة إلى ارتفاع الشمس، قيل: وليس المراد مطلق الارتفاع عن الأفق، بل الارتفاع الذي تزول عنه صفرة الشمس أو حمرتها، وهو مقدر بقيد رمح أو رمحين (¬3). وقيد: بكسر القاف، ليس إلا، وإنما ضبطه -وإن كان ظاهرا-؛ لأني رأيت (¬4) بعض الفقهاء يغلط فيه، فيفتح القاف. ¬
قال صاحب «الكتاب» رحمه الله: وفي الباب: عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر بن الخطاب (¬1). وقد تقدم الكلام على التعريف بهم، أو أكثرهم بما يغني عن الإعادة، رضي الله عنهم أجمعين. * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العاشر 53 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ , وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاَللَّهِ! مَا صَلَّيْتُهَا»، قَالَ: فَقُمْنَا إلَى بَطْحَانَ , فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ , وَتَوَضَّأْنَا لَهَا , فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قد تقدم معنى قوله: (يوم الخندق). وفي الحديث: دليل على جواز سب كفرة الحربيين؛ لتقريره -عليه الصلاة والسلام- عمر على ذلك، ولم يعين السب في الحديث، فيحمل على ما لا فحش فيه؛ إذ هو اللائق بمنصب عمر رضي الله عنه (¬1). وفيه: الاعتناء بأمر الصلاة، وشدة المحافظة عليها؛ كما هو الواجب على كل أحد، لا سيما الصحابي. الثاني: (جعل)، و (كاد) من أفعال المقاربة، وقد تقدم أنها ترفع الاسم، وتنصب الخبر، وأن خبرها لا يكون -غالبا- إلا فعلاً مضارعا فيه ضمير يعود على اسمها؛ كقوله: / «جعل يسب»، وقول عمر: ما كدت أصليها، وبذلك تتميز عن كان، وإن اشتركتا في رفع الاسم ونصب الخبر. ¬
والفرق بين (كاد) و (جعل): أن (كاد) مقاربة ذات الفعل، و (جعل) للأخذ فيه. لكن اختلف في (كاد) إذا دخل عليها حرف النفي، كما هو في قوله: «ما كدت أصلي العصر» هل يكون نفيها نفيا كسائر الأفعال، أو يكون نفيها إيجابا، أو التفرقة بين كون الفعل ماضيا، فيكون للإثبات، أو مضارعا فتكون كسائر الأفعال؟ وتوجيه ذلك وتحريره في كتب النحو. فيخرج قول عمر رضي الله عنه: «ما كدت أصليها» على هذا الخلاف. فإن قلنا: إن نفيها إيجاب، فيكون صلى العصر قبل المغرب، وإلا، فبعدها (¬1). فائدة: يقال كاد النعام يطير، كاد العروس يكون أميرا، كاد القمر يكون نهارا، كادت الشمس تكون ظلا، كاد السيئ الخلق يكون سبعا، كاد البخيل يكون كلبا، كاد الخائف يشرق بالريق، كاد الحريص يكون عبدا، كاد المنتعل يكون راكبا، كاد الفقر يكون كفرا، كاد الحسد يغلب القدر، كاد المريب يقول خذوني، كاد العلماء تكونون (¬2) أربابا، كاد المسافر يكون أسيرا، كاد البيان يكون سحرا، كادت الغربة تكون كربة. الثالث: فيه: جواز الحلف من غير استحلاف، إذا ترتبت على ذلك مصلحة دينية، وهو كثير في القرآن، وقد قيل: إنه -عليه الصلاة والسلام- إنما حلف تطييبا لقلب عمر رضي الله عنه؛ لأنه لما شق عليه تأخيرها، ¬
أخبره -عليه الصلاة والسلام- بأنه لم يصلها هو - أيضا -؛ ليتأسى ويتسلى به -عليه الصلاة والسلام-، ثم إنه أكد ذلك باليمين؛ ليكون أبلغ في هذا المعنى (¬1). ق: وقيل: في هذا القَسم إشفاق منه - صلى الله عليه وسلم - من تركها، وتحقيق ذلك: هو أن القسم تأكيد للمقسم عليه، وفي هذا القسم إشعار ببعد وقوع هذا المقسم عليه، حتى كأنه لا يعتقد وقوعه، فأقسم على وقوعه، وذلك يقتضي تعظيم هذا الترك، وهو يقتضي الإشفاق منه، أو ما يقارب هذا المعنى، انتهى (¬2). وقيل: يحتمل أنه تركها نسيانا؛ لاشتغاله بقتال المشركين، قال (¬3): فلما قال له عمر ذلك، تذكر، فقال: «والله ما صليتها». قلت: والنسيان عذر واضح شرعي في تأخير الصلاة، ويكون في هذا النسيان فائدة تقتضي بيان حكم شرعي؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «إني لأنسى أو أنسى لأسن»، (¬4)؛ كما وقع بنومه -عليه ¬
الصلاة والسلام- في حديث الوادي بيان حكم من نام عن الصلاة بالفعل، حتى تظافر على ذلك قوله وفعله - صلى الله عليه وسلم -. ق: وفيه: جواز قول القائل: ما صلينا، خلاف ما يتوهمه قوم (¬1) من الناس، وإنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة؛ لشغله بالقتال؛ كما ورد مصرحا به في حديث آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «شغلونا عن الصلاة الوسطى» (¬2)، فتمسك به بعض المتقدمين في تأخير الصلاة في حال الخوف إلى حالة الأمن، والفقهاء على إقامة الصلاة في حالة الخوف (¬3)، وهذا الحديث ورد في غزاة الخندق، وصلاة الخوف فيما قيل شرعت في غزوة ذات الرقاع، وهي بعد ذلك. قلت: وقد تقدم التنبيه على هذا. قال: ومن الناس من سلك طريقًا آخر، وهو أن الشغل إن أوجب النسيان، فالترك للنسيان، وربما ادعى الظهور في الدلالة على النسيان، وليس كذلك، بل الظاهر تعلق الحكم بالمذكور لفظًا، وهو الشغل (¬4). قلت: وهو كما قال الشيخ رحمه الله تعالى. الرابع: «بطحان»، قيل: إنه واد بالمدينة، واختلف في ضبطه؛ فالمحدثون يقولونه بضم الباء وإسكان الطاء، واللغويون يفتحون الباء ¬
ويكسرون الطاء (¬1)، ويجوز فيه الصرف وتركه على تأويل المكان أو البقعة (¬2). الخامس: قد تقدم أن الحديث مصرح بتقديم الفائتة على (¬3) الحاضرة، وتقدم -أيضا - نقل الخلاف بين العلماء في وجوب الترتيب، وعدم وجوبه بما يغني عن الإعادة. لكن يزاد هنا أن يقال: إن ضم إلى هذا الحديث الدليل على تضيق وقت المغرب، كان فيه دليل على وجوب تقديم الفائتة على الحاضرة عند ضيق الوقت؛ لأنه لو لم يجب، لم تخرج الحاضرة عن وقتها لفعل ما ليس بواجب، أو نقول: إن فعله -عليه الصلاة والسلام- للوجوب، فبأحد هذين الأمرين يستدل على وجوب الترتيب في الفوائت مع الحاضرة، والله أعلم (¬4). السادس: ظاهر قوله: «فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها» يعطي أنهم صلوا معه -عليه الصلاة والسلام- جماعة، فيؤخذ منه التجميع للفوائت، وقد جاء ذلك صريحا في حديث الوادي، والله أعلم. ¬
باب فضل صلاة الجماعة ووجوبها
بابُ فضلِ صلاة الجماعةِ ووجوبِها الحديث الأول 54 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: لفظ «الجماعة» يحتمل أن يراد به: القوم المجتمهعون في الصلاة، ويحتمل أن يراد به: الاجتماع نفسه، ويكون التقدير (¬1): صلاة الاجتماع. فعلى الأول: تكون الجماعة صفة لموصوف محذوف؛ أي: القوم الجماعة، ونحو ذلك. وعلى الثاني: لا حذف؛ لوقوعه على المعنى الذي هو الاجتماع، والله أعلم. الثاني: اختلف الرواية في هذا الباب، فجاءت في هذا الحديث: «بسبع وعشرين درجة»، وجاء في الصحيح أيضا: «بخمسة وعشرين جزءا» (¬2)، وفي رواية: «بخمس وعشرين درجة» (¬3)، وجاء أيضا إثبات التاء مع الدرجة، وحذفها مع الجزء، وهذا على تأويل الجزء بالدرجة، والدرجة بالجزء (¬4). ¬
وقد سمع من العرب: جاءته كتابي، فاحتقرها، على تأويل الكتاب بالصحيفة. وقال الشاعر: [الطويل] فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أَتَّقِي ... ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمُعْصِرُ (¬1) ويروى: فكان نصيري، لما كان المراد بالشخوص: الجواري، حذف التاء من ثلاثة. وأما الجمع بين العدد، فقد جمع بينهما من أربعة أوجه: الأول: أنه لا منافاة بينها (¬2)؛ فإن ذكر القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم العدد ضعيف، أو باطل عند أكثر أهل الأصول. والثاني: أنه -عليه الصلاة والسلام- أخبر أولا بالقليل، ثم أعلمه تعالى بزيادة الفضل، فأخبر بها. قلت: وهذا يحتاج إلى بيان أن حديث القليل قبل حديث الكثير ولا بد. والثالث: أنه يختلف باختلاف أحوال (¬3) المصلين والصلاة، فيكون لبعضهم خمس وعشرون، ولبعضهم سبع وعشرون؛ بحسب كمال ¬
الصلاة، والمحافظة على هيئتها (¬1)، وخشوعها، وكثرة جماعتها وفضيلتهم، وشرف البقعة، ونحو ذلك. قلت: وفي هذا نظر. وأما قول من قال: إن الدرجة غير الجزء، وهو الوجه الرابع، فغير مستقيم، وكأنه -والله أعلم- لم يقف، أو لم يستحضر ما في «الصحيحين» من قوله: «خمس وعشرين درجة»، «وسبع وعشرين درجة»، فاختلف العدد مع اتحاد لفظ الدرجة (¬2)، فليعلم ذلك (¬3). الثالث: وقع (¬4) بحث في هذه الدرجات، هل هي بمعنى الصلوات، فتكون صلاة الجماعة بمثابة خمس وعشرين صلاة، أو سبع وعشرين؟ أو يقال: لفظ الدرجة والجزء لا يلزم منه أن تكون بمقدار الصلاة، والأول هو الأظهر؛ لأنه ورد مبينا في بعض الروايات، وكذلك لفظة: (تضاعف) مشعرة بذلك، والله أعلم (¬5). الرابع: استدل بهذا الحديث وما في معناه على صحة صلاة الفذ، وأن الجماغعة ليست بشرط، وذلك لما اقتضته صيغة (أَفْعَل) من الاشتراك في الأصل، والتفاضل في أحد الحديثين، وذلك يقتضي ¬
فضيلة صلاة الفذ، وما هو باطل لا فضيلة فيه، لا يقال: إن هذه الصيغة قد ترد مع عدم الاشتراك في الأصل؛ كقولهم: العسل أحلى من الخل؛ لأنا نقول: إن ذلك خلاف الأصل لغة، وأيضا: فإن ذلك إنما يقع عند الإطلاق، وأما التفاضل بزيادة عدد، فيقتضي قطعا أن ثم جزءا معدودا يزيد أجزاء أخر؛ كما إذا قلنا: هذا العدد يزيد على ذلك بكذا وكذا من الآحاد، فلا بد من وجود أصل العدد، وجزء معلوم (¬1) في الآخر. ويزيد ذلك بيانا قوله -عليه الصلاة والسلام- في الرواية الأخرى: «تزيد على صلاته وحده، أو تضاعف»؛ فتإن ذلك يقتضي وجود شيء يزاد عليه، وعددا يضاعف، والله أعلم (¬2). الخامس: المشهور من مذهب مالك - رحمه الله - تساوي الجماعات في الفضيلة، فصلاة ألف -مثلا- كصلاة اثنين. والقول الآخر: تفضل الجماعة الكثيرة على القليلة، وبه قال (¬3) الشافعية. وهذا الحديث يدل على (¬4) للمشهور [1] من مذهب مالك - رحمه الله -، وبيانه: أنه لا مدخل للقياس في الفضائل، فإذا دل الحديث على الفضل بمقدار ¬
معين، مع امتناع القياس، اقتضى ذلك الاستواء في العدد المخصوص. وقد دل الحديث على فضيلة صلاة الجماعة بالعدد المعين، فيدخل تحته كل جماعة، ومن جملتها الجماعة الكبرى (¬1)، والجماعة الصغرى، والتقدير فيهما واحد بمقتضى العموم. وأما وجه القول الآخر، فحديث ذكره أبو داود، وهو: «صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أفضل من صلاته مع الرجل» (¬2)، الحديث إلى آخره (¬3). فصل في ذكر ما يتعلق بصلاة الجماعة من الأحكام على مذهب مالك - رحمه الله تعالى- على طريق الاختصار؛ إذ ذلك مبسوط في كتب الفقه، فنقول: صلاة الجماعة سنة مؤكدة، وقيل: فرض كفاية، وإذا أقيمت، كره التنفل حينئذ، ولا تحصل فضيلتها بأدراك أقل من ركعة، ولا يحتبس الإمام للداخل انتظار إدراكه (¬4)، وتستحب إعادة الفذ مع اثنين فصاعدا، لا واحد على المشهور، إلا أن يكون إماما راتبا في المسجد؛ لأنه كالجماعة، ولذلك لا يعيد هو ¬
في إعادة من صلى مع صبي أو أهله قولان. فإن أقيمت وهو في المسجد -أعني: الصلاة التي صلاها وحده-، فالظاهر لزومها كالتي لم يصلها، فإن كان في نفل، أتمها، وإن كان في التي أقيمت، وهي غير المغرب، فإن كان قد عقد منها ركعة، شفعها، وإلا، قطع. وقيل: يشفعها، وإن لم يعقدها كالنافلة، والركعة الثالثة كالأولى، فيشفعها برابعة، إلا أنه يجلس ليسلم على اثنتين إن لم يعقد الثالثة على المشهور، فإن خشي فوات ركعة مع الإمام، قطع في الجميع، والقطع في ذلك بسلام أو مناف. ولا تعاد المغرب ولا العشاء بعد الوتر على المشهور، وقيل: تعاد الصلوات كلها، وهو مذهب الشافعي - رحمه الله -، فلو شرع في إعادة المغرب، ثم ذكر قبل أن يعقد الركعة الأولى منها، قطع، فإن عقدها، أضاف إليها أخرى، وسلم، فإن أتمها، فليأت برابعة بالقرب، فإن طال، فلا شيء عليه، وقيل: يعيدها (¬1) ثالثة. وحيث يؤمر بالإعادة، ففي نيتها أربعة أقوال: فرض، ونفل، وتفويض -وهو المشهور- وإكمال. فعل الفرض، لو تبين فساد الأولى، أجزأته الثانية عند ابن القاسم. وقال ابن الماجشون: لا تجزئه؛ لأنه صلى الثانية على جهة السنة، لا على جهة أداء الفريضة. ¬
وقال أشهب: إن كان حين دخوله في الثانية ذاكرا للأولى، فلا تجزئه هذه، وإن لم يكن ذاكرا لها، أجزأته. ولو تبين فساد الثانية، لم تجزئه (¬1) الأولى، واستشكل هذا؛ إذ الصلاة لا ترتفض بعد فعلها، وعلى غير الفرض بالعكس، إن تبين فساد الأولى، لم تجزئه الثانية، وإن تبين فساد الثانية، أجزأته الأولى. ولا يؤتم (¬2) بالمعيد، ويعيد من ائتم به أبدا أفذاذا على المشهور، ولا تعاد صلاة الجماعة مع واحد فأكثر في أخرى. واستثنى ابن حبيب ثلاثة المساجد|، وألزم أن يعيد فيها منفردا، فإن أقيمت وهو في المسجد -أعني: من صلى في جماعة-، خرج، ولا يجلس، ولا يصليها، ولا غيرها. ولا تجمع صلاة في مسجد له إمام راتب مرتين، وإمامه وحده كالجماعة، إلا أن يكون (¬3) قد جنمع قبله، ويخرج من كان حينئذ في المسجد، فيصلون جماعة في موضع غيره، إلا في ثلاثة المساجد، فيصلون أفذاذا، ولا يخرجون منها إلى غيرها، إذ ذلك أعظم لأجرهم من صلاة الجماعة في غيرها ¬
ولا تترك الجماعة إلا لعذر عام؛ كالمطر، والريح العاصف بالليل، أو خاص؛ كالمريض (¬1)، والممرض، والخائف من السلطان، أو الغريم وهو معسر، أو كان عليه قصاص مرجو العفو، أو كان عاريا، ونحو ذلك مما يشبه أن يكون عذرا، والله أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 55 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - (¬1)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ: خَمْسةً وَعِشْرِينَ ضِعْفاً؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ , فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إلا الصَّلاةُ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً؛ إلا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ , وَحُطَّ (¬2) (عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى؛ لَمْ تَزَلِ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ , اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ , وَلا يَزَالُ (¬3) فِي صَلاةٍ؛ مَا انْتَظَرَ الصَّلاةَ» (¬4). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: «صلاة الرجل في الجماعة» (¬1): هو في المرأة كذلك، حين يندب لها الخروج إلى المسجد؛ لأن وصف الرجولية بالنسبة إلى ثواب الأعمال غير معتبر شرعا (¬2)، وهو مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من أعتق شركا له في عبد» (¬3)، «من صلى كذا ...»، «من فعل كذا .. فله كذا» (¬4)، كله يتساوى فيه النساء والرجال بغير نزاع، والله أعلم. والألف واللام في (الرجل) ليست لتعريف ماهية الرجولية، بل ¬
هي للعموم من حيث المعنى، كما عم قوم الرجال والنساء في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105]، وإن كان لفظ (قوم) خاصا بالرجال دون النساء، والله أعلم. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «تضعف على صلاته في بيته، وفي سوقه»، المراد -والله أعلم-، صلاته في بيته وفي سوقه (¬1) منفردا، هذا هو الصواب، وإن كان قد قيل غيره، فإذا صلى في بيته أو في سوقه جماعة، حصل له هذا القدر من التضعيف إن شاء الله تعالى. نعم، رفع الدرجات، وحط الخطيئات مشروط بالمشي إلى المسجد، فمن فعل ذلك، حصل له ذلك، ومن لا، فلا. وأما التضعيف المذكور، فحاصل لصلاة الجماعة على الإطلاق، ويدل عليه حديث ابن عمر الذي قبل هذا الحديث، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة»، فرتب هذا الحكم على مطلق صلاة الجماعة، من غير زيادة على ذلك (¬2). الثالث: إحسان الوضوء: هو الإتيان به بفروضه وسننه وفضائله، والله أعلم، ويحتمل أن يكون المراد بإحسانه: الإتيان بفروضه ليس إلا، والأول أظهر. ¬
الرابع: قد يستلوح من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ثم خرج» عدم التقييد بالفورية، حتى لو توضأ تراخى خروجه لعذر، أو غير (¬1) عذر، لم يكن ذلك منقصا لأجره، والله أعلم، ولا؟ أبعد أن يكون عدم التراخي أولى، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] شامل لهذا وغيره من أنواع الخير، والله أعلم. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يخرجه إلا الصلاة»، ظاهرره، أو نصه اشتراط الخروج للصلاة، لا لأمر زائد عليها، حتى لو خرج لها، ولأمر آخر من غير العبادات، لم يحصل له رفع الدرجات، ولا حط الخطيئات، ونظيره حج من يخلط الحج بالتجارة أو غيرها من الأسباب الدنيوية، فإنه ليس كمن محض الخروج للحج، وكذلك الجهاد، وسائر العبادات. وفي رواية: «لا ينهزه إلا الصلاة» (¬2)، بفتح الياء والهاء، وبالزاي؛ أي: لا ينهضه أو لا يقيمه، وهي معنى قوله في الحديث الآخر: «لا يريد إلا الصلاة»، وما أحسن إسناد الفعل إلى الصلاة هاهنا، وجعلها هي المخرجة له، حتى كأنه لفرط (¬3) محافظته عليها، ورجاء ثوابها مجبر (¬4) على خروجه إليها، وكأن الصلاة هي الفاعلةَ الخروج، لا هو. ¬
السادس: كان القياس يقتضي أن يجوز في خطوة ثلاثة أوجه: الضم، والكسر، والفتح، كما هو في (جَذوة) وأشباهها، وقد قرئ بها؛ أعني: الأوجه الثلاثة في (جذوة) في السبع، على ما أصله أهل اللغة من أن كل ما كان على فَعْلَة لامه واو بعدها تاء التأنيث، جاز فيه (¬1) ثلاثة أوجه، لكنهم قالوا: الخطوة -بفتح الخاء-: هي الفَعْلَة، وبضمها: ما بين قدمي الماشي، وهي في هذا الموضع مفتوحة الخاء؛ لأن المراد: فعل الماشي، والله أعلم (¬2). السابع: الدرجة: واحدة الدرجات، وهي الطبقات من المراتب، والدُّرَجة -بضم الدال مثال (¬3) الْهُمَزَة -لغة في الدرجة، وهي المرقاة، قاله الجوهري (¬4). وانظر: هل الدرجة هنا على ظاهرها محسوسة؛ أي: رفعت له درجة في الجنة، فعلا منزله فيها، أو رفعت رتبته عند الله تعالى، فتكون معنوية؟ وهذا من الأشياء التي لا يقدم على القطع بها إلا لتوقف (¬5) من الشارع، وأما حط الخطيئة، فكأنه ظاهر في محورها من صحيفة السيئات، والله أعلم بحقيقة ذلك. ¬
الثامن: انظر: هل الملائكة الذين يصلون عليه هم الحفظة، أو غيرهم، أو هم وغيرهم؟ لم أقف في ذلك على شيء. فائدة تصريفية: الملائكة: جمع ملك: اسم لخلق من صفوة الله تعالى، وهو مشتق من الألوكة التي هي الرسالة، وكان أصله مألكا، بوزن مَعْفَلٍ (¬1)، فحول إلى ملأك بوزن مَفْعَلٍ، ثم سهلت همزته بعد التحريك بنقل حركتها إلى اللام الساكنة، فسقطت الهمزة، فبقي ملكا، كما ترى، ووزنه معْفَل (¬2)، فلما جمعوه، ردوا الهمزة، وتركوه محولا، فقالوا: ملائكة، ووزنه معافلة، ولو ردوه إلى أصله قبل التحويل، لقالوا: مآلكة، والله أعلم (¬3). التاسع: (ما) من قوله -عليه السلاة والسلام-: «ما دام في مصلاه» مصدرية ظرفية، أي: مدة دوام كونه في مصلاه، وكذلك (ما) من قوله: «ما انتظر الصلاة»؛ أي: مدة انتظار الصلاة. وقوله: «اللهم صل عليه، اللهم ارحمه»؛ أي: تقول: اللهم صل عليه (¬4)، والقول يحذف كثيرا في كلام العرب، قال الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24]؛ أي: ¬
يقولون: سلام عليكم، وقد تقدم الكلام على (اللهم) مستوفًى بما يغني عن الإعادة. العاشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة»، (في) هنا لمجاز الظرف؛ إذ الصلاة لا تكون ظرفا للمصلي حقيقة، فما ظنك بمن هو في حكم المصلي؟ والله أعلم. * * *
الحديث الثالث
الحديث الثالث 56 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاةُ الْعِشَاءِ , وَصَلاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا؛ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ، فَتُقَامَ , ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً، فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ , ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ، مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ؛ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الثقل: ضد الخفة، تقول منه: ثقل الشيء ثِقَلًا؛ مثل: صغر صغرا، فهو ثقيل، والثَّقَل -بالتحريك-: متاع المسافر وحَشَمه، ويقال: وجدت ثقلة في جسدي؛ أي: ثِقَلًا وفتورا، حكاه الكسائي، وثَقِلَةُ القوم -بكسر القاف-: أثقالهم، وأثقلت المرأة، فهي مُثْقِلٌ؛ أي: ثقل حملها في بطنها، قال الأخفش: صارت ذات ثقل؛ كما يقال: أَتْمَرْنَا؛ أي: صرنا ذوي تمر، وقولهم: ألقى عليهم مثاقيله؛ أي: مأونته (¬1). فقد تحصل من هذا أن الثقل يستعمل حقيقة، وذلك في الأجسام، ومجازا، وذلك في المعاني، ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة ¬
الفجر» (¬1)؛ أذ الصلاة ليست بجسم. ويؤخذ منه؛ أعني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أثقل الصلاة على المنافقين»: أن الصلوات (¬2) كلها ثقيلة عليهم؛ لما تمهد من أن «أفعل» للمشاركة والتفضيل، لا بد من حصول ثقل في غيرهما، حتى يكون العشاء والصبح أثقل عليهم منها، وفي قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة: 54] دليل على ذلك (¬3). وهذا كله في صلاة الجماعة، وإن لم تذكر؛ لقوة السياق الدال على ذلك، ألا ترى إلى قوله: «لأتوهما (¬4) ولو حبوا»، «ولقد هممت» إلى قوله: «لا يشهدون الصلاة»، كل ذلك مشعر بأن المقصود حضورهم إلى جماعة المسجد، وإنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين من غيرهما؛ لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما، وقوة الصارف عن الحضور. أما العشاء، فلأنها وقت الإيواء إلى البيوت، والاجتماع مع الأهل، واجتماع ظلمة الليل، وطلب الراحة من متاعب السعي بالنهار. وأما الصبح، فلأنها في وقت لذة النوم، فإن كانت في زمن البرد، ففي وقت شدته؛ لبعد العهد بالشمس؛ لطول الليل، وإن كانت ¬
في زمن الحر، فهو وقت البرد والراحة من أثر حر الشمس؛ لقرب العهد بها، فلما قوي الصارف عن الفعل، ثقلت على المنافقين. وأما المؤمن الكامل الإيمان، فهو عالم بزيادة الأجر لزيادة المشقة، لا سيما إن استحضر حديث: «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» (¬1)، ونحو ذلك من الأحاديث، فتصير هذه الأمور الشاقة على المنافق سائقة للمؤمن، وداعية له إلى الفعل، كما كانت صارفة للمنافق، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: «و (¬2) لو يعلمون ما فيهما»؛ أي: من الأجر والثواب، «لأتوهما ولو حبوا» (¬3). الثاني: المنافق: عبارة عنمن أظهر الإيمان، وأبطن الكفر، وهو مشتق من النافقاء، وهي أحد جحر (¬4) اليربوع، وذلك أنه يكتمها (¬5)، ويظهر غيرها، وهي موضع (¬6) ترفقه، فإذا أتي من قبل القاصعاء وهو ¬
الجحر الذي يقصع فيه؛ أي: يدخل، ضرب النافقاء برأسه فانتفق؛ أي: خرج، يقال منه: نفق اليربوع تنفيقا، ونافق؛ أي: أخذ في نافقائه (¬1). فكذلك (¬2) المنافق كتم خلاف ما أظهر، كما كتم اليربوع النافقاء، وأظهر القاصعاء، والله أعلم. الثالث: قد تقدم أن صلاة الجماعة في غير الجنمعة سنة مؤكدة عند الجمهور، وذهب عطاء، والأوزاعي، وأبو ثور، وابن المنذر، وابن خزيمة، وداود إلى أنها فرض عين؛ أخذا بظاهر هذا الحديث. فإن من قال: إنها فرض كفاية يقولون له: قد قام فرض الكفاية بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، ومن قال: إنها سنة، يقولون له: لا يقتل أحد بترك السنن، فتعين أن تكون فرضا على الأعيان. وأجاب الجمهور عنه؛ بأن هؤلاء المتخلفين كانوا منافقين، وسياق الحديث يقتضيه؛ فإنه لا يظن بالمؤمنين من الصحابة - رضي الله عنهم - التخلف والتقاعد عن صلاة الجماعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي مسجده. ويشهد له أيضا: ما جاء في الصحيح: «لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين، لشهد العشاء» (¬3)، وهذه ¬
ليست صفة للمؤمنين، لا سيما أكابر المؤمنين، وهم الصحابة. قالوا: وإذا كانت في المنافقين، كان التحريق للنفاق، لا لترك الجماعة، فبطل الدليل على العينية (¬1) (¬2). ع: وقد قيل: إن هذا في المؤمنين، وأما المنافقون، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معرضا عنهم، عالما بطوياتهم، كما أنه لم يعترضهم في التخلف، ولا عاتبهم معاتبة كعب وأصحابه من المؤمنين (¬3). ق: وأقول: هذا إنما يلزم إذا كان ترك معاقبة المنافقين واجبا على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فحينئذ يمتنع أن يعاقبهم بهذا التحريق. وأما أن نقول ترك عتاب (¬4) المنافقين وعقابهم كان مباحا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مخيرا فيه، فعلى هذا لا يتعين أن يحمل هذا الكلام على المؤمنين؛ إذ يجوز أن يكون في المنافقين لجواز معاقبته -عليه الصلاة والسلام- لهم (¬5)، وليس في إعراضه -عليه الصلاة والسلام- عنهم بمجرده، ما يدل على وجوب ذلك عليه، ولعل قوله -عليه الصلاة والسىلام-: عند ما طلب منه قتل بعضهم: «لا يتحدث الناس أن محمدا ¬
يقتل أصحابه» (¬1) مشعرا بما ذكرنا من التخيير؛ لأنه لو كان يجب عليه ترك قتالهم، لكان الجواب بذكر المانع الشرعي، وهو أنه لا يحل قتلهم. ومما يشهد لمن قال: إن ذلك في المنافقين -عندي-: سياق الحديث من أوله، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أثقل الصلاة على المنافقين»، ووجه آخر في تقرير كونه في المنافقين (¬2)؛ أن نقول: هم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتحريق يدل على جوازه، وتركه التحريق يدل على جواز هذا الترك، فإذن يجتمع جواز التحريق وجواز تركه في حق هؤلاء القوم، وهذا المجموع لا يكون في المؤمنين فيما هو حق من حقوق الله تعالى (¬3). قلت: ويقوي ذلك أيضا: ما في أبي داود عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ولقد رأيتنا و (¬4) ما يتخلف عنها إلا منافق بين النفاق، ولقد رأيتنا وإن الرجل ليهادى (¬5) بين الرجلين حتى يقام في الصف، الحديث (¬6). ¬
ع: والحديث حجة على داود، لا له؛؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هم، ولم يفعل؛ ولأنه لم يخبرهم: أن من تخلف عن الجماعة، فصلاته غير مجزئة، وهو موضع البيان (¬1). قلت: ومما يرد قول (¬2) داود: ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة»، وما تقرر من أن (أفعل) للمشاركة والتفضيل، فلولا أن في صلاة الفذ فضيلة، لما ساغ أن يقال: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ؛ لعدم المشاركة على ما تقدم تمهيده؛ إذ لا يجوز أن يجتمع (¬3) في الصلاة الواحدة الفضيلة وعدم الإجزاء. وبهذا أيضا يستدل على الإمام أحمد - رحمه الله تعالى- في إحدى الروايتين عنه: أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان (¬4)، غير شرط في صحة الصلاة؛ إذ لا تجتمع (¬5) الفضيلة والإثم في صلاة واحدة، مع ما قيل من أن الغالب أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها. ¬
وأيضا فقد اختلف في هذه الصلاة التي هم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعاقبة عليها: فقيل: العشاء، وقيل: الجمعة، وقد وردت المعاقبة على كل واحدة منهما مفسرة في الحديث، وفي بعض الروايات: العشاء (¬1)، والفجر، فإذا كانت هي الجمعة، والجماعة شرط فيها، لم يتم الدليل على وجوب الجماعة مطلقا في غير الجمعة. ق: وهذا يحتاج إلى أن ينظر في تلك الأحاديث التي بينت فيها تلك الصلاة؛ أنها الجمعة، أو العشاء، أو الفجر. فإن كانت أحاديث مختلفة، قيل بكل واحد منها. وإن كانت (¬2) حديثا واحدا اختلف فيها، فقد يتم هذا الجواب؛ إن عدم الترجيح بين بعض تلك الروايات وبعض، وعدم إمكان أن يكون الجمع مذكورا، ترك بعض الرواة بعضه؛ بأن يقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد إحدى الصلاتين -أعني: الجمعة، أو العشاء- مثلا، فعلى تقدير أن تكون هي الجمعة، لا يتم الدليل، وعلى تقدير العشاء، يتم، فإذن (¬3) تردد الحال، وقف الاستدلال. وما ينبه عليه هاهنا: أن هذا الوعيد بالتحريق إذن ورد في صلاة معينة، وهي العشاء، أو الجمعة، أو الفجر، فإنما يدل على وجوب ¬
الجماعة في هذه الصلاة، فمقتضى (¬1) مذهب الظاهرية أن لا يدل على وجوبها في غير هذه الصلوات؛ عملا بالظاهر، وترك اتباع المعنى، اللهم إلا أن يأخذ قوله -عليه الصلاة والسلاىم- «أن آمر بالصلاة فتقام» على عموم الصلاة، فحينئذ يحتاج في ذلك إلى اعتبار لفظ الحديث وسياقه، وما يدل عليه، فيحمل (¬2) لفظ الصلاة عليه، إن أريد التحقيق وطلب الحق، والله أعلم انتهى (¬3). قلت: وأما ما روى أبو داود عن ابن أم مكتوم: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني؛ أي: لا يوافقني ولا يساعدني، فهل [لي] رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: «فهل تسمع النداء؟» قال: نعم، قال: «لا أجد لك رخصة» (¬4)، فمؤول على أنه لا رخصة لك؟ إن طلبت فضل الجماعة؛ وأنك (¬5) لا تحرز أجرها مع التخلف عنها بحال. ¬
الرابع: قيل؟: في هذا الحديث دليل على أن العقوبة كانت في أول الأمر بالمال؛ لأن تحريق البيوت عقوبة مالية. وقال بعضهم: أجمع على منع العقوبة في غير المتخلف عن الصلاة، والغال (¬1) من الغنيمة، واختلف السلف فيهما، والجمهور على منع منع تحريق متاعهما (¬2). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «ثم آمر رجلا فيصلي (¬3) بالناس»: فيه: دليل استخلاف الإمام عند عروض الحاجة، وإنما هم بإتيانهم بعد إقامة الصلاة؛ لأن ذلك الوقت تتحقق مخالفتهم وتخلفهم (¬4). وفيه: جواز الانصراف عند إقامة الصلاة لعذر (¬5). وفيه: تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وسره: أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزواجر، اكتفي به (¬6) عن الأعلى (¬7). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «فأحرق عليهمم بيوتهم بالنار»: ¬
ظاهره: أنه أراد قتلهم، وحرقهم بالنار، إذ لو لم يرد ذلك، لقال: فأحرق بيوتهم، ولم يقل: عليهم، وهو يقوي ما تقدم من أن المراد بهم المنافقون؛ إذ المؤمن لا يقتل لترك صلاة الجماعة إجماعا. وانظر وجه الجمع بين هذا الحديث، وحديث النهي عن التعذيب بالنار؛ فتإنه -عليه الصلاة والسلام- لا يهم إلا بما يجوز، وقد تقرر أن المعنى على قصد تحريقهم، وقتلهم بالتحريق، لا تحريق البيوت خاصة، إلا أن تقول: إن حديث النهي عن التعذيب بالنار ناسخ لهذا الحديث، فتحتاج إلى دليل يدل على ذلك؛ إذ النسخ على خلاف الدليل، والله أعلم. * * *
الحديث الرابع
الحديث الرابع 57 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ، فَلا يَمْنَعُهَا. قَالَ: فَقَالَ بِلالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَاَللَّهُ! لَنَمْنَعَهُنَّ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ , فَسَبَّهُ سَبّاً سَيِّئاً , مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ , وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَتَقُولُ: وَاَللَّهُ لَنَمْنَعَهُنَّ!! (¬1). ¬
وَفِي لَفْظٍ: «لا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» (¬1). * * * ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: (استأذن): استفعل من الإذن، يقال: أذن له في الشيء إذنا -بكسر الهمزة وسكون الذال- يقال: إيذن لي على الأمير، واستأذن لي -أيضا-، ومنه حديث: «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع» (¬1)، ويكون أذن -أيضا- بمعنى: علم، ومنه قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 275]، وأذن له -بكسر الذال- أَذَنًا -بفتح الهمزة والذال-: استمع منه، ومنه حديث: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن» (¬2). وقال قعنب بن أم صاحب: إِنْ يَسْمَعُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا ... عَنِّي، وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا صُمٌّ إِذا سَمِعُوا خَيْلاًا ذُكِلاْتُ بِهِ ... وَإنْ ذُكِرْتُ بِشَرٍّ عِنْدَهُمْ أَذَنُوا (¬3) ¬
أي: أصغوا، واستمعوا. الثاني: قد تقدم أنه يقال: امرأة ومرأة -بالهمز-، ومراة -بغير همز-، وتقدم (¬1) -أيضا-: أنه يقال: مسجِد ومسجَد -بكسر الجيم وفتحها- ومسيِد (¬2) على ما تبين ثَم. الثالث: الحديث نص صريح في النهي عن منع النساء من المساجد عند استئذانهن الأزواج، وينبغي أن يحمل عليه إذن السيد لأمته، لكن قيل: إن النهي هنا نهي تنزيه لا تحريم. وقد اشترط العلماء في خروج النساء شروطا، قد يوجد أكثرها في الحديث: أن لا تكون متطيبة، ولا متزينة، بل تلبس أدنى ثيابهان وأن يكون ذلك في أطراف النهار. وفي كتاب «مسلم»: «لا تمنعوا النساء الخروج إلى المساجد بالليل» (¬3)، وأن لا تكون ممن يفتتن بها، وأن لا تكون ذات خلخال يسمع صوته، وأن تأخذ أطراف الطريق دون وسطه؛ كي لا تختلط بالرجال، وأن لا يخاف في طريقها مفسدة، وينبغي أن يزاد: وأن لا ترفع صوتها في (¬4) غير ضرورة، وأن لا يظهر منها ما يجب ستره. ¬
وبالجملة: فمدار هذا كله على المعنى، فما اقتضاه المعنى من المنع، جعل خارجا عن الحديث، وخصص به العموم (¬1). فإن (¬2) لم يكن لها زوج، ولا سيد، فهل يجوز لها الخروج عند اجتماع هذه الشروط، أم لا؟ وهل يحرم منعهن، أو لا؟ لم أقف فيه على نص لأصحابنا، وهل يحرم منعهن أو لا؟ (¬3)، وفي بعض كتب الشافعية تحريم المنع، وهو الظاهر؛ لأنهت يلزم من النهي عن منعهن إباحة الخروج لهن؛ لأنه لو كان ممتنعا، لم ينه الرجال عن منعهن منه (¬4)، وقد حمل بعضهم قول عائشة - رضي الله عنها - في «الصحيح»: لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أحدث النساء بعده، لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل (¬5)؛ على هذا (¬6) تعني: إحداث حسن الملابس، والزينة، والطيب. ق: وقيل: إن في الحديث دليلا على أن للرجل منع امرأته من الخروج إلا بإذنه، وهذا إن أخذ من تخصيص النهي بالخروج إلى ¬
المساجد، وأن ذالك يقتضي بطريق المفهوم جواز المنع في غير المساجد. فقد (¬1) يعترض عليه بأن هذا تخصيص الحكم باللقب، ومفهوم اللقب ضعيف عند أهل الأصول (¬2). قلت: ولقائل أن يقول: إن المسجدية معنى مناسب؛ بمافيها من كونها محلا للعبادة، فلا يمنع القاصدات من التعبد فيها، ومفهوم اللقب إنما ضعف؛ لعدم رائحة التعليل فيه، والتعليل هنا موجود، فلا يكون ذالك من مفهوم اللقب، فسقط هذا الاعتراض. قال: ويمكن أن يقال في هذا: إن منع الرجال من الخروج مشهور معتاد، وقد قُرروا عليه، وإنما علق الحكم بالمساجد؛ لبيان محل الجواز، وإخراجه عن المنع المستمر المعلوم، فيبقى ما عداه على المنع، وعلى هذا، فلا يكون منع الرجل للخروج (¬3) امرأته لغير المسجد مأخوذا من تقييد الحكم بالمسجد. ويمكن أن يقال فيه (¬4) وجه آخر: وهو أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (¬5) مناسبة تقتضي الإباحة؛ ¬
أعني: كونهن إماء الله بالنسبة إلى خروجهن إلى مساجد الله، ولهذا كان التعبير بإماء الله أوقع (¬1) في النفس من التعبير بالنساء لو قيل، وإذا كان مناسبا، أمكن أن يكون علة الجواز، فإذا انتفى، انتفى الحكم؛ لأن الحكم يزول بزوال علته. وأخذ من إنكار عبد الله بن عمر على ولده، وسبه إياه: تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيرا في تغيير المنكر، وتأديب العالم من يتعلم عنده إذا تكلم عنده بما لا ينبغي. وقوله: «فقال بلال بن هعبد الله» هذه رواية ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله. وفي رواية ورقاء بن عمر، عن مجاهد، عن ابن عمر: فقال ابن له يقال له: واقد (¬2)، لعبد الله أبناء منهم: بلال، ومنهم: واقد. انتهى (¬3). وفي رواية: فزبره (¬4)، قال صاحب «الأفعال» (¬5): زبرت الكتاب: ¬
كتبته، والشيء: قطعته، والرجل (¬1)، والبئر: طويتها بالحجارة؟ (¬2). وفي رواية: فضرب في صدره (¬3). وفي أيضا: نفي التحسين والتقبيح العقلي، وإثبات أن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، دون ما خبث في النفس والطبع، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 58 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ , وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ, وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ , وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ , وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ (¬1). وَفِي لَفْظِ: فَأَمَّا الْمَغْرِبُ، وَالْعِشَاءُ، وَالْجُمُعَةُ؛ فَفِي بَيْتِهِ (¬2). [ص: 62] وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬
كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَمَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ؛ وَكَانَتْ سَاعَةً لا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا (¬1). * * * اعلم: أن هذا الحديث يتعلق الكلام فيه بأحكام السنن الرواتب قبل الفرائض، وبعدها، وسر مشروعيتها، وغير ذلك، وقد تكلم ق ¬
على ذلك كلاما حسنا اقتضى الحال عندي أن أذكره بنصه، وأزيد عليه ما حضرني؛ لتكمل الفائدة فيه إن شاء الله تعالى. قال - رحمه الله - في تقديم السنن على الفرائض وتأخيرها عنها معنى لطيف مناسب. أما في التقديم، فلأن الإنسان يشتغلب بأمور الدنيا وأسبابها، فتتكيف النفس من ذلك بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة، والخشوع فيها الذي هو روحها، فإذا قدمت السنن على الفريضة؟، تأنست النفس بالعبادة، وتكيفت بحالة تقرب من الخشوع فيدخل (¬1) في الفرض على حالة حسنة لم تكن تحصل له لو لم يقدم السنة؛ فإن النفس مجبولة على التكيف بما هي فيه، لا سيما إذا كثر؟، أو طال، وورود الحالة المنافية لما قبلها قد تمحو أثبر الحالة السابقة، أو تضعفه. وأما السنن المتأخرة، فقد ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض، فإذا وقع الفرض، ناسب أن يكون بعده ما يجبر خللا فيه إن وقع. وقد اختلفت الأحاديث في أعداد ركعات الرواتب فعلا وقولا، واختلفت مذاهب الفقهاء في الاختيار لتلك الأعداد، والمروي عن مالك - رحمه الله -: أنه لا يوقت في ذلك. ¬
قال ابن القاسم صاحبه: وإنما يوقت في هذا أهل العراق. قال: والحق -والله أعلم- في هذا الباب؛ أعني: -ما ورد فيه أحاديث بالنسبة إلى التطوعات والنوافل المرسلة-: أن كل حديث صحيح دل على استحباب عدد من هذه الأعداد، أو (¬1) هيئة من الهيئات، أو نافلة من النوافل، يعمل به في استحبابه. ثم تختلف مراتب ذلك المستحب، فما كان الدليل دالا على تأكده؛ إما بملازمته فعلا، أو بكثرة فعله، وإما بقوة دلالة اللفظ على تأكد الحكم فيه، وإما بمعاضدة حديث آخر له، أو أحاديث فيه بعلو مرتبته في الاستحباب. وما نقص عن ذلك، كان بعده في الرتبة، وما ورد فيه حديث لا ينتهي إلى الصحة، فإن كان حسنا، عمل به، إن لم يعارضه صحيح أقوى منه، وكانت مرتبته ناقصة عن هذه المرتبة الثانية، أعني: الصحيح الذي لم يدم عليه، أو لم يؤكد اللفظ في طلبه. وما كان ضعيفا، لا يدخل في حيز الموضوع، فإن أحدث شعارا في الدين، منع منه، وإن لم يحدث، فهو محل نظر. يحتمل أن يقال: إنه مستحب؛ لدخوله تحت العمومات المقتضية لفعل الخير، واستحباب الصلاة. ويحتمل أن يقال: إن هذه الخصوصيات بالوقت، أو بالحال، والهيئة، والفعل المخصوص، يحتاج إلى دليل خاص يقتضي استحبابه ¬
بخصوصه، وهذا أقرب، والله أعلم. وهاهنا تنبيهات: الأول: إنا حيث قلنا في الحديث الضعيف: إنه يحتمل أن يعمل به؛ لدخوله تحت العمومات، فشرطه: أن لا يقوم دليل على المنع منه أخص من تلك العمومات، مثاله: الصلاة المذكورة في ليلة أول جمعة من رجب، لم يصح فيها الحديث، ولا حسن، فمن أراد فعلها إدراجا لها (¬1) تحت العمومات الدالة على فضل الصلاة والتسبيحات، لم يستقم؛ لأنه قد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام، وهذا أخص من العمومات الدالة على فضيلة مطلق الصلاة. الثاني: إن هذا الاحتمال الذي قلاناه؛ من جواز إدراجه تحت العمومات، نريد به: في الفعل، لا في الحكم، باستحباب ذلك الشيء المخصوص بهيئته الخاصة؛ لأن الحكم باستحبابه على هيئته الخاصة يحتاج دليلا شرعيا عليه ولا بد؛ بخلاف ما إذا فعل بناء على أنه من جملة الخيرات التي لا تختص بذلك الوقت، ولا بتلك الهيئة، فهذا (¬2) الذي قلنا باحتماله. الثالث: قد منعنا إحداث ما هو شعار في الدين، ومثاله: ما أحدثه الروافض من عيد ثالث سموه: عيد الغدير (¬3)، وكذلك ¬
الاجتماع وإقامة شعاره في وقت مخصوص على شيء لم يثبت شرعا، وقريب من ذلك أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجه مخصوص، فيريد بعض الناس أن يحدث فيها أمرا آخر لم يرد به الشرع، زاعما أنه يدرجه تحت عموم، فهذا لا يستقيم؛ لأن الغلب على العبادات (¬1) التعبد، ومآخذها التوقيف، وهذه الصورة حيث لا يدل دليل على كراهة ذلك المحدث أو منعه، فأما إذا دل، فهو أقوى في المنع، وأظهر من الأول. ولعل مثال ذلك: ما ورد من رفع اليد في القنوت؛ فإن قد صح رفع اليد في الدعاء مطلقا، فقال بعض الفقهاء برفع اليد في القنوت؛ لأنه دعاء، فيندرج تحت الدليل الذي يقتضي استحباب رفع اليد في الدعاء. وقال غيره: يكره؛ لأن الغالب على هيئة العبادة التعبد والتوقف، والصلاة تصان عن زيادة عمل غير مشروع فيها، فإذا لم يثبت الحديث في رفع اليد بالقنوت (¬2)، كان الدليل الدال على صيانة الصلاة عن العمل الذي لم يشرع أخص من الدليل الدال على رفع اليد في الدعاء. الرابع: ما ذكرناه من المنع، تارة يكون منع تحريم، وتارة يكون منع كراهة، ولعل ذلك يختلف بحسب ما يفهم من نفس الشارع من ¬
التشديد في الابتداع بالنسبة إلى ذلك الجنس، أو التخفيف، ألا ترى أنا إذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بأمور الدنيا لم تساو البدعة المتعلقة بأمور الأحكام الفرعية؟ ولعنلها -أعني: البدع المتعلقة بأمور الدنيا- لا تكره أصلا، بل كثير منها يجزم فيه بعدم الكراهة، وإذا (¬1) نظرنا إلى البدع المتعلقة بالأحكام الفرعية لم تكن مساوية للبدع المتعلقة بأصول (¬2) العقائد، فهذا ما أمكن ذكره في هذه المواضع، مع كونه من المشكلات القوةية؛ لعدم الضبط فيه (¬3) بقوانين (¬4) تقدم ذكرها للسابقين. وقد تباين الناس في هذا الباب تباينا شديدا، حتى بلغني أن بعض المالكية -قلت: وأظن أبا القاسم الحسن بن الحباب (¬5) - رحمه الله تعاالى- مر في ليلة من إحدى ليلتي الرغائب- أعني: التي في رجب، أو التي في شعبان بقوم يصلونها، وقوم عاكفين على محرم، فحسن حال العاكفين على المحرم على حال المصلين لتلك الصلاة، وعلل ذلك: بأن العاكفين على المحرم عالمون بأنهم مرتكبون للمعصية، فيرجى لهم الاستغفار والتوبة، والمصلون لتلك الصلاة -مع امتناعها عنده- يعتقدون أنهم في طاعة، فلا يتوبون ولا يبستغفرون. ¬
قلن: ومثل ذلك ما يفعله بعض جهلة الفقراء من السماع لآلات الباطل، وحضور الشباب (¬1) المرد الحسان الوجوه، الفتانين في الغالب، وربما كان القوال (¬2) منهم -أعني: من الشباب (¬3) -، وسجود بعضهم لبعض، والرقص بالتثني والانعطاف، والصراخ المزعج، وربما كانت النسوان مشرفات عليهم، أو مختلطات بهم في هذه الحال، معتقدين أنهم في ذلك من المطيعين لله تعالى، متقربين إليه بذلك، فهؤلاء -أيضا- أولى بأن يقال فيهم: إن من عكف على محرم أخف حالا منهم؛ لما تقدم، والله أعلم. ثم قال: والتباين في هذا يرجع إلى الحرف الذي ذكرناه، وهو إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات، أو طلب دليل خاص على ذلك الشيء. قال: وميل المالكية إلى هذا الثاني، وورد عن السلف الصالح ما يؤيده في مواضع، ألا ترى أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال في صلاة الضحى: إنها بدعة؛ لأنه لم يثبت عنده فيها دليل، ولم ير إدراجها تحت عمومات الصلاة؛ لتخصيصها بالوقت، وكذلك (¬4) قال في القنوت الذي كان يفعله الناس في عصره: إنها بدعة، ولم ير إدراجه تحت عمومات الدعاء. ¬
وكذلك ما روى الترمذي من قول عبد الله بن المغفل لابنه في الجهر بالبسملة: إياك والحدث (¬1)، ولم ير إدراجه تحت دليل عام. قلت: قوله: في الجهر بالبسملة: ليس النهي عن مجرد الجهر، بل النهي عن زيادة البسملة في أول الفاتحة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا لم يكونوا يقرؤون بها؛ كما جاء مصرحا به في «الصحيح» (¬2)، والله أعلم. ثم قال: وكذلك ما جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - فيما خرجه الطبراني بسنده عن قيس بن أبي حازم، قال: ذكر لابن مسعود قاص يجلس بالليل، ويقول للناس: قولوا كذا، وقولوا كذا، فقال: إذا رأيتموه، فأخبروني، قال: فأخبروه، فجاء عبد الله متقنعا، فقال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا عبد الله بن مسعود، تعلمون أنكم لأهدى (¬3) من هدي (¬4) محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، يعني: وإنكم لمتعلقون بذنب ضلالة (¬5)، وفي (¬6) رواية: لقد جئتم ببدعة، أو ¬
لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علما (¬1). فهذا ابن مسعود أنكر هذا الفعل مع إمكان إدراجه تحت عموم فضيل الذكر، على أن ما حكيناه في القنوت والجهر بالبسملة من باب الزيادة في العبادات (¬2). الخامس: ق: ذكر المصنف حديث ابن عمر (¬3) في باب: صلاة الجماعة، وليس (¬4) تظهر له مناسبة، فإن كان أراد أن قول ابن عمر: «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معناه: أنه اجتمع معه في الصلاة، فليست الدلالة على ذلك قوية؛ فإن المعية مطلقا أعم من المعية في الصلاة، وإن محتملا. ومما يقتضي أنه لم يرد ذلك: أنه أورد عقبه حديث عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتب الفجر. وهذا لا تعلق له بصلاة الجماعة، انتهى (¬5). ¬
قلت: وهذا اعتراض (¬1) صحيح كما قال الشيخ - رحمه الله تعالى-. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 59 - عنْ عائِشَةَ رضِيَ اللهُ عنْها، قالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - على شيءٍ منَ النَّوافِلِ أَشَدَّ تَعاهُدَاً منْهُ على ركْعَتَي الفَجْرِ (¬1). وفي لفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «رَكْعَتا الفَجْرِ خيرٌ منَ الدُّنيا وما فيها» (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: النوافل: جمع نافلة، وأصلها في اللغة: عطية التطوع، والنافلة أيضا: ولد الولد (¬1). والتعاهد: المحافظة على الشيء، وتجديد العهد به، والتعهد مثله. قال الجوهري: وتعهدت فلانا، وتعهدت ضيعتي، وهو أفصح من (¬2) تعاهدته؛ لأن التعاهد إنما يكون بين (¬3) اثنين (¬4). الثاني: في الحديث دليل على تأكد ركعتي الفجر. وفيه: أنهما غير واجبتين؛ لقول عائشة - رضي الله عنها -: من النوافل، خلافا للحسن القائل بوجوبهما على ما نقله ع (¬5)، مع قول الأعرابي: هل علي غيرها؟ وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا، إلا أن تطوع» (¬6). ¬
وقد اختلف أصحابنا فيها، هل هي سنة، أو رغيبة؟ الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»، قيل: معناه: خير من متاع الدنيا. قلت: وفي هذا التفسير نظر؛ فإنه قد جاء في الحديث الآخر: «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله» الحديث (¬1) (¬2)، و «خير» هنا: أفعل التفضيل، وهي تقتضي (¬3) المشاركة في الأصل والزيادة (¬4)؛ كما تقرر، ولا مشاركة بين فضيلة ركعتي الفجر ومتاع الدنيا المخبر عنه؛ لأنه ملعون، ويبعد أن يحمل كلام الشارع على ما شذ من قولهم: العسل أحلى من الخل، إلا أن يقال: إن المعنى: ما يحصل من نعيم ثواب ركعتي الفجر في الدار الآخرة خير من جميع ما يتنعم (¬5) به في الدنيا، فترجع المفاضلة إلى ذات النعيم الحاصل في الدارين، لا إلى نفس ركعتي الفجر، ومتاع الدنيا، والله أعلم. ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رِيَاضُ الأَفْهَامِ فِي شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 7 - 13 - 418 - 9933 - 978 ISBN دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالِب سوريا - دمِشق ص. ب: 34306 لبنان - بِيروت ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com
باب الأذان
بابُ الأَذانِ الحديث الأول 60 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ , وَيُوتِرَ الإِقَامَةَ (¬1). ¬
قال أهل اللغة: أصل الأذان: الإعلام، والأذان للصلاة (¬1) معروف، ويقال (¬2): أذان، وتأذين، وأذين، هكذا ذكره الهروي في «غريبه». وقال: قال (¬3) شيخي: الأذين: المؤذن المعلم بأوقات الصلاة، فَعيل، بمعنى: مُفَعِّل. قال الأزهري (¬4): أَذَّنَ المؤذن تأذينا، وأذانا؛ أي: أعلم الناس بوقت الصلاة، فوضع الاسم موضع المصدر. قال: وأصله من الأذن، كأنه يلقى في آذان (¬5) الناس بصوته ما يدعوهم إلى الصلاة (¬6). فائدة نفيسة: ع: اعلم أن الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان، مشتمل على نوعية من العقليات والسمعيات. ¬
فأوله إثبات الذات، وما يستحقه من الكمال والتنزيه عن أضدادها، وذلك بقوله: الله أكبر، وهذه اللفظة -مع اختصار لفظها- دالة على ما ذكرناه، ثم صرح بإثبات الوحدانية، ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد، المقدمة على كل وظائف الدين. ثم صرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة (¬1) لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وهذه قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية، وموضعها بعد التوحيد؛ لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات، وبعد هذه القواعد كملت (¬2) العقائد العقليات فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقه سبحانه وتعالى. ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات، فدعا إلى الصلاة، فجعلها (¬3) عقب إثبات النبوة؛ لأن معرفة وجوبها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا من جهة العقل. ثم دعا إلى الفلاح، وهو الفوز والبقاء في النعيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة؛ من البعث، والجزاء، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام. ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة؛ للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمن لتأكد الإيمان، وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان، ¬
وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره، وبصيرة من إيمانه، ويستشعر عظيم ما دخل فيه، وعظمة حق من يعبده، وجزيل ثوابه، انتهى (¬1). قال العلماء: الأصل في الأذان: ما روى عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - (¬2) قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحينون الصلوات، ليس ينادى بها، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بوقا مثل بوق اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بلال! قم فناد بالصلاة» رواه البخاري، ومسلم (¬3). قال ع: ظاهره أنه إعلام ليس على صفة الأذان الشرعي، بل إخبار بحضور وقتها (¬4). قلت: وهذا متعين؛ لحديث عبد الله بن زيد الآتي الآن، وعن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري - رضي الله عنه -، قال: لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل، ليضرب به للناس (¬5) لجمع الصلاة، طاف بي طائف ¬
وأنا نائم، رجل يحمل ناقوسا بيده (¬1)، فقلت: يا عبد الله! أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، فقال (¬2): أولا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى، قال (¬3): تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر (¬4)، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: تقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة (¬5)، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: فلما أصبحت، أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته بما رأيت، فقال: «إنها رؤيا حقٍّ -إن شاء الله تعالى-، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به؛ فإنه أندى منك صوتا» (¬6)، فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه، ويؤذن به، فسمع بذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو في بيته، فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق! لقد رأيت مثل ¬
ما رأى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فلله الحمد»، رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬1). وروى الترمذي بعضه بطريق أبي داود، وقال: حسن صحيح، وقال في آخره: «ففله الحمد». وذلك أثبت. ح: وهذا ظاهره أنه كان في مجلس آخر، فيكون الواقع الإعلام أولا، ثم رأى عبد الله بن زيد الأذان، فشرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك (¬2) إما بوحي، وإما باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - على مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد له - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو عملا بمجرد المنام، هذا ما لا يشك فيه بلا خلاف، والله أعلم. قال الترمذي: ولا يصح لعبد الله بن زيد بن عبد ربه هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء غير حديث الأذان، وهو غير عبد الله بن زيد بن عاصم المازني. ذاك له أحاديث كثيرة في «الصحيحين» (¬3). فائدة: ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشاء: إظهار شعار (¬4) الإسلام، وكلمة التوحيد، والإعلام بدخول وقت الصلاة وبمكانها، والدعاء إلى الجماعة (¬5). ¬
قد اختلف العلماء في حكم الأذان والإقامة، والذي نقله العراقيون عن مذهبنا: أنهما سنتان، وبذلك قال أبو حنيفة والشافعي - رضي الله عنهما -. ونقل جماعة من متأخري الأندلسين والقرويين: أن الأذان فرض كفاية على كل أهل بلد، فإن تركوه، أثموا، وقوتلوا عليه إن امتنعنا عن (¬1) فعله، وإن فعله أحدهم، سقط عن سائرهم. قالوا: وهذا الوجوب لإقامة شعار (¬2) الإسلام. قالوا: وهو مع ذلك سنة مؤكدة في مساجد الجماعات ومواضع الأئمة، وحيث يوجد الدعاء للصلاة. واختار القاضي أبو الوليد: أنه واجب على الكفاية في المساجد وجماعات الراتبة، وعلل الوجوب بوجهين، إقامة الشعار، وتعريف الأوقات؛ إذ لا يجوز إهمالها. وقال أحمد بن حنبل: الأذان والإقامة على أهل الأمصار فرض على الكفاية، إذا قام بهما بعضهم، أجزأ عن جميعهم. ع: وظاهر قول مالك في «الموطأ» أنه على الوجوب في الجماعتا والمساجد -يعني: الأذان-، وقال به بعض أصحايبهنا أنه فرض على الكفاية، وهوة قول بعض أصحاب الشافعي. وقال الأوزاعي، وداود في آخرين: هو فرض، ولم يفصلوا. ¬
وروى الطبري عن مالك: إن ترك أهل المصر الأذان عامدين، أعادوا الصلاة. وذهب بعضهم، ومعظم أصحابنا: إلى أنه سنة، والأول هو الصحيح؛ لأن إقامة السنن الظاهرة واجبة على الجملة (¬1) حتى لو ترك ذلك أهل بلد، لجوهدوا حتى يقيموها. وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يختلفوا أن الأذان واجب في الجملة على أهل المصر (¬2)؛ لأنه شعار الإسلام (¬3)، قال بعض شيوخنا: أما لهذا الوجه، ففرض على الكفاية، وهو أكثر مقصود هذا (¬4) الأذان؛ إذ كان -عليه الصلاة والسلام- إذا غزا، فإن سمع أذانا، أمسك، وإلا أغار، فإذا قام به على هذا الوجه واحد في المصر، وظهر الشعار، سقط الوجوب. وبقي المعنى الثاني لتعريف الأوقات، وهو المحكي فيه الخلاف عن الأئمة، والذي اختلف لفظ مالك وبعض أصحابه في إطلاق الوجوب عليه. فقيل: معناه: وجوب السنن المؤكدة، كما جاء في غسل الجمعة، والوتر، وغيرهما. ¬
وقيل: هو على ظاهره من الوجوب على الكفاية؛ إذ معرفة الأوقات فرض، وليس كل أحد يقدر على مراعاتها، فقام به بعض الناس عن بعض، وتأويل هذا قول الآخرين: سنة؛ أي: ليس من شرط صحة الصلاة؛ كقولهم في ستر العورة وإزالة النجاسة، انتهى (¬1). قال ابن هبيرة: واتفق الأئمة الأربعة: على أن النساء لا يشرع في حقهن الأذان، ولا يسن، ثم اختلفوا في الإقامة، هل تسن في حقهن أم لا؟. فقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: لا تسن لهن الإقامة. قلت: وقال ابن القاسم (¬2) صاحب مالك: إن أقمن، فحسن (¬3). ثم قال: وقال الشافعي: تسن لهن، والله أعلم (¬4). فصل: وقد اختلف العلماء أيهما أفضل، الأذان، أو الإمامة؟ فقال الإمام أبو عبد الله المازري: احتج من قال بأن الإمامة أفضل بأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يؤم، ولم يكن يؤذن، وما كان - صلى الله عليه وسلم - يقتصر على الأدنى ويترك الأعلى، واعتذر عن ذلك: بأنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الأذان؛ لما يشتمل عليه من الشهادة له بالرسالة، والتعظيم لشأنه، فترك ذلك إلى غيره. ¬
وقيل: إنما ترك ذلك؛ لأن فيه الحيعلة، وهو الأمر بالإتيان إلى الصلاة، فلو أمر في كل صلاة بإتيانها، لما استخف أحد ممن سمعه التأخر (¬1)، وإن دعته الضرورة إليه، وذلك مما يشق. وقيل أيضا: لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - في شغل عنه بأمور المسلمين، وعن مراعاة أوقاتهم، وقد قال عمر - رضي الله عنه -: لو أطقت الأذان مع الْخِلِيفى، لأذنت (¬2). والخليفى: الخلافة. ع: وذهب أبو جعفر الداودي إلى معنى قول عمر في هذا: أنه في أذان الجمعة؛ لأن الأذان إنما يكون بين يدي الإمام فيها، والإمامة للخليفة، فلا يتقدم الأذان لذلك. قال: هذا معنى (¬3) كلام الداوودي. انتهى كلام ع (¬4). قلت: وقد ذكر ابن العربي في «القبس» (¬5): أنه -عليه الصلاة والسلام- أذن، ولفظه: أذن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأقام، وصلى، فتعين الكل بفعله، ثم سقط الوجوب في الأذان عن الفذ، إلى آخر كلامه. ¬
فصل: قال أصحابنا: ومشروعية الأذان في حق المصلين جماعة في مفروضة مؤداة قصدا (¬1) الدعاء إليها. فقولنا: جماعة، تحرز من الفذ (¬2)، وإن كان المتأخرون استحبوا الأذان للمسافر، وإن كان منفردا لحديث أبي سعيد. وقولنا: في مفروضة، تحرز مما عداها من النوافل والسنن. وقولنا: مؤداة، تحرز من الفائتة؛ فإنه لا يؤذن لها؛ لأن ذلك يزيدها فوتا (¬3). وقولنا: قصد الدعاء إليها، تحرز من جماعة لا يريدون دعاء غيرهم إليهم، والفذ كذلك. وقد قيل: إن أذنوا، فحسن، فقيل: اختلاف، وقيل: بل لا يؤمرون بالأذان كما تؤمر به الأئمة في مساجد الجماعات، وإن أذنوا، فهو ذكر، والذكر لا ينهى عنه من أراده، لا سيما إذا كان من جنس المشروع، فليس ذلك باختلاف. واختلف في الأذان للصلاة إذا جمعت على ثلاثة أقوال: فقيل: بأذان واحد وإقامتين، وقيل: بإقامتين بلا أذان، وثالثها المشهور: يؤذن لكل واحد منهما، ويقام. وأما الإقامة، فمشروعة في كل فرض عموما؛ أداء كانت أو ¬
قضاء، حتى النساء على المشهور كما تقدم. واستحسن إسرار المنفرد بالإقامة. ويرفع المؤذن صوته بالتكبير ابتداء على المشهور، ويقول بعد الشهادتين (¬1) مثنى أخفض منه، ولا يخفيهما (¬2) جدا، ثم يعيدهما رافعا صوته أكثر من الأولى، وهو الترجيع ويثني: الصلاة خير من النوم في الصبح على المشهور، وهو التثويب، ومشروعيته في أذان الصبح على العموم. وحكي عن مالك - رحمه الله تعالى-: أنه قال: من كان في ضيعة متنحيا عن الناس أرجو أن يكون من تركها في سعة. ويفرد: قد قامت الصلاة، على المشهور، فتكون عشر كلمات. والقيام والاستقبال مأمور بهما في الأذان. وأنكر مالك أذان القاعد إلا من عذر، فيؤذن لنفسه، وقيل: بالجواز؛ لأنه ذكر. ويجوز راكبا، ولا يقيم إلا نازلا على المشهور. ولم يسمع الأذان إلا موقوفا، غير معرب في مقاطعه؛ بخلاف الإقامة. ولا يتكلم في الأذان، ولا في الإقامة، ولا يرد سلاما، ولو بالإشارة؛ بخلاف الصلاة. ¬
وقيل: يرد إشارة، ولا ينبغي لأحد أن يسلم عليه حتى يفرغ. قالوا: وكذلك لا ينبغي أن يسلم على الملبي، والآكل، والمتغوط. ويرتب كلمات الأذان ويواليها، فإن نكس، استأنف، وإن فرق يسيرا، بنى، وإن تتفاحش، ابتدأ. فصل: وشرط المؤذن أن يكون مسلما، عاقلا، ذكرا، فلا يعتد بأذان كافر ولا مجنون، ولا امرأة، ولا يؤذن الصبي، ولا يقيم إلا أن يكون مع نساء، أو بموضع لا يكون فيه غيره، فيؤذن ويقيم. قال الشيخ أبو بكر: وهو الاختيار. وإن أذن غير البالغ، جاز. وحكى المازري في إجزائه قولين: الجواز؛ لأنه ذكر، والنهي؛ لأنه من أمانات الشريعة، وليس من أهلبها. ومن أذن لقوم، وصلى معهم، فلا يؤذن لآخرين، ولا يقيم، فإن فعل، ولم يعيدوا حتى صلوا، أجزأهم. وتستحب الطارة في الأذان، والكراهوة في الجنب شديدة، وفي الإقامة أشد. قال سحنون: لا بأس بأذان الجنب في غير المسجد. ويستحب أن يكون المؤذن صيتا، وأنكر مالك التطريب، وليكن عدلا عارفا بالمواقيت لتقلده (¬1) عهدتها. ¬
وإذا تعدد المؤذنون، جاز أن يتراسلوا معا، إلا أن كل واحد لا يقتدي بأذان صاحبه، وأن يترتبوا ما لم يكثروا، وذلك بحيث سعة (¬1) الوقت وضيقه، ولا يؤذن في المغرب إلا واحد (¬2)، أو جماعة مرة واحدة. ويستحب حكاية المؤذن، وينتهي إلى الشهادتين على المشهور، وقيل: إلى آخره، فيعوض عن الحيعلة الحوقلة، والمشهور حكاية التشهد مرة واحدة، وقول ذلك قبل المؤذن واسع، فإن كان في صلاة، فثلاثة أقوال، ثالثها المشهور: يحكي في النافلة، لا في الفريضة، فرو قال: حي على الصلاة، ففي بطلان صلاته قولان، وجه البطلان: أنها مخاطبة للآدميين، وليس من جنس بقية أذكار الأذان، ووجه الصحة: عموم هذا الحديث، ومن جهة المعنى: أنه لا يقصد بقوله: حي على الصلاة دعاء الناس، بل حكاية ألفاظ الأذان. ولا يؤذن لجمعة ولا لغيرها قبل الوقت، إلا الصبح؛ فإن المشهور جواز الأذان لها إذا بقي من الليل السدس، وقيل: عند خروج الوقت المختار، وقيل: إذا صليت العشاء. وهو بعيد؛ لإلباسه (¬3) ¬
بأذان العشاء، والله أعلم (¬1). وهذه كلها مقدمات بين يدي الحديث، ولنرجع إلى الكلام عليه. قوله: «أمر بلال» (¬2): هو بضم الهمزة وكسر الميم؛ أي: أمره بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛لأنه الأمر بالشريعة لا يضاف إلا إليه، وقد وعم بعض أهخل العلم: أن الآمر بذلك هو أبو بكر وعمر،. قال الخطابي: وهذا تأويل فاسد؛ لأن بلالا لحق بالشام بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف سعد القرظ على الأذان في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انتهى (¬3). ق: وهو المختار عند أهل الأصول؛ يعني: أن الآمر إنما هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أمرنا ونهينا؛ لأن الظاهر انصرافه إلى من له الأمر الشرعي، ومن يلزم اتباعه، ومن يحتج بقوله، وهو الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وفي هذا الموضع زيادة على هذا، وهو أن العبادات والتقديرات فيها لا تؤخذ إلا بتوقيف (¬4). ¬
والحديث دليل على الإيتار في لفظ الإقامة (¬1)، وبه قال أكثر أهل العلم، وعليه جرى العمل بالحرمين الشريفين، والحجاز، وبلاد الشام، واليمن، وديار مصر، ونواحي الغرب (¬2)، وهو قول الخسن البصري، ومكحول، والزهري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، ولم يزل ولد أبي محذورة يفردون الإقامة، ويحكونه عن جدهم. وقد قيل لأحمد بن حنبل: وكان يأخذ بأذان بلال: أليس أذان أبي محذورة بعد أذان بلال، وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أليس لما علاد إلى المدينة أقر بلالا على أذانه؟ حكاه ابن رافع عن الخطابي. وذهب الثوري، وأصحاب الرأي إلى تثينة الإقامة؛ كالأذان، وتمسكوا بما روي عن عبد الله بن زيد في بعض رواياته من تثنية الإقامة (¬3)، وقد روي عنه إفراد الإقامة من طرق (¬4). واختلف مالك، والشافعي في موضع واحد، وهو (¬5) قد قامت ¬
الصلاة، فقال مالك: إنه مفرد، وظاهر هذا الحديث يدل له دلالة ظاهرة، وقال الشافعي: إنه مثنى للحديث الآخر، وهو قوله: «فأمر (¬1) بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا الإقامة»؛ أي: إلا لفظ: قد قامت الصلاة. ق: ومذهب مالك مع ما مر قد أيد بعمل أهل المدينة، ونقلهم، وعمل أهل المدينة في مثل هذا أقوى؛ لأن طريقه (¬2) النقل، والعادة في مثله تقتضي شيوع العمل، وأنه لو كان تغير، لعلم به. وقد اختلف أصحاب مالك - رحمه الله تعالبى- في أن إجماع أهل المدينة حجة مطلقا في مسائل الاجتهاد، أو يختص ذلك بما طريثقه النقل والانتشار؛ كالأذان، والإقامة، والصاع، والمد، والأوقات، وعدم أخذ الزكماة من الخضروات؟ فقال بعض المتأخرين منهم: والصحيح: التعميم، وما قاله غير صحيح عندنا جزما، ولا فرق في مسائل الاجتهاد بينهم وبين غيرهم من العلماء؛ إذ لم يقم دليل على العصمة على بعض الأمة، نعم ما طريقه النقل، إذا علم اتصاله، وعدم تغيره (¬3)، واقتضت الغعادة أن يكون مشروعا من صاحب الشرع، ولو بالتقرير عليه، فالاستدلال به ¬
قوي يرجع إلى أمر عادي، والله أعلم. وقد استدلوا (¬1) بهذا الحديث على وجوب الأذان؛ من حيث إنه إذا أمر بالوصف، لزم أن يكون الأصل مأمورا به، وظاهر الأمر الوجوب، انتهى (¬2). قلت: وقد تقدم في حديث عائشة - رضي الله عنها -: كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. تحرير هذه المسألة -أعني: قول الصحابي: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، وبيان مراتبها السبع بما يغني عن الإعادة. ح: الحكمة (¬3) في إفراد الإقامة وتثنية الأذان: أن الأذان لإعلام الغعائبين، فيكرر؛ ليكون أبلغ في إعلامهم، والإقامة للحاضرين، فلا حاجة إلى تكرارها، ولهذا قال العلماء: يكون رفع الصوت في الأذان (¬4)، وخفضه في الإقامة، وإنما كرر لفظ الإقامة خاصة؛ لأنه مقصود الإقامة (¬5). قلت: ولا نحتاج نحن إلى اعتذار عن الإقامة؛ إذ هي عندنا ¬
مفردة، ويشكل على الشيخ في هذه التفرقة تثنية التكبير فيها، أتععني: الإقامة، والله أعلم * * *
الحديث الثاني
الحديث الثاني 61 - عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ (¬1) حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، قَالَ: فَخَرَجَ بِلالٌ بِوَضُوءٍ؛ فَمِنْ نَاضِحٍ، وَنَائِلٍ , قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ؛ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ , فَتَوَضَّأَ، وَأَذَّنَ بِلالٌ , قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ، هَهُنَا، وَهَهُنَا؛ يَمِيناً وَشِمَالاً، يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ؛ ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ , فَتَقَدَّمَ، وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ (¬2). ¬
* التعريف: وهب بن عبد الله: هو المشهور، وقيل: وهب بن جابر، وقيل: وهب بن وهب بن مسلم بن جنادة -بضم الجيم وبالنون والدال ¬
المهملة- بن جندل بن صعصعة، والسوائي -بضم السين ممدود-: منسوب إلى سواءة بن عامر بن صعصعة، له صحبة، سكن الكوفة، يقال: قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ الحلم، وتوفي في ولاية بشر بن مروان، وكان يصحب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، هكذا ذكره الحافظ أبو علي بن سكن ففي كتابه في الصحابة. وقال لحافظ أبو محمد عبد الغني في كتابه «الكمال (¬1) في أسماء الرجال»: أبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي، ويقال: وهب بن وهب، ويقال: وهب الخير (¬2)، من بني جرثان بن سواءة بن عامر بن صعصعة، وكان من صغار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، نزل الكوفة، وابتنى بها دارا. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وأربعون حديثا، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، وانفرد مسلم بثلاثة أحاديث. روى عنه: ابنه عون، وإسماعيل بن أبي خالد، والحكم بن عتيبة، وأبو إسحاق السبيعي. روى له الجماعة - رضي الله عنهم - (¬3). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: (القبة)، أصلها من البناء، وشبه الأديم وغيره به، والجمع قُبَب وقِباب، وبيت مقبب: جعل فوقه قبة، وهودج مقبب أيضا، والأدم: جمع أديم، وهو مثل أَفيق، وأَفَق، والأَفيق: الجلد الذي يتم دباغه (¬1). وقال الأصمعي: الأَفيق: الجلد إذا دبغغ قبل أن يخرز، وهما من الجموع النادرة -أعني: أدما وأَفَقًا-، وقد جمعوهما -أيضا- على (أَفْعِلَتة)، فقالوا: أديم وآدمة، وأفيق وآفقة؛ كرغيف وأرغفة. قال الجوهري: وربما سمي وجه الأرض أديما، وأنشد: [المنسرح] يَوْمًا تَرَاهَا كَشِبْهِ أَرْدِيَةِ الْ ... عَصْبِ ويَوْمًا أَدِيمُهَا نَغِلَا (¬2) وعمود وعَمَد، كأفيق وأفق. الثاني: قوله: «فخرج بلال بوضوء»؛ أي: خرج من القبة، ومعه فضل الماء الذي توضأ به عليه الصلاة والسلام. ¬
قيل: ولا ينبغي أن يحمل ذلك على الساقط عن (¬1) أعضائه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه ليس من عادته أن يتوضأ في إناء يسقط فيه الماء المنفصل عن أضائه، ويجمع ذلك في إناء، بل كان يتوضأ على الأرض - صلى الله عليه وسلم -. وقد تقدم الكلام على الوضوء والوَضوء -بالفتح والضم-، وهو هنا بالفتح لا غير. الثالث: قوله: «فمن ناضح ونائل»؛ النضح: الرش، قيل: معناه: أن بعضهم كان ينال منه ما لا يفضل منه شيء، وبعضهم كان ينال منه ما ينضحه على غيره (¬2)، وتشهد له الرواية الأخرى في «الصحيح»: «ورأيت بلالا أخرج وضوء، فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئا، تمسح به، ومن لم يصب منه، أخذ من بلل يد صاحبه» (¬3). فيه: التبرك بأثر (¬4) الصالحين، والتماس خيرهم وبركتهم. وفيه: شدة تعظيم أصحابه له، وإدجلالهم لمكانه، وعظيم حقه، ¬
وعظيم الحرص على نيل بركته، وهذا كان دأبهم معه - صلى الله عليه وسلم -، ورضي عنهم أجمعين، وكانوا عنده كأن على رؤوسهم الطير، إذا تكلم أنصتوا، وإذا تنخم، لم تقع إلا في يد رجل منهم، فيدلك بها وجهه، وإذا توضأ، كادوا يقتتلون على وَضوئه، وذلك بعض ما يجب من إعظمه وإجلاله وتمحيض ولائه، وكيف لا، وقد كانوا على شفا حفرة من النار، فأنقذهم منها؟! [الكامل] [1] وَلَوْ قِيلَ لِلْمَجْنُونِ لَيْلَى وَوَصْلَهَا ... تُرِيدُ أَمِ الدُّنْيَا وَمَا فِي طَوَايَاهَا لَقَالَ غُبَارٌ مِنْ تُرَابِ نِعَالِهَا أَحبُّ ... إِلَى نَفْسِي وَأَشْفَى لِبَلْوَاهَا الرابع: الحلة: ثوبان: إزار، ورداء، لا يسمى حلو حتى يكون ثوبين، هذكا قاله أهل اللغة، ومنه الحديث: «أنه رأى رجلا عليه حلة قد ائتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر» (¬1). وقال (¬2) ابن السِّيْد البطليوسي: ولا يقال: ولا يقال: حلة لثوب واحد، إلا أن يكون له بطانة (¬3). ¬
الخامس: قوله: «كأني إلى بياض ساقيه»: لا يقال: قد جاء في صفته -عليه الصلاة والسلام-: ليس با؟ لأبيض الأمهق، وإذا نفي عنه البياض، كيف يوصف به؟ لأنا نقول: لم ينف عنه مطلق البياض، لا يخالط شيء من الحمرة، وليس بنير، ولكن كلون الجص ونحوه، هكذا ذكره أهل اللغة (¬1)، فهذا هو المنفي (¬2) عنه، وأما مطلق البياض، فلم ينفى عنه. فيه دليل على تقصير الثياب، وهو أحد ما قيل في تفسير قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، ويكون من باب تسمية الشيء بلازمه (¬3)؛ إذ يلزم من تقصيرها تطهيرها وصيانتها عما يصل إليها، وقد جاء أنه أتقى وأنقى وأبقى؛ أي: التقصير (¬4)، وقد تقدم شيء من هذا المعنى. السادس: قوله: «فتوضأ، وأذن بلال»: في ظاهره بعض إشكال، وذلك أنه تقدم قوله: «فخرج بلال بوضوء» (¬5). وقد قالوا: إن الوضوء هنا فضلة ماء وضوئه - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك ابتدره ¬
أصحابه، وازدحموا عليه؛ تبركا به -كما تقدم-، وقد جاء مبينا في الحديث الآخر: «فرأيت الناس يأخذون من فضل وضوئه» (¬1)، فكيف يقال بعد هذا: فتوضأ؟ وقد أجيب عن هذا الإشكال، بأن فيه تقديما وتأخيرا، وهذا فاسد؛ لأن التقديم والتأخير -وإن كان خلاف الأصل-، لا يكون مع التكرار جزما. وأقرب ما يقال في ذلك -والله أعلم-: أن الوضوء الذي خرج به بلال - رضي الله عنه - يجوز أن يكون فضلة وضوء له -عليه الصلاة والسلام- متقدم، ثم (¬2) لما خرج، توضأ لهذه الصلاة التي أذن لها بلال، وهذا أقل تكلفا مما تقدم؛ إذ لايلزم أن يكون الوضوء الذي خرج به بلال لهذه الصلاة ولا بد، ويحتمل أن يكون لها، لكن عرض له -عليه الصلاة والسلام-بعد وضوئه ما أوجب إعادة الوضوء، إما وجوبا؛ كحدث، أو اختيار لتجديد، والله أعلم (¬3). السابع: قوله: «فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا»: هاهنا: ظرف مكان، ويتصل بآخرها حرف الخطاب (¬4)، فيقال: هناك، زيدت عليه هاء التنبيه؛ كزيادتها على اسم الإشارة، نحو: هذا، وهاهنا، مبني؛ ¬
لتضمنه معنى حرف الإشارة تقديرا؛ إذ لاوجود له لفظا، وفيها ثلاث لغات: ضم اهاء وتخفيف النون؛ كما هو في الحديث، وفتح الهاء مع تشديد النون وكسرها مع ذلك، وهو أقلها، ومثلها من ظروف المكان المشار بها، ثم بفتح التاء، لكنها لا يشار بها إلا لما بعد من الأمكانة، بخلاف هنا؛ فإنها لما قرب خاصة. و «يمينا وشمالا»: يدل من قوله: «هاهنا وهاهنا»، ويجوز أن يكونا منصوبين بإضمار؛ أعني: مفعولين على السعة. فيه: دليل على استدارة المؤذن للإسماع عند الدعاء إلى الصلاة، وهو وقت التلفظ بالحيعلتين، وقوله: يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح بين وقت الاستدارة، وأنه وقت الحيعلتين، وقد جوز مالك دورانه للإسمالع مطلقا فيما يظهر من كلام ع. قال ع: ويكون مستقبل القبلة بقدميه، وهو اختيار الشافعي (¬1). وفيه: دليل على الاكتفاء في السترة بمثل غلظ العنزة. وفيه: دليل على [أن] المرور من وراء السترة غير ضار. وقوله: «ثم ركزت له عنزة»؛ أي: غرزت في الأرض، والعنزة (¬2) قيل: هي عصا في طرفها زُجٌّ، وقيل: هي الحربة الصغيرة (¬3). فيه: دليل على استحباب وع السترة بين يدي المصلي عند ¬
خوف المرور، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بأبسط من هذا في باب: المرور بين يدي المصلي، إن شاء الله تعالى. الثامن: قوله: «ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة» يريد: أنه كان اجتماعه بالنبيت - صلى الله عليه وسلم - بمكة (¬1)، فلم يزل يصلي ركعتين حتى أتى المدينة، وقد جاء ذلك مصرحا به في الرواية الأخرى التي (¬2) قال فيها: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو بالأبطح في قبة حمراء من أدم» (¬3)، وهذه الرواية المبينة لتلك تشتمل على زيادة فائدة أخرى؛ فإنه في الرواية المبهمة يجوز أن يكون اجتماعه به -عليه الصلاة والسلام- في طريقه إلى مكة قبل وصوله إليها، وعلى هذا يشكل (¬4) قوله: «فلم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة»، من حيث إن السفر يكون له نهاية يوصل إليها قبل الرجوع، وذلك مانع من القصر عند بعضهم، أما إذا تبين أنه كان الاجتماع بمكة، فيجوز أن تكون صلاة الظهر التي أدركها ابتداء الرجوع، ويكون قوله: «حتى رجع إلى المدينة» انتهاء الرجوع، هذا معنى كلام ق، وأكثر لفظه (¬5). فيه: دليل على راجحية القصر على الإتمام حال السفر، أما كونه ¬
دليلا على وجوب القصر، فلا، إلا على من يقول: إن أفعاله -عليه الصلاة والسلام- على الوجوب، وسيأتي الكلام على حكم القصر في بابه إن شاء الله تعالى. فائدة: المدينة: مشتقة من قولهم: مَدَنض بالمكان: إذا أقام به، فهي (فَعيلة)، وتجمع (¬1) على مدائن بالهمز، وعلى مُدُن أيضا، وَمَدَن، بالتخفيف، والتثقيل، وقيل: إنها (مَفْعِلَة) من دِنْتُ: إذا ملكت. قال الجوهري: وسألت أبا علي الفَسَوي عن همز مدائن، فقال: فيه قولان: من جعله (فعيلة) من قولك: مدن بالمكان: إذا أقام (¬2) به، همزه، ومن جعله (مفعلة) من قولك: دِينَ؛ أي: مُلِك، لم يهمزه كما لم يهمز معايش، وإذا نسبت إلى مدينة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، قلت: مَدَني، وإلى مدينة منصور (¬3)، قلت: مَدِيني، وإلى مدائن كسرى: مَدائني؛ للفرق بين النسب؛ لئلا تختلط، وأما مدين قرية شعيب -عليه الصلاة والسلام-، فالنسب إليها مَدْيَني -بسكون الدال- على القياس (¬4). وللمدينة عشرة أسماء: المدينة، والدار؛ لأمنها والاستقرار بها، ¬
وطابة، وطيبة، وفي «صحيح مسلم»: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله -تعالى- سمى المدينة طابة» رواه جابر (¬1)، وطايب، ومسكينة، وجابرة، ومجبورة، ويثرب، ومدد. وقد جاء لها من الأسماء غير ذلك في كتاب «أخبار النواحي» لابن المنجم (¬2)، عدة أسماء، رواها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن غيره، فمن أراد استيعابها (¬3)، نظره هناك إن شاء الله تعالى. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 62 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ؛ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الحديث دليل صريح على مشروعية الأذان لصبح قبل طلوع الفجر، وهو حجة على أبي حنيفة، ومن قال بقوله؛ من أنه لا يؤذن لها إلا بعد طلوع الفجر، ومن جهة المعنى: أنها تدرك الناس على حالة يحتاجون فيها إلى التهيؤ الزائد على تهيؤ سائر الصلوات؛ لأنهم حينئذ إما نيام أو من آثار النوم، ومنهم الجنب وغيره، هذا هو الغالب من حال العموم، فلو لم يؤذن لها إلا بعد الفجر، لفات أكثر الناس فضيلة الوقت، أو الوقت كله، لا سيما من يعسر عليه الاستبراء أو الوضوء، أو من يحتاج إلى الاغتسال حينئذ، فكان تقديم الأذان قبل الفجر منبهة للمصلي (¬1) للاستداد والتهيؤ بالطهارة حينئذ؛ ليطلع الفجر وقد تهيؤوا للصلاة في أول الوقت، والله أعلم. وقد تقدم ذكر الأقوال الثلاثة في مذهبنا في وقت الأذان للصبح في أول حديث من هذا الباب. وفيه: دليل على جواز أذان الأعمى. ¬
وفيه: جواز تقليد الأعمى للبصير في الوقت، أو جواز اجتهاده فيه؛ فإن ابن أما مكتوم لا بد له من طريق يرجع إليه في طلوع الفجر، وذلك إما سماع من بصير، أو اجتهاد، وقد جاء في الحديث: «وكان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت، أصبحت» (¬1)، فهذا يدل علىى رجوعه إلى البصير، ولو لم يرد ذلك، لم يكن في هذا اللفظ دليل على جواز رجوعه إلى الاجتهاد بعينه؛ لأن الدال على أحد الأمرين مبهما (¬2)، لا يدل على الواحد منهما معينا (¬3). وفيه: دليل على اتخاذ مؤذنين في مسجد (¬4) واحد، والحديث غير مشعر بالزيادة على ذلك، ونقل بعض أصحاب الشافعي - رضي الله عنه -: أن الزيادة على أربعة تكره، واستضعفه بعض المتأخرين، وكأن وجه الكراهة (¬5) عند القائل بها: أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يزد على أربعة مؤذنين: بلال، وابن أم مكتوم، وسعد القرظ، وأبي محذورة، إلا أن بلالا كان الملازم (¬6) له في القيام بوظيفة الأذان حضرا وسفرا، فكره الزيادة على ذلك لهذا المعنى، والله أعلم (¬7). ¬
وفيه: دليل على تكرار الأذان لصلاة الصبح قبل الوقت، وبعده. وفيه: ترجيح الترتيب إذا اجتمعوا، دون التراسل، على ما مر. الثاني: (الباء) في «بليل» بمعنى: (في)، وهو (¬1) أحد معانيها العشرة، ومنه قولهم: زيد بالبصرة؛ أي: في البصرة، هذا في ظرف المكان، وذاك (¬2) في ظرف الزمان. الثالث: قوله: «فكلوا واشربوا» إلى آخره: اعلم: أن أكل، وأمر، وأخذ، ثلاثتها حذفت العرب في الأمر همزاتها على غير قياس، هكذا قال أهل العربية، ولا يبعد عندي أن يكون لذلك وجه من القياس، وذلك أن إثبات الهمزة فيها يؤدي حالة الأمر إلى اجتماع همزتين: همزة الوصل التي في مثل اضرب، والهمزة التي هي في الكلمةن واجتماع الهمزتين مستثقل أو مرفوض، ويوضح ذلك أنه إذا سقطت همزة الوصل، ثتت فاء الكلمة، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132]، لما استغني عن همزة الوصل؛ لاتصال الهموة الساكنة التي هي فاء الكلمةبما قبلها، وهو الواو، ثبتت فاء الكلمة، ولم تحذف، فليعلم ذلك. ومعنى الأمر بالأكل والشرب هنا: أن المراد به الصائمون لرمضان، أو غيره، والصائم يحل له الأكل والشرب ما لم يطلع ¬
الفجر، فإذا طلع الفجر، حرم ذلك عليه، ولما كان بلال يؤذن قبل الفجر، جاز الأكل والشرب حينئذ، ولما كان ابن أم مكتوم لا يؤذن إلا بعد انفجار الفجر، جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أذانه غاية للمنع من الأكل والشرب، ومن هذا قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، فجعل (حتى) غاية للتبيين. قال ابن عطية: والمراد به فيما قال جميع العلماء: بياض النهار، وسواد الليل، وهو نص قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم في حديثه المشهور (¬1). قلت: الحديث: أن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: عمدت إلى عِقالين أبيض وأسود، فجعلتهما تحت وسادي (¬2)، فكنت أقوم من الليل، فأنظر إليهما، فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت، غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته، فضحك، وقال: «إن كان وسادك لعريضا» (¬3)، وروي: «إنك لعريض القفا، إنما ذلك بياض النهار، وسواد الليل» (¬4). ¬
قال ابن عطية: واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، فقال الجمهور -وبه أخذ الناس، ومضت عليه الأمصار والأعصار، ووردت به الأحاديث الصحاح-: ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنة ويسرة، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك، وهو مقتضى حديث ابن مسعود، وسمرة بن جندب. وروي عن عثمان بن عفان، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وطلق بن علي، وعطاء بن أبي رباح، والأعمش، وغيرهم: أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق، وعلى رؤوس الجبال. وذكر عن حذيفة: أنه قال: تسحرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع (¬1). وروي عن علي بن أبي طالب: أنه صلى الصبح بالناس، ثم قال: الآن تبين (¬2) الخيط الأبيض من الخيط الأسود (¬3). قال الطبري: ومما قادهم إلى هذا القول: أنهم يرون أن الصوم ¬
إنما هو في النهار، والنتهار عندهم من طلوع الشمس؛ لأن آخره غروبها، فكذلك أوله طلوعها (¬1). وحكى النقاش عن الخليل بن أحمد: أن النهار من طلوع الفجر، ويدلك (¬2) على ذلك قوله -تبارك وتعالى-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114]، والقول في نفسه صحيح. قال: وقد ذكرت حجته في تفسير قوله تعالى: وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164]. قال: وفي الاستدلال بهذه الآية نظر، ومن أكل وهو يشك هل طلع الفجر أم لا؟ فعليه عند مالك القضاء، انتهى (¬3). واختلف في اسم ابن أم مكتوم، فقيل: عمرو بن قيس، وقيل: عبد الله (¬4)، والله تعالى أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 63 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» (¬1). ¬
قد تقدم ذكر الخلاف في حكاية الأذان، هل يحكي إلى آخر الشاهدتين، أو إلى آخره، وتبدل الحيعلة بالحوقلة، ويقال: الحولقة. وتقدم (¬1) أيضا: هل يحكي إذا كان في الصلاة، أو لا؟ وأن في مذهبنا ثلاثة أقوال: ثالثها المشهور: يحكيه في النافلة دون الفريضة. قال المازري: وهذه الأقوال الثلاثة التي في المذهب هي -أيضا- بين العلماء (¬2). فإن قلت: ما المناسبة في جواب الحيعلة بالحوقلة؟ قلت: قيل: إنه لما دعاهم إلى الحضور، أجبوه بقولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ أي: لا قدرة لنا على المحاولة في تحصيل ذلك، ولا قوة (¬3) عليه إلا بالله؛ أي: بعزته وتأييده، وقد علمت بذلك عدم الترادف بين (¬4) الحول والقوة، فالحول: الاعتماد في تحصيل الشيء، والمحاولة له، والقوة: القدرة عليه. ¬
فإن قلت: لفظة (مثل) تقتضي المشابهتة في جميع الأوصاف، ولا يراد بذلك هنا؛ أعني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فقولوا مثل ما يقول»: المشابهة من كل وجه، حتى في رفع الصوت ونحو ذلك. قلت: المراد: تلفظوا بمثل ما يلفظ به المؤذن من أذكار الأذان من غير تعرض (¬1) لرفع صوت، ولا خفضه، وإذا حصل هذا التلفظ، حصلت المماثلة في جميع صفات الأذان بلا إشكال، ألا ترى أنه حيث لم تمكن المماثلة في وضوئه -عليه الصلاة والسلام- في جميع صفاته، أتى ب «نحو» التي هي للمقاربة دون المماثلة، فقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا»، ولم يقل: مثل وضوئي، لتعذر مماثلة وضوئه -عليه الصلاة والسلام- من جميع الوجوه على ما تقدم من بيان ذلك، فاعرفه (¬2). * * * ¬
باب استقبال القبلة
بابُ استقبالِ القبلةِ الحديث الأول 64 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ؛ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ , يُومِئُ بِرَأْسِهِ , وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ (¬2). وَلِمُسْلِمٍ: غَيْرَ أَنَّهُ لا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَكْتُوبَةَ (¬3). ¬
وَلِلْبُخَارِيِّ: إِلَّا الْفَرَائِضَ (¬1). * * * اعلم: أن الاستقبال استفعال من المقابلة، وهذه الصيغة -أعني: استفعل- تكون لطلب الفعل غالبا؛ نحو: استحقه، واستعمله، واستعجله، إذا طلب حقه وهعمله، وعجلته، ويكون من التحول؛ نحو: استتيست الشاة، واستنوق الجمل: إذا صارت فيه لين وضعف، واستحجر الطين، وتكون للإصابة على صفة، نحو: استعظمته، واستسمنته، واستجدته، أي: أصبته عظيما، وسمينا، وجيدا، وتكون ¬
بمنزله فعل؛ نحو: قر، واستقر، وعلا قرنه، واستعلاه (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: معنى «يسبح» هنا: يصلي النافلة، وربما أطلق التسبيح على مطلق الصلاة، وقد فسر قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] بصلاة الصبح، وصلاة التعصر. والسُبحة: التطوع من الذكر والصلاة، تقول: قضيت سبحتي. وروي: أن عمر - رضي الله عنه - جلد رجلين سبحا بعد العصر؛ أي: صليا (¬2). وقد يعبر عنها -أيضا- بالسجود؛ كما قالت حفصةة في الصبح: كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر (¬3)، تعني: ركعة بسجدتيها؛ كما عبر عنها أيضا بالقرآن في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ (¬4)} [الإسراء: 78]، والله أعلم. وعبر عنها -أيضا- بالدعاء في قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]؛ أي: صلاتكم. والتسبيح حقيقة: التنزيه، وهو قول: سبحان الله، فإطلاق التسبيح على الصلاة إما من باب (¬5) إطلاق البعض على الكل، وإما لأن ¬
المصلي منزه لله - عز وجل - بإخلاص العبادة له وحده، والتسبيح والتنزيه (¬1)، فيكون ذلك من مجاز الملازمة؛ لأن التنزيه يلزم الصلاة المخلصة لله -تعالى- وحده (¬2). وكذلك التعبير عنها بالسجود، إما لأنه بعضها، وإما أنه ملازم لها، كذلك الدعاء إما لاشتمالها عليه باعتبار اللغة، وإما لأنه بعضها. الثاني: «الراحلة»: الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول، قال الجوهري: ويقال: الراحلة: المركب من الإبل، ذكرا كان أو أنثى (¬3). قلت: فيكون كالبعير في وقوعه على الجمل والناقة -على أحد (¬4) القولين-، وربما هو الصحيح، وكالشاة في وقوعها على الذكر، والإنسان (¬5) في وقوعه على الرجل والمرأة، وإن كان قد سمع إنسانة في المرأة؛ سمعته من بعض شيوخنا (¬6) -رحمهم الله تعالى-. الثالث: قوله: «حيث كان وجهه» في (حيث): ست لغات: ¬
الحركات الثلاث مع الياء والواو (¬1)، وهي مبنية؛ لخروجها عن نظائرها من ظروف المكان؛ إذ لا تضاف؛ أعني: حيث، إلا للجمل غالبا، بخلاف سائر ظروف المكان، فإنها تضاف للمفردات، وبنيت على حركة؛ للاتقاء الساكنين، وكانت الحركة ضمة؛ لأنها حركة لا تكون لها في (¬2) حال إعرابها، وأما الكسر، فعلى أصل التقاء الساكنين، على ما هو مقرر في كتب النحو، وأما الفتح، فطلب للتخفيف؛ لأن قبل الآخر ياء، والله أعلم. وقوله: «حيث كان وجهه»؛ أي (¬3): إلى القبلة، وغيرها. الرابع: قوله (¬4): «يومئ برأسه»؛ أي: يشير به للركوع والسجود؛ إذ لا يسجد على الراحلة، وهذا بخلاف السفينة؛ فإنه يستدير معها حيث استدارت؛ لإمكان ذلك فيها؛ بخلاف الراحلة، هذا هو المشهور من مذهبنا، وقال ابن حبيب: هما سيان؛ أعني: الراحلة، والسفينة. ولتععلم: أتن التنفل على الراحلة مشروط بسفر تقصر فيه الصلاة، ولا يجوز ذلك في السفر القصير، وهو الذي لا تقصر فيه الصلاة ¬
على ما تقرر (¬1)، ولا يجوز في الحضر؛ خلافا للشافعي؛ فإنها أجازها في السفر القصير. وقال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية: يجوز التنفل على الدابة في البلد. وهو محكي عن أنس بن مالك، وأبي يوسف صاحب أبير حنيفة (¬2). ثم إذا أومأ الراكب، جعل السجود أخفض من الركوع -على ما قاله الفقهاء-؛ ليكون البدل على وفق المبدل منه، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، ولا على نفيه، بل اللفظ يدل على أنه لم يأت بحقيقة الركوع والسجود إن حمل قوله: «يومئ على الركوع والسجود معا، وهو الظاهر، والله أعلم. قال صاحب «الجواهر»: وصوب الطريق بدل من القبلة في دوام الصلاة، فلا يصرف وجهه عن (¬3) قبلته. ق: وكأن السبب في التنفل على البراحلة: تيسر تحصيل النوافل على العباد، وتكثيرها؛ فلإإن ما ضيق طريقه قل، وما اتسع طريقه سهل، فاقتضت رحمة الله -تعالى- بالعباد أن يقلل الفرائض عليهم؛ ¬
تسهيلا للكلفة، ويفتح لهم طريق التكثير للنوافل؛ تعظيما للأجور، انتهى (¬1). الخامس: قوله: «يوتر على بعيره»: يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا ابن عمر - رضي الله عنه -، واستدل بذلك على عدم وجوب الوتر؛ للإجماع على أن الفرض لا يقام على الراحلة. قيل: ولا الصلاة على الجنائز (¬2)، وإن كان قد اختلف عندنا في فرع، وهو: ما إذا عقلت الدابة، وأديت الفريضة عليها كأدائها بالأرض، على قولين: بالجواز، والكراهة. وقال أبو حنيفة: الوتر واجب، فلا يجوز أدائه على الراحلة، ودليلنا كان واجبا عليه، فقد صح فعله له على الراحلة، فدل على صحته منه عبلى الراحلة، ولو كان واجبا على العموم، لم يصح على الراحلة؛ كالظهر. فإن قالوا: الظهر فرض، والوتر واجب، وبينهما فرق. قلنا: هذا الفرق اصطلاح لكم لا يسلمه لكم الجمهور، ولا يقتضيه شرع ولا لغة، ولو سلم، فاصطلاح لم يحصل فيه أيضا غرضكم (¬3). السادس: قوله: «غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة»؛ أي: ¬
المفروضة، وقوله: «إلا الفرائض» (¬1): ظاهر في أن الفرض لا يؤدى على الراحلة، وليس بالقوي؛ إذ ليس فيه إلا ترك الفعل، وترك الفعل لا يدل على امتناعه، إلا أن يقال: وجدنا الفريضة يكثر تكرارها على المسافرين، وترك الصلاة على الراحلة دائما مع فعل النوافل عليها مشعر (¬2) بالفرق بينهما في الجواز وعدمه، مع ما يتأيد به ذلك من المعنى، وهو أن المفروضات قليلة محصورة، فالنزول لها لا يفوت غرض المسافر، لا سيما وقد شرع فيها البجمع بين الصلاتين، فيقل نزوله لها؛ بخلاف النوافل المرسلة؛ فإنها غير محصوررة، فالنزول لها يؤدي إلى فوات مقصود المسافر، مع اشتغاله بأمور سفره، والله أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 65 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ، فِي صَلاةِ الصُّبْحِ، إذْ جَاءَهُمْ آتٍ , فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ , وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ؛ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلَى الشَّامِ , فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «بينما الناس»: اعلم: أن (بينما) ظرف زمان منتصب بجوابه، على ما سييبين. والأصل: (بين) زيدت عليه (ما)؛ لتكفه عن خفض ما بعده، وإضافته إليه، والجملة الواقعة بعده لا موضع لها من الإعراب، ودليل أن (ما) كافة: أن العرب لم تخفض ب (بينما) في موضع من المواضع، فإذا قلت: بينما وزيد قائم، قام عمرو، كان الناصب لـ (بينما): قام، والجملة من قولك: زيد قائم، لا موضع لها من الإعراب. ولتعلم: أنه يجوز أن تتلقى (بينما) بـ (إذ)، و (إذا)، فتقول: بينما زيد قائم، إذ قام عمرو؛ كما في الخديث، وبينما الحياة، إذ الموت. قال الشاعر: [البسيط] فَبَيْنَمَا الْعُسْرُ إِذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ ¬
وقال في هذه القطعة أيضا: وَبَيْنَمَا الْمَرْءُ فِي الْأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ ... إِذَا هُوَ الرَّمْسُ تَعْفُوهُ الْأَعَاصِيرُ (¬1) فتلقى (بينما) في البيت الأول بـ (إذ)، وفي الثاني بـ (إذا)، وهذا بخلاف (بينا)؛ فإنها لا تتلقى (¬2) بـ (إذ)، ولا بـ (إذا)، بل تقول: بينا زيد قائم، جاء عمرو. وقيل: لأن المعنى فيه: بين أثناء الزمان جاء عمرو، ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل] بَيْنَا تَعَانُقِهِ الْكُمَاةَ وَرَوْغِهِ ... يَوْمًا أُتِيحَ لَهُ جَرِيءٌ سَلْفَعُ فقال: أتيح، ولم يقل: إذا أتيح، وهذا البيت ينشد بجر (تعانقه)، ورفعه، ولم يعرف الأصمعي إلا الجر، فمن جره، فالألف عنده لإشباع الفتحة، إذ الأصل: بين، وتعانقه: مضاف إليه، ومن رفعه، جعل الألف كافة، وتعانقه: مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: بينا تعانقُه الكماة وروغُه واقعان منه. ولتعلم: أنه لا يقع بعد (بينا) إلا جملة، أو مفرد، بشرط أن يكون مصدرا، فالجملة قد تقدم تمثيلها، والمفرد نحو قولك: بينا قيام زيد، قام عمرو، والسبب في ذلك: أنها تستدعي جوابا، فلم يقع لأجل ذلك بعدها إلا ما يعطي معنى الفعل الذي يشبه الجواب، والذي يعطي ¬
معنى الفعل إنما هو الجملة والمصدر من المفردات، فاعرفه (¬1). الثاني: «الناس»: قد يكون من الإنس والجن -على ما قاله الجوهري-، قال: وأصله: (أناس)، ولم يجعلوا الألف واللام فيه عوضا من الهمزة المحذوفة؛ لأنه لو كان كذلك، لما اجتمع مع المعوض منه في قول الشاعر: إِنَّ الْمَنَايَا يَطَّلِعـ ... ـنَ عَلَى الْأُنَاسِ الْآمِنِينَا (¬2) قلت: وهذا خلاف مذهب سيبويه فيما حكي عنه من أنه يقول: الألف واللام فيه عوض من الهمزة، كذا نقله أبو البقاء، ومكي، وغيرهما. وقال بعض النحويين: أصله: الأناس، فسهلت الهمزة، وأبدلت نون من لامك التعريف الساكنة، وأدغمت في النون التي بعدها، فصارت نونا مشددة؛ كما قال تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38]، والأصل لكن أنا. واختلف في عينه، هل هي واو، أو ياء؟ والصحيح: الواو؛ بدليل قولهم في التصغير: نُوَيس (¬3)، ولو كان من الياء، لقيل: نُيَيْس، أو أُنَيس، إلا أن من قال: العين ياء، قال: أصله نَسْيٌ؛ من نَسِيتُ، ¬
نَسِيتُ [1]، فأخرت العين، وقدمت اللام، فصارت في الحكم نَيْسًا، فصارت (¬1) الياء ألفا؛ لتحركها، وانفتاح ما قبلها. قال أبو البقاء: وفيه بعد (¬2). قلت: بل هو بعد اشتقاقا وتصريفا على ما ترى. وهو من الأسماء التي لا واحد له من لفظه؛ كالورى، والبشر، والأنام، والخيل، والغنم، والإبل، وما أشبه ذلك. الثالث: «قباء»؛ يذكر ويؤنث، ويمد ويقصر، ولم يذكر الجوهري فيه غير المد (¬3)، فمن ذكره، صرفه، ومن أنثه، لم يصرفه، وهو موضع بالحجاز، إلا أنه يحتمل (¬4) أن يكون المراد هنا: قباء نفسه، ويحتمل أن يكون المراد: المسجد، وهو الظاهر، والله أعلم. وهو المسجد المؤسس على التقوى، وهو أول مسجد أسس في الإسلام، على ما حكاه البيهقي، قال: وأول من وضع فيه حجرا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أبو بكر، ثم عمر، وقال النبيت - صلى الله عليه وسلم - لبني عمرو بن عوف: «وما الطهور الذي أثنى الله عليكم؟»، يعني: قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] الآية، فذكروا الاستنجاء ¬
بالماء مع الأحجار، فقال: «هو ذلكم (¬1)، فعليكموه» (¬2)، أو كما قال، فدل ذلك على أن مسجدهم هو المسجد (¬3) الذي أسس على التقوى. وجاء من طريق أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عنه، فقال: «هو مسجدي هذا» (¬4). قال السهيلي: وقد يمكن الجمع بين الحديثين؛ بأن (¬5) كل واحد منهما أسس على التقوى، غير أن قولخ تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] يرجح الحديث الأول (لأن مسجد قباء أسس قبل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، غير أن اليوم قد يراد به المدة، والوقت، فيكون المععنى من أول يوم؛ أي: من أول عام من الهجرة، والله أعلم (¬6). وروى الترمذي مسندا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعويم بن ساعدة حين نزلت الآية: «هذا منهم» (¬7)؛ يعني: من الذين يحبون أن يتطهروا، والله أعلم. ¬
الرابع: في الحديث: دليل على جواز النسخ، ووقوعه. وفيه: دليل على قبول خبر الواحد. قال الإمام أبو عبد الله المازري: اختلف أهل الأصول في النسخ إذا ورد، متى يتحقق حكمه على المكلف (¬1)؟ ويحتج لأحد القولين بهذا الحديث؛ لأنه ذكر أنهم تحولوا إلى القبلة وهم في الصلاة، ولم (¬2) يعيدوا ما مضى، وهذا دليل على أتن الحكم إنما يستقر بالبلاغ (¬3). فإن قيل: كيف استداروا إلى القبلة بخبره، والنسخ في هذا الخبر بواحد؟ قيل: قد قالوا: إن النسخ بالواحد كان جائزا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما منع بعده - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: إنما تلا عليهم الآيات التي فيها ذكر النسخ، فتحولوا عند سماع القرآن، فلم يقع النسخ بخبره، وإنما وقع النسخ عندهم بما سمعوا من القرآن (¬4). وقال ع: أسد جواب في هذا أن يقال (¬5): إن العمل بخبر الواحد ¬
مقطوع به، كما أنم العمل المقطوع بصحته من الكتاب والسنة المتواترة مقطوع به؛ ولأن الدليل الموجب لثبوت الحكم أولا غير الدليل الموجب لنفيه، وثبوت غيره. و (¬1) إلى جواز النسخ بخبر الواحد مال القاضي أبو بكر، وغيره من المحققين. وفي هذا الخبر بالجملة: قبول خبر الواحد، وعادة الصحابة امتثاله، والوقوف عنده، واعتداد بعضهخم بنقل بعض، وإنهم لم يحتاجوا إلى التوقف حتى سمعوا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الإمام: وقد ردوا إلى مسألة النسخ المتقدمة مسألة الخلاف في الوكيل إذا تصرف بعد العزل، ولم يعلم، فقالوا: على القول بأن حكم النسخ لازم حين الورود، ينبغي أن لا تمضى أفعاله بعد العزل، وإن لم يبلغه ذلك، وعلى القول الثاني: تكون أفعاله ماضية بعد العزل ما لم يبلغه العزل (¬2). ع: ضعف المحققون من الأصوليين رد هذه المسألة إلى هذا الأصل؛ إذ (¬3) حقيقة الخطاب بالتكليف إنما يتعلق بالبلاغ عند المحققين من أئمتنا؛ فإن النسخ إذا ورد، فمن لم يبلغه، كان على المخاطبة بالعبادة الأخرى، وليس في حقه نسخ حتى يبلغه، ومنهم ¬
من قال: يثبت النسخ في حقه، لكن بشرط (¬1) أن يبلغه. فهو اختلاف في عبارة، كلهم مجمعون على بقائه على الحكم الأول (¬2)؛ إذ الجاهل لا يثبت التكليف في حقه بما جهله ولم يبلغه، وهذا من المستحيل. وإنما ذهب إلى النسخ في حقه طائفة من الفقهاء الذين لم يقووا في الأصول، وما قدمناه يرد عليهم. ومسألة الوكيل تعلق بها حق الغير على الموكل، فلهذا توجه الخلاف فيها، ولم يختلف المذهب عندنا في أحكام من أعتق، ولم يعلم بعتقه: أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس، وأما ما (¬3) بينه وبين الله -تعالى- فجائزة. ولم يختلف في المعتقة: أنها لا تعيد ما صلت بغير ستر (¬4)، وإنما اختلفوا فيمن طرأ عليه مموجب يغير (¬5) حكم عبادة، وهو فيها بناء على هذه المسألة، وفعل الأنصار في الصلاة كمسألة الأمة تعتق، فتصلي، ولا تعلم بذلك إلا في الصلاة، هل تبطل صلاتها -وهو قول أصبغ-، أم تصح؟ وهو ظاهر قول ابن القاسم. وكذلك إذا عتقت في نفس الصلاة، وهي مكشوفة الرأس، فإنها ¬
لا تقطع الصلاة، وتتمادى فيها، لكن متى أمكمنها حينئذ من يناولها ما تستر بها رأسها، أو قرب منها تناوله، تعين فعل ذلك عليها، وتمادت؛ وهذا قول أكثر أصحابنا، وهو قول الشافعي، والكوفيين، وجمهور العلماء. ومنها أيضا: المسافر ينوي الإقامة، وهو في الصلاة، أو إمام الجمعة يقدُمُ وال بعزله بعد عقد ركعة، فالأكثر على التمادي في هذه المسائل، والإجزاء؛ لأنه في الصلاة، وتعينت عليه على تلك الحالة الأولى، وقل: يقطعون. ومنها -أيضا-: المتيمم إذا طلع (¬1) عليه رجل بماء في الصلاة، أو نزل عليه مطر، فإنه يتمادى، ولا يقطع، ولا يقال في هذا: إن أمكنه الماء، توضأ به؛ لأنه عمل كثير مناف للصلاة لا يصح معه التمادي فيها، وهذا قول مالك، والشافعي، والجمهور؛ خلافا للكوفيين، والأوزاعي، في رجوعهما للطهارة بالماء (¬2). واحتجوا -أيضا- بهذا الحديث على نسخ السنة بالقرآن؛ لأن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولا لبيت المقدس -على قول أكثرهم- سنة، وهي مسألة اختلف فيها الأصوليون، فأجازه جمهورهم؛ لأن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم من الله -تعالى- على لسان نبيه، مثل حكمه؛ كما بينه في كتابه. وقال بعضهم: لا يدجوز ذلك؛ لأن السنة مبينة للكتاب، وبعيد ¬
قضاء المبين ونسخه وحكمه على المبين. وقالوا في صة القبلة: إنما هي نسخ قرآن بقرآن، وإن الأمر أولا كان بتخيير المصلي أن يولي وجهه حيث شاء؛ لقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، ثم نسخ باستقباله القبلة. وقيل: بل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس كان بعد ورود المدينة بأمر الله -تعالى-، ففرت بذلك اليهود، ثم صرف إلى الكعبة. وكما اختلفوا هنا، كذلك (¬1) اختلفوا في نقيضه، وهو نسخ القرآن بالسنة، فذهب الأكثر إلى جوازه عقلا وسمعا، وأجازه بعهم عقلا، وقال: لم يوجد شرعا، ومنعه بعضهم عقلا. وفي هذه القصة: دليل على صجحة نسخ الأحكام، وهو مما اسجتمع عليه كافة المسلمين، إلا طائفة من المبتدعة لا يعبأ بها لم تقل به في، ووافقت القنائية من اليهود [فيه] (¬2). قلت: قوله: كافة المسلمين، ممتنع عند الجمهور؛ أعني: إضافة (كافة) إلى ما بعدها، وقد اشتهر رد العلماء على من استعمل (كافة) غير منصوب (¬3)؛ كالحريري، وابن نباتة الخطيب، والزمخشري، والقاضي كثيرا ما يستعملها. ¬
ولنذكر بقية ما اختلف فيه من أحكام النسخ، وما اتفق عليه مختصرا؛ ليكمل تحرير هذه المسألة؛ إذ لم يذكر ع غير القسمين المتقدمين: نسخ السنة بالقرآن، ونسخ القرآن بالسنة. فنقول -وبالله التوفيق-: أجمع على نسخ الكتاب بالكتاب، والسنة المتواترة بمثلها، والآحاد بمثلها، وبالكتاب، وبالسنة المتواترة. ويجوز نسخ الشيء قبل وقوعه؛ كنسخ الذبيح -عليه السلام-. ويجوز النسخ لا إلى بدل؛ كنسخ آية الصدقة، أعني: قوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12] الآية. ويجوز نسخ الأخف بالأثقل؛ كنسخ عاشوراء برمضان. ويجوز نسخ الخبر إذا كان متضمنا لحكم عندنا، خلافا لمن جوزه مطلقا، ولمن منعه مطلقا، وهو أبو علي، وأبو هاشم، وأكثر المتقدمين، وفيه تفصيل مذكور في كتب الأصول. ويجوز نسخ ما قال فيه: افعلوا، أبدا، على خلاف في هذا كله. وأما الإجماع، فلا ينسخ، ولا ينسخ به، هكذا في «المحصول» (¬1). وقال السيف الآمدي: كون الإجماع يُنسخ الحكم الثابت به: نفاه الأكثرون، وجوزه الأقلون، وكون الإجماع ناسخا: منعه الجمهور، وجوزه بع المعتزلة، وعيسى بن أبان (¬2)، والله أعلم. ¬
الخامس: قوله: «وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها»، روي: «فاستقبلوها» (¬1) -بكسر الباء- على الأمر، وبفتحها: على الخبر، والكسر أصح وأشهر، وهو الذي يقتضيه تمام الكلام بعده. السادس: قد يؤخذ منه: جواز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بالقرب منه؛ لأنه كان يمكن أن يقطعوا الصلاة، وأن يبنوا (¬2)، فرجحوا البناء، وهو محل اجتهاد (¬3). قلت: وفيما قاله نظر (¬4)، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 66 - عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: اسْتَقْبَلْنَا أَنَساً حِينَ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ , فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ , فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ , وَوَجْهُهُ مِنْ ذَا الْجَانِبِ - يَعْنِي: عَنْ يَسَارِ الْكَعْبَةِ-، فَقُلْتُ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ، لَمْ أَفْعَلْهُ (¬1). * * * ¬
* التعريف: أنس بن سيرين: أمو محمد، ويحيى، ومعبد، وخالد، وحفصة (¬1)، أولاد سيرين، كنيته: أبو حمزة. قيل: إنه لما ولد، ذهب به إلى أنس بن مالك، فسماه: أنسا، وكناه: أبو حمزة، ويقال: أبو موسى، وقيل: أبو عبد الله، مولى أنس بن مالك الأنصاري، تابعي، سمع ابن عمر، وأنس بن مالك. روى عنه: ابن عون، وخالد الحذاء، وهمام (¬2)، وحماد بن زيد. مات بعد أخيه محمد، سنة عشر ومائة، ونهو ابن ست وثمانين سنة. أخرج حديثه في «الصحيح» (¬3). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: ح: قوله: «فلقينا أنس بن مالك حين قدم الشام»، هكذا هو في جميع نسخ مسلم. قال: وكذا نقله ع عن جميع الروايات ل «صحيح مسلم». ¬
قال: وقيل: إنه وهم، وصوابه: قدم من الشام؛ كما جاء في «صحيح البخاري»؛ لأنهم خرجوا من البصرة للقائه حين قدم من الشام. قال: ورواية مسلم صحيحة، ومعناه: تلقيناه في رجوعه حين قدم الشام، وإنما حذف ذكر الرجوع؛ للعلم به (¬1). ق: وقوله: «من الشام»، هو الصواب في هذا الموضع، فاتفقا على ذلك. الثاني: قوله: «لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، لم أفعله»: هو راجع إلى الصلاة إلى غير القبلة فقط، وهو الذي سئل عنه لا غير (¬2). فعلى هذا: لا يؤخذ منه: أنه -عليه الصلاة والسلام- صلى على الحمار، بل قد غلط الدارقطني وغيره مَن (¬3) نُسِبَ ذلك إليه، قال: وإنما المعروف في صلاته -عليه الصلاة والسلام- على راحلته، أو على البعير. والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس؛ كما ذكرهع مسلم، ولذلك لم يذكر البخاري حديث عمرو بن يحيى المازني المشعر بصلاته -عليه السلاة والصلام- على الحمار (¬4). ¬
الثالث: قوله: «من ذا الجانب»: فيه: العمل بالإشارة، وكأنه أمر متفق عليه -والله أعلم- في مسائل شتى، منها: طلاق الأخرس، وما يفعم عنه في بيعه وشرائه، وغير ذلك، وكذلك غير الأخرس إذا قال: أنت طالق، وأشار بثلاث أصابع، أو اثنتين بالنسبة إلى ظاهر أمره، أما إذا كانت له نية، فأمر آخر، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة. الرابع: قوله: «رأيتك تصلي لغير القبلة»: فيه: التلطف والرفق في إنكار ما خفي على المنكر، حتى أخرج في معرض الخبر المحض. وفي جواب أنس: بيان مشروعية الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله وأقواله، وهكذا كانت عادة الصحابة في الغالب أن يجيبوا باتباعه -عليه الصلاة والسلام- من غير إبداء معنى؛ إذ إبداء المعنى عرضة للاعتراض؛ كما تقدم في قول عائشة - رضي الله عنها - حين سألتها معاذة: كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة (¬1)، فأجابتها بالنص دون المعنى، والله أعلم. * * * ¬
باب الصفوف
بابُ الصُّفوفِ الحديث الأول 67 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ» (¬1). ¬
المراد بتسوية الصفوف: اعتدالُ القائمين بها على سمتٍ واحد، وسدُّ الفُرَج فيها، كلاهما كلاهما مطلوب بلا خلاف، وفي «أبي داود»: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟»، قلنا: وكيف تصف الملائكة عنتد ربها؟، قال: «يتمون الصفوف المقدمة، ويتراصون في الصف» (¬1). وفيها -أيضا-: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم، ثلاثا، والله لتقيمن صفوفكم، أو ليخالفن الله بين قلوبكم»، قال: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه (¬2). وفيه -أيضا-: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا، ويقول: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم (¬3). ¬
وفيها -أيضا-: «ومن وصل صَفًّا وصله الله، ومن قطع صَفًّا قطعه الله» (¬1). وفيها -أيضا-: عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناقِ، فوالذي نفسي بيده! إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف، كأنها الحذف» (¬2). قلتُ: الحذف - بفتح الحاء (¬3) المهملة والذال المعجمة -: غَنَم سود صغار من غنم الحجاز. قال الخطابي: ويقال: أكثر ما تكون بالحجاز (¬4). فهذه الأحاديث كلها تدل على طلب الأمرين جميعا؛ أعني: اعتدال القائمين في الصف، وسدَّ الخلل الكائنة فيه، والظاهر: أنه طلب ندب لاوجوب؛ لأنه-عليه الصلاة والسلام-قال: «فإنَّ ذلك من تمام الصلاة»، وتمام الشيء أمرٌ زائد على وجود حقيقته التي لا يتحقق ¬
إلا به اصطلاحا مشهورا، وإن كان قد ينطلق في بعض الوضع على بعض الحقيقة، ولكن المشهور في الاصطلاح: الأول، ولم يذكر -عليه الصلاة والسلام- أنه من وادجبات الصلاة، ولا من أركانها، والله أعلم (¬1). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 68 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه, قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ (¬1): «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لِيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» (¬2). وَلِمُسْلِمٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا , حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ , حَتَّى رَأَى (¬3) أَنْ قَدْ عَقَلْنَا, ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا، فَقَامَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ؛ فَرَأَى رَجُلاً بَادِياً صَدْرُهُ؛ فَقَالَ: «عِبَادَ اللَّهِ! لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» (¬4). ¬
* التعريف: النعمان بن بشر: -بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجم- ابن سعد (¬1) بن ثعلبة بن جُلاس -بضم الدجيم وتخفيف اللام- بن زيد بن ماتلك بن ثعلبة بن كعب بن خزرج الأكبر. أمه: عمرة بنت رواحة، أخت عبد الله بن رواحة. قال الواقدي: ولد على رأس أربعةو عشر شهرا من الهجرة، وهو أول مولود ولد في الأنصار بعد قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: بعد سنة، أو أقل من سنة، وقيل: ولد قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بثمان سنين، وقيل: بست سنين، والأول أصح؛ لأن الأكثر يقولون: ولد هو وعبد بن الزبير عام اثنين من الهجرة. قيل: عبد الله بن الزبير أول مولود ¬
ولد بعد الهجرة من المهاجرين، والنعمان بن بشير أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث، وأربعة عشر حديثا. روى عنه: ابنه محمد بن النعمان، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، وعامر الشعبي، وعروة بن الزبير، وأبو إسحاق السبيعي (¬1)، وعبيد الله لبن عبد الله بن عتبة. قتل بالشسام في أول (¬2) في سنة أربع وستين بقرية من قؤرى حمص يقال (¬3) لها: جرب بنفسار (¬4)، وقيل: قتل بمرج راهط. روى له الجماعة (¬5). ¬
* ثم الكلاىم على الحديث من وجوه: الأول: الظاهر: أن (اللام) في: «لتسون صفوفكم»، جواب قسم محذوف؛ والتقدير: والله! لتسون صفوفكم؛ أي: الواقع، ولا بد: أحد الأمرين؛ من تسوية الصفوف، أو (¬1) وقوع المخالفة بين الوجوه، وقد جاء ذلك مصرحا به في الحديث المتقدم في «السنن»، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: «والله لتقيمن صفوفكم، أو ليخالفن الله بين قلوبكم». ع: وقوله: «أو ليخالفن الله بين وجوهكم»: يحتمل أنه كقوله: «أن يحول (¬2) الله صورته صورة حمار» (¬3)، فيخالف بصفتهم إلى غيرها من المسوخ، أو يخالف بوجه من لم يقم صفه، ويغير صورته عن وجه من أقامه، أو يخالف باختلاف بصورها في المسخ والتغير (¬4) (¬5). ق: أما الوجه الأول: وهو قوله: فيخالف بصفتهم إلى غيرها من المسوخ، فليس فيه محافظة ظاهرة على مقتضى لفظة (بين)، والأليق بهذا المعنى أن يقال: يخالف وجوهكم عن كذا، إلا أن يراد: ¬
المخالفة بين وجوه من مسخ، ومن لم يمسخ، فهذا (¬1) الوجه [الثاني]، وأما الوجه الأخير، ففيه [محافظة على معنى «بين»، إلا أنه ليس فيه] محافظة قوية (¬2) على قوله: «وجوهكم»؛ فإن تلك المخالفة مخالفة بعد المسخ، وليست تلك [صفة] وجوههم [عند المخالفة بالفعل] (¬3). الثاني: «القداح»: جمع قِدح -بكسر القاف وسكون الدال-، وهو السهم قبل أن يراش ويركب نصله (¬4)، وهو تمثيل حسن جدا؛ فإن السهام يطلب في تسويتها التحرير، وحسن الاستقامة (¬5)؛ كي لا تطيش عند الرمي، فلا تصيب الغرض، فشبه تسوية الصفوف بها، وقد تقدم أنهم كانوا يتحاذون بالأقدام والمناكب، وقد كان بعض أئمة السلف يوكلون رجالا يسوون الصفوف (¬6). وقوله: «حتى رأى أن قد عقلنا»؛ أي: فهمنا ما أمرنا به من التسوية، وسكنا بعد الاضطراب، فكأنه كان -عليه الصلاة والسلام- ¬
يراعيهم في التسوية، ويراقبهم، إلى أن علم أنهم عقلوا المقصود منه، وامتثلوه، فكان ذلك غاية لمراقبتهم وتكلف مراعاة إقامتهم (¬1). الثالث: قوله: «حتى كاد أن يكبر» إلى آخر الباب، الأصل (¬2) في (كاد): أن تستعمل بغير (أن)، وقد جاء ذلك قليلا، قال الشاعر: [الرجز] قَدْ كَادَ مِنْ طُولِ الْبِلَى أَنْ يَمْصَحَا (¬3) وهي عكس (عسى) في ذلك؛ إذ الأكثر فيها أن تستعمل ب (أن)، وحذف (أن) منها (¬4) قليل، ومنه قوله: [الوافر] عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتُ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ (¬5) والسر في ذلك مذكور في كتب النحو. فيه: جواز كلام الإمام بعد الإقامة، وقبل الإحرام، وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور؛ لحاجة تنزل من أمر الصلاة وغيرها بعد تمام الإقامة؛ خلافا لأبي حنيفة في أنه يجب عليه تكبيرة الإحرام إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، وقد اختلف العلماء في جواز الكلام حينئذ ¬
وكراهته، وقال اللخمي من أصحابنا: إن طال ذلك، أعادها؛ يعني: الإقامة (¬1)، والله أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 69 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ , فَأَكَلَ مِنْهُ , ثُمَّ قَالَ: «قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ لَكُمْ»، قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا؛ قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ , فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ , فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وَصَفَفْتُ (¬1) أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ , وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ انْصَرَفَ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬
وَلِمُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ؛ فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ , وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا (¬1). قال صاحب الكتاب: اليتيمُ: قيل: هو ضُميرة جدُّ حُيَيِ بن عبد اللهِ بن ضُمَيْرَةَ. * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الصحيح المعروف-: ضم الميم من (مليكة)، وفتح ¬
اللام مصغرا-، وروي فتح الميم وكسر اللام. روى مسلم في «صحيحه» هذا الحديث، عن إسحاق بن عبد الله، وهو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس - رضي الله عنه -: أن جدته مليكة، فالهاءفي (جدته) تعود على إسحاق، فمليكة جدة إسحاق أم أبيه على الصحيح، قاله ابن عبد البر (¬1)، فعلى هذا كان ينبغي للمصنف أن يذكر إسحاق، فإنه لما أسقط ذكره، تعين أن تكون جدة أنس. وقال غير ابن عبد البر: إنها جدة أنس، فعلى هذا لا يحتاج إلى ذكر إسحاق، وعلى كل حال، فالأحسن إثباته. قيل: هي أم سليم، وقيل: أم حرام (¬2). الثاني: في الحديث: دليل على عظم تواضعه - صلى الله عليه وسلم -، وإجابة دعوة داعيه. وفيه: دليل إجابة الداعي لغير الوليمة. ولتعلم أن الدعوات خمس: الأولى: وليمة النكاح، ويؤمر بإتيانها إلا من عذر. ¬
قال القاضي أبو الوليد: نص مالك - رحمه الله -، وأكثر العلماء: على وجوب (¬1) إتيان طعام الوليمة لمن دعي إليها، قال: وصفة الدعوة التي تجب لها الإجابة: أن يلقى صاحب العرس الرجل، فيدعوه، أو يقول لغيره: ادع لي فلانا، فيعينه، فإن قال له: ادع (¬2) من لقيت، فلا بأس على من دعي لمثل هذا أن يتخلف، انتهى (¬3). وهل يلزم الأكل من لزمته الإجابة؟ قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد - رحمه الله -: ولتجب إذا دعيت إلى وليمة العرس إذا لم يكن هناك لهو مشهور، ولا منكر بين، وأنت في الأكل بالخيار (¬4). فظاهر هذا، أو نصه: عدم وجوب الأكل. وقال القاضي أبو الحسن: مذهبنا: أن الوليمة غير واجبة، والإجابة إليها غير واجبة، ولكن تستحب. ثم إنما يؤمر بالإجابة -على القولين جميعا-: إذا لم يكن في الدعوة منكر، ولا فرش حرير، ولا في الجمع من يتأذى بحضوره وبمجالسته من السفلة الأراذل (¬5) الذي تزري به مجالستهم، ولا زحام، ولا إغلاق باب دونه. ¬
فقد روى ابن القاسم: هو في سعة إذا تخلف لأجل ذلك، وكذلك إن كان على جدار الأرض صور أو ساتر، ولا بأس بصور الأشجار، فإن كان هناك لعب ولهو، وكان خفيفا مباحا غير مكروه، لم يرجع، وحضر. وحكى ابن وهب: لا ينبغي لذي الهيئة أن يحضر موضعا فيه لهو. قال القاضي أبو بكر: والحق همو الأول، فأما لهو غير مباح؛ كالعود، والطنبور، والمزهر المربع، فلا تجاب الدعوة معه، ومن أتاها، فوجد اللهو المحظور، فليرجع، ولا يتركحضور الدعوة بعذر الصوم، بل يحضر، ويمسك، ويكره فيها نثر السكر واللووز عندنا (¬1). الثانية: ما يفعله الرجل للخاص من إخوانه وجيرانه على حسن العشرة وإرادة الألفة، فيستحب إتيانها. الثالثة: ما سوى ذلك؛ مما يفعل على جري العادات دون مقصد مذموم، فتجوز الإجابة في ذلك. الرابعة: ما يقصد به قصد مذموم من التطاول، وابتغاء المحمدة والشكر، وما أشبه ذلك، فلا ينبغي إجابتها، لا سيما لأهل الفضل والهيئات؛ لأن إجابتهم إلى مثل هذه الأطعمة إضاعة للتصاون، وإخلاق للهيئة ت (¬2) عند دناة الناس، وسببب لإذلال أنفسهم. ¬
قال الشيخ أبو الوليد: فقد قيل: ما وقع أحد يده في قصعة أحد إلا ذل له. الخامسة: ما يفعله الرجل لمن يحرم عليه قبول هديته؛ كأحد الخصمين للقاضي وشبهه، فهذا تحرم إجابته. فائدة: ح (¬1) قال أصحابنا، وغيرهم: الضيافات ثمانية أنواع: الوليمة للعرس (¬2)، والخُرْسُ -بضم الخاء، وبالسين (¬3) وبالصاد-: للولادة، والإعذار -بالعين المهملة والذال المعجمة-: للختان، والوكيرة: للبناء، والنقيعة: لقدوم مسافر، مأخوذ من النقع، وهو الغبار، ثم قيل: إن المسافر يصنع الطعام، وقيل: يصنعه غيره [له]، والعقيقة: يوم سابع الولادة، والوضيمة -بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة-: الطعام عند المصيبة، والمأدبة -بضم الدال وفتحها-: المتخذ ضيافة بلا سبب، انتهى (¬4). الثالث (¬5): قوله -عليه الصلاة والسلام-: «قوموا فلأصلي لكم». ع: في «المشارق»: قوله: «فلأصل (¬6) لكم»: الأصيلي: على ¬
الأمر -بغير ياء-، وكذا ابن بكير، كأنه أمر نفسه على جهة العزم على فعل ذلك، قال الله تعلالى: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، وعند ابن وضاح:: «فلأصلي»، بفتح اللام الأولى وإثبات الياء ساكنة (¬1). قلت: قال البطليوسي: وكثير من الناس يتوهمه قسما، وذلك غلط؛ لأنه لا وجه للقسم هنا، ولو كان قسما، لقال: فلأصلين -بالنون-، وإنما الرواية الصحيحة: «فلأصل» على معنى الأمر، والأمر إذا كان للمتكلم أةو (¬2) الغائب، كان باللام أبدا، وإذا كان للمخاطب، كان باللام، وغير اللام، انتهى. ثم قال ع: وكذا للقعنبي (¬3) في رواية الجوهري عنه. قلت: زاد ابن قرقول هنا: «فلنصل» -بالنون وكسر اللام الأولى والجزم-؛ كأنه أمر للجميع، انتهى. ثم قال ع: وفي رواية غيره: «فلأصل» -بكسر اللام- أمر (¬4) للجميع، ولنفسه، وعند بعض شيوخنا (¬5) ليحيى: «فلأصلي»، بالياء ولام (كي)، قالوا: وهي رواية ليحيى (¬6)، وكذا لابن السكن والقابسي ¬
عن البخاري، انتهى (¬1). فيه: الصلاة للتعليم، أو لحصول البركة بالاجتماع (¬2) فيها، أو بإقامتها في المكان المخصوص، وهو الذي يشعر به قوله: «لكم» (¬3). وفيه: جواز صلاة النافلة في الجماعة اليسيرة، وهو مذهب مالك -أعني: جواز الجمع في النافلة- في موضع هفي، والجماعة يسيرة، وإلا، فالكراهة على المشهور. دقيقة: قال بعض العلماء - رحمهم الله تعالى- عند قوله -عليه الصلاة والسلام-: «قوموا فلأصلي لكم»: اعلم أن المتعبد له حالتان: إحداهما: أن يصلي لنفسه قاصدا وجه الله -تعالى-، والإخلاص في العبادة لمن يستحق أن يكون معبودا لذاته، وهو الله، وهذا أعلى مراتب الإخلاص. الحالة الثانية: أن يأتي بالعبادة ليعلم الجاهلب، فهذا جائز، وهو مستحب، وعلى هذا الحديث يكون سنة، لكن هذا في حقه - صلى الله عليه وسلم - ملتحق بالأول؛ فإنه في حقه - صلى الله عليه وسلم - أبلغ؛ فإنه من باب التبليغ والتعليم الواجب عليه - صلى الله عليه وسلم -، وأفضل العبادات أداء المفترضات، ويكون فعله - صلى الله عليه وسلم - هذا موصوفا بوصفين: أحدهما: قصد الفعل على أعلبى أنواع الإخلاص، وةأعلى مراتب التعليمن، فهو موصوف بأحسن الصفات، ¬
ويقرب من هذا تعليم العالم للمتعلم، وإن لم يبلغ تلك المرتبة العلية، انتهى. الثالث: قوله: «فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس». ق: أخذ منه: أن الافتراش يطلق عليه: لباس، ورتب على ذك مسألتان: إجداهما: لو حلف لا يلبس ثوبا، ولم تكن له له نية [لبسه]، فافترشه: أنه يحنث. قلت: هذا مذهبنا؛ خلافا للشافعية؛ فإنهم قالوا: لبس (¬1) كل شيء بحسبه، فحلم اللبس في الحديث على الافتراش؛ للقرينة. والثانية: أن افتراش الحرير لباس له، فيحرم، على أن ذلك -أعني: افتراش الحرير- قد ورد فيه نص يخصه، انتهى (¬2). قال ابن شاس من أصحابنا: ويحرم المتمحض من الحرير على الرجال، فلا يلبس الرجل منه ثوبا، قال ابن حبيب: ولا يفترشه، ولا يصلي عليه، والله أهعلم (¬3). الرابع: قوله: «فنضحته»: قال الجوهري: النضح: الرش (¬4). ¬
قلت: وهو المعروف في اللغة، وقد يطلق على الغسل، والأول أشهر؛ فنضحه للحصير يجوز أن يكون ليلين ويرطب، فيتهيأ الجلوس عليه، ويجوز أن يكون ذلك لشك عرض له في طهارته، ويقوي هذا الثاني كون أبي العمير في البيت معهم، والصبي لا يحترز من النجاسات غالبا، والله أعلم (¬1). وهذا مما يدل للمالكية على اعتبار النضح حال الشك، ولنذكر مسائل النضح؛ إذ لها بالحديث تعلق ظاهر. فنقول: القاعدة عند أصحابنا: أن من شك في إصابة النجاسة، نضح؛ كما لو شك في بعض الثوب يجنب فيه، أو المرأة تحيض فيه، ونحو ذلك. قال مالك: والنضح من أمر الناس، وهو طهور (¬2) لكل ما يشك فيه. فإن شك في كون المصيب نجاسةن فهل يجب عليه النضح، أو لا يجب؟ فيه قولان، فإن شك فيها، فلا نضح، ولا غسل. وهل تشترط النية في النضح، أو لا؟ قولان (¬3) لمتأخري أصحابنا. ¬
وهل الجسد كالثوب، أو لا؟ قولان، فلو ترك النضح، وصلى، أعادها على المشهور (¬1). فائدة لغوية: يقال: نضح، ونضخ، بالمعجمة وغير المعجمة، قال أبو زيد: وهما سواء، وقال الأصمعي: أصابه نضخ من كذا -يعني: بالمعجمة-، وهو أكثر من النضح (¬2). قلت: وهذا هو الأظهر، ومنه قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66]؛ أي: فورتان بالماء، والفوران أكثر من الرش بلا شك، والله أعلم. الخامس: قوله: «فصففت أنا واليتيم وراءه»، قال أهل اللغة: اليتيم: جمعه أيتام، ويتامى، وقد يَتِمَ الصبي -بالكسر- ييتَم -بالفتح- يَتْمًا ويُتْمًا، بالتسكين فيهما. قالوا: واليتم في الناس من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم. قال ابن عطية: وحكى الماوردي: أن اليتم يقال في بني آدم: فقد الأم. انتهى (¬3). يقال: أيتمت المرأة، فهي مُوتِمٌ؛ أي: صار أوولاردها يتامى، وكل شيء مفرد يعز نظيره، فهو يتيم، يقال: درة يتيمة، ويَتَّمهم ¬
تيتيما: جعلهم أيتاما (¬1). فيه: حجة للجمهور في أن موقف الاثنين وراء الإمام؛ خلافا لابن مسعود - رضي الله عنه -، ومن تابعه؛ فإنهم (¬2) قالوا: يكونان هما والإمام صفا واحدا. وفيه: دليل على الصلاة على الحصير، وسائر ما تنبته الأرض، وهنو مجمع عليه فيما علمت. وفيه: دليل على أن للصبي موقفا في الصف. وفيه: أن موقف المرأة خلف موقف الصبي (¬3). وفيه: صحة صلاة الصبي المميز. وفيه: أن الأفضل في نوافل النهار أن تكون ركعتين؛ كنوافل الليل (¬4). السادس: جاء في هذا الحديث: فَعيل وفعول في الصفات من غير مبالغة، وذلك: يتيم، وعجوز، وهما (¬5) مما جاء على خلاف القياس، ومثله حصور: للناقة الضيقة الإحليل، وهي التي ضاق مجرى لبنها من ضرعها، وهو كثير، والله أعلم. ¬
السابع: قوله: «ثم انصرف»: الأظهر: أنه أراد الانصراف عن الصلاة، وهو السلام، لا الانصراف عن البيت، ويؤيده قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الآخر: «لا تسبقوني بالركوع، ولا بالقيام، ولا بالانصراف» (¬1)؛ أي: بالسلام (¬2)، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 70 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي؛ فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
* التعريف: ميمونة هذه: بنت الحارث، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي بنت الحارث ابن حَزْنِ بن بَحير (¬1) -بفتح الباء وكسر الحاء المهملة- بن الهُزْمش بن رُوَيْبَة بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية. تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ست من الهجرة، وقيل: سنة سبع. وروي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا رافع ورجلا من الأنصار، فزوجاه ميمونة، وكانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أبي رُهْم -بضم الراء وإسكان الهاء- بن عبد العزى من بني مالك بن حِسْل -بكسر الحاء وإسكان السين-، ويقال: إنها التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: إن التي وهبت نفسها هي زينب بنت جحش، ويقال: أم شريك العامرية من بني عامر بن لؤي. وتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة بالمدينة قبل أن يخرج. وروزى ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة في سفره، في عمروة (¬2) القضية، وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب، وكانت أختها أم الفضل تحت العباس، وهي أم عبد الله بن عباس، فهي خالة ابن عباس، وخالد بن الوليد. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون حديثا، اتفقا على سبعة، وللبخاري حديث، ولمسلم خمسة. ¬
روى عنها: ابن عباس، ومولاه كريب، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وإبراهيم بن عبد الله بن معبد، ويزيد بن الأرقم. توفيت بسَرِفَ، وهو ماء بينه وبين مكة تسعة أميال، وقيل: اثنا عشسشر ميلا، وصلى عليها عبد الله بن عباس، ودخل قبرها هوم ويزيد بن الأرقم، وعبد الله بن شداد، وهم أبناء أخواتها، وعبيد الله الخولاني، وكان يتيما في حجرها، وكانت وفاتها سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وقيل: ست وستين، ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بها بسرف (¬1) الموضع الذي توفيت به، وهي آخر من تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي آخر أزواجه موتا على المشهور، وقيل: أم سلمة كانت آخرهن موتا، والصحيح الأول، وأما أنها آخرهن زواجا، فلا أعلم فيه خلافا. روى لها: الجماعة، - رضي الله عنها - (¬2). فيه: جواز المبيت عند ذوي المحارم، وإن كان ثم زوج. وقيل: إنه تحرى وقتا لا يكون فيه ضرر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو وقت الحيض. وقيل: إنه بات عندها؛ لينظر إلى لاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه: فضل قيام الليل. وفيه: أن للصبي موقفا في الصف مع الإمام، كما تقدم. ¬
وفيه: أن موقف الواحد مطلقا عن يمينه، صغيرا كان أو كبيرا. وفيه: أن للإمام أن يدير من خالف الموةقف المشروع. قال با نبشير من أصحابنا: وتكون الإدارة من وراء الإمام. وفيه: دليل على أن العمل اليسير في الصلاة مغعتفر (¬1). وقوله: «من الليل»: يحتمل أن تكون (من) للتبعيض، ويحتمل أن تكون بمعنى (في)؛ كقوله تعالى: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]؛ أي: في يوم الجمعة. * * * ¬
باب الإمامة
بابُ الإِمامةِ الحديث الأول 71 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ , أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟» (¬1). ¬
(أما) -مخفف-، لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه: التقرير، والتوبيخ، ويسمى: حرف استفتاح، وحرف الاستفتاح: (أما) و (ألا)؛ أي: يستفتح بعدهما اللام، والأصل فيه (ما) النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، فهي كـ (ليس) في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]. وفي «الصحاح»: (أما) -مخفف- تحقيق للكلام الذي يتلوه؛ كقولك: أما إن زيدا قائم، بمعنى: إنه قائم على الحقيقة، لا على المجاز، وهذا معنى آخر. وكذا قولهم: أما والله؟ قد ضرب زيد عمرا (¬1). معناه غير معنى (أما) في الحديث. وقوله: «يخشى»؛ أي: يخالف، والحديث نص في النهي عن الرفع قبل الإمام في الركوع والسجود، ويقاس عليهما الخفض؛ كالهوي في الركوع والسجود (¬2). ولنذكر شروط الاقتداء، وهي أربعة: ¬
الأول: نية الاقتداء، فإن تابع من غير نية، بطلت (¬1). الثاني: أن لا يخالف جنس صلاة المأموم جنس صلاة الإمام؛ كمتنفل يؤم مفترضا، وأجاز ذلك الشافعية. الثالث: اتحاد الفرض، فلا يصلي ظهرا خلاف من يصلي عصرا، ولا العكس، وغير ذلك، وأجاز ذلك -أيضا- الشافعية. الرابع: المتابعة والمساوقة، دون المساواة والمسابقة. وروى ابن حبييب: أن للمأموم أن يفعل مع الإمام معا، إلا الإحرام، والقيام من اثنتين، والصلام، فيفعله بعده، ثم على كلا المذهبين: لا تبطل الصلاة بالمساواة، أو التقدم في شيء من الأفعال سوى الإحرام والسلام. قال سحنون (¬2) في «المجموعة»: هذا قول عبد لعزيز، وقول مالك: إنه يعيد الصلاة، وحيث صححنا، فيؤمر بالعود إلى ما فعله قبل الإمام، حتى يكون فاعلا بعده، ما لم يلحقه الإمام، والله أهلم (¬3). فإن قلت: لم خص الحمار دون غيره؛ كالكلب والخنزير -مثلا-، وما المناسبة فغي ذلك؟ ¬
قلت: المناسبة في ذلك -والله أعلم-: التنبيه بذكر الحمار على البلادة وعدم الفهم؛ لأن المتعاطي لمخالفة إمامه ومسابقتهله في أفعالهع كأنه بلغ (¬1) هذا المبلغ من البلادة، فناسب بذلك أن يحول رأسه رأس حمار؛ لشبهه به، لا سيما وقد قالوا: إن العقوبة تكون من جنس الجناية والذنب، كما جاء: من تحلم كاذبا، ألزم، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «أُزمَ أن يكلف عقد شعيرتين، وليس بعاقد» (¬2)، كقوله في المصور: «كلف أن ينفخ فيه الروح، وليس بنافخ» (¬3)، وفي الحديث الآخر: «أحيوا ما خلقتم» (¬4)، إلى غير ذلك، والله أعلم. فإن قلت: لم خص الرأس دون غيره؟ قلت: لأأنه به وقعت الجناية. ¬
فإن قلت: لم خص الركوع والسجود دون غيرهما من الأرمان؟ قلت: لأنها آكد أركان الصلاة من حيث كانت غاية للخضوع (¬1) والتذلل ظاهرا؛ إنما تحصل بهما، فهما محل القرب، «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (¬2)، وذلك يناسب الطمأنينة فيهما، فلما عجل حتى سبق الإمام فيهما، وقصر فيما ينبغي التطويل فيه، نهي عن ذلك، ونبه عليه، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني والثالث
الحديث الثاني والثالث 72 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ؛ لِيُؤْتَمَّ بِهِ؛ فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ؛ فَإِذَا كَبَّرَ، فَكَبِّرُوا , وَإِذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ، فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِساً، فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ» (¬1). ¬
وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ: 73 - عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ؛ فَصَلَّى جَالِساً , وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَاماً , فَأَشَارَ إلَيْهِمْ؛ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ , فَإِذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا , وَإِذَا رَفَعَ، فَارْفَعُوا , وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ , وَإِذَا صَلَّى جَالِساً؛ فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ» (¬1). ¬
وهو الحديث الثالث. * * * أما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، فالكلام عليه من وجوه: الأول: قوله: «إنما جعل الإمام»: لا بد فيه من تقدير محذوف، وهو المفعول الثاني ل (جعل)؛ لأنها هنا بمعنى صير، والتقدير: إنما جعل الإمام إماما (¬1)، والأول ارتفع لقيامه مقام الفاعل، ومعنى «ليؤتم به»؛ أي (¬2): يقتدى (¬3) به. وقد تقدم الكلام على (إنما)، وأنها للحصر صدر هذا الكتاب. الثاني: الحديث ظاهره في منع صلاة المفترض خلف المتنفل؛ إذ الاختلاف أعم من أن يكون في نية أو غيرها، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وغيرهم. وظاهر -أيضا- في منع صلاة من يصلي ظهرا، خلف من يصلي ¬
عصرا، أو العكس؛ لحصول الاختلاف المذكور؛ لأنه متى خالفه في قول أو فعل، صدق عليه أنه مخالف، فلا يخرج من ذلك شيء إلا بدليل، ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - نبه على الموضع الذي يخالفه فيه، ونص عليه تبيينا له، وهو قوله: «وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد»، فبقي ما عدا ذلك على الأصل، فلا يخرج إلا بدليل. فإن قلت: ويدخل في هذا النهي -أيضا- إمامة (¬1) القائم للمريض العاجز عن القيام، وهي صحيحة عندكم، وهذا اختلاف بلا شك. قلت: إنما يتناول هذا النهي من يمكنه الموافقة، والعاجز عن القيام لا يمكنه موافقة الإمام، فلا يتناوله هذا النهي -والله أعلم-، والشافعي - رحمه الله - وغيره يخالف في ذلك، وحملوا الحديث على الاختلاف في الأفعال الظاهرة؛ كالصبح خلف من يصلي الكسوف، والعكس، ونحو ذلك. الثالث: قد يؤخذ من الحديث عدم قراءة المأموم في الصلاة الجهرية، إذ لم يقل -عليه الصلاة والسلام-: وإذا قرأ، فاقرأوا، كما قال: «فإذا كبر فكبروا» إلى آخره، وإنما خصصنا الجدهرية؛ لأنها التي يمكن استعلامها (¬2) دون السرية. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وإذا قال: سمع الله لمن ¬
حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد»: فيه: أن التسميع مختص بالإمام ظاهرا (¬1). وقد اختلف أصحابنا في صلاة المسمع، وصلاة المصلي بتسميعه على ثلاثة أقوال للمتأخرين: الأول (¬2): صحة الصلاة؛ لأنه نائب عن الإمام، ففعله كفعله، وعمدتهم: اقتداء أبي بكر - رضي الله عنه - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واقتداء الناس بأبي بكر، وهذا على أن أبا بكر خرج عن الإمامة (¬3)، ولأن العمل استمر في سائر الأمصار على الصلاة بالتسميع. والقول الثاني: بطلان الصلاة؛ لأنه إنما شرع الاقتداء بالإمام، لا بعوض عنه، كما هو ظاهر الحديث. والثالث: صحة الصلاة إن أذن الإمام للمسمع، فحينئذ يكون كوكيله، وبطلانها إن لام يأذن؛ إذ لا تصح الوكالة من غير إذن (¬4). ع: وقيل: إنما يجوز ذلك في مثل الأعياد، والجنائز، غير الفرائض التي يجتمع لها الناس. ¬
وقيل: يجوز في هذا، وفي الجمعات؛ لضرورات (¬1) كثرة الجموع. وقيل: إنما يجوز ذلك إذا بصوت وطيء غير متكلف، فإن تكلف (¬2)، أفسد على نسفه، وعلى من ائتم به (¬3). وفيه -أيضا-: دليل على أن قول: ربنا ولك الحمد، مختص بالمأموم، وهو مذهبنا. وقال الشافعية: كل من الإمام والمأموم والفذ يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد»، فيجمع بينهما. الخامس: قيل: معنى «سمع الله لمن حمده»: أجاب الله دعاء من حمده. وقيل: المراد بها: الحث على التحميد (¬4). وهذا لا ينافي الأول؛ لأنا إذا أخبرناأن الحمد سبب في إجابة الدعاء، كان ذلك حاثا لنا على التحميد في الدعاء وغيره. ع: يظهر لي أن تردد قول مالك في اختيار جواب هذا بـ: ربنا لك الحمد، وـ: ولك الحمد؛ إنما كان لاختلاف الآثار بذلك، أو على التردد بين المعنيين المتقدمين، فإذا جعلنا «سمع الله لمن ¬
حمده»، بمعنى الحث على الحمد، كان الوجه في الجواب: «ربنا لك الحمد» دون واو؛ لأنه مطابق لما حث عليه، وامتثال لما ندب إليه، وعلى التلأويل الآخر: الأولى إثبات الواو؛ لأنه يتضمن تأكيد الدعاء الأول وتكراره بقوله: «ربنا»؛ أي: استجب لنا، واسمع حمدنا، ثم يأتي بالعبادة التي دعا بالاستجابة لقائلها، وهو الحمد، فنقول: «ولك الحمد» (¬1). وقيل: معنى ذلك: على إلهامنا ذلك، واستعمالنا له. قلت: والمترجح عندنا إثبات الواو، والله أعلم. فائدة: ينبغي أن نتعلم: أن ما جاء من الدعاء بصيغة الخبر؛ نحو (¬2): سمع الله لمن حمده، وغفر الله ذنوبنا، ورضي الله عنا، وصلى الله على محمد وسلم، ونحو ذلك، قد قيل فيه: إنه من باب تللتفاءل بإجابة الدعاء؛ وكأنه وقع، واستجيب، وأخبر عن وقوعه، وقد تقدم الكلام على سر مجيء الأمر بصيغة الخبر، والعكس. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فإذا كبر، فكبروا»؛ أي: إذا قال: الله أكبر، فقولوا كذلك. وقد اختلف العلماء في معنى (الله أكبر)، فقيل: معناه (¬3): الله أكبر ¬
من كل شيء. وأبى ذلك آخرون، وقالوا: إنما يقع التفاضل بين متقاربين في الشيء، ومتشاركين فيه، والله - عز وجل - يتعالى عن ذلك، وإنما معنى (أكبر): الكبير. قال هؤلاء: وقد جاء (أفعل) بمعنى اسم الفاعل؛ كقولهم: أهون بمعنى: هين، قال تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]؛ أي: هين. وقال الفرزدق: [الكامل] إِنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ (¬1) أراد: أعز: عزيز، وأطول: طويل. قال الزجاج: وهذا غير منكر، وقد جاء على نمط كلام العرب في المبالغة في الوصف، ولم (¬2) يرد به النمفاضلة، والمعنى: الله أكبر كبير؛ كما يقال (¬3): أعز عزيز. وقيل: معناه: الله أكبر من أن يشرك به، أو يذكر بغير المدح والتمجيد والثناء الحسن. قال صاحب «التحرير في شرح مسلم»: هذا أحسن الأقوال؛ لما فيه من زيادة المعنى. ¬
وأما قولهم: «الله أكبر كبيرا»، فعلى تقدير: كبرت كبيرا (¬1) (¬2). ولتعلم: أن مذهب مالك - رحمه الله -: أنه لا يجزىء من التكبير إلا الله أكبر، لا غيره (¬3). وبه قال أحمد، وداود. وقال الشافعي - رحمه الله -، والجمهور: يجزىء: الله الأكبرُ. واتفقوا على عدم انعقاد الصلاة بقوله: الله أجلُّ أو أعظمُ، و (¬4) الله الكبير، ونحو ذلك. حاشا أبي حنيفة؛ فإنه قال: تنعقد الصلاة بكل ذِكْرٍ يُقصد به (¬5) تعظيم الله تعالى، ووافق على (¬6) أنه لا تنعقد الصلاة ب: يا ألله ارحمني، أو اللهمَّ اغفرلي، أو بالله أستعينُ. وقال أبو يوسف: تنعقد بألفاظ التكبير (¬7)؛ كقوله: الله أكبر، والله الكبيرُ (¬8)، فلو قال: الله، أو الرحمنُ، واقتصر عليه، فعن أبي حنيفة روايتان. وحجة الشافعي: قوله-عليه الصلاة والسلام-: «مفتاح الصلاةِ ¬
الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (¬1)، والتكبير يشتمل على: الله أكبر، والله أكبر. وأورد عليه: أنه ينبغي أن تنعقد بقوله: الله أكبر، وبقوله: الله الكبير، كما قال أبو يوسف، وإذا منع هذا، لزم الاتباع وتعين، ونزل الخبر عليه (¬2). فإن قلت: وما الفرق بين أكبر، والأكبر من جهة المعنى تنكيرا أو تعريفا (¬3)؟ قلت: قال الشيخ أبو بكر الأبهري - رحمه الله تعالى-: إذا دخل الألف والله على أكبر صار نعتا، كمصير الكبير، ويبقى المبتدأ بلا خبر. قال بعض المتأخرين من أصحابنا: وفي هذا الكلام نظر؛ فإنه لا يمتنع أن يكون الأكر خبرا؛ لأن خبر المبتدأ قد يكون معرفة، إلا أنه قد صار محتملا للنعت والخبر، فكيف يقوم ذلك مقام: الله أكبر، الذي تعين (¬4) فيه أن أكبر خبر، والفرع لا يلحق بالأصل إلا إذا ساواه، أو زاد عليه، فلعل الشارع ما جعل قوله: «الله أكبر» عقدا للصلاة، إلا ¬
لتعيين (¬1) أن أكبر خبر. قال الأبهري: ثم إن قوله: «الله أكبر» معناه: أكبر من كل شيء، فهو أبلغ ما يكون من المدح، وإذا قلنا: الأكبر، لم يبقى ذلك المعنى؛ إذ لا يجوز الجمع بين الألف واللام و (من) في أفعل التفضيل. وإذا قلت: الأكبر، جاز أن يكون معه من يشاركه في الكِبَر، وإذا قلت: أكبر، لم يكن له نظير. قلت: وفي هذا نظر؛ فإن صيغة (أفعل) التي للمفاضلة تقتضي بوضعها المشاركة في أصل الشيء، والزيادة عليه، كان فيها الألف واللام، أو لم يكن؛ كقولنا: زيد أفضل من عمرو، وزيد الأفضل، وكذا مع الإضافة في نحو: زيد أفضل القوم. فتأمله. ثم قال: وأما أصحاب أبي حنيفة فقولهم أقرب من قول غيرهم، قال صاحب «البيان والتقريب»: يعني: أقرب من قول الشافعي، وأبي يوسف، فإنهما لم يطردا القياس في كل لفظ معناه التعظيم، ولم يقتصرا على ما ورد، وقول أبي حنيفة بعد ذلك ضعيف؛ لأنه استعمل القياس في عبادة لا يعقل معناها. قال صاحب «البيان والتقريب»: ثم المعنى الذي استنبطوه من التكبير، وقاسوا به، ليس من معاني الشرع، بل هو راجع إلى تفسير معنى اللفظ، فلا يصح القياس معه، ولو تنزلنا على صحة ما قالوه، ¬
للزمهم أن تنعقد الصلاة بقوله: اللهم اغفر لي وارحمني، وهو لا تنعقد عندهم بذلك. تنبيه: فإن قلت: ما الحكمة في تقديسم هذا القول أمام فعل الصلاة؟ أعني: قول: الله أكبر. قلت: قيل: الحكمة فيه تنبيه المصلي على معنى هذه الحكمة، التي معناها: أنه الموصوف بالجلال، وكبر الشأن، وأن كل شيء دون جلاله وسلطانه حقير، وأنه جل وتقدس عن شبه المخلوقين والفانين، ولشغل المصلي خاطره بمقتضى هذه اللفظتة، ويستحقر أن يذكر معه غيره، أو يحدث نفسه بسواه -جل اسمه-، وأن من انتصب لعبادته، وتمثل بين يديه، أكبر من كل شيء يشتغل به، أو يعرض بذكر عما هو قد تفرغ له من طاعته. ولتعلم: أن حق الكلام في هذا الوجه أن يكون ثالثالثا لا سادسا، على ما جرت به (¬1) عادتنا من تتبع ألفاظ الحديث على الترتيب، ولكن سبحان من لا يسهو ولا يغفل، جل وتعالى. السابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وإذا صلى جالسا، فصلوا جلوسا أجمعون»: اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب: فأخذت طائفة بظاهر هذا الحديث، فأجازوا صلاة القادر على القيام خلف الإمام العاجز عن القيام جالسا، تعلقا بما في كتاب ¬
مسلم: فصلى جالسا، وصلينا وراءه جحلوسا (¬1)، وفي الحديث الآخر: فأشار إليهم: أن اجلسوا (¬2)، وكأنهم جعلوا متابعة الإمام عذرا في إسقاط القيام. وذهب الشافعي والجمهور: إلى أن المأموم القادر على القيام، لا تصح صلاته خلف الإمام العاجز عن القيام إلا قائما، واحتجوزا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا، وأبو بكر والناس خلفه قياما، قالوا: وهو آخر الأمر منه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أحد القولين عندنا. والثاني: منع ذلك، وهو المشهور؛ تعلقا بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يؤمن أحد بعدي جالسا» (¬3)، وهذا الحديث، وإن كان قد احتج به أصحابنا لهذا القول؛ أعني: حديث (¬4): «لا يؤمن أحد بعدي جالسا»، فهو حديث لا تكاد تقوم به حجة؛ لأنه رواه الدارقطني ¬
عن جابر بن يزيد الجعفي -بضم الجيم وسكون العين المهملة-، عن الشعبي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحد بعدي جالسا»، وهذا مرسل، وجار بن يزيد، قالوا فيه: متروك، ورواه أيضا مجالد -بالجيم واللام-، عن الشعبي، وقد استضعف مجالد، وقد قواه ع بفعل الخلفاء، فقال بعد ما ذكر الحديث: و (¬1) بفعل الخلفاء بعده، وأنه لم يؤمن أحد منهم قاعدا، وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده، وهو يقوي (¬2) لين هذا الحديث (¬3). ق: وأما استدلاله بترك الخلفاء الإمامة عن قعود، فأضعف؛ فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه، ولعلهم اكتفوا بالاستنابة للقادرين، وإن كان الاتفاق حاصلا على مرجوحية صلاة القاعد بالقائم، وأن الأولى تركه، وذلك كاف في سبب تركهم الإمامة من قعود. وقوله: تشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده: ليس كذلك؛ لما بيناه من أن الترك للفعل لا يدل على تحريمه (¬4). قلت: وما قاله ق ظاهر لا شك فيه، والظاهر أنه ليس لأصحابنا في ذلك حجة إلا ما قاله ابن القاسم: من أن عمل أهل المدينة على ¬
ذلك -أعني: عدم الائتمام بالقاعد-، وفيه ما قاله ق من أن ترك الشيء لا يدل على تحلاريمه، فلا يتم لهم الاحتجاج، والله أعلم. واختلف أصحابنا -أيضا- في جواز ائتمام الجالس العاجز عن القيام بمثله. فروى عيسى عن ابن القاسم في «العتبية»: لا بأس أن يؤمهم في الفريضة؛ لأن حالهم قد استوت؛ كما لو أطاقوا القيام كلهم، وبه قال مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ، وابن عبد الحكم. ع: وهو مشهور مذهبنا. وروى سحنون عن ابن القاسم: لا يؤمهم؛ لأن هذا عاجز عن القيام؛ كما لو لم يقدر إلا على الاضطجاع، فإنه لا يؤم من ساواه فيه. وقد روى عيسى عن ابن القاسم: لا يؤم المضطجع. ع: قيل: هذه الرواية وهم، وهو كما قيل، وإنما وهم فيه من سمع النهي عن إمامة الجالس، فأخذ بعمةم اللفظ فيه، وحمله في كل حال (¬1). وإذا قلنا: لا يؤم المريض العاجز عن القيام مثله، فوقع ذلك. فقال ابن القاسم: تجزئ الإمام، ويعيد من ائتم بته؛ لأن الإمام قد أتى بصلاته على الوجه المأمور؛ من الانفراد، وترك الاقتداء بغيره، ومن ائتم به، فقد ائتم بمن ليس بإمام، فعليه الإعلادة؛ كما لو ائتمت امرأة بامرأة. ¬
وفي المسألة فروع مذكورة في كتب الفقه المطولة. والكلام على حديث عائشة - رضي الله عنها - مثل الكلام على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وما فيه من الزيادة، فقد (¬1) حصل التنبيه عليه، وبالله التوفيق. ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 74 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ؛ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدًا؛ ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ (¬1). ¬
* التعريف: عبد الله بن يزيد بن حصين بن عمرو بن الحارث بن خطمة -واسمه عبد الله، وإنما سمي خطمة؛ لأنه خطم رجلا على خَطْمَة، وهو مقدم الأنف والفم، فسمي خطمة -ابن جُضَمِ بن مالك بن الأوس، الأنصاري، الخطمي، يكنى: أبا موسى. شهد الحديبية وهو ابن سبع عششرة سنة، توشهد بيعة الروان، واستعمله ابن الزبير على الكوفة، وكان الشعبي كاتبه، وأدرك يزيد بن زيد أبوه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصحبه، وشهد أحدا والمشاهد بعدها، ومات يزيد قبل فتح مكة. وشهد عبد الله بن يزيد مع علي -عليه السلام- الجمل، وصفين، والنهروان، وسكن الكوفة، ومات زمن ابن الزبير، وكان استعمال ابن الزبير له على الكوفة سنة خمس وستين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وعششرون حديثا، أخرج له البخاري حديثين، ولم يخرج له مسلم شيئا، وقد روي له عن البراء بن عازب، عن النبيت - صلى الله عليه وسلم -. روى عنه: محمد بن كعب القرظي، والشعبي، وأبو بردة، وأبو إسحاق السيعي، وزياد بن علاثة. ¬
روى له الجماعة - رضي الله عنه - (¬1) (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «وهو غير كذوب»: قال يحيى بن معين: القائل: «وهو غير كذوب» هو أبو (¬3) إسحاق، قال: ومراده: أن عبد الله بن يزيد غير كذوب، وليس المؤراد: أن البراء غير كذوب؛ لأن البراء صحابي لا يحتاج إلى تزكية، ولا يحسن فيه هذا القول. ح: وهذا الذي قاله ابن معين خطأ عند العلماء، قالوا: بل الصواب أن القائل: (وهو غير كذوب) هو عبد الله بن يزيد، ومراده: أن البراء غير كذوب، ومعناه: تقوية الحديث، وتفخيمه، والمبالغة في تمكينه من النفس، لا التزكية التي تكون في مشكوك فيه، ونظيره قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق المصدوق» (¬4)، وعن ¬
أبي هريرة مثله، وفي «صحيح مسلم»، عن أبي أبي مسلم الخولاني: حدثنا الحبيب الأمين عوف بن مالك الأشجعي (¬1)، ونظائره كثيرة، فمعنى الكلا: حدثني البر اء، وهو غير متهم، كما علمت، فثقوا بما أخبركم عنه. قالوا: وقول ابن معين: إن البراء صحابي، فينزه عن هذا الكلام، لا وجه له؛ لأن عبد الله بن يزيد صحابي -أيضا (¬2) - معدود في الصحابة انتهى (¬3). قلت: تمثيله قوله: وهو غير كذوب بقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: وهو الصادق المصدوق، وكذلك ما بعده، ليس بجيد، وكأنه كلام من لم يلم بشيء من علم (¬4) البيان أصلا، ومن ذا (¬5) الذي لا يفرق بين قولنا: زيد صدوق، وزيد غير كذوب، أو بين قولنا: زيد عاقل، وزيد ليس ¬
بمجنون؟! ألا ترى أن ابن مسعود - رضي الله عنه - لو قال عوض قوله: وهو الصادق المصدوق، حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غير كذوب، لوجدت الطبع ينفر، والشعر يَقُفُّ به عند سماعه؟! فإنا نفرق بين إثبات الصفة للموصوف، وبين نفي ضدها عنه (¬1). والسر في ذلك -والله أعلم-: أن نفي الضد كأنه يقع جوابا لمن أثبته؛ بخلاف إثبات الصفة، فإنه على الأصل، فإذا قلت: جاء زيد العالم، فكأنك قلت: جاء المعروف بالعلم، لا أن ثم منازعا في ذلك، إنما هو كلام خرج في معرض تعريف الذات الموصوفة بالعلم، والله أعلم (¬2). فتعرف هذا الأصل في كل ما يرد عليك من هذا الباب. فإن قلت: فقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، ¬
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]، ونحوه، ما تصنع به؟ قلت: ما ذكرنا في الحديث عبارة الغير عن الغير، بخلاف الآيتين الكريمتين. فإن قلت: وما الفرق بين عبارة المعبر عن نفسه، وعبارة غيره عنه؟ قلت: قد يعبر الإنسان عن نفسه بأشنع الغعبارات وأبشعها إذا أراد التهويل على مخاطبه، والتشنيع عليه، أو (¬1) التهكم به، وذلك كما يقول النعروف بالصدق والأمانة والعفة -مثلا-: ما أنا بكذاب، ولا خائن، ولا فاسق عند قصده ما ذكرنا (¬2)، ولو خاطبه غيره بذلك، لم يحسن، بل يسمج ويقبح جدا. هذا كله إذا قلنا: إن الآيتين لم تخرجا على جواب من ادعى من الكفرة ذلك لو توهم (¬3)؛ أعني: الظلم والغفلة، فتإن كانتا خرجتا على جواب ذلك، فلا كلام، وكانتا كقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الصمد: 3] حين ادعوا له الصاحبة والولد -تعالى الله وتقدس عن ذلك علوا كبيرا (¬4) -، ¬
ولذلك (¬1) نفت (لم) المستحيلة؛ أعني: في (¬2) قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الصمد: 3]، والعرب لا تقول: الحجر لم (¬3) يطر، بل لا يطير، وإلا، فالجواب ما تقدم، والله أعلم. الثاني: يقال: حنى، يحني، ويحنو، وقد جاء في الرواية الأخرى: «لا يحنو أحد منا ظهره حتى نراه قد سجد» (¬4)، وهما لغتان حكاهما الجوري (¬5)، وغيره: حَنَيْتُ، وحنوت، لكن الياء أكثر، ومعنى حنوت الشيء: عطفته، ومله حنيت العود وحنوته: عطفته أيضا (¬6). الثالث: فيه: أن السنة أن لا ينحني المأموم للسجود حتى يضع الإمام جبهته على الأرض، إلا أن يعلم من حاله أنه لو أخر إلى هذا الحد، لرفع الإمام من السجود قبل سجوده، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى قريبا. ¬
وفيه أيضا: دليل على طول الطمأنينة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف أصحابنا في وجوبها، قالوا: ومذهب ابن القاسم أنها سنة (¬1) في جميع الأركان، وسيأتي الكلام عليها في موضعها إن شاء الله تعالى. الرابع: قوله: «ثم نقع سجودا بعده»: هو بالرفعل على الاستئناف، وليس معطوفا على (يقع) الأول المنصوب بـ (حتى)؛ إذ ليس المعنى على ذلك، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 75 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: فيه: دليل على مشروعية التأمين للإمام والمأموم، وليس فيه ما يدل على تأمين الفذ، وإن كنت لا أعلم خلافا في جواز تأمينه في الصلاة السرية على ما سيأتي. وقال أبو جحنيفة - رحمه الله -: لا يجهر به (¬1) المصلي، سواء كان إماما أو مأموما، وعنه رواية أخرى: يخفيه الإمام. وأما مالك - رحمه الله -، فلم يختلف قوله في تأمين الإمام في الصلاة السرية. قال القاضي أبو الوليد: لم يختلف أصحابنا في ذلك، وعلله بأنه قد عري دعائه من مؤمن عليه غيره. وأما الجهرية، فروى المصريون: لا يؤمن، وروى المدنيون: يؤمن. ¬
واختار القاضي أبو الوليد رواية المدنيين: أنه يؤمن في السر والجهر، ويكون تأمين المأموم مقارنا له معا (¬1). وقال ابن بكير: يتخير في الجهر، ثم حيث قلنا: يؤمن، فيسر كالمأموم والمنفرد. قال في «الجواهر»: واختار بعض المتأخرين جهر الإمام به. وقال غيره: هو مخير بالجهر والإسرار. الثاني: آمين: في لغتان: أفصحهما وأشهرهما: المد، وتخفيف الميم، وبه دجاءت الروايات. والثانية: أمين -بالقصر وتخفيف الميم-، حكاها ثعلب، وآخرون، وأنكرها جماعة على ثعلب، وقالوا: المعروف المد، وإنما جاءت مقصورة في ضرورة الشعر، وهذا فاسد؛ لأن الشعر الذي جاء فيها ليس من ضرورته (¬2) القصر. وحكىة الواحدي لغة ثالثة: آمين بالإمالة والمد وتخفيف الميم، وحكاها عن حمزة، والكسائي. وحكى الواحدي: آمين أيضا -بالمد وتشديد الميم-، قال: روي ذلك عن الحسن البصري، والحسين بن القصار، قال: ويؤيده أنه جاء عن جعفر الصادق أن تأويله: قاصدين إليك، وأنت أكرم من ¬
أن تخيب قاصدا. وحكى لغة التشديد أيضا: ع، وهي شاذة منكرة مردودة، نص ابن السكيت وثعلب وسائر أهل اللغة على أنها من لحن العوام (¬1). وهو اسم للفعل، ومعناه: اللهم استجب، وهو مبني؛ لوقوعه موقع المبني، وحرك لأجل التقاء الساكنين، وفتح لأجل الياء قبل آخره؛ كما فتحت (أين)، والفتح فيها أقوى؛ لأن قبل الياء كسرة، فلو كسرت النون على الأصل، لوقعت الياء بين كسرتين. وقيل: معناها: ليكن ذلك، وقيل: افعل، وقيل: لا تخيب رجاءنا، وقيل: لا يقدر على هذا غيرك، وقيل: هو طابع الله على عباده يدفع به عنهم الآفات، وقيل: هو كنز من كنوز العرش لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، وقيل: هو اسم الله تعالى، وتقديره: يا آمين. قال أبو البقاء - رحمه الله - في إعرابه: وهذا خطأ؛ لوجهين: أحدهما: أن أسماء الله تعالى لا تعرف إلا تلقيا، ولم يرد به (¬2) سمع. والثاني: أنه لو كان كذلك، لبني على الضم؛ لأنه منادى معرفة، أو مقصود، وليس من الأبنية العربية، بل هو من الأبنية العجمية؛ كهابيل، وقابيل، والوجه فيه: أن يكون أشبع فتحة الهمزة، فنشأت ¬
الألف، فعلى هذا لا يخرج عن الأبنية العربية، انتهى (¬1). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه»: ع: قيل يعني: وقت تأمينهم ومشاركتهم في الدعاء والتأمين، ويفسره قوله في الحديث الآخر: «وقال الملائكة في السماء: آمين»، وإليه ذهب الداودي، والباجي، قال: وعلى هذا يظهر قول الخطابي: إن الفاء هنا لييست للتعقيب، وإنها للمشاركة؛ إذ (¬2) علق الغفران بالموافقة في القول على هذا التأويل. وقيل: من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الصفة؛ من الخشوع والإخلاص، وعلى هذا يحمل قوله في مثل هذا الحديث الذي فيه: «إذا قال: سمع الله لمن حمده» الحديث. وقيل: من وافق دعاؤه دعاء الملائكة. وقيل: المراد بالملائكة هنا: الحفظة المتعاقبون بالليل والنهار، يشهدون الصلاة مع المؤمنين ويؤمنون معهم، ولكن يرد هذا قوله: «في السماء»، وقيل: لا يرده، بل إذا قالها الحاضرون، قالها من فوقهم، حتى ينتهي؟ إلى ملائكة السماء. قلت: وفي هذا الجواب نظر. وقيل: معناه: من وافق استجابة دعائه كما يستجاب للملائكة. ¬
وقيل: من وافق دعاؤه دعاء الملائكة الذين يستغفرون لمن في الأرض؛ لأن في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] الدعاء له ولأهل ملته، ثم قال: «آمين» تأكيدا (¬1) لإجابة الدعاء جميعه، كما تفعل الملائكة، والوجه الأول أظهر. وقد جاء فيه حديث مفسر لا يحتاج إلى تأويل: أن الله تعالى جعل من ملائكته مستغفرين لمن في الأرض، ومصلين على من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وـ (¬2) داعين لمن ينتظر الصلاة، فلذلك يختص منهم من يؤمن عند تأمين المؤمنين، أو عند دعائهم؛ كما جعل منهم لعانين لقوم من أهل المعاصي، وما منهم إلا له مقام معلوم. ع: وفي قوله: «إذا قال الإمام: ولا الضالين» حجة لقراءة أم القرآن، وكونها ملتزمة للصلاة، وغير منفصلة عنها، وحجة لمن لا يرى السكتة للإمام، ولا قراءة المأمةوم خلفه فيما يجهر فيه؛ لأنه ذكر ما يفعل الإمام والمأموم، فذكر (¬3) التكبير للإمام، ثم ذكر بعده تكبير (¬4) المأموم، ثم ذكر قراءة الإمام، ولم يذكر للمأموم قراءة، ولو كانت السكتة من حكم الصلاة، لقال: فإذا سكت، فاقرأوا، كما قال: «فإذا قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، فقولوا: آمين»، ¬
وهو موضع تعليم (¬1) وبيان. وقد اختلف العلماء في هذه السكتة للإمامن، فذهب الشافعي ومن وافقه إلى أن على الإمام ثلاث سكتات: بعد التكبير، وبعد تمام أم القرآنت، وبعد القراءة؛ ليقرأ من خلفه فيها. وذهب مالك، وأبو حنيفة، وجمهور السلف والعلماء إلى إنكار ذلك في السكتتين الآخرتين، وقد رويت في ذلك أحاديث لا يتفق عليها عند أهل الحديث، انتهى (¬2). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا قال الإمام» يعطي أن التأمين ثابت للإمام، معلوم من عادته وشأنه، من حيث كانت (إذا) الشرطية للمحقق، بخلاف (إن)؛ فإنها تكون للمشكوك فيه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «غفر له ما تقدم من ذنبه»: ظاهره يشمل الغائر والكبائر، فإن دل دليل على تخصيص أحدهما، رجع إليه، وإلا، بقينا مع ظاهر الحديث، والله أعلم. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 76 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالسَّقِيمَ، وَذَا الْحَاجَةِ , وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ؛ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ» (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الحديث دليل على مطلق التخفيف في الصلاة للإمام، والحكم فيه مذكور مع علته، وهي المشقة اللاحقة للمتأمومين إن طول عليهم، إلا أن الصلاة تختلف بالنسبةإلى الطول والقصر في القراءة وما يتبعها من الأركان بعد تكبيرة الإحرام، فأطول الصلاة قراءة عندنا الصبح، والظهر، وأقصرها العصر والمغرب، وأوسطها العشاء الآخرة، فتخفيف كل صلاة بحسبها، وهذا كله ما لم يؤثر المأمومون التطويل، فحينئذ لا يكره؛ كما إذا اجتمع قوم لقيام الليل مثلا، فإن ذلك، وإن شق عليهم، فقد آثروه، ودخلوا عليه (¬1). الثاني: الضعيف هنا: يحتمل أن يراد به: النحيف البدن الذي يشق عليه طول القيام والركوع. ويحتمل أن يراد به: الشيخ الكبير، والصغير؛ كما هو مفسر في الحديث (¬2) الآتي بعد. وأما السقيم: فهو المريض ليس إلا. وأما ذو الحاجة: فالحاجة أعم من أن توصفف، وينص عليها، وقد كانت الصحابة - رضي الله عنه م - ذوي حرف، وأعمال، ومعايش، وزروع يعملون فيها، كما ورد أنهم كانوا أصحاب نواضح وـ (¬3) عمال أنفسهم، - رضي الله عنهم -. ¬
فائدة: قال الجوهري: الحاجة معروفة، والجمع: حضأجٌ، وحاجات، وَحِوَجٌ، وحوائج على غير قياس؛ كأنهم جمعوا حائجة، وكان الأصمعي ينكره، ويقول: هو مولد، وإنما أنكره؛ لخروجه عن القياس، وإلا فهو كثير في كلام العرب، وينشد: نَهَارُ الْمَرْءِ أَمْثَلُ حِينَ يَقْضِي ... حَوَائِجَهُ مِنَ اللَّيْلِ الطَّوِيلِ والحَوْجاء: الحاجة، يقال: ما في صدري به حوجاء ولا لوجاء، ولا شك ولا مرية؛ بمعنى واحد. ويقال: ليس في أمرك حويجاء، ولا لويجاء (¬1) ولا رُوَيْغَة، والله أعلم (¬2). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فليطول ما شاء»: كأنه جاء على طريق المبالغة، وإلا، فالإنسان مأمور بأن لا يطول في الصلاة تطويلا يخرج عن العادة المشروعة، وإن كان وحده، لا سيما المغرب، ألا ترى أنه لو قرأ فيها بالبقرة مثلا، أو ما قاربها، لكان ذلك مكروها (¬3). * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 77 - عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، مِنْ أَجْلِ فُلانٍ؛ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا , فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ , فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ , فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ، فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ، وَالصَّغِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ» (¬1). ¬
* التعريف: أبو مسعود: اسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة، ويعرف بالبدري، والأمثر على أنه لم يشهد بدرا، ولكنه نزلها، فنسب إليها، وغنم كان قد ذكره البهخاري في البدريين الذين شهدوا بدرا. وشهد أبو مسعود هذا العقبة مع السبعين، وكان أصغرهم. وقيل: إإن جابار كان أصغرهم، وشهد أبو مسعود -أيضا- أحدا وما بعدها من المشاهد. وتوفي بالمدينة، وقيل: بالكوفة سنة إحدى أو اثنتين وأربعين، وقيل: في آخر خلافة معاوية، وقيل: في خلافة علي - رضي الله عنه -، وقيل: توفي بعد الستين، وقيل: سنة إحدى وثلاثين، والقولان الأخيران ضعيفان. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث وحديثان، له منها في «الصحيحين» سبعة عشر حديثا، اتفقا منها على تسعة أحاديث، وللبخاري حديث واحد، ولمسلم سبعة. روى عنه: عبد الله بن يزيد الخطمي، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعلقة بن قيس، وعبد الرحمن بن ¬
يزيد النخعي، وغيرهم (¬1). والرجل الذي قال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان هو كعب بن أبي حَزَّةَ -بفتح الحاء المهملة وتشديد الزاي- (¬2)، بن أبي القين، وقيل: حرام، وقيل: سليم، وفلان المشكو منه: هو معاذ بن جبل - رضي الله عنه -. ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: المعروف أن (جاء) يتعدى للمفعول به بنفسه، قال الله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90]، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1]، {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس: 8]، وأمثاله كثيرة، وهو هنا تعدى بـ (إلى). وقد لا يتعدى أصلا، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} [الإسراء: 81]، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: 22]، وأمثاله كثيرة، ويحتمل أن يكون هذا الأخير قد حذف منه المفعول، والتقدير: وقل: جاءكم الحق، وزهق عنكم الباطل، وجاء ربك الخلق المحشورين (¬1)، ونحو ذلك، فيرجع إلى الأول على هذا التقدير، والله أعلم. الثاني: «إني لأتأخر عن صلاة الصبح»، إلى آخره: فيه: جواز شكاية الأئمة إلى الإمام الأعظم، وذكر حاله وحالهم معه، ولا يكون ذلك من باب الغيبة، على ما تقدم في حديث القبرين. وتخصيص صلاة الصبح؛ لأنها مما تطول فيها القراءة والقيام أكثر من سائر الصلوات، ولأنه وقت السعي لمن له حرفة يبتكر إليها. وقوله: «من أجل فلان»: الظاهر -والله أعلم-: أن لفظ فلان كناية من الراوي، وأن الرجل سماه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو من الأدب وحسن التعبير. ¬_______ (¬1) في (ق): "أو المحشورين".
الثالث: قوله: «فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظة قط، أشد مما غضب يومئذ»: فيه: الغضب للموعظة، وذلك يكون إما لمخالفة الموعوظ لما علمه، أو (¬1) التقصير في تعلمه، والله أعلم. وشدة غضبه -عليه الصلاة وةالسلام- إنما هو لفرط الشفقة على أمته، والحرص على تألفهم، وصرف المشقة عنهم، ولا ينافي هذا ما جاء من النهي عن أن يقضي القاضي وهو غضبان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف غيره؛ إذ لا يستفزه الغضب، ولا يقول في الغضب والرضا إلا حقا، ولا يحكم إلا بالحق. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إن منكم منفرين»: هو من باب قوله -عليه الصلاة-: «ما بال أقوام يفعلون كذا؟» من غير مفاجأة بالخطاب لمعين، وإن كان هو معينا عنده - صلى الله عليه وسلم -؛ كقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث بريرة: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟»، الحديث (¬2). ومنه في حديث: «الأعمال بالنيات، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله»، الحديث (¬3)، ولم يعين مهاجر أم قيس؛ سترا منه - صلى الله عليه وسلم - على فاعل ذلك، ولا يبعد عندي أن يكون ذلك أدخل في الزجر؛ إذ فيه الإع راض منه - صلى الله عليه وسلم - عن مواجهة ذي المخالفة، والإعراض عن المخالف ¬
من أشد العقوبات، لا سيما إعراضه - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاء في «سنن أبي داود» باسم المطول، وهو معاذ - رضي الله عنه - كما تقدم (¬1) في حديث آخر غير هذا، وهما واقعتان، والله أعلم. قال أبو داود: كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع فيصلي بقومه، فأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - مررة (¬2) الصلاة، وقال: مرة: العشاء، فصلى معاذ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جاء يؤم قومه، فقرأ البقرة، فاعتزل رجل من القوم، فصلى، فقيل: نافقت، فقال: ما نافقت، فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنا نحن أصحاب نواضح، ونعمل بأيدينا، وإنه جاء وأمنا، فقرأ سورة البقرة، فقال: «يا معاذ! أفتان أنت؟! اقرأ بكذا، اقرأ بكذا». قال أبو الزبير: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]، فذكروا لعمرو ذلك، فقال: أراه كما ذكره (¬3) (¬4). الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فليوجز»؛ أي: فليقصر. ¬
قال أهل اللغة: أوجزت (¬1) الكلام: قصرته، وكلام موجز، وموجِز -بفتح الجيم وكسرها-، وَوَجْزٌ، ووجيز، والظاهر: أتن الإيجاز والاختصار بالنسبة إلى الكلام مترادفان. وفي «الصحاح»: اختصار الكلام: إيجازه (¬2). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «فإن من ورائه الكبير، والصغير، وذا الحاجة»: فيه: حضور الصغير المسجد، وقد جاء ذلك أيضا في الحديث الآخر: «إني لأسمع بكاء الصبي، فأتجوز فيها» (¬3)، ولكن مذهبنا أنه لا ينبغي أن يدخل الصبي المسجد إلا أن يكون مميزا يعقل الصلاة (¬4)، والله أعلم. * * * ¬
باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -
بابُ صفةِ صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الحديث الأول 78 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةِ، سَكَتَ هُنَيْهَةً (¬1) قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ , فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي , أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي، وَبَيْنَ خَطَايَايَ؛ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ؛ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ، وَالْمَاءِ، وَالْبَرَدِ» (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: ظاهر هذا الحديث ملازمته -عليه الصلاة والسلام- لهذا الدعاء عند الافتتاح؛ لما تقدم من أن (كان) هذه تدل على تكرار الفعل، وملازمته، وأن (كان) قد تستعمل في مطلق العمل، ولكن الأكثر الأول. الثاني: قوله: «هنيهة» (¬1): هو -بضم الهاء الأولى وفتح النون، على وزن فُعَيلة-، ويروى: «هُنَيَّة» -بتشديد الياء بغير (¬2) همز-، وهي تصغير هَنَّة، وأصل هنة: هَنْوَة، فلما صغرت، رد المحذوف، وهو الواو فصار هنيوة، فاجتمعت الياء والوا، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمن الياء في الياء، ومن همزها فقد أخطأ (¬3)، والرواية الأولى هي رواية صاحب الكتاب. ¬
الثالث: قوله: (رأيت سكوتك»: روايتنا في بضم (¬1) التاء من رأيت، وهي من رؤية القلب لا العين. فيه: الحصر على تتبع أقوال الإمام وأفعاله من حركة وسكون، وهذا كان دأب الصحابة - رضي الله عنهم - معه -عليه الصلاة والسلام-؛ محافظة على الاقتداء به، وذلك من نعم الله - عز وجل - على هذه الأمة؛ إذ هم الذين نقلوا الشريعة إلينا، ولو تساهلوا في ذلك لاختل النظام. وتسمية ذلك سكوتا: مجاز (¬2)؛ إذ لم يسكت -عليه الصلاة والسلام-، وإنما المراد هنا: السكت على الجهر، وهو في الحقيقة لا يسمى سكوتا؛ إنما الساكت من ترك الكلام مطلقا، ألا ترى أنه يقال: قرأ سرا، وتكلم سرا. ويوضح ذلك قوله: ما تقول؟ ولم يقل: هل تقول؟ والسؤال بهل قبل السؤال بما؛ كما كان السؤال بأو قبل السؤال بأم في نحو قولك: أزيد في الدار، أو عمرو؟ على ما هو مقرر في كتب العربية، ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم؛ كما ورد في استدلالهم على إسرار (¬3) القراءة باضطراب لحيته -عليه الصلاة والسلام-. ¬
الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «اللهم»: قد تقدم الكلام عليه بما يغني عن الإعادة، ولكن يزاد هنا أن يقال: المقصود بها: نداء الله تعالى، وتجيء حشوا بعد عموم، حثا للسامع على حفظ القيد المذكور بعدها، أو تنبيها على أنه بمثابة يستغفر التارك له؛ كقولك: أنا لا أنقطع عن زيارتك، اللهم إلا أن يمنع مانع لا تقدر على دفعهخ، ولألزمنك أبدا، اللهم إلا أن تكره مني شيئا. وفي كلا م الحريرير: وما قيل في المثل الذي سار سائره: خير العشاء سوافره، إلا ليعجل التعشي، ويجنب أكل الليل الذي يعشي، اللهم إلا أن تقد نار الجوع، وتحول دون الهجوع (¬1). فأنت تراه في مثله هذا لا يكاد يفارق حرف الاستثناء، وإنما ذكؤرت هذا هنا، فإن كان لا يمس بمعنى الحديث؛ ليشتمل الكتاب على جملة معناها، وتكميلا لما تقدم (¬2). الخانس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب»: كأن المراد بالمباعدة هنا أحد أمرين: إما ترك المؤاخذة بها، وإما المنع من وقوعها، والعصمة منها، وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون قصدا للتعليم، وإما إظهارا لحال العبودية، وإلا، فهو - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والثاني: أظهر؛ إذ لو قصد التعليم، لجهر به، ولا يبعد عندي أن ¬
يكون ذلك دعاء لأمته - صلى الله عليه وسلم -. ق: وفيه مجازان: أحدهما: استعمال المباعدة في ترك المؤاخذة، أو في العصمة والمباعدة في الزمان والمكان في الأصل. الثاني: استعمال المباعدة في الإزالة الكلية؛ فإن أصلها لا يقتضي الزوال، وليس المراد هاهنا: البقاء مع البعد، ولا ما يطابقه من المجاز، وإنما المراد: الإزالة بالكلية. قلت: قيل: ومثله قوله تعالى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، والمراد: التبري تمنه. ثم قال: وكذلك التشبيه بالمباعدة بين المشرق والمغرب، المقصود منه: ترك المؤاخذة، لأأو العصمة. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «اللهم نقني من خطاياي» إلى قوله: «من الدنس»: كما تقدم؛ مجاز عن زوال الذنوب وأثثرها، ولما كان ذلك أظهر في الثوب الأبيض من غيره من الألوان، وقع التشبيه به. وقوله: «اللهم اغسلني» إلى آخره: يحتمل أمرين بعد كونه مجازا كما ذكرنا: أحدهما: أن يكون المراد هنا: التعبير بذلك عن غاية المحو؛ أعني: بالمجموع؛ فإن الثوب الذي تكرر عليه التنقية بثلاثة أشياء منقية، يكون في غاية النقاء.
الوجه الثاني: أن يكون كل واحد من هذه الأشياء مجازا عن صفة يقع بها التكفير والمحو، ولعل ذلك كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]، فكل واحدة من هذه الصفات -أعني: العفو، والمغفرة، والرحمة- لها أثر في محو الذنوب، فعلى هذا الوجه ينظر إلى الأفراد، ويجعل كل فرد من أفراد الحقيقة دالا على معنى فرد [مجازي]، وفي الوجه الأول: ينظر إلى أفراد الألفاظ، وتجعل (¬1) جملة الفعل دالة على غاية المحو للذنب، والله أعلم. انتهى (¬2). وقوله: «بالثلج والماء البارد»: ع: استعارة للمبالغة في التنظف من الذنوب. قلت: وروي: «من الدرن»، وروي: «من الوسخ»، وكلها مترادفة، أو متقاربة، وروي: «بالثلج والبرد». وـ «ماء البارد»: ع: وقوله: «ماء البارد: من إضافة الشيء إلى نفسه؛ كقولك: مسجد الجامع (¬3). قلت: وانظر تخصيص الماء البارد دون السَّخْن، وإن كان السخن أذهب للوسخ من البارد (¬4). ¬
تذنيب: قيل في الفرق بين الخطيئة والإثم: إن الخطيئة فيما بين العبد وربه، والإثم فيما بين المخلوقين، وفيه نظر؛ فإنه قد كثر إطلاق الفقهاء اسم الإثم على من أخرج الصلاة عن وقتها، وكذلك يقولون فيمن أفطر في الفرض متعمدا، وغير ذلك من العبادات، وهي فيما بين العبد وربه، فليتأمل ذلك. فائدة تصريفية: اعلم: أن «خطايا) أصله عند الخليل: خَطَائِءُ، فالهمزة الأولى بدل من الياء الزائدة في خطيئة، والهمزة الثانية هي لام الفاعل، ووزنه فعائل، فاستثقل الجمع بين همزتين في كلمة، فقدمت الياء الزائدة بعد الهمزة التي هي (¬1) لام الفعل، فصار خطائي الهمزة بعدها ياء، ثم أبدلت الياء ألفا، بدلا لازما مسموعا من العرب في هذا البناء من الجمع، وإذا أبدل من الياء ألفا، لزم أن يبدل من كسرة الهمزة التي قبلها فتحة؛ إذ الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، فلما انفتحت الهمزة، صارت خطاءًا، اجتمع ألفان بينهعما همزة، فأبدل من الهمزة ياء، فصار خطايا، فوزنها فَعَالى، محول (¬2) من فعالي، مقلوب من فعائل. وسيبويه يرى أن لا قلب فيه، ولكنه أبدل من الهمزة الثانية التي هي للم الفعل ياء؛ لانكسار ما قبلها، ثم أبدل منها ألفا على ما تقدم ¬
في مذهب الخليل، فوزنه عنده فعالى محول (¬1) من فعائل، والله أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 79 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِحُ الصَّلاةَ بِالتَّكْبِيرِ , وَالْقِرَاءَةَ بـ «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»، وَكَانَ إذَا رَكَعَ؛ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ , وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ؛ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِماً , وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ، لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِداً , وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ: التَّحِيَّةَ (¬1) , وَكَانَ يَفْرُشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ (¬2) الْيُمْنَى , وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ , وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاةَ بِالتَّسْلِيمِ (¬3). ¬
اعلم: أن المصنف - رحمه الله - سها في إيراد هذا الحديث في هذا الكتاب: فإنه مما انفرد به مسلم عن البخاري، وشرط الكتاب تخريج الشيخين (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قولها - رضي الله عنها -: «يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة» هكذا رويناه، و (القراءة) (¬2)، بالنصب، وضم الدال من (الحمد) لا غير؛ أي: يبتدئ الصلاة بالتكبير، ويبتدئ القراءة بالحمد لله رب العالمين، وعلى هذا لا تعارض بين حديث أبي هريرة وهذا الحديث؛ لأنه يجوز أن يكون المعنى: -عليه الصلاة والسلام- يسكت السكوت المذكور بعد التكبير، ثم يبتدئ القراءة بـ: الحمد لله رب العالمين. وأما إن روي لفظ القراءة بالخفض، تعارضا؛ إذ لا يبقى المعنى: أنه يبتدئ الصلاة بالتكبير، وبـ: الحمد لله رب العالمين، فيكون (والقراءة) معطوفا على قولها: (بالتكبير)، ولا سكوت ثم، ولا ذكر، فتكون ¬
الصلاة قد ابتدئت بشيئين بتكبير وقراءة، لا غير، ولا يلزم ذلك على النصب؛ لما تقدم (¬1). الثاني: قد تقدم الكلام في تعيين اللفظ الذي تنعقد به الصلاة، وذكر اختلاف العلماء في ذلك قريبا في حديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» بما يغني عن الإعادة، لكن الكلام هنا في الدليل على وجوب تكبيرة الإحرام على ما قاله الجمهور، فنقول (¬2): اختلف في الإحرام، هل هو ركن، أو شرط؟ فقال مالك، والشافعي: هو ركن. وقال الحنفيون: هو شرط. قال الإمام أبو عبد الله المازري (¬3): الذي حكاه أصحابنا البغداديون: أن تكبيرة الإحرام جزء. ¬
وكان شيخنا عبد الحميد يرى أن فائدة الخلاف في ذلك ما ذكره سحنون: أن المأموم (¬1) النتاظر إلى عورة إمامه في الصلاة متعمدا تبطل صلاته، فإذا قيل: إن تكبيرة الإحرام من نفس الصلاة، بطلت صلاة الناظر إلى عورة إمامه في حين إحرامه، وإن قيل: ليست من نفس الصلاة، لم تبطل. قال الإمام: والذي عندي: أن فائدة الخلاف في ذلك صحة تقديم الإحرام على وقت العبادة إن كان شرطا، وعدم صحة تقديمه إن كان ركنا، إذ لا يشترط في إيقاع شرط العبادة المؤقتة دخول الوقت؛ كالطهارة، انتهى (¬2). وقال بعض متأخري الشافعية: تظهر فائدة الخلاف فيما لو كبر وفي يده نجاسة، فلأقاها في أثناء التكبير، أو شرع في التكبير قبل ظهور زوال الشمس، ثم ظهر الزوال قبل فراغها، فلا تصح صلاته عندنا في الصورتين، وتصح عنده؛ كستر العورة (¬3). ثم قال الإمام: ودليل كونها جزءا من الصلاة: حديث الأعرابي، لما قال: يا رسول الله! علمني؛ أي: علمني (¬4) الصلاة، فأنمره بالتكبير (¬5)، ¬
وكل ما ذكره له في تعليمه هو من نفس الصلاة. قال غيره: وفي هذا (¬1) الاستدلال بهذا الحديث نظر؛ فإن في لفظ الحديث الذي ذكره أشياء ليست من نفس الصلاة، بل من شروطها، فإنه قال: «إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر» (¬2). قال الإمام: وأيضا: فإن شرط العبادة يصح انفصاله عنها؛ حتى لا يكون بينهما اتصال؛ كالطهارة، فلو كان الإحرام شرطا، لصح انفصاله عنها. قيل: وهذا أيضا ضعيف؛ فقد يكون الشرط لا يفارق الصلاة؛ كستر العورة، واستقبال القبلة. واحتج من بقال: إنها شرط بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15]، والفاء للتعقيب، والذكر: التكبير (¬3)، والصلاة معطوفة عليه بالفاء، فهو غيه. والجواب عن ذلك: أنه ليس المراد بالذكر هنا تكبيرة الإحرام بالإجماع، قبل خلاف المخالف، كذا نقله بعض المتأخرين، وإن كان ¬
الزمخشري بدأ به، فقال: فصلى صلاة العيد، وذكر اسم ربه، فكبر تكبيرة الافتتاح، وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة؛ لأن الصلاة معطوفة عليها، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه - عز وجل -. ثم قال: عن ابن عباس: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه، فصلى له،. وعن الضحاك: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} [الأعلى: 15]: في طريق المصلى، فصلى صلاة العيد، انتهى (¬1). قال غيره: ويحتمل أن يكون المراد بالذكر هنا النية. وبالجملة: فالآية خارجة عن النصوصية على ما ادعوه، وإذا تطرق إليها الاحتمال، سقط بها الاتدلال. احتجوا -أيضا- بقوله -عليه الصلاة والسلام: «تحريمها التكبير» (¬2)، والمضاف غير المضاف إليه. والجواب: أنه قد يضاف البعض إلى الدجملة؛ طكا تقول: رأس زيد، فلا حجة فيه (¬3)، مع أن في إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد تكلم الناس فيه من جهة حفظه خاصة (¬4)، وقد قال فيه الترمذي: ¬
صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من جهة حفظه (¬1). احتجوا -أيضا (¬2) - بالقياس، فقالوا: (ذكر) لم يتعقبه جزء من الصلاة، فلا يكون منها؛ كالخطبة. قلنا (¬3): يقابله: عبادة افتتحت بالكبير، وليس (¬4) منها؛ كالأذان، وقياسنا أخص، ويكفي في الرد عليهم حديث معاوية بن الحكم السلمي، لما فسر له النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، فقال: (إنما هو التكبير والسبيح وقراءة القرآن» (¬5)، فجعل التكبير منها. وإذا ثبت ذلك، فقد اختلف العلماء هل تنعقد الصلاة بالنية بغير لفظ، أو لا تنعقد إلا باللفظ؟ فروى ابن المنذر عن ابن شهاب: أنه قال في رجل نوى الصلاة، ورفع يديه، ولم يحرم: إن الصلاة تجزئه. وقال بعض الناس: إن ابن شهاب، وابن المسيب يريان تكبيرة الإحرام سنة، وأنكر ذلك عنهما آخرون، وقالوا: إنهما يريانها سنة في ¬
حق المأموم خاصة. قال الإمام -وإليه أشار ابن المواز-: إذ قال: ويلم يختلف في الفذ والإمام، وإنما اختلف في المأموم، قال بعض أصحابنا: ووجه القول بأنه لا يشترط لفظ في انعقاد الصلاة: القياس على الحج والعمرة، وهو ضعيف؛ إذ إنما يتعمل القياس في مسكوت عنه، وقد وردت الأوامر من الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالتكبير. وقال بقية العلماء: لا تنعقد الصلاة إلا بلفظ، ثم اختلفوا بعد ذلك على أربعة أقوال: الأول: أنها لا تنعقد إلا بقوله: الله أكبر، وهو قول مالك، وأحمد. والقول الثاني: أنها تنعقد -أيضا- بقوله: الله أكبر، ولا تنعقد بغيرهما، وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وداود، وإسحاق. القول الثالث: أنها لا تنعقد إلا بالتكبير، كيفما كان التكبير، فلو قال: الله الكبير، انعقدت، وهو قول أبي يوسف. والقول الرابغع: تنعقد بذكر كل اسم لله تعالى على وجه التعظيم؛ كقوله: الله أعظم، والله عظيم، أو جليل، وكذلك: الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، وهو قول أبي حنيفة، فإن قال: الله، أو الرحمن، من غير قصد، فعنه: فيه روايتان لأبي الحسن بن زياد: أنها تنعقد بذلك.
وظاهر رواية الأول: أنه لا بد من صفة، فإن ذكر اسم الله -تعالى- على وجه النداء؛ كقوله: يا الله! وكذلك قوله: أستغفر الله، لم تنعقد، وبهذا قال النخعي، والحكم بن عتيبة. وروى ابن شجاع عن أبي حنيفة: أنه قال: أكره أن تنعقد الصلاة بغير: الله أكبر. قال صاحب «البيان والتقريب»: دليل وجوب التكبير، واقتصار الانعقاد عليه: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفعله، وفعل أصحابه، ومن بعدهم من سائ السلف - رضي الله عنهم -. فأما قوله -عليه الصلاة والسلام- فيما (¬1) رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن أبي هريرة: أن رجلا دخل المسجد، فصلى، ثم جاء (¬2) فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرد عليه السلام، فقال: «ارجع فصل، فإنك لم تصل»، فصلى (¬3) ثم جاء، ففعل ذلك ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق! لا أحسن غير هذا، فعلمني، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «إذا قمت إلى الصلاة»، ققال البخاري ومسلم: «فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبره ..»، الحديث (¬4)، فقد (¬5) أمره بالتكبير، وظاهر ¬
الأمر الوجوب، ولا سيما في موضع التعليم. وكذلك ما رواه الترمذي، وأبو داود عن علي - رضي الله عنه -: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم»، قال أبو عيسى: هذا أصح شيء في هذا الباب، وأحسن. وفي الباب: ععن جابر، وأبي سعيد (¬1). قال الإمام أبو المعالي: لفظ هذا الحديث يتضمن لغةً حصرَ التحريم والتحليل في التكبر والتسليم. قال: وليس هذا من قبيل المفهوم؛ لئلا يقول أصحاب أبي حنيفة: هذا من المفهوم، ونحن لا نقول به، بل لغة العرب تقتضي أن يكون ترتيب الكلام: التكبير تحريمها، ولو قال كذلك، لم يلزم انحصار التحريم في التكبير، فلما قدم ما ينبغي تأخيره، علم قطعا أن ذلك لقصد (¬2) الحصر. قال: وهذا بمثابة قول القائل: زيد صديقي، فلا يتضمن ذلك حصر الصداقة في زيد، فإذا قال (¬3): صديقي زيد، تضمن كلامه ذلك، وهذا ما لا يبعد ادعاء إجنماع أهلب البيان فيه. وأما فعل الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فما رواه البخاري، ¬
ومسلم (¬1) عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم (¬2). وما رواه مسلم عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمدُ لله رب العالمين. قلت: وأفعال الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الصلاة محمولة على الوجوب لأمرين: أحدهما: قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬3). الثاني: أن ذكر الصلاة في القرآن مجمل باعتبار كيفيتها، فيجب تنزيل فعل الرسول -عليه الصلاة والسلام- على البيان، إلا أن يدل دليل خاص في فعل خاص على أنه غير واجب. ودليلنا في تعيين قوله: (الله أكبر) دون ما سواه: العلم، والقيساس: أصحابه، ولا من السلف إلى هلم جرا؛ أنه افتتح الصلاة بغير (الله أكبر)، والصلاة عبادة افتتحت على وجه، فالأصل أنها لا تصح بغيره، مع أنها لا يعقل معناها. ¬
قال المازري: ونكتة المسألة: أنها عبادة غير معقولة المعنى، ولا تبلغ أفهام البشر مدلول وجهه (¬1) اختصاصها بوجوهها، فالواجب التسليم والاتباع. وأما القياس: فيمكن أن يقال: أحد أركان الصلاة، فيتعين فيه ما ورد؛ قياسا على الركوع، والسجود، انتهى. وأما قول الشافعي - رحمه الله تعالى-: إنها تنعقد بقوله: (الله الأكر)، فقد تقدم الكلام عليه قريبا في حديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به»، الحديث. الثالث: لو أخل بحرف واحد من التكبير، لم تصح صلاته، بلا خلاف؛ لأنه ليس بتكبير. وانظر لو قال: الله أكبرٌ -بالتنويون-، أو أكبرَ -بالنصب-، أو قدم الخبر، فقال: أكبر الله، فإنه لم يتحرر لي (¬2) الآن فيها نقل. أما لو مد الهمزة في تكبير الإحرام، حتى صار الكلام بصورة استفهام، فقال صاحب «البيان والتقريب»: لم أر لأصحابنا فيها نصا، والقياس: أنها لا تجزئه؛ إذ لم يأت بالتكبير اللغوي، وقال ابن الصباغ. قلت: وكذلك ينبغي أن لا تجزئه إذا نون أكبر، أو نصبه (¬3)؛ إذ لم يأت بالتكبير اللغوي على هذا. ¬
أما لو كان بلسان المصلي خبل، فإنه يحركه بالتكبير على قدر ما يمكنه، وسواء فيه الأخرس المقطوع اللسان، ومن بلسانه عارض؛ وهكذا في التشهد، والذكر في الصلاة، يكون عليه النطق بذلك، والنطق يتضمن الحركة، وإذا عجز عن النطق، أتى بما يمكنه من الحركة؛ هكذا ذكره (¬1) ابن الصباغ أيضا، ولم أر هذا الفرع لأصحابنا. وأما من لا يحسن التكبير بالعربية: فيجب عليه أن يتعلم، فإن ضاق الوقت عن التعلم، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا ينطق بغير التكبير؛ إذ لا يقوم غيره مقامه، ومقتضاه: أن يدخل في الصلاة بالنية فقط؛ وهذا قول الأبهري، وصوبه المازري. والقول الثاني: أنه يفتتح الصلاة بالحرف الذي دخل به في الإسلام؛ قال أبو الفرج؛ لأنه الذي يقدر عليه من اللفظ الذي فيه تعظيم لله - عز وجل -، وهو أولى من الاكتفاء بالنية. والقول الثالث: أنه يدخل في الصلاة بلفظ لغة العجم المراد به التكبير؛ قال القاضي عبد الوهاب عن بعض شيوخه، وهو مذهب الشافعي، ووجهه: أنه لا بد من لفظ، وهذا أقرب لفظ يمكن أن يقوم مقام ما عجز عنه من التكبير. وإذا قال أبو حنيفة: إن ذلك يصح من القادر، فالعاجز أولى. ¬
* فائدة: قال صاحب «البيان والتقريب»: اختلف فيمن افتتح الصلاة، ثم شك في صحة إحرامه، فتمادىن ثم تبين أنه كان أحرم، وكذلك من زاد في الصلاة متعمدا، أو ساهيا، ثم تبين له أنه الواجب، ومن سلم شاك في إتمام (¬1) صلاته، ثم تبين له (¬2) أنه أتم، أو شك في طهارته، فتمادى (¬3)، ثم تبين أنه متطهر، في جميع ذلك قولان: أحدهما: الإجزاء؛ لانسحاب النية على جميع الصلاة، والشك لا يناقض الاستصحاب؛ كالسهو. والقول الثاني: عدم الإجزاء؛ لأن الجزء المفعول مع الشك لا يجزئ مع النية ذكرا أو حكما؛ لأن الشك يناقض الاستصحاب. الرابع: قولها: «والقراءة بالحمد لله رب العالمين»، هو بضم الدال، كما تقدم على الحكاية. وفيه: دليل لمن يقول: إن البسملة ليست من الفاتحة؛ كما يقوله مالك، وأصحابه، وغيرهم، على ما سيأتي في موضعه (¬4) مستوعبا إن شاء الله تعالى. ¬
واحتج من يقول: إنها منها: بأن المعنى: أنه كان يبتدئ القراءة بسورة الحمد، لا بسورة أخرى غيرها، فالمراد: بيان السورة التي كان يبتدئ بها، وهي الفاتحة لا غيرها، وهذا ضعيف جدا؛ لأن هذا الاتجاج إنما كان يجمُل لو كانت الرواية بخفض الدال على الإعراب، وأما على الضم، فهو على الحكاية؛ كما تقدم -أعني: حكاية لفظه - صلى الله عليه وسلم -، وكأنها قالت: كان يبتدئ الصلاة بهذا اللفظ، وهو الحمد لله رب الغعالمين، وإذا ثبت هذا، تعين أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يبتدئ الصلاة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ق: وإن جعل اسما؛ يعني: الحمد (¬1)، فسورةة الفاتحة لا تسمى بهذا النمجموع؛ أعني: الحمد لله رب العالمين، بل تسمى: بالحمد، فلو كان لفظ الرواية: كان يفتتح بالحمد، لقوي هذا؛ لأنه كان حينئذ يدل على أن الافتتاح بالسورة التي البسملة بعضها عند هذا المتأول لهذا الحديث، انتهى (¬2). قلت: قوله: لا تسمى بهذا المجموع؛ فيه نظر، فإن في أبي داود، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحمد لله رب العالمين: أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني» (¬3). ¬
وفيها أيضا من حديث سعيد بن المعلى: «الحمد لله رب العالمين: هي السبع المثاني التي أوتيت والقرآن العظيم» (¬1)، فهذا (¬2) ظاهر، أو نص في أن الفاتحة تسمى بهذا المجموع الذي هو: الحمد لله رب العالمين، فلتعلم ذلك، وبالله التوفيق، وسيأتي الكلام على ذلك في بابه إن شاء الله تعالى بأشبع من هذا. الخامس: قولها: «وكان (¬3) إذا ركع، لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك»، هو بضم الياء من (يشخص)، وماضيه: أشخص؛ أي: رفع؛ أي: لم يرفع رأسه، والأصل: شَخَص الرجل: إذا ارتفع غير متعد (¬4)، فلما دخلت عليه همزة النقل، تعدى إلى مفعول واحد، ويقال للرجل إذا ورد عليه أمر أقلقه: شُخِصَ به؛ كأنه ارتفع عن الأرض؛ لقلقه (¬5). ومعنى يصبه: ينكسه، ومنه الصيب للمطر، يقال فيه (¬6): ¬
صاب يُصَوِّبُ: إذا نظر (¬1). وقولها: «ولكن بين ذلك»؛ أي: بين الارتفاع والتنكيس. فإن قلت: الأصل في (بين): أن تضاف إلى شيئين فصاعدا؛ كقولك: المال بين زيد وعمرو، أو بين الزيدين، ونحو ذلك، فما بالها جاءت مضافة إلى مفرد، وهو: ذلك؟ قلت: لما كانت الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الإشخاص والتصويب المفهومين (¬2) من فعليهما، ساغ فيها ذلك، ومنه قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]، لما كانت الإشارة بذلك إلى الفُروضة والبَكارة المفهومين من قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} [البقرة: 68]، فأشارت إلى المسنون في الركوع، وهو الاعتدال، واستواء الظهر والعنق (¬3). وقولها: «وكان إذا رفع رأسه من الركوع، لم يسجد حتى يستوي قائما» دليل على الرفع (¬4) من الركوع، والاعتدال فيه، ولا خلاف أنه مطلوب في الصلاة -أتعني: الرفع-، فلو أخل به، وجبت الإعادة في رواية ابن القاسم، ولم تجب في رواية علي بن زياد. ¬
وإذا قلنا برواية ابن القاسم، فهل يجب الاعتدال، أم لا؟ روي لابن القاسم فيمن رفع من الركوع أو (¬1) السجود، ولم يعتدل: أن صلاته تجزئه، ويستغفر الله - عز وجل -، ولا يعود. ولأشهب: أن صلاته غير صحيحة. وقال القاضي عبد الوهاب: الأولى أن يجب من ذلك ما كان إلى القيام أقرب، وحكاه القاضي أبو الحسن عن بع أصحابنا (¬2). ثم إذا قلنا بوجوب الاعتدال، فتجب الطمأنينة، وقيل: لا تجب على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وقولها: «وكان إذا رفع رأسه من السجود، لم يسجد حتى يستوي قاعدا» دليل على السجود، والرفع منه، وعلى الاستواء في الجلوس بين السجدتين. وصفة السجود (¬3): أن يمكن جبهته وأنفه من الأرض، والكفين والركبتين وأصابع القدمين، ولا يجب كشف الكفين. قال صاحب «الجواهر»: لكن يستحب. وفي إثبات الإجزاء ونفيه -عند الاقتصار من الجبهة والأنف على أحدهما- ثلاثة أقوال: تخصيص الإجزاء في الثالث بالاقتصار على ¬
الجبهة دون الأنف، وهو المشهور عندنا. وأما باقي الأعضاء، فقال سحنون: اختلف أصحابنا إذا لم يرفع يديه عند رفعه للسجدة الثانية؛ فمنهم من قال: لا تصح صلاته؛ لما جاء أن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، ومنهم من ضعف (¬1) ذلك. وقال القاضي أبو الحسن بن القصار من أصحابنا: يقوى في نفسي: أن السجود على الركبتين وأطراف القدمين سنة في المذهب، ولو سجد على طرفه، أو كور عمامته؛ كالطاقة والطاقتين، أو طرف كمه لم يمنع الإجزاء، وإن كان ذلك مكروها. ويستحب له (¬2) أن يفرق بين ركبتيه ومرفقيه، وجنبه وبطنه وفخذيه، وهو التفريج، ولا تفرج المرأة. واستحب متأخرو أصحابنا أن يسجد (¬3) بين كفيه، ولم يحد مالك في ذلك حدا، ثم يفصل بين السجدتين بالرفع؛ فإنه لا يتصور تعدد السجود إلا بالرفع، بخلاف الرفع من الركوع، فإن الركوع غير متعدد، ولذلك لم يختلف في وجوب الرفع من السجود، بخلاف الرفع من الركوع، على ما تقدم. وقد سها من نقل في ذلك خلافا سهوا عظيما؛ لما ذكرنا (¬4) من ¬
عدم التعدد عند عدم الرفع. فأما الاعتدال في الرفع من السجود، ففيه من الخلاف ما مضى في الاعتدال في الرفع من الركوع. ويبغي أن يضع يديه قريبا من ركبتيه مستوتي الأصابع، ثم يسجد سجدة أخرى مثلها، ثم يقوم للثانية واضعا يديه على الأرض، ويكبر حين شروعه في الرفع من السجود، وكذلك في جميع تكبيرات الانتقال، سوى تكبيرة القيام من الجلوس؛ فإنه لا يكبر حتى يستقل قائما؛ إذ الشروع في تكبير الانتقال إنما هو في الأركان، ولم ينتقل من ركن إلى ركن فيكبر فيه، هذا مذهبنا، وعليه استمر العمل، وبالله التوفيق (¬1). وقولها: «وكان يقول في كل ركعتين التحية»: تريد: التشهد كله، وهو من باب إطلاق لفظ (¬2) البعض على الكل. وقولها: «وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى»: هو بضم الراء من يفرش، وقد تكسر، والضم أشهر. ق: يسدل به أصحاب أبي حنيفة على اختيار هذه الهيئة في الجلوس من الرجل. ومالك يختار التورك، وهو أن يفضي بوركه اليسرى (¬3) إلى الأرض، ¬
وينصب رجله اليمنى. والشافعي يفرق بين التشهد الأول والتشهد الأخير، ففي الأول: الافتراش، وفي الثاني: التورك، وقد ورد فيه -أيضا- التورك، فجمع الشافعي بين الحديثين، فحمل الافتراش على الأول، وحمل التورك على الثاني، وقد (¬1) ورد ذلك مفصلا في بعض الأحخاديث، ورجح من جهة المعنى بأملارين ليسا بالقويين: أحدهما: أن المخالفة في الهيئة قد تكون سببا للتذكر عند الشك في كونه في التشهد الأول، أو في التشهد الأخير. والثاني: أن الافتراش هيئة استيفاز، فناسب أن يكون في التشهد الأول؛ لأن المصلي مستوفز للقيام، والتورك هيئة (¬2) اطمئنان، فناسب الأخير، والاعتماد على النقل أولى، انتهى (¬3). وأما مذهبنا: فالمستحب في صفة الجلوس كله: الأول، والآخر، وبين السجدتين: أن يكون توركا، وهو أن يفضي بوركه اليسرى (¬4) إلى الأرض، ويخرج رجليه جميعا من جانبه الأيمن، وينصب قدمه اليمنى وباطن الإبهام إلى الأرض، ويثني اليسرى، ويضع كفيه على فخذيه، ويقبض في الجلوس للتشهد الوسطى والخنصر وما بينهما من اليمنى، ¬
ويمد السبابة، ويضع الإبهام على الوسطى، ويجعل جانب السبابة (¬1) مما يلي السماء، ويشير بها (¬2) عند الذكر للوحدانية، وينصبها فيما وراء ذلك. وقيل: يشير بها دائما تقريرا على نفسه. وقيل: ينصبها دائما من غير تحريك؛ إشارة إلى الوحدانية (¬3). وسمعت بعض شيوخنا يقول ما معناه: أن السر في اختصاص السبابة بذلك: أن لها اتصالا بنياط القلب، فكأنها سبب لحضور القلب، أو كلاما ذا معناه. وقولها: «وكان ينهى عن عقبة الشيطان»: هو بضم العين وإسكان القاف، ويروى: «عن عَقِبَة الشيطان» بفتح (¬4) العين وكسر القاف، وهو المشهور المعروف الصحيح فيه. وحكى ع: ضم العين فيه، وضعفه (¬5). ق: وفسر: بأن يفرش قدميه، ويجلس بأليتيه على عقبيه، وقد يسمى ذلك -أيضا-: الإقعاء، انتهى. ¬
وفسر افتراش السبع: بأن يضع ذراعيه على الأرض في السجود، والسنة أن يرفعهما (¬1)، على ما تقدم آنفا في صفة السجود. وقولها: «وكان يختم الصلاة بالتسليم» دليل للجمهور على أبي حنيفة القائل بجواز الخروج من الصلاة بما ينافيها؛ سلاما كان أو حدثا، أو غير ذلك، ولأنه الذي واظب عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهو عندنا متعين لا يقوم غيره مقامه أصلا، ولفظه متعين أيضا، وهو: السلام عليكم، فلو نكر ونون وقال: سلام عليكم، فقال القاضيس أبو محمد، والشيخ أبو محمد بن أبي زيد: لا يجزئه، وقال ابن شبلون (¬2): يجزئه. قال ابن يونس: وهذا بين، ولا فرق في هذا بين الإمام والمأموم، ويحمل قول مالك: ولا يجزئ من السلام إلا السلام عبليكم: أنه لا يجزئ فيه تكبير ولا تحميد، فإن لم يحمل على (¬3) ذلك، فهو اختلاف قول، انتهى كلامه (¬4) (¬5). ¬
والقولان أيضا عند الشافعية، قال صاحب «البيان والتقريب»: ومنشأ الخلاف: معارضة قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وـ (¬1) تحليلها التسليم»؛ فإنه يتناول هذا اللفظ، ولفعله -عليه الصلاة والسلام- المستمر، وفعل الصحابة، وفعل السلف. والصحيح: أنه لا يجزئ لوجوب الاتباع. وقال من أجاز ذلك من أصحاب الشافعي: إن التنويو في علم العربية يقوم مقام الألف واللام، وهذا ضعيف؛ فإن الصحيح في علم العربية أن التنويو يضاد الألف واللام، ولذلك (¬2) لا يجتمعان؛ لأن الألف واللام للتعريف، والتنويو للتنكير، أو من أدلة (¬3) التنكير. قال صاحب «الجواهر»: واختلف المتأخرون في استصحاب حكم النية على التسليم، واشتراط تجيد نية للخروج على قولين. قلت: والمشهور: عدم وجوب الاشتراط، وما أظنهم يختلفون في استحباب ذلك، والله أعلم. ومنشأ الخلاف: أنه هل هو جزء من الصلاة، أو لا؟ كالخلاف الذي قدمناه: في أن الإحرام هل هو جزء أو شرط؟ وقد تقدم وجه القولين (¬4). ¬
ويسلم كل واحد من الإمام والفذ، ويتيامن قليلا. وأما المأموم، فقال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: يسلم عن يمينه، قال الإمام أبو عبد الله: وهكذا ظاهر (¬1) رواية ابن القاسم. وبالتسليمة الأولى يخرجون من الصلاة، ولا يؤمر الإمام ولا الفذ بزيادة عليها. وروي: أن كل واحد منهما يسلم تسليمتين، ولا يسلم المأموم حتى يفرغ الإمام منها، ويضيف إليها المأموم اثنتين، على المشهور، أولاهما: يرد بها على إمامه، والثانية: عن يساره إن كان عن يساره أحد في الرواية الأخيرة. وروى أشهب: أنه يبدأ منهما بالتي على اليسار، وهي الرواية المتقدمة. وحكى القاضي أبو محمد التخيير بين مقتضى الروايتين. وقيل: يقتصر على الرد على الإمام فقط، ولو كان مسبوقا، ففي رده على الإمام ومن على يساره روايتان. ح: وشذ بعض الظاهرية والمالكية، فأوجبوا التسليمة الثانية، وهو ضعيف مخالف لإجماع من قبله (¬2). قلت: ولم أقف على هذا القول لأحد من المالكية -أععني: وجوب التسليمة الثانية-، وقد قال ابن المنذر: أجمعوا على أن صلارة من اقتصر ¬
على تسليمة واحدة جائزة (¬1)، وبالله التوفيق. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 80 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلاةَ , وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ , وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ؛ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ , وَقَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ , رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ»، وَكَانَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ (¬1). ¬
* الكم على الحديث من وجوه: الأول: قد تقدم أن المنطب: مجمع عظم العضد والكتف. قال الجوهري: والمناكب أيضا في جناح الطائر أربع بعد القوادم، والمنكب من الأرض: الموضع المرتفع (¬1). الثاني: اعلم: أن رفع اليدين عندنا من فضائل الصلاة، والنظر فيه يتعلق (¬2) بأربعة أطراف: الأول: هل ترفع اليدان (¬3) في الصلاة أو لا؟ ¬
الثاني: إذا قلنا بالرفع، ففي كم (¬1) موضع؟ الثالث: في منتهى الرفع. الرابع: في صفة الرفع. الطرف الأول: هل ترفع اليدان في الصلاة أم لا (¬2)؟ قال صاحب «البيان والتقريب»: المشهور من مذاهب العلماء مالكٍ وغيره إثبات الرفع في الجملة. وروى ابن شعبان عن مالك: أنه غير مشروع والنهي عنه أصلا، وتأوله بعض أصحابنا على «المدونة» لما ذكر الرفع، وضعفه، وقال في «مختصر ما ليس في المختصر»: لا ترفع اليدان في شيء من الصلاة. قال ابن القاسم: ولم أر مالكا يرفع يديه عند الإحرام، قال: وأحب إلي ترك الرفع عند الإحرام. والدلليل على ثبوته على الجملة: الأخبار الصحيحة في أنه -عليه الصلاة والسلام- رفع يديه كما هو نص هذا الحديث وغيره، ولأنه ذكر في أحد طرفي الصلاة، فكان من حكمه أن يقرن به عمل؛ كالسلام. وشبهوة النهي: ما روي عن جابر بن سمرة: كنا نرفع أيدنا في الصلاة، فمر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْسٍ؟! اسكنوا في الصلاة» (¬3). ¬
قلت: والاستدلال على ترك الرفع بهذا الحديث ضعيف؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم ينكر مطلق الرفع، وإنكما أنكر كثرة تحريك (¬1) الأيدي، واضطرابها، وعدم استقرارها، ويفهم ذلك من تشبيهه بأذناب الخيل الشمس، وهي التي لا تكاد تستقر؛ هكذا فسره ابن فارس في «مجمله» (¬2)، ومن قوله أيضا: «اسكنوا في الصلاة». بل قد قال بعض متأخري الشافعية: إن المراد بالرفع المنهي عنه هنا: رفعهم أيديهم عند السلام مشيرين إلى السلام من الجانبين؛ كما صرح به في الرواية الأخرى (¬3). الطرف الثاني: في مواضعه: قال اللخمي: فيه خمسة أقوال، عن مالك من ذلك ثلاث روايات: الأولى: ما ذكره في «المدونة»: يرفع مرة واحدة عند الإحرام، وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف. والرواية الثانية: يرفع في موضعين: واحدة (¬4) عند الإحرام؛ وعند الرفع من الركوع؛ رواها ابن عبد الحكم عنه. والرواية الثالثة: ما قاله في سماع ابن وهب: يرفع في ثلاثة مواضع: في الإحرام، وفي الركوع، وفي الرفع منه؛ وهو مذهب الشافعي. ¬
والقول الرابع: قول ابن وهب: يرفع إذا قام من اثنتين. قال اللخمي: وهو أحسن أن يرفع في المواضع الأربعوة؛ لحديث ابن عمر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه إذا قام إلى الصلاة حتى يكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يركع، وحين يرفع من الركوع. أخرجه البخاري، ومسلم، و [مالك في] «الموطأ» (¬1). وزاد البخاري عن ابن عمر: أنه كان يرفع إذا قام من اثنتين، ويذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك (¬2). والقول الخامس: أنه لا يرفع مطلقا، وقد تقدم (¬3). قال صاحب «البيان والتقريب»: ووجه ما اختاره في «المدونة» ما رواه الترمذي، والنسائي، عن عبد الله بن مسعود: أنه قال: ألا أصلي لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة (¬4). قال أبو عيسى: وفي الباب: عن البراء بن عازب. ¬
وروى مسلم، وأبو داود عن ابن جريج (¬1)، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة، رفع يديه حتى تكون حذو منكبيه، ثم كبر (¬2). وروى علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يرفع في ابتداء الصلاة، ثم لا يعود. وقد قيل: إنه موقوف على علي - رضي الله عنه - (¬3). وروى البراء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة، رفع يديه إلى قرب أذنيه، ثم لا يعود (¬4). ¬
وأجيب عنه: بأن ابن عيينة قالت: حدثنا يزيد بن أبي زياد، ولم يذكر فيه: «ثم لا يعود» (¬1). وقال الحميدي وغيره: يزيد (¬2) بن أبي زياد ساء حفظه في آخر عمره، واختلط (¬3). وقال ابن مسعود: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في ابتداء الصلاة، ثم لا يعود. وروي عن ابن عمر، وابن عباس موقوفا عليهما، ومرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواضع: تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة الأعياد، وتكبيرة القنوت، وذكر أربعة في الحج» (¬4). وعن ابن عباس: أن العشرة الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ما كانوا ¬
يرفعون أيديهم إلا في افتتاح الصلاة (¬1). ولأن ما عدا تكبيرة الإحرام تكبير عن الانتقال من حال إلى حال، فلا رفع؛ فالانتقال من الجلوس إلى السجود. وتوجيه باقي هذه (¬2) الأقوال مصدرها في كتب الفقه، وإنما خصصنا هذا القول بالتوجيه دون ما عداه؛ لأنه المشهور من مذهبنا، والله أعلم. الطرف الثالث: في منتهى الرفع، وفيه ثلاثة أقوال: قيل: حذو الصدر، وقيل: حذو الأذنين، والمشهور عند مالك والشافعي: حذو المنكبين. وروى أشهب عن مالك: حذو الصدر. وقال أبو حنيفة: حذو الأذنين. واختلفت الأحاديث على حسب اختلاف الروايات، فقال بعض المحدثين: هو بالخيار بين أن يرفع حذو منكبيه، أو حذو أذنيه. قال المازري: وقال بعض أشياخي: مجنمل اختلاف الأحاديث على التوسعة، أَيَّ ذلك أحب فعله. وفي حديث عمر الذي قدمناه: حذو المنكبين. وروى أبو حميد في عشرة من الصحابة - رضي الله عنهم - أحدهم: أبو قتادة: ¬
أنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا قام، اعتدل قائما، رفع يديه حتى يحاذي منكبيه. وروى مالك بن الحويرث، ووائل بن حُج} ر: أنه -عليه الصلاة والسلام- رفع يديه حذو أذنيه (¬1). وقد جمع بعض المتأخرين من أصحابنا بين معاني هذه الأحاديث، فقال: كان يحاذي بكفيه (¬2) منكبيه، وبأطراف (¬3) أصابعه أذنيه، فيكون مراد أحدهما بالمحاذاة غير مراد الآخر. قال الإمام أبو عبد الله: وإن استعملنا الترجحيح من حيث الإسناد، قلنا: ابن شهاب، عن سالم، أصح من قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث. وقال بعضهم: اختلفت الرواة عن مالك، ووائل بن حجر، فروي عنهما -أيضا-: حذو منكبيه، فإما أن تتعارض الروايتان فتسقطان (¬4)، وتبقى الرواية التي لا اختلاف فيها (¬5)، وفي ذلك خلاف بين أهل الأصول، كلا القولين (¬6) مؤد إلى مطلوبنا. ¬
الطرف الرابع: في صفة الرفع: قال الباجي: الذي عليه شيوخنا العراقيسون: أن تكون يداه قائمتين تحاذي كفاه منكبيه، وأصابعه أذنيه. وروى سحنون: أنهما تكونان مبسوطتين ظهورهما إلى السماء، وبطونهما إلى الأرض. قال: والأول عندي أولى؛ لأنا (¬1) نتمكن بذلك من الجمع بين الحديثين، ولأنه أبعد عن التكلف (¬2)، وأيسر في الرفع (¬3). وقال الإمام أبو عبد الله: وحكى بعض المتأخرين اختيار إقامة الكف مع ضم الأصابع؛ لأنه زعم أن هذا الشكل فيه معنى من حال الرهبة، وهي ما اختار سحنون، وفيه معنى من حال الرغبة، وهي الإشارة بالكف نحو السماء، والأمر في هذا أقرب. قال: وإلى اختيار أشياخي أميل، والله أعلم. فائدة: قال بعض المتأخرين: لم يشتغل مشاهير الأئمة (¬4) بإبداء معنى معقول للرفع (¬5). قال الإمام أبو غبد الله: قال بعض أشياخي: القصد به إشعار النفس، ¬
واستعظام ما يدخل فيه، وكثيرا ما يجري للناس مثل ذلك عند مفاجأة أم يستعظمه، فيرفع يديه كالفزع منه، والمسهول له. فقال بعض الخراسانيين: إن رفع اليدين للسؤال (¬1)، إنما يكون إذا اختلف مكان السائل (¬2) من المسؤول، وتباين متقراهما، والباري -سبحانه- لا مكان له، ولا مستقر، فإن هذه الحركة عند الافتتاح تسكين لوحشة النفوس من سؤال من ليس في مكان، وبسط لها في التضرع والسؤال؛ إذا (¬3) تحرك البدن بالرحكات التي تألفها النفس عند سؤال من ارتفع قدره، وعظم شأنه. وقال بعض الصوفية: القصد بذلك: إشعار النفس نبذ أمور الدنيا وراء ظهره؛ لتستقبل النفس طلب ما عند الله. قال صاحب «البيان والتقريب»: فهذا إنما يستقيم على أن تكون اليدان قائمتين، لا على ما قال سحنون. ثم قال الإمام: وهذه الأجوبة دائرة كلها على أن القصد: الإشعار للنفس بأمر ما، وهي معاني تروق الذهن، فإن صحت، وثبت أن قصد الشريعة ذلك، فذكرها هنا للتنبيه على محاسن الشرع. ع: وقيل: بل ذلك علم للتكبير؛ ليراه من قرب ومن بعد. وقيل: ذلك من تمام القيام. ¬
وقيل: بل علامة للتذلل والاستسلام (¬1). فائدة أخرى: في كل صلاة ثنائية إحدى عشرة تكبيرة: تكبيرة الإحرام، وخمس في كل ركعة، وفي الثلاثية: سبع عشرة تكبيرة وهي: تكبيرة الإحرام، وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وخمس في كل ركعة، وفي الرباعية: ثنتان وعشرون، ففي المكتوبات الخمس أربع وتسعون تكبيرة. الثالث: قوله: «حذو منكبيه» دليل لمالك والشافعي؛ إذ ذلك مذهبهما كما تقدم. الرابع: قوله: «وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد»: اعلم: أنه قد اختلف في هذه المسألة في موضعين: أحدهما: أن الإمام إذا قال: سمع الله لمن حمده، هل يقول معها: ربنا ولك الحمد، أو يقتصر على الأول (¬2)؟ قال الشافعي: يقوله. وهو مذهب عطاء، وابن سيرين، وإسحاق بن راهويه. وقاله من أصحابنا: عيسى بن دينار، وابن نافع، وإن كان ع في «الإكمال» خطأ من تأول عليهما ذلك، فلينظر هناك (¬3). ¬
وقال مالك: لا يزيد الإمام على «سمع الله لمن حمده»، وهو مذهب أبي حنيفة، ودليله أمران: أحدهما: الحديث الذي رواه في «الموطأ»، عن سُمَيٍّ مولى أبي بكر، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬1)؛ فقد خص الإمام بلفظ، وخص المأموم بلفظ، فلا يقل واحد منهما سواه. الأمر الثاني: أنه انتقال من ركن إلى ركن، فينبغي أن يكون ذكرا واحدا في حق الإمام؛ كالذكر في القيام من السجود، وأيضا: فإن قول الإمام: «سمع الله لمن حمده»: هو في معنى الدعاء، فكأنه يقول: الله اسمع لمن حمدك (¬2)، فيقول المأموم: «ربنا ولك الحمد»؛ كالداعي والمؤمن، هكذا ذكره الشيخ أبو إسحاق. وقال القاضي أبو الوليد الباجي: الأظهر عندي: أن يكون قول الإمام: «سمع الله لمن حمده» في معنى التغريب في الحمد، فالإمام مرغب، والمأموم راغب (¬3). ¬
وحجة الشافعي حديث ابن عمر هذا، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬1)، وهذا عام. الموضع الثاني: أن المأموم هل يقول: مع «ربنا ولك الحمد»: «سمع الله لمن حمده»؟. فقال الشافعي: يقولها. وبه قال عطاء، وابن سيبرين، وإسحاق بن راهويه. وقال مالك: لا يقول المأموم إلا «ربنا ولك الحمد». وبه قال: أبو حنيفة؛ كما لا يقول الإمام: إلا «سمع الله لمن حمده»، واختاره ابن المنذر. وقال مالك -أيضا- في «مختصر ما ليس في المختصر»: للمأموم أن يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد»، وحجة مالك في القول الأول -وهو المشهور المعروف- ما قدمناه. واحتج الشافعي في هذا: بأن الحديث المتقدم يدل على أن الإمام يقولهما، وما يسن للإمام في الانتقال من ركن إلى ركن، يسن للمأموم كسائر الأركان (¬2). قال الطحاوي: خالف الشافعي في ذلك الإجماع. قال ابن الصباغ: وليس بصحيح؛ فقد حكينا من قاله بقوله، فبطل مقاله. ¬
تذنيب: قال القاضي أبو الوليد: اختلف العلماء في صفة ما يقوله المأموم، واختلفت (¬1) الآثار فيه، فروي في حديث: «اللهم ربنا لك الحمد» بزيادة: اللهم، ونقصان الواو من قولك: «ولك الحمد». وفي حديث عائشة، وأنس: «ربنا ولك الحمد». وفي حديث سعيد، عن أبي هريرة: «اللهم ربنا ولك الحمد». وروي عن مالك أنه كان يقول: لك الحمد، واختاره ابن القاسم. وروي عنه: أنه كان يقول: «اللهم ربنا لك الحمد»، واختاره أشهب. ووجه ما اختاره ابن القاسم: أن سعيد بن أبي سعيد قد رواه، وهو ثقة، والزيادة من العدل مقبولة. ومن جهة المعنى: أنه زيادة في لفظ ذكر، ولأن فيها زيادة معنى في تمجيد الله - عز وجل -، والثناء عليه؛ لأن معناه: لك الثناء، ولك الحمد؛ لأن الأصل أن الواو للعطف، ولا بد للمعطوف من معطوف عليه لفظا، أو تقديرا، وهذا التقدير هو الذي يقتضيه المعنى. ووجه ما اختاره أشهب: أنه بنى على أن الواو زائدة، والزائد لا يفيد معنى، فكان حذفها أولى (¬2). وقال الشافعي: المأموم بالخيار، إن شاء قال: 0 «ولك الحمد»، ¬
وإن شاء قال: «لك الحمد» بغير واو؛ لورود الفظين في حديثين، وقد تقدم شيء من هذا، فزدناه وضوحا، والله أعلم. الخامس: قوله: «وكان لا يفعل ذلك في السجود»؛ أي: لا يرفع حينئذ. ق: وكأنه يريد بذلك: عند ابتداء السجود، أو عند الرفع [منه]، وحمله على الابتداء أقرب. وأكثر الفقهاء على القول بهذا الحديث، وأنه لا يسن رفع اليدين عند السجود، خالف بعضهم في ذلك، وقال يرفع؛ لحديث ورد فيه. قال: وهذا مقتضى ما ذكرناه من القاعدة، وهو القول بإثبات الزيادة، وتقديمها على من نفاها، أو سكت عنها. والذين تركوا الرفع من السجود سلكوا مسلك الترجيح لرواية ابن عمر في ترك الرفع من السجود، والترجيح إنما يكون عند التعارض، [ولا تعارض] بين رواية من أثبت الزيادة، وبين من نفاها، أو سكت عنها، إلا أن يكون النفي والإثبات منحصرين في جهة واحدة، فإن ادعى ذلك في حديث ابن عمر والحديث الآخر، وثبت اتحاد الوقتين، فذاك، انتهى (¬1). قلت: وهذا تنبيه حسن، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 81 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَنْفِهِ -، وَالْيَدَيْنِ , وَالرُّكْبَتَيْنِ , وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الأصل: أمرت بأن أسجد، ولكن حذف حرف الجر من (أَنَّ) وـ (أن) قياس مطرد، وليس هذا (¬1) من باب قوله: أمرتك الخيرَ، البيتَ (¬2)، فاعرفه. وتسميته -عليه الصلاة والسلام- كل واحد من هذه الأعضاء عظما، وإن كان كل واحد منها يشتمل على عظام، من باب تسمية الجملة باسم بعضها (¬3). ¬
وقوله: «على الجبهة» إلى آخره، وـ (¬1) هو من بدل التقسيم؛ كقولك: مررت برجال: زيد، وعمرو، وبكر. وأما إشارته -عليه الصلاة والسلام- إلى الأنف دون الجبهة بعد ذكرها، فقيل: لأنهما جعلا كعضو واحد، فنبه بالإشارة إلى ذلك، وهذا المعنى يقوي قول من يوجب السجود على الأنف مع الجبهة، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك قريبا، لكن في بعض طرق هذا الحديث الجبهة والأنف معا، وأصل العطف المغايرة، وذلك يضعف دليل الوجوب. الثاني: المراد باليدين هنا: الكفان، فهو (¬2) أيضا من باب تسمية الجملة ببعضها؛ إذ لو لم يحمل على ذلك، للزم منه ارتكاب ما نهي عنه من افتراش الكلب أو السبع. ولم أر لأصحابنا تقييدا فيما يجب عليه السجود من اليدين، أو يندب على القول الآخر، أعني: قول من يقول: إن السجود على ما عدا الجبهة سنة لا فرض. ونقل ق (¬3) عن بع مصنفي الشافعية: أن المراد: الراحة، أو الأصابع، ولا يشترط الجمع بينهما، بل يكفي أحدهما، ولو سجد ¬
على ظهر الكف، لم يجزه، قال: هذا معنى ما قال (¬1). قلت: وقد تقدم قريبا في حديث عائشة - رضي الله عنها - الكلام على صفة السجود مبينا مستوعبا، بما يغني عن الإعادة، لكن يزاد هنا أن يعلم: أن الشافعي لم يتردد قوله في أن الواجب في السجود الجبهة دون الأنف، واختلف قوله في الركبتين، واليدين، والقدمين (¬2)، وظاهر هذا الحديث يدل على الوجوب، وإن كان قد رحج بعض أصحابه عدم الوجوب (¬3). وقال أبو حنيفة: إن سجد على أنفه وحده، كفاه (¬4)، وقد تقدم أنه أحد الأقوال عندنا. فائدة: الجبهة: هي ما أصاب السجود من الأرض، والجبينان: ما أحاط بها من (¬5) عن يمين وشمال (¬6)، والخطوط التي في الجبهة هي الأَسِرَّة والغُضُون، الواحد: غُضْن (¬7)، وَسِرَر على غير قياس (¬8). ¬
والأنف يقال له -أيضا-: العِرْنِين، والمَعْطِس، وفيه المَنْخِران، وهما الخَرْقان، الذان يخرج منهما النفس، والحاجز بينهما يسمى (¬1): الوَتَرَة، وفي الأنف القصبة، وهو العظم الشديد الذي ينتهي إلى المارِن، والمارِن: ما لان من الأنف، إذا عطفته، تبين، والأرنبة: طرف الأنف، والله أعلم (¬2). * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 82 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلاةِ، يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ , ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ , ثُمَّ يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرُّكُعِ, ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» , ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي , ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ , ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صَلاتِهِ كُلِّهَا , حَتَّى يَقْضِيَهَا , ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ اثْنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ (¬1). ¬
* الكلام على هذا (¬1) الحديث من وجوه: الأول: فيه مشروعية التكبير في كل خفض ورفع، ما عدا الرفع من الركوع. ع: هذا الأمر الثابت من فعله -عليه الصلاة والسلام-، والذي استقر عليه عمل المسلمين، وأطبقوا (¬2) عليه. وقد (¬3) كان بعض السلف يقول: لا تكبير (¬4) في الصلاة غير تكبيرة الإحرام، وبعضهم يجعل التكبير في بعض البحركات دون بعض، ويرون أنها من جملة الأذكار، لا من حقيقة الصلاة، وعلى الحخلاف فيه يدل قول أبي هريرة: إني لأشبهكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬
وقال بعضهم: ليس بسنة إلا للجماعة، ليشعر الإمام بحركته من وراءه. ومذهب أحمد بن حنبل: وجوب جميع التكبير في الصلاة. وعامة العلماء على أنه سنة، غير واجب، إلا تكبيرة الإحرام، ودليلهم تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعرابي الصلاة، ولم يذكر له فيها (¬1) تكبير الانتقالات، وهو موضع غاية البيان (¬2). الثاني: قوله: «حين يرفع صلبه»: الصلب: من لدن الكاهل إلى عَجْب الذَنَب (¬3). وفي الصلب الفقار -بفتح الفاء والقاف-، الواحدة (¬4): فَقَارة، وهي الفِقَر -أيضا-، الواحدة فِقْرة، وهي ما بين كل مفصلين. وفي الصلب: النُخَاع، وهو الخيط الأبيض الذي يأخذ من الهامة، ثم ينقاد في فَقَار الصلب حتى يبلغ عجب الذنب (¬5). والمَتْنان: جانبا الظهر من عن يمين الصلب ويساره (¬6)، قد اكتنفا الصلب من الكاهل إلى الوَرِك (¬7). ¬
الثالث: ظاهر الحديث: مقارنة التكبير للحركات، وعمارتها بذكرها، وعليه يدل -أيضا- قوله: «سمع الله لمن حمده حين يرفع من الركوع». وقوله: «يكبر حين يهوي»: هو بفتح الياء وكسر الواو: إذا سقط إلى أسفل، وماضيه هوى، بفتح الواو. وأما هَوِيَ يَهْوى بالكسر في الماضي، والفتح في المستقبل، فمعناه: أحب. وأما الرباعي، فأهوى يُهوي، يقال: أهوى إليه بيده ليأخذه. قال الأصمعي: أهويتَ بالشيء: إذا أومأت به، ويقال: أهويتُ له (¬1) بالسيف (¬2). ع: وهو قول عامة الفقهاء، واستثنى مالك وبعضهم (¬3) من ذلك التكبير عند القيام من الركعتين، فلا يكبر حتى يستوي قائما، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز. قال مالك: وإن كبر هنا في نهوضه، فهو في سعة (¬4). وقد تقدم تعليل ذلك. الرابع: قوله: «ويقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلب من ¬
الركوع» دليل على كون الإمام يأتي باللفظين، أعني: التسميع، والتحميد. قال الإمام المازري: إن أراد صلاةً كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها إماما، فذلك حجة للقول الشاذ عن مالك: أنه كان يرى أن يقول الإمام اللفظين جميعا، والمشهور: أنه يقتصر على قوله: «سمع الله لمن حمده». انتهى (¬1). قلت: وقد تقدم الدليل لمالك بما يغني عن الإعادة، وبالله التوفيق. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 83 - عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، فَكَانَ إذَا سَجَدَ، كَبَّرَ , وَإِذَا رَفَعَ، كَبَّرَ , وَإِذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ، كَبَّرَ؛ فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ، أَخَذَ بِيَدِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ , فَقَالَ: قَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلاةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أَوْ قَالَ: صَلَّى بِنَا صَلاةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬
* التعريف: مطرف بن عبد الله بن الشخير: العامري، الحَرَشي (¬1)، النَّصْري. كنيته: أبو عبد الله، من بني الحَرِش (¬2) -بفتح الحاء المهملة وكسر الراء آخره شين معجمة- والحرش (¬3) من بني صعصعة. مات سنة خمس وتسعين، من أنفسهم، وأبوه من أصحاب رسول الله (¬4). سمع عبد الله بن مغفل، وعمران بن حصين، وعائشة - رضي الله عنهم -. روى عنه: أبو التياح، وغَيْلان بن جرير، وقتادة، وثابت، وأخوه أبو العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، وابن أخيه عبد الله بن عانئ، وحميد بن هلال، ومحمد بن واسع، ويزيد الرِشْك -بكسر الراء وسكون الشين المعجمة- الضَبْعي. وهو تابعي مشهور متفق عليه. أخرج حديثه في «الصحيحين» - رضي الله عنه - (¬5). ¬
فيه: دليل على أن التكبير لم يكن معمولا به حينئذ؛ لقوله: لقد ذكرني، وإنما يتذكر ما نسي، ولو كان معمولا به، لم ينس، وذلك في زمن التابعين، ثم استقر العمل بعد على ما هو عليه الآن، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوعبا، ونظيره قول عائشة - رضي الله عنها -: ما أسرع ما نسي الناس! ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهل، الحديث (¬1)، حتى استدل به بعض المالكية، على أن المعمول به عند الصحابة، ترك الصلاة على الجنازة في المسجد، على ما تقدم تقريره (¬2)، والله أعلم. * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 84 - عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: رَمَقْتُ الصَّلاةَ مَعَ مُحَمَّدٍ (¬1) - صلى الله عليه وسلم -، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ , فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ , فَسَجْدَتَهُ , فَجِلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ , فَسَجْدَتَهُ، فَجِلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالانْصِرَافِ؛ قَرِيباً مِنْ السَّوَاءِ (¬2). ¬
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (¬1): مَا خَلا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، قَرِيباً مِنْ السَّوَاءِ (¬2). * * * * التعريف: البراء بن عازب بن حارث بن عدي بن جُضَم -بضم الجيم وفتح الشين المعجمة- بن مَجْدَعَةَ -بفتح الميم وسكون الجيم وفتح الدال المهملة-، والبعين المهملة -أيضا- بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، الحارثي، الأوسي، المدني. كنيته: أبو عمارة، وقيل: أبو عمرو، وقيل: أبو الطفيل. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مئة وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعششرين حديثا، وانفرد البخاري بخمسة عشر، وانفرد مسلم بستة أحخاديث. ¬
نزل الكوفة، ومات بها زمن مصعب بن الزبير. روى له الجماعة. قال ابن عبد البر في كتاب «الصحابة»: روى شعبة، وزهير بن معاوية، عن إسحاق، عن البراء، سمعه يقول: استصغر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر جماعة، منهم البراء بن عازب، وعبد الله بن عمر، ورافع بن خديج، وأُسَيد بن ظُهَير، وزيد بن ثابت، وعُمَير بن أبي وقاص. وشهد البراء بن عازب مع علي - رضي الله عنه - صفين، والجمل، والنهروان. نزل الكوفة، ومات بها. روى عنه من الصحابة: عبد الله بن يزيد الخَطْمي الأنصاري، وأبو جحيفة وهب بن عبد الله السُوائي (¬1). ومن التابعين: عامر الشعبي، وابن أبي ليلى، وأبو إسحاق السبيعي، وسعيد بن عبيدة، وغيرهم. وروى له الجماعة (¬2). ¬
قوله: «رمقت»؛ أي: نظرت، والمصدر: رَمْق، مثل ضرب، ورَمَّق ترميقا، مثل كلم تكليما: أدام النظر (¬1)، والمعنى: ترمقت هنا المبالغة في النظر وشدة التتبع لأفعاله وأقواله - صلى الله عليه وسلم -. فيه: الحث على استحباب مراعاة أفعال العالم وأقواله؛ للاقتداء به، فإن (¬2) تعارض القول والفعل، فعلى أيهما يعتمد؟ بين أهل الأصول خلاف وتفصيل مذكور (¬3) في كتبهم. ق: قوله: «قريبا من السواء» قد يقتضي: إما تطويل ما العادة فيه التخفيف، أو تخفيف ما العادة فيه التطويل، إذا كان ثم عادة متقدمة، وقد ورد ما يقتضي التطويل في القيام؛ كقراءة ما بين الستين إلى المئة، فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى؛ مما يطولها (¬4). وقد تكلم الفقهاء في الأركان الطويلة والقصيرة، واختلفوا في الرفع من الركوع، هل ركن طويل، أو قصير؟ ورجح أصحاب الشافعي أنه ركن قصير. وفائدة الخلاف فيه: أن تطويله يقطكع الموالات الواجبة في ¬
الصلاة، ومن هذا قال بعض أصحاب الشافعيس: إنه إذا طوله، بطلت الصلاة. وقال بعضهم: لا تبطل حتى ينقل إليه ركنا؛ كقراءة الفاتحة، أو التشهد. وهذا الحديث يدل على أن الرفع من الركوع ركن طويل؛ لأنه لا يتأتى أن تكون القراءة في الصلاة فرضها ونفلها بمقدار ما إذا فعل في الرفع من الركوع، كان قصيرا. وهذا الذي ذكر في الحديث من استواء الصلاة، ذهب بعضهم إلى أنه الفعل المتأخر بعد ذلك التطويل، وقد ورد في بعض الأحاديث: وكانت صلاته بعد تخفيفا (¬1). والذي ذكره المصنف عن رواية البخاري، وهو قوله: «ما خلا القيام والقعود» إلى آخره، ذهب بعضهم إلى تصحيح هذه الرواية، دون الرواية التي ذكر فيها القيام، ونسب رواية ذكر القيام إلى الوهم، وهذا بعيد عندنا؛ لأن توهيم الراوي الثقة على خلاف الأصل، لا سيما إذا لم يدل دليل قوي لا يمكن الجمع بينه وبين الزيادة على كونها وهما، وليس هذا من باب العموم والخصوص حتى يحمل العام على الخاص فيما عدا القيام؛ فإنه قد صرح في حديث البراء في تلك الرواية ¬
بذكر القيام، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كان مختلفا؛ فتارة يستوي الجمع، وتارة يستوي ما عدا القيام والقعود، وليس في هذا إلا أحد أمرين (¬1): إما الخروج عما تقتضيه لفظة (كان) إن كانت وردت في الملازمة أو (¬2) الأكثرية. وإما أن يقال: الحديث (1) اختلفت روايته عن واحد، فيقتضي ذلك التعارض، ولعل هذا هو السبب الذي دعا من ذكرنا عنه أنه نسب تلك الرواية؟ إلى الوهم إلى من قاله. وهذا الوجه الثاني -أعني: اتحاد الرواية- أقوى من الأول في وقوع التعارض، وإن اتمل غير ذلك على الطريقة الفقهية. ولا يقال: إذا وقع التعارض، فالذي (¬3) أثبت التطويل في القيام لا يعارضه من نفاه؛ فإن المثبت مقدم على النافي؛ لأنا نقول: الرواية الأخرى تقتضي بنصها عدم التطويل في القيام، وخروج تلك الحالة -أعني: حالة القيام والقعود- عن بقية حالات أركان الصلاة، فيكون النفي والإثبات محصورين في محل واحد، والنفي والإثبات إذا انحصرا في محل واحد، تعارضا، إلا أن يقال باختلاف هذه الأخوال ¬
بالنسبة إلى صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يبقى لها انحصار في محل واحد (¬1) بالنسبة إلى الصلاة. ولا يعترض على هذا إلا بما قدمناه من مقتضى لفظة (كان)، أو كون الحديث واحدا عن مخرج واحد، اختلف فيه، فلينظر ذلك من الروايات إن وجدت في حديث، أو كون الحديث واحدا، وتحقق الاتحاد، أو الاختلاف في مخرج الحديث، والله أعلم، انتهى كلامه (¬2). وقوله: «فجلسته ما بين التسليم والانصراف»؛ أي: ما بين التسليم في التشهد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عباد الله الصالحين، فعبر عن جميع ذلك بالتسليم. وقوله: «والانصراف» يعني به: الخروج من الصلاة بالسلام، وذلك مستعمل في الخروج من الصلاة، هكذا ذكره بعضهم، وقد جاء التعبير بالانصراف عن السلام في أحاديث من «الصحيح»، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع والسجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف» (¬3)؛ يعني: السلام، وكذا قول الراوي: كان (¬4) ينصرف ¬
عن يمينه (¬1)، وعن يشماله (¬2)، وغير ذلك. ويحتمل أن يكون ذلك من التعبير بالشيء عما يقاربه، وقد حمله بعض المتأخرين على الانصراف بعد السلام، فقال: فيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس بعد التسليم في مصلاه شيئا يسيرا (¬3). قلت: ولا ينبغي أن يبعد ذلك؛ لأنه قد جاء في «الصحيح»: -أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سلم من الصلاة، لم ينصرف من مصلاه حتى يقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا (¬4) ذا الجلال والإكرام» (¬5)، وبالله التوفيق. * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 85 - عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: إنِّي لا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنَا، قَالَ ثَابِتٌ: فَكَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئاً، لا أَرَاكُمْ (¬1) تَصْنَعُونَهُ؛ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، انْتَصَبَ قَائِماً (¬2) حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ , وَإِذَا رَفَعَ فِي السَّجْدَةِ، مَكَثَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ (¬3). ¬
* التعريف: ثابت هذا تابعي، وهو ثابت بن أسلم، كنيته: أبو محمد البناني البصري، ويقال: بنانة الذين منهم ثابت، هم بنو سعد بن ؤي بن غالب. سمع ثابت أنس بن مالك، وعبد الله بن الزبير، وأبا رافع. روى عنه: حميد الطويل، ويونس بن عبيد، وشعبة، وحماد بن زيد، وعبيد الله بن عمر، وهمام بن يحيى. مات سنة ثلاث وعشرين، وقيل: سنة سبع وعشرين ومئة، وهو ابن ست وثمانين سنة - رحمه الله تعالى- (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: معنى «آلو» أقصر، يقال: ما ألوت في كذا؛ أي: ما قصرت فيه. قال ابن دريد: [الرجز] فَإِنْ أَنَالَتْنِي الْمَقَادِيرُ الذي (¬2) ... أَكِيدُهُ لَمْ آلُ فِي رَأْبِ الثَّأَى أي: لم أقصر في إصلاح الفساد، وفلان لا يألو نصحه، واسم منه: آلٍ، مثل قاض، والمرأة آلية، وجمعها آوالٍ، وقد تحذف ¬
الواو منه في المضارع لغير جالزم؛ كما حذفت الياء من أدري كذلك، فقالوا: لا أدر. قال الجوهري: حكى الكسائي عن العرب: أقبل يضربه ما يألُ، يريد: ما يألو، قال: ويقال -أيضا-: أَلى يُؤْلِي تَأْلية: إذا قصر وأبطأ، قالوا: وقد يكون أَلَا -المخفف- بمعنى: استطاع، يقال: آلاه يألوه أَلْوًا: استطاع (¬1). وقوله: «أن أصلي»: الأصل: في أن أصلي، وحذف حرف الجر في (أن) و (أنَّ) قياس، فلما حذف حرف الجر، تعدى الفعل بنفسه، فنصب، وقد تقدم مثل هذا. الثاني: الحديث دليل صريج على أن الرفع من الركوع ركن طويل؛ كما يقوله بعض الشافعية، وظاهره يدل على وجوب الاعتدال في الركوع والسجود، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوعبا. الثالث: إن قلت: لم خص ذكر الاعتدال في الركوع والسجود دون سائر الأركان؟ قلت: قيل: لأنه كان قد رأى الناس -في زمانه ذلك-، قد وقع منهم، أو من بعضهم التقصير في الطمأنينة فيهما دون غيرهما، ولذلك قال: يصنع شيئا لم أركم تصنعونه. الرابع: قوله: «مكث»: يقال: مكَث (¬2)، ومكُثَ -بفتح الكاف ¬
وضمها-، وقد قرئ بهما قوله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22]، ومعناه: لبث، وانتظر، والاسم المُكْث والمِكْث -بضم الميم وكسرها-، وتمكَّث: تلبث، والمِكِّيثَى، مثال: الخصيصى: المكث، وصار الرجل متمكثا؛ أي: متلوما، ورجل مَكِيث؛ أي: رزين، أنشد الجوهري: [الوافر] فَإِنِّي عَنْ تَقَفُّرِكُم (¬1) مَكِيثُ (¬2) وهو قياس اسم الفاعل من مكث -بالضم وةالفتح-، ماكث، ومنه قوله تعالى: {إِنَّكُمْ مَكِثُونَ} [الزخرف: 77]، والله أعلم. وقوله: «حتى يقول القائل قد نسي»: يقول هنا بمعنى: يظن؛ أي: حتى -يظن (¬3) الظان أنه نسي من طول مكثه، ومن كلام العرب: أتقول زيدا قائما؛ أي: أتظن، ومنه قول الشاعر: [الرجز] متى (¬4) تقول القُلُصَ الرواسما ... يدنين أم قاسم وقاسما (¬5) أي: متى تظن، والله أعلم. * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع 86 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاةً، وَلا أَتَمَّ صّلاةً مِنَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: هذا الحديث مبين لحديث ثابت البناني، عن أنس، المتقدم آنفا؛ من التطويل والتخفيف. ¬
الثاني: «وراء»: من الأضداد، تستعمل بمعنى قدام أيضا. قال أهل التفسير في قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79]، الآية: أي: أمامهم، وهي مؤنثة بدليل إلحاق التاء في تصغيرها، تقول (¬1): وُرَيْئَة، وكذلك قدام، تقول: قُدَدِيمَة، قال الشاعر: [الطويل] قُدَيْدِيمَةُ التَّجْرِيبِ وَالْحِلْمِ إِنَّنِي ... أَرَى غَفَلَاتِ الْعَيْشِ قَبْلَ التَّجَارِبِ وهما شاذان؛ لأن الرباعي لا تلحقه تاء التأنيث، ووجه شذوذهما: أنه ليس في (¬2) الظروف مؤنث غيرهما، فلولو لم تحقهما الهاء، لأوهم ذلك تذكيرهما كسائر الظروف، فاعرفه (¬3). الثالث: سمي الإمام إماما؛ لأن الناس يأتمون به؛ أي: يؤمون أفعاله؛ أي: يقصدونها، ويتبعونها، ويقال للطريق: إمام؛ لأنه يؤم؛ أي: يقصد ويتبع، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 79]؛ أي: لبطريق واضح يمرون عليها في أسفارهم، يعني: القريتين المهلكتين؛ قريتي قوم لوط، وأصحاب الأيكة، فيراهما، فيعتبر بهما من خاف وعيد الله - عز وجل -. ¬
والإمام -أيضا-: الكتاب، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71]؛ أي: بكتابهم، وقيل: بدينهم (¬1)، ويقال: بنبيهم، قاله مجاهد. قال ابن عباس، والحسن: كتابهم الذي فيه أعمالهم. وقالت فرقة: متبعهم من هاد ومضل. قال ابن عطية: لفظة الإمام تعم هذا كله كله؛ لأن الإمام هو ما يؤتم به، ويهتدى به في المقصد، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، والله أعلم (¬2). الرابع: «قط» على قسمين: زمانية: كهذه التي في الحديث. وغير زمانية. فالزمانية: مفتوحة القاف مشددة الطاء، تقول: ما رأيته قط. قال الكسائي: كانت: قَطُط، يريد: كعضد، فلما سكن الحرف الأول للإدغام، جعل الآخر متحركا إلى إعرابه. ومنهم من يقول: قُطُّ، فيتبع الضمة الضمة؛ مثل: منذ اليوم. ومنهم من يقول: قَطُ -مخففة- يجعلها أداة، ثم يبينه على أصله، ويضم آخره بالضمة التي في المشددة. ومنهم من يتبع الضمة في المخففة أيضا، ويقول: قُطُ، كقولهم: لم أره مُذُ يومان، وهي قليلة. ¬
وإنما بنيت؛ لأنها غاية، فبنيت كسائر الغايات. وأما غير الزمانية: فهي بمعنى: حسب، وهو الكتفاء، فهي مفتوحة القاف، ساكنة الطاء، تقول: رأيته مرة فقط، فإذا أضفت، قلت: قَطُكَ هذا الشيء؛ أي: حسبك، وقَطْني، وقطي، وَقَطِ، قال الشاعر: [الرجز] امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتَ بَطْنِي والنون فيها للوقاية؛ أعني: أنها تقي السكون الذي بنيت عليه من الحركة، وإنما (¬1) بنيت لوقوعها موقع المبني، وهو فعل الأمر، ألا ترى أنك إذا قلت: قَطْكَ درهما، أن البمعنى: ليكفك درهم، أو اكتف بدرهم، والأصل في هذه النون أن تدخل على الفعل دون الاسم لتقيه من الكسر على ما تقرر في كتب العربية، وإنما دخلت في أسماء مخصوصة، نحو قطني، وَقَدْنِي، ولَدُنِّي، وكذا في بعض الحروف؛ نحو: عني، ومني. وقالوا: قَطَاطِ؛ مثل: حذام؛ أي: حسبي، قال الشاعر: أَطَلْتُ فِرَاطَهُمْ حَتَّى إِذَا مَا ... قَتَلْتُ سَرَاتَهُمْ قُلْتُ قَطَاطِ (¬2) الخامس: الظاهر أن هذه الصفة المذكورة في الحديث من صلاته -عليه الصلاة والسلام- تختص بحال الإمامة، وأما حال الانفراد، فإنه -عليه الصلاة والسلام- كان يطول، من ذلك قيام الليل ¬
وغيره، وقد جاء ذلك صريحا في «الموطأ» وغيره، وـ (¬1) قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، الحديث (¬2). وكما تقدم من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا صلى أحدكم للناس، فليخفف، وإذا صلى لنفسه، فليطول ما شاء» الحديث، فذكر الحكم والعلة، والله أعلم. * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العاشر 87 - عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجَرْمِيِّ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: جَاءَنَا (¬1) مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا , فَقَالَ: إنِّي لأُصَلِّي بِكُمْ (¬2) , وَمَا أُرِيدُ الصَّلاةَ , أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي , فَقُلْتُ لأَبِي قِلابَةَ: كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ قَالَ: مِثْلَ صَلاةِ شَيْخِنَا هَذَا , وَكَانَ يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ (¬3). أَرادَ بشيخِهمْ، أَبا يزيدَ، عَمرَو بنَ سَلَمَة الجَرْميَّ. ¬
* التعريف: أبو قلابة هذا تابعي، واسمه عبد الله بن زيد بن عمرو، الجرمي، الأزدي البصري. سمع أنس بن مالك، وثابت بن الفحال، ومالك بن الحويرث، وعائشة. روى عنه: أيوب (¬1) السختياني، وخالد الحذاء، ويحيى بن أبي كثير، وأبو رجاء، وقتادة، وعاصم الأول. وكان أبو قلابة هذا من عباد البصرة وزهادها، طلب للقضاء بالبصرة، فهرب إلى الشام، فمات بها سنة أربع، وقيل: سنة خمس ومئة في ولاية يزيد بن عبد الملك. أخرج حديثه في «الصحيحين» - رحمه الله تعالى- (¬2). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: هذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم، فهو خارج عما شرط المصنف من اتفاق الشيخين على الحديث الذي يذكره، وقد تقدم عكسه، وهو حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي ذكرنا أنه من أفراد مسلم، وقد أخرجه البخاري من طرق؛ منها: رواية وهيب، وأكثر ألفاظ هذه الرواية التي ذكرها المصنف هي رواية وهيب، وفي آخرها في كتاب «البخاري»: «وإذا رفع رأسه في السجدة الثانية، جلس، واعتمد على الأرض، ثم قام»، وفي رواية خالد عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث الليثي: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذ كان في وتر من صلاته، لم ينهض حتى يستوي قاعدا (¬1). الثاني: قوله: «مثل صلاة شيخنا هذا»، الشيخ المشار إليه هو عمرو بن سَلِمَةَ -بكسر اللام- الجرمي -بفتح الجيم وسكون الراء ¬
المهملة-، وهو: أبو بُرَيد -بالباء الموحدة المضمومة والراء المهملة-، واسمه: عمرو -بفتح العين، وـ (¬1) بواو أيضا-، وهو معدود فيمن نزل البصرة، ولم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت له سماع منه، وقد وفد أبوه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي من وجه غريب: أن عمرا -أيضا- وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى له أبو داود، والنسائي، وروى البخاري قصته هذه، وصلاته بقومه (¬2). الثالث: قوله: «وما أريد الصلاة؛ أي: وما أريد صلاة الفرض في هذا الوقت، إنما أريد صلاة التعليم خاصة، ونظير هذا الحديث ما تقدم من حديث عبد الله بن زيد، وحديث عثمان في الوضوء، ويشبه أن يكون قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المتقدم: «قوموا فلأصلي لكم» من هذا الباب، وأنه قصد به التعليم. ففيه دليل على جواز ذلك على الإطلاق، لكن من فعل ذلك هل يكون له أجر الصلاة التي قصد بها التعليم زائدا على أجر التعليم، أو ¬
لا يكون له إلا أجر التعليم خاصة؟ والظاهر: أن له أجرهما جميعا. وفي الحديث: دليل على ابلبين بالفعل، وإجرائه مجرى القول، وإن كان القول قد يكون أقوى من البيان بالفعل عندما يكون القول نصا لا يحتمل التأويل. الرابع: هذا الحديث يدل للشافعية على جلسة الاستراحة عقب الفراغ من الركعة الأولى والثالثة، لقوله: «وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض». وقد اختلف في ذلك: فاختلف قول الشافعي فيها، وكذا بعض أصحاب الحديث، ولم يقل بها مالك، ولا أبو حنيفة، وغيرهما. ووجه ما ذهب إليه مالك وأبو حنيفة: أنها بسبب (¬1) الضعف للكبر؛ كما قال المغيرة بن حكيم (¬2): أنه رأى عبد الله بن عمر يرجع من السجدتين من الصلاة على صدور قدميه، فلما انصرف، ذكرت ذلك له، فقال: إنها ليست بسنة الصلاة، وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي (¬3). وفي حديث آخر غير هذا، في قول (¬4) وائل بن حجر: إن ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من السجود، استوى قائما (¬1). فيكون هذا في حال الصحة، والحديث الآخر في حال الضعف، وبذلك يجمع بين الحديثين، وهو أولى من اطراح أحدهما (¬2)، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الحادي عشر
الحديث الحادي عشر 88 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ - رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا صَلَّى، فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ (¬1). * * * ¬
* التعريف: عبد الله بن مالك ابن بحينة -بباء موحدو وحاء مهملة بعدها ياء ساكنة باثنتين تحتها وبعدها نون- وهي أمه، وهي: بحينة بنت الأَرَتِّ -بتاء مثناة فوق مشددة-، وهو الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأبو مالك بن القِشْب، وهو جندب بن نضلة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة- بن عبد الله بن رافع بن مخضب -بالخاء المعجمة الساكنة بعدها ضاد معجمة- بن ميسرة بن صعب بن دُهمان -بضم الدال- بن نصر بن الأزد بن شنوءة. وكان أبو مالك قد حالف المطلب بن عبد مناف، وتزج بحينة من الحارث بن عبد المطلب، فولدت له عبد الله. ويكنى: أبا محمد، فأسلم، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قديما، وكان ناسكا فاضلا، يصوم الدهر، وكان ينزل بطن ريم، على ثلاثين ميلا من المدينة، ومات بها في عمل مروان بن الحكم الآخر على المدينة سنة أربع وستين، وعزل عنها في ذي القعدة سنة ثمان وستين. روى عنه: الأعرج، وعطاء بن يسار، ومحمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان، وابنه علي بن عبد الله بن بحينة، وحفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، رويا له أربعة أحاديث. روى له الجماعة (¬1). ¬
إذا ثبت هذا، فلتعلم أن عبد الله هذا (¬1) إذا وقع في موضع رفع، نون مالك أبوه، ورفع ابن؛ لأنه ليس بصفة لمالك، فيترك تنوينه ويجر، وإنما هو صفة لعبد الله بن مالك، وكذلك إذا رفع عبد الله في موضع جر، نون -أيضا-، وجر ابن؛ لأنه ليس بصفة لمالك، وقد قيل: إن بحينة أم أبيه مالك، والأول أصح (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قد تقدم أن (كان) هذه تدل على الملازمة والتكرار. وقوله: «فرج»: هو بتشديد الراء، وهو عبارة عن مجافاة (¬3) اليدين عن الجنبين، ويسمى ذلك -أيضا- تَخْوِيَة، وتجنيحا، وقد رويت الثلاثة: فجاء في رواية: أنه -عليه الصلاة والسلام- خَوَّى بين يديه (¬4)، وفي أخرى: تجنح في سجوده (¬5). والجميع بمعنى واحد. ¬
الثاني: قوله: «حتى يبدو بياض إبطيه» (¬1): قال الجوهري: الإبْط: ما تحت الجناح، يذكر ويؤنث، والجمع آباط، وحكى الفراء عن بعض العرب: فرفع السوط حتى برقت إبطه، والإبْط -أيضا- من الرحمل: منقط معظمه (¬2). الثالث: فيه: استحباب مجافاة اليدين -كما تقدم-، وذلك مستحب للرجال دون النساء؛ إذ المطلوب من النساء التقبض، والتجمع، والانزواء، دون التخوية والتجنيح، وإنما استحب ذلك للرجال؛ لأنها هي الاجتهاد وعدم التكاسل، والاستهانة بالعبادة، ولتكون اليدان في عمل من أعمال الصلاة، ولأنها -أضا- هيئة تدل على التواضع، وهي أبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، والله أعلم (¬3). ¬
الحديث الثاني عشر
الحديث الثاني عشر 89 - عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ (¬1). * * * ¬
* التعريف: أبو مسلمة: تابعي اسمه سعيد (¬1) -كما ذكر-، بن يزيد بن مسلمة، القصير، الأزدي، ويقال: البصري الطاحي -بالطاء وبالحاء المهملتين-، منسوب إلى طاحية -بطن من الأزد-، متفق على الاحتجاج به. سمع أبا نضرة -بالضاد المعجمة- (¬2)، وأنس بن مالك. روى عنه: بشر بن المفضل، وشعبة، وعباد بن العوام، وإسماعيل بن علية. توفي سنة اثنتين وثلاثين ومئة - رحمه الله تعالى- (¬3). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الحديث دليل على جواز الصلاة في النعلين. ق: ولا ينبغي أن يؤخذ منه الاستحباب؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة. فإن قلت: فلعله من باب الزينة وكمال الهيئة، فيجري مجرى الأردية والثياب التي (¬4) استحب التجمل بها في الصلاة؟ ¬
قلت: هو وإن كان كذلك، إلا أن ملابسة الأرض التي تكثر بها (¬1) النجاسات مما يقصر به عن هذا المقصود، لكن البناء على الأصل، إن انتهض دليل (¬2) على الجواز، فيعمل به في ذلك، والقصور الذي ذكرناه عن الثياب المتجمل بها يمنع من إلحاقه بالمستحبات، إلا أن يرد دليل شرعي بإلحاقه بما يتجمل به، فيرجع إليه، ويترك هذا النظر. ومما يقوي هذا النظر، إن لم يرد دليل على خلافه: أن التزين في الصلاة من (¬3) الرتبة الثالثة في المصالح، وهي رتبة التزيينات والتحسينات، ومراعاة أمر النجاسة من الرتبة الأولى، وهي الضروريات، أو الثانية، وهي الحاجيات، على حسب اختلاف العلماء في حكم إزالة النجاسة، فيكون رعاية الأولى بدفع ما قد يكون مزيلا لها أرجح بالنظر إليها، ويعمل بذلك فغي عدم الاستحباب، وبالحديث في الجواز، ويرتب كل حكم على ما يناسبه، ما لم يمنع من ذلك مانع، والله أعلم، انتهى (¬4). الثاني: فيه: دليل لأحد القولين، وهو مراعاة الأصل فيما إذا تعارض الأصل والغالب، وذلك أن النعلين يلابسان الأرض، وأصلها الطهارة، والغالب عليها النجاسة، ثم الغالب علوق الشيء منها بالنعلين، ومع ذلك صلى بهما -عليه الصلاة والسلام- بناء على الأصل الذي ¬
هو الطهارة، إلا أنه يعارض هذا، أنه -عليه الصلاة والسلام- أمر بالنظر إلى النعلين ودلكهما إن رئي فيهما أذى، وإذا كان الغالب النجاسة، فالغالب رؤيتها، وإذا رآها فيهما، دلكهما؛ لأمره بذلك؛ إذ محال أن يأمر بشيء من هذا ولا يفعله، وإذا كان الأمر كذلك، لم تكن التمسألوة من باب تعارض الأصل والغالب، وإنما تكون منه لو لم يدلكهما، والله أعلم (¬1). الثالث: «نعم»: حرف عِدَةٍ وتصديق، وجواب للاستفهام، سمع فيه كسر العين، والأكثر الفتح، وهو قائم في الكلام مقام الجملة المفيدة، فإذا قال القائل: أقام زيد؟ فقلت: نعم، فكأنك قلت: قام زيد، فسدت (نعم) مسد الجملة، وأغنت غناها، وذلك من محاسن كلام العرب. وأما (بلى)، فهي رد للنفي، وتقرير للثبوت، فإذا قال: ألم أحسن إليك؟ قلت: بلى، إن أردت تقرير الإحسان، فكأنك قلت: أحسنت ¬
إلي، فسدت -أيضا- مسد الجملة، ومنه قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. ولتعلم أن (نعم) تكون عدة في جواب الأمر وغيره من الأفعال (¬1) المستقبلة، وذلك كقولك: نعم، في جواب من قال: أكرمني، أو هل تكرمني، أنت في الحالين واعد له بالإكرام، وتكون تصديقا فيما عدا ذلك، وذلك نحو قولك: نعم لمن قال: خرج زيد -مثلا-: إذا صدقته (¬2) في إخباره بذلك، وكذلك -أيضا- إذا قال: أخرج زيد؟ فقلت له: نعم، كنت مخبرا له بخروج زيد، ومصدقا نفسك فيما أخبرته به من خروجه، وإن وقعت بعد إيجاب، أو سؤال عن نفي، كانت تصديقا لذلك النفي، وذلك نحو قولهم: نعم في جواب من قال: قام، أو هل قام زيد؟ وفي جواب من قال: لم يقم زيد، أو ألم يقم زيد؟ إذا أردت تحقيق نفي القيام. وأما (بلى)، فإنها لا تقع إلا بعد نفي في اللفظ أو في المعنى، وسواء كان النفي مقرونا بها، أو بأداة الاستفهام، أو لم يكن كذلك، فإذا قال القائل: لم يقم زيد، فقلت في الجواب: بلى، فالمعنى: بلى، قام زيد، وكذلك إذا قال منكرا لمقاومة زيد له: هل يستطيع زيد أن يقاومني، فقيل له في الجواب: بلى، فالمعنى: بلى يسطيع مقاومتك. وساغ وقوع بلى جوابا للاستفهام لما كان معناه النفي، فإن قلت: ¬
فهلا جاز أن تقع (نعم) في جواب النفي المقرون همزة الاستفهام، إذا أريد إثثبات النفي؟ فيقال في جواب من قال: ألم أعطك درهمات: نعم، ويكون المراد إثبات الإعطاء من حيث كان مراد المقرر الإثبات، ألا ترى أن مراده بقوله: ألم أعطك درهما: قد أعطيتك درهما، فكما يقال في تصديق قوله: قد أعطيتك درهما: نعم، فكذلك كان ينبغي أن يقال: نعم في جواب من قال: ألم أعطك درهما؟ ويكون المراد: إثبات الإعطاء. قلت: قيل في الجواب: إن المقرر قد يوافق المقرَّر على تقريره، وقد لا يوافقه، فلو قال في الجواب: نعم، لم يدر هل هو جواب على حسب اللفظ، فيكون المراد: إثبات النفي، أو جواب على المعنى الذي أراده (¬1) المقرِّر، فيكون المراد: إبطال النفي، فلما كان في ذلك من اللبس ما ذكرناه، جعلوا الجواب لكل واحد من المعنيين بحرف يخصه حتى يرتفع اللبس، فأجابوا بـ (بلى» إذا أرادوا إبطال النفي، وبـ «نعم إذا أرادوا تحقيق النفي، فإن اقترن بالكلام ما يرتفع معه اللبس، كان الجواب بنعم، والمراد المراد بالجواب بببلى، ويكون الجواب -إذ ذاك- على حسب المعنى، لا على حسب اللفظ، ومن ذلك قوله: [الوافر] أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو ... وَإِيَّانَا، فَذَاكَ بِنَا تَدَانِ ¬
نَعَمْ، وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ ... وَيَعْلُوهَا الْنَّهَارُ كَمَا عَلَانِي (¬1) ألا ترى أن المعنى: نعم، ويجمعنا الليل؟ وساغ ذلك؛ لارتفاع اللبس من جهتين: إحدهما: أنه قد علم أنه لا ينكر أحد جمع الليل لهما. وأخرى: أنه هو الذي أجاب عن نفسه، فقد علم ما قصد بالجواب، فاحتفظ بهذه المسألة، فإنها في نهاية التحرير في هذا الباب، والله الموفق. * * * ¬
الحديث الثالث عشر
الحديث الثالثَ عشر 90 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ, فَإِذَا سَجَدَ، وَضَعَهَا , وَإِذَا قَامَ، حَمَلَهَا (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قال الإمام المازري: حمل ذلك أصحابنا على النافلة، وظاهره أنه في الفريضة؛ فإن إمامته بالناس في النافلة ليست معلومة (¬1). قلت: ويحقق (¬2) كونه في الفريضة: ما وقع في بعض الروايات الصحيحة: بينما نحن ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر أو العصر، خرج علينا حاملا أمامة، وذكر الحديث (¬3). ع: اختلفت الرواية عن مالك في تأويله، فروى عنه ابن القاسم: أنه في النافلة، وروى عنه أشهب، وابن نافع: أن هذا للضرورة، وإذا (¬4) لم يجد من يكفيه، وأما لحب الولد، فلا، وظاهر هذا إجازته في الفريضة والنافلة؛ لهذه العلة (¬5). ¬
قلت: وهذا ضعيف -أيضا-؛ إذ الأصل استواء الشرائط في فرض الصلاة ونفلها، إلا ما خرج بدليل (¬1). ع: وروى عنه القتبي (¬2): أن الحديث منسوخ. وقال ابن عبد البر: لعل هذا نسخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها. ع: وهو نحو مما روي عن مالك (¬3). ق: وقد رد هذا بأن قوله -عليه السلام-: «إن في الصلاة لشغلا» (¬4) كان قبل بدر عند قدوم عبد الله بن مسعود من الحبشة، وإن قدوم زينب وابنتها إلى المدينة كان بعد ذلك، ولو لم يكن الأمر كذلك، لكان فيه إثبات النسخ بمجرد الاحتمال (¬5). ع: وقد قيل: هذا خصوص للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لا يؤمن من الطفل البول وغيره على حامله، فقد يعصم النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، ويعلم سلامته من ذلك مدة حبسه (¬6). ¬
قلت: وهذا ضعيف -أيضا-؛ إذ الأصل: الاقتداء به -عليه الصلاة والسلام-، وعدم الخصوصية (¬1)، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬2)، ولو سلكنا مسلك التحقيق في هذا، لانعكس علينا ما استدللنا به من صوافه -عليه الصلاة والسلام- على البعير على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وليست هذه بأولى من تلك، فيما يظهر، والله أعلم. ثم، وإن (¬3) سلمنا ما ذكر من الخصوصية، فهي بالنسبة إلى ملابسة الصبية مع احتمال خروج النجاسة منها، وليس في ذلك تعرض لأمر الحمل بخصوصه الذي الكلام فيه، فينتنبه لذلك (¬4). وقال أبو سليمان الخطابي: يشبه أن يكون هذا منه -عليه الصلاة والسلام- عن (¬5) غير قصد وتعمد له في الصلاة (¬6)، لكن الصبية لتعلقها به، وطول إلفها له؛ لملابسته لها في غير الصلاة، تعلقت به في الصلاة، فلم يدفعها عن نفسه، ولا أبعدها، فإذا أراد أن يسجد وهي على عاتقه، وضعها حتى يكمل سجوده، ثم تعود الصبية إلى (¬7) حالها من التهعلق، فلا يدفعها، فإذا قام، بقيت معه محمولة. ¬
قال: ولا يكاد يتوهم عليه حملها متعمدا، ووضعها، وإمساكها مرة بعد أخرى؛ لأنه عمل يكثر، وإذا كان علم (¬1) الخميصة يشغله حتى استبدل به، فكيف لا يشغله هذا (¬2)؟! قلت: وقد رد قول الخطابي هذا بما روي في الصحيح: «خرج علينا حاملا أمامة على عنقه، فصلى» (¬3)، وفي هذا عندي نظر؛ إذ يجوز أن -عليه الصلاة والسلام- حاملا لها، فلما أراد الإحرام بالصلاة، وضعها، وليس في هذا الحديث أنه صلى وهي على عنقه - صلى الله عليه وسلم - على ما قال الخطابي، لكن يبعد هذا ما في بعض طرق هذا الحديث الصحيحة (¬4): فإذا قام، أعادها (¬5)، وهذا يقتضي الفعل منه -عليه الصلاة والسلام- ظاهرا، فلا يتحصل ما قاله الخطابي. وقال القاضي أبو الوليد الباجي: إن كان حمل الطفل في الصلاة على معنى الكفاية لأمه؛ لشغلها بغير ذلك، فذلك لا يصح إلا في النافلة لطول أمر النافلة، وإن كان لما (¬6) يخشى على الطفل وأنه لا يجد من يمسكه، فيجوز في الفريضة، ويكون حبس الطفل على هذا على العاتق، ¬
أو معلقا في ثوب لا يشغل المصلي، وإلا، فحمله على غير هذا الوجه من الشغل الكثير المتصل في الصلاة (¬1) الذي يمنع صحتها. وقال غيره: وقد يكون حمله لها لأنه (¬2) لو تركها، بكت، وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها (¬3). وقال بعض مصنفي أصحاب الشافعي (¬4): إن العمل الكثير إنما يفسد إذا وقع متواليا، وهذه الأفعال قد لا تكون متوالية، فلا تكون مفسدة، والطمأنينة في الأركان -لا سيما في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - تكون، وزلا شك أن مدة القيام طويلة. وهذا الوجه إنما يخرج إشكال كونه عملا كثيرا، ولا يتعرض لمطلق الحمل (¬5). الثاني: ع: فيه من الفقه: أن ثياب الأطفال وأجسامهم طاهرة ما لم تعلم نجاسة (¬6). قلت: وهو مذهب الشافعي، واحتج بهذا الحديث، وـ (¬7) قال: ¬
وثوب أمامة ثوب صبي. ق: ويرد على هذا: أن هذه حالة فردة (¬1)، والناس يعتادون تنظيف الصبيان في بعض الأوقات، وتنظيف ثيابهم عن الأقذار، وحكايات الأحوزال لا عموم لها، فيحتمل أن يكون هذا وقع في تلك الحال التي وقع فيها التنظيف (¬2). قلت: وهذا إيراد فيه ضعف، والشيخ - رحمه الله - أكبر من أن يورد مثله؛ فإن الغالب عدم التنظيف بالنسبة إلى الصبيان؛ عملا بالوجدان، والحكم للغالب لا للنادر، فلا يصار إلى رد المذهب المشهور بالاحتمال المرجوح. ع: وفيه: أن لمس صغار الصبايا غير مؤثر في الطهارة، وأن حكم من لا تشتهى منهن في هذا الباب كله بخلاف حكم غيرهن. وقال بعضهم: فيه دليل على أن لمس ذوي المحارم لا ينقض الطهارة، وليس بشيء؛ لأن من في هذا السن من غير ذوي المحارم لا اعتبار بلمسه. وفيه: تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشفقته على آله، ورحمته الولدان الصغار، وجواز خفيف العمل، وحمل من لا يشغل في الصلاة (¬3). فائدة جليلة: وقع لي أن حمله -عليه الصلاة والسلام- أمامة مناسب ¬
من حيث المعنى؛ كقوله: «الحج عرفة» (¬1)، وبيان المناسبة: أن سبب قوله -عليه الصلاة والسلام-: «الحج عرفة» -على ما نقل- أن العرب من الحمس وغيرهم كانوا يأنفون من الوقوف بالحل؛ تعظيما منهم للححرم، فكانوا يتركون الوقوف بعرفة، ويقفون بالمزدلفة، والمشعر الحرام، وغيرهما من الحرم، فلما كان الإسلام، قال -عليه الصلاة والسلام-: «الحج عرفة»، فأتى بصيغة الحصر الابتدائي الذي معناه: لا حج إلا عرفة، على طريق المبالغة؛ دفعا لعادتهم السيئة من حمل البنات كبرا وخيلاء، حمل - صلى الله عليه وسلم - أمامة على عنقه حتى في الصلاة، فتلك بالقول، وهذه بالفعل. وقد ذهب بعضهم إلى أن البيان بالفعل أقوى من البيان بالقول، أخذه من قضية الحِلاق؛ حين أمرهم -عليه الصلاة والسلام-، فأبوا عليه، أو بعضهم، أو ترددوا على ما سيأتي في كتاب: الحج، فلم يكن إلا أن دعا حالقه، فلم يتخلف (¬2) منهم أحد، الحديث. ¬
وقوله: «وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» إلى آخره؛ يعني: بنت زينب من زوجها أبي العاص بن الربيع. وقوله: «ابن الربيع» هو الصحيح المشهور في كتب أسماء الصحابة، وكتب الأنساب، وغيرها، ورواه أكثر رواة «الموطأ» عن مالك، فقالوا: ابن ربيعة، وكذا (¬1) رواه البخاري من رواية مالك (¬2). ع: وقال الأصيلي، هو ابن ربيع بن ربيعة، فنسبه مالك إلى جده. ع: وهذا الذي قاله غير معروف في نسبه عند أهل الأخبار والأنساب باتفاقهم، وإنما هو أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، واسم أبي العاص: لقيط، وقيل: مُهَشِّمٌ (¬3)، وقيل غير ذلك، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع عشر
الحديث الرابعَ عشر 91 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ» (¬1). ¬
روينا (¬1) «يبسط»: -بياء مثناة تحت-، وفيها رواية أخرى بالتاء المثناة فوق، وكلاهما صحيح. وأما قوله: «اعتدلوا في السجود»، فقال ق: لعل الاعتدال هاهنا محمول على أمر معنوي، وهو وضع هيئة السجود موضع الشرع، وعلى وفق الأمر؛ فإن الاعتدال الخلقي (¬2) الذي طلبناه في الركوع لا يتأتى في السجود؛ فإنه ثَمَّ استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا: ارتفاعُ الأسافل على الأعالي، حتى لو تساويا (¬3)، ففي بطلان الصلاة وجهان لأصحاب الشافعي، ومما يقوي هذا الاحتمال: أنه قد يفهم من قوله عقب ذلك: «ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» أنه (¬4) كالتتمة للأول، وأن الأول كالعلة له، فيكون الاعتدال الذي هو فعل الشيء على وفق الشرع علة لترك الانبساط، كانبساط الكلب، فإنه مناف لوضع الشرع، وقد تقدم الكلام في كراهة هذه الصفة. وقد ذكر في هذا الحديث الحكم مقرونا بعلته؛ فإن التشبيه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركه في الصلاة، ومثل هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قصد التنفير عن الرجوع في الهبة، قال: «الراجع في هبته كالكلب يعود في قَيْئِه» (¬5). ¬
قلت: ومن التنفير -أيضا- قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله صورته صورة حمار؟» (¬1). وروى البخاري هذا الحديث عن أنس، وزاد فيه: «وإذا بزق، فلا يبزق بين يديه، ولا عن يمينه؛ فإنه يناجي ربه» (¬2). * * * ¬
باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود
باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود 92 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْمَسْجِدَ , فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى (¬1) , ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ»، فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى , ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ»، ثَلاثاً، فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! لا أُحْسِنُ غَيْرَهُ , فَعَلِّمْنِي , قَالَ (¬2): «إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ، فَكَبِّرْ , ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ , ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً , ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً , ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً, ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، وَافْعَلْ (¬3) ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا» (¬4). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الطمأنينة: السكون. قال الجوهري: اطمأن الرجل اطمئنانا، أي: سكن، فهو مطمئن إلى كذا، واطبأن (¬1): مثله على الإبدال، وتصغير مطمئن: طُمَيَّان، بحذف الميم من أوله، وإحدى النونين من آخره، وتصغير طمأنينة: طُمَيْنِيَّة، بحذف إحدى النونين؛ لأنها زائدة، واطمأن ظهره، وطَأْمَنَ (¬2)، ¬
على القلب، وطأمنت منه: سكنت (¬1). الثاني: انظر تكرير السلام مرارا من الأعرابي من غير غيبة من أحدهما عن الآخر؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان ينظر إلى صلاته، ولذلك قال له: «صل؛ فإنك لم تصل»، وإقراره -عليه الصلاة والسلام- على ذلك، والمشروع المعروف: اشتراط الغيبة للتكرار، وهو ظاهر ما في «أبي داود»، ونصه: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا لقي أحدكم أخاه، فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة، أو جدار، أو حجر، ثم لقيه، فليسلم عليه» (¬2). وفي كتاب «ابن السني»، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: كان أصحاب رسول الله يتماشون، فإذا استقبلتهم صخرة (¬3)، أو أكمة، فتفرقوا يمينا وشمالا، ثم التقوا من ورائها، سلم بعضهم على بعض (¬4). فهذا أيضا يشعر باشتراط التفرق لتكرار السلام، وهو خلاف ظاهر حديث الأعرابي، فانظر الجمع بين ذلك. الثالث: فيه: الرفق في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وفيه: حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -. ¬
وفيه: جواز الحلف من غير استحلاف. وفيه: العذر بالجهل، وأن من أساء في صلاته؛ بترك بعض واجباتها -على القول بوجوب الطمأنينة على ما سيأتي- جهلا منه بذلك: أنه ليس كالعامد، فتلزمه الإعادة؛ إذ لم يأمره -عليه الصلاة والسلام- بإعادة ما صلى قبلا تعليمه إياه. الرابع: هخذا الديث أصل في تعيين واجبات الصلاة وحصرها، وقد جرت عادة الفقهاء بالاحتجاج به كثيرا على وجوب ما ذكر فيه، وعدم وجوب ما لم يذكر فيه، أما ما ذكر، فظاهر، وأما ما لم يذكر فيه، فلوجهين: أحدهما: أن الأصل عدم الوجوب. والثاني: أن الموضع موضع بيان وتعليم للجاهل، فلا يسوغ فيه ترك ذكر شيء من الواجبات في الصلاة، ومما يقوي ذلك: عدم اقتصاره -عليه الصلاة والسلام- على ذكر ما لم يحسنه هذا المصلي، بل ذكره وغيره. ق: فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه، وكان مذكورا في هذا الحخديث، فلنا أن نتمسك به في وجوبه، وكل موضع اختلفوا في وجوبه، ولم يكن مذكورا في هذا الحديث، فلنا أن نتمسك في (¬1) عدم وجوبه؛ بكونه غير مذكور فيه، وكل موضع اختلف في تحريمه، فلنا أن نستدل بهذا الحديث على عدم تحريمه؛ لأنه لو حرم، لوجب التلبس بضدع؛ ¬
فإن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده، ولو كان التلبس بالضد واجبا (¬1)، لذكر على ما قررناه، فصار من لوازم النهي الأمر بالضد، ومن لوازم الأمر بالضد ذكره في الحديث -على ما قررناه-، فإذا انتفى ذكر -أعني: ذكر الأمر بالتلبس بالضد-، انتفى ملزومه، [وهو الأمر بالضد، وإذا اناتفى الأمر بالضد انتفى ملزومه] (¬2) وهو النهي عن ذلك الشيء؛ فهذه الطرق الثلاث يمكن الاستدلال بها على شيء كثير من المسائل المتعلقة بالصلاة، إلا أن على طالب التحقيق في هذا ثلاث وظائف: إحداها: أن يجمع طرق هذا الحديث، ويحصي الأمور المذكورة فيه، ويأخذ بالزائد فالزائد؛ فإن الأخذ بالزائد واجب. وثانيها: إذا أقام دليلا على أحد الأمرين؛ إما على عدم الوجوب، أو الوجوب: فالواجب يعمل به ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وهذا في باب النفي (¬3) يجب التحرز فيه أكثر، فلينظر عند التعارض أقوى الدليلين يعمل به. وعندنا: أنه إذا (¬4) استدل على عدم الوجوب الشيء بعدم ذكره في الحديث، وجاءت صيغة الأمر به في حديث آخر، فالمقدم صيغة الأمر، وإن كان يمكن أن يقال: الحديث دليل على عدم الوجوب، ¬
وتحمل صيغة الأمر على الندب، لكن عندنا أن ذلك أقوى؛ لأن عدم الوجوب متوقف (¬1) على مقدمة أخرى؛ وهو أن عدم الذكر [في الرواية يدل على عدم الذكر في نفس الأمر، وهذه غير المقدمة التي قررناها، وهو أن عدم الذكر] (¬2) يدل على عدم الوجوب؛ لأن المراد ثم: إن عدم الذكر في نفس الأمر من الرسول -عليه الصلاة والسلام- يدل على عدم الوجوب؛ فإنه موضع بيان، وعدم الذكر في نفس الأمر غير عدم الذكر في الرواية، وعدم الذكر في الرواية إنما يدل على عدم الذكر في نفس الأمر بطريق أن يقال: لو كان، لذكر، أو بأن الأصل عدمه؛ وهذه المقدمة أضعف من دلالة الأمر على الوجوب. وأيضا: فالحديث الذي فيه الأمر إثبات لازيادة، فيعمل بها، وهذا كله بناء على إعمال صيغة الأمر في الوجوب الذي هو ظاهر فيه، والمخالف يخرجه عن حقيقتها بدليل عدم الذكر، فيحتاج الناظر المحقق في الموازنة بين الظن المستفاد من عدم الذكر في الرواية، وبين الذكر المستفاد من كون الصيغة للوجوب. والثاني عندنا (¬3) أرجح. وثالثها: أن يستمر على طريقة واحدة، ولا يستعمل في مكان ما يتركه في آخر، فيتشعب نظره، ويستعمل القوانين المعتبرة في ذلك استعمالا واحدا؛ فإنه قد يقع هذا الاختلاف في النظر في كلام كثير ¬
من المتناظرين (¬1). انتهى. هذا الكلام من (¬2) التحقيق في الرتبة العليا، والله الموفق. الخامس: اختلف أصحابنا في الطمأنينة في أركان الصلاة، هل هي من السنن، أو من الفرائض؟ قالوا: والمشهور: وجوبها، وهو ظاهر الحديث، إذا قلنا: الأمر للوجوب، وهو الصحيح عند أهل الأصول، ما لم تقترن به قرينة تدل على الندب. لكن لقائل أن يقول: هنا الذي يدل على عدم وجوبها كونه -عليه الصلاة والسلام- رآه لا يطمئن، ولم يأمره بالقطع، بل أقره على إكمال صلاته، والحالة هذه، ولو كانت واجبة، لأمره بالقطع؛ لفساد صلاته بترك واجب من واجباتها. ألا ترى أنه لو ترك الركوع، أو السجود، أو غير ذلك من الأركان، لفسدت صلاته، وأمر بقطعها، أو ببنائه على ما أتى فيه بالواجب، وإلغاء غيره؟ وهذا الرجل لم يطمئن في شيء من صلاته ظاهرا، فلولا خفة الأمر في الطمأنينة دون غيرها من الأركان الواجبة، لأمره بالقطع، فدل ذلك على أن الطمأنينة سنة، ويكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: «صل؛ فإنك لم تصل» صلاة كاملة السنة؛ من باب: «لا صلاة لجار ¬
المسجد إلا في المسجد» (¬1)، وأضا: فإه لم يأمره بالاطمئنان حال صلاته كما تقدم. فإن قلت: فعل الأعرابي بمجرده لا يوصف بالحرمة عليه؛ لكونه غير عالم بالحكم، فلا يكون التقرير تقريرا على محرم. قلت: الجاهل كالعامد، على الصحيح، لا سيما في العبادات الواجبة المشهورة المتكررة، التي يلزم تعلمها كل من وجبت عليه، وأيضا فإن هذا فعل فاسد عند موجبها، والتقرير يدل على عدم فساده، وإلا، لما كان التقرير في موضع دليل على الصحة. فإن قلت: لم لم يعلمه -عليه الصلاة والسلام- من أول مرة؛ كي لا يقع التكرير لفعل فاسد ثلاثا؟ قلت: لا بد في وجوب التعليم من انتفاء الموانع، وزيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد لتكرار (¬2) فعله، وحضور نفسه (¬3)، واستجماع ذهنه، لا سيما مع عدم خوف الفوات، إما بناء على ظاهر الحال، أو بوحي خاص. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «ثم ارفع حتى تعتدل قائما»: ظاهره يدل على وجوب الرفع والاعتدال، وقد تقدم ذكر الخلاف في ¬
ذلك عندنا. ومذهب الشافعي وجوبهما (¬1). ووجه من لم يوجب الاعتدال: أن المقصود من الرفع الفصل، وهو حاصل بدون الاعتدال، وفيه نظر؛ فإن لقائل أن يقول: لا نسلم أن الفصل مقصود، أو لا نسلم أنه كل المقصود، وصيغة الأمر دلت على أن الاعتدال مقصود مع الفصل، فلا يلغى (¬2). والكلام على قوله: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا» كالكلام على قوله: «ثم اركع» إلى آخره، وكذلك في قوله: «ثم ارفع حتى تطمئن جالسا»، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «وافعل ذلك في صلاتك تكلها» يقتضي وجوب القراءة في كل ركعة، وسيأتي الكلام على ذلك -إن شاء الله- في موضعه قريبا. السادس: الرجل الذي قال له -عليه الصلاة والسلام-: «ارجع فصل؛ فإنك لم تصل»، قيل: اسمه خلاد (¬3). * * * ¬
باب القراءة في الصلاة
باب القراءة في الصَّلاةِ الحديث الأول 93 - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» (¬1). ¬
* التعريف: عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - بن قيس بن أصرَم -بالصاد المهملة- بن فهر -بكسر الفاء- بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف، الأنصاري الخزرجي. وعبادة هذا: أحد النقباء ليلة العقبة، شهد البعقبة الأولى، والثانية، وشهد بدرا، وأحدا، وبيعة الرضوان، والمشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهد فتح مصر، وأخوه أوس بن الصامت شهد بدرا. وأمه: قرة العين بنت عبادة بن نضلة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة- بن مالك بن عجلان. كنيته: أبو الوليد، وهو عَقَبي بدري أحدي شَجَري، استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض الصدقات، وكان يعلم أهل الصفة القرآن. ويقال: وجهه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في نفر لما كثر أهل الشام، فخرجوا يعلمون الناس القرآنت، ويفقهونهم في الدين، فاختار عبادة المقام بحمص، واختار أبو الدرداء دمشق، واختار معاذ بن جبل فلسطين، فلما مات معاذ عام طاعون عَمواس، صار عبادة إلى فلسطين، وأقام أبو الدرداء بدمشق حتى مات بها. وتوفي عبادة بن الصامت ببيت المقدس، وقيل: بالرملة، وقيل: بفلسطين، سنة أربع وثلاثين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث (¬1) وأحدٌ وثمانون حديثا، اتفقا ¬
منها على ستة أحاديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بآخرين. روى عنه من الصحابة - رضي الله عنهم -: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وفضالة بن عبيد، وأبو أمامة الباهلي، وشرحبيل بن حسنة، والمقدام بن معديكرب، وعبد الله بن عمر، ومحمود بن الربيع، ورفاعة بن رافع الزرقي، وأوس بن عد الله الثقفي. وروى عنه من أولاده: الوليد، ومحخمد، وعبد الله. وروى عنه: أبو إدريس، وأبو مسلم الخولانيان، وجبير بن نفير، وعبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، وكثيرة بن مرة، وعبد الرحمن بن غنم، وأبو الأشعث الصنعاني، ويعلى بن شداد، وحطان بن عبد الله الرقاشي، بتخفيف القاف. وقال الأوزاعي: أول من ولي قضاء فلسطين عبادة بن الصامت. روى له الجماعة - رضي الله عنه - (¬1). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: ظاهر الحديث يدل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، إلا أن أهل الأصول اختلفوا في مثل هذا اللفظ إذا ورد في الشرع. فقال بعضهم: هو من المجملات، أو قالوا: ملحق (¬1) بالمجملات؛ لأن نصه يقتضي نفي الذات، وملوم ثبوتها حسا، فقد صار المراد مجهولا. قال الإمام المازري: وهذا الذي قالوا خطأ؛ لأن الملوم من عادة العرب أنها لا تضع هذا النفي للذات، وإنما تورده مبالغة، فتذكر الذات ليحصل لها (¬2) ما أرادت من المبالغة. وقال آخرون: لم تقصد العرب قط نفي الذات، ولكن نفي أحكامها، ومن أحكامها الكمال والإجزاء في هذا الحديث، فيحمل اللفظ على الهموم فيهما (¬3). قال الإمام: وأنكر هذا المخققون؛ لأن العموم لا تصح دعواه فيما يتنافى، لا شك أن نفي الكمال يشعر بحصول الإجزاء، فإذا قدر الإجزاء منتفيا بحق العموم، قدر ثابتا بحق إشعار نفي الكمال بثبوته، وهذا تناقض (¬4)، وما يتناقض لا يحمل الكلام عليه، وصار المحققون ¬
إلى التوقف بين نفي الإجزاء، ونفي الكمال، وادعوا الإجمال من هذه الجهة، لا مما قال الأولون، فعلى هذه المذاهب يخرج قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا صلاة» الحديث (¬1). الثاني: ونذكر فيه اختلاف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، فنقول: مذهبنا: أن الفاتحة في الصلاةمتعينة، لا تصح صلاة القادر عليها إلا بها، وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد حكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وخوات بن جبير، والزهري، وابن عون، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكاه الشافعية عن الثوري، وداود، والشافعي. قال ابن عبد البر: وقال ابن خويز منداد (¬2) المالكي: وهي عندنا متعينة في كل ركعة، قال: ولم يختلف قول مالك: إنه من نسي في ركعة من صلاة ركعتين: أن صلاته تبطل إن لم يأت بركعة يصلها بالركعة التي قرأها (¬3) فيها، ولا تجزئه. واهتلف قوله فيمن نسيها في ركعة من صلاة ثلاثية، أو رباعية، فقال مرة: لا يعتد بتلك الركعة، ويأتي بركعة يضيفها إلى الثلاث التي ¬
قرأ فيها بفاتحة الكتاب، ويسجد بعد السلام؛ كالذي نسي سجدة، ويذكرها قبل السلام سواء، فإن لم يفعل، وسلم، أو تكلم، أو طال ذلك، أعاد الصلاة، ولا تجزئه، وهو قول ابن القاسم، وروايته، واختياره من قول مالك، وقال في قول مالك الآخر: إنه ليس عنده بالبين. وقال مالك مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو، ويجزئه، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عنه. قال ابن عبد الحكم: وقد قيل: إنه يعتد بتلك الركعة، ويسجد للسهو بعد السلام. وقالب مرة: يسجد سجدتي السهو (¬1) قبل السلام، ثم يعيد تلك الصلاة. وقال الشافعي، وأحمد بن حنبل: لا تجزئه صلاته حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، وهو قول جابر بن عبد الله. وقال أبو حنيفة، والأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلها، وقرأ غيرها، أجزأه، على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك. وعن أبي حنيفة أيضا رواية: أنها تجب، ولا تشترط. قال ابن عبد البر: وقال الطبري: يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة، فإن لم يقرأ بها، لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها. ¬
وقال أبو حنيفة: لا بد في الأوليين من قراءة، أقل ذلك في كل ركعة منها آية. وقال أبو يوسف، ومحمد: أقله ثلاث آيات، أو آية طويلة؛ كآية الدين. وقال مالك: إذا لم يقرأ أم القرآن في الأوليين، أعاد، لم يختلف قوله في ذلك، إلا ما روي عنه: في ركعتين، لم يخص الأوليين (¬1) من غيرهما، ومذهبه: القراءة بها في الصلاة كلها، فإن نسيها في ركعة ورعتين، فجوابه ما تقدم ذكره. قال ابن عبد البر: وقال الشافعي: أقل ما يجزئ المصلي من القراءة أن يقرأ فاتحة الكتاب إن أحسنها، وإن (¬2) لم يحسنها، وو يحسن غيرها من القرآن، قرأ بعددها (¬3) سبع آيات، لا يجزئه دون ذلك، فإن لم يحسن شيئا من القرآن، حمد الله تعالى، وكبر مكان القراءة، لا يجزئه غيره حتى يتعلمها. قال: ومن أحسن فاتحة الكتاب، فإن ترك منها حرفا واحدا، وـ (¬4) خرج من الصلاة، أعاد الصلاة. قال ابن عبد البر: وأجمع العلماء على إيجاب القراءة في الركعتين ¬
الأوليين من صلاة أربع (¬1)، على حسب ما ذكرنا من اختلافهم في فاتحة الكتاب من غيرها. قلت: في هذا الإجماع نظر، بل الظاهر أنه وهم؛ لأن ابن عباس يقول: لا قراءة في الظهر، ولا في العصر، فقيل له: إن ناسا يقرؤون فيهما (¬2)؟ فقال: لو كان لي عليهم سلطان، لقطعت ألسنتهم، قرأ (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقراءته لنا قراءة، وسكت، فسكوت لنا سكوت. هكذا هو في مسند عبد بن حميد (¬4)، فليعرف (¬5) ذلك. قال: واختلفوا في الركععتين الأخيرتين (¬6): فمذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود: أن القراءة فيهما بفاتحة الكتاب واجبة على الإمام والمنتفرد، ومن أبى منهما أن يقرأ بفاتحة الكتاب، فلا صلاة له، وعليه إعادتها، إلا أن مالكا اختلف قولهفي الناس لقراءتها (¬7) في ركعة، على ما ذكرنا عنه. وقال الطبري: القراءة فيهما واجبة، ولم يعين أم البقرآن من غيرها. ¬
قال: وقد ذكرنا في «التمهيد» حديث أبي قتادة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة، وفي الآخرتين بأم القرآن، وكان يسمعنا الآية أحيانا (¬1). وذكرنا هناك أيضا: حديث ابن عمر: أنه جاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن! هل في الظهر والعصر قراءة؟ فقال: هل تكون صلاة بغير قراءة (¬2)؟ قال أبو عمر: معلوم أن الركعة الواحدة صلاة، فلا تجوز إلا بقراءة. وقال أبو حنيفة: القراءة في الآخرتين لا تجب؛ وكذلك قال الثوري، والأوزاعي. قال الثوري: يسبح في الأخريين أحب إلي من أن بيقرأ؛ وهو قول جماعة الكوفيين، وسلف أهل العراق. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: يقرأ في الركعتين الأوليين، وأما في الآخرتين، فإن شاء، سبح، وإن شاء، قرأ، وإن لم يقرأ ولم يسبح، جازت صلاته؛ وهو قول (¬3) إبراهيم النخعي، رواه أهل الكوفة عن علي، وروى عنه أهل المدينة خلاف ذلك. قال أبو عمر: روي عن (¬4) علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، ¬
والحسن، وعطاء، والشعبي، وسعيد بن جبير: القراءة في الرعتين الأخيرتين (¬1) من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب في كل ركعة منهما، وثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا وجه لما خالفه، وبالله التوفيق. واختلفوا فيمن ترك القراءة في ركعة: فأما مالك، فقد ذكرنا مذهبه، واختلاىف الرواية عنه في ذلك. وقال الأوزاعي: من قرأ في نصف صلاته، مضت صلاته، وإن قرأ في ركعة واحدة من المغرب، أو الظهر، أو العصر، أو العشاء، ونسي أن يقرأ فيما بقي من صلاته، أعاد صلاته. وقال إسحابق بن راهويه: إذا قرأ في ثلاث ركعات، إماما كان أو منفردا، فصلاته جائزة، لما اجتمع الناس عليه: أن من أدرك الركوع، أدرك الركعة. قال أبو عمر: قاس إسحاق الإمام والمنفرد في الركعة على المأموم، فأخطأ القياس، والمنفرد لا يحنمل عنه غيره شيئا من صلاته، ولا يغلب عليه أحد رتبة صلاته، ولا يصليها هو، فتجزئ عنه. وقال الثوري: إن قرأ في ركعة من الصبح، ولم يقرأ في الأخرى، أعاد الصلاة، وإن قرأ في ركعة من الظهر، أو العصر، أو العشاء، ولم يقرأ في الثلاث، أعاد. وروي عن الحسن البصري: أنه قال: إذا قرأت في ركعة من الصلاة، أجزأك، وقال به أكثر فقهاء أهل البصرة. ¬
وقال المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني: إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة، أجزأه، ولم تكن عليه إعادة؛ لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن، فهي تمام ليست بخداج. وقال أبو عمر (¬1): وقد روي عن مالك قول شاذ لا يعرفه أصحابه، وينكره أهل العلم به: أن الصلاة تجزئ بغير قراءة، على ما روي عن عمر، وهي رواية منكرة عن مالك، والصحيح عنه خلافها وإنكارها (¬2). قلت: وكان ينبغي، أو (¬3) يتعين أن لا يجوز نقلها، ولا تسويد الورق بذكرها؛ إذ لا فائدة في ذلك، بل قد يغتر الجاهل أو (¬4) المتساهل بها، ولكن العلماء قد يذكرون بعض هذه المناكير؛ تحذيرا منها، وتنبيها على عدم اعتبارها، فحذار حذار من نقلها لغير عالم، أو متدين ورع. فإن قلت: فما تصنع بما رواه أبو سلمة، ومحمد بن علي: أن عمر - رضي الله عنه - صلى المغرب فلم يقرأ، فقيل له، فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسنا، قال: فلا بأس. رواه الشافعي في «الأم»، وغيره (¬5)؟ ¬
قلت: أجيب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ضعيف؛ لأن أبا سلمة ومحمد بن علي لم يدركا عمر (¬1). والثاني: أنه محمول على أنه أسر بالقارءة. والثالث: أن البيهقي رواه من طريقين موصولين عن عمر: أنه صلى المغرب، فلم يقرأ، فأعاد. قال البيهقي: وهو الرواية موصولة، وهي موافقة للسنة في وجوب القراءة، وللقياس في أن الأركان لا تسقط بالنسيان (¬2). فإن قلت: فقد روي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أنه قال: القراءة سنة. رواه البيهقي (¬3). قلت: قال البيهقي وغيره: مراده: أن القراءة لا تجوز إلا على حسب ما في المصحف، فلا تجوز مخالفته، وإن كان على غير (¬4) مقاييس العربية، بل حروف القراءة سنة متبعة؛ أي: طريق تتبع ولا تغير (¬5). ¬
فإن قلت: فقد روى الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أن رجلا سأله، فقال: إني صليت ولم أقرأ، قال: أتممت الركوع والسجود؟ قال: نعم، قال: تمت صلاتك. رواه الشافعي (¬1). قلت: هذا الأثر ضعفوه أيضا؛ لأن الحارث الأعور متفق على ضعفه، هكذا ذكره ح (¬2). ثم قال ابن عبد البر: وقال الشافعي: عليه أن يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، لا تجزئ الركعة إلا بها، قال: وكما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى، فكذلك (¬3) لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها؛ وهو ظاهر قول جابر، وبه قال عبد الله بن عون، وأيوب السختياني، وأبو ثور، وداود، وروي مثله عن الأوزاعي. قال أبو عمر: وقد أوضحنا الحجة في وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من طريق الأثر والنظر في كتاب «التمهيد»، وأما من أجاز القراءة بغيرها، فمحجوج مخصوم بحديث هذا الباب، وبقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب»، ولا معنى لقول ¬
من قال: يأتي بعدد حروفها وآياتها؛ لأن التعيين لها، والنص عليها قد خصها بهذا الحكمم دون غيرها، ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه، فتركها (¬1) وهو قادر عليها، وإنما عليه أن يجيء بها، ويعود إليها؛ كسائر المفروضات المعينات في العبادات. انتهى (¬2). قلت: وظاهر هذا الحديث يدل على وجوبها في كل ركعة، ووجه الدليل منه: أن كل ركعة تسمى صلاة، وهو قد قال -عليه الصلاة والسلام-: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» (¬3). ق: وقد يستدل به من يرى وجوبها في ركعة واحدة بناء على أنه يقتضي حصول اسم الصلاة عند قراءة الفاتحة، فإذا حصل مسمى قراءة الفاتحة، وجبت أن تحصل الصلاة، والمسمى يحصل بقرا ءة الفاتحة مرة واحدة، فوجب القول بحصول ممى الصلاة، ويدل على أن الأمر كما ندعيه: أن إطلاق اسم الكل على الجزء مجاز، ويؤيده قوله -عليه الصلاة والسلام-: «خمس صلوات اكتبهن الله على العباد» (¬4)؛ فإنه يقتضي أن اسم الصلاة حقيقة لمجموع الأفعال، ¬
لا لكل ركعة؛ لأنه لو كان حقيقةفي كل ركعة، لكان المكتوب على العباد سبع عشرة صلاةٍ. وجواب هذا: أن غاية ما فيه دلالة مفهوم على صحة الصلاة بقراءة الفاتحة في (¬1) ركعة، فإذا دل دليل خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة، كان مقدما عليه. قلت: قد دل دليل من خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: «كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خِداج» روي من طرق كثيرة، وإن كان قد اختلف في رفعه، ووقفه على جابر - رضي الله عنه - (¬2)، هذا من الحيث الأثر. وأما من حيث النظر: فقوله -عليه الصلاة والسلام-ت للأعرابي: «وافعل ذلك في صلاتك كلها»، فإنه يقتضي إعادة الفاتحة في كل ركعة؛ كما يعيد الركوع والسجود، وأيضا: فإن القفيام فرض في الثانية وما بعدها، والقيام لا يراد لنفسه، وإنكما محل لغيره، وليت شعري ما يقول من لم يوجبهافي كل ركعة في صلاة من خص قراءتها بالرابعة مثلا، أو الثالثة، فإن أجازها، فليس في الحديث ما يدل على جوازها، وإن أبطلها، فكذلك. ¬
ق: وقد يستدل بالحديث على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم؛ لأن صلاة المأموم صلاة، فتنتفي عند انتفاء قراءة الفاتحة، فإن (¬1) وجد دليل يقتضي تخصيص صة المأموم من هذا العموم، قدم على هذا، وإلا، فالأصل العمل به (¬2). قلت: الدليل الذي يخصص هذا العموم: ما رواه مالك في «موطئه» عن ابن شهاب، عن ابن أُكَيمة الليثي، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: «هل قرأ معي منكم أحد آنفا؟»، فقال رجل: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟»، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). قال القاضي أبو الوليد الباجي: وهذا الخديث أصل مالك - رحمه الله - في ¬
ترك المأموم القراءة خلف الإمام في حال الجهر؛ لأنه لما علق حكم الامتناع من القراءة على الجهر، كان الظاهر أن الجهر علة ذلك الحكم. قال: وذهب الشافعي إلى أن القراءة واجبة على المأموم على كل حال. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، وهذا يقتضي منع القراءة جملة، وجميع الكلام، ووجوب الإنصات عند قراءة كل قارئ، إلا ما خصه (¬1) الدليل. ودليلنا من جهة السنة: ما رواه أبو صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر، فكبروا، وإذا (¬2) قرأ، فأنصتوا» (¬3)، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. قلت: ولعل هذا متمسك من لم يستحب عندنا القراءة للمأموم في الصلاة السرية أيضا، لأن الإمام قارئ فيها، وغن لم يسمع؛ فإن الإنصات لم يعلق على السماع، وإنما علق على القراءة، وإن كان الصحيح المشههور عندنا: استحباب القراءة للمأموم في السرية. ¬
ثم قال الباجي: ودليلنا من جهة القياس: أن هذه (¬1) حال الائتمام، فوجب أن تسقط معه القراءة عن المأموم، أصله: إذا أدركه راكعا. انتهى كلام الباجي (¬2). مسألة: لو كان الإمام ممن يسكت بعد التكبير سكتة، ففي «المجموعة» من رواية ابن نافع، عن مالك: يقرأ من خلفه في سكتته أم القرآن، وإن كان قبل قراءته. قال الباجي: ووجه ذلك: أن اشتغاله بالقراءة أولى من تفرغه للوسواس وحديث النفس إذا لم يقرأ الإمام قراءة ينصت لها، ويشتغل بتدبرها وتأملها. مسألة أخرى: فإذا (¬3) قرأ المأموم خلف الإمام حال جهره للقراءة، فبئس ما صنع، ولا تبطل صلاته. ورأى (¬4) قوم أن صلاته باطلة؛ وقد روي ذلك عن الشافعي، والدليل على صحة قولنا: أنها قراءة قرآن، فلم تبطل الصلاة، أصل ذلك: حال الإسرار (¬5) ¬
فائدة: ح: لفاتحة الكتاب عشرة أسماء حكاها الإمام أبو إسحاق الثعلبي وغيره: أحدها: فاتحة الكتاب، وجاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسميتها بذلك، قالوا: سميت به، لأنه يفتتح بها المصحف، والتعليم، والقراءة في الصلاة. وهي سورة الحمد؛ لأن فيها الحمد. الثالث والرابع: أم القرآ، وأم الكتاب؛ لأنها مقدمة في المصحف، كما سمي الدماغ: أم الرأس؛ لأنه مجمع الحواس والمنافع. وقال ابن دريد: (الأم) في كلام العرب: الراية ينصبها الأمير للعسكر يفزعون إليها، فسميت الفاتحة أم القرآن؛ لأن مفزهع أهل الإيمان والقرآن إليها، والعرب تسمي الأرض أما؛ لأن مهعاد الخلق إليها (¬1) في حياتهنم وموتهم (¬2). وقال الحسن (¬3) بن الفضل: سميت بذلك؛ لأنها [إمام لجميع ¬
القرآن، يقرأ في كل ركعة، ويقدم على كل سورة؛ كأم القرى] (¬1) الإسلام، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها أعظم سورة في القرآن، ثبت في «صحيح البخاري»، عن أبي سعيد بن المعلى - رضي الله عنه -، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد»، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: «لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟» قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته» (¬2). الخامس: الصلاة؛ للحديث الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، فإذا قال (¬3): {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [البفاتحة: 2]، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قالب: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قال: مجدني عبدي -وقال مرة: فوض إلي عبدي-، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، يقول الله تعالى: هذه بيني وبين عبدي، فإذا قال (¬4): {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ¬
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»، رواه مسلم (¬1). السادس: السبع المثاني؛ للحديث الصحيح الذي ذكرناه قريبا، سميت بذلك؛ لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة. السابع: الوافية -بالفاء-؛ لأنها لا تتبعض، فلا يقرأ بعضها في ركعة، وبعضها في أخرى؛ بخلاف غيرها. الثامن: الكافية؛ لأنها تكفي عن غيرها، ولا يكفي عنها غيرها (¬2). التاسع: الأساس، روي عن ابن عباس. العاشر: الشفاء، فيه حديث مرفوع. قال الماوردي في «تفسيره»: اختلف (¬3) في جواز تسميتها أم الكتاب؛ فجوزه الأكثرون، ومنعه الحسن، وابن سيرين، وزعما أن هذا اسم للوح المحفوظ، فلا يسمى به غيره. قلت: وهذا غلط، ففي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة، قال: «من قرأ بأم الكتاب، أجزأت عنه» (¬4)، وفي «سنن أبي داود» عن أبي هريرة، ¬
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] أم الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني» (¬1)، انتهى (¬2). قلت: وزاد الزمخشري: سورة الكنز (¬3)، فتكون أسماؤها أحد عشر، وبالله التوفيق. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 94 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ؛ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَتَيْنِ؛ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى , وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ , وَيُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَاناً، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الأُولَى , وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ/ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ؛ بِأُمِّ الْكِتَابِ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: «يقرأ في الأوليين» هي أفصح من الأَوَّلَة والأوَّلَتَيْن -بالتاء-، وكذلك الأخرى والأخريان أفصح من الآخرة والآخِرتين (¬1). الثاني: السورة في أصل اللغة: كل منزل من البناء. قال الجوهري: ومنه سورة القرآن؛ لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأولى، والجمع سور، بفتح الواو. قال الشاعر: [البسيط] سُودُ الْمَحَجِرِ لا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ (¬2) ¬
ويجوز أن تجمع على سورات، وسوَرات -بتسكين الواو وفتحها-، وأما قول النابغة: [الطويل] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ فإنه يريد: شرفا ومنزلة. وأما سورى بوزن بشرى، فموضع بالعراق من أرض بابل، ونهو بعد بلد السُّريانيين (¬1). وقال غيره: معنى السورة في كلام العرب: الإبانة لها من سورة أخرى، وانفصالها عنها، سميت بذلك؛ لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة. وقيل: سميت بذلك؛ لشرفها، وارتفاعها؛ كما يقال لما ارتفع من الأرض: سُور. وقيل: سميت بذلك؛ لأن قارئها يشرف على ما لم يكن عنده؛ كسور البناء كله -بغير همز-. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها قطعة من القرآن على حدة، من قول العرب للبقية: سُؤْر، وجاء: في أسآر الناس؛ أي: بقاياهم، فعلى هذا يكون الأصل سؤرة -بالهمز-، ثم خففت، فأبدلت (¬2) واوا لانضمام ما قبلها. ¬
وقيل: سميت بذلك؛ لتمامها وكمالها، من قول العرب للناقة التامة: سورة، والله أعلم (¬1). الثالث: الحديث يدل على قراءة سورة مع الفاتحة، ولا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف في وجوبها وعدمه. وللعلماء في زيادة قرآن مع الفاتحة ثلاثة أقوال: القول الأول: الوجوب: يحكى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص، وغيرهما، وحده عمر وعثمان - رضي الله عنهما - بثلاث آيات، وقال غيرهما: ما تيسر (¬2)، ووجهه: التمسك بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما رواه أبو هريرة، قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ويعارضه قةله -عليه الصلاة والسلام-: «لا صلاة إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب» (¬3)، وما رواه محمول على الندب. والقول الثاني: أن ذلك سنة. قال في «المدونة»: إن ترك ذلك سهوا، سجد قبل السلام. قال ابن القاسم في «العتبية»: فإن نسي السجود حتى طال، فلا شيء عليه، ودليلنا على عدم الوجوب الحديث المذكور آنفا، وقوله ¬
-عليه الصلاة والسلام-: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، فلم (¬1) يزد عليها، والاستدلال بالحديث الأول أصرح من هذا الثاني. والقول الثالث: عندنا: أن ذلك فضيلة، قال مالك في «مختصر ما ليس في المختصر»: ليس على ناسيها إعادة ولا سجود، وقاله أشهب. قال اللخمي: واختلف في تاركها عمدا، أو جهلا، فقال ابن القاسم: يستغفر الله، ولا شيء عليه. وقال عيسى: إن تركها عمدا، أو جهلا، أعاد أبدا. قال اللخمي: فجعلها واجبة. قال الإمام المازري: ما أظن اللخمي خرج الوجوب إلا من قوله: من تركها جهلا؛ لأن القول بالإعادة مع العمد يجري على طريقة القائلين بأن تارك السنة متعمدا يعيد أبدا، وفي تخريجه هذا نظر؛ لأن المذهب اختلف، هل الجاهل كالعامد، أو لا؟ فعلعل عيسى رآه كالعامد. قال صاحب «البيان والتقريب»: ومنشأ الخلاف في أنها سنة أو فضيلة: النظر في تأكد الأمر وعدم تأكده، انتهى. هذا كله في الفرائض، أما السنن والتطوعات، فزيادة قرآن على الفاتحة فيها سنة، ما عدا ركعتي الفجر؛ فإن المشهور عندنا فيها الاقتصار على الفاتحة. ¬
وفي «مختصر ابن شعبان»: يقرأ فيهما بأم القرآن، وسورة من قصار المفصل،. ودليلنا في استحبابها في سائر التطوعات: استمرار العمل على ذلك، وسيأتي الكلام على ركعتي الفجر في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد اختلف في قراءة سورة مع أم القرآن في الثالثة والرابعة، فالمشهور: لا يفعل، وإن فعل، فلا شيء عليه. وفي «التفريع» (¬1) عن أشهب: أنه يسجد بعد السلام. وقال محمد بن عبد الحكم: من فعل، فقد أحسن. وقال الشافعي في أحد قوليه: يقرأ بها في الأربع. قال اللخمي: والأحسن أن يقرأ بها فيهما؛ لأنها زيادة (¬2) فضل، فقد أجاز (¬3) مالك في «مختصر ابن عبد الحكم» أن يقرأ في كل ركعة من الركعتين (¬4) الأوليين بالسورتين والثلاث، وإذا جاز أن يزيد على سورة في الأوليين، جاز أن يقرأ السورة (¬5) في الأخريين. قال صاحب «البيان والتقريب»: وهذا ضعيف؛ فإنه لا يلزم إذا ¬
جاز في الموضع الذي ثبت فيه شرعية القراءة أن يقرأ بسورتين وثلاث أن يجز ذلك حيث لم يثبت شرعية ذلك. قلت: ودليلنا في ذلك: هذا الحديث، وقول الراوي: كان ييفعل ذلك، يدل على استمراره -عليه الصلاة والسلام- على ذلك؛ كما تقدم غير مرة. قال بعض المتأخرين من أصحايبنا: ووجه قول ابن عبد الحكم، والشافعي: ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم في الظهر في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين نصف ذلك (¬1)، والنصف من ذلك يزيد على قدر الفاتحة، وما روي: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قرأ في الآخرة من المغرب بأم القرآن، وـ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] (¬2). والجواب عن ذلك: أنه ليس عليه العمل؛ كما ذكره مالك في «المدونة» (¬3). ¬
مسألة: اختلف عندنا في الاقتصار على بعض سورة، فيل: مكروه؛ لأنه خلاف ما مضى به العمل، وقيل: جائز؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد قرأ ببعض سورة في الصبح. قال صاحب «البيان والتقريب»: إنما فعل ذلك في الصبح؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- أخذته سعلة، فركع (¬1)، فلا حجة فيه للجواز. مسألة: الأحسن عندنا: الاقتصار على سورة واحدة، وقيل بجواز (¬2) الزيادة عليها، ووجه الأول: أنه عمل السلف، ووجه الثاني: قول (¬3) ابن مسعود - رضي الله عنه - في «الصحيحين»: لقد عرفت النظائر التي كان -عليه الصلاة والسلام- يقرن بينهن، وذلك عشرين سورة، سورتين في كل ركعة (¬4). وأجيب عن هذا: بأن ذلك محمول على النوافل. مسألة: مشهور مذهبنا: أنه لا يقسم سورة في ركعتين، فإن فعل، أجزأه. ¬
وقال مالك في «المجموعة»: لا بأس به، وما هو الشأن؛ أي: إنه (¬1) لم ينقل عن السلف، ولو كان، لنقل. وقوله: وما هو الشأن يشير إلى أنه ليس عليه العمل. مسألة: المستحب أن تكون السورة الثانية أقصر من الأولى، كما هو ظاهر الحديث على ما سيأتي، وأن تكون مرتبتين (¬2) على ترتيب المصحف؛ لأنه المروي في الأخبار والآثار، ويجوز غيره، ووجه الجواز: أن المصحف إنما جمع في زمن أبي بكر - رضي الله عنه -، فلم يكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترتيب في السور، والله أعلم. الرابع: قوله: «يطول في الأولى، ويقصر في الثانية»، أي: يطول القراءة في الأولى، ويقصرها في الثانية، هذا هو المتبادر إلى الذهن؛ كما تقدم آنفا، وإن كان اللفظ يحتمل أن يكون تطويل الأولى بمجموع منه القراءة، ويقوي الأول: أن المذكور هنا القراءة، والسياق لها، فينبغي أن يكون التطويل والتقصير راجعين (¬3) إليها، لا بأمر زائد عليها، وعند الشافعية في ذلك خلاف، والله أعلم. وانظر: إذا أدرك المسبوق الثانية، وفاتته الأولى، هل يطولها؛ كما قال أصحابنا، يقرأ فيها -أعني: الأولى- حين يقضيها بالسورتين ¬
التي قرأها (¬1) إمامه، وهي أطول من الثانية على ما تقرر، أو يقصرها؛ لأنها ثانية من حيث الجملة؟ في هذا النظر. الخامس: قوله: «وفي الركعتين الأخرين (¬2)، بأم الكتاب»: قد تقدم ذكر الاختلاف في ذلك، وأن المشهور ما هو نص الحديث: أنه لا يزيد في الأخريين على أم الكتاب. السادس: فيه: جواز الجهر بالآيات اليسيرة في الصلاة السرية، ولذلك لا يسجد عندنا من فعل ذلك، ولا أعلم فيه خلافا لغيرنا. السابع: فيه: ابلاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار دون التوقف على اليقين؛ إذ لا يكمن تيقن قراءة سورة إلا بسماع جميعها، وقد قال: «وكان يسمع القراءة أحيانا»، فأخذ من سماع بعضها قراءة جميعها؛ اعتمادا على هذه القرينة، ويبعد أن يكون تيقن ذلك بإخباره -عليه الصلاة والسلام- عند فراغ الصلاة بعدا شديدا، مع ما في لفظة (كان) من الإشعار بالأكثرية والمداومة، والله أعلم. فإن قلت: لم جهر -عليه الصلاة والسلام- في بعض الأحيان، والسنة في الصلاة السرية وعدم الجهر؟ قلت: قيل: إن هذا محمول على أنه أراد بيان الجواز، وأن الإسرار ليس بشرط، بل هو سنة. ¬
ح: ويحتمل أن الجهر بالقراءة كان يحصل لسبق اللسان؛ للاستغراق في التدبر، والله أعلم (¬1). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 95 - عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ (¬1). ¬
* التعريف: جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي، النوفلي، القرشي، المدني. يكنى: أبا محمد، وقيل: أبا عدي. أمه أم جميل بنت سعيد من بني عامر بن لؤي. قال مصعب الزبيري (¬1): كان جبير بن مطعم من حكماء قريش، وسادتهم، وكان يؤخذ عنه النسب، وكان أنسب قريش لقريش والعرب قاطبة، وكان يقول: أنا (¬2) أخذت النسب عن أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - من أنسب العرب. أسلم جبير بن مطعم -فيما قيل- يوم الفتح، وقيل: عام خيبر، وكان قد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في فدى أسارى بدر كافرا. وروى ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأكلمه في أسارى بدر، فوافقته (¬3) وهو يصلي بأصحابه المغرب، أو العشاء، فسمعته وهو يقرأ، وقد خرج صوته منت المسجد: {104 - عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ». إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 - 8]، قال: فكأنما صدع قلبي (¬4). ¬
وبعض أصحاب الزهري يقول عنه في هذا الخبر: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور: 35]، فكاد قلبي يطير، فلما فرغ من صلاته، كلمته في أسارى بدر، فقال: «لو كان الشيخ أبوك حيا، فأتانا فيهم، شفعناه» (¬1). وروي: «لو أن المطعم بن عدي كان حيا، فكلمني في هؤلاء النتنى، لأطلقتهم له» (¬2). وكانت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد، وكان من أشرف قريش، وإنما كان هذا القول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المطعم بن عدي الذي كان أجار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم من الطائف من دعاء ثقيف. وكانت وفاة المطعم بن عدي في صفر سنة ثلاث من الهجرة قبل بدر بنحو سبعة أشهر. ومات جبير بن مطعم بالمدينة سنة سبع وخمسين، وقيل: تسع وخمسين، في خلافة معاوية، وذكر بعض الحفاظ أنه توفي سنة أربع وخمسين، وذكره بعضهم في المؤلفة قلوبهم، وفيمن حسن إسلامه ¬
منهم، وقيل: أول من لبس طيلسانا بالمدينة جبير بن مطعم. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستون حديثا، اتفقا منها على ستة أحاديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بواحد. روى عنه: ابناه: محمد، ونافع، وسليمان بن صرد، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أُذَيْنَة، ومحمد بن طلحة بن زيد بن رُكَانة، وغيرهم. روى له الجماعة، - رضي الله عنه - (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: اختلف النحاة في (سمعت) هل يتعدى إلى مفعولين؟ وهو مذهب الفارسي في «الإيضاح»، قال: إلا أن (سمعت) يتعدى إلى مفعولين، ولا بد أن يكون الثاني مما يسمع؛ كقولك: سمعت زيدا يقول كذا، ولو قلت: سمعت زيدا يضرب أخاك، لم يجز. والصحيح: أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، والفعل (¬2) الواقع ¬
بعد المفعول في موضع الحال، فقوله: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ، (يقرأ): في موضع الحال؛ أي: سمعته في حال قراءته, وهذا (¬1) مقرر في كتب العربية (¬2). فيه: عدم التحرج بنقل أسماء السور على لفظها ولا بد; فإنه لو حكاها، لقال: بـ: {وَالطُّورِ} [الطور: 1]، وقد جاء لذلك نظائر كثيرة. وفيه: جواز قول سورة كذا؛ خلافا لمن قال: لا يقال إلا السورة التي تذكر فيها البقرة مثلا; لأن قوله: «بالطور»، تقديره: بسورة الطور. وفي هذا الحديث غرابة من حيث إن جبير بن مطعم سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامه، ثم أداه بعد إسلامه, ومثل هذا يعز وجوده, ونظيره: شهادة الصبي، والكافر، والعبد, وأداؤها بعد تغير أحوالهم، والله أعلم. الثاني): الطور: الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى وهو بِمَدْيَنَ. الثالث): المراد من هذا الحديث: معرفة قدر القراءة في الصلاة, وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة مختلفة بالنسبة إلى الطول والقصر, حتى صُنف فيها كتاب مفرد. قال العلماء: واختلاف قدر القراءة في الأحاديث كانت بحسب ¬
الأحوال، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم من حال المأمومين في وقت أنهم يؤثرون التطويل, فيطول بهم (¬1)، وفي وقت لا يؤثرونه لعذر ونحوه, فيخفف, وفي وقت يريد إطالتها، فيسمع (¬2) بكاء الصبي, فيخففها؛ كما ثبت في «الصحيحين» (¬3). وقد تقدم: أن مذهبنا أن أطول الصلاة (¬4) قراءة الصبح والظهر, وأقصرها العصر والمغرب, وأوسطها العشاء الآخرة, وبذلك قال الشافعية، إلا في العصر، فإنهم ألحقوها بالعشاء الآخرة في التوسط, ولا يكاد يختلف في تطويل الصبح وتقصير المغرب, واختلف في الظهر والعشاء. ق: والصحيح عندنا: أن ما صح في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ مما لم تكثر مواظبته عليه، فهو جائز من غير كراهة ; لحديث جبير بن مطعم في قراءة (الطور) في المغرب, ولحديث قراءة (الأعراف) فيها, وما صحت المواظبة عليه، فهو في (¬5) درجة الرجحان في الاستحباب، إلا أن غيره مما قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - مكروه, وقد تقدم الفرق بين كون الشيء ¬
مستحبا، وبين كون تركه مكروها (¬1). قلت: قوله: «والصحيح»، يشعر بالخلاف في ذلك، والله اعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 96 - عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي سَفَرٍ, فَصَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ , فَقَرَأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَداً أَحْسَنَ صَوْتاً، أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث (¬1): من حيث مقدار القراءة في الصلاة؛ كالكلام على الحديث الذي قبله، غير أن فيه زيادة؛ وهو الرد على الأصمعي في إنكاره قول الناس: العشاء الآخرة، وقد استعملها البراء، ولم تنكر عليه، فلولا أنها معلومة الاستعمال في زمانه، لأنكرت عليه، وقد اشستعملها غيره، ولم ينقل إنكارها عن غير الأصمعي، يما علمت. وكأن شبهة الأصمعي -والله أعلم- كونه ليس لنا إلا عشاء واحدة، وإنما يقال: آخرة لو كان لها أولى؛ كما لا يقال: مررت برجل وامرأة أخرى، أو العكس، فإن نقل تسمية المغرب عشاء، فهو وجه قول الجمهور، وإلا، فيكفيهم دليلا (¬2) على جواز ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما امرأة أصابت بخورا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة»، خرجه مسلم (¬3). إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِقُوهَا ... فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن جماعات من الصحابة وصفها بالعشاء الآخرة، وألفاظهم بهذا مشهورة في أبواب من (كتاب مسلم» (¬4). ¬
وقد قال بعض فقهاء العصر: إنما وصفت بالآخرة، وإن لم تكن لها أولى؛ كما وصفت الجاهلية بالأولى في قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]، وإن لم تكن ثم جاهلية أخرى. وهذا قول ساقط؛ لأنه مقول عن غير تدبر، ولا مراجعة كلام أهل التفسير. وقد قال الزمخشري في «كشافه» (¬1): والجاهلية الأولى (¬2) هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، وهي (¬3) الزمن الذي ولد فيه إبراهيم، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي به وسط الطريق (¬4)، تعرض نفسها على الرجال، وقيل: ما بين آدم ونوح، وقيل: ما بين إدريس ونوح، وقيل: زمن داود وسليمان، والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليهم أجمعين-. قال: ويجوز أن تكون الجاهلية الأخرى: الفجور والفسوق في الإسلام، فكأن المعنى: فلا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر، ويعضده ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لأبي الدرداء: «إن فيك ¬
جاهلية»، قال: جاهلية كفر أو إسلام؟ قال: «بل جاهلية كفر» (¬1). انتهى (¬2). فسقط هذا القول، وثبت ما تقدم. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 97 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، فَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ , فَيَخْتِمُ بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، فَلَمَّا رَجَعُوا، ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟»، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ» (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الرجل الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو قتادة (¬1) بن النعمان الظفري، وقيل: هو كلثوم بن زَهْدَم. ذكره محمد بن طاهر المقدسي، عن أبي عبد الله بن منده (¬2)، وقال: قاله أبو صالح، عن ابن عباس (¬3). الثاني: السرية: القطعة من الجيش، وقد جاء: «خير (¬4) السرايا أربع مئة رجل» (¬5). ¬
الثالث: الأصحاب: جمع صَحْب، مثل فرخ، وأفراخ، ومفرد صَحْب: صاحب؛ مثل: راكب ورَكْب، ويجمع صاحب -أيضا- على: صُحْبَة -بالضم-؛ مثل: فارِه وفُرْهَة، وعلى صِحَاب -أيضا-؛ مثل: جائع وجياع. قال الشاعر: [الطويل] وقال صحابي قد شَأَوْنَكَ فاطلب (¬1) وعلى صُحْبان -أيضا-؛ مثل: شاب وشبان، والصحابة -بالفتح-: الأصحاب، وهي (¬2) في الأصل مصدر، وجمع الأصحاب: أصاحيب (¬3). الرابع: «هو» ضمير الشأن، و «الله أحد» هو الشأن؛ كقولك: هو زيد منطلق؛ كأنه قيل: الشأن هذا، وهو أن الله واحد لا ثاني له، فهو مبتدأ، والجملة التي هي «الله أحد» خبره، واستغني عن الراجع من الجملة الخبرية هنا إلى المبتدأ؛ لكونها هي المبتدأ في المعنى، ومثله: قول زيد: الحمد لله، وهِجيرى أبي بكر لا إله إلا الله، في أن المبتدأ هو ¬
الخبر في المعنى، والخبر جملة، وما كان كذلك لا يفترقر إلى راجع من الخبر يرجع إلى المبتدأ، على ما أُتقِن في كتب النحو. ويجوز أن يكون (هو) مبتدأ، بمعنى المسؤول عنه؛ لأنهم قالوا: أربك من نحاس أم من ذهب؟ فعلى هذا يجوز أن يكون «الله» خبر المبتدأ، وـ «أحد» بدل منه، أو خبر مبتدأ محذوف. ويجوز أن يكون «الله» بدلا من «هو»، وـ (حد» الخبر. وهمزة «أحد» بدل من واو؛ لأنه بمعنى الواحد، وإبدال الواو (¬1) المفتوحة همزة قليل، جاء منه: امرأة أناة، والأصل وَناة؛ لأنه من الونى، وهو الفتور، وهي البطيئة القيام، وأسماء في وسماء، وأجم في وَجَم (¬2)، وهي في المضمومة قياس بلا خلاف، نحو وقِّتت وأقِّتت، واختلف في المكسورة، هل هو سماع، أو قياس؟ نحو: وشاح وإشاح، ووسادة وإسادة، وقيل: الهمزة أصلية؛ كالهمزة في «أحد» المستعمل في العموم، ومن حذف التنويو من «أحد» فللالتقاء الساكنين. الخامس: قوله: «فيختم بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]» يحتمل أمرين: أحدهما: أن يقرأ في ركعة وادة بغير «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» (¬3)، ¬
ويضيف إلى ذلك: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» (¬1) آخرا. والثاني: أن يقرأ بـ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» في آخر ركعة يقرأ فيها السورة، فلا يكون فيه دليل على الجمع بين السورتين في ركعة، والله أعلم. السادس: قوله: «إنها صفة الرحمن): ق: يحتمل أن يراد به: أن فيها ذكر صفة الرحمن؛ كما إذا ذكر وُصف، فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصف، وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف. ويحتمل أن يراد به غير ذلك، إلا أنه لا يختص ذلك بـ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، ولعلها خصت بذلك؛ لاختصاصها بصفات الرب -تعالى- دون غيرها. وقوله: «أخبروه أن الله يحبه»: يحتمل أن يريد: بمحبته قراءته هذه السورة. ويحتمل أن يكون لما شهد به كلامه من محبته لذكر صفات الرب - عز وجل - ن وصحة اعتقاده، انتهى (¬2). قال الإمام المازري: الباري -تبارك وتعالى- لا يوصف بالصفة المعهودة فينا؛ لأنه متقدس أن يميل، أو يمال إليه، وليس بذي جنس وطبع فيوصف بالشوق الذي تقتضيه الجنسية أو الطبيعة (¬3) البشرية، وأما ¬
محبته -سبحانه- للخلق: إرادته لثوابهم وتنعيمهم، على رأي بعض أهل العلم، وعلى رأي بعضهم: أن المحبة راجعة إلى نفس الإثابة، والتنعيم، لا الإرادة. قلت: فعلى الأول يكون صفة ذات، وبه قال ابن فورك (¬1)، وعلى الثاني يكون صفة فعل. قال الإمام: ومعنى محبة المخلوقين له: إرادتهم أن ينعمهم ويحسن إليهم (¬2). قلت: وقد تكون محبة المخلوقين له -سبحانه- لما ابتدأهم به من نعمه، وغرَهم من إحسانه، وإليه الإشارة بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «أحبوا الله لما يغذوكم (¬3) من نعمه» (¬4)، أو كما قال. ولصرف الآلان ودفع المضار عنهم، وغير ذلك، فلا تنحصر محبتهم فيما قاله الإمام من إرادة التنعيم والإحسان في الاستقبال، وإليه الإشارة بقوله ¬
-عليه الصلاة والسلام-: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها» الحديث (¬1). ولا إحسان في الحقيقة إلا لله - عز وجل -؛ لأنه خالق المحسنين، وإحسانهم؛ فهو الحقيق بالمحبة دون من سواه. ومن محبته: محبة من أحبه من نبي، وملك وولي، وغير ذلك، ومن محبته -أيضا-: امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا تصح حقيقة المحبة إلا بذلك. ولقد أحسن من قال: [الكامل] تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا مُحَالٌ (¬2) فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ ولذلك قال سهل بن عبد الله التُّستَري: المحبة معانقة الطاعة، ومباينة المخالفة. وقال أبو علي الرذباري: المحبة الموافقة. وقال يحيى بن معاذ: ليس الصادق من ادعى محبته، ولم يحفظ حدوده. ¬
وقال الشيخ أبو القاسم بن هوازن القشيري - رضي الله عنه - في «رسالته»: محبة الحق -سبحانه- للعبد: إرادته لإنعام مخصوص عليه، كما أن رحمته [له]: إرادة (¬1) الإنعام، فالرحمة أخص من الإرادة، والمحبة أخص من الرحمة، فإرادة الله أن يوصل إلى العبد الثواب والإنعام يسمى رحمة، وإرادته بأن يخصه (¬2) بالقربة والأحوال العلية تسمى محبة، وإرادته -سبحانه- صفة واحدة، فبحسب تفاوت متعلقاتها تختلف أسماؤها، فإذا تعلقت بالعقوبة تسمى غضبا (¬3)، وإذا تعلقت بعموم النعم تسمى رحمة، وإذا تعلقت بخصوصها تسمى محبة. ثم قال بعد كلام: وأما محبة العبد لله، فحالة يجدها من قلبه تلطف عن العبارة، وقد تحمله تلك الحالة على التعظيم له، وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه، والاهتياج إليه، وعدم القرار (¬4) من دونه، ووجود الاستئناس بدوام ذكره له بقلبه، وليست (¬5) محبة العبد له -سبحانه- متضمنة ميلا ولا اختطاطا، كيف؟ وحقيقة الصمدية مقدسة عن اللحوق، والدرك، والإحاطة، والمحب بوصف (¬6) الاستهلاك في المحبوب أولى منه بأن يوصف بالاختطاط، ولا توصف المحبة بوصف، ولا تحد بحد ¬
أوضح ولا أقرب إلى الفهم من المحبة، والاستقصاء في المقال عند حصول الإشكال، فإذا زال الاستعجام والاستبهام، سقطت الحاجة إلى الاستغراق (¬1) في شرح الكلام، انتهى (¬2) * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 98 - عَنْ جَابِرٍ (¬1): أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِمُعَاذٍ: «فَلَوْلا صَلَّيْتَ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] , {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] , {وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى} [الليل: 1]؛ فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ، وَالضَّعِيفُ، وَذُو الْحَاجَةِ» (¬2). ¬
* الشرح: «لولا» هذه أحد حروف التحضيض، وهي أربعة: هلا، وألا، ولولا، ولوما، وهي من الحروف المختصة بالأفعال؛ فإذا وليها المستقبل، كانت تحضيضا، وإذا وليها الماضي، كانت توبيخا. والظاهر -والله أعلم- أن ذلك كان (¬1) في العشاء الآخرة؛ لأنها هي التي طولها معاذ - رضي الله عنه - بقومه -على ما تقدم-، فيكون ذلك دليلا على استحباب قراءة هذه السور وما قاربها فيها. ق: كل ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه القراءة المختلفة ينبغي أن يفعل، ولقد أحسن من قال من العلماء: اعمل بالحديث ولو مرة، تكن من أهله (¬2). ¬
قلت: وفي هذا الكلام نظر، فإنه يقتضي استحباب (¬1) قراءة الأعراف في المغرب مرة، أو الطور، ونحو ذلك؛ كما جاء في الحديث، مع استمرار العمل على خلاف ذلك (¬2)، والله أعلم. * * * ¬
باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
باب ترك الجَهرِ ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 99 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الصَّلاةَ بِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ , فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬2). وَلِمُسْلِمٍ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ (¬3) بِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} , لا يَذْكُرُونَ ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلا فِي آخِرِهَا (¬1) (¬2). * * * * الكلام على الحديث: يتعلق بالبسملة، وهل هي آية من الفاتة، أو لا؟ وكذلك -أيضا- هل هي آية من كل سورة غير براءة، أو لا؟ وهي من المسائل المهمة في الدين؛ فإنه ينبني عليها صحة لصلاة، وعدم صحتها، وقد أفردت لها جزءأ يشتمل (¬3) على نحو من ثلاثين ¬
ورقة لقبته: بـ «الفوائد المكملة في شرح البسملة»، ولكنا نذكر هنا ما لا بد منه على طريق الاختصار. فنقول: ذهب مالك، وأبو حنيفة، وداود: إلى أن البسملة ليست آية من الفاتحة، ولا غيرها، إلا في سورة النمل، فإنها عض آية هناك إجماعا، حتى لو جحدها جاحد، أو حرفا واحدا منها، لكفر إجامعا. واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل، فروي عنه: أنها منها، وروي عنه: أنها ليست بآية منها، لكنها آية منفردة. قال ابن هبيرة: يعني: أنها كلام الله - عز وجل - أنزلت للفصل بين السور. ولم يختلف قول الشافعي على ما نقله أهل مذهبه، وإن كان ظاهر «المستصفى» يشعر باختلاف قوله في أنها آية في أول الفاتحة، واختلف قوله في كونها آية في أول كل سورة غير الفاتحة، وبراءة، أو لا، على ثلاثة أقوال: ح في «شرح المهذب»: أصحها وأشهرها، وهو الصواب، أو الأصوب: أنها آية كاملة. والثاني: أنها بعض آية. والثالث: أنها ليست بقرآن في سائر (¬1) السور غير الفاتحة، انتهى (¬2). وأصح هذه المذاهب: مذهب مالك، ومن وافقه في ذلك، ويدل ¬
عليه أمران: منقول، ومعقول. أما المنقول: فمنه هذا الحديث؛ فإن ظاهره أو (¬1) نصه ينفي كونها من الفاتحة. ومن ذلك -أيضا- حديث: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين» الحديث إلى آخره (¬2)، قال القاضي عبد الوهاب: فيه دليللان: أحدهما: أنه بين كيفية قسمة السورة، وبدأ بالحمد، فلو كانت البسملة منها، لابتدأ بها. والآخر (¬3): أنه بين التسمية بالآيات، وفي إثبات البسملة إبطال لهذا المعنى (¬4). قلت: يريد: أن الفاتحة سبع آيات إجماعا، وإن كان قد شذ حسين الجعفي، فقال: هي ست آيات، وعمرو بن عبيد، فقال: هي ثمان آيات، وإذا ثبت أنها سبع آيات، فإثبات البسملة آية (¬5) منها يصيرها ثماني آيات، فتبطل القسمة على ما تقرر، وسيأتي الكلام على شيء من ذلك أيضا. ¬
ومن ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من القرآن سورة ثلاثون آية؛ شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: تبارك الذي بيده الملك» رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن، وفي رواية أبي داود: «تشفع» (¬1)، وقد أجمع القراء على أنها ثلاثون آية غير البسملة، ولا خلاف أن البسملة نزلت قبلها على ما نقله القاضي عبد الوهاب في «شرح الرسالة». ومن ذلك: حديث أبي حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كيف تقرأ القرآن؟»، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2). ¬
وقد أجمع أهل العد (¬1) على ترك عدها آية من الفاتحة، واختلفوا في عدها من غير الفاتحة. ونقل أهل المدينة بأسرهم عن آبائهم التابعين، عن الصحابة - رضي الله عنهم -: افتتاح الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بالفاتحة: 2]، وروي في حديث عبد الله بن مغفل: أنه سمع ابنه يجهر بـ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال: يا بني! إياك والحدث، فإني صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يكن أحد منهم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن (¬2). ولنقتصر من المنقول على هذا. وأما المعقول: فنقول: قد ثبت وتقرر: أنه لا يثبت قرآن إلا ما تواتر، والقطع بأن البسملة لم تتواتر في أوائل السور، لا (¬3) في الفاتحة، ولا غيرها قرآنا، فليست بقرآن قطعا إلا في سورة النمل، لتواترها. قال القاضي أبو الوليد الباجي: ولأن أبا بكر، وعمر، وعثمان أقاموا للناس أربعا وعشرين سنة، فاو كانت البسملة من أم ¬
القرآن، لما جاز إقرارهم على ذلك، وتركهم القراءة (¬1) بها، وإجماع الصحابة معهم على ذلك، مع أنه لا تصح الصلاة إلا بقراءة جميع أم لقرآن دليل واضح، وإجماع مستقر على أن بسم الله الرحمن ليست من الفاتحة. ويدل عليه أيضا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقى القرآن على أمته إلقاء شافيا، شائعا ذائعا، يوجب الحجة، ويقطع العذر، ويثبت العلم الضروري، ويمنع الاختلاف والتشكك، ويوجب تكفير من جحد حرفا منه، وليس هذا طريق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أنها آية من القرآن؛ لأنه أمر قد وقع فيه الاختلاف، ولم يقع لنا به العلم، ولا يوجب جحد ذلك تكفير من جحده، فوجب أن لا يكون قرآنا. دليل آخر: وهو أن القرآن إنما يثبت بالنقل، ولا يخلو إثباتكم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من أن يكون بنقل متواتر، أو آحاد، فلا يجوز أن يكون بنقل متواتر؛ إذ لو كان، لبلغنا كما بلغكم، ولا يجوز أن بخبر اآحاد؛ لأن القرآن لا يثبت بخبر اآحاد، وإذا بطل الأمران جميعا، بطل أن تكون آية من القرآن (¬2). فإن قلت: هل يكفر من أثبتها من القرآن في غير سورة النمل؟ قلت: لا، والسبب في ذلك، قوة الشبهة، فإنها منعت التكفير من الجانبين. ¬
قالوا: قد كتبت في المصحف بخط المصحف، مع أن الصحابة منعت أن يكون في المصحف غير القرآن؛ كالأشعار، وأسماء السور، وقد قال ابن عباس: سرق الشيطان من الناس آية، وقال ابن المبارك: من تركها، فقد ترك مئة آية وثلاث عشرة آية (¬1). قلنا: لا يقابل شيء من ذلك القواطع التي ذكرناها، وفي قول ابن عباس، والزهري: سرق الشيطان من الناس آية، دليل على أن غيرهما من الناس ققد تركها. قالوا: قد تواترت في سورة النمل، فقد ثبت أنها من القرآن، ولم يبق إلا تعدد المَحالِّ، ولا يشترط تواتره بعد ثبوت الأصل. قلنا: فليجز إذن أن يثبت (¬2) {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] في أول الفاتحة بغير تواتر، وذلك محال. ومما يدل -أيضا- على ما نقول: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب: بسمك اللهم، حتى أمر أن يكتب بسم الله، فكتبها، فلما نزلت: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110]، كتب بسم الله الرحمن (¬3)، فلما نزلت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]، كتبها (¬4)؛ إذ ¬
لو كانت آية، لما تقطعت هذا التقطيع؛ إذ لا يعهد نزول بعض آية على حياله، والعجب ممن يقول: إنها في سورة النمل بعض آية، ولا خلاف فيه، ثم يقول: إنها في أوائل السور آية كاملة، واللفظ لم يختلف، وهي في سورة النمل خبر (إن)، وفي غيرها إما خبر مبتدأ محذوف عند البصريين؛ تقديره: بسم الله ابتدائي، أو في موضع نصب بـ ابتدأتُ مقدرا عند الكوفيين، فهي جزء جنملة في المذهبين جميعا. وبالجملة: فقد اعترف الشافعية بأن أقوى أدلتهم على أنها من الفاتحة وغيرها؛ كونها مثبتة في المصحف (¬1)، وقد تقدم إبطال كون ذلك دليلا، وإذا بطل أقوى أدلتهم، فليبطل غيره أولى وأحرى، والله الموفق. وأما بقية الحديث، فيستدل به على (¬2) من لا يرى الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والناس في ذلك على مذاهب ثلاثة: أحدها: تركها سرا وجهرا، وهو مذهب مالك. والثاني: قراءتها سرا لا جهرا، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد. والثالث: الجهر بها، وهو مذهب الشافعي، - رضي الله عنهم أجمعين.- ق: والمتيقن من هذا الحديث ترك الجهر، وأما الترك أصلا، فمحتمل مع ظهور ذلك من بعض الألفاظ، وهو قوله: «لا يذكرون» ¬
إلى آخره (¬1). قلت: هو إلى النص (¬2) أقرب منه إلى الظهور، والله أعلم. * * * ¬
باب سجود السهو
باب سجود السَّهو الحديث الأول 100 - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - إحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِيِّ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَسَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا، قَالَ (¬1): فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ , فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا، كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى , وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلاةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ , يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَسِيتَ , أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ قَالَ: «لَمْ أَنْسَ، وَلَمْ تُقْصَرْ»، فَقَالَ: «أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟»، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ , ثُمَّ كَبَّرَ، وَسَجَدَ (¬2) مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَكَبَّرَ , ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ¬
ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَنُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ (¬1). ¬
* الشرح: السهو: مصدر سها، يسهو، وفسره الجوهري بالغفلة (¬1) ولتعلعم: أن هذا الحديث وما قاربه أصل في سجود السهو، وهو من المسائل المهمة في الصلاة، وجملة الأحاديث الواردة في ذلك ثلاثة عشر حديثا مشهورة في كتب الحديث، فينبغي أن نقدم بين يدي هذا الحديث مقدمتين. الألى: في نفس السجود. والثانية: في أسبابه. ثم نرجع بعد ذلك إلى تتبع ألفاظ الحديث. أما الألى: فنقول: اختلف الناس في سجود السهو في (¬2) أربعة أوجه: الأول: في محله. والثاني: في تكريره بتكرر أسبابه. والثالث: في صفته. ¬
والرابع: في حكمه. الوجه الأول: في محل السجوود: وقد اختلف فيه؛ لاختلاف الأحاديث الواردة فيه، فذهب علي، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وأنس لبن مالك، وابن عباس، وابن الزبير، إلى أنه كله بعد السلام، وبه قال من الفقهاء: الحسن البصري، وابن صالح، والنخعي، وابن أبي ليلى، والثوري، وأبو حنيفة. وذهب أبو هريرة، وأبو سعيد الخدري: إلى أنه كله قبل السلام، وبه قال من الفقهاء: الزهري، وربيعة، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي في الجديد. وذهب مالك: إلى أنه إن كان عوضاً عن نقص، فقبل السلام، أو زيادة، فبعد السلام، وبه قال إسحاق (¬1)، وأبو ثور، والشافعي في القديم. وذهب ابن حنبل وغيره: إلى اتباع ظواهر الأخبار، وما لم يرد فيه أثر، فالسجود فيه قبل السلام، فالسجود عنده في ترك الجلسة الوطى قبل السلام؛ لحديث ابن بحينة الآتي بعد هذا الحديث، وإذا شك، رجع إلى اليقين، والسجود قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى، ثلاثا، أم أربعا، فليطرح الشك، ولبن على ما استيقن، ¬
ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا، شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع، كانتا ترغيما للشيطان» رواه مالك، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن أبي سعيد (¬1). وإذا شك، وكان ممن يرجع إلى التحري، فالسجود بعد السلام على حديث ابن مسعود، قال: صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإما زاد، أو نقص، قال: قلنا: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ قال: «لا»، فقلنا له الذي صنع، فقال: «إذا زاد الرجل أو نقص، فليسجد سجدتين»، ثم سجد سجدتين، الحديث، رواه مسلم عن عبد الله (¬2). وإذا سلم من اثنتين، فالسجود بعد السلام على حديث أبي هريرة هذا الذي نحن فيه. ¬
وذهب داود إلى اتباع الآثار على حسب ما وردت، ومن أصله نفي القياس، فنفى (¬1) السجود فيما لم يرد فيه أثر. وأشار بعض العلماء إلى التخيير في محله. وقد قال مالك في «المجموعة»: ما كان الناس يضايقون في سجود السهو قبل ولا بعد، وكان ذلك عندهم سهلا. قال الإمام المازري - رحمه الله تعالى- في توجيه هذه المذاهب، وفي الاعتذار عن بعض ما ورد في الأخبار: أما داود، فبنى على التعبد، وأخذ بكل حديث فيما وقع فيه، وأنكر ما خرج عن ذلك. وأما ابن حنبل، فعمل في الأحاديث بما عمل به داود، ثم استعمل القياس فيما لم يرد فيه أثر، ورأى السجود في ذلك كله قبل السلام؛ لما سنذكره في حجة القائلين بأن السجود كله قبل السلام. وأما من أشار إلى التخيير، فإنه رأى الأخبار مختلفة، ولا سبيل إلى طرح جميعها، فجمع بينها بالتخيير. وأما من قال: السجود كله قبل السلام، فإنه يتأول ما ورد بالسجود بعد السلام على أحد ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقدر أن المراد بالسلام السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكور في التشهد. ¬
قلت: وهذا عندي في غاية البعد. الثاني: أن يحمل ما وقع من سجوده -عليه الصلاة والسلام- بعد السلام أنه نسي أن يوقعه قبل السلام، فأوقعه بعد السلام. الثالثت: أن يحمله على (¬1) أنه كان، ثم نسخ، ويعضده بقول ابن شهاب: كان آخر الأمر من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - السجود قبل السلام. وأما من يقول: السجود كله بعد السلام، فإنه يتأول ما وقع من الأحاديث بأتنه قبل السلام بأحد وجهين: أحدهما: أن المراد: قبل التسليمة الثانية. الثاني: أن المراد به: قبل التسليم من السجود. وذكر بعضهم تأويلا ثالثا، وهو أن المراد بالسجدتين: سجدتا الركعة الآخرة. وهذه التأويلات كلها ضعيفة. ثم تمسك من قال بأن السجود كله قبلُ بأمر فقهي، وهو أن الأصل يقتضي أن يكون سجود السهو عقب سببه، وإنما أخر إلى آخر الصلاة لأمرين: أحدهما: أن يتكرر سهو آخر يقتضي السجود، وقد أجمعنا على أنه لا يتكرر السجود بتكرر السهو، وأخر سجود السهو ليجبر كل ما يطرأ في الصلاة من السهو. ¬
الثاني: أن الأصل: أن يعوض ما سهي عنه بمثله، ويفعل عند الذكر له، وحالة الذكر إذا كانت في أثناء الصلاة لا يصح أن يفعل فيها ما ترك سهوا، أو العوض منه؛ لأن ذلك المحل قد استحقه فعل آخر من الصلاة بأصل الشرع، فإذا (¬1) تزاحم هو والمتروك على هذا المحل، كان الأصل أحق به؛ لاستحقاقه إياه بأصل الشرع، فأخر العوض؛ إذ لا محل له إلا آخر الصلاة، ولا ينبغي أن يسلم قبل سجود السهو؛ لأنه بالسلام من الصلاة كملت، وما يفعل بعدها لا يجبر نقصها، ولا يرغم الشيطان في زيادتها، فوجب أن يكون السجود كله قبل السلام. وتمسك من قال بأن السجود كله بعد السلام بأمر فقهي أيضا، وهو أن السجود المذكور زيادة على المقادير المقدرة في الصلاة، فإذا أوقعنا سجود السهو قبل السلام، زدنا في نفس الصىة تغيرا مع التغير الأول، فيقع الإجحاف بالعبادة في كثرة التغيير (¬2)، فوجب أن يكون خارجا عن نفس الصلاة؛ صيانة للصلاة عن (¬3) الزيادة في مقاديرها. وأما مالبك - رضي الله عنه -، فاستشعر بعدُ هذه التأويلات، وإن كل فريق من الفريقين المتقدمين يرد مذهبه ظواهر بعض الأخبار، فاستعمل طريقة ثالثة هي أصوب الطرق، ولا يردها ظواهر الأخبار، ويقتضيها الفقه. أما الأخبار: فإن حديث ابن بحينة تضمن نقصا، فلذلك سجد قبل ¬
السلام، وحديث ابن مسعود تضمن زيادة، فلذلك سجد بعد السلام. وأما الفقه: فهو أن السجود للنقص (¬1) جبران، وجبران الشيء لا يكون إلا في نفسه، لا في غيره، ولا بعد انقضائه، والسجود للزيادة (¬2) ترغيم للشيطان، فهو في الحقيقة، زيادة، ولا تكلف الصلاة زيادتين، فينبغي أن يكون بعد السلام. الوجه الثاني: في تكرير السجود إذا تكرر سببه. وقد (¬3) اختلف في ذلك، فذهب عامة فقهاء الأمصار إلى الاكتفاء بسجدتين عن جميع ما يسهو عنه، وأن لا يتكرر بتكرر أسبابه، وشذت طائفة، فقالت: لكل سهو سجدتان، فيتكرر بتكرر أسبابه. وقال الأوزاعي: إن كان النسيان من جنس واحد، تداخلا، وإن كانا من جنسين، لم يتداخلا. وقال ابن أبي حازم، وعبد العزيز بن أبي سلمة: إن كان أحدهما محله قبل السلام، والآخر بعد السلام، لم يتداخلا، وسجد قبل السلام لما يختص بما قبل السلام، وبعد السلام لما (¬4) يختص بما بعد السلام (¬5). ¬
ودليلنا على تداخله: أنه -عليه الصلاة والسلام- سلم من اثنتين، ثم مشى، ثم تكلم، وهذا سهو في ثلاثة مواضع مختلفة الأجناس، ومع هذا، فإنما سجد السجدتين. وأيضا: فإن سجود السهو إنما أخر عن سببه إلى آخر الصلاة؛ ليكتفى عن جميعه بسجود واحد؛ إذ لو لم يكتفى به عن جميعه، لجعل السجود عقب سببه، وهذا لم يقله أحد، فإن تمسك من نف التداخل بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لكل سهو سجدتان» (¬1)، فالخبر غير ثابت، ولو ثبت، لكان معناه: أن لكل سهو إذا انفرد سجدتان. وأيضا: فإن السهو مصدر -كما تقدم-، وهو يقع على القليل والكثير. فإن تمسكوا بأن الدماء الواجبة في الحج لا تتداخل، بل تتعدد بتعدد أسبابها، فكذلك هاهنا. وقد أجاب ابن القصار عن هذا: بأن القياس أن يكون الحج كالصلاة؛ يعني: فقد جرت مسألة الصلاة على القياس. قال المازري: ويمكن أن يكون الفرق بينهما بأن الدم في الحج ¬
يمكن أن يفعل عقب السبب، ولا يمكن ذلك في الصلاة، فما أخر إلا ليكتفى عن جميع السهو بسجدتين، والله أعلم. الوجه الثالث: في صفة سجود السهو. والنظر فيه في أربعة مواضع: الموضع الأول: هل لما بعد السلام إحرام، أم لا؟ وقد اختلف فيه قول مالك. ومنشأ هذا الاختلاف: أنه هل يعد كجزء من الصلاة، فلا يفتقر إلى إحرام، بل ينسحب عليه إحرام الصلاة، أو يعد كعبادة مستقلة، فيحتاج إلى إحرام، والمشهور: احتياجه إلى الإحرام؛ لاستقلاله بنفسه؛ لأنه بسلامه من الصلاة صار في غيره صلاة، فيحتاج في هاتين السجدتين إلى إحرام؛ ليدخل به ي هذه العبادة. وإذا قلنا: فيمن سلم من اثنتين ساهيا: إنه لا يرجع إلى الصلاة إلا بإحرام، مع أنه لم يكمل صلاته بعد، فهذا الذي أمر بالسلام عندما كملت صلاته أولى بتجديد الإحرام. الموضع الثاني: هل يتشهد بعد السجود الذي قبل السلام، أم لا؟ وقد اختلف فيه قول مالك أيضا؛ فأحد قوليه: أنه يعيد التشهد بعد السجود؛ إذ سنة الصلاة أن يكون السلام عقب التشهد، وقد حال بين الأول وبين الصلام هذا السجود.
فإن قيل: فقد قيل (¬1) في مسبوق على إمامه سجود بعد السلام: إنه إذا سلم إمامه، واشتغل بالسجود، ولم يقم المأموم للقضاء، بل بقي جالسا حتى فرغ الإمام من السجود: أن المأموم لا يتشهد، وليدع؛ خشية من تكرار التشهد في الجلوس الواحد، فليكن هذا منهن فلا يعيد التشهد؛ لأنه قد تشهد في جلوسه هذا، وإلا فما الفرق بينهما؟ قلنا: بينهما فرق، وذلك أن هذا بسجوده انفصل ذلك التشهد وذلك الجلوس، وهذا جلوس ثان، لم يتشهد فيه، فليتشهد؛ ليكون سلامه عقب التشهد. والقول الثاني لمالك - رضي الله عنه -: أنه لا يتشهد لهذا الجلوس الذي فعله بعد سجوده؛ الذي هو قبل السلام، ورآه كأنه بقية الجلوس الذي كان قبل السجود، وقد تشهد فيه، ولا عهد في الشريعة بأن يتشهد في جلوس واحد مرتين، وهذا القول الثاني قول ابن القاسم، وعليه العمل، والله أعلم. الموضع الثالث: هل للسجةد الذي بعد السلام تشهد بعده وسلام؟ وقد اختلف الناس في ذلك: فمذهبنا: إثباتهما؛ لما قدمناه من أنهما عبادة مستقلة منفصلة عن الصلاة. وذهب الحسن إلى نفيهما، وروي ذلك عن أنس بن مالك. ¬
وذهب النخعي إلى إثبات التشهد دون السلام. وذهب ابن سيرين إلى إثبات السلام دون التشهد. وذهب عطاء إلى التخيير في ذلك، إن شاء فعل التشهد والسلام، وإن شاء لم يفعلهما. وفي «المدونة» لابن القاسم: إذا انتقض وضوءه قبل أن يسلم منهما إن لم يعدهما، اكتفى، وقيل: لا يكتفي (¬1). واختلف القول عندنا في الإحرام لهما (¬2) إذا لم يوقعهما عقب السلام، وأوقعهما بعد أن طال انفصاله من الصلاة، وأما رو كانتا قبل السلام، فنسيهما حتى سلم، لأحرم بهما؛ إذ لا يرجع لإصلاح ما انتقص من الصلاة إلا بالإحرام، وقد اختلفت الرواية في حديث ذي اليدين هذا، فبعضهم ذكر السلام، وبعضهم لم يذكره، وهو سبب اضطراب الناس في ذلك، ولم يذكر في حديث ابن بحينة الآتي التشهد لهما، وقال في حديث عمران بن حصين: «ثم سجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم» (¬3)، والقياس: أن كل ما له إرام، فله تشهد وسلام. الموضع الرابع: هل يجهر بالسلام من التين بعد السلام أو لا؟ ¬
اختلف فيه، والمشهنور الجهر، وروي الإسرار. الوجه الرابع: في حكم سجدتي السهو. وقد اختلف الناس في ذلك، فذهب أبو حنيفة إلى أن السجود واجب، وذهب الشافعي إلى أنه سنة، وذكر القاضي عبد الوهاب أنه يتنوع؛ فمنه ما هو واجب، ومنه ما هو سنة. قال المازري: ما أشار إليه أن ما بعد السلام سنة، وما كان قبل السلام فهو واجب، على (¬1) قولنا: إنه إذا نسي ما قبل السلام حتى طل، تفسد (¬2) صلاته. قلت: وفي المذهب قول بالوجوب مطلقا. وقول الإمام: إذا نسي ما قبل السلام: يريد إذا كان السجود لزم عن ترك ثلاث تكبيرات، أو ثلاث تحميدات، أو الجلسة الوسطى، هذا مذهب ابن القاسم، وعليه العمل. وروي عن مالك: إذا نسي سنتين فصاعدا حتى طال، أعاد الصلاة. ثم قال الإمام: فحجة من قال بالوجوب مطلقا: قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث ابن مسعود: «فليتحر الصواب وليبن عليه، وليسجد (¬3) سجدتين» وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب. ¬
واستدل بعض من قال بالوجوب أيضا بجبران الحج. وأُجيبوا عن ذلك بأن جبران الحج عن ترك واجب، وسجود السهو من ترك سنة. وحجة من أنكر الوجوب: قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث ابن مسعود: «كانت الركعة نافلة له، والسجدتان»؛ فقد صرح بنفي الوجوب، وأنهما نافلة، يعني: الركعة والسجدتين. وقوله -عليه الصلاة والسلام- أيضا: «والسجدتان ترغيم للشيطان» والترغيم ليس بواجب، أصله الحوقلةن ولأن الجبران ينبغي أن يكون على حسب المتروك؛ لأنه كالتابع له. المقدمة الثانية: في أسباب السجود. وهي أربعة: زيادة، ونقص، واجتماعهما، والرابع: الشك فيهما. السبب الأول: الزيادة: وهي إما قول، أو فعل، أو اجتماعهما. فزيادة القول؛ إما أن تكثر، أو تقل، فالكثير مبطل إن (¬1) أحال الإعراض عن الصلاة، والقليل يجزئ عنه سجدتا السهو؛ لحديث ذي اليدين هذا. وأما الفعل، فتارة، يكون من غير جنس الصلاة، وتارة يكون من جنسها: فالأول: كالمشي، والأكل، والشرب، وشبه ذلك، فالكثير منه ¬
مبطل, واليسير يجزئ سجود السهو عنه؛ لحديث ذي اليدين أيضا؛ فإن فيه: أنه- عليه الصلاة والسلام- قام واتكأ على خشبة؛ وفي الحديث الآخر: أنه- عليه الصلاة والسلام- قام، ودخل حجرته، ثم بنى، وسجد للسهو. والثاني: وهو ما كان من جنس الصلاة، فالقليل منه على وجه السهو لا يبطل؛ كزيادة ركعة في الرباعية؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسا، فسجد بعد السلام، فإن كثرت الزيادة، فزاد على الرباعية مثلها, فالمشهور بطلانها، وإن زاد على الرباعية مثل نصفها، فإن قلنا بصحة الرباعية المزيد عليها مثلها، فهذا أولى, وإن قلنا بالبطلان ثم، فهنا قولان منشأهما: أّن النصف كثير لا أكثر، فإن قلنا: لا يبطل الصلاة إلا بزيادة هي مثل أكثر العبادة، صححنا, وإن قلنا: إن (¬1) مجرد الكثرة في الزيادة مبطل, أبطلنا هذه الصلاة، فإن كانت الصلاة ثنائية، فزاد عليها مثلها, فإن قلنا بصحة الرباعية المزيد عليها مثلها، فهاهنا أولى, وإن قلنا ثم: تبطل، فهاهنا قولان منشأهما: أن الزيادة هل ينظر إليها في نفسها من غير نسبة إلى المزيد عليه، أو ننسبها إليه, وإذا فرعنا على البطلان، فزاد في الثنائية ركعة، ففي البطلان أيضا قولان، منشأهما ما قدمناه. وفي إلحاق الثلاثية بالرباعية، أو بالثنائية، قولان. ¬
ثم حيث حكمنا بالصحة، فليسجد بعد السلام، وأما إذا كانت الزيادة عمدا، وهي من جنس الصلاة فمبطلة, ولو (¬1) كانت سجدة واحدة؛ لتعمده تغيير نظم الصلاة ووضعها، فإن (¬2) كانت الزيادة جهلا، جرى على الخلاف في إلحاق الجاهل بالعامد، أو بالناسي. وأما إن زاد قولاً أو فعلا، فإن كانا أو أحدهما كثيرا أبطل (¬3) الصلاة, وإن لم يكونا كثيرا؛ كما إذا سلم من اثنتين، ثم قام ومشى، ولم يطُل، فلا بطلان, وعليه سجود السهو؛ كما في حديث ذي اليدين وغيره. السبب الثاني: وهو النقص سهوا، فالمتروك ركن، وسنة، وفضيلة. قال القاضي عبد الوهاب: وـ (¬4) هيئة. قال صاحب «البيان والتقريب»: الهيئات (¬5) من جملة الفضائل، ففيه أيضا ثلاثة فصول: الأول: أن يكون المتروك ركنًا، فلا ينوب عنه السجود, ولا بد من الإتيان به، فإن فات محله من ركعة، بطلت تلك الركعة, فإن أخل بركوع ركعة، أو بسجدتيها، أو بإحداهما، فإنه يتلافى ذلك ما لم يعقد ¬
الركعة التي تليها. وَبِمَ تنعقد؟ في المذهب قولان: أشهرهما: برفع الرأس من الركوع. والشاذ: بوضع اليدين على الركبتين. الفصل الثاني: أن يكون المتروك سنة, فإن تركها عمدا، ففي بطلان الصلاة قولان؛ وجه البطلان: أنه متلاعب, ووجه الصحة: كون المتروك ليس بركن. وإذا قلنا بالصحة، فهل عليه سجود، أو لا ? في المذهب قولان: أشهرهما: أنه لا سجود عليه ; لأن السجود إنما شرع في السهو, وهذا نظير قولنا: أن القاتل عمدا لا تجب عليه الكفارة ; لأنها إنما وردت في حق المخطئ، لتمحوا (¬1) ما نسب إليه من التفريط, وأما المتعمد، فإثمه أعظم من أن تمحوه الكفارة, وكذلك قلنا في اليمين الغموس: إنها لا كفارة فيها ; لأن إثمها أعظم من أن تكفر. والقول الثاني: أنه يسجد إلحاقا للعامد بالساهي. وأما إن ترك السنة ساهيا, فإن كانت فعلا، سجد لها، وإن كانت قولاً، ففي السجود لها عندنا (¬2) قولان: أشهرهما: السجود، ومتى يسجد؟ فقيل: قبل السلام؛ كنقص ¬
بعض الأفعال, وقيل: بعد السلام؛ لخفة الأمر في ذلك، فأما إذا قل ما هو من جنس السنن؛ كالتكبيرة، أو التحميدة الواحدة، فالمشهور: أنه لا سجود عليه في ذلك؛ لضعف أمره, فأشبه الفضائل, وقيل: يسجد, ومنشأ الخلاف: معارضة شائبة القلة لوصف السنة. وأما تارك الجلسة الوسطى، فمذهب ابن القاسم: أن تاركها، إن لم يسجد قبل السلام، سجد بعد السلام بالقرب, فإن تطاول ذلك، أعاد الصلاة أبدا، وكذلك الحكم فيمن ترك ثلاث تكبيرات، أو ثلاث تحميدات فصاعدا, والله أعلم (¬1). فهذا ما أردنا من ذكر هاتين المقدمتين، فاحتفظ بهما، فقل ما تجدهما متيسرتين هذا التيسير، مفسرتين هذا التفسير. ولنرجع إلى تتبع ألفاظ الحديث فنقول: * الكلام عليه من وجوه: الأول: قوله: «إحدى صلاتي العشي»: يدل على أن العشي من الزوال إلى غروب الشمس, وكذلك ذكره الجوهري (¬2)، ففي بعض الأحاديث: أنها صلاة الظهر، وفي بعضها: أنها صلاة العصر، وفي بعضها الشك؛ كما في هذا الحديث: «هل كانت الظهر، أو العصر». ¬
واتفقت الأحاديث أنها صلاة رباعية، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا الاختلاف في قضية واحدة. قال ابن بزيزة: ويحتمل أن تكون قضيات مختلفة، إلا أن يثبت التاريخ. الثاني: قوله: «إلى خشبة معروضة في المسجد»: الظاهر: أن هذه (¬1) الخشبة هي الجذع الذي كان -عليه الصلاة والسلام- يخطب عليه، كان منصوبا في المسجد, ولم يزل يبكي حتى جاء إليه (¬2) النبي صلى الله عليه وسلم-، فضمه وعانقه, فسكن, وهو من إحدى معجزاته -عليه الصلاة والسلام- على ما سيأتي، ومما يحقق ذلك: أن في الرواية الأخرى في الصحيح: «ثم أتى جذعا» (¬3) مكان (خشبة) هنا. الثالث: قوله: «فاتكأ عليها كأنه غضبان»: قال بعض المتأخرين -وأظنه ابن بزيزة-: غضبه -عليه الصلاة والسلام- في هذا الوقت أمر خفي عنا، سببه، ولعل الصحابة - رضي الله عنهم - عبروا بالغضب عّما ظهر عليه من قبض نشأ عن مطالعته الجلال وهيبته, والله يقبض ويبسط, وإلا، فلا موجب له في هذا الوقت. ¬
قلت: يريد: لا موجب له ظاهرا، وإلا، فحاشاه -صلى الله عليه وسلم- أن تظهر عليه حالة لا موجب لها أصلا. قال: وتهيب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أن يكلماه، دليل على ما لهما من المنزلة الجليلة في الفهم عنه, فلما كان الوقت وقت قبض، لم يبادرا (¬1) إلى أن يكلماه، انتهى. الرابع: سَرَعان الناس -بفتح السين والراء والعين المهملات- أوائلهم, هذا هو الصواب الذي قاله الجمهور (¬2) من أهل اللغة والحديث، وكذا ضبطه المحققون (¬3)، والسرعان: المسرعون إلى الخروج (¬4). ونقل ع عن بعضهم -إسكان الراء-, قال: وضبطه الأصيلي في «البخاري» بضم السين وإسكان الراء، جمع سريع؛ كقفيز وقُفْزان (¬5)، وكثيب وكثبان (¬6). وإنما خرجوا ولم، يتكلموا، ولم يلبثوا؛ لأن الزمن زمن الوحي ¬
ونزول الشرائع، فخرجوا بانين على أن النسخ قد وقع, وأن الصلاة قد قَصُرَت, ويبعد اتفاقهم على النسيان. الخامس): قوله: «وفي القوم رجل في يديه طول, يقال له: ذو اليدين»: قال ابن بزيزة في «شرح الأحكام»: وفي لفظ آخر: خرباق (¬1) , وهو غير ذي الشمالين, وقد اختلفت (¬2) ألفاظ هذا الحديث, ففي بعضها: «فقام ذو اليدين»، وفي حديث عمران بن حصين: «فقام إليه رجل يقال له: الخرباق, وكان في يده طول»، في حديث ابن مسعود: «فلما سلم، قيل له: أحدث في الصلاة شيء؟»، وفي حديث معاوية بن حُدَيج (¬3): «فأدركه رجل، فقال: نسيت يا رسول الله ركعة»، وفيه: أن الرجل الذي كلمه هو (¬4) طلحة بن عبيد الله (¬5)، ولعلها قضايا مختلفة. وقدتردد نظر الحفاظ في ذي اليدين، والصحيح الذي عليه ¬
الجماعة: أن ذا الشمالين غير ذي اليدين (¬1). وقال (¬2) ابن شهاب: إن ذا اليدين هو ذو الشمالين، وـ (¬3) هو مما عد من أوهامه، وفي حديث مالك، عن ابن شهاب: «فقال له ذو الشمالين: رجل من بني زهرة بن كلاب» (¬4)، والصحيح أن المذكور في حديث أبي هريرة، من بني سليم، حليف لبني زهرة بن كلاب, وليس منهم. واسمه عمير بن عمر (¬5) , وهو الذي استشهد يوم بدر، لا ذو اليدين, وكان ذو الشمالين يبطش بيديه جميعا, فكان يقال له: ذو الشمالين، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول له ذلك, فقال: «أصدق ذو اليدين؟» , فكان أول ما سمي بهذا الاسم, وكان آخر يقال له: ذو اليدين قتل يوم بدر، وقد ذكر بعض الناس أن ذا اليدين قتل ببدر. قال (¬6) ابن عبد البر: لا يصح هذا، وإنما الصحيح أن المقتول ببدر ذو الشمالين: رجل من خزاعة (¬7). ¬
السادس: سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه يدل على أنه حدث عنده شك من إخبار ذي اليدين، ومن المعلوم أنه -عليه الصلاة والسلام- إنما سلم بناء على ما اعتقده من إكمال الصلاة، ورجوعه -عليه الصلاة والسلام- إلى إكمال الصلاة بعد اتفاق الجماعة على صحة قول ذي اليدين أصل في رجوع الإمام إلى قول المخبرين. وقال ابن العربي في «القبس»: اختلف الناس في رجوع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى القضاء, هل كان بما ظهر له ورأى، أم كان بقول الناس وشهادتهم عنده؟ قال: وهذا (¬1) فصل اختلف الناس فيه، وتحزبوا كثيرا, فإن وقفنا أنفسنا على النظر، فالظاهر: أنه عمل بشهادتهم، وكذلك روي عن مالك في هذه النازلة, وإن استقرأنا الأثر، فقد روى أبو داود في «سننه» في هذا الحديث بعينه: فلم يرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يقنه الله تعالى (¬2). وتحصيل المذهب فيه: أن المخبرين للإمام إما أن يكونوا معه في الصلاة، أو لا، فإن أخبروه (¬3) من معه في الصلاة؛ فإما أن يكون موقنا بصحة خبره, أو موقنا ببطلانه أو شاكا. ¬
فإن أيقن بصحة ما قالوه، رجع إليهم, والرجوع في الحقيقة إلى يقينه، لا إلى خبرهم. وإن كان شاكا, فإما أن يكون سلامه على يقين، أو على شك، فإن كان سلامه على يقين، ثم طرأ له الشك بإخبارهم، فصلاته صحيحة, ويجب عليه الرجوع إلى قولهم إن حصل له اليقين بصحته، وإن سلم على الشك هل أكمل الصلاة أم لا ? أو على اليقين أنه لم يكمل, فالمنصوص: أن صلاته باطلة, هكذا نقل المتأخرون عن المذهب. والتحقيق فيه: أن صلاته باطلة إن سلم مع تيقن أنه لم يكمل صلاته. وأما إذا سلم على الشك، ثم سألهم، فقال ابن القاسم، وأشهب، وعبد الملك: إنها تجزئه, وقد تقدم شيء من هذا. وإن أيقن بخلاف ما قاله المخبرون، فلا يخلوا من أن (¬1) يكونوا ممن يقع العلم الضروري بقولهم، أو لا, فإن كان الأول، رجع إلى خبرهم , وتبين حينئذ أن يقينه شك, وأنه ليس بيقين حقيقة. واختلف المذهب إذا سلم على يقين، ثم طرأ له الشك هل يسأل من خلفه أم لا? فيه (¬2) قولان: والأحوط السؤال. ¬
وإن كان المخبر له ليس معه في صلاة؛ فالتقسيم الأول جار فيه أيضا، فإن أيقن ببطلان ما قاله، لم يرجع إليه, وإن أيقن بصحة ما قاله، رجع إلى يقينه. وإذا لم يتصور له يقين ولا شكٌ بقولهم, فهل يرجع إلى قولهم، أم لا? فيه خلاف في المذهب، وإذا قلنا: إنه يعمل (¬1) على خبر غيره، فهل يكون محمل ذلك محمل الشهادات، أم محمل الإخبارات ? فيه خلاف ونظر. وقال أشهب: إذا (¬2) أخبره شاهدان عدلان بما صلى، رجع إلى قولهما، وفي الواحد العدل يخبره، نظر؛ فإن جعلناه شهادة، افتقر إلى عدلين, وإلا، اكتفينا بواحد. السابع: قوله: «تقدم فصلى ما ترك» لم يذكر في هذه الطريق: أنه -عليه الصلاة والسلام- رجع بتكبير. قال بعض أصحابنا المتأخرين: ولم يكن إلا بالتكبير, وقد جاء ذلك مبينا، يريد: في غير هذه (¬3) الطريق, ووجهه ظاهر ; لأنه انفصل عن الصلاة بوجه جازم, وقد اختلف العلماء في ذلك, والجمهور على (¬4) أن ذلك واجب. ¬
قال ابن القاسم عن مالك: كل من جاز له أن يبني بعد انصرافه، فليرجع بإحرام. قال ابن نافع: إن لم يكبر لرجوعه، بطلت صلاته ; لأنه خرج منها بالسلام, فلا يعود إليها إلا بالإحرام. وتحصيل المذهب فيه: أنه إذا كان قريبا جدا، لا يفتقر إلى تكبير؛ لانسحاب التكبير الأول عليه, وقد قيل: أنه يكبر بناء على صورة الانفصال حسا. واختلف فيه إذا بعد بُعدًا لا يقتضي بطلان الصلاة، هل يفتقر إلى استئناف إحرام، أم لا ? ومنشأ الخلاف: هل يعتبر ما تخللها من الفعل، أو (¬1) لا? (وإذا قلنا: إنه يُحْرم، فهل يكتفى بتكبيرة الإحرام، وهو المشهور, أم لا يكتفى بها? خلاف: قال الطليطلي: إذا تذكر وهو جالس، كبر تكبيرتين، إحداهما: ينوي بها الرجوع إلى الصلاة, والثانية: يقوم بها (¬2). قال بعض المتأخرين: وهو سديد في النظر ; لأن ذلك (¬3) هو الذي يفعله لو لم يسلم. ¬
وإذا قلنا: إنه يحرم قائماً، فهل يرجع إلى الجلوس بعد ذلك، أم لا ? فقال ابن القاسم: إنه يجلس, وروى ابن نافع: لا يجلس. ومنشأ الخلاف: هل الحركة إلى الأركان مقصودة، أم لا ? وقال ابن حبيب: إن سلم من ركعة، أو من ثلاث، دخل بإحرام، ولم يجلس, وإن سلم من اثنتين، جلس. وفيه نظر؛ لأن حكم التكبير في القيام إلى الركعة ثابت مطلقا, والله أعلم (¬1). الثامن: اختلف الفقهاء فيمن جرى له مثل قصة ذي اليدين، هل يبني، أو يبتدئ? فقالت طائفة من أهل العلم: حكمه الابتداء, وصلاته باطلة. وبذلك قال أبوحنيفة وأصحابه؛ وهو قول ابن كنانة من أصحابنا, ورواية المدنيين عن مالك، وتأولوا أن هذه القضية منسوخة, وأنها إنما وقعت في أول الإسلام. وقالت (¬2) طائفة من العلماء: إنها باقية إلى يوم القيامة؛ وهو المشهور من قول مالك, ورواية ابن القاسم عنه, وبه قال الشافعي، وجماعة من العلماء (¬3). ¬
وقال سحنون: إن هذه القضية فيمن سلم من اثنتين، أو من ثلاث؛ كما سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة الرباعية، فقصرها على ما وردت, وخصها بمحلها، ولم يَر التحاق غيرها بها. وقال ابن نافع: لا يجوز البناء أولاً, فإن وقع، جاز. واختلفت طرق الحنفية في الاعتذار عن حديث ذي اليدين هذا وأمثاله, فادعت طائفة أنه منسوخ (¬1) -كما ذكرنا- بحديث ابن مسعود, وفيه: «إن الله (¬2) يحدث من أمره ما شاء, وممّا أحدث أ، لاّ يتكلموا في الصلاة» (¬3)، وذلك عندما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وهذا ضعيف; لأن أبا هريرة متأخر الإسلام, أسلم عام خيبر, وكانت قضية ذي اليدين بالمدينة, وحديث ابن مسعود كان بمكة حين انصرفوا من هجرة الحبشة، قبل الهجرة إلى المدينة, قال بعضهم: لا يشك في ذلك حامل أثر, ولا ناقل خبر (¬4). وقد اعتذر بعضهم عن هذا: بأن قصة (¬5) ذي اليدين لم يحضرها أبو هريرة, وإنما أرسل القضية إرسالاً, ولا بُعد في ذلك إذا تلقاها من ¬
صاحب حضرها, يؤيده: ما روي عن أنس بن مالك: أنه قال: ليس كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ولكن منه ما سمعنا, ومنه ما أخبرنا به أصحابنا (¬1). فغير نكير أن يحدث أبوهريرة بقضية ذي اليدين, وإن لم يحضرها، انتهى (¬2). وقد أبطل هذا الجواب: بأن علماء الأثر، وأهل النقل والخبر, قد صححوا حضور أبي هريرة القضية, ويدل عليه ما ذكره مالك في «موطئه»، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: صلى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العصر (¬3)، فسلم من ركعتين, وذكرا الحديث (¬4). وكذلك ذكر الحديث أبو داود من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: صلى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتي العشي، الحديث (¬5). ¬
وعلى الجملة: فحضور أبي هريرة للقضية ثابت من طريق الحفاظ الثقات، وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي وغيره: أن التاريخ في هاتين القضيتين مجهول. قال ابن بزيزة في «شرح الأحكام لعبد الحق»: هذا وهم بين، وغفلة ظاهرة، وقضية ابن مسعود متقدمة على قضية ذي اليدين، باتفاق أهل الأثر كافة (¬1). قال: ورأى بعض علمائنا: أن النسخ إنما يحتاج إليه في هذا المحل مع المضادة والتعارض، وهو منتف هاهنا ; لأن الكلام المنهي عنه في الصلاة إنما هو الخارج عن إصلاحها, وكلام ذي اليدين وغيره إنما كان لإصلاح الصلاة, فليس من جنس الكلام المنهي عنه. وفيه نظر; لعموم النهي عن الكلام في الصلاة، إلا أن يخصصه المعنى. وقال بعضهم: إن ذا اليدين لم يتكلم إلاّ وهو مجوز للنسخ, فظن أن الصلاة قصرت، وهذا ضعيف; لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره من الصحابة، تكلم (¬2)، مع علمه أن الصلاة لم يقع فيها قصر، ولا تبديل، ولا تغيير, بل بانيًا على أنها قد كملت. وقال بعض علمائنا: إن كلام الصحابة في هذا المحل خارج ¬
عن الكلام المنهي عنه; لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سألهم, وطاعته واجبة, فلا بد من مجاوبته, فليس ككلام العمد الخارج عن الصلاة بكل حال. وانفصل بعضهم عن هذا: بأن جواب الصحابة له ممكن بالإشارة; إذ لم يستدع -عليه الصلاة والسلام- منهم الجواب بالنطق, وفي كتاب أبي داود: أن أبا بكر، وعمر -رضي الله عنهما-: أشارا إليه أن يقوم. وقال بعض علمائنا: لعل جواب الصحابة له (¬1) إنما كان بالإشارة , فسمى الإشارة قولاً؛ كما تسمى كلاما, قال الله تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]. وقال الشاعر: [الرجز] يا ليتني أوتيت علم الحُكْلِ .. علم سليمان كلام النمل (¬2) فسمى دبيب النمل وما يُفهم من حاله كلاما ; لأن سليمان -عليه السلام- كان يفهم منه ما يفهم من الكلام. تكميل: نحا كثير من أهل العلم إلى أن قضية ذي اليدين ليست منسوخة, بل هي مخصوصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم, ولما كان القياس يقتضي بطلان الصلاة إذا وقع فيها الكلام عمدا, وجب أن يُعتَقد في هذه ¬
القضية الاختصاص; لأن الصحابة لم تتكلم إلا مع اعتقادهم جواز النسخ، والقصر, وجواز ذلك منتف بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقصر سحنون القضية -كما تقدم- على من سلم من ركعتين أو ثلاث؛ كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط، دون ما عداها من صور النسيان. قال بعض متأخري أصحابنا: وهذه نزعة ظاهرية لا تليق بأهل القياس, وقد جاء في حديث ذي اليدين: أن ذلك كان في الثالثة، فلهذا المعنى قال جمهور المالكية: إن القضية جارية معمول بها إذا سلم المسلم من اثنتين، أو ثلاث، أو من ركعة؛ تغليبا للمعنى، ومراعاة القياس، ولما كان من مذهب الحنفية تقديم القياس على خبر الواحد، رووا حديث ذي اليدين، ولم يعملوا عليه؛ لمعارضته القياس؛ ولأنه مما تعم به البلوى، فلا يقبل فيه عندهم أخبار الآحاد، وقد تقرر أن كلا الأصلين باطل. نكتة: قال الشافعي -رحمه الله-: لا يشك مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينصرف إلا وهو يرى أن قد أكمل الصلاة، وظن ذو اليدين أن الصلاة قد قصرت لحادثحدث من الله سبحانه (¬1). وهذا يشعر بالتخصيص، انتهى كلامه (¬2). التاسع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لم أنس, ولم تَقصر»، ¬
وفي (¬1) بعض طرق حديث أبي هريرة: «كل ذلك لم يكن» (¬2)، وفي لفظ آخر: «ما قصرت الصلاة، ولا نسيت» (¬3): تكلم فيه العلماء ; لأن المعلوم أن بعضه قد كان، فقال بعضهم: إنه -عليه الصلاة والسلام- إنما أخبر عن اعتقاده, والمعنى: كل ذلك لم يكن عن اعتقادي وظني , وقدره بعضهم: في علمي، وهو مجاز; إذ العلم مطابق للمعلوم، وهو هنا (¬4) غير مطابق. وقال بعضهم: وهو من باب المفهوم، فلما قال له ذو اليدين: «أقصرت الصلاة، أم نسيت ?» قال له: «كل ذلك لم يكن»، والمفهوم منه: أن بعضه كان, وهو النسيان, وهذا غير متوجه عندنا ; لأن لفظ ذي اليدين لا يقتضي مجموع الأمرين، إنما معناه: السؤال عن أحدهما، لا بعينه بدليل حرف المعادلة، وهو (أم). وقال بعضهم: ما قصرت الصلاة، وما نسيتُ، وإنما سلمت عامدا بانيا على اعتقاد الإكمال، ويرجع إلى الأول. وقال بعضهم: هو على ظاهره لا يحتاج إلى تأويل ; لأن القصر والنسيان لم يكن واحد منهما, أما القصر، فظاهر أنه لم يكن، وأما ¬
السهو والنسيان، فكذلك ; لأن ذلك غفلة, والنبي -صلى الله عليه وسلم- منزه عن ذلك, بل شغله في (¬1) الصلاة ما في الصلاة، ممّا تجلى عليه من مطالعة لنعوت العزة والعظمة والجلال, ولذلك قال: «جعلت قرة عيني في الصلاة» (¬2)؛ من حيث كانت محل المشاهدة, حكاه القاضي أبو بكر في «المسالك» عن بعض أهل التصوف. قال ابن بزيزة: وهذا (¬3) باطل بنص قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون, فإذا نسيت، فذكروني» (¬4)، ومن ألفاظ العلماء: النسيان ليس ببدع في الإنسان. سمعت بعض شيوخنا -رحمهم الله- يحكي: أن خطيب بغداد فرغ من الخطبة يوم الجمعة, والخليفة تحته, ونسي أن يدعو له على ما جرت به عادتهم المبتدعة في ذلك, وعزم على (¬5) النزول إلى الصلاة، فتذكر، فعاد, فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, والنسيان ليس ببدع في الإنسان, وأول ناس أول الناس, قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا ¬
إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، ثم دعا للخليفة، ونزل إلى الصلاة, هذا، أو نحوه. قال ابن بزيزة: ويحتمل عندي: أن يكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: «كل ذلك لم يكن»؛ نفيا لهما معا، على معنى: أن القصر لم يقع, وأنه لم ينس، بل نسَيَ، فعدل عن إضافة النسيان إليه, ويبينه قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يقل أحدكم: نسيت آية كذا وكذا, وليقل: أُنسيتُها» (¬1)، قال: وله عندنا حكمتان: إحداهما: إظهار قانون التوحيد حتى يتبين للخاص والعام: أن الأشخاص قوالب وأشباح تجري عليهم أحكام القدرة, فليس لهم من أنفسهم شيء، سيما (¬2) أن النسيان بخصوصه (¬3) معناه لا (¬4) يكون مفعولا للإنسان. الحكمة الثانية: الخروج من الدخول تحت مقتضى قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه: 126]، فأراد (¬5) -عليه الصلاة ¬
والسلام- قطع الإضافة المجازية, والرجوع إلى الإضافة الحقيقية؛ ليسلم المؤمنون من الدخول تحت حكم الكفار, والوعيد (¬1) المنتجز في الآخرة عليهم، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: «إِنِّي لأَنْسَى، أَوْ أُنَسَّى لأَسُنَّ»، وهو حديث منقطع الإسناد, وهو مما ذكره مالك في بلاغاته الواقعة في «الموطأ». قال ابن عبد البر: وهو حديث لا أعلمه بهذا اللفظ يُروى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسندا، ولا مقطوعا من غير هذا الوجه (¬2). قال غيره: وقد اختلف العلماء في معناه, فقال بعضهم: (أو) فيه للشك من الراوي, وقال بعضهم: المقصود به: النوم واليقظة، فينسى في اليقظة، ويُنَسَّى في النوم، فأضاف نسيان اليقظة إلى نفسه, وأضاف نسيان النوم إلى الله , حكاه الباجي (¬3) , واستبعده غيره من المتأخرين. وقال بعضهم: إني لأنسى على عادة البشر, وَأُنَسَّى الشيء مع إقبالي عليه وتوجهي (¬4) إليه. قال ابن بزيزة: والصحيح عندنا: أنه خرج مخرج النسبتين: ¬
الحقيقية (¬1)، والمجازية, فيكون (أو) للتقسيم, وأضاف -عليه الصلاة والسلام- النسيان إلى نفسه مجازا, ثم أضافه إلى الله -تعالى-, والمعنى: أن الله -سبحانه وتعالى- يُنَسِّي، وهو تأويل ابن نافع, وابن دينار, وله نظائر في الحديث. وفي طريق آخر: «إني لا أنسى، ولكن (¬2) أُنَسى لأسن» وهذا يبين (¬3) النسبة الحقيقية, والله أعلم. العاشر: ويتعلق بأصول الدين, أجمعت الأمة على أن الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- معصومون من الكفر والبدعة، إلا الفُضَيلية من الخوارج , والظاهر عدم الاعتداد بخلافهم. وأجاز الرافضة على الأنبياء إظهار كلمة الكفر على سبيل التقية. أما ما يتعلق بتبليغ الشرائع والأحكام الإلهية، فأجمعوا على أن الكذب عليهم في ذلك لا يجوز, وكذلك النسيان قبل التبليغ, وأما بعد التبليغ، فهل يجوز عليهم النسيان فيما بلغوه، أم لا؟ فيه خلاف, والجمهور على امتناعه. وأما ما يتعلق بالفتوى، فأجمعت الأمة على أنه لا يجوز عليهم ¬
تعمد الخطأ في ذلك, وهل يجوز وقوعه سهوا، أم لا ? فيه خلاف. وأما ما يتعلق بأفعالهم وأحوالهم, فالمذاهب في ذلك خمسة: فقالت الحشوية: يجوز عليهم الإقدام على الصغائر والكبائر مطلقا, وقالوا بوقوعها منهم. وقالت الروافض: لا تجوز عليهم الصغيرة، ولا الكبيرة مطلقا، لا عمدا، ولا سهوا، ولا تأويلا. وقال طائفة من المتكلمين: لا تجوز عليهم الكبائر عمدا، وأما الصغائر والكبائر سهوا فجائزة عليهم بشرط عدم الإصرار؛ لأنه كبيرة، وهو قول أكثر المعتزلة. وقال الجبائي: لا يجوز علريهم تعمد الكبيرة والصغيرة، ولكن يجوز صدور ذلك على سبيل الخطأ في التأويل. وقال طائفة من العلماء: لا تجوز الكبيرة ولا الصغيرة، لا عمدا، ولا بالتأويل الخطأ، أما على وجه السهو، فجائز (¬1). قال ابن بزيزة: وتصحيل مذاهب الأشعرية في ذلك: أن الجمهور منهم قد اتفقوا على جواز وقوع الصغائر منهم، واختلفوا في الكبائر، فجوز القاضي ذلك عقلا، ومنع من الوقوع والإصرار على المعصية، والجمهور من أهل السنة: على أن الكبائر لا تجوز عليهم. ¬
من المحققين من ذهب إلى عصمتهم من الكبائر، واحتج بقول ابن عباس: إن كل ما عصي الله به فهو كبيرة (¬1). واختار بعض المتأخرين جواز وقوع الصغائر منهم سهوا. واتفق الجمهور على أن تكرار الصغائر، وكثرة وقوعها يلحقها بالكبائر, فهم معصومون منه -أيضا- عصمتهم من الكبائر. وذكر بعض شيوخنا الإجماع على عصمتهم من الكبائر (¬2) , قال: والإجماع في ذلك باطل. واختلفوا في مواقعتهم المكروه قصدا, فجمهور الفقهاء على أنهم معصومون من ذلك, نص عليه أبو الفرج عن مالك. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وجمهور الفقهاء من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأكثر أهل العراق على ذلك، وهو قول الأبهري، وابن القصار، وغيرهما من متأخري المالكية. قال بعض علمائنا: اتفق الأشعرية على أنهم معصومون من الكبائر، واختلفوا في الصغائر، والله أعلم، انتهى كلام ابن بزيزة. ع: ومنعت طائفة من العلماء والنظار السهو عليه -عليه الصلاة والسلام- في الأفعال البلاغية، والعبادات الشرعية، كما منعوا اتفاقا ¬
في الأقوال البلاغية، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك باعتذارات، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق. وشذت الباطنية، وطائفة من أرباب علم القلوب، فقالوا: لا يجوز عليه النسيان جملة، وإنما ينسى قصدا، ويتعمد صورة النسيان؛ ليسن، ونحا إلى قولهم عظيم من أئمة التحقيق، وهو أبو المظفر الإسفراييني في كتابه «الأوسط»، وهذا منحًى غير سديد، وجمع الضد مع ضده مسحيل بعيد. والقول الأول هو الصحيح؛ فإن السهو في الأفعال غير مناقض للنبوة، ولا موجب (¬1) للتشكيكات في الرسالة، ولا قادحا في الشريعة، بل هو سبب لتقرير (¬2) شرع، وإفادة حكم؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «إني أنسى وأُنَسَّى لأسن» (¬3)، ولذلك اختلفوا فيما ليس (¬4) طريقه البلاغ، ولا (¬5) بيان الأحكام من أفعاله الشرعية، وما يخص (¬6) به من عاداته، وأذكار قلبه، والأكثر على تجويز الغفلة هنا والسهو؛ إذ لم يؤمر بتبليغها. ¬
وأما طروء ذلك عليه في الأقوال الدنيوية، وفيما ليس سبيله البلاغ من الأخبار التي لا مستند للأحكام إليها، ولا أخبار المعاد، ولا يضاف إلى وحي، قد جوز قوم السهو والغفلة في هذا الباب؛ إذ ليس من باب التبليغ الذي يتطرق به إلى القدجح في الشريعة. والحق الذي لا مرية فيه: ترجيح قول من لم يجوز ذلك على الأنبياء في خبر من الأخبار؛ كما لم يجوزوا عليهم العمد، وأنه لا يجوز عليهم خلف في خبر، لا عن قصد، ولا عن (¬1) سهو، ولا في صحة، ولا مرض، ولا رضا، ولا غضب، وحسبك أن سيره وآثاره وكلامه وأفعاله مجموعة، معتنًى بها على مر الزمان، يتداول نقلها الموافق والمخالف، ويرويه الموقن والمرتاب، فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول، ولا اعتراف بوهم (¬2) في كلمة، ولو كان، لنقل كما نقل سهوه في الصلاة، ونومه عنها، واستدراكه رأيه في تلقيح النقل، وفي نزوله بأدنى مياه بدر، وفي مصالحة عيينة بن بدر، وكقوله: «والله إني لا أحلف (¬3) على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا فعلبت الذي حلفت عليه، وكفرت عن يميني» (¬4)، وغير ذلك. ¬
وأما جواز السهو عليه في الاعتقادات في أمور الدنيا، فغير نكير، وأما ما يتعلق من ذلك بالعلم بالله، وصفاته، والإيمان به, فلا يصح فيه طروء سهو ولا غلط, ولا ما يضاده عليه ; لأن ضد ذلك كفر، وهو محال في حقه -عليه الصلاة والسلام-، بل منعت أهل علم الباطن من ذلك (¬1) الغفلات، والفَتَرات (¬2)، وإحالتها بكل حال، انتهى كلامه (¬3). فهذا ما يتعلق بأصول الدين. وأما ما يتعلق بأصول الفقه، ففيه: الترجيح بكثرة الرواة؛ لسؤاله -عليه الصلاة والسلام- غير ذي اليدين من المأمومين، وعمله على ما أخبروه به (¬4) -على ما تقدم من الخلاف- هل رجع إلى قولهم، أو أنه لم يرجع حتى يقَّنه (¬5) الله تعالى؟ الحادي عشر: الحديث نص في أن السجود للزيادة بعد السلام, وهو مذهب مالك، والمذاهب الثلاثة في ذلك مشهورة؛ أعني: أن الشافعي لا سجود عنده (¬6) للسهو إلا قبل السلام, وأبو حنيفة عكسه, ومالك يفرق، فيسجد للنقص قبل، وللزيادة بعد، كما تقدم. ¬
الثاني عشر: الفوائد الظاهرة من هذا الحديث أربع -وإن كان بعض أصحابنا أوصلها (¬1) إلى مئة وخمسين فائدة , وهو القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب «النيرين» له-: الفائدة الأولى: أن النسيان لا يعصم منه أحد -على ما تقدم-, قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] إشارة إلى الذهول في أحد التأويلين، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «نسي آدم، فنسيت ذريته»، الحديث (¬2). الفائدة الثانية: أن اليقين لا يدفعه إلا اليقين؛ بدليل أن ذا اليدين لما كان متيقنا أن فرض الصلاوة أربع ركعات، لم ينته حتى استفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل قصرت الصلاة، أم لا؟ وذلك للشك العارض عنده، فدفعه باليقين، ورجع إلى ما قطع عنه الشك. الفائدة الثالثة: أن من ادعى من الجماعة شيئا انفرد به، لم يقبل قوله إلا بعد سؤال جماعة، وموافقتهم له، وجعله العلماء أصلا فيمن ادعى رؤية الهلال في يوم الصحو، وانفرد بذلك دون الناس، وقد قال سحنون: هؤلاء شهود سوء. ¬
الفائدة الرابعة: أن الكلام في الصلاة لإصلاحها لا يبطلها، وهو موضع خلاف، فالجمهور من الشافعية والمالكية: على أنه لا يفسدها، وقال أبو حنيفة: يفسدها الكلام عمدا، أو سهوا؛ لإصلاحها، وـ (¬1) لغير إصلاحها، اعتمادا على حديث ابن مسعود، وغيره. والله أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 101 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ , وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إذَا قَضَى الصَّلاةَ , وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: فيه دليل على عدم وجوب الجلوس الأول، وتشهده؛ لجبره بالسجود؛ إذ الواجب لا يجبر بالسجود اتفاقا علبى ما سيأتي إن شاء الله. الثاني: أن النقص يسجد له قبل السلام -على ما مر في الحديث الأول؛ لتركه -عليه الصلاة والسلام- الجلوس الأول وتشهده. الثالث: فيه دليل على أن السهو -وإن تعدد- أجزأت عنه سجدتان؛ كما تقدم (¬1)؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- سجد للجلوس والتشهد سجودا واحدا. ¬
فيه دليل على تأخير السجود إلى آخر الصلاة وحكمته: احتمال سهو آخر، فيسجد للكل سجودا واحدا، وقد تقدم ذلك. الخامس: فيه دليل على متابعة الإمام عند القيام عن هذا الجلوس، ووجهه: أن متابعة الإمام واجبة، والجلوس سنة، ولا يترك الواجب لفعل السنة (¬1). السادس: فيه التعبير بالأكثر عن الجملة؛ فإن قوله: «قضى صلاته» إنما يصدق حقيقة بالتسليم؛ إذ التسليم -وإن كان مخرجا من الصلاة-، فهو من جملتها؛ كالتبير للافتتاح، والله أعلم. * * * ¬
باب المرور بين يدي المصلي
باب المرور بينَ يديِ المصلي الحديث الأول 102 - عَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ»، قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لا أَدْرِي قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْماً، أَوْ شَهْراً، أَوْ سَنَةً (¬1). ¬
* التعريف: أبو جهيم: اسمه عبد الله بن الحارث بن الصمة -بكسر الصاد المهملة- بن حارثة بن الحارث بن زيد مناة بن حبيب بن حارثة، الأنصاري، الخزرجي. وقيل: هو عبد الله بن جهم. قال الحافظ عبد الغني المقدسي: لا أعرف وجه هذا القول، ولا أعرف اختلافا في اسم أبيه، فإن أباه الحارث بن الصمة من مشهوري أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أعلم في اسمه اختلافا. اتفقا له على حديثين، روى عنه بسر بن سعيد، وعمير مولى ابن عباس. روى له الجماعة، ولم أر أحدا ذكر له توفاة. والله أعلم (¬1). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "المار": مفهومُه: أن القاعدَ، والقائمَ الثابتَ، والنائمَ بخلافه، وأنه لا إثم عليه إذا كان ممن تسوغ الصلاة إليه (¬1). الثاني: قوله: "بين يدي المصلي": فيه: التعبير بالبعض عن الكل، عكس ما (¬2) تقدم قريبًا في قول الراوي: "فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ"، قيل: وإنما عبر باليدين لما كان (¬3) أكثر عمل الإنسان بهما، حتى نُسب الكسبُ إليهما في نحو: (بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) (*) , وأشباهه. وقوله: "من الإثم": (من) فيه لبيان الجنس. الثالث: قوله: "لكان أن يقفَ أربعين خيرًا له": يقتضي الوعيدَ الشديدَ في المرور بين يدي المصلي. وقد رواه أبو بكر بنُ أبي شيبةَ، عن أبي هريرة، بلفظ آخر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ مَا لَهُ في أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَي المُصَلِّي ¬
مُعْتَرِضًا، كَانَ لَهُ أَنْ يَقِفَ مِئَةَ عَامٍ خَيْرًا لَهُ مِنَ الْخُطْوَةِ الَّتِي خَطَا" (¬1). ولم يختلف أحد من أهل العلم في كراهة المرور بين يدي المصلي. وروي عن عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص: أنه قال: لأن يكونَ الرجلُ رمادًا يُذْرَى خيرٌ من أن يمر بين يدي رجل يصلِّي (¬2). وذكر (¬3) ابنُ عبد البر: أن إثمَ المارّ أشدُّ من إثم الذي يدعُه يمرُّ بين يديه (¬4). وما أحسنَ قولَ الشيخِ أبي عمرِو بنِ الحاجبِ وألخَصَه: ويأثمُ المصَلِّي إِن تعرَّض والمارُّ وله مَنْدوحةٌ، فتجيء أربع صور (¬5). ومعنى هذا الكلام عندَ البسط: أن الإثم تارة يتعلق بالمار وحده، وتارة يتعلق بالمصلي وحدَه، وتارة يتعلق بهما، وتارة لا يتعلق بهما. فإن تحصَّن المصلِّي عن (¬6) المار، فقصد المارُّ المرورَ بين يديه ¬
لغير ضرورة، فالإثمُ على المار وحده. وإن قصد المصلِّي الموضعَ المحتاجَ إليه، وتركَ غيره من المواضع التي لا يُحتاج إليها, ولا يمر فيها أحدٌ بين يديه، فالإثمُ على المصلِّي وحدَه. وإن اشترك الأمر، اشتركَ الإثمُ، وذلك إذا كان المصلّي (¬1) بحيث لا يأمن المرور، ووجد المارُّ مندوحةَ عن المرور بين يديه، فإن صلَّى بحيث يأمن المرور، ولم يجد المارُّ مندوحة، لم يأثما جميعًا، وهذا التقسيم لا ينبغي أن يُختلف فيه، والله الموفق (¬2). تنبيه: هل هذا النهي عامٌّ في كل مصلٍّ، أو في الإِمام، والمنفرد دون المأموم؟ فيه نظر، وظاهر اللفظ العمومُ، وهو عند بعضهم مخصوصٌ بالإمام، والمنفردِ، وأما (¬3) المأمومُ، فلا يضره من يمر بين يديه، على كراهة في ذلك (¬4). قال بعض متأخري أصحابنا: والصحيح: عمومُ حكم الكراهة، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 103 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ النِّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا صَلَّى أَحَدَكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى، فَلْيُقَاتِلْهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إلى شيء يستره": ظاهرُه الإطلاق في الأشياء المستَتَر بها، وإن كان قد كره بعضُ الفقهاء السترَ بآدمي، أو حيوانٍ غيره؛ لأنه يصير في صورة المصلَّى إليه، وكره مالك في المرأة. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فليدفَعْه"، وفي رواية أخرى: "فَلْيَدْرَأْهُ" (¬1)، وهما بمعنى واحد. ح: وهذا الأمر بالدفع أمرُ ندبٍ، وهو ندبٌ متأكدٌ، ولا أعلم أحدًا من العلماء أوجبه، قال: بل صرح أصحابُنا وغيرهم بأنه مندوبٌ غيرُ واجب (¬2). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإن أبي، فليقاتلْه": ع: أي: إِن أبي بالإشارة ولطيفِ المنع، فليمانعْه ويدافعْه بيده عن المرور، ويعنِّف عليه في ردِّه. ¬
قال أبو عمر بن عبد البر: هذا لفظ جاء على وجه التغليظ والمبالغة (¬1). وقال الباجي: يحتمل أن يكون بمعنى: فليلْعَنْه، فالمقاتلةُ بمعنى اللعنِ موجودةٌ، قال اللَّه تعالى {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10] (¬2). قلت: قول الباجي رحمه اللَّه: يحتمل أن يكون بمعنى فليلعنه إلى آخره ضعيفٌ جدًا؛ لوجوه: الأول: أن الآية التي استشهد بها غيرُ ما في الحديث؛ لأن معنى قاتلَ غيرُ معنى قُتل قطعًا, ولو كان المعنى على ما ذكر، لقيل: قوتل الخراصون، فلا يلزم من ثبوت قَتَلَ بمعنى لَعَنَ ثبوتُ قاتلَ كذلك. الوجه الثاني: إنَّا لا نعهد في الشريعة جنايةً رتب عليها اللعن زاجرًا، بل ثبت العكس في قصة مَنْ قيل فيه: لعنه اللَّه! ما أكثرَ ما يؤتَى به! فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَلْعَنْهُ"، الحديث (¬3). الثالث: لو أُمِر المصلِّي بلعن المارِّ، لم يخل أن يلعنه وهو (¬4) في الصلاة، أو بعدَ فراغه منها، فلا يجوز الأولُ إجماعًا؛ لأنه متكلِّم في ¬
وقيل: فإنه يفعل فعلَ الشيطان؛ فإن الشيطان بعيدٌ من الخير والائتمار للسُّنَّة، من قولهم: نَوَى شَطُون؛ أي: بعيدة، ومنه سمي الشيطان؛ لبعده من رحمة اللَّه تعالى، فسماه شيطانًا؛ لاتصافه بوصفه؛ كما يقال: فلان الأسدُ؛ أي: يبطِشُ كبطشه وقُوَّته. قلت: وقيل: إنه مأخوذ من شاطَ يَشِيطُ: إذا احترق، والأولُ أصح، وينبني عليه الصرفُ وتركُه، فيصرف على شطن؛ لأصالة النون، ولا يصرف على شاط؛ لزيادتها، واللَّه أعلم. وقيل: المراد بالشيطان هنا: قرين الإنسان اللازم له؛ كما قال في الرواية الأخرى: "فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ" (¬1)، ويكون هذا في (¬2) معنى قوله في الحديث الآخر: "فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحُولُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا"، فيكون على هذا منع الإنسان الجوازَ بين يدي المصلي من أجل الشيطان اللازمِ له؛ لكونه خبيثًا نجسًا، ويكون اللَّه -تعالى- يمنعُه من التسلط (¬3) على المشي أمام المصليِّ، وقطعِ صلاتِه إذا اجتهد العبدُ في الدنو من قبلته، وامتثلَ ما أمره به، ولم يجعل له سبيلًا إليه، بخلاف ما إذا لم يدنُ من السترة، واللَّه أعلم (¬4). ¬
الخامس: فيه دليلٌ على أن العمل اليسيرَ في الصلاة جائز، إذا كان لإصلاحها، وقد تقرر الكلام على هذا قريبًا، واللَّه أعلم. * * *
الحديث الثالث
الحديث الثالث 104 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ ناهَزْتُ الاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي بالنَّاس بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ، فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ في الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الأتان: حمار (¬1) أنثى، ولا يقال: أتانة، وثلاثُ آتُن مثلُ عَنَاق، وأَعْنُق، وفي الكثير أُتُن وأُتْن، بضم التاء وسكونها. قال الجوهري: والمأتوناء: الأتن، مثل المعيوراء، واسْتَأْتَنَ الرجلُ: اشترى أتانًا، واتخذها لنفسه، وقولهم: كان حمارًا، فاستأتَنَ؛ أي: صار أتانًا، يضرب لرجل يهونُ بعدَ العِزِّ (¬2). وقوله: أتانٍ: هو بدلٌ من حمارٍ، وتبعُد فيه الوصفية، وفي الرواية الأخرى لمسلم: "على حماري"، ولم يذكر الأتانَ، وفي رواية أخرى: ¬
"أقبلتُ راكبًا على أتانٍ" (¬1)، وما ذكره المصنف هو رواية البخاري. الثاني: قوله: "ناهَزْتُ"؛ أي: قارَبْتُ، ودانَيْتُ، والاحتلامُ معروفٌ، وهو البلوغ. وقد اختُلف عندنا في حدِّه، فقيل: ثماني عشرةَ سنة، وهو المشهور، وقيل: سبعَ عشرةَ، وقيل: خمسَ عشرةَ، هذا بالسنِّ (¬2). وأما الإنباتُ، فهل يعتبر علامةً للبلوغ، أو (¬3) لا؟ ثلاثةُ أقوال، يفرق في الثالث بين الجهاد وغيرِه، فيعتبر في الجهاد، ولا يعتبر في غيره (¬4). الثالث: "مني": مقصورٌ، مذكَّر، يُصرف ولا يُصرف، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأجودُ صرفُها، وكتابتها بالألف. سميت مني؛ لما يُمْنى بها من الدماء، أي: يراق، ومنه قوله تعالى: {يُمْنَى} [القيامة: 37] , وقد امتنى القومُ: إذا أتوا منًى، عن يونس، وقال ابن الأعرابي: أَمْنى القوم (¬5). ¬
وقد جاء في رواية: "وهو يصلِّي بعرفَةَ" (¬1)، وهو محمول على (¬2) أنهما قضيتان (¬3). الرابع: قوله: "ترتع"؛ أي: ترعى، يقال: رتعَتِ الماشيةُ، تَرْتَعُ، رُتُوعًا؛ أي: أكلَتْ ما شاءت، يقال: خرجْنا نَرْتَعُ ونلعب؛ أي: ننعم، ونلهو، وإِبلٌ رِتاعٌ: جمعُ راتِع؛ مثل نائِم ونيام، وقومٌ راتعون، والموضع: مَرْتَع، وأَرْتَعَ إِبلَه، فرَتَعَتْ، وقومٌ مرتعون، وأَرْتَعَ الغيثُ؛ أي: أنبتَ ما ترتع فيه الإبل، ونَرْتتِع -بكسر التاء-: نفتعل في الرعي (¬4). الخامس: فائدةُ قولِ ابن عباس: قد ناهزتُ الاحتلامَ -واللَّه أعلم- التوكيدُ لهذا الحكم، حتى لا يظن أن عدمَ الإنكار سببُه الصِّغر، وعدمُ التمييز. السادس: قوله: "لغير جدار": المتبادر إلى الذهن أنه -عليه الصلاة والسلام- صلَّى إلى غير سُترة، ويحتمل أن يكون ثمَّ سترةٌ غيرُ الجدار؛ إذ لا يلزم من عدم الجدار عدمُ السترة؛ لأنه لا يلزم من عدم الأخصِّ عدمُ الأعمِّ، وإن (¬5) لم تكن ثمَّ سترة. ¬
والحديث دليلٌ على أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، وإن كان (¬1) ثم سترة، فالاستدلال لا يتم إلا أن يكون الحمار مرَّ بين السترة والإمام؛ لأن الإِمام سترتُه سترةٌ لمن خلفه، على خلافٍ تقدَّم في ذلك. وبالجملة: فأكثرُ الفقهاء على أنه لا يقطع الصلاةَ شيءٌ يمر بين يدي المصلي، وإن كان (¬2) قد جاءت أحاديثُ بعضُها يدل على قطع الصلاة، بالحمار، والمرأة، والكلب، وبعضُها يدل على قطعها بهؤلاء، واليهودِ، والنصارى، والمجوس، والخنزير، واستُضعف هذا (¬3). قال الإِمام أبو عبد اللَّه المازري: اختلف الناس في مرور هؤلاء بين يدي المصلي: فقال مالك وأكثر الفقهاء: لا يقطعون الصلاة، فإن قيل: إن كان هذا تعلقًا بظاهر قوله: "إِنَّهُ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيءٌ" (¬4)، ولم يستثنِ، فهذا مقيدٌ يجب أن يُقضى به على المطلق، قيل: وَرَدَ ما يعارض هذا ¬
التقييد، وهو حديث عائشة في اعتراضها بين يدي النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، وهذا يعارض استثناء (¬2) المرأة في الحديث الأول. وقال ابن حنبل: يقطع الصلاةَ الكلبُ الأسود، وفي قلبي من الحمارِ والمرأةِ شيءٌ. ووجهُ قوله هذا: ما وقع في التقييد بالأسود في بعضِ طرق مسلم، ولم يوجد ما يعارض هذا، ووجد (¬3) التعارضُ عنده فيما سواه، انتهى (¬4). ع: فيكون معنى يقطع -على قول الكافة- مبالغة في الخوف على فسادها بالشغل بهم؛ كما قال للمادح: "قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ" (¬5)؛ أي: فعلتَ به فعلًا يُخاف عليه هلاكُه منه؛ كمن قطعَ عنقه، وعند الآخرين: أنه على وَجْهِه من قَطْعِ اتصالها (¬6) وفسادِها, ولذلك يقول من الأول (¬7): إنه منسوخ. انتهى (¬8). ¬
فإن قلت: ما وجهُ اختصاص الحمار، والمرأة، والكلب بهذا الحكم؟ قلت: أما الكلب: فقد جاء أن الشياطين كثيرًا ما يتصورون في صورة الكلاب (¬1)؛ ولأن الملائكة لا تحضر موضعَه، وجاء -أيضًا- أن: "الكلب الأسود شيطان" (¬2). وأما الحمار: فقد جاء -أيضًا- من اختصاص الشيطان بالحمار في قصة السفينة وتعلُّقه به، وأن نهاقه عندَ رؤيته. وأما المرأة: فقد يقال فيها -أيضًا- هذا المعنى؛ لأنها تُقْبِل في صورة شيطان، وتُدْبِر في صورة شيطان، وأنها من مصائد الشيطان وحبائِلِه، ويؤكد هذا التأويل، ويشهد له قوله (¬3): "لَا تُصَلُّوا في مَبَارِكِ الإِبِلِ؛ فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ" (¬4)، هذا معنى كلام ع، وأكثرُ لفظه. قال: وقد يقال: إن هذا كلَّه للخبث (¬5) والنجاسةِ المختصةِ بالشيطان، فإنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "إِنَّهُ خَبِيثٌ مخبثٌ ¬
رِجْسٌ" (¬1)، وشَبَّهه (¬2) بالكلب، إما لنجاسته عندَ من رأى ذلك، أو لأنه لا يتوقَّاها، والمرأة لأجل (¬3) طريان الحيضِ ونجاستهِ عليها، كذا (¬4) جاء في حديث ابن عباس: "والحائِض" (¬5) مكان "المرأة"، وهو قوله، وقول عطاء في الحائض، خصوصًا في (¬6) النساء، ويختص الحمار على هذا؛ لتحريم لحمه، أو شدة كراهته، ونجاسة بوله ورَوْثه. وقد أشار الطحاوي إلى أن هذا كلَّه منسوخ بأحاديثِ صلاةِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أزواجه في قبلته: عائشةَ، وميمونةَ، وأمِّ سلمةَ، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ" (¬7)، وبأمرِه -عليه الصلاة والسلام- بِدَرْءِ المارِّ، ولم يخصَّ، ولأن ذلك على الكراهة ¬
والتغليظ، لا على الفساد للصلاة. أو يكون "يقطع الصلاة" بمعنى: يقطع الإقبالَ عليها، والشغلَ بها (¬1)، والشيطانُ بوسوسته ونزغه، والمرأةُ بفتنتها والنظرِ إليها، والكلبُ والحمارُ، بقبحِ أصواتهما، وكثريها، وعلوِّها، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] , وقال: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176] الآيةَ، ولنفور النفس من الكلب -لاسيما الأسود-، وكراهةِ لونه، وخوفِ عاديته، والحمار للجاجته، وقلَّة تأتيه (¬2) عند دفعه، ومخالفته، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 105 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرِجْلَايَ في قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ، غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، وَإِذَا قَامَ، بَسَطْتُهُمَا، وَالبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قولها: "غمزني": الغَمْزُ: يكون باليد، وبالعين، وإن اختلف معناهما. فمن الأول: قوله: [الوافر] وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ ... كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا ومن الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30] , ومنه: الغَمْزُ بالناس (¬1). فغمزُه -عليه الصلاة والسلام- لها بيده، ولهذا اعتذرت عن هذا بعدمِ المصابيح، التي كانت تعلم سجوده من قيامه، فلا يحتاج إلى غمزها. الثاني: الحديث حجة على ما تقدم من أن المرأة لا تقطع الصلاة، ولا تفسد صلاة من صلى إليها. ع: وكراهة مالك وغيره من العلماء أن تُجعل المرأةُ سُترةً، ذلك لخوف الفتنة بها، والتذكر في الصلاة بها، والشغل بالنظر إليها، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخلاف هذا في ملك إربه، وقطع شهوته، وأيضًا فإن هذا كان في الليل، وحيثُ لا يرى شخصها (¬2). الثالث: فيه: دليل على أن اللمس لغير لذة، أو من فوق الثوب، غيرُ مؤثِّر في الطهارة؛ أعني: أن الحديث يدل على أحد الحكمين؛ ¬
لأنها ذكرت أن البيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، وربما زال الساتر، فيكون وضعُ اليد -مع عدم العلم بوجود الحائل- فيه تعريضُ الصلاة للبطلان، ولم يكن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليعرضها لذلك، فلولا أن الحكم والحالة هذه صحة الصلاة، لم يغمزها -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). مسائل (¬2): اعلم: أنه لا أثر لمَحْرَم عندنا في نقض الطهارة، ولا صغيرةٍ لا تُشتهى، فإن وجد اللذة، انتقضت طهارتُه اتفاقًا، قصدَها أو لا، فإن قصدَ ولم يجد، فكذلك على المنصوص، وخرج اللخمي من الرفض عدَم النقض، فإن لم يقصد، ولم يجد، فلا نقض، وأما القُبلةُ في الفم، فالمشهور: النقض؛ للزوم اللذة، والحائلُ الخفيفُ كالعدم، وفي الكثيف قولان، واللذة بالنظر لا تنقض على الأصح، وفي الإنعاظِ الكامل قولان؛ بناءً على لزوم المَذْي، أو لا، واللَّه أعلم. وهذا كله على مذهب مالك رحمه اللَّه تعالى (¬3). * * * ¬
باب جامع
باب جامع الحديث الأول 106 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: المراد بالمسجد هنا: الخاصُّ، لا العامُّ، وأعني بالعام: ما جاء في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" (¬1)، وهو أوضحُ من أن يحتج له بدليل، وقد تقدم أن (دخل) هنا يتعدى بنفسه إلى كلِّ ظرفِ مكانٍ مختصٍّ، فالمسجدُ (¬2) على هذا مفعولٌ به، لا ظرف، ومنه قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27] الآيةَ. الثاني: يخرج من هذا العموم: المسجد الحرام؛ فإنه يبدأ فيه بالطواف، لا بالركوع؛ لأن الطواف تحيتُه؛ كما أن تحيةَ غيره من المساجد الركوع، وذلك لأمرين: منقول، ومعقول. أما المنقول: فلأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين (¬3) دخل المسجدَ في حجته، ابتدأ بالطواف، واستمر عليه العمل، وهو أخصُّ من هذا العموم. ¬
قال الباجي (¬1): وهو الأكثرُ من مذاهب الخاصة والعامة، واحتج يقول اللَّه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] , وبقوله -عليه الصلاة والسلام-: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ". وذكر في (¬2) رواية ابن وهب عن مالك في صفة السلام على القبر، يقول: السلامُ عليك أيها النبيُّ ورحمةُ اللَّه. ع (¬3): وعندي: أنه يدعو للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بلفظ الصلاة، وعلى أبي بكر (¬4) وعمر؛ كما تقدم من الخلاف فيه. ووجدت لابن وهب عن مالك: أنه يدن فيسلم، ولا يمس القبرَ بيده (¬5). قال بعض المتأخرين من أصحابنا: وهذا الذي حكاه الباجي هو رواية ابن وهب في "المختصر الكبير"، قال: سُئل مالكُ من أين يقف من أراد التسليم على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من القبر؟ قال: عند الزاوية التي تلي القبلة، مما يلي المنبر، يستقبل القبلة، ولا أحبُّ أن يمسَّ القبرَ بيده (¬6). ¬
واختلف قوله: هل يدعو عند القبر، أو لا؟ فقال في "المبسوط": لا أرى أن يقف عنده يدعو، ولكن يسلم، ويمضي. قال الباجي: وروى عنه ابن وهب: أنه يدعو مستقبلَ القبر، ولا يدعو وظهرُه إلى القبر (¬1). الرابع: إذا دخل المسجد في وقتِ نَهْي عن التنفُّل؛ كما بعد الصبح، وبعد العصر، لم يركع، فهذا قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: يركع. ومنشأ الخلاف: تعارضُ هذا الحديث -أعني: حديث تحية المسجد، - مع حديث: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ" (¬2). ووجه التعارض: أن حديث تحية المسجد مطلَق، لا تخصيص (¬3) فيه بوقت دون وقت، وحديث: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ" لا تخصيصَ فيه، لا لمن يدخل المسجد، ولا لغيره، فكلُّ حديث عامٌّ من وجه، خاصٌّ من وجه. فرأى الشافعي رحمه اللَّه تعالى تخصيصَ النهي بعد الصلاتين بما إذا لم يوجد سببٌ خاص للركوع، وشبه ما له سببٌ من النوافل بالفرائض، ولا خلافَ أن الفرائض المنسيةَ تُصَلَّى في الوقتين المذكورين، ¬
ولكنه عندنا تشبيهٌ ضعيف؛ لبعدِ ما بين النوافل والفرائض؛ إذ الضرورةُ تلجىء إلى إيقاعِ الفرائضِ، وَلا ضَرورةَ في النوافل. ورأى مالك، وأبو حنيفة تخصيصَ الأمر بتحية المسجد بما عدا الوقتين المذكورين، وهو الصحيح؛ لأنه قد فُهمت علة النهي، وهو التشبيه بمن يصلِّي للشمس عندَ طلوعها، وعندَ غروبها، وإذا ثبتت هذه الكراهة، فقد تعارض في التنفل بتحية المسجد في هذين الوقتين كراهةٌ وندبٌ، وإذا لزم من فعل مندوب فعلُ مكروه، كان تركُ المندوب أولى، وكان الندبُ المذكور مختصا بما إذا لم يلزم منه فعلُ مكروه، وكان حالة الكراهة لا ندب، فيه واللَّه أعلم. الخامس: إذا ركع الفجرَ في بيته، ثم دخل المسجدَ قبل صلاة الصبح، فهل يركع، أو لا؟ روى أشهب عن مالك: أنه يركع. وروى عنه ابن القاسم: أنه لا يركع. قال صاحب "البيان والتقريب": والذي رواه ابن القاسم هو الجاري على الفقه؛ لأن التنفل بعد طلوع الفجر، وقبل صلاة الصبح بغير ركعتي الفجر، مكروهٌ، ووجهُ (¬1) رواية أشهب: أن كراهة التنفل في هذا الوقت أخفُّ، وأنها معللة بخوف تأخيرِ صلاة الصبح عن أول الوقت، وفي مسألتنا لزم التأخيرُ لغيبة الإِمام مثلًا، أو لغير ذلك، فلا وجه لترك تحية المسجد، مع أن الصبح لابدَّ من تأخيرها، ويعتضد هذا: بأنه قد ¬
أُبيح التنفل بعدَ الفجر، وقبلَ الصبح لمن فاته حزبُه من الليل. السادس: إذا صلى الداخل تحيةَ المسجد، ثم طرأت له حاجة، فخرج إليها، ثم رجع، فإن قرب ذلك، فلا ركوعَ عليه. وفي "التبصرة" لأبي مصعب -فيمن أكثر اختلافه لحوائجه-: أنه يجزئه ركوعُه الأول، وهو في تفريع ابن الجلَّاب، وهذا يشبه المختلفين إلى مكة بالفواكه وغيرها؛ فإنه يجوز لهم دخولُ مكة بغير إحرام، ويشبه من دخلَ المسجدَ يوم الجمعة، وقد اغتسلَ لها، ثم خرج لحاجة، فقد قال مالك: إن كان قريبًا، لم يُعِدْ غسلَه، وإن تطاول، أعادَ. السابع: لا فرق بين مسجد الجمعة والخطبة، وغيره من المساجد في الأمر بتحية المسجد؛ لاشتراك المساجد كلِّها في الحرمة؛ كما مُنع الجنبُ من جميع المساجد، فإن (¬1) كان الإِمام على المنبر يومَ الجمعة، لم يصل هذا الداخلُ حينئذ تحيةَ المسجد، هذا المشهور من (¬2) مذهبنا؛ خلافًا للشافعي، ومَنْ يقول بقوله. الثامن: مذهبُ العلماء قاطبةً: عدمُ وجوب هاتين الركعتين، إلا ما حُكي (¬3) عن داود وأصحابه من وجوبهما؛ تمسكًا بورود هذا الحديث، وصيغةِ النهي عن الجلوس قبل الركوع، وورودهِ في الرواية الأخرى بصيغة الأمر، وظاهرُ الأمر الوجوب، وظاهرُ النهي التحريم، ¬
فلا يخرجان عن مدلولهما إلا بدليل. واستدل القاضي أبو الوليد الباجي من أصحابنا بحديث الأعرابي المشهور، الذي قال فيه: هل عليَّ غيرها, لما ذكره من الصلوات الخمس، قال؛ "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ" (¬1). قال صاحب "البيان والتقريب": ويدل عليه -أيضًا- حديثُ عبادةَ ابن الصامت -رضي اللَّه عنه-، وهو قوله: -عليه الصلاة والسلام-: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ" (¬2)؛ فقد فهم منه عُبادة -رضي اللَّه عنه- أنْ ليس من الصلوات واجبٌ غيرُها، وكذلك قولُه: كذب من زعم أن الوتر واجب، واستدل بالحديث. قلت: ولم يعارض هذا الدليل سوى صلاة الجنازة؛ فإنها واجبة، وإن كان وجوبها على الكفاية، وليست من الصلوات الخمس، فيحتمل أن يكون للمخالف في تحية المسجد متمسَّكٌ بذلك، واللَّه أعلم. التاسع: لو صلَّى فريضة، أو ركعتي الفجر، ونحوَ ذلك، ناب ذلك عن تحية المسجد، إذ المعنى في التحية إنما هو الميزُ بين المساجد والبيوت، وهو أن يفتتح دخول المسجد بصلاة ما؛ سنة ¬
كانت، أو فريضة، واللَّه أعلم. العاشر: قال صاحب "البيان والتقريب": يجوز الاجتيازُ بالمسجد وبخرقه من غير حاجة له في المسجد، وقد كان مالكٌ يفعلهُ، قال: وكذلك الجامعُ بمصرَ عندنا يعسرُ على الإنسان أن يدور من خلفه، فيدخل من باب، ويخرج من آخر، ويكون ذلك تخفيفًا على الناس، كما جاز أن يبيت الغريبُ في مساجد القرى، وقد كانوا يبيتون في مسجد الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وينامون فيه بالنهار؛ كما ذكرنا عن ابن عمر، وقد روى البخاري عن سهل بن سعد: أن عليَّ بنَ أبي طالبٍ اضطجع في المسجد، وجاءه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجعل يمسح التراب عنه، ويقول: "قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ" (¬1). قلت: وظاهر الحديث -أعني: حديث تحية المسجد، لا يتناول من مَرَّ مجتازًا؛ إذ النهي إنما يتناولُ جلوسًا قبل الركوع، والمجتازُ لم يجلس، وكذلك الأمرُ إنما توجَّه بركوع قبل جلوس، فإذا انتفيا معًا، لم يخالف الأمر. ولذلك -واللَّه أعلم- خففه مالك، وذكر عن زيد بن ثابت، وسالم ابن عبد اللَّه: أنهما كانا يخرقان المسجد لحاجتهما, ولا يركعان. قال مالك: وبلغني أن زيدًا كره أن يمر فيه ولا يركع. ¬
وقال مالك: أرى ذلك واسعًا. قال ابن القاسم: ورأيته (¬1) لا يُعجبه ما ذكره زيدٌ من ذلك، ورأيتُ مالكًا يفعلُ ذلِكَ، يخرقه مجتازًا، ولا يركع (¬2). وهذا كله ما لم يكن المجتاز جُنبًا، فإن كان جنبًا، ففي المذهب فيه خلاف يأتي، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 107 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: كُنَّا نَتكَلَّمُ في الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَأُمِرْنَا بالسُّكُوتِ، ونُهِينَا عَنِ الكَلَامِ (¬1). ¬
* التعريف: زَيْدُ بنُ أَرقمَ بنِ النعمانِ بنِ مالكٍ الأَغَرِّ (¬1) -بالغين المعجمة والراء المهملة- بنِ ثعلبةَ بنِ كعبِ بنِ الخزرج، الأنصاريُّ، الخزرجيُّ، من بني الحارث بن الخزرج. اختُلف في كنيته، فقيل: أبو عمرو، وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو سعيد، وقيل: أبو أُنيسة، بضم الهمزة وفتح النون. كان يتيمًا في حجر عبدِ اللَّهِ بنِ رواحة. وهو الذي رفع إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن عبد اللَّه بنِ أُبَيِّ ابنِ سلولَ قوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، فأكذَبه عبدُ اللَّه بنُ أبي، وحلف، فأنزل اللَّه -تعالى- تصديقَ زيد بن أرقمَ، فبادر أبو بكر وعمر إلى زيدٍ ليبشراه، فسبق أبو بكر، فأقسمَ عمرُ لا يبادرُه بعدها إلى شيء، وجاء النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخذ (¬2) بأذنِ زيد، وقال: "وَفَتْ أُذُنُكَ يَا غُلَامُ" (¬3). ¬
قيل: كان ذلك في غزوة بني المصطلق، وقيل: في تبوك. رُوي عن زيد بن أرقم: أنه قال: غزوتُ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سبعَ عشرةَ غزوةً، روي ذلك عنه من طرق عديدة، وقال في بعضها: وفاتني معه غَزاتان (¬1). نزل الكوفة، وسكنها، وبنى بها دارًا في كِنْدَةَ، وهو معدود في الكوفيين، وشهد مع عليٍّ صِفِّينَ، وهو معدود في خاصة أصحابه. وتوفي بالكوفة سنة ثمان وستين، وتوفي معه في هذه السنة عبدُ اللَّه ابنُ عمرِو بنِ العاص، وزيدُ بنُ خالدٍ الجهنيُّ، رضي اللَّه عنهم أجمعين (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: هذا الحديث مصرِّحٌ بنسخ الكلام في الصلاة، وقد وردت في ذلك أحاديثُ، منها: حديثُ ابن مسعود، قال: كنت أُسَلِّم على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يصلِّي، فأسلِّمُ عليه، فيردُّ عليَّ السلام، فأتيته بعد ¬
ذلك فسلمتُ عليه، فلم يردَّ عليَّ، فما صلَّى صلاةً كان أعظمَ عليَّ منها، فلما سلَّم، أشار بيده إلى القوم، فقال: "إِنَّ اللَّه أَحْدَثَ في الصَّلَاةِ أَلَّا تَكَلَّمُوا فِيهَا (¬1) إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ"، رُوي من طرق، وفي بعضها: كنا نسلِّم على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيرد علينا السلام، حتى قدمنا من أرض الحبشة، فسلَّمْتُ عليه، فلم يردَّ عليَّ، فأخذني ما قَرُبَ وما بَعُدَ، فجلستُ حتى قضى الصلاة، قال: "إِنَّ اللَّه يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لا تَتَكَلَّمُوا في الصَّلاةِ" (¬2). الثاني: روينا عن الإِمام أبي بكر الحازمي في كتابه المسمى بـ "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" وهو من أَجَلِّ ما صُنِّفَ فيه، قال: الكلامُ في هذا الباب يجري في فصلين: أحدهما: المنعُ من الكلام؛ سهوِه، وعمدِه. والثاني: اختصاصُ المنع بالعمدِ دونَ السهو. أما الفصل الأول: فقد اتفق أهل العلم قاطبةً على أن مَنْ تكلم عامدًا، وهو لا يريد تعليمَ أحد، ولا إصلاحَ شيء: أن صلاته باطلة، وذهبوا إلى (¬3) الأحاديث التي ذكرناها آنفًا. وأما الفصل الثاني: فقد اختلف أهل العلم في المصلي يسلِّم (¬4) ¬
في صلاته ساهيًا، قبل أن يتم صلاته، فذهبت طائفة: إلى أنه إذا تكلم ساهيًا، استأنف صلاته، وإليه ذهب قَتادةُ من البصريين، وإبراهيمُ النخعيُّ، وحمادُ بنُ سليمان، وأبو حنيفة، وأهلُ الكوفة، وتمسَّكوا بظاهر حديث ابن مسعود؛ لأنه مطلق، فتناولَ حالتي العَمْد والسَّهْو. وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: يبني على صلاته، ولا إعادةَ عليه، وروي ذلك عن عبد اللَّه بن مسعود، وبه قال عروةُ بنُ الزبير، وعطاءٌ، والحسنُ البصريُّ، وعمرُو بنُ دينار، والثوريُّ، ونفرٌ من أهل الكوفة، والشافعيُّ وأصحابُه، وأحمدُ، وإسحاق، وأكثرُ أهل الحجاز والشام، وذهبوا في ذلك إلى حديث أبي هريرة، يعني: حديثَ ذي اليدين، ورأوه ناسخًا للسهو، وفي حديث ابن مسعود: دونَ العمد؛ لأنه آخرُ الحديثين، وذكر حديث ذي اليدين من طريقين: أحدهما: عن أبي هريرة. والآخر: عن عمران بن حصين: أنه سلم في ثلاث ركعات من العصر، ثم ذكر بعد ذلك، بسنده للشافعي، قال: إنما نهى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الكلام في الصلاة في العَمْد، وهذا الحديث بمكة؛ يعني: حديث ابن مسعود، وحديث ذي اليدين بالمدينة، فهو ناسخ (¬1). قلت: وهذا مذهبنا -أيضًا-: أنه إذا تكلم ساهيًا، بني على ¬
صلاته، وسجد لسهوه؛ كما تقدم في باب السهو. ق: هذا اللفظ أحدُ ما يُستدل به على الناسخ والمنسوخ، وهو ذكر الراوي لتقدم أحد الحكمين على الآخر، وهذا لا شك فيه، وليس كقوله: هذا منسوخ، من غير بيان التاريخ (¬1)؛ فإن ذلك قد ذكروا فيه: أنه لا يكون دليلًا؛ لاحتمال أن يكون الحكم بالنسخ عن (¬2) طريق اجتهادي، واللَّه أعلم (¬3). الثاني: قال الإِمام أبو بكر السجستاني ثم العُزَيري (¬4): قانتون: مطيعون، وقيل: مُقِرُّون بالعبودية، والقنوت على وجوه: الطاعة، والقيام في الصلاة، والدعاء، والصمت (¬5). ع: وقيل: أصلُه الدوام على الشيء، وإذا كان هذا أصله، فمديمُ الطاعة قانتٌ، وكذلك الداعي، والقائمُ في الصلاة، والمخلصُ فيها، والساكتُ فيها، كلُّهم فاعلون القنوت (¬6). ¬
وهذه إشارة لما ذكرناه من استعماله لمعنى مشترك (¬1)، وهذه طريقة المتأخرين من أهل العصر، وما قاربه، يقصدون به: دفع الاشتراك والمجاز عن موضع اللفظ، فلا (¬2) بأس بها، إن لم يدل دليل على أن اللفظ (¬3) حقيقة في معنى معين، فيستعمل حيثُ لا يقوم دليل على ذلك. قال: ولفظُ الراوي يُشعر بأن المراد بالقنوت في الآية: السكوت؛ كما دل عليه لفظ (حتى) التي للغاية، و (الفاء) التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها. وقد قيل: إن القنوت في الآية: الطاعة، وفي كلام بعضهم ما يُشعر بحمله على الدعاء المعروف، حتى جعل (¬4) ذلك دليلًا على أن الصلاة الوسطى هي الصبح من حيث قرنها بالقنوت. والأرجحُ من هذا كلِّه: حملُه على ما أشعرَ به كلامُ الراوي؛ فإن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون سبب (¬5) النزول، والقرائنَ المحتفَّةَ به؛ مما يرشدهم إلى تعيين المحتمَلات، وبيانِ المجمَلات، فهم في ذلك كالناقلين للفط يدل على التعليل والسبب، وقد قالوا: إن قول الصحابي في الآية: نزلت في كذا، يتنزل منزلةَ المسند (¬6). ¬
الثالث: قوله: "فأُمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام": انظر ما فائدة قوله: "ونُهينا عن الكلام"، بعد قوله: "فأُمرنا بالسكوت"، فإنه كافٍ في تحريم التلفُّظ في الصلاة بغير قراءتها وأذكارها؛ أعني: قوله: "فأمرنا بالسكوت"، وقوله: "ونُهينا عن الكلام" لا يَقتضي تحريمَ التلفظ بما لا يصدق عليه كلامٌ من المفردات الإسمية، والأفعال المجردة عن الضمائر، والحروف والأصوات، وإنما تقتضي تحريمَ ما يصدُقُ عليه كلامٌ خاصة. وقد اختلف الفقهاء في أشياءَ هل تُبطل الصلاةَ أو لا؛ كالنفخ، والتنحنحِ لغير علَّة، وحاجة، وكالبكاء؟ ق: والذي يقتضيه القياس: أن ما يسمى كلامًا، فهو منهيٌّ عنه، وما لا يسمى كلامًا، فمن أراد إلحاقَه به، كان ذلك بطريق القياس، فليراعِ شرطَه في مساواة الفرعِ الأصلَ (¬1). قلت: وقولُ أصحابنا: إن النفخ في الصلاة كالكلام، فيه نظر، فإنه قد صحَّ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه نفخَ في صلاة الكسوف (¬2)، ولا قائلَ بالفرق بينَ الكسوف وغيرِها في الإبطال بالكلام، واللَّه أعلم. ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 108 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنهما-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّم" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: ظاهرُ قول مالك، أو (¬1) نصُّه: أن الإبراد: تأخيرُ الظهر إلى أن يكون الفيءُ ذراعًا، وسَوَّى في ذلك بين الصيف والشتاء، فقال: أحبُّ إليَّ أن تُصلَّى الظهرُ في الصيف والشتاء، والفيء ذراعٌ (¬2). وعزاق للمالكية: أن الإبراد: أن تؤخَّر الظهرُ في الحرِّ إلى أن يصير الفيء أكثرَ من ذراع، وهذا مخالف لقول مالك في شيئين: الأكثرية، وتخصيص الحرِّ دون الشتاء، فلينظر ذلك. ونقل عن بعض مصنفي الشافعية: أن الإبراد: أن تؤخَّر الصلاةُ عن أول الوقت مقدارَ ما يظهر للحيطان ظِلٌّ، ولا يُحتاج إلى المشي في الشمس (¬3) انتهى كلامه. تنبيه: مفهومُ الحديث يقتضي اختصاصَ الإبراد بشدة الحر، فلا ¬
يكون الإبرادُ في العصر؛ خلافًا لأشهب من أصحاب مالك، بل يختص بالظهر، وبذلك قال عامة العلماء -رحمهم اللَّه تعالى-، بل أقول: إن مفهوم الحديث: عدمُ الإبراد في الشتاء، والأيام غيرِ الشديدةِ الحرِّ مطلقًا، ظهرًا كان، أو عصرًا. واختلف في الجمعة، هل هي كالظهر في الإبراد، أم لا؟ والمشهور عندنا: عدمُ الإبراد. قال ابن حبيب من أصحابنا: سنتها أن تصلَّى في الصيف والشتاء أولَ الوقت؛ حين تزول الشمس، أو بعد أن تزول بقليل، قال: وكذلك قال مالك (¬1). وعند الشافعية -أيضًا- وجهان. ق: وقد يؤخذ من الحديث: الإبرادُ بها من وجهين: أحدهما: لفظة الصلاة، فإنها تنطلق على الظهر، والجمعة (¬2). والثاني: التعليل؛ فإنه مُسْتَمِرٌّ فيها. قلت: وهذا صحيح. ثم قال: وقد وجه القول بأنه لا يبرد بها: بأن التبكير سنةٌ فيها، وجواب هذا ما تقدَّم، وبأنه قد يحصل التأذي بِحَرِّ المسجد عند انتظار الإمام (¬3). ¬
الثاني: قد تقدم الكلام على الجمع بين هذا الحديث وحديث جابر بن عبد اللَّه الذي فيه: كانَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلِّي الظهرَ بالهاجرة، بما يغني عن الإعادة، فلينظره هناك من أراده، بعد أن يعلم أن الصحيح: استحبابُ الإبراد، وبه قال جمهور العلماء، وهو مذهبنا، كما تقدم. ح: وهو المنصوص للشافعي، وبه قال جمهور أصحابه (¬1)؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة فيه المشتملة على فعلِه، والأمرِ به في مواطنَ كثيرة، ومن جهة جماعةٍ من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- (¬2). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فأبردوا عن الصلاة"، وفي الرواية الأخرى: "فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ" (¬3)، هما بمعنى واحد؛ لأن (الباء) و (عن) تُستعمل إحداهما مكان الأخرى. قال اللَّه تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]؛ أي: عنه خبيرًا (¬4)، ويقال: رميتُ عن القوس؛ أي: بها. الرابع: "فَيْح جهنم": سُطوع حرها، وانتشارها، وغليانها -أعاذنا اللَّه منها بمنِّه وكرمه-، ويقال: فَيْح، وفَوْح، كما يقال في الفعل: فاحَتْ ريحُ المِسْكِ، تَفوحُ، وتَفيح، ويقال -أيضًا-: فَوْحًا، وفَوَحانًا، وفَيَحانًا. ¬
قال الجوهري: يقال: فاحَ الطيبُ: إذا تَضَوَّعَ، ولا يقال: فاحَتْ ريحٌ خبيثةٌ (¬1). فانظر: هل في الحديث ما يردُّ قولَه، أم لا؟ الخامس: جَهَنَّمُ مأخوذ من قول العرب: بئرٌ جهنَّام: إذا كانت بعيدةَ القَعْر، وهذا الاسم أصلُه للطبقة (¬2) العليا، ويُستعمل في غيرها. وفي الحديث ما يدلُّ على أن النار مخلوقةٌ الآن، وهو مذهب أهل السنة. وفي الحديث الآخر الصحيح: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنٍ؛ نَفَسٍ في الشِّتاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ" (¬3) ما يدل على ذلك أيضًا. وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال بعضهم: هو على ظاهره، واشتكتْ حقيقةٌ، وشدةُ الحرِّ من وهجها وفَيْحِها، وجعل اللَّه فيها إدراكًا وتمييزًا بحيث تكلمتْ بهذا. وقيل: ليس على ظاهره، ولكنه على وجه التشبيه والاستعارة ¬
والتقريب، تقديره: إن شدة الحر تشُبه حرَّ نار جهنم، فاحذَروه، واجتنبوا ضررَه. والأولُ أظهر، وهو ظاهرُ الحديث، ولا مانعَ من حمله على حقيقته، فوجب الحكمُ بأنه على ظاهره، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 109 - عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ (¬1): {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] " (¬2). وَلِمسْلِمٍ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْها، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا" (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: النسيان -بكسر النون-: خلاف الذِّكْر والحِفْظ، ورجلٌ نَسيان -بفتح النون-: كثيرُ النِّسيان للشيء، والنِّسْيان -أيضًا-: التَّرْكُ، قال اللَّه تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] (¬1). الثاني: فيه: وجوبُ قضاء ما فاتَ وقتُه من الصلوات المفروضة بنسيان أو توهُّم (¬2)، هذا منطوق الحديث (¬3) إجماعًا، إلا أنه يجب قضاءُ ما فات وقتُه بغير عذر؛ كالعَمْد من باب أَوْلى، وكأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا وجب قضاءُ ما ترك لعذر، فلأَنْ يجبَ ما تُرك عمدًا أَوْلى وأَحْرى. وقد شذَّ بعضُ أهل الظاهر، وقال: لا يجبُ قضاءُ الفائتة بغير ¬
عذر، وزعمَ أنها أعظمُ من أن يخرج من وَبال معصيتِها بالقضاء. ح: وهذا خطأ وجهالة من قائله (¬1). قلت: وليتأمل الفرق بين هذه المسألة، ومسألة اليمين الغموس؛ فإنهم قالوا: لا كفارةَ فيها، وإثْمُها أعظمُ من أن تُكَفَّر، وكذلك مَنْ تركَ سنةً من الصلاة متعمِّدًا على القول بعد (¬2) السجود. الثالث: ق: اللفظ يقتضي تَوَجُّهَ الأمر بقضائها عندَ ذكرها؛ لأنه جعلَ الذكرَ ظرفًا للمأمور به (¬3)، فيتعلَّق الأمرُ بالفعل فيه. وقد قسم الأمرُ فيه عند بعض الفقهاء بينَ ما ترك عمدًا، فيجب القضاء فيه على الفور، وقطعَ به بعضُ مصنفي الشافعية. وبينَ ما تُرك بنومٍ أو نسيان؛ فيستحب قضاؤه على الفور، ولا يجب. واستدل على عدم وجوبه على الفور في هذه الحالة: بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما استيقظ بعدَ فواتِ الصلاة بالنوم، أَخَّر قضاءها، واقتادوا رواحِلَهم حتى خرجوا من الوادي، وذلك دليل على جواز التأخير، وهذا يتوقف على أن لا يكون ثمَّ مانعٌ من المبادرة، وقد قيل: إن المانع أن الشمس كانت طالعة (¬4)، فأخَّر القضاء حتى ترتفع، بناء على مذهب (¬5) مَنْ يمنع ¬
القضاء في هذا الوقت. وردَّ ذلك بأنها كانت صبح ذلك اليوم، وأبو حنيفة يجيزها في هذا الوقت (¬1)، وبأنه جاء في الحديث: "فَمَا أَيْقَظَهُمْ إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ" (¬2)، وذلك بالارتفاع. وقد يعتقد مانع آخر، وهو ما دل عليه الحديث من أن الوادي به شيطان، وأخَّر ذلك للخروج عنه، ولا شك أن هذا علةٌ للتأخير والخروج كما دل عليه الحديث، ولكن هل يكون ذلك مانعًا على تقدير أن يكون الواجبُ المبادرةَ؟ في هذا نظر، ولا يمتنع أن يكون مانعًا على تقدير جواز التأخير (¬3). الرابع: اختُلف فيمن ذكر صلاة منسية في وقتية يجب ترتيبُها معها، هل تفسد الوقتيةُ بذلك، أم لا؟ قولان لأصحابنا، وظاهر هذا الحديث قد يدل لقول من قالَ بالقطع، وهو قوله: "فَلْيُصَلِّها إذا ذَكَرَهَا"، ووجهُ الدليل منه: أنه يقتضي الأمر (¬4) بالقضاء عندَ الذكر، ومن صورة (¬5) ذلك قطعُ ما هو فيه، ومن أرادَ خروج شيء من ذلك، فعليه أن يبين مانعًا من إعمال ¬
اللفظ في الصورة التي يريد أن يخرجها. وإن كان منشأ الخلاف عندنا: هل الترتيبُ شرطٌ أم لا؟ قالوا: وهو مأمور على المذهبين بأن يقطع، ويبتدىء الفائتة، ثم يشتغل بالمؤداة إن كان منفردًا، وَلم يعقد ركعة، وقيل: يتمها ركعتين نافلةً؛ كما لو عقدَ الركعةَ. وإن كان إمامًا، أمر أن يقطع. وهل يسري ذلك لصلاة المأمومين؟ روى ابن القاسم أنه يسري، فلا يستخلف. وروى أشهب: أنه لا يسري، فيستخلف من يُتِمُّ بهم، وتصحُّ صلاتهم. وسبب الخلاف: مراعاة الخلاف، وإن كان مأمومًا، تمادى مع إمامه، ولم يقطع. ثم اختُلف في وجوب الإعادة عليه، ولو كان في الجمعة. فقال أشهب: إن علم أنه يدرك ركعةً من الجمعة بعدَ قضاء المنسية، فأحبُّ إليَّ أن يقطعَ، ويقضيَ، ثم يعود إلى الجمعة، وإن لم يعلم ذلك، تمادى، فإذا أكملَ الجمعةَ، صلَّى المنسيةَ خاصة، ولا إعادة عليه في الجمعة إلا احتياطًا؛ لأنها قد فاتت. وقال الشيخ أبو الحسن: مذهبُ مالك: اتباعُ الإمام، فإذا فرغَ، صلَّى التي نسيَ، وأعاد الجمعة ظهرًا. قال ابن القاسم: وإن لم يذكر التي نسي حتى فرغَ من الجمعة،
لم تكن عليه إعادتُها. قال سحنون: آخرُ قوله: أنه يعيدها في الوقت، وعليه أكثر الرواة، ولو ذكرها بعد الصلاة الوقتية، صلى المنسيةَ، ثم أعاد الوقتيةَ ما لم يذهب وقتُها (¬1). وهل الاختياري أو الضروري؟ فيه قولان، سببهما: الموازنة (¬2) بين فضيلة الترتيب، وكراهية إيقاع الصلاة بعد الاصفرار، فعلى هذه (¬3) التفاصيل لا يستمر الاستدلال بهذا الحديث مطلقًا لنا. واللَّه أعلم. وقد تقدم خلافُ الأصوليين في أن القضاء هل هو (¬4) بأمرٍ جديد، أو بالخطاب المتقدم؟ مستوفًى باب الحيض بما يغني عن الإعادة. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا كفارة لها إلا ذلك". ق: يحتمل أن يراد به: نفيُ الكفارة المالية كما وقع في أُمور أُخَر، وأنه لا يكتفى فيها إلا بالإتيان بها. ويحتمل أن يراد (¬5) به: أنه لا بدلَ لقضائها؛ كما يقع الإبدال في بعض الكفارات. ¬
ويحتمل أن يراد: لا يكفي فيها مجردُ التوبة والاستغفار، ولا بدَّ من الاتيان بها (¬1). السادس: تسميتُها كفارةً لا يلزم منه حصولُ الإثم؛ فإنه قد وردت الكفارات مع عدم الإثم إجماعًا، وذلك ككفارة القتل (¬2) الخطأ، وكفارةِ اليمينِ بالله تعالى، مع استحباب الحِنْث في بعض المواضع، وجوازِ اليمينِ ابتداء. السابع: قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. قال ابن عطية: يحتمل أن يريد: لتذكُرَني فيها، أو يريد: لأذكرَكَ في عِلِّيِّين بها، فالمصدرُ على هذا يحتمل الإضافةَ إلى الفاعل، أو إلى المفعول، واللام لام السبب. وقالت فرقة: معنى قوله: {لِذِكْرِي}؛ أي: عند ذكري، أي: إذا ذكرتني، وأمري لك بها، فاللام على هذا بمنزلتها في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]. وقرأت فرقة: (للذِّكْرَى)، وقرأت فرقة: (لِذِكْرَى) -بغير تعريف-، وقرأت فرقة: (للذِّكْر) (¬3). وقال الزمخشري: {لِذِكْرِي}: لتذكرني؛ فإن ذكري: أن (¬4) ¬
أُعبد ويصلَّى لي. أو لتذكرني فيها؛ لاشتمال الصلاة على الأذكار، عن مجاهد. أو لأني ذكرتُها في الكتب، وأمرتُ بها. أو لأن أذكرَكَ بالحمد والثناء، وأجعلَ لك لسانَ صدق. أو لذكري خاصةً، لا تشوبه بذكر غيري. أو لإخلاص ذكري، وطلبِ وجهي، لا تُرائي بها، ولا تطلبُ بها عوضًا آخر، ولتكون لي ذاكرًا غيرَ ناس فعلَ المخلصين في (¬1) جعلِهم ذكرَ ربهم على بال منهم، وتوكيد هممهم وأفكارهم به؛ كما قال: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]. أو لأوقاتِ ذكري، وهي مواقيت الصلاة؛ لقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. واللام مثلها في قولك: جئتك (¬2) لوقت كذا، وكان ذلك لستِّ ليالٍ خَلَوْنَ (¬3). قلت: ولا يكادُ شيء من هذه التفاسير ينطبق على معنى الحديث؛ فإنه إنما أتى في سياق الاستدلال؛ أي: إذا ذكرتَ الصلاةَ بعدَ نومٍ أو نسيان، فصلِّها عندَ ذكرها، فليتأمل ذلك، وباللَّه التوفيق. ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 110 - عَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِشَاءَ الآخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ (¬1). ¬
ظاهرُ هذا الحديث يدل على جواز صلاة المفترِض خلفَ المتنفِّل، وصِحَّةِ ائتمامه به، وقد افترق العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب: الأول: وهو أوسعُها: جوازُ ائتمامِ المفترِض بالمتنفل، وعكسُه، وائتمام المؤدِّي بالقاضي، وعكسه، اتفقت الصلاتان، أو اختلفتا، ما لم تختلف الأفعال الظاهرة، وهو مذهب الشافعي رحمه اللَّه تعالى. والثاني: وهو أضيقُها، وهو أنه لا يجوز ائتمامُ المفترض بالمتنفل، ولا العكسُ. والثالث: وهو أوسطها وأعدَلُها، وهو أنه يجوز ائتمام المتنفل بالمفترض دونَ العكس، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، ومَنْ نقلَ عن (¬1) مالك مثلَ المذهب الثاني، فليس بجيد، فليعلمْ ذلك (¬2). قلت: وهذا شيء لم أره في مذهبنا أصلًا، ولا سمعتُه من أحد ¬
من أصحابنا، ولا غيرهم البتةَ، فهو وهم -واللَّه أعلم- إن صحَّ نقله. وقد اعتذر المانعون بوجوه: أحدها: لعله -عليه الصلاة والسلام- لم يعلم بالواقعة، ولو عَلِمَها، لأنكرَها. وأجيب عن ذلك: بأنه يبعدُ أو يمتنع في العادة عدمُ علمه -عليه الصلاة والسلام- بذلك من عادة معاذ. واستدَلَّ أيضًا بعضُ المانعين برواية عمرو بن يحيى المازني، عن معاذِ بنِ رفاعةَ الزرقيِّ: أن رجلًا من بني سلمة، يقال له: سليم، أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: إنا نظلُّ في أعمالنا، فنأتي حين نمسي فنصلي، فيأتي معاذُ بنُ جبلٍ فينادي بالصلاة، فنأتيه، فيطوِّلُ علينا، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا مُعَاذُ! لَا تَكُنْ، أَوْ لَا تَكُونَنَّ فَتَّانًا، إِمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَنْ قَوْمِكَ" (¬1)، قال: فقولُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لمعاذ يدل على أنه كان عندَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) يفعل أحدَ الأمرين؛ إما الصلاة معه، أو بقومه، وأنه لم يكن يجمعهما؛ لأنه قال: "إِمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي"؛ أي: ولا تصلِّي بقومك، "وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِقَوْمِكَ"؟ أي: ولا تصلِّي معي. واعتذر أيضًا: بأن النية أمرٌ باطن لا يُعلم إلا من جهة الناوي، ولم يعلم من حال معاذ -رضي اللَّه عنه- أنه قصد بصلاته مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الفرضَ أو ¬
النفلَ، ولعله قصدَ النفلَ. ق: وأُجيب عن هذا بوجوه: - الأول: أنه قد جاء في الحديث روايةٌ ذكرها الدارقطنى، فيها: "فَهِيَ لَهُمْ فَرِيضَةٌ، وَلَهُ تَطَوُّعٌ" (¬1). - الثاني: أنه لا يُظن بمعاذ أنه يترك فضيلةَ فرضِه خلفَ (¬2) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويأتي بها مع قومه. - الثالث: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا صَلَاةَ إِلَّا المَكْتُوبَةُ" (¬3)، فكيف يَظُن معاذ مع سماع هذا، أن يصلِّي النافلةَ مع قيامِ المكتوبة؟ اعترض بعض المالكية على الوجه الأول بوجهين: أحدهما: لا يساوي أن يذكر؛ لشدة ضعفه. والثاني: أن هذا الكلام؛ أعني: قوله: "وَهِيَ لَهُمْ فَرِيضَةٌ، وَلَهُ تَطَوُّعٌ" ليس من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيحتمل أن يكون من كلام الراوي بناء على ظن أو اجتهاد، لا يجزم به. وذكر معنى هذا -أيضًا- بعضُ الحنفية ممن له شِرْب في الحديث، ¬
وقال ما حاصله: إن ابن عُيينةَ روى هذا الحديث، ولم يذكر هذه اللفظةَ، والذي ذكرها هو ابنُ جُريج، فيحتمل أن يكون من قوله، أو قول مَنْ روى عنه، أو قول جابر. وأما الجواب الثاني: ففيه نوعُ ترجيح، ولعل خصومهم يقولون فيه: إن هذا إنما يكون (¬1) عند اعتقاد الجواز كذلك، فلم قلتم: إنه كان يعتقده؟! وأما الجواب الثالث: فيمكن أن يقال فيه: إن المفهوم أن لا تصلَّى نافلةٌ غير الصلاة التي تُقام؛ لأن المحذور وقوعُ الخلاف على الأئمة، وهذا الخلاف منتفٍ مع الاتفاق في الصلاة المقامة، ويؤيد هذا: الاتفاقُ من الجمهور على صلاة المتنفِّل خلف المفترِض، ولو تناوله النهي، لما جاز جوازًا مطلقًا. وقد ادُّعي النسخُ، وذلك من وجهين؛ يعني: نسخ (¬2) حديث معاذ -رضي اللَّه عنه-: أحدهما: أنه يحتمل أن يكون ذلك حين كانت الفريضة تُقام في اليوم مرتين حتى نُهي عنه، وهذا الوجه منقول المعنى عن الطحاوي، وعليه اعتراضٌ من وجهين: أحدهما: طلبُ الدليل على كون ذلك واقعًا -أعني: وقوع ¬
الفريضة في اليوم مرتين-، فلابد من نقل فيه. والثاني: أنه إثبات النسخ بالاحتمال. الثاني (¬1): مما يدل على النسخ ما أشار إليه بعضُهم دون تقريرٍ حسنٍ له، وتقريره: أن إسلام مُعاذ متقدِّم، وقد صلى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد سنتين من الهجرة صلاةَ الخوف غيرَ مرة، على وجه وقع (¬2) فيه مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية للصلاة في غير حالة الخوف، فيقال: لو جاز للمفترض الصلاةُ خلف المتنفل، لأمكنَ إيقاعُ الصلاة مرتين على وجهٍ لا تقع فيه المنافاة والمفسدات في غير هذه الحالة، وحيث صليت على هذا الوجه، مع إمكان دفع المفسدات -على تقدير جواز صلاة المفترض خلف المتنفل-، دل على أنه لا يجوز ذلك. وبعد ثبوت هذه الملازمة يبقى النظر في التاريخ، وقد أشير بتقدُّم (¬3) إسلامِ معاذ إلى ذلك، وفيه ما تقدمت الإشارة إليه. - الوجه الرابع من الاعتذارات عن الحديث: ما أشار إليه بعضُهم من أن الضرورة دعت إلى ذلك، لقلة القُراء في ذلك الوقت، ولم يكن لهم غِنًى عن معاذ، ولم يكن لمعاذٍ غِنًى عن صلاته مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا يحتمل أن يريد به قائلُه معنى النسخ، فيكون كما تقدم. ¬
ويحتمل أن يريد: أنه مما أُبيح بحالة مخصوصة، فيرتفع الحكمُ بزوالها، ولا يكون نسخًا، وعلى كل حال، فهو ضعيف؛ لعدم قيام الدليل على ما ذكره هذا القائل علةً لهذا الفعل؛ ولأن القدر المجزىء من القراءة في الصلاة ليس حَافِظُه بقليل (¬1)، وما زاد على الحاجة من زيادة القراءة فلا يصح أن يكون سببًا لارتكاب ممنوع شرعًا؛ كما يقوله هذا المانع. فهذا جامعُ ما حضرَ من كلام الفريقين، مع تقريرٍ لبعضه فيما يتعلق بهذا الحديث، وما زاد على ذلك من الكلام على أحاديثَ أُخر، والنظر في الأقيسة، فليس من شرط هذا الكتاب، واللَّه أعلم. انتهى كلامه (¬2). وقد تقدم ما ينبغي أن يذكر على هذا الحديث من مسائل صلاة الجماعة، وأحكام الإعادة، وغير ذلك بما يغني عن الإعادة. واللَّه الموفق. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 111 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي شِدَّةِ الحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: ظاهرُه: تقديم (¬1) الظهر في أول وقتها، وهو في معنى حديث جابر بن عبد اللَّه الذي فيه: كانَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلِّي الظهرَ بالهاجرة، الحديث، وقد تقدم الكلامُ على الجمع بينه وبين حديث الإبراد. ويحتمل أن لا يكون حديثُ أنس هذا معارضًا لحديث الإبراد؛ لأن الغالب بقاء حرارة الأرض، وإن ذهبت الشمسُ عنها، فيُحتاج (¬2) من أجل ذلك إلى بسط الثوب عليها، واللَّه أعلم. الثاني: فيه: دليل على أن الأصل مباشرةُ الأرض بالجبهة (¬3) واليدين؛ لتعليقه بسطَ الثوب على عدم استطاعة مباشرة الأرض لشدة الحر، وقد كره أصحابنا السجودَ على الطنافس (¬4)، وثياب الصوف، والكتان، والقطن، وأحلاس الدوابِّ؛ وهي أكسية رقيقة تكون تحت ¬
البردعة، واحدها حِلْس وحَلَس؛ مثل: شِبْه وشَبَه، ومِثْل ومَثَل، وكذلك الأَدَم، واللبود، وبُسط الشَّعر، إلا أنه لا يكره أن يقوم عليها ويجلس، ويسجدَ على الأرض إذا لم يضع كفيه عليها. ولا يكره السجود على الخُمْرَة، وهي سجادةٌ صغيرة تُعمل من سَعَف النخل، وتُرمل بالخيوط، وكذلك الحُصُر، وما تُنبت الأرضُ، ولكن الصلاة على التراب والجص أحبُّ إلى مالك رحمه اللَّه تعالى. قال ابن حبيب: وهذا أقربُ إلى التقوى، ولولا ما مضى عليه الأمر من تَحْصيبِ المسجدينِ وغيرِهما، لفرشَهما أهلُ الطَّوْل بأفضلَ من ذلك (¬1). وبالجملة: فالمصلي مأمورٌ بالتواضع للَّه عز وجل في صلاته بقلبه وجسده، وتعمُّدُ بَسْطِ الثياب التي لها قدرٌ والطنافسِ والسجاداتِ، ولا سيما المتَّخَذَةِ من الخرقِ الرفيعة؛ مما يضادُّ قصدَ التواضع، ويؤدي ذلك بالمصلي إلى مضاهاةِ أهلِ الكِبْر والترفُّه، وذلك مكروه في الصلاة، ولو لم يقصد المصلي بذلك الكبر والترفُّه، إلا أنَّا نكرهُه لأجل أنه في صورة المتكبرين. وقريبٌ من هذا ما سمعتهُ من شيخنا محي الدين المازوني رحمه اللَّه، وقد رأى بعضَ أعوانِ أصحاب الشُّرَط، فقال: هؤلاء يأثمون، وإن لم يقصدوا؛ لأن هيئتهم هيئةُ المُرْجِفين. ¬
قال اللخمي: يُستحب للمصلي أن يقوم على الأرض من غير حائل، وأن يباشر (¬1) بجبهته الأرضَ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "يَا رَبَاحُ! عَفِّرْ وَجْهَكَ في الأَرْضِ" (¬2)، ولأن ذلك هو المعمولُ به في الحرمين، والصلاةُ فيهما على الحصباء والتراب، ولم تُتخذ فيهما حصر، فإن صلى على حائل، فيستحب أن يكون مما تُنبت الأرض؛ كالحصر، وما أشبهَ ذلك. قال صاحب "البيان والتقريب": يعني: مما لا ترفُّهَ فيه ولا داعيةَ في فَرْشه إلى كِبْر. واختُلف في ثياب القطن والكتان، فكرهه مالكٌ (¬3) في "المدونة"، وأجازه ابن مسلمة. والأولُ أحسن؛ لما فيهما من الترفُّه، وموضعُ الصلاة التواضعُ والخضوعُ والتذلل. وكره الصلاة على الحصر السامان مما عظم ثمنه، والتواضعُ للَّه تعالى أفضلُ. ¬
قال: ويُباشر بيديه ما يسجد عليه، ويُبرزهما عن كُمَّيه، ويَحْسِرُ العِمَامةَ عن جبهته. وقال محمد بن مسلمة: ينبغي أن لا (¬1) يسجدَ على ثوبه الذي على جسده، ولا على يديه وهما في كُمَّيه حتى يفضي (¬2) بهما إلى الأرض؛ لأنه كان [كمن] يسجد بغير وجهه ويديه. قال ابن وهب: وقد رأى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا يسجد وقد اعتمَّ على جبهته، فحسرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن جبهته (¬3). قال صاحب "البيان والتقريب" وقد وردت أخبارٌ في السجود على ما لا ترفُّه فيه. منها: ما رواه البخاري عن أنس، قال: كنا نصلِّي معَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيسجدُ على فِراشِه (¬4). ¬
وما رواه أبو داود عن المغيرة بن شعبة، قال: كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلِّي على الحصير، والفَرْوَةِ المدبوغَة (¬1). وما رواه الترمذي عن ابن عباس: أن (¬2) النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُصلِّي على الخُمْرَة (¬3). وما رواه البخاري، ومسلم عن أنس، قال: كانَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحسنَ الناس خُلُقًا، فربما تحضُرُه الصلاةُ وهو في بيتنا، فيأمر بالبِساط الذي تحته، فَيُنْشَر، ثم يُنْضَح، ثم يقوم رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويصلِّي بنا، ونقومُ خلفَه، وكان بساطُهم من جريدِ النَّخْل (¬4). وما رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود عن ميمونةَ زوجِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قالت: كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلِّي وأنا حِذَاءَهُ، وربما أصابني (¬5) ثوبُه، ¬
وكان يصلِّي على الخُمْرة (¬1). الرابع: قال الجوهري: الاستطاعةَ: الإطاقَةُ، وقالوا: اسطاع (¬2) يسطيع، يحذفون التاء استثقالًا لها مع الطاء، ويكرهون إدغامَ التاء فيها، فتحرِّك السين، وهي لا تُحرَّك (¬3) أبدًا. وذكر الأخفش: أن بعض العرب يقول: استاعَ يستيعُ، قال: وبعضُ العرب يقول: اسطاع يسطيع، بقطع الألف، وهو يريد أن يقول: أطاعَ يُطيع، ويجعل السين عوضا من ذهاب حركة عين الفعل، ويقال: تطاوع لهذا الأمر حتى يستطيعه، وتطوَّعَ؛ أي: تكلَّفَ استطاعته، واللَّه أعلم (¬4). * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 112 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ في الثَّوْبِ الوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" (¬1). * * * ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الثوب هنا: الإزارُ ونحوُه. والعاتِقُ: موضعُ الرداء من المَنْكِب، يذكَّر ويؤنَّث. قال الجوهري: يقال: رجلٌ أَمْيَلُ العاتِقِ؛ أي: موضعُ الرداء منه مُعْوَجٌّ (¬1). الثاني: ع: ونهيه -عليه الصلاة والسلام- أن يصلي به "وليس على عاتقه منه شيء"، قيل: لأنه إذا لم يكن كذلك، لم يأمن من النظر إلى عورته، والأولى عندي أن يكون: لئلا يسقط عنه، لأنه إذا لم يصلِّ به متوشِّحًا، واضعًا طرفيه على عاتقه؛ كما كان يفعل -عليه الصلاة والسلام-، لم يؤمن (¬2) سقوطُه عنه، وتكشُّفُه، وإن تكلَّف ضبطَه بيديه، شغلَهما بذلك، واشتغلَ به عن صلاته، فإذا احتاج إلى استعمال يديه في الركوع والسجود والرفع، وغير ذلك ربما انقلع (¬3) ثوبُه، فينكشف. وأيضًا: فإن فيه إذا لم يجعل على عاتقه شيئًا، تَعَرَّى بعضُ الجسمِ والأعالي من الثياب في الصلاة، والخروج عن ذلك في الزينة فيها (¬4) كما جاء في النهي عن الصلاة في السراويل وحدَه، ويشبه (¬5) ¬
الصلاة في المئزر وحدَه، وقد روي عن بعض السلف الأخذُ بظاهر هذا الحديث، وأنه لا تجزىء صلاةُ مَنْ صلَّى بثوبٍ واحدٍ متزرًا به ليسَ على عاتقه منه شيء، إلا أن لا يقدرَ على غيره (¬1). قلت: وعن أحمد روايتان: إحداهما: لا تصحُّ صلاته، يوافق فيها بعضَ السلف المشار إليه. والأخرى: أنها تصح، ويأثم بتركه. ح: وحجةُ الجمهور: قولُه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث جابر: "فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا، فَالْتَحِفْ به، وإنْ كانَ ضَيِّقًا، فَائْتَزِرْ بِهِ" رواه (¬2) البخاري، ورواه مسلم في آخر الكتاب في حديثه الطويل (¬3). ثم قال ع: وكذلك اختلفوا في السَّدْل في الصلاة، وهو إرسالُ ردائه عليه من كتفيه إذا كان عليه مئزر، وإن لم يكن عليه قميص، وإن انكشف بطنه، فأجازه عبدُ اللَّه بنُ الحسن، ومالك وأصحابه، وكرهه النخعيُّ، وآخرون، إلا أَنْ يكون عليه قميصُ يستر جسده، وقد نحا إلى هذا بعضُ أصحابنا، وهو أبو الفرج؛ من أجل أن سترَ جميع الجسد في الصلاة لازمٌ، وأكثرُهم جوازُه على قميص، وقد كرهه ¬
بعضهم على كل حال؛ كأنه عنده من حد جَرِّ الإزار، وهو مذهب الشافعي، وهذا بعيد؛ لأنه في الصلاة ثابتٌ غيرُ جارٍّ له؛ بخلاف الماشي. قال: ومن المعنى الأول: اختُلف في صلاة الرجل محلول الإزار، وليس عليه أزرار، فمنعه أحمد، والشافعي؛ لعلَّة النظرِ لعورته، وربما بدا ذلك لمن يقابله، وأجاز ذلك له مالك، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وكافة أصحاب الرأي ندبًا إذا تكلف ذلك، ورؤيته كرؤيته من أسفل الإزار وبين الرجلين، وذلك لا يلزم (¬1). * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن (¬1) 113 - (¬2) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (¬3)، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ في بَيْتِهِ"، وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خُضَرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ (¬4)، فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ البُقُولِ، فَقَالَ: "قَرِّبُوهَا" إلى بَعْضِ أَصْحَابهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، فَقَالَ: "كُلْ؛ فَإِنِّي أُناجِي مَنْ لَا تُنَاجِي" (¬5). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: يقال: ثوم، وفوم، وفي قراءة ابن مسعود: {وثومها}. ويقال: الفومُ: الحنطة. وقال ابن دُريد: الفومة: السُّنبلة (¬1). وقال بعضهم (¬2): الفوم: الحِمِّص، لغة شامية، بائِعُه فامِيٌّ مُغَيَّر عن فومي (¬3)، والفوم: الخبز أيضًا. قال الفراء: هي (¬4) لغة قديمة، (¬5) ذكره الجوهري (¬6)، وغيره. ¬
زاد العُزَيرِي: ويقال (¬1): الفوم: الحبوب (¬2). الثاني: قال الإمام أبو عبد اللَّه المازَري: الأحاديثُ التي فيها النهيُ عن دخول المسجد لمن أكل الثومَ و (¬3) شبهَه، قال (¬4) أهل العلم: يؤخذ منها (¬5) منعُ أصحاب الصنائع المنتنة؛ كالحَوَّاتين والجَزَّارِين مِنَ المسجد (¬6) (¬7). ع: اختُلف في معنى هذا الحديث، والأخذِ به، فذهب (¬8) عامةُ العلماء، وجمهور الفتوى، والسَّلَف إلى إباحة أكل هذه الخضر، الثوم، والبصل، والكراث، وشبهها، وأن النهي عن حضور المساجد لمن أكلها ليس بتحريم لها؛ بدليل (¬9) إباحة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إياها لمن حضره من أصحابه، وتخصيصِه نفسَه بالعلة التي ذكرها من قوله: "فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُناجِي"، وبقوله: "و (¬10) لَيْسَ لي تحريمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ، ولَكِنِّي (¬11) ¬
أَكْرَهُهَا" (¬1)، وكذلك حكمُ أكلِ الفجلِ يتجشَّؤُهُ أو غير ذلك مما تُستقبح رائحتُه، ويُتأذى به. قال: وقد ذكر أبو عبد اللَّه ابنُ المرابط في "شرحه": إن حكمَ مَنْ به داء البَخْر في فيه، أو به خُراج (¬2) له رائحة، هذا الحكمُ. وفيه دليلٌ على أن إتيان الجماعات للآحاد على الدوام ليس بفرض، وإن كانت إقامتُها بالجملة متعينةً؛ لأن إحياء السنن الظاهرة فرض. قلت: قولُه: فرض، يريد -واللَّه أعلم-: فرضَ كفاية، وهو أحدُ القولين (¬3) في المذهب. قال: خلافًا لأهل الظاهر في تحريم أكل الثوم؛ لأجل منعه من حضور الجماعة التي يعتقدون فرضَها على الأعيان، وجمهورُ العلماء (¬4): أن النهي عن دخول المساجد لآكلها؛ نهيٌ عامٌّ في كل مسجد (¬5)، وذهب بعضُهم إلى أن هذا (¬6) خاصٌّ بمسجد المدينة؛ لأجل ملائكة ¬
الوحي، وتأذِّيهم بذلك، ويحتج بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فَلا يَقْرَبْ مَسْجِدَنَا" (¬1)، وحجة الجماعة: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فَلَا يَقْرَبِ المَسَاجِدَ" (¬2). ذكر الروايتين مسلم. وقاسوا على هذا مجامعَ الصلاة في غير المسجد؛ كمصلَّى العيدين، والجنائز، ونحوِها من مجامع العبادات، وقد ذكر بعضُ فقهائنا: أن حكم مجامع المسلمين فيهم (¬3) هذا الحكم؛ كمجالس العلم، والولائم، وحِلَقِ الذِّكْر (¬4). الثالث: قوله: "وأُتي بقِدْر": قال الإمام أبو عبد اللَّه: وقع في بعض هذه الأحاديث جوازُ اكلِ هذه البُقول مطبوخةً -وذكر هذا الحديث-، ثم قال: فظاهر (¬5) هذا: أن الكراهةَ باقيةٌ مع الطبخ. قال: ولعلَّ (¬6) قولهم: (قدر) تصحيف من الرواة (¬7)، وذلك أنه ¬
في كتاب أبي داود: أنه -عليه الصلاة والسلام- أُتي ببَدْر (¬1) -والبدرُ هنا: هو (¬2) الطَّبَق، شُبه بذلك؛ لاستدارته كاستدارة البدر-، فإذا (¬3) كان كذلك، لم يكن هذا مناقضًا (¬4) لحديث الطبخ، لاحتمال أن تكون كانت نِيئَةً (¬5) (¬6). ع: الصواب: ببَدْر؛ أي: طبق، وكذا ذكره البخاري، عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب في هذا الحديث، وقال: "أُتي بِبَدْر"، وقال ابن وهب: يعني: طبقًا (¬7)، وذكر أن ابنَ عفير رواه عنه (¬8): بِقِدْر (¬9). الرابع: (¬10) قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإني أناجي مَنْ لا تُناجي"؛ أي: أُسارِرُ مَنْ لا تُسارِر (¬11)، انْتَجَى القَوْمُ، وتَناجَوْا: ¬
أي (¬1): تَسارُّوا، وانْتَجَيْتُه (¬2) أيضًا: إذا خَصَصْتَه بمناجاتك، والاسمُ: النَّجْوَى، والنَّجِيُّ على فَعيل: الذي تُسَارُّه (¬3)، والجمعُ: الأَنْجِيَة. قال الأخفش: وقد يكون النَّجِيُّ جماعةً، مثل الصَّديق (¬4)، قال اللَّه تعالى: {خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80]. وقال الفراء: وقد يكون النجيُّ والنَّجْوى اسمًا ومصدرًا (¬5). قال الإمام: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أُناجي مَنْ لا تُناجي" يدل على أن الملائكة تُنَزَّه عن هذه الروائح، وفي بعض الأحاديث: "أنها تتأذَّى مما (¬6) يَتَأَذَّى بِهِ بَنُو (¬7) آدَمَ" (¬8)، قالوا: وعلى هذا يمتنع (¬9) الدخول بهذه الروائح المسجدَ (¬10)، وإن كان خاليًا؛ لأنه محلُّ (¬11) الملائكة (¬12). ¬
ع (¬1): قالوا (¬2): وفي اختصاص النهي عن دخول المسجد إباحةُ دخول الأسواقِ وغيرِها بها (¬3) (¬4)، وذلك لأنه ليس فيها (¬5) حُرْمَةُ المساجد، ولا هي محلُّ الملائكة؛ لأنه إن تأذى به أحد في سوقه، تَنَحَّى عنه إلى غيره، وجالسَ سواه، ولا يمكنه ذلك في المسجد؛ لانتظاره (¬6) الصلاةَ، وإن خرج، فاتَتْه (¬7). قلت: وحكمُ رحابِ المسجد حكمُ المسجد؛ إذ الأذيةُ (¬8) بذلك موجودةٌ في الرحاب كما هي في المسجد، ولذلك كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا وجد ريحها من الرجل في المسجد، أمر به فأُخرج إلى البقيع؛ إبعادًا له عن (¬9) المسجد ورحابه، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع 114 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَكَلَ البَصَلَ وَالثُّومَ (¬1) وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ المَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الإنسان" (¬2). ¬
وفي رواية: "بَنُو آدَمَ" (¬1). الكلام على هذا (¬2) الحديث؛ كالكلام على الحديث الذي (¬3) قبلَه سواء، غير أن فيه زيادةَ الكُرَّاث، واستواء حكمه مع البصل والثوم، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب التشهد
باب التشهد الحديث الأول 115 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- التَّشَهُّدَ، كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ، كَمَا يُعَلِّمُنِي (¬1) السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ: "التَّحِيَّاتُ للَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ (¬2) ورَسُولُهُ" (¬3). وفي لَفْظٍ (¬4): "إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيْقُلِ: "التَّحِيَّاتُ للَّهِ"، ¬
وذكره (¬1)، وَفِيهِ: "فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ للَّهِ صَالحٍ في السَّمَاءَ وَالأَرْضِ" (¬2)، وَفِيهِ: "فَلْيَتَخَيَّرْ مِنَ المَسْأَلَةِ مَا شَاءَ" (¬3). ¬
* التعريف (¬1): عبدُ اللَّه بنُ مسعودِ: بنِ غافلِ -بالغين المعجمة والفاء- بنِ حبيبِ ابنِ شمخِ -بالشين والخاء المعجمتين بينهما ميم ساكنة، بنِ فارّ (¬2) -بتشديد الراء (¬3) -، بن مخزوم، الهذليُّ. [كان ابن مسعود قد حالف في الجاهلية عبد بن الحارث بن زهرة ابن قديم بن جاهلة] (¬4). يكنى: أبا (¬5) عبد الرحمن، وأمه أمُّ عَبْدٍ بنتُ عبدِ ودِّ بنِ سُوى (¬6) الهذلية. ¬
أسلم قديمًا بمكة، يروى (¬1) عنه: أنه قال: لو رأيتني سادسَ ستةٍ، ما على الأرض مسلمٌ غيرنا (¬2). هاجر الهجرتين؛ الحبشة، ثم المدينة. وشهد بدرًا، والمشاهدَ، وشهد بيعةَ الرضوان، وصلَّى إلى (¬3) القبلتين، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكرمه، ويُقربه، ولا يَحْجُبه. وكان سببُ إسلامه: أنه كان يرعى غنمًا لعُقبةَ بن أبي مُعيط، فمر به النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "يَا غُلَامُ! هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟ "، قال: نعم، ولكني مؤتَمَنٌ، قال (¬4): "فَهَلْ (¬5) مِنْ شَاةٍ لَا يَنْزُو عَلَيْهَا الفَحْلُ، "، فأتاه بها، فمسح ضَرْعَها، فنزل لبنٌ، فحلبه (¬6) في إناء، فشربَ، وسقى أبا بكر -رضي اللَّه عنه-، ثم قال للضَّرْع: "اقْلُصْ"، فقَلَصَ، فأسلمَ (¬7)، فضمَّه إليه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬
فكان يَلِجُ عليه، ويُلبسه نعليه إذا قام، فإذا جلسَ، أدخلهما (¬1) في ذراعه (¬2)، وكان كثيرَ الولوج عليه، وكان يمشي أمامه، ومعه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ تَرْفَعَ (¬3) الْحِجَابَ، وَأنْ تَسْمَعَ (¬4) سِوَادِي، حَتَّى أَنْهَاكَ" (¬5). والسِّواد -بكسر السين-: السِّرار، يقال: ساودتُ الرجلَ سِوادًا ومُساوَدَة: إذا سَارَرْتَهُ. قال أبو عبيد: ويجوز الضم بمنزلة جِوار وجُوار (¬6). قال ابن هبيرة: قوله: "وَأَنْ (¬7) تَسْمَعَ سِوَادِي"؛ أي: سِراري؛ لتعلم (¬8) أن في البيت رجلًا؛ لأنه قد يرفع الحجاب، وثمَّ نسوةٌ ليس معهنَّ رجل، واللَّه أعلم. ¬
وكان معروفًا في الصحابة بـ: صاحب السواك (¬1)، والسواد. وفي بعض الطرق: أنه أحدُ العشرة المبشرين بالجنة، وكان من أكابر فقهاء الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن بضع وستين سنة، وصلى عليه عثمان، وقيل: عَمَّار، وقيل: الزبير، وهو أشهرُ، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد آخى بينهما، فصلَّى عليه ليلًا، ودفنه بالبقيع؛ لإيصائه بذلك، ولم يعلم به عثمان، فعتَبَهُ على ذلك. وقيل: مات بالكوفة سنة ثلاث وثلاثين. رُوي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمان مئة حديث، وثمانية وأربعون حديثًا، اتفقا منها على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين. روى عنه: أنس بن مالك، وأبو رافع (¬2) مولى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبو موسى الأشعري، وعمرو بن حُرَيْث (¬3)، وطارقُ بنُ شهاب، والنزَّالُ ابنُ سَبْرَة، وخلقٌ سواهم، رضي اللَّه عنهم أجمعين (¬4). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: التشهد: تَفَعُّلٌ من تشهَّدَ؛ كالتعلُّم من تعلَّم، سُمِّي تشهدًا؛ لاشتماله على الشهادتين تغليبًا له على بقية أذكاره، لكونهما أشرفَ أذكاره. الثاني: الكَفُّ: مؤنثة، وأما قولُ الأعشى: [الطويل] أرَى رَجُلًا مِنْهُمْ أَسِيفًا كَأَنَّما ... يَضُمُّ إِلَى كَشْحَيْهِ (¬1) كَفًّا مُخَضَّبَا (¬2) فضرورةٌ، وقيل: إن مخضبًا صفةٌ لرجل، وهو بعيدٌ. الثالث: التحيات: جمعُ تحتية، وهي المُلك، وقيل: السلام، وقيل: العَظَمة، وقيل: البَقاء، فإذا حُمل على السلام، فيكون (¬3) التقدير: التحياتُ، التي يعظم بها للملوك بسلامهم (¬4) مستحقةٌ للَّه تعالى (¬5). قال ابن قتيبة: إنما جُمعت التحيات؛ لأن كل واحد من ملوكهم ¬
كان له تحيةٌ يحيا بها، فقيل لنا: قولوا: التحياتُ للَّهِ؛ أي: الألفاظ الدالة على الملك مستحقةٌ للَّه تعالى (¬1). ق (¬2): وسمعت شيخنا أبا إسحاق (¬3) بنَ جعفرٍ الفقيهَ يقول: إنما جُمعت التحيات؛ لتجمعَ معانيَ التحية؛ من الملك، والعظمة، والبقاء، وإذا حُمل على البقاء، فلا شك في اختصاص اللَّه تعالى به، وإذا حُمل على الملك أو (¬4) العظمة، فيكون معناه: الملكُ الحقيقيُّ التامُّ، والعظمةُ الكاملةُ للَّه تعالى، لأن ما سوى ملكه وعظمته تعالى فهو بالنسبة إلى ملكه وعظمته (¬5) عدمٌ، أو كالعدم. وأما الصلوات: فقال ابن المنذر، وآخرون من الشافعية: هي الصلوات الخمس. ق: ويكون التقدير: أنها واجبة للَّه تعالى، لا يجوز أن يُقصد بها غيرُه، أو يكون ذلك إخبارًا عن إخلاص الصلوات له، أي: إن صلاتنا مخلَصة له، لا لغيره. وقيل: كلُّ الصلوات، وقيل: الرحمة، أي: هو المتفضلُ بها، ¬
والمعطي لها؛ لأن الرحمةَ التامةَ للَّه تعالى، لا لغيره (¬1). ق: وقرر بعض المتكلمين في هذا فصلًا؛ بأن قال ما معناه (¬2): إن كلَّ مَنْ رحمَ أحدًا، فرحمتُه له بسبب ما حصل عليه من الرأفة، فهو برحمته دافعٌ لألم الرأفة عن نفسه؛ بخلاف رحمة اللَّه -تعالى-؛ فإنها إرادةُ إيصال النفع إلى العبد (¬3). وقيل: الأدعية، وقال الأزهري: العبادات (¬4). وأما الطيبات: فقال الأكثرون: معناه: الكلماتُ الطيبات، وهي ذكرُ اللَّه وما والاه، وقيل: الأعمال الصالحات، وهذَا أعمُّ من الأول؛ لاشتماله على الأقوال والأفعال والأوصاف، وطيبُ الأوصاف كونُها بصفة الكمال، وخلوصُها عن شوائب النقص. وقوله: "السلام عليك أيها النبيُّ ورحمةُ اللَّه" (¬5): قيل: معناه: التعوُّذُ باسم اللَّه الذي هو السلام، كما تقول: اللَّهُ معك؛ أي: اللَّه متولِّيك، وكفيلٌ بِكَ، وقيل: معناه: السلام والنجاة لك (¬6)؛ كما في قوله تعالى: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 91]، وقيل: الانقيادُ ¬
لك؛ كما في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وليس يخلو هذا من ضَعْف؛ لأنه لا يتعدَّى السلام لبعض هذه المعاني بكلمة (على) (¬1). فائدة: قال العُزَيري (¬2): السلام على أربعة أوجه: السلام: اللَّهُ تعالى؛ كقوله: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]. والسلام: السلامة؛ كقوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]؛ أي: دار السلامة، وهي الجنة. والسلام: التسليم، يقال: سَلَّمْتُ عليك سَلامًا؛ أي: تسليمًا. والسلام: شجر عظام، واحدتها سلامة، وأنشد الأخطل: [الطويل] فَرَابِيَةُ السَّكْرَانِ قَفْرٌ فَمَا بِهَا ... يُرَى (¬3) شَجَرٌ إِلَّا سَلامٌ وحَرْمَلُ (¬4) وقوله: "أيها النبي": الأصل يا أيها النبيُّ، فحذف حرف النداء، وهو لا يحذف إلا في أربعة مواضع: ¬
العَلَم: نحو قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]. والمضاف: نحو قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286]. ومن نحو (¬1) قولهم: مَنْ لا يزالُ محسنًا! أَحْسِنْ؛ أي: يا مَنْ لا يزال محسنًا. وأي؛ نحو: أيها النبيُّ، وأَيُّها الناسُ، وما أشبهَ ذلك (¬2). ويقال: النبيء، والنبيّ -بالهمز وتركه-، فمن همزه، أخذه من النبأ الذي هو الخبر؛ لأن النبيَّ مخبرٌ عن اللَّه تعالى. ومن لم يهمزه (¬3)، احتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على التخفيف. والثاني: أن يكون أخذه من النَّبْوَةِ، وهي (¬4) الارتفاعُ؛ لأن النبيَّ أرفعُ الخَلْقِ رتبةً عند اللَّه تعالى (¬5). والبركات: جمعُ بَرَكة، وهي النَّماء والزيادةُ من الخير. وقوله: "السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين". ق: لفظ عموم، وقد دل عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ، ¬
أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ (¬1) في السَّمَاءِ وَالأَرْضِ"، وقد كانوا يقولون: السلامُ (¬2) على اللَّه، السلام على فلان، حتى عُلِّموا هذا اللفظ. وفي قوله عليه السلام: "فإنه إذا قال ذلك، أصابت كلَّ عبد للَّهِ صالح (¬3) في السماء والأرض" دليلٌ على أن للعموم صيغة، وأن هذه الصيغة للعموم؛ كما هو مذهب الفقهاء؛ خلافًا لمن توقف في ذلك من الأصوليين، وهو مقطوعٌ به من لسان العرب، وتصرفاتِ ألفاظِ الكتابِ والسنَّةِ عندَنا، ومن تتبع ذلك، وجدَه، وإنما خُصَّ العبادُ الصالحون؛ لأنه كلام ثناء وتعظيم، انتهى (¬4). فائدة: لجمع عبد ثمان ألفاظ: عبادٌ، وعبيدٌ، وأَعْبُدُ، وعُبْدان، وعِبْدان، ومَعْبوداء، وعَباديد، وعبدَّى (¬5). ¬
[قلت: بل هي اثنا عشر؛ فمضاف إلى هذه الثمان عبدات وعبدات وأعابد ومعبدة وعِبَّدِى بمد وقصر] (¬1). وأما الصالحون: فقال جماعة من أهل اللغة، منهم: الزجَّاج، وصاحب "المطالع": العبدُ الصالح: هو القائم بحقوق (¬2) اللَّه، وحقوقِ العباد (¬3) (¬4) -أعاننا اللَّه على ذلك، ولَا قَصَّر بنا عنهم-، آمين بمنِّه وكرمه. قال الإمام أبو عبد اللَّه الترمذي الحكيم: فمن أراد أن يحتظيَ من هذا السلامِ الذي يسلِّمُ الخلقُ في صلاتهم، فليكنْ عبدًا صالحًا. قلت: وينبغي للمصلي أن يستحضر عند ذكر (¬5) ذلك جميعَ ¬
عباد اللَّه -تعالى- من الأنبياء، والملائكة، وجميع المؤمنين، وعندَ سلامه على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يكون كأنه مشاهدٌ له، حاضرٌ بين يديه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأما الشهادتان: فكلمتان جامعتان جعلهما اللَّه شهادةً (¬1) واحدةً، فقال (¬2): {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، ثم كتب على جبهة العرش: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، وجعلَهما من (¬3) مبتدأ اللوح، فهذه منك شهادة تواطىء مبتدأَ اللوح، وما على جبهة العرش، قاله الحكيم الترمذي رحمه اللَّه تعالى. وقوله: "فليتخَيَّرْ من المسألة ما شاء": فيه: دليلٌ على (¬4) جواز الدعاء، واستحبابه بما شاء الإنسان من أمر دنياه وآخرته، فرضًا كانت الصلاة أو نَفْلًا؛ إذ التشهدُ أعمُّ من أن يكون في إحداهما (¬5) وهو مذهبنا، ومذهبُ الجمهور. وذهب أبو حنيفة، وأحمدُ بنُ حنبل -رضي اللَّه عنهما-: إلى أنه لا يجوز الدعاءُ في الصلاة إلا بما وردَ في الكتاب والسنة؛ عملًا بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الآدَمِيِّينَ" (¬6)، ¬
واستثنى بعضُ الشافعية بعضَ صورٍ من الدعاء تصحُّ؛ كما لو قال: اللهمَّ ارزقْني زوجةً صفتُها كذا وكذا؛ وأخذَ يعدُّد أوصافَ أعضائِها (¬1). وقال ابنُ شعبانَ من أصحابنا؛ ما معناه: أنه (¬2) إن وَطَّأ كلامَه بِنِدَاء ليس بدعاء؛ مثل قوله: يا فلان! فعل اللَّه بك (¬3) كذا، فقد أبطلَ صلاتَه قبلَ الشروع في الدعاء؛ بخلاف ما إذا ابتدأ بالدعاء، ثم أتبعه النداء. قال الشيخ أبو محمد بنُ أبي زيد: ولم أعلمْ أحدًا (¬4) من أصحابنا قاله غيره (¬5). ع: وقوله -عليه الصلاة والسلام- للشيطان في الصلاة: "أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ، وَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ" (¬6)، وهو في الصلاة، دليلٌ على [جواز] الدعاء على غيره بصيغة (¬7) المخاطبة؛ كما كانت الاستعاذة هنا بصيغة المخاطبة؛ خلافًا لما ذهب إليه ابنُ شعبانَ من إفساد الصلاة بذلك (¬8). ¬
قلت: ولتعلمْ: أنه يُكره الدعاء عندنا في الصلاة في ستة مواضع: بعدَ الإحرام، وقبلَ القراءة، وفي الركوع، وفي الجلوس قبل التشهد، وفي أثناء الجلوس الأول -على المشهور-، وفي أثناء الفاتحة أو السورة. هكذا ذكرها صاحب "البيان والتقريب"، وقد تركتُ توجيهَها خشيةَ الإطالة. الرابع: ولتعلم: أنه قد اختُلف في الجلوس في التشهد الأول، وفيه نفسه. فأما الجلوس الأول، فقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في إحدى روايتيه: إنه سنة. وقال أحمد في الرواية الأخرى: هو (¬1) واجب. ومن أصحاب أبي حنيفة مَنْ وافق أحمدَ على الوجوب في هذه الرواية. و (¬2) أما التشهد فيه: فقال أحمد في إحدى روايتيه، وهي المشهورة: إنه واجب مع الذكر، يسقط (¬3) بالسهو. والرواية الأخرى: أنه سنة، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، هكذا نقله ابن هبيرة. قال: واتفقوا؛ يعني: الأئمةَ (¬4) الأربعةَ -رضي اللَّه عنهم-: على ¬
أنه لا يزيد في التشهد الأول على قوله: وأن محمدًا عبده (¬1) ورسوله، إلا الشافعيّ في الجديد من قوليه (¬2)، فإنه قال: ويصلي على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويُسن (¬3) ذلك له، قال ابن هبيرة: وهو الأولى عندي. قال: واتفقوا على أن الجلسة في آخر الصلاة فرض من فروض الصلاة، ثم اختلفوا في مقدارها، فقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد: الجلوس في مقدار التشهد فرض. والتحقيق من مذهب مالك: أن الجلوس بمقدار إيقاع السلام فيها هو الفرض عنده، وما عداه مسنون (¬4)، كذا ذكره العلماءُ من أصحابه بمذهبه، عبدُ الوهاب وغيره. ثم اختلفوا في التشهد فيها، هل هو فرض، أم (¬5) سنة؟ قال (¬6) أبو حنيفة: الجلسة هي الركن دون التشهد، فإنه سنة. وقال الشافعي، وأحمد في المشهور عنه: التشهد فيه ركن؛ كالجلوس، وقد روي عن أحمد رواية أخرى: أن التشهد الأخير سنة، والجلسة بمقداره هي الركن وحدها، والرواية الأولى هي المشهورة؛ كمذهب الشافعي. ¬
وقال مالك: التشهدان (¬1) الأولُ والثاني سنة. قال: واتفقوا على أن الاعتداد بكلِّ واحد من التشهد المرويِّ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من (¬2) طرق الصحابة الثلاثة: عمرَ بنِ الخطاب، وعبدِ اللَّه بن مسعود، وعبدِ اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهم-. ثم اختلفوا في الأولى: فاختار أبو حنيفة تشهدَ ابنِ مسعود، وهو عشرُ كلمات: "التَّحِيَّاتُ للَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ (¬3)، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ (¬4)، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ". واختار مالك تشهدَ عمرَ بنِ الخطاب، "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ، الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ (¬5)، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ" (¬6) (¬7). ¬
قلت: وجهُ اختيار مالك لهذا التشهد: أنه الذي علَّمَهُ عمرُ -رضي اللَّه عنه- الناسَ على المنبر، وأنه الواقعُ على رؤوس الصحابة، ولم ينكره أحدٌ، فكان كالإجماع. ق: إلا أنه يترجَّح عليه تشهدُ ابنِ مسعود، وابنِ عباس، من جهة (¬1) أن رفعَه إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مصرَّح به، ورفعُ تشهدِ عمرَ -رضي اللَّه عنه- بطريقٍ استدلالي (¬2). ثم قال ابن هبيرة: واختار الشافعي تشهدَ ابن عباس: "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، المُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ، الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" (¬3). قلت: ورجح؛ لأن (¬4) فيه زيادة: المباركات، وبأنه (¬5) أقربُ إلى لفظ القرآن، قال اللَّه تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]. ¬
ثم قال ابن هبيرة: وليس في "الصحيحين" إلا ما اختاره أبو حنيفة، وأحمد (¬1). قلت: وهذا ترجيحٌ كما تقدم. ح: أجمع الناسُ على الإسرار بالتشهد، واللَّه أعلم (¬2). الخامس: فيه: دليل على مسِّ المعلِّم بعضَ (¬3) أعضاء المتعلِّم عند التعليم (¬4)؛ تأنيسًا (¬5)، وتنبيهًا. وفيه: دليل على (¬6) عدم (¬7) وجوب الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصلاة؛ كما هو المشهور عندنا؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يعلِّمْه ابنَ مسعود، بل علَّمه التشهدَ، وأمره (¬8) عَقِبَهُ أن يتخير من المسألة ما شاء، ولم يعلِّمْه الصلاةَ، وموضعُ التعليم لا يؤخَّر فيه البيان، لا سيما الواجب، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 116 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي لَيْلَى، قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كمَا صلَّيْتَ عَلَى آلِ (¬1) إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ (¬2) عَلَى آلِ (¬3) إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجيدٌ" (¬4). ¬
* التعريف: عبدُ الرحمنِ بنُ أَبي ليلى: تابعيٌّ، واسمُ أبي ليلى: يسارٌ، ويقال (¬1): داودُ بنُ بلالِ بنِ أُحَيْحَةَ بنِ الجلاحِ بنِ الحرشِ (¬2) بنِ جَحْجَبَا بن كلفَة بنِ الأوس. كنيته: أبو عيسى، ولد لستٍّ بَقِينَ من خلافة عمر، وقال بعضهم: لست مَضَيْنَ، ومات سنة ثلاث وثمانين، غرق في دُجَيْل (¬3) معَ ابنِ الأشعث. سمع من الصحابة: صهيبًا، وكعبَ بنَ عجرة، وأُبيَّ بنَ كعب، ¬
والبراءَ بنَ عازب، وزيدَ بنِ أرقمَ، وقيسَ بنَ سعدٍ، وسهلَ بنَ حُنيفٍ، وأبا (¬1) أيوبَ الأنصاريَّ، وعليَّ بنَ أبي طالب، وأنسَ بنَ مالك -رضي اللَّه عنهم-. روى عنه: ثابتٌ البُنانيُّ، والحكمُ بنُ عُيينةَ، وهلالُ بنُ أبي حميدٍ، وعمرُو (¬2) بن مرةَ، ومجاهدٌ، وأبو قِلابةَ، وعبدُ الملك بنُ عمير، ويزيدُ بنُ أبي زياد. أخرج حديثه في "الصحيحين" -رضي اللَّه عنه- (¬3). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الهدية: واحدةُ الهدايا، وهي اسم، والمصدرُ إهداءٌ، يقال: أهديتُ له، وإليه، والِمْهدى -بكسر الميم- ما يُهدى (¬4) فيه؛ كالطبق ونحوه، ولا يسمى الطبق مِهْدَى إلا وفيه ما يُهدى، والِمْهداء -بالمد-: الذي عادتُه الهدية (¬5). ¬
الثاني (¬1): يجوز في (إن) الكسرُ على الاستئناف، والفتحُ على البدل من (هديةً)، والرفعُ على إضمار مبتدأ تقديره: وهي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. الثالث: قوله: "فقلنا: يا رسولَ اللَّه! ": الظاهر أنه (¬2): سؤالُ بعضهم، لا كلِّهم، ففيه التعبير بالكلِّ عن البعض -كما تقدم-، وهو أحدُ أنواع المجاز، ويبعد جدًا انفرادُ كعب بن عُجرة، وأنه أتى بالنون التي للجمع تعظيمًا لنفسه، وإنْ كان عظيما، بل لا يجوز ذلك؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قولوا"، ولو كان واحدًا، لم يقل له: "قولوا"؛ إِذ ذلك لم يُعهد من كلامه -عليه الصلاة والسلام- في غير السلام (¬3). الرابع: فيه: الابتداء بالتعليم من غير طلب المتعلِّم لذلك، كما هو ظاهر الحديث. الخامس: قوله: "فكيف نصلي عليك": ع: حكمُ مَنْ خوطب بأمر محتملٍ لوجهين، أو مجمَل لا يُفهم مراده، أو عامٍّ يحتمل الخصوصَ: أن يسألَ ويبحثَ إذا أمكنه ذلك، واتسع له الوقتُ للسؤال؛ إذ لفظ الصلاة الواردة في القرآن بقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] محتمل (¬4) لأقسام معاني لفظ الصلاة؛ من الرحمة، والدعاء، والثناء. ¬
وقد قيل: صلاة اللَّه عليه: ثناؤه عليه (¬1) عندَ الملائكة، ومن الملائكة دعاء. وقيل: هي من اللَّه رحمة، ومن الملائكة رقَّةٌ، ودعاءٌ بالرحمة (¬2). وقيل: هي من اللَّه لغير النبي رحمة، وللنبي تشريفٌ، وزيادةُ تكرِمة. وقيل: هي من اللَّه وملائكته تبريك، ومعنى يصلون: يُباركون. فيحتمل أن الصحابة سألوا عن المراد بالصلاة؛ لاشتراك هذه اللفظة، وإلى هذا ذهب بعضُ المشايخ في معنى سؤالهم في هذا الحديث. وقد اختلف الأصوليون في الألفاظ المشتركة إذا وردت مطلقة: فقيل: تُحمل على عموم مُقتضاها من جميع معانيها، ما لم يمنع مانع. وقيل: تُحمل على الحقيقة دون ما تُجوِّز به، وإليه نحا القاضي أبو بكر (¬3). وذهب بعض المشايخ: إلى أن سؤالهم عن صفة الصلاة، لا عن جنسها؛ لأنهم لم يؤمروا بالرحمة، ولا هي لهم، وأن ظاهرَ أمرهم؛ أمرُهم بالدعاء، وإليه نحا الباجي (¬4). ¬
ع: وهو أظهرُ في اللفظ، وإن كانت الصلاة -كما قدمنا- مشتركةَ اللفظ، والخلافُ (¬1) في معنى الصلاة من اللَّه، ومن الملائكة موجود، ويعضده السؤال فيه بكيف التي تقتضي الصفةَ، لا الجنس الذي يسأل عنه بـ (ما)، وسؤالهم هنا (¬2) عن الصلاة يُحتمل أن يراد به: الصلاةُ في غير الصلاة، أو في الصلاة، وهو الأظهر؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "كَمَا عَلِمْتُمْ"؛ يعني: في الحديث الآخر (¬3). قلت: والاحتمالُ عندي في السلام كالاحتمال في الصلاة، واللَّه أعلم. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على آل محمَّد": اعلم: أنه قد اختلف العلماء في (¬4) الآل، من هُم؟ فقيل أَتباعُه عليه الصلاة والسلام. وقيل: أمته؛ كما قيل: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. ح: وهو أظهر، وهو (¬5) اختيار الأزهري وغيرِه من المحققين: ¬
أنهم جميعُ أمته (¬1). وقيل: آله: بيتُهُ (¬2) وذُرِّيته. وقيل: أتباعُه من رهطِه وعشيرته. وقيل: آلُ الرجل: نفسه. ع: ولهذا كان الحسن يقول: اللهم صلِّ على آل محمد، وكذلك في الحديث: "اللهمَّ صَلِّ على آلِ" (¬3) إبراهيمَ"، ويروى: "على إبراهيم" (¬4). السابع: اختُلف في أصل (¬5) (آل) أهوَ (أهل) أم (أول)؟ والصحيحُ الأول، بدليل رجوع الهاء في تصغيره، قالوا: أُهَيْل، ثم أُبدل من الهاء همزة، ثم أُبدل من الهمزة ألف، فصار آلًا. ومن قال أصله: أَوَل، قال: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا (¬6)، وقد قيل: في تصغيره أُوَيْل، فأُبدلت الألف واوًا (¬7)، ¬
ولم ترد (¬1) إلى الأصل؛ كما لم يردوا عيدًا في التصغير إلى أصله؛ إذ قالوا (¬2): عُيَيْد، ولم يقولوا: عُوَيْد، وهو (¬3) من عادَ يعودُ؛ لأنه من عَوْدِ المسرات، وكذلك يقولُ (¬4) من قال: أصلُه أَوْل؛ كباب. فإن قلت: ما الموجبُ لقلب الهاء همزةً عندَ من يقول: أصلُه أَهْل، وهم يفرُّون من اجتماع الهمزتين، بل من الواحدة، حتى خففوا همزة فأس، ورأس بإبدالها ألفًا، وهمزةَ أَرَاقَ (¬5)، وإيَّاكَ، بإبدالها هاء (¬6)، وهمزة أُقِّتَتْ بإبدالها واوًا؟ قلت: الجواب من وجهين: أحدهما: أنه لما (¬7) كَثُر إبدالُ الهاء من الهمزة؛ كما تقدم، أرادوا أن يعكسوا معارضة بين الهمزة والهاء؛ كما فعلوا ذلك في الياء والواو، وبيان ذلك: أنه كثيرًا ما تُبدل الواو (¬8) في (¬9) نحو: سَيِّد، ومَيِّت، وطَيٍّ، وَليٍّ، وعِياد، وقِيام، وما أشبهَ ذلك، ثم إنهم قلبوا الياء واوًا في نحو: ¬
مُوسِر، ومُوقِن؛ إذ هو من اليَسار واليَقين، مع إمكان قولهم: مِيْسِر، ومِيْقِن -بكسر الميم-، وكذلك فعلوا في الطوبى، والكوسى، وهو من الكَيْس (¬1)، وما أَطْيَبَه، وكذلك التَّقْوَى والبَقْوَى، وهو من تقيت، وبقيت، لكنهم أرادوا المناسبة والمعارضة (¬2) -كما تقدم-، وهذا بَيِّن. والثاني: أنه يحتمل أن يكون الإبدال لأجل التفرقة بين أولي الخطر والشأن وغيرهم؛ إذ كان لا يقال: آل الإسكاف، ولا آل البياع، بل إنما يستعمل في مثل هذا أَهْلٌ خاصة، فأبدلوا من الهاء همزة ليبدلوها ألفًا؛ إذ كانت لا تُبدل من الهاء قياسًا، وإن كان الزمخشري قد (¬3) ذهب إليه، فجعل الألفَ مبدلةً من الهاء فقط، ولم يقل: إنها مبدلة من الهمزة المبدلة من الهاء؛ كما قاله الجمهور (¬4)، وفيه نظر؛ إذ لا نظيرَ لما (¬5) ذكر من إبدال الهاء ألفًا، فيتأنس به، وأما قلبُ هاء (ماء) (¬6) همزة، فلأنه لما اجتمع فيه (¬7) خفيفان (¬8)؛ وهما الألف والهاء، أبدلوا الهاء همزة؛ لكونها قوية مجهورة. ¬
فإن قلتَ: لِم لم يفرقوا بينهما بالهمزة؛ أعني: أن يقولوا في العظيم (¬1) (أَأْل)، وفي الوضيع: أهل؟ قلت: لا يجوز، لاجتماع همزتين، وهو مرفوض في كلامهم، ألا تراهم أبدلوا همزة آدمَ وآخَر وأشباههما وجوبًا؟ فإن قلتَ: لم اختص (آل) بالعظيم (¬2) دون (أَهْل)، وما المناسبة في ذلك؟ قلت: وجهُ الاختصاص والمناسبة: أن اللفظ قد يكون له حصة من (¬3) المعنى، ولمَّا كانت الألف ممتدةً ينبسط اللسانُ بها ويرتفع، ناسبت الاستعلاءَ قَدْرًا، والارتفاعَ منزلةً، بخلاف الهاء؛ فإنها مهموسة، مستفلة (¬4)، ضعيفة، فناسب (¬5) الانحطاط قَدْرًا، والاستفال منزلة، فاعرفه، فقلَّما تجده. فإن قلت: فقد جاء: (آل فرعون)، وليس بعظيم، بل رذيل؟ قلت: يحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أنه جاء على ما عَهِدوا (¬6) من تعظيمه. ¬
والثاني: أن يكون على طريق التهكم؛ كما قال تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] , وأشباه ذلك كثيرة، واللَّه أعلم. الثامن: اختُلف في حكم الصلاة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ثلاثة مذاهب: فالجمهور (¬1): على وجوبها مرةً في العمر؛ كالشهادتين، واستحبابِها فيما عدا ذلك، ويتأكد الاستحبابُ في التشهد الأخير من الصلاة، وهو المشهور من مذهبنا. وذهب الشافعي: إلى وجوبها في التشهد الأخير. وظاهر (¬2) كلام أحمد: كمذهب الشافعي، على ما نقله ابنُ هبيرة في إجماع الأربعة، وتابعه إسحاق، إلا أنه فرق بين تركها عمدًا، فلا تصح الصلاة، أو سهوًا، فتصح (¬3). قال الخطابي: ولا أعلم للشافعي في هذا قدوة (¬4). قلت: والظاهر -واللَّه أعلم (¬5) - أن الشعبي تقدَّمَه بذلك، هذا قول. وقيل: تجب كلَّما ذكر -صلى اللَّه عليه وسلم-، واختاره الطحاويُّ من الحنفية، والحليميُّ من الشافعية. ¬
ودليل الجمهور: الأحاديثُ الصحيحة المتفق على صحتها؛ كحديث ابن مسعود المتقدم في التشهد (¬1)، وأنه لم يعلمه فيه الصلاةَ عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما تقرر-، وحديثِ المسيء صلاتَه -أيضًا- كذلك. ق: وليس في هذا الحديث تنصيص على أن هذا الأمر مخصوص بالصلاة، يعني قوله: "اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ، وعلى آلِ محمَّدٍ". قال (¬2): وقد أكثر الاستدلال على وجوبه في الصلاة من المتفقهة بأن الصلاة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- واجبة بالإجماع، ولا تجب في غير الصلاة بالإجماع، فتعين أن تجب في الصلاة. وهو ضعيف جدًا؛ لأن قوله: لا تجب في غير (¬3) الصلاة، إن أراد به: لا تجب في غير الصلاة عينًا، فهو صحيح، لكنه لا يلزم منه أن تجب في الصلاة عينا (¬4)، لجواز أن يكون الواجب مطلقَ الصلاة، فلا يجب واحدٌ من المعنيين -أعني: خارجَ الصلاة، وداخل الصلاة-، وإن أراد (¬5) أعم من ذلك، وهو الوجوب المطلق (¬6)، فممنوع، انتهى (¬7). ¬
قال ابن عطية رحمه اللَّه تعالى: والصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كل حال من الواجبات؛ وجوبَ السنن المؤكَّدة التي لا يسع تركُها, ولا يغفلها إلا من لا خيرَ فيه، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ" (¬1). قلت: وقد جاء في بعض الأحاديث: أن من جملة الملائكة التي (¬2) على العبد، مَلَكَيْن (¬3) لا يكتبان إلا الصلاةَ على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولو لم يكن في ذلك إلا ما جاء في "الصحيح": "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً (¬4)، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا" (¬5)، لكانَ كافيًا في ذلك، فكيف ولا يكاد أحدٌ يحصرُ ما جاء في فضل الصلاة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشَرَّف، وكَرَّم (¬6)؟! التاسع: اختلف الشافعية في الصلاة على الآل على (¬7) وجهين: ¬
أصحُّهما: عدمُ الوجوب، واللَّه أعلم (¬1). العاشر: في إبراهيم خمس لغات: إبراهيم، وإبراهام، وإبراهُم -بضم الهاء وفتحها وكسرها من غير ياء-، وجمعه: بَراهِمُ، وأَبارِهُ (¬2)، ويجوز فيه الواو والنون لاجتماع الشروط فيه. قالوا: ومعناه أبٌ رحيمٌ (¬3) (¬4). الحادي عشر: قوله: "حميد مجيد": قال أهل اللغة والمعاني، والمفسرون: الحميد: بمعنى المحمود، وهو الذي تُحمد أفعالُه. والمجيد (¬5): الماجد (¬6)، وهو من كَمُل في الشرف، والكرمِ، والصفاتِ المحمودة (¬7). الثاني عشر: معنى البركة هنا: الزيادة من الخير والكرامة، والتكثير منها، وتكون بمعنى: الثبات على ذلك، من قولهم: بَرَكَت الإبلُ، وتكون البركة هنا بمعنى: التطهير والتزكية عن المعايب، وكما قال ¬
تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] , وهو أحد التأويلات في قولهم: تبارك اللَّه، قاله "ع" (¬1). (¬2) ثم اختلف أرباب المعاني في فائدة قوله: "كما صلَّيتَ على إبراهيم، وآلِ (¬3) إبراهيم" على تأويلات كثيرة، أظهرها: أن نبينا -عليه الصلاة والسلام- سأل ذلك لنفسه وأهلِ بيته؛ لتتم (¬4) النعمةُ عليهم والبركة؛ كما أتمها على إبراهيم وآله. وقيل: بل سأل ذلك لأمته؛ ليثابوا على ذلك. وقيل: بل ليبقى له ذلك إلى يوم الدين، ويجعل لديه لسان صدق في الآخِرين؛ كما جعله (¬5) لإبراهيم. وقيل: بل سأل ذلك له ولأمته. وقيل: كان ذلك قبل أن يُعَرَّف -عليه الصلاة والسلام- بأنه (¬6) أفضلُ ولد آدم، ويطلع (¬7) على علوِّ منزلته. ¬
وقيل: بل سأل أن يصلِّيَ عليه صلاة يتخذه بها خليلًا؛ كما اتخذ إبراهيمَ لخيلًا، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في "الصحيح" (¬1) آخر أمره: "لَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلَيِلُ الرَّحْمَنِ" (¬2)، وقد جاء أنه حَبِيبُ الرَّحْمَنِ، وقال -أيضًا-: "أَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ" ذكره الترمذي (¬3)، فهو الخليل، والحبيب (¬4). وقد اختلف العلماء: أيُّهما أشرفُ، أو هما سواء، أو بمعنى: وفضل أكثرهم رتبة المحبة، وقد بسطنا الكلامَ على (¬5) هذا الفصل في كتاب (¬6) "الشفا" بحول اللَّه تعالى (¬7). قلت: وقد اختلفوا: هل يجوز الدعاءُ للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالرحمة، أم لا؟ وكأن الأكثرين (¬8) على المنع، وفيه نظر؛ لأنه قد ورد في بعض الأحاديث: "وَارْحَمْ مُحَمَّدًا" (¬9). ¬
الثالث عشر: لم يزل الناس (¬1) يوردون في هذا الحديث السؤالَ المشهور، وهو أن المشبَّه به أعلى (¬2) من المشبَّه، ونبينا -عليه الصلاة والسلام- أفضلُ الأنبياء والمرسلين إجماعًا، فكيف تكون الصلاةُ عليه مشبَّهَةَ بالصلاة على إبراهيم عليه السلام؟ وقد اختلفت الأجوبةُ في ذلك، فقيل: إنما وقع الشبه لأصل (¬3) الصلاة بأصل الصلاة، لا القَدْرِ بالقدر؛ كما كان ذلك في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] وأن المراد: أصلُ الصيام (¬4)، لا عينهُ ووقتهُ، واستضعفَ هذا بعضُ المعاصرين. وقيل: التشبيه وقع في الصلاة على الآل، لا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكأَن قولَنا: "اللهم صلِّ على محمدٍ" مقطوعٌ من التشبيه (¬5)، وقوله: "وعلى آل محمدٍ" متصلٌ بقوله: "كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم"، وفي هذا من السؤال أن غير الأنبياء لا يمكن أن نساويهم، فكيف نطلبُ وقوعَ ما لا يمكن وقوعه؟ ¬
وقيل: إن المشبَّه (¬1) الصلاةُ على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وآله (¬2)، بالصلاة على إبراهيم -عليه السلام وآله-؛ أي: المجموع بالمجموع (¬3)، ومعظمُ الأنبياء -عليهم السلام - هم آلُ إبراهيم، فإذا تقابلت الجملة بالجملة، وتعذَّرَ أن يكون لآل النَّبي -عليه الصلاة والسلام- مثلُ ما لآل إبراهيم الذين هم الأنبياء، كان ما توفر من ذلك حاصلًا للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيكون زائدًا على الحاصل لإبراهيم، والذي يحصل من هذا (¬4) هو آثار الرحمة والرضوان (¬5)، فمن كانت في حقه أكثر، كان أفضل. وقيل: لا يلزم من مجرد السؤال الصلاةَ مساويةً لإبراهيم عليه السلام المساواةُ، أو عدم الرجحان (¬6) عند السؤال، وإنما يلزم ذلك لو لم يكن الثابتُ للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7) صلاة مساوية لصلاة إبراهيم عليه السلام، أو زائدة عليها، أما إذا كان كذلك، فالمسؤول من الصلاة إذن يُضَمُّ (¬8) إلى الثابتِ المتقررِ للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، كان المجموع زائدًا في المقدار على ¬
القدر (¬1) المسؤول، وصار هذا في المثال؛ كما إذا ملك إنسان (¬2) أربعةَ آلاف درهم -مثلًا (¬3) -، وملك آخرُ ألفين، فسألنا أن نعطي لصاحب أربعة الآلاف مثلَ ما لذلك الآخر، وهو ألفان، فإذا حصل ذلك، انضمت الألفان إلى أربعة (¬4) الآلاف، فالمجموع ستة آلاف، وهي زائدة على المسؤول الذي هو ألفان (¬5). وقد قيل (¬6) غيرُ ذلك، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 117 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُو في صلاته (¬1) يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيح الدَّجَّالِ" (¬2). وفي لَفْظٍ لمسلم (¬3): "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدَكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبعٍ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ"، ثمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ (¬4). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قد تكرر أن (¬1) (كان) هذه تدل على المداومة، والتكرار، وظاهرُ هذه الرواية الأولى: عمومُ الدعاء بذلك؛ أعني: في الصلاة وغيرها، بخلاف رواية مسلم الثانية. ¬
الثاني: القَبْر: واحدُ القبور، والمقبَرة والمقبُرة (¬1) -بفتح الباء وضمها-: واحدةُ المقابر، وقد جاء في الشعر: المَقْبَر (¬2)، قال: لِكُلِّ أُنَاسٍ (¬3) مَقْبَرٌ بِفِنَائِهِمْ ... فَهُمْ يَنْقُصُونَ وَالْقُبُورُ تَزِيدُ وقَبَرْتُ الميتَ، أَقْبُرُهُ وأَقْبِرُهُ -بضم الباء وكسرها- قَبْرًا؛ أي: دفنتُه، وأَقْبرتُه: أمرتُ (¬4) بأن يُقبر. وقال ابن السِّكِّيت: أقبرته (¬5): صَيَّرت له قبرًا يُدفن فيه، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]؛ أي: جعله ممن (¬6) يُقبر، ولم يجعله ممن يُلقى للكلاب، وكأنَّ القبرَ مما أُكْرِم به بنو آدم (¬7). الثالث: الحديث مصرِّح بثبوت عذاب القبر؛ كما هو مذهب أهل السنة والحق، والإيمانُ به واجب، وقد أشبعنا (¬8) القولَ في ذلك في "شرح (¬9) رسالة ابن أبي زيد"، أعان اللَّه على إكماله. ¬
الرابع (¬1): الفتنة: قال أهل اللغة: هي الامتحان والاختبار. ع: لكن عرفها في اختبار كشف عما يكره، يقال (¬2): فَتَنْتُ الذهبَ: إذا أدخلتَهُ النارَ لتختبرَه، وتنظرَ ما جودته، ودينارٌ مفتون، قال اللَّه -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10]، (¬3) ويسمى الصائغ: الفتان، وكذلك الشيطان. وقال الخليل (¬4): الفَتْن: الإحراق، قال اللَّه تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13]. قلت: وكلاهما متقارب، أو متساوٍ، ويقال: افْتُتِنَ (¬5) الرجلُ، وفُتِن، فهو مَفْتون: إذا أصابته فتنةٌ، فذهب (¬6) مالُه، أو عقلُه. وكذلك إذا اختبر، قال اللَّه تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]. والفُتون أيضا: الافتتان، فيتعدَّى (¬7)، ولا يتعدَّى، وأنكر الأصمعي أَفْتَنَتْ، بالألف. وقال الفراء: أهل الحجاز يقولون: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] , ¬
وأهل نجد يقولون: (بِمُفْتِنين) من أَفْتَنْتُ، واللَّه أعلم (¬1). الخامس (¬2): ق (¬3): وفتنةُ المحيا: ما يتعرض له الإنسان مدةَ حياته من الافتتان بالدنيا، والشهوات، والجهالات، وأشدُّها وأعظمُها (¬4) -والعياذ بالله تعالى- أمرُ الخاتمة عندَ الموت. وفتنة الممات؛ يجوز أن يراد بها: الفتنة عند الموت، أضيفت إلى الموت؛ لقربها منه، وتكون فتنة المحيا على هذا ما يقع قبل ذلك في مدة حياة الإنسان، وتصرفه في الدنيا (¬5)، فإنَّ ما قارب الشيء يُعطى حكمَه، فحالةُ الموت تشبَّه بالموت (¬6)، ولا تُعَدُّ من الدنيا. ويجوز أن يراد بفتنة الممات: فتنة القبر؛ كما صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في فتنة القبر؛ كمثل، أو أعظم من فتنة الدجال، ولا يكون على (¬7) هذا الوجه (¬8) متكررًا مع قوله: "مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"؛ لأن العذابَ مرتَّبٌ على الفتنة، والسببُ غيرُ المسبَّب، ولا يقال: إن المقصود زوالُ عذاب القبر؛ ¬
لأن الفتنة نفسَها أمر عظيم، وهو شديدٌ يُستعاذ باللَّه من شره. قال (¬1): وقد (¬2) ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور؛ حيث أمرنا بها في كل صلاة، وهي حقيقة بذلك؛ لِعِظَمِ الأمر فيها، وشدة البلاء في وقوعها؛ ولأن أكثرها أو كلَّها أمورٌ إيمانية غيبية، فتكرُّرُها على الأنفس يجعلها مَلَكَة لها (¬3). السادس (¬4): هذا الدعاء مستحب عند جمهور العلماء، غيرُ واجب. وذهب طاوسٌ وأهلُ الظاهر إلى وجوبه. وقع في "مسلم": أن طاوسًا أمر ابنه بإعادة الصلاة حين لم يدعُ بهذا الدعاء فيها، و (¬5) كأنه حمل الأمرَ بذلك على الوجوب. ح: ولعل طاوسًا أراد تأديبَ ابنه، وتأكيدَ هذا الدعاء عنده، لا أنه يعتقد وجوبَه، واللَّه أعلم (¬6). السابع (¬7): في حديثِ مسلم (¬8): "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ (¬9) "، ¬
وهو أعمُّ من أن يكون في التشهد الأول أو الآخر، لكن يفسره الحديث الآخر في مسلم أيضًا: "إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ، فَلْيتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ" (¬1)، ففيه التصريحُ باستحبابه في التشهد الأخير، والإشارةُ إلى أنه لا يستحب في الأول، وهذا الحكم؛ لأن الأولَ قُصد فيه التخفيف، وقد تقدم أنه من المواضع الستة التي يُكره فيها الدعاءُ عندنا. الثامن (¬2): ع: ودعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واستعاذتُه من هذه الأمور التي عوفي منها وعُصم؛ إنما فعله ليلتزم خوف اللَّه -تعالى- وإعظامه، ولإظهاره السنة -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 118 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، عنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ في صَلَاتِي، قَالَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الظلم في اللغة: وضعُ الشيء في غير موضعه (¬1)، ومنه قولهم: مَنْ أَشْبَهَ أَباه، فَما ظَلَمَ؛ أي: لم يضعِ الشبهَ في غير موضعِه (¬2)، ومنه قولهم (¬3): المظلومَةُ الجَلَدُ: وهي الأرضُ التي لم يأتها المطر في وقته (¬4). والظُّلم في أحكام الشرع على مراتب، أعلاها: الشرك، ثم ظلم المعاصي، وهي على مراتب (¬5). ففي الحديث: دليل على أن الإنسان لا يَعْرى من ذنب وتقصير؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام (¬6) -، "وَلَنْ (¬7) تُحْصُوا" (¬8)، "كُلُّ ابْنِ آدَمَ ¬
خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ" (¬1)، ولو كان ثَمَّ حالةٌ تعرى عن الظلم أو التقصير، لما طابق هذا الإخبارُ الواقعَ، ولم يؤمر به، ثم إن التقصير في طلب معالي الأمور، والتوسل بطاعة اللَّه وتقواه إلى رفيع الدرجات عند اللَّه تعالى، لا يبعد أن يصدُق عليه اسمُ الظلم بالنسبة لما يقابله من المبالغة والتشمير في ذلك، وباللَّه التوفيق (¬2). الثاني: النفسُ تذكر وتؤنث، قال اللَّه تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} [الزمر: 56] فهذا دليل التأنيث، وقوله (¬3) تعالى بعدُ: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} [الزمر: 59] دليل (¬4) التذكير. والنفس: قيل: هي الروح، وهي من المسائل المشهور الخلاف الشديد فيها (¬5)؛ أعني: في أن النفس هي الروح، أو (¬6) لا؟ حتى سمعتُ مَنْ يقول: إن فيها للعلماء ألفَ قول، وليس المراد هنا -واللَّه أعلم- بالنفس (¬7)، إلا الذاتُ، فإذا قيل (¬8): ظلمتُ نفسي؛ فكأنه قال: ¬
ظلمتُ إياي؛ أي: وضعت المعاصي التي هي سبب العقوبة موضعَ الطاعات التي هي سبب النجاةِ والفوزِ بالنعيم المقيم؛ لما تقدَّم من أن الظلم: وضعُ الشيء في غير موضعه، واللَّه أعلم. الثالث: قوله: (ولا يغفر الذنوب إلا أنت): المغفرةُ، والغَفْر، والغُفران (¬1) معناها: السَّتْر والتغطية، غفرتُ المتاعَ: إذا جعلته في الوعاء (¬2)، ومنه سمي المِغْفَرُ مِغْفَرًا؛ لتغطيتِهِ الرأسَ، وسترِه إياهُ، ويُقَالُ: اغفر ثوبَكَ، فهو أسترُ للوسخ. ونقل ابن الجوزي عن بعض أهل اللغة: أن (¬3) المَغْفِرَة مأخوذة (¬4) من الغفر، وهو نبتٌ تُداوى (¬5) به الجراحُ، إذا ذُرَّ عليها، دملَها وأبرأها، وهو غريب. يقال: استغفرَ اللَّهَ لذنبه، ومن ذنبِه، بمعنى (¬6)، فغفر له ذنبَه مغفرةً، وغَفْرًا، وغُفرانًا، واغتفر ذنبه مثلُه (¬7)، فهو غَفور، والجمع غُفُر، ومنه قوله: [الرمل] ¬
غُفُرٌ ذَنْبَهُمُ غَيْرُ فُجُرْ (¬1) والذُّنوب: جمع ذنب، وهو (¬2) الجُرْم، مثل فَلْس وفُلُوس، فهو اسم (¬3)، والمصدرُ إذناب، ولا يكاد يستعمل. فقوله: "لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ" إقرارٌ بوحدانيته تعالى، واستجلابٌ لمغفرته (¬4)؛ كما قال تعالى: "عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ (¬5)، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ" (¬6)، وهو (¬7) كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] , فأثنى على المستغفِرين من ذنوبهم، وفي ضمن ثنائه -تعالى- عليهم بالاستغفار أمرٌ به، فالأمرُ (¬8) في الآية (¬9) بالتلويح، ¬
وفي الحديث بالتصريح؛ لأنه قد قيل: إنَّ (¬1) كل شيء أثنى اللَّهُ -تعالى- على فاعله، فهو آمِرٌ به من جهة المعنى، وكل شيء ذمَّ اللَّهُ -تعالى- فاعله، فهو ناهٍ عنه من جهة المعنى، فليعلمْ ذلك. وقوله: "مغفرة من عندك"، وإن كانت المغفرةُ لا تكون إلا من عنده. قال ق: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون إشارةً إلى التوحيد المذكور؛ كأنه (¬2) قال: لا يفعلُ هذا إلا أنت، فافعلْه أنت. والثاني: وهو الأحسن (¬3): أن يكون إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها من عند اللَّه -تعالى-، لا يقتضيها سببٌ من (¬4) العبد، وهذا تبرؤ من الأسباب، والإدلال (¬5) والاعتقاد في كونها موجبة للثواب وجوبًا عقليًا (¬6). وقال ابن الجوزي: المعنى (¬7): هَبْ لي المغفرةَ تفضلًا، وإن لم ¬
أكنْ أهلًا لها بعملي (¬1). وهو قريب مما قبله، أو هو هو. وقوله: "فارحمني" (¬2): قيل: الرحمةُ من اللَّه -تعالى- عند المنزِّهين من الأصوليين عن التشبيه: إما نفسُ الأفعال يوصلُها اللَّه -تعالى- من الإنعام والإفضال إلى العبد. وإما إرادة (¬3) إيصال تلك الأفعال إلى العبد. فعلى الأول: هي من صفات الفعل. وعلى الثاني: هي من صفات الذات (¬4). فائدة: أخذ من قوله -تعالى-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] الآية: أن اللَّه -تعالى- أرحمُ بالعبد من أمه وأبيه، وبيانه: أن ¬
العادة: أن الإنسان يوصي على ولده غيرَه، واللَّه تعالى قد أوصى آباءنا علينا. وأما أخذ ذلك من (¬1) قوله -تعالى-: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64] , فظاهر، فإن الوالدين من الراحمين (¬2)، وقد قال: إنه أرحم الراحمين، وباللَّه التوفيق. الرابع: قوله: "إنك أنت الغفور الرحيم" (إن) هنا للتعليل، و (أنت) يجوز أن يكون (¬3) توكيدًا للكاف، ويجوز أن يكون (¬4) فصلًا، والصفتان للمبالغة، وقعتا ختمًا للباب على جهة المقابلة لما قبلهما (¬5)، فالغفورُ (¬6) مقابلٌ لقوله: "اغفرْ لي"، والرحيم مقابلٌ لقوله: "ارحَمْني"، وقد وقعت المقابلة هنا للأول بالأول، والثاني بالثاني، وقد تقع على خلاف ذلك مراعاة للقرب، فيجعل (¬7) الأول للأخير، وذلك على حسب المقاصد، وطلب التفنُّن في الكلام، وهو أن يذكر شيئًا، ثم يقصد (¬8) ¬
تخصيصه لبعيده (¬1) مع ذلك المخصص (¬2)؛ نحو قوله (¬3) تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] ثم قال (¬4): {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} [هود: 106]، فبدأ بالأول لتصدُّره، وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] الآية، فبدأ بالثاني قبلَ حكم الأول، ووجهُه أنه لو بُدىء (¬5) بحكم الأول، لزم منه أن ينفصل الحكمُ عن كل واحد منهما. ق: ومما يُحتاج إليه في علم التفسير معرفةُ مناسبة مقاطع الآي لما قبلَها (¬6). وهو كما قال رحمه اللَّه تعالى (¬7). الخامس: ق: هذا الحديث يقتضي الأمرَ بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين لمحلِّه، ولو فعل فيها حيث لا يُكره الدعاء في الأماكن، لجازَ، ولعل الأَوْلى أن يكون في أحد موطِنَين: إما السجود، وإما بعدَ التشهد؛ فإنهما الموضعان اللذان أُمر فيهما بالدعاء، قال -عليه الصلاة ¬
والسلام -: "وَأَمَّا (¬1) السُّجُودُ، فَاجْتَهِدُوا فِيهِ بِالدُّعَاءِ" (¬2)، وقال في التشهد: "وَلْيتَخَيَّرْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ المَسْأَلَةِ مَا شَاءَ" (¬3)، ولعله يترجَّح كونُه فيما بعدَ التشهد؛ لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل (¬4). قلت: وفي هذا الترجيح نظر، والأَوْلى الجمعُ بينهما في المحلين المذكورين، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 119 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةً (¬1) بَعْدَ أَنْ أنزِلَتْ عَلَيْهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" (¬2). وَفي لَفْظٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: (إذا) منصوب بـ (سَبِّح) وهو لما يُستقبل، فالإعلامُ بذلك قبلَ كونه من أعلام النبوة، رُوي أنها نزلت في أيام التشريق في حجة الوداع. والفرقُ بين النَّصْر والفَتْح: هو أن النصر: الإعانةُ والإظهار على العدو، ومنه نصرَ اللَّهُ الأرضَ: غاثَها (¬1)، والفتحُ: فتحُ البلاد، والمعنى: نصرُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على العرب، أو (¬2) قريشٍ، وفتحُ مكة (¬3). الثاني: قد تقدم الكلام على لفظ (سبحان)، وأنه من المصادر اللازمة للنصب، وأنه منصوب بإضمار فعل لا يظهر؛ كما تقدم. ¬
وفيه: مبادرةُ الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلى امتثال ما أمره اللَّه به، وملازمته لذلك (¬1). الثالث: (الباء) في (¬2) (بحمدك) تتعلق (¬3) بمحذوف؛ أي: وبحمدِكَ سَبَّحْتُ، وهذا يحتمل -أيضًا- أن يكون فيه حذف؛ أي: وبسببِ حمدِ اللَّه سَبَّحْتُ (¬4)، ويكون المرادُ بالسبب هنا: التوفيقَ، والإعانةَ على التسبيح، واعتقاد معناه، وهذا كما رُوي عن عائشة -رضي اللَّه عنها- في "الصحيح": بحمدِ اللَّه لا بحمدِكَ (¬5)؛ أي: وقع هذا بسبب حمدِ اللَّه؛ أي: بفضله، وإحسانه، وعطائه، فإن الفضل والإحسان سببُ الحمد، فعبر عنهما بالجملة. وقوله: "اللهم اغفر لي": امتثالٌ لقوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} بعد امتثال قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3]، قاله ق. الرابع: ظاهر اللفظ الآخر: عدمُ كراهة الدعاء في الركوع؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- فيه (¬6): "اللهمَّ اغفرْ لي"، وهو معارض (¬7) بقوله (¬8) ¬
-عليه الصلاة والسلام-: "أَمَّا (¬1) الرُّكُوعُ، فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ، فَاجْتَهِدُوا فِيهِ بِالدُّعَاءِ (¬2) " (¬3). وقد تعسَّفَ ق في الجمع بين الحديثين، فقال: يؤخذ من هذا الحديث -يعني: حديث عائشة- الجوازُ، ومن ذلك: الأولويةُ بتخصيص الركوع بالتعظيم. وهذا عندي كلام مَنْ لم (¬4) يعتدَّ بقول الفقهاء بالكراهة في ذلك، حيث اعتقد جوازَه من هذا الحديث من غير كراهة؛ إذ لا يجوز أن يريد: الجوازَ مع الكراهة؛ لكونه -عليه الصلاة والسلام- بريئًا (¬5) من فعلِ المكرور، فهذا ليس بجيد إلا عند من لا يكره الدعاءَ في الركوع، إن كان قد قيل بذلك. ثم قال: ويحتمل أن يكون السجود قد أمر فيه بتكثير الدعاءِ، لإشارة قوله: "فَاجْتَهِدُوا"، واحتمالها للكثرة، والذي وقع في الركوع من قوله: "اغفرْ لي" ليسَ بكثير، فليس في معارضة ما أمر به في السجود (¬6). ¬
قلت: لا نسلِّمُ كونَه ليس بكثير، مع التعبير عنه بـ (كان) التي تدلُّ على (¬1) المداومة والتكرار، بل قد صرحت (¬2) عائشة -رضي اللَّه عنها (¬3) - بالتكثير بقولها: "كانَ يُكْثِرُ أَنْ يقولَ في ركوعِهِ وسجودِهِ"، الحديث (¬4)، فليتأمل الجمعُ بين الحديثين (¬5)، فإنه لم يتيسرْ لي الآن، واللَّه الموفق للصواب (¬6). * * * ¬
باب الوتر
باب الوتر الحديث الأول 120 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ (¬1): مَا تَرَى في صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ "فقَالَ" (¬2): "مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ، صَلَّى وَاحِدَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صلَّى"، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا" (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: المنبر: -بكسر الميم وفتح الباء-، وهو مِفْعَلٌ من النَّبْرِ، وهو الارتفاعُ، يقال: نَبَرْتُ الشيءَ، أَنْبِرُه، نَبْرًا: إذا رفعته، ونَبْرَةُ المغنِّي: رفعُ صوتِه عن خَفْض (¬1). وكان سبب عمل المنبر لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أن امرأة من الأنصار قالت ¬
لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه (¬1)! ألا أجعلُ (¬2) لك شيئًا تقعد عليه، فإن لي غلامًا نجارًا؟ قال: "إِنْ شِئْتِ"، (¬3) فعملَتْ له المنبرَ، فلما كان يوم الجمعة، قعد النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على المنبر الذي صُنع، فصاحتِ النخلةُ التي كان يخطُبُ عندها حتى كادت أن تنشقَّ، فنزل النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى أخذها، فضمَّها إليه، فجعلت تَئِنُّ أنينَ الصبيِّ (¬4) الذي يُسَكَّتُ (¬5) حتى استقرَّت، قال: "بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ"، ذكره البخاري في "صحيحه" (¬6). وقد قيل: إن الذي صنع المنبر غلامٌ للعباس عمِّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، هكذا نقله ابنُ بزيزة في "شرح الأحكام" لعبدِ الحق، وسيأتي الكلامُ على اختلافهم من أي شيء كان المنبر؟ الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مثنى مثنى": كان ينقدح في نفسي سؤال نَحْوِيٌّ، وهو أن القاعدة فيما عدل عن أسماء الأعداد: أنه لا يكرر (¬7)؛ أعني: أنك تقول: جاءني القوم مثنى، ليس إلا، من غير ¬
تكرير، تريد: اثنين اثنين (¬1)، وكذلك ثلاث ورباع، ونحوها، قال تعالي: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]؛ أي: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، فكيف جاء قوله -عليه الصلاة والسلام- بالتكرير؟ وما الحكمة في ذلك؟ وكذلك قول الشاعر: هَنِيًّا لأِهْلِ الْبُيُوتِ بُيُوتُهُمْ ... وَلِلآكلِينَ التَّمْرَ مَخْمَسَ مَخْمَسَا فذكر مخمسا، وهو معدول عن خَمْسَ خَمْسَ، وتكرر بحثي في ذلك، وسؤالي عنه، فلم أجد مَنْ أتى فيه بمقنع، حتى رأيت الشيخَ جمالَ الدين بنَ عمرون رحمه اللَّه تعالى (¬2) فيما شرح من "المفصّل" (¬3) للزمخشري أورد السؤال بعينه، وأجاب عنه بأن قال: تكريرُ مثنى في الخبر للمبالغة في التوكيد، وكأنه قال (¬4): صلاةُ الليل اثنتان اثنتان (¬5)، فكرر أربع مرات؛ لأن مثنى بمنزلة اثنين اثنين مرتين (¬6)، فهذا التكرار (¬7) بمنزلة (¬8) ضربت زيدًا زبدًا، فإذا كررت اثنين اثنين، فالتكرار (¬9) معنوي لقصدك ¬
اثنين بعد اثنين، ولو كان لفظيًا، لكان سقوطُه وثبوته واحدًا، ولا شبهة في أن المعنى متفاوت (¬1) بخلاف مثنى الثاني في الخبر، وجاز تكرير مثنى، وإن قبح تكرير اثنين أربعَ مرات؛ لأن مثنى أخصرُ؛ لأنه مفرد، وإن كان للمبالغة، فلا ينفي (¬2) ما ذكرنا من (¬3) أنه معدول عن المكرر، وأظن ما قاله رحمه اللَّه أنهى ما ينبغي أن يقال فيه (¬4)، فخذها فائدة هنيئة لم تحصل إلا بعد شِقِّ نفس الفَهْم، وإيضاء غَلَس (¬5) الوَهْم. الثالث: يقال: وَتْر ووِتْر -بفتح الواو وكسرها-، لغتان مشهورتان. الرابع (¬6) الوتر عندَنا وعندَ الجمهور من السنن المؤكدة، غيرُ فرض، ولا واجب، هذا مذهب جمهور العلماء من الصحابة (¬7) والتابعين فَمَنْ بعدَهم. قال القاضي أبو الطيب من الشافعية: هو قول العلماء كافة، حتى أبي يوسفَ، ومحمد (¬8). ¬
وقال أبو حنيفة وحدَه: هو واجبٌ، وليس بفرض، فإن تركه حتى طلعَ الفجرُ، أثم, ولزمه القضاء، وعنه رواية: بأنه (¬1) فرض على تفصيله بين الفرض والواجب (¬2)، فالواجب عنده دونَ الفرض، وفوقَ السنن, ومزيته على السنن: أنه يجوز تركُ السنن, ولا يجوز تركُ الواجب، ونقصُه عن الفرض: أنه يكفر جاحدُ الفرض، ولا يكفر جاحدُ الواجب. قال سَنَدٌ من أصحابنا: لعمري! لا فرق في مذهب أبي حنيفة بين الفرض والواجب في المعنى، وإنما يفترقان من وجهين: أحدهما: أن الفرض يكفرُ جاحدُه، بخلاف الواجب. الثاني (¬3): أن الفرض ما ثبت بقطعي، بخلاف الواجب. قال صاحب "البيان والتقريب": كيف يقول سند: لا فرق بينهما في المعنى؟! وقد قال: إن تارك (¬4) أحدِهما يكفر، ومعناه: أنه يجري على تارك الفرض أحكامُ الكفار، حتى (¬5) إذا كان قد (¬6) سبق منه الإِسلام، كان مرتدًا (¬7)؛ فتَبِينُ منه زوجتُه، ويُحال بينه وبين ماله، وإن ¬
لم يرجع إلى الإِسلام، قُتل كفرًا (¬1)، ولا يرثه (¬2) وَرَثَتُه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، وتاركُ الواجب لا يجري عليه من هذه الأحكام شيء، فأيُّ افتراقٍ أشد من هذا؟! ثم (¬3) قال: ثم (¬4) إنه ذكر وجهين في الافتراق، ثم ذكر (¬5) شيئين أحدُهما ثمرةُ الآخر، وحاصلُهما شيء واحد، فإنه إنما كفَّر [جاحد الفرض؛ لأنه جحد أمرًا قطعيًا؛ بخلاف الآخر، ثم نقول لأبي حنيفة: إنما كفر (¬6) جاحد] (¬7) القطعي إذا كان القطع به ضروريًا في الشرع، فيكون الجاحد له مكذبًا للرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنا نعلم أنه يعلم (¬8) أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد أخبرنا بفرضيته، فإنكارُه لذلك تكذيبٌ للرسول -عليه الصلاة والسلام-، ولا خلاف أن مكذِّبَ الرسولِ كافر، وأما إن كان المقطوعُ به نظريًا، فلا يلزم كفرُ جاحِده؛ إذ لا يلزم من جحده تكذيبُ الرسول -عليه الصلاة والسلام-. ¬
ثم نقول له: قولُك (¬1): الوترُ ليس بفرض، صحيحٌ؛ لأنه غيرُ مقطوع به، وقولُك: إنه واجبٌ، ممنوع، فإن قال: قد دلت أحاديثُ (¬2) ظنيةٌ على وجوبه، وهو الذي نعني: أنه (¬3) واجب، منها: ما رواه أبو داودَ عن عبدِ اللَّه بنِ بُرَيْدَة (¬4)، عن أبيه، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الوتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوْتِرْ، فَلَيْسَ مِنَّا" (¬5). وما رواه البخاري، ومسلم عن ابنِ عمرَ: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وَاجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِكَ وِتْرًا" (¬6). وما رواه أبو داود، والترمذي، عن أبي الوليد العدوي، قال: خرج علينا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: "إِنَّ اللَّه -تَعَالَى- قَدْ أَمَرَكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْوِتْرُ، فَجَعَلَهَا لَكُمْ بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَطُلُوع (¬7) الْفَجْرِ" (¬8). ¬
وما رُوي: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّه زَادكُمْ صَلَاةً إِلَى صَلَاتِكُمْ، أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ، فَحَافِظُوا عَلَيْهَا" (¬1). قال: والزيادةُ على الشيء إنما تكون (¬2) من جنسه، وربما رُوي فيه: "إِلَى صَلَاتِكُمُ الْخَمْسِ". وقوله: "أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ، فَلَيْسَ مِنَّا" (¬3). وحكى (¬4) الطحاوي فيه إجماعَ السلف، ولأنه مؤقت، لا على وجه التَّبَعِ، وذلك من أمارات الوجوب، فتكون صلواتُ الليل ثلاثًا كصلواتِ النهار (¬5)، فكما (¬6) أن صلوات (¬7) النهار صلاةٌ في أوله، وصلاةٌ في ¬
آخره، فكذلك صلاةُ (¬1) الليل، (¬2) وأيضًا: فلو (¬3) كان غيرَ واجب، لكان أصلًا للتنفل بثلاث، ولم يكره أن يتنفل بمثله، ويعضد ذلك الأمرُ بقضائه، وهو ما رواه الترمذي، وأبو داود، عن (¬4) أبي سعيد الخدري: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرهِ أَوْ نسَيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ" (¬5). قلنا (¬6): ليس فيما ذكره شيءٌ يقتضي الوجوب. أما قوله -عليه الصلاة والسلام-: "الوترُ حَقٌّ"، فلا يلزم منه الوجوبُ، فإن الحقَّ خلافُ الباطل، والسنَّةُ حقٌّ. وقوله: "فليسَ مِنَّا" مبالغة في تأكيده؛ كما جرى مثل هذا اللفظ في أشياء ليست بواجبة باتفاق. وقوله: "اجعلْ آخرَ صلاِتك وترًا" فصيغةُ الأمر لا يلزم منها الوجوب، ولو سلَّمنا أنه ظاهرها (¬7)، فعندنا ما يمنع من هذا الظاهر؛ كما سنذكره ¬
بعد هذا فيما إذا أخذنا في عدم الوجوب. وقوله: "إنَّ اللَّه أمركُمْ بصلاةٍ" لا دلالَة فيه؛ فإن الأمر يكون (¬1) على وجه السنَّة، كما يكون (¬2) على وجه الوجوب. وقوله: "زادكُمْ صلاةً إلى صلاتِكم" لا دلالةَ فيه؛ لأنها زيادةٌ لا شك فيه (¬3)، وصلاتنا فيها الواجب وغيره (¬4). وقوله: "أَوْتِروا يا أهلَ القرآن"، صيغةُ أمر أيضًا. قلت: قال ابن العربي: إنه لم يصح من جهة السند، ولا قوي من جهة المعنى (¬5)؛ فإنه إنما أراد بأهل القرآن: الذين يقومون به ليلًا، وقيامُ الليل ليس بفرض في أصله، فكيف يكون فرضًا في وصفه، وقد ناقضوا فقالوا: إن الوتر يُفعل على الراحلة مع الأمنِ والقدرة، فلا يكون واجبًا كركعتي الفجر، عكسُه الصبح، انتهى (¬6). وقول (¬7) الطحاوي: إنه (¬8) إجماع السلف، غيرُ صحيح؛ فإن عُبادة ¬
ابنَ الصامت -رضي اللَّه عنه- لما قيل له: إن رجلًا بالشام يقال له: أبو محمد يزعم أن الوتر واجب، قال: كذب أبو محمد، وهذا الإطلاق بالتكذيب يقتضي أن الأمر أشهرُ من أن يَخفى في عدم الوجوب، فكيف يدَّعى في (¬1) ذلك إجماعٌ على وجوبه، والأظهر أن الأمر يقتضي ذلك. والاستدلالُ بالنافلة، وبالموازنة بين صلاة الليل وصلاة النهار ليس بشيء، وكذلك الاستدلال بأنه يُقضى. وأما دليلنا في عدم وجوبه، فأمران: نقليٌّ، وفقهي. فأما النقلي: فثلاثة أخبار متفق على صحتها (¬2): الأول: ما رواه البخاري، ومسلم، ومالك في "الموطأ" (¬3)، وأبو داود، عن طلحة بن عبيد اللَّه (¬4): أنه -عليه الصلاة والسلام- قال للسائل عن الإِسلام: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، فقال: هل عليَّ غيرُها؟ قال: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ"؛ فقد نفى وجوبَ غيرِ الخمس من الصلاة، وحكمَ بأَن ما زاد على الخمس تطوع (¬5)، فقال (¬6) السائل: لا أزيدُ عليهنَّ، ولا أَنقص منهنَّ، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" (¬7). ¬
قلت: ولأبي حنيفة أن يقول: لعلَّ ذلك كان قبل أن وَجَبَ الوترُ (¬1)، ويكون ذلك جمعًا بين الأحاديث، وإلا، احتيجَ إلى إثبات ذلك بعدَ (¬2) مشروعية الوتر. ثم قال: والثاني: ما رواه مالك في "الموطأ": أن عبادة بن الصامت قيل له: إن رجلًا بالشام يكنى أبا محمد يزعم أن الوتر واجب، فقال عبادة: كذب أبو محمد، سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ (¬4) "، الحديث (¬5). قلت: ولأبي حنيفة أيضًا (¬6) أن يقول فيه كالذي قبله. ثم قال: والثالث: ما رواه مالك عن أبي بكر بن عمرو (¬7)، عن سعيد بن يسار، قال: كنت أسير مع عبد اللَّه بن عمر بطريق مكة، فلما خشيتُ الصبحَ، نزلْتُ، فأوترتُ، فقال عبد اللَّه: أليس لك في رسول اللَّه أسوةٌ حسنة؟ فقلت: بلى واللَّه! قال: فإن (¬8) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
كان (¬1) يوتر على البعير (¬2). قلت: وهذا (¬3) من أمَارات التنفُّل؛ إذ الواجبُ غير الوتر لا يصلَّى على البعير. قال (¬4): وأما الاستدلال الفقهي، فهو أنه شرع الوتر في وقت العشاء حتى لا يفعل دونها، ويدل عليه: أنه لا أذانَ له ولا إقامةَ إجماعًا، ولا جماعة الصلوات الواجبات، وأيضًا: فقد جعله الشرع من جنس نافلة الليل، نسبه إليها، وعلَّقه بها، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ، صَلَّى رَكْعَةً تُوترُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى" رواه مالك، والبخاري، ومسلم (¬5)، انتهى. ع: ولأن كل صلاة لم تكن فرضًا، لم تكن واجبةً بأصل الشرع؛ كركعتي الفجر. ¬
قلت: وإذا (¬1) ثبت أنه غيرُ واجب، فصفتُه عندنا أنه ركعة واحدة، إلا أنه يكره أن يقتصر عليها دون شفعٍ قبلَها في حق المقيم الذي لا عذرَ له، بلا خلاف في المذهب، على ما (¬2) قاله المازري. قال: وإنما اختلف المذهب في المسافر، ففي "المدونة": لا يوتر بواحدة، ولمالك في (¬3) "كتاب ابن سحنون" إجازةُ وتره بواحدة، وأوتر سحنونُ في مرضه بواحدة، ورآه عذرًا (¬4) كالسفر. فإن أوتر مَنْ لا عذرَ له بواحدة، قال (¬5) سحنون: إن كان بحضرة ذلك، شفعها بركعة، ثم أوتر، وإن تباعد، أجزأه. واختُلف هل (¬6) من حكم الوتر أن يوصل بشَفْعه في المجلس أو لا؟ فروى ابن القاسم عن مالك (¬7) في "المجموعة" فيمن تنفَّلَ في المسجد بعد العشاء، ثم أراد أن يوتر في بيته، قال (¬8): لا ينبغي أن يوتر بركعة ليس قبلَها شفعٌ، وروى عنه ابن نافع: أنه لا بأس أن يوتر ¬
في بيته بواحدة، قال: وكذلك من ركع، ثم جلس، ثم بدا له أن يوتر بواحدة. واختلف هل من (¬1) حكم الشفع والوتر أن يكون بنية مختصة، أو لا؟ فقال مالك في "كتاب (¬2) محمد" فيمن أحرمَ لشفع (¬3)، ثم بدا له أن يجعله وترًا، أو العكس (¬4): ليس ذلك له (¬5) في الأمرين جميعًا. وقال أصبغ: إن فعل، أجزأَه. وقال محمد: لا يجزئه، إن أحرم بشفع (¬6)، ثم جعله وترًا، ولعله يجزئه إذا أحرم بوتر فشفعه. وذكر الداودي عن أصحابه: أنه لا يجوز له أن يوتر بركعة تُفتتح (¬7) بغير نية. واختلف هل تتعين للشفع قراءة مخصوصة، أو (¬8) لا؟ على ثلاثة أقوال: ¬
أحدهما: أنه يقرأ في الشفع بـ {سَبِّحِ} [الأعلى: 1] و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1]. والثاني: لا تتعين. والثالث: واختاره الباجي (¬1): أنه (¬2) إن أوتر عقبَ صلاته (¬3) بالليل، فلا تعيين (¬4)، ومن لم ير الوتر إلا عقبَ شفع الوتر (¬5)، استحب التعيين المذكور، وأما الوتر، فالمختار أن يقرأ فيه بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] والمعوذتين، والقراءةُ في الشفع والوتر جهرًا؛ لأن ذلك من صلاة الليل المختصة به (¬6)، وهو ظاهر حديث عائشة؛ فإنه -عليه الصلاة والسلام- لو لم يجهر، لم تسمعْ ما يقرأ (¬7) به فيه (¬8)، إلا أنه إذا كان في المسجد معه (¬9) غيرُه، فلا يرفع صوتَه؛ لئلا يشوش بعضُهم على بعض. ¬
وقد روى البياضي (¬1) [كما] في "الموطأ": أنه -عليه الصلاة والسلام- خرج على الناس وهم يصلون، وقد عَلَتْ أصواتُهم بالقراءة، فقال: "إِنَّ المُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يُنَاجِيهِ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ" (¬2). قال عبد الحق (¬3): قال أبو العباس الإِبياني (¬4): يجهر بالقراءة في ركعة الوتر، فأما الركعتان اللتان قبل الوتر (¬5)، فإن شاء، جهرَ فيهما، وإن شاء، أَسَرَّ، قال: فإن أسرَّ في الوتر ناسيًا، سجدَ قبلَ السلام، وإن جهل، أو تعمَّد، فعليه الإعادةُ في ليلته، وبلغني ذلك عن يحيى بن عمر، قال عبدُ الحق: قوله: يعيد، استحسانٌ (¬6). وقد اختُلف فيمن أسرَّ فيما يُجهر فيه عامدًا أو جاهلًا في ¬
الفرض، فكيف في الوتر. وفي السهو في الشفع، والوتر (¬1)، فروعٌ تركتُها خشيةَ الإطالة، مع ذكرها في كتب الفقه. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "صلاةُ الليل مثنى مثنى": أخذ به مالك رحمه اللَّه تعالى، فلا يتنفل عنده بأكثر من ركعتين بسلامٍ واحد، ولا بركعةٍ واحدة، ووجهُه: ما يُفهم من هذا الحديث من (¬2) الحصر الابتدائي، وجاء في حديث آخرَ: "صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى" (¬3)، وكما اقتضى ظاهره (¬4) عدمَ الزيادة على ركعتين، فكذلك يقتضي (¬5) عدمَ النقصان منهما، إلا أنه قد تعارض (¬6) بحديث عائشةَ الآتي، ¬
وبه أخذ الشافعي، فأجاز الزيادةَ على ركعتين (¬1)، من غير حصر في العدد، إلا أنه يقتضي أن لا (¬2) يتنفل بركعة واحدة؛ لمداومته -عليه الصلاة والسلام- على غير ذلك، وقد أجاز التنفل بركعة واحدة، ووافقَنا أبو حنيفة في منع التنفُّل بركعة واحدة. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اجعلوا آخرَ صلاتكم بالليل وترًا" يقتضي أن يكون الوتر آخرَ صلاة الليل، لكن بشرط أن يعلم من عادته أنه يقوم قبلَ الفجر، وإلا، استحب له (¬3) صلاته (¬4) قبلَ نومه، فإن أوتر، ثم تنفَّل، جاز، ولم يُعده على المشهور. السابع: قوله: "وهو على المنبر" يقتضي جواز كلام الإِمام وهو على المنبر، شَرَعَ في الخطبة، أو لم يَشْرَع، هذا ظاهره (¬5)؛ سواء (¬6) كان ذلك باستدعاء (¬7) الإِمام، أو لا، فهو في هذا الحديث ابتداءٌ من السائل، وفي حديث سُلَيْكٍ الغَطَفانِيِّ (¬8): كان ابتداؤه من الإِمام، وبعدَ ¬
الشروع في الخطبة؛ لأن الراوي كان هناك والإمام يخطب، فكلَّمَه، وأجابَه بعد الشروع، فدلَّ على جواز الكلام منهما في الخطبة؛ إذ لم ينكر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على هذا السائل سؤالَه في هذه الحالة. ويدل -أيضًا- على أن الخطبة لا تنقطع بوقوع الكلام فيها، أما من هذا الحديث، فلإطلاقه، وأما من حديث سليك، فإنه قال فيه: والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب، ولم ينقل أن النبيَّ (¬1) -عليه الصلاة والسلام (¬2) - استأنفَ الخطبةَ بعدَ وقوع الكلام فيها، وكذا ما جرى لعمر -رضي اللَّه عنه- من الكلام مع عثمان وغيره. وفيه: الاعتناءُ بقيام الليل، والمحافظة عليه، وعِظَم ثوابه، وقد جاء في فضله أحاديثُ صحيحة تدل على ذلك، وباللَّه التوفيق. أقول: وكان حقُّ هذا الوجه السابع أن يكون ثانيًا، على ما جرت به عادتنا في هذا الكتاب من تتبع ألفاظ الحديث على الترتيب، ولكنه تأخَّر على طريق السهو، فسبحان من لا يسهو، ولا يغفل، جَلَّت قدرتُه، وعَظُمَ سلطانه، وحسبُنا اللَّه ونعمَ الوكيل. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 121 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَأَوْسَطِهِ، وَآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ (¬1). ¬
كأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أراد التوسعةَ على أمته، وقد تقدم: أن الأفضل عندنا تأخيرُ الوتر إلى آخر الليل لمن (¬1) عادتُه القيامُ قبل طلوع الفجر، وهو موافق لظاهر هذا الحديث؛ أعني: قولها: فانتهى وترُه إلى السحر؛ إذ ظاهره: أنه آخرُ الأمر منه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان، مع الاتفاق على جواز كل ذلك، بل الحديثُ يدل على الجواز في الأول والأوسط والآخر، نصًا، وإنما قلنا: التأخيرُ أفضل؛ لأن الصلاة آخرَ الليل أفضلُ من أوله في غير الفرائض، لكن إذا عارض ذلك احتمالُ تفويت (¬2) الأصل الذي هو الوتر، قدمناه (¬3) على فوات الفضيلة، وهذه قاعدة قد (¬4) اختُلف فيها، ومن جملة صورها: مَنْ عَدِمَ الماءَ في سفره، وكان يرجو وجودَه في آخر الوقت، هل يقدِّمُ الصلاةَ بالتيمم إحرازًا لفضيلة أول الوقت؟ وهو المختار عند الشافعية، أو يؤخره إلى آخر الوقت إحرازًا (¬5) للوضوء ¬
فيه، وهو المشهور من مذهبنا، على ما مر في التيمم، ففي مثل هذا يتردد النظر، وفي نحوه ينقدح الفكر، وباللَّه التوفيق (¬1). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 122 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي باللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكعَةً، يُوْتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسِ، لَا يَجْلِسُ في شَيْءٍ إِلَّا في آخِرِهَا (¬1). ¬
قد تقدم قريبًا: أن هذا الحديث معارض لحديث: "صلاةُ الليلِ مثنى مثنى (¬1) "، وهو من باب تعارضِ القول والفعل، وتقدم -أيضًا-: أن فيه متمسَّكًا للشافعي في الزيادة على ركعتين في النوافل. ق: وقد تأوله بعضُ المالكية بتأويل لا يتبادر إلى الذهن، وهو أن حمل (¬2) ذلك على أن (¬3) الجلوس في محل القيام لم يكن إلا في آخر ركعة؛ كأن الأربع كانت الصلاة فيها قيامًا، والأخيرة كانت جلوسًا في محل القيام، وربما دلَّ لفظه على تأويل أحاديثَ قدمها، هذا منها؛ بأن (¬4) السلام وقع بين كل ركعتين، وهذا مخالفٌ للفظ؛ فإنه لا يقع السلامُ بين كلِّ ركعتين إلا بعد الجلوس، وذلك ينافيه قولُها: "لا يجلسُ في شيء إلا في آخِرِها" (¬5). ¬
قلت: وأيضًا: لو كان الأمرُ على ما قال، لم يكن لتخصيص الخمس فائدةٌ، وكان وجه الكلام أن يقال: يوتر بثلاثَ عشرةَ ركعةً، لا يجلس في شيء إلا في آخرها، ومعلوم أن آخرها ركعةُ الوتر، واللَّه أعلم. * * *
باب الزكاة عقب الصلاة
باب الزكاة عقب الصلاة (¬1) الحديث الأول (¬2) 123 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ، كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُه (¬3). وَفي لَفْظٍ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ (¬4). ¬
* الشرح: ظاهرُه: جوازُ أو استحبابُ رفع الصوت بالذِّكْر والتكبير عقبَ المكتوبة. قال الطبري: فيه الإبانةُ عن صحة فعلِ مَنْ كان يفعل ذلك من الأمراء، يُكَبِّر بعدَ صلاته (¬1)، ويُكَبِّر مَنْ خلفه، وممن قال باستحبابه من المتأخرين: ابنُ حزم الظاهري. ح: ونقل ابنُ بطال وآخرون: أن أصحابَ المذاهب المتبوعة (¬2) وغيرَهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير. قال: وحمل (¬3) الشافعي رحمه اللَّه هذا الحديث على (¬4) أنه جهر وقتًا يسيرًا ¬
حتى يُعَلِّمهم صفةَ الذكر، لا أنهم جهروا دائمًا (¬1). قلت: ويردُّ هذا التأويلَ قولُ (¬2) ابن عباس: "كانَ على عهدِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"؛ لما تقرر من أن (كان) هذه تقتضي (¬3) الدوامَ والأكثريةَ، على ما مر. وقوله -أيضًا-: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك"، وقوله: "ما كنا نعرفُ انقضاءَ صلاةِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا بالتكبير"، فهذه كلُّها ظاهرة (¬4) التكرار والمداومة على ذلك، وقد حمله بعض المتأخرين من أصحابنا على تكبير أيام التشريق، وفيه عندي بُعد، بل هو بعيد جدًا؛ لما تقدم. قال ابن حبيب في "الواضحة" (¬5): وكانوا يستحبُّون التكبيرَ في العساكر والبُعوث (¬6) إثرَ صلاة الصبح والعشاء، تكبيرًا عاليًا ثلاثَ مرات، وهو قديم (¬7) من شأن (¬8) الناس، وعن مالك: أنه محدث. ¬
وقوله: "كنت أعلم إذا انصرفوا"، لا يلزم منه أن يكون ابنُ عباس لم (¬1) يحضر لتلك (¬2) الصلاة المنصرفَ منها؛ لجواز أن يكون متأخرًا في الصف، وذلك شأن الصبيان. ق (¬3): وقد يؤخذ منه (¬4): أنه لم يكن ثَمَّ مُسَمِّعٌ جهيرٌ (¬5) الصوت يبلِّغُ السلامَ بجهَارة صوته (¬6). قلت: ويحتمل أن لا يؤخذ ذلك منه؛ لجواز أن يكون المسمِّعُ قريبًا من الإِمام، ولا يلزم أن يكون في آخر الصفوف؛ خلاف (¬7) التكبير، والحالة هذه؛ فإنه لا يختص بصفٍّ من الصفوف، فلذلك علم الانصراف بالتكبير والذكر، دونَ التسليم، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 124 - عَنْ (¬1) وَرَّادٍ مَوْلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ (¬2) بْنُ شُعْبَةَ في كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ (¬3): "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِما أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"، ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ عَلَى مُعَاوِيةَ، فَسَمِعْتُهُ يَأمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ (¬4). ¬
وَفِي لَفْظٍ: كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلٍ وَقَالٍ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ، وَمَنْعٍ وهَاتِ (¬1). * * * ¬
* التعريف: وَرَّادٌ -بفتح الواو وتشديد الراء وبالدال المهملة- الثقفيُّ، مولى المغيرة بنِ شعبةَ وكاتِبُهُ، تابعيٌّ. يكنى: أبا الورد، حديثه (¬1) في الكوفيين، سمع المغيرة بن شعبة. روى عنه: ابن المسيب بن رافع، وعبدةُ بنُ أبي لُبابة، وعبدُ الملك ابن عُمير، والشعبيُّ. أخرج حديثه في "الصحيحين"، ولم يذكره المؤلف إلا في هذا الموضع (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: يقال: أَمْلَى، يُمْلِي، وأَمَلَّ، يُمِلُّ (¬3)، قال تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]. الثاني: جاء في المغيرة: كسرُ الميم إتباعا للغين؛ كما جاء -أيضًا- ذلك (¬4) في رغيف إتباعًا للغين، ومثله -أيضًا- مِنْتِن (¬5) -بكسر ¬
الميم- للإتباع -أيضًا-؛ لأن مِفْعِلًا ليس من الأبنية، ولم (¬1) يعتد بالنون؛ لسكونها، والساكن عندهم حاجزٌ (¬2) غيرُ حصين. الثالث: قوله: "دُبُرَ كلِّ صلاة" هو بضم الدال والباء، ويجوزُ التخفيف؛ كعُنُق، وعُنْق هذا هو المشهورُ في اللغة، والمعروفُ من الروايات. وأما الدَّبْر -بفتح الدال-، فقال المطرز (¬3) في "يواقيته (¬4) ": [دَبَرُ] كلِّ شيءٍ: آخرُ أوقاته؛ من الصلوات (¬5)، وغيرها، قال: هذا هو المعروف في اللغة، وأما الجارحة، فبالضم. وقال الداودي عن ابن الأعرابي: دُبر الشيء، ودَبره -بالضم والفتح-: آخرُ (¬6) أوقاته، والصحيح الضمُّ، ولم يذكر الجوهريُّ وآخرون غيرَه (¬7). الرابع: ق: فيه: دليل على استحباب هذا الذكر المخصوص ¬
عقبَ الصلوات (¬1)، وذلك لما اشتمل (¬2) عليه من معاني التوحيد، ونسبة الأفعال إلى اللَّه تعالى، والمنع والإعطاء، وتمام القدرة. والثوابُ المرتَّبُ على الأذكار يَرِد (¬3) كثيرًا، مع خفة الأذكار على اللسان وقلَّتها (¬4)، وإن (¬5) كان ذلك باعتبار مدلولاتها؛ فإنها كلَّها راجعةٌ إلى الإيمان الذي هو أشرفُ الأشياء (¬6). الخامس: انظر ما (¬7) فائدةُ قولنا بعدَ ثبوت الوحدانية من صريح هذا النفي والإثبات الدالِّ على حصرها في الباري عز وجل وحدَه لا شريك له، والذي يظهر فيه: أنه إنما جاء على طريق التوكيد، مع التكثير لحسنات الذاكر، واللَّه أعلم. وقوله: "لا شريك له": قال ابن العربي: إشارة إلى نفي (¬8) أن يكون هو -تعالى- جعله معينًا أو ظهيرًا، لما كانت العربُ (¬9) تقول: ¬
لَبَّيْكَ لا شريكَ لك، إلا شريكًا تملكُهُ وما مَلَك. السادس: قوله: "له الملك": قال أبو الحسن الأخفش: يقال (¬1): مَلِكٌ بَيِّنُ المُلْكِ -بضم الميم-، ومالِكٌ (¬2) بيِّنُ المَلْكِ، والمِلْك -بفتح الميم وكسرها-، وزعموا أن الضمَّ لغة في هذا المعنى، روى بعضُ البغداديين: لي في هذا الوادي مِلْك، ومَلْك، ومُلْك، بمعنى واحد (¬3). السابع: قوله: "وهو على شيء قدير": قيل: إن هذا العموم غير مخصوص، وهو الظاهر، وسمعت بعض شيوخنا يقول (¬4): وذهب بعض الناس إلى أنه مخصوص؛ من حيث كانت القدرة لا تتعلق إلا بالممكنات دونَ المستحيلات، والتقدير: وهو على كلِّ شيءٍ ممكنٍ (¬5) قديرٌ، قال الشيخ: وهذا غلط؛ لأنه قد وقع الخلافُ في الممكن (¬6) المعدوم، هل يطلق عليه شيء حقيقة أم لا؟ فما ظنك بالمستحيل؟ فالمستحيلاتُ غيرُ داخلة في هذا العموم، هذا أو معناه. فائدة: قيل: إن (¬7) عمومات القرآن كلَّها مخصوصة إلا أربعَ ¬
آيات: قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1) [البقرة: 284]. وقيل: إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] خاصة (¬2). الثامن: قوله: "ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ": ح: المشهور الذي عليه الجمهور أنه بفتح الجيم (¬3). ق: أي: لا ينفع ذا الحَظِّ منك (¬4) حَظُّه، وإنما ينفعُه العملُ الصالح، والجدُّ هاهنا وإن كان مطلقًا، فهو محمولٌ على (¬5) الدنيا، وقوله: (منك) يتعلَّق بـ (ينفع)، وينبغي أن يكون (ينفعُ) (¬6) مضمَّنًا (¬7) معنى: يمنعُ: أو ما (¬8) يقاربه، ولا يعود (منك) على الجد، على الوجه الذي يقال فيه: ¬
حَظِّي منك كثيرٌ أو قليل، بمعنى: عنايتك بي، ورعايتك لي؛ فإن ذلك نافع (¬1). قلت: وهذا تنبيه حسن، فتأمله. التاسع: في أمر معاويةَ بذلك: المبادرةُ (¬2) إلى امتثال السُّنَن، وإشاعتها (¬3). وفيه: جوازُ العمل بالمكاتبة للأحاديث، وإجراؤها مجرى المسموع (¬4)، والعمل بالخط في مثل ذلك، إذا أمن تغيره. وهو دليل لمالك رحمه اللَّه في قبولِ الشهادة على الخط، وجَعْلِ خَطِّ الشاهدِ كشخصِه. وفيه: قبولُ خبر الواحد، وهو فردٌ من أفراد لا تحصى (¬5)، واللَّه أعلم. العاشر: قوله: "عن (¬6) قيل وقال": قال الجوهري: هما اسمان، يقال: كثيرُ القيلِ والقالِ (¬7). ¬
ق (¬1): والأشهر فيه: بفتح (¬2) اللام، على سبيل الحكاية (¬3). كأنه الأشهر من جهة الرواية, وهو الذي يقتضيه المعنى أيضًا؛ لأن القيلَ والقالَ إذا كانا اسمين بمعنى (¬4) واحد؛ كالقول، لم يكن في عطف أحدِهما على الآخر فائدةٌ. قلت: فعلى (¬5) هذا يكون كقولهم: ما رأيته منذ (¬6) شَبَّ إلى (¬7) دبَّ، وأشباه ذلك. ثم قال: هذا (¬8) النهيُ لا بدَّ من تقييده (¬9) بالكثرة التي لا يؤمنَ معها وقوعُ الخَطَل والخطأ، والتسبب إلى وقوع المفاسد من غير يقين، والإخبار بالأمور الباطلة، وقد ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "كَفَى بِالْمْرِء إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ" (¬10)، وقال بعضُ السلف: ¬
لا يكون إمامًا من حَدَّثَ بكلِّ ما سمعَ (¬1) (¬2). قلت: وسمعت شيخَنا أبا علي البجَّائي (¬3) -رضي الله عنه- يقول: قيل (¬4): إنما جُعل لك لسان واحد، وأذنان (¬5)؛ ليكون ما تسمع أكثرَ مما تقول. ويقال: لو كان الكلامُ من فضة (¬6)، لكان السكوتُ (¬7) من ذهب. وحكي عن مالك -رضي اللَّه عنه-: أنه قيل له في مرضه الذي مات فيه (¬8): أَوصني (¬9)، فقال للسائل: إن شئتَ جمعتُ لك علمَ العلماء، وحكمَ الحكماء، وطبَّ الأطباء، في ثلاث كلمات: أما علم العلماء: فإذا سُئلتَ عما لا تعلم، فقل: لا أعلم. ¬
وأما حكم الحكماء (¬1): فإذا كنت جليسَ قوم، فكن أسْكَتَهم، فإن أصابوا، كنتَ من جملتهم، وإن أخطؤوا، سلمت من خطئهم. وأما طبُّ الأطباء: فإذا أكلت طعامًا، فلا تَقُمْ إلا ونفسُك تشتهيه، فإنه لا يُلِمُّ بجسدك غيرُ مرض الموت. هذا أو معناه. وقال أيضًا -رضي الله عنه-: من عَدَّ كلامَه من عمله (¬2)، قَلَّ كلامُه. قال القاضي عبد الوهاب: وهذا فيما منه بدٌّ، فأما القراءةُ، والدعاء، والاستغفار، والكلام في العلم، والتعلُّم، ومصالح الإنسان في نفسه وغيرِه، فخارجٌ عن هذا. قلت: وهذا لا يختلف فيه، واللَّه أعلم. الحادي عشر: إضاعة المال: ما أُنفق في حرام، أو مكروه، وأما ما أُنفق في ذات اللَّه -تعالى (¬3) - وإن أكثر، فليس بإضاعة، بل هو المصون المحرَزُ، وقد قيل لبعضهم: لا خيرَ في السَّرَفِ، فقال: لا سَرَفَ في الخير، وكذلك ما أنفق في مصلحة دنيوية مباحة تليقُ بحال المنفِق. وأما الإنفاقُ في غير مصلحة، فقد اتُّفِق على أنه الإضاعة له. ¬
ق: وأما إنفاقُه في ملاذِّ الدنيا، وشهوات النفس، على وجه لا يليق بحال المنفِق وقدرِ مالِه، ففي كونه إسرافًا خلاف؛ والمشهور: أنه إسراف. وقال (¬1) بعض الشافعية: ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصالح البدن وملاذُّه. وهو غير صحيح، وظاهر القرآن يمنع ذلك (¬2). قلت: كأنه يريد: قولَه تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، ويحتمل أن يريد: قولَه تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] الآية. وظاهر السنة -أيضًا- كذلك، قال -عليه الصلاة والسلام (¬3) -: "حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ" الحديث (¬4)، وغيره مما في معناه. ولا أعلم خلافًا بين العلماء أن التقلُّلَ (¬5) من شهوات الدنيا خيرٌ ¬
من الإكثار منها، وهو حالُ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وتابعيهم، وقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام-: أنه كان يشدُّ على بطنه الحَجَرَ من الجوع، ولم يشبعْ -عليه الصلاة والسلام- من خُبز البُرِّ ثلاثًا متوالياتٍ حتى قُبِض -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد أُوتي مفاتيحَ (¬1) كنوزِ الأرض، فحقُّ المؤمنِ المتديِّنِ أن تكون (¬2) له بنبيِّه أُسوة. الثاني عشر: قوله: "وعن (¬3) كثرة السؤال" يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد: السؤالَ عن الأحكام التي لم تدعُ الحاجة إليها، وقد (¬4) قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] وقال -عليه الصلاة والسلام-: "أَعْظَمُ النَّاسِ جُرْمًا عِنْدَ اللَّه مَنْ سَأَلَ شَيْئًا لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ" (¬5). وفي حديث اللِّعان: فَكَرِهَ المَسَائِلَ وَعَابَهَا (¬6). ¬
وفي حديث معاوية: (¬1) نَهى عن الأُغْلوطاتِ، وهي شِدادُ (¬2) المسائِلِ وصِعابُها (¬3). ق: وإنما كره ذلك، لما يتضمن كثيرٌ منه من التكلُّف في الدين، والتنطُّع، والرَّجْم بالظَّنِّ من غير ضرورة تدعو إليه، مع عدم الأمن من العِثار وخطأ الظَّنِّ، والأصلُ: المنعُ من الحكم بالظنِّ إلا حيثُ تدعو الضرورةُ إليه (¬4) (¬5). والوجه الثاني: أن يكون المرادُ: سؤالَ الناس ما في أيديهم، وقد مدحَ اللَّه تعالى تاركي السؤالِ الكثيرِ بقوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]؛ أي: إلحاحًا (¬6)، فمفهومه ذم (¬7) السائلين إلحافًا، ¬
وجاء في الحديث الآخر: "لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ" (¬1)، لا سيما مَنْ سأل من غير ضرورة تدعوه إلى السؤال، وقد رُوي: أنه مات رجلٌ من أهل الصُّفَّة، وتركَ دينارين، فقال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ""كَيَّتَانِ" (¬2) " (¬3)، وما سبب ذلك -واللَّه أعلم- إلا أنه كان ظاهره الفقر، وكان يُتصدق عليه؛ لظهور فقره واحتياجه، فلما ظهر له الديناران، كان ذلك خلافَ ظاهرِ حاله. ق: والمنقول عن (¬4) مذهب الشافعي رحمه اللَّه جوازُ السؤال، فإذا قيل بذلك (¬5)، فيبقى النظرُ (¬6) في تخصيص المنع بالكثرة، فإنه إن كانت الصورة تقتضي المنعَ، فالسؤال ممنوعٌ كثيرُه وقليلُه، وإن لم تقتضِ (¬7) المنعَ، فينبغي حملُ هذا النهي على الكراهة للكثير من السؤال، مع أنه ¬
لا يخلو السؤال من غير حاجة عن (¬1) الكراهة، فتكون الكراهة في الكثير أشدَّ، وتكون (¬2) هي المخصوصةَ بالنهي، ويتبين من هذا: أن مَنْ يكره السؤالَ مطلقًا حيث لا يحرُم، ينبغي أن يحملَ قولَه على كثرة السؤال على الوجه الأول المتعلقِ بالمسائل الدينية، أو يجعلَ النهي دالًا على المرتبة الأشدية من الكراهة (¬3). قلت: والعجبُ من هذا القائل بكراهة السؤال مطلقًا، حيث لا يحرُم، مع كون السؤال كان (¬4) في زمن رسول اللَّه-صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي زمن الصحابة، والتابعين إلى هَلُمَّ جَرًّا، وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، وقال تعالى: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬5) [المعارج: 24، 25] وجاء في الحديث: "رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" (¬6)، والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يقرُّ ¬
على مكروه، بل لا (¬1) يبعُد عندي أن يجب السؤالُ في وقت الضرورة، ولا أظن أحدًا ينازع في ذلك، واللَّه أعلم. الثالث عشر: قوله: "وكان ينهى عن عقوق الأمهات"، يقال: عَقَّ والدَه، يَعُقُّ، عُقُوقًا ومَعَقَّةً، فهو عاقٌّ، وعُقَق؛ مثل عامر وعُمر، والجمعُ عَقَقَة؛ مثل كَفَرَة، وفي الحديث: "ذُقْ (¬2) عُقَقُ" (¬3)؛ أي: ذْق جزاءَ فِعلك يا عاقُّ، قاله (¬4) بعضُهم لحمزةَ -رضي اللَّه عنه- وهو مقتولٌ، تقول منه: أَعَقَّ فلانًا: إذا جاء بالعُقوق، وأَعَقَّتِ الفرسُ: إذا حملت، فهي عَقوق، ولا يقال: مُعِقٌّ إلا في لغة رديئة، وهو (¬5) من النوادر، والجمع عُقُق, مثل: رسول ورُسُل، قاله الجوهري (¬6). والعُقوق: عبارةٌ عن عدم البِر والإحسان للوالدين، وقد صنف العلماء في بر الوالدين؛ كالطرطوشيِّ وغيرِه ما يتعين من ذلك، وما يُندب، وأخصرُ ما رأيتُ في ذلك وأجمعُه ما قاله ابن عطية رحمه اللَّه في "تفسيره"، قال -بعدَ كلام في هذا المعنى-: وجملةُ هذا الباب: أن ¬
طاعة الوالدين (¬1) لا تُراعى في ركوب كبيرة، ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتُهما في المباحات، وتُستحسن في ترك الطاعات البدنية، ومنه: أمرُ جهاد الكفاية، والإجابةُ للأمِّ في الصلاة، مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلاكها عليه، ونحوه مما يحيى قطعَ الصلاة، فلا يكون أقوى من الندب، وخالف الحسنُ في هذا الفصل، فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء الآخرة شفقةً عليه، فلا يُطعها (¬2). وإنما خص الأمهاتِ دون الآباء، وإن كان العقوق محرمًا في حق الجميع؛ للتنبيه على عظم (¬3) حقِّ الأم، وزيادةِ مقداره على حق الأب، ويشهد له قوله -عليه الصلاة والسلام- لما قال له الرجل (¬4): من أَبَرُّ؟ قال: "أُمَّكَ"، ثم قال: مَنْ (¬5)؟ قال: "أُمَّكَ"، ثم قال: مَنْ؟ قال: "أُمَّكَ"، ثم قال: مَنْ؟ قال: "أَبَاكَ" (¬6) (¬7)، فجعل له (¬8) الرُّبعَ من المبرَّةِ، وهذا الحديث يشير إلى قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ¬
وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، شرك اللَّه -تعالى- الأمَّ والولد (¬1) منها في رتبة الوصية بهما، ثم خصص الأم بذكر درجة الحمل، وبدرجة ذكر الرَّضاع، فتحصل (¬2) للأم ثلاثُ مراتب، وللأبِ واحدة، فكان (¬3) الحديث كالآية، فاعرفه. فائدة: أمهاتُ: جمعُ أُمَّهَة، قال الشاعر: [الرجز] أُمَّهَتي خِنْدِفُ وَاليَأسُ أَبِي أي: أُمِّي (¬4)، إلا أن الفرق بين أمهة وأمّ: أن أمهة إنما تقع غالبًا على مَنْ يعقل، وقد تستعمل في غير العاقل، وذلك قليل جدًا، وأُمٌّ تقع على مَنْ يعقل، وعلى ما لا (¬5) يعقل (¬6). الرابع عشر: قوله: "ووأد البنات"، الوأدُ: عبارةٌ عن دفن الحيِّ، يقال: وَأَدَ بِنْتَهُ (¬7) يَئِدُهَا وَأْدًا، فهي موءودة، وكانت كِنْدَةُ تَئِدُ البنات (¬8)، ¬
وكان صَعْصَعَةُ بنُ ناجيةَ ممن منعَ الوأد، وبه افتخر الفرزدق في قوله: [المتقارب] وَمِنَّا الَّذيِ مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... وأَحْيَا الْوَئيدَ (¬1) فَلَمْ يُوأَدِ (¬2) وكان صفةُ وَأْدِهم: أن الرجل إذا وُلِدَتْ لَهُ بنتٌ، فأراد أن يَستحييها، ألبسَها جبةَ صوف، أو شعرٍ، ترعى له الإبل، والغنم في البادية، وإن أرادَ قتلَها، تركها، حتى إذا كانت سداسية، فيقول لأمها: طَيِّبيها وزَيِّنيها حتى أذهبَ بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء، فيبلغ بها البئرَ، فيقول لها: انظُري فيها، فيدفعها من خلفها، ويُهيل عليها الترابَ حتى يستوي (¬3) البئرُ بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا أقربَتْ (¬4)، حفرت حفرةً، فتمخَّضَتْ (¬5) على رأسِ الحفرة، فإذا وَلَدَتْ بنتا، رمتْ بها في الحفرة، وإن ولدت ابنًا (¬6)، حَبَسَتْه، وكانَ الحاملُ لهم على ذلك الخوفَ من لحوق العار بهم من أجلهنَّ، أو الخوفَ من الإملاق؛ كما قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، وكانوا يقولون: الملائكةُ بناتُ اللَّه، ¬
فألحِقُوا البناتِ به، فهو أحقُّ بهنَّ، تعالى اللَّهُ عن ذلك علوًا كبيرًا، وإنما خُصِّص هذا بالذِّكْر؛ لأنه كان هو الواقع، فتوجَّه إليه النهي (¬1)، لا لأن الحكم مخصوصٌ، واللَّه أعلم (¬2). الخامس عشر: قوله (¬3) "ومنعٍ وهاتِ"، و (¬4) الكلام فيه في موضعين: أحدهما: من حيث اللفظ. والآخر: من حيث المعنى. أما اللفظ: فـ (مَنع) مصدرُ منعَ (¬5)، وأما (هاتِ)، ففعلُ أمرٍ من يُهاتي؛ مثل: يرامي، يقال (¬6): هاتِ يا رجل -بكسر التاء-؛ أي: أعطني، وللاثنين: هاتِيا؛ مثل رامِيا، والجمع هاتُوا, وللمرأة هاتي -بإثبات الياء-، مثل: عاطي، وللمرأتين هاتِيا، كالمذكَّرين (¬7)؛ وللنساء: هاتِينَ؛ مثل: عاطِينَ، وتقول: هاتِ لا هاتَيْتَ، وهاتِ إن (¬8) كانتْ بكَ مهاتاةٌ، وما (¬9) أُهاتيك؛ مثل: ما أعاطيك، ولا يقال منه: هاتَيْتُ، ¬
ولا يُنهى (¬1) بها؛ أي: لا يقال: لا تُهاتِ، وهذا راجع إلى السماع. قال الخليل: هات، من أاتى (¬2) يُؤْتي، فقلبت الألف هاءً (¬3). فهات على هذا في الحديث على الحكاية؛ كما تقدم في (قيل) فيمن فتح اللام. وأما المعنى: فقيل: يحتمل وجهين: أحدهما: النهيُ عن المنع حيث يؤمَرُ بالإعطاء، وعن السؤال حيث يُمنع منه، فيكون كل واحد مخصوصًا بصورةٍ غيرِ (¬4) صورة الآخر. والثاني: أن يجتمعا في صورة واحدة، ولا تَعَارُضَ بينهما، فتكون وظيفةُ الطالب أن لا يسأل، و (¬5) وظيفةُ المعطي أن لا يمنع إن وقع السؤال، وهذا لا بدَّ أن يُستثنى منه ما إذا كان المطلوبُ محرَّمًا على الطالب؛ فإنه يمتنع على المعطي إعطاؤه؛ لكونه (¬6) يكون مُعِينًا على الإثم. ويحتمل أن يكون الحديث محمولًا على الكثرة من السؤال، واللَّه أعلم (¬7). ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 125 - عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ ابْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبي صَالِحِ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالوا (¬1): (¬2) ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ (¬3) بِالدَّرَجَاتِ العُلَا والنَّعِيمِ المُقِيِم، فَقَاَل: "وَمَا ذَاكَ؟ "، قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، ويَتصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُوْنَ ولَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ (¬4) شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ (¬5) مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَاصَنَعْتُمْ؟ "، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "تُسَبِّحُونَ وتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُوِنَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً". قَالَ أبو ¬
صَالح: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ". قَالَ سُمَيٌّ: فَحَدَّثْتُ (¬1) بَعْضَ أَهْلِي هَذَا الحَدِيثِ (¬2)، فَقَالَوا (¬3): وَهِمْتَ، إِنَّمَا قَالَ لَكَ: "تُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ، وَتَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ"، فَرَجَعْتُ إِلَى أَبي صَاِلحٍ، فَقُلْتُ لَهُ ذِلَكَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، والحَمْدُ للَّهِ (¬4)، حَتَى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ ثَلاثًا وَثَلَاثِينَ (¬5) (¬6). ¬
* التعريف: سُمَيٌّ: مولى أبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشام، القرشيُّ، المخزوميُّ، المدنيُّ، تابعيٌّ، روى عن أبي صالح ذكوانَ. روى عنه: مالكُ بنُ أنس، وعُمارة بن غزيةَ، وعُبيد اللَّه بنُ عمرَ، ومحمدُ (¬1) بنُ عجلانَ، وسُفيان (¬2) بنُ عُيينةَ، وسُفيان الثوريُّ، وسَهْلُ ابنُ أبي صالح، وعمرُ بنُ محمدِ بنِ المنكدرِ. وكان سُمَيٌّ جميلًا، قتل سنة ثلاث ومئة، قتله الحرورية يوم قُدَيد (¬3). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: "فقراءَ المهاجرين": هو من باب: مسجدِ الجامع، وصلاةِ الأولى؛ مما أضيف فيه الموصوفُ إلى صفته، وكان الأصل: ¬
الفقراء المهاجرون (¬1)؛ كما أن الأصل: المسجد الجامع، والصلاة الأولى. الثاني: "الدثور": الأموالُ الكثيرة، الواحد دَثْر؛ مثل: فَلْس وفُلُوس (¬2). و"الدرجات": يجوز أن تكون هنا حِسِّيَّةً على ظاهرها؛ من دَرَجِ الجِنان، ويجوز أن تكون معنوية، أي: علا قدرُهم عند اللَّه تعالى، وارتفعت درجاتهم عنده (¬3)؛ من قولهم: ارتفعتْ درجةُ فلانٍ عند الملك، ونحو ذلك. والنعيم: ما يُتَنَعَّمُ به من مطعَم أو ملبَس أو منكَح أو منظَر، أو علوم ومعارف، أو غير ذلك. والمقيم: الدائم الذي لا ينقطع أبدًا، جعلنا اللَّه من أهله، آمين بمنِّه وكرمه (¬4). الثالث: ظاهرُ هذا الحديث يُشعر بتفضيل الغنيِّ الشاكِرِ على الفقير الصابِر؛ لأن الفقراء ذَكَروا له -عليه الصلاة والسلام- ما يقتضي تفضيلَ الأغنياء بالتصدُّق والإعتاق اللذين مصدرُهُمَا المالُ، فأقرَّهم ¬
على ذلك، ولم يقلْ لهم: أنتمُ أفضلُ منهم لصبركم (¬1) على فقركم، بل علَّمَهم (¬2) ما يقوم مقامَ تلك الزيادة التي فَضَلَهم الأغنياءُ بها، فلما قالها الأغنياء، ساوَوْهُم فيها، وبقي معهم (¬3) راجِحِيَّة القُرَب المالية، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ذلكَ فضلُ اللَّه يؤتيه مَنْ يشاء". وقد تأول الشيخ أبو طالب المكيُّ رحمه اللَّه قوله -عليه الصلاة والسلام- "ذلكَ فضلُ اللَّه يؤتيهِ مَنْ يشاءُ" (¬4) تأويلًا لا يتبادر إليه (¬5) الذهن، ومعناه: أنكم فَضَلْتم الأغنياء، أو (¬6) ساويتموهم، وإن لم تكن لكم قُرُباتُ (¬7)، وذلك بفضل اللَّه تعالى. وبالجملة: فالخلافُ في هذه المشكلة شهير (¬8) جدًا، والكلام عليها مبسوط في كتب التصوف بعد أن تعلم: أن الذي عليه الجمهورُ من الصوفية؛ أن الفقيرَ الصابرَ أفضلُ من الغني الشاكر. ¬
وقال الداودي من المالكية (¬1): إن الأفضلَ الكفافُ؛ فإن الفقر والغنى محنتان يَمتحن اللَّهُ -تعالى- بهما مَنْ يشاءُ من عبادِهِ، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافًا"، أو قال: "قُوتًا" (¬2)، هذا أو معناه. ووقفت طائفةٌ عن التفضيل بينهما. فهذه أقوال أربعة للعلماء -رحمهم اللَّه تعالى-. ق: والذي يقتضيه الأصل: أنهما إن تساويا، وحصل الرجحان بالعبادات المالية: أن يكون الغنيُّ أفضلَ، ولا شك في ذلك، وإنما النظرُ إذا (¬3) تساويا في أداء الواجب فقط، وانفرد كلُّ واحدٍ بمصلحة ما هو فيه، فإذا كانت المصالح متقابلة، ففي ذلك نظر يرجع إلى تفسير الأفضل ما هو؟ فإن فسرناه بزيادة الثواب، فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضلُ من القاصرة، وإن كان الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصُل للنفس من التطهيرِ للأخلاق، والرياضةِ لسوء الطباع بسبب الفقر، أشرفُ، فيترجَّحُ الفقر، ولهذا المعنى ذهب الجمهورُ من الصوفية إلى ترجيح الفقير ¬
الصابر؛ لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثرُ (¬1) منه مع الغِنى، فكان أفضلَ بمعنى: أشرفَ (¬2). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "تُدركون به مَنْ سبقكم": السبقيةُ هاهنا يحتمل أن تكون (¬3) في الفضيلة على مَنْ لا يعمل هذا العمل، وهو الأظهر، واحتمل (¬4) أن تكون (¬5) في الزمان، وكذلك البَعْدية، واللَّه أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم" يدلُّ على ترجيح هذه الأذكار على فضيلة المال، وعلى فضيلة غيرها من الأذكار، وفي تلك الرواية تعليم كيفية هذا الذكر. ع: ما معناه: أن الإفراد أولى من تأويل أبي صالح؛ يعني: أن يقول كلَّ واحدة من هذه الكلمات مستقلة ثلاثًا وثلاثين أفضلُ من جمعها؛ كما تأوله أبو صالح (¬6). ¬
قلت: ولم يظهر لي وجهُ (¬1) الأولوية في ذلك، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 126 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نظرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: "اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وائْتُوني بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبي جَهْمٍ؛ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي" (¬1). ¬
قَالَ المُصَنِّفُ: الخَمِيصَةُ: كِسَاءٌ مُرَبَعٌّ لَهُ أَعْلَامٌ، وَالأَنْبِجَانِيَّةُ: كِسَاءٌ غَلِيظٌ. * * * ع: في الأَنْبِجَانية: رويناه بفتح الهمزة وكسرها، وبفتح (¬1) الباء وكسرها (¬2) أيضًا- في غير مسلم، وبالوجهين ذكرها ثعلب، ورويناه بتشديد الياء في آخره، وتخفيفها معًا في غير مسلم، إذ هو في رواية لمسلم مشدَّد مكسور (¬3) على الإضافة إلى أبي جهم، وعلى التذكير (¬4)، كما قال في الرواية الأخرى. وَهُو كِساءٌ غليظٌ لا عَلَمَ له، فإذا كان للكساء علمٌ، فهو خَمِيصَةٌ، ¬
وإن لم يكنْ (¬1)، فهو إنْبِجانية، وقيل: هو كساءٌ سداهُ قطنٌ أو كتان، ولُحْمَتُه صوفٌ. وقال ابن قتيبة: إنما هو مَنْبِجانيّ، ولا يقال له: إنبجاني، منسوبٌ إلى مَنْبج، وفتحت الباء في النسب؛ لأنه خرج مخرج مخبراني (¬2)، وهو قول الأصمعي. قال الباجي: ما قاله ثعلبٌ أظهرُ (¬3). ق: فيه (¬4): دليل على جواز لباس الثوب ذي العَلَم، ودليل على أن اشتغال الفكر يسيرًا غيرُ قادح في الصلاةِ والإقبالِ عليها، ونفي ما يقتضي شغل الخاطر بغيرها. وفيه: دليل على مبادرة الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلى مصالح الصلاة، ونفي ما يخدش (¬5) فيها؛ حيث أخرج الخميصةَ، واستبدلَ بها غيرَها بما لا يشغل، وهذا مأخوذ من قوله: "فَنَظَرَ إِلَيْها نَظْرَةً"، وبعثُه إلى أبي جهم بالخميصة لا يلزم منه أن يستعملها في الصلاة؛ كما جاء في حلة عطارد، وقوله -عليه الصلاة والسلام- ¬
لعمر: "إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا" (¬1). وقد استنبط الفقهاء من هذا كراهة كلِّ ما يشغل عن الصلاة من الأصباغ والنقوش والصنائع المستظرفة؛ فإن الحكم يعمُّ بعموم علَّته، والعلَّةُ: الاشتغالُ عن الصلاة، وزاد بعض المالكية في هذا (¬2): غرسَ الأشجار في المساجد، واللَّه أعلم. قلت: وكذلك (¬3) -أيضًا (¬4) - كره أصحابُنا التزاويقَ والكَتْبَ في القبلة، وكرهوا دخول الصبي الذي لا يعقلُ الصلاةَ المسجدَ. قال: وفيه: دليل على قبول الهدية من الأصحاب، والإرسال إليه، والطلب لها ممن يظن به السرور بذلك والمسامحة (¬5). * * * ¬
باب الجمع بين الصلاتين في السفر
باب الجمع بين الصلاتين في السفر 127 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجْمَعُ في السَّفَرِ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ والعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، ويَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءَ (¬1). ¬
الحديث دليل على جواز الجمع بين الصلاتين (¬1) المشتركتي الوقت في السفر عند السير من حيث الجملة، وللفقهاء في ذلك تفاصيلُ مذكورة في كتب الفقه لا نطوِّل بذكرها. * * * ¬
باب قصر الصلاة في السفر
باب قصر الصلاة في السفر 128 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَحِبْتُ رَسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ (¬1)، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ كَذَلِكِ (¬2). ¬
هذا هو لفظ البخاري في الحديث، ولفظ رواية مسلم أكثرُ وأزيدُ، فلتعلمْ ذلك. الحديثُ دليلٌ على مشروعية القصر، وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101] الآية، وإن كان قد اختلف الناس في القصر المذكور في هذه الآية، هل هو قصر العدد، أو قصر الصفة؛ أي: عند اشتداد الخوف؟ والصحيح: الأول، ولا خلاف في جواز القصر من حيث الجملةُ عند وجود شرطه. وأما حكمه: ففي المذهب ثلاثة أقوال: قال (¬1) الباجي: وقد اختلف (¬2) قولُ مالك فيه: فروى أشهب عنه: أنه فرض، وبه قال أبو حنيفة. وروى أبو مصعب عن مالك: أنه سنة، وروي نحوه عن الشافعي. والبغداديون من أصحابنا يقولون: إنه على التخيير (¬3). ¬
وقال القاضي عبد الوهاب: ذهب أكثر أصحابنا إلى أن فرض المسافر التخيير، إلا أن القصر أفضل، وهو سنة، وقاله ابن وهب عن مالك. قلت: وهذا هو المعروف من المذهب. وقال ابن القصار: قال الأبهري وغيره: هو مُخير، والقصرُ أفضل، وحكى أبو جعفر الأبهري: أن أبا بكر الأبهري يقول: هو مخير بين القصر والإتمام، وكذلك قال الشافعي، واختلف قولُه أيهما أفضل؟ وأما محله: فالصلوات الرباعية المؤدَّاة في السفر، أو المقضيةُ لفواتها فيه، لا غيرُ؛ لأن المغرب لا تتنصَّف؛ إذ ليس في الشريعة نصفُ ركعة. فإن قلت: إذا تعذر التنصيفُ، فلتكنْ ركعتين؛ كما أن من طلَّق طلقةً ونصفَ طلقة، لزمه طلقتان، وكما قلتم في طلاق العبد، وحَيْض الأَمَةِ. قلت: قيل: لو فعلَ ذلك، لذهب مقصودُ الشرع من كون عدد ركعات الفرض في اليوم والليلة وترًا، وللشرع قصدٌ في الوتر، ولذلك (¬1) شرع ركعة الوتر في نافلة قيام (¬2) الليل لما قال -عليه الصلاة والسلام-: "صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ، صَلَّى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ لَهُ ¬
مَا صَلَّى" (¬1)، ولذلك منعْنا أن تُعاد المغربُ في جماعة (¬2) إذا كان العبدُ قد صلاها وحدَه، بخلاف غيرِها من الصلوات؛ لما يلزم في إعادتها من ذهاب معنى الوتر. وأما الصبح: فلم (¬3) يثبت في الشرع فيها قصرٌ، وإن كان ممكنًا (¬4)؛ بأن تكون ركعة؛ كما قال (¬5) بعض العلماء: إن صلاة الخوف ركعة، ويغني عن إطالة القول فيها وفي المغرب: أن الإجماع على أنهما لا تُقصران (¬6)، ولا تأثير للسفر فيهما. وأما سببه: فالشروعُ (¬7) في السفر الطويل المشروع، فقولنا: الشروعُ في السفر احترازٌ مما (¬8) إذا عزم، ولم يضربْ في الأرض، ولم يخرجْ من (¬9) منزله، فإنه لا يقصر حتى يخرجَ من مدينته، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق. ¬
وقد قال بعض العلماء: إنه يقصر، وروي ذلك عن الحارث بن أبي ربيعة: أَنَّه أرادَ بهم (¬1) سفرًا، فَصَلَّى بهم (¬2) رَكْعتين في منزله، وفيهم الأسودُ بنُ يزيدَ، وغيرُ واحد من أصحاب عبد اللَّه. هكذا ذكره صاحب "البيان والتقريب" (¬3). قال: وحكي عن عطاء: أنه قال: إذا خرج الرجلُ حاجًا، فلم يخرج من بيوت القرية حتى حضرت الصلاة، فإن شاء قصر، وإن شاء أوفى (¬4). وقد احتج بعضُهم لهذا المذهب: بأن المسافر لو نوى الإقامة، وجبَ عليه الإتمامُ بالنية، فكذلك المقيمُ إذا نوى السفر صير (¬5) مسافرًا بنيته، وهو ضعيف من وجهين: أحدهما: أن نقول: لا يكون مقيمًا بمجرد النية، ولكنه إذا نوى الإقامة، فمعناها أنه لا يسافر، فقد حصل فعلٌ مع نية، فاعتبر، وإذا نوى السفر قبل أن يخرج، لم يحصل في السفر، إلا نيةٌ بلا فعل؛ لأن معنى السفر: الضربُ في الأرضِ، ولم يحصل بعدُ. ¬
والثاني: أن الأصل الإقامة، وإنما الأسفارُ طارئة على الأصل، فيصحُّ أن يرجع إلى الأصل بالنية، ولا يلزم عليه أن يخرج عن الأصل بالنية، وهذا شبيهٌ بعرض التجارة، يرجع (¬1) بالنية (¬2) إلى القُنية؛ لأنها الأصل، ولا يرجع عرضُ القُنية بالنية للتجارة (¬3). والصواب: أنه لا قصرَ إلا في سفر، ولا سفرَ إلا بعد الخروج من القرية، وأن مجرد النية من غير أن يقترن بها أمر زائد لا اعتبار به في الأحكام المتعلقة بالجوارح؛ كالطلاق، والعتق، والنكاح، والبيع، فلا يكون الإنسان مطلِّقًا بنيته على القول المعروف من مذهبنا، ولا بائعًا، ولا ناكحًا، بخلاف الأحكام المترتبة على أعمال القلوب؛ كالإيمان، والكفر، والحسد، والعُجْب، والرياء، وغيره. والقصر، والإتمامُ من أفعال الجوارح، ويدلُّ عليه من السنة: أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- صلَّى الظهرَ بالمدينة أربعًا، والعصرَ بذي الحُلَيْفَة ركعتين (¬4)، فلم يقصر بمجرد النية، حتى برزَ (¬5)، وكذلك ¬
فَعَلَ عمرُ، كان إذا خرج حاجًا أو معتمرًا، قصرَ بذي الحليفة، ويدل عليه -أيضًا-: أن بنيان القرية في حق الداخل من السفر يقطع حكَم (¬1) السفر؛ بلا خلاف؛ إذ لا خلاف (¬2) أنه إذا دخل بيوتَ القرية، يُتِمُّ (¬3)، فلذلك تمنعُ (¬4) ابتداءَ السفر، واللَّه أعلم. هذه مقدمة، وفي البابِ فروعٌ كثيرةٌ موضِعُها كلتب الفقه، وليس في لفظ (¬5) الحديث ما يحتاج إلى تفسير. وأما ذكرُه لأبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ -رضي اللَّه عنهم-، وإن كان الدليلُ قائمًا بمجرد فعلِ الرسولِ -عليه الصلاة والسلام-، فللإشعار بدوامِ العملِ بذلك، وأنه لم يتطرق إليه نسخ (¬6)، ولا معارِضٌ راجحٌ، وهذه طريقة مالك رحمه اللَّه في "موطئه"، يبدأ بالحديث أولًا، ثم يذكر عملَ الصحابة وأهلِ المدينة -رضي اللَّه عنهم-، وهو مِنْوالٌ لم ينسج على مثاله (¬7) إلا مَنْ صحبه التوفيق، وهُدي في تأليفه إلى أَقْوَمِ طريق، واللَّه الموفق. * * * ¬
باب الجمعة
باب الجمعة الحديث الأول 129 - عَنْ سَهْل بْنِ سَعْد السَّاعِدِيِّ: أَنَّ نَفَرًا تَمَارَوْا في المِنْبَرِ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ؟ فَقَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ: مِنْ طَرْفَاءِ الغَابَةِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَامَ عَلَيْهِ، فَكَبَّرَ، وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَنَزَلَ القَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ في أَصْل (¬1) المِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِه، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي" (¬2). وَفي لَفْظٍ: صَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ كَبَّرَ عَلَيْها، ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ ¬
نزَلَ القَهْقَرَى (¬1). * * * * التعريف: سَهْلُ بْنُ سَعْدِ بنِ مالكِ بنِ خالدِ بنِ ثعلبةَ بنِ حارثة (¬2) بنِ عمرَ (¬3) ¬
ابنِ الخزرجِ بنِ ساعدةَ (¬1) بنِ كعبِ بنِ الخزرجِ، الساعديُّ، الأنصاريُّ، المزنيُّ. يكنى: أبا العباس، وقيل: أبو يحيى، كان سنُّه يومَ مات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسَ عشرةَ سنة، وتوفي سنة ثمان وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين، بالمدينة، وهو آخرُ مَنْ ماتَ من الصحابةِ بالمدينةِ (¬2)، ومات وله مئةُ سنة (¬3)، وأَحْصَنَ سبعين امرأةً، و (¬4) شهدَ قضاءَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المتلاعِنَيْنِ، وأنه فرق بينهما، كان اسمُه حَزْنًا، فغيَّر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسمه، فسمَّاه سَهْلًا. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئة حديث، وثمانية وثمانون حديثًا، اتفقا منها على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر. روى عنه: الزهريُّ، وأبو حازم (¬5) سلمةُ بنُ دينار، وسعيدُ بن المسيب، وأبو زُرعةَ عَمْرُو (¬6) بنُ جابر الحضرميُّ، وبكر بن سوادة، وغيرهم (¬7). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: النَّفَر -بفتح النون والفاء-: عِدَّةُ رجال من ثلاثة إلى عشرة، وكذلك النَّفِير (¬1)، وكذلك النَّفْر (¬2)، والنَّفْرَة (¬3)، بإسكان الفاء. قال الفراء: نَفْرَةُ الرجلِ، ونَفَرُه: رَهْطُه (¬4)، واللَّه أعلم. وقوله: "تَمارَوْا": مأخوذ من المماراة؛ وهي في اللغة: الاستخراج، مأخوذ من مَرَيْتُ (¬5) الناقةَ: إذا مسحتُ ضَرْعَها لتدرَّ، ومَرَيْتُ الفَرَسَ: (¬6) استخرجتُ ما عندها من الجَرْي بضرب (¬7) أو غيرِه (¬8) (¬9). ¬
وقال ابنُ الأنباري: يقال: أَمْرَى فلان فلانًا، إذا استخرجَ ما عنده من الكلام (¬1). قلت: فكأن (¬2) كلَّ واحد من المتمارِيَيْنِ -وهما المتجادِلان- يَمْري ما عند صاحبه؛ أي: يستخرجه. ويقال: مَرَيْتُه حَقَّه: إذا جَحَدْته، ويقال: المِراء: جُحودُ الحقِّ بعد ظهوره، واللَّه أعلم. الثاني: قد تقدَّم ذكرُ الخلاف فيمن عَمِلَ المنبرَ، هل عمله غلامُ المرأة الأنصارية؛ كما ذكره البخاري، أو غلامُ العباسِ عمِّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ وتقدم أيضًا: أصلُ اشتقاقه، وأنه من النَّبْر، وهو الارتفاع، بما يُغني عن الإعادة. وقد أجمعت العلماء على استحباب اتخاذ (¬3) المنبر للخطيب إذا كان هو الخليفة، وأما غيره من الخطباء، فهو بالخيار، إن شاء خطب على المنبر، وإن شاء خطب على الأرض. قال ابن بزيزة: واختلفوا إذا خطب على الأرض أين يقف؟ فمنهم من استحب أن (¬4) يقف عن يسار المنبر، واستحبَّ بعضُهم أن يقف عن ¬
يمينه، قال مالك: وكل ذلك واسع. مسألة: اختلف العلماء في الخطبة يوم الجمعة في أربعة مواضع: الأول: هل هي فرض، أم لا؟ وفي المذهب في ذلك قولان، والمشهور: الفرضيةُ. وروى ابن الماجشون عن مالك (¬1): أنه (¬2) تجزىء (¬3) الجمعةُ دونَ خطبة، وهو قولُ الحسنِ، وأهلِ الظاهر. وقد روي عن مالك: أن الخطبة فيها سنة. الثاني (¬4): هل القيام فيها مشروع، أم لا؟ والجمهور على مشروعيته، والقائلون بأنه مشروع اختلفوا -أيضًا-، هل هو من شروط صحة الخطبة، أم لا؟ فمنهم من قال: هو من شروط صحتها، إلا أن يكون ثمَّ عذرٌ؛ وهو قولُ مالكٍ، والشافعى. وأجاز أبو حنيفة الخطبةَ جالسًا. وأصلُ مذهب الشافعي: أن القيامَ والجلسةَ فرضٌ، فمن لم يفعل ذلك، فخطبتُه باطلة. ¬
وأصلُ مذهب مالك: أن القيام سنة، فمن لم يقم في خطبته، أساء، والخطبةُ مجزئةٌ. الثالث: هل تشترط فيها الطهارة الصغرى، أم لا؟ والمشهورُ: أنه إن خطب على غير وضوء، فقد أساء، وخطبتُه صحيحة. وكذلك اختلفوا أيضًا: هل تُشترط فيها الطهارة الكبرى، أم لا؟ وإنما يتصور ذلك إذا كانت في غير الجامع عندَ من لا يشترط الجامعَ في الجمعة؛ وهو مذهب الشافعي، وآخرين. ويلزم على قول من يقول: إن الخطبة بدلٌ من الركعتين، اشتراطُ الطهارتين جميعًا. الرابع: هل يجزىء فيها أَيْسَرُ ذِكْرٍ، أو لابدَّ مما يقع عليه اسمُ خطبةٍ (¬1) عند العرب؟ فقال أبو حنيفة، وحكاه ابنُ عبد الحكم عن مالك: يجزىء من (¬2) ذلك التكبيرةُ الواحدة، أو التحميدةُ، أو التهليلةُ. وفي "مسلم" وغيرِه، عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّه، قال: كانت خطبةُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الجمعة: يَحْمَدُ اللَّه، ويُثْنِي عليه (¬3). وقال ابن القاسم: لا يجزىء إلا ما ينطلق عليه اسمُ خطبة في كلام ¬
العرب؛ من الكلام المشتمل على حمد اللَّه، والثناء عليه. قال بعض متأخري أصحابنا: ويردُّ على أبي حنيفة ما خَرَّجه البزارُ عن أبي بردة (¬1)، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ" (¬2). قلت: ويرد عليه، أيضًا (¬3): ما روي عن أم هشام بنتِ حارثة: أنها قالت: ما أخذتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] إلا من لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقرؤها كلَّ يوم جمعة (¬4) على المنبر إذا خطبَ الناسَ (¬5). فقراءته -صلى اللَّه عليه وسلم- أثناء (¬6) الخطبة، ومواعظهُ، ودوامُه على ذلك يقضي (¬7) ببطلان ما قاله أبو حنيفة وغيرُه في ظاهر الحال؛ إذ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما بعثَ مُبَيِّنًا للأحكامِ، ولو كانت التكبيرةُ الواحدة، أو التحميدةُ ¬
تُجزِىءُ من ذلك (¬1)، لَبينَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إِمَّا بالقولِ، أو بالفعلِ، ولو مرةً واحدة، ولم ينقل ذلك عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، فبطل ما قال، واللَّه الموفق (¬3). الثالث: (القهقرى): أصلُها أن تكونَ مصدرَ قَهْقَرَ: إذا رجعَ إلى ورائه، وهي من المصادر الملاقية للفعل في المعنى دون الاشتقاق، فإنهم قالوا: رجعَ القهقرى، وفي هذا الحديث: نزلَ القهقرى؛ كما قالوا: قتلتهُ صَبْرًا، وحَبَسْتُه مَنْعًا (¬4). واختلف النحاة في نصبها على ثلاثة مذاهب: فقيل: إنها منصوبة بفعل مقدر من لفظها، والتقدير: رجع فقهقر (¬5) القهقرى. وقيل: إنها صفةٌ لموصوف محذوف؛ أي: رجعَ الرجعةَ القهقرى. والثالث: ما تقدم من أنها من المصادر الملاقية في المعنى دون الاشتقاق؛ ومثله: قعدَ القُرْفُصاءَ، واشتملَ الصمَّاءَ، الخلافُ (¬6) في الكلِّ واحدٌ. ¬
الرابع: في هذا الحديث: جوازُ صلاة الإمام على أرفعَ (¬1) مما عليه المأمومُ لقصدِ التعليم؛ كما هو مصرَّح به في لفظ الحديث، وأما إن عَرِيَ من قصدٍ صحيح، وقصد التكبر على مأموميه، فقال أصحابنا: تبطل صلاتهُ، وأجازوا الارتفاعَ اليسير؛ كعظمِ الذراعِ ونحوه. وفيه أيضًا: دليلُ جواز العمل اليسير في الصلاة. ق: لكنْ فيه إشكالٌ على من حَدَّدَ الكثيرَ من العمل بثلاث خطوات؛ فإن منبرَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثُ درجات، والصلاة كانت على العليا، ومن ضرورة ذلك أن يقع ما أوقعه من الفعل على الأرض بعدَ ثلاث خطوات فأكثرَ، وأقلُّه ثلاث، والذي يعتذر به عن هذا؛ أن يدَّعي عدمَ التوالي بين الخطوات؛ فإن التواليَ شرطٌ في الإبطال، أو ينازع (¬2) في كون قيام هذه الصلاة فوق الدرجة العليا. قلت: وعندي في هذا الاعتذار نظر. وفيه: دليل على جوازِ إقامةِ الصَّلاةِ أو (¬3) الجماعة؛ لأجل التعليم؛ كما هو مصرَّح به في الحديث. وأما قولُه في اللفظ الآخر (¬4): "ثم ركعَ وهو عليها، فنزلَ القهقرى": ¬
ظاهرُه: أنه نزل في الركوع؛ لما تقتضيه الفاءُ من التعقيبِ ظاهرًا، ولكنَّ الروايةَ الأولى نصٌّ في أن النزول كان بعد القيام من الركوعِ، والرجوعُ إلى النَّصِّ أولى مِنَ الرُّجوعِ إلى الظَّاهِرِ، وباللَّه التوفيق (¬1). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 130 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ" (¬1). ¬
* الشرح: (¬1) الجمعة: -بضم الميم وإسكانها وفتحها-، حكاهن (¬2) الواحدي عن الفراء، والمشهورُ الضَّمُّ، وبها قُرىء في السبع، والإسكانُ تخفيفٌ منه، ووجَّهوا الفتحَ (¬3): بأن الجمعة تجمع الناس؛ كما يقال؛ هُمَزَة، وضُحَكَة للمكثر (¬4) من ذلك، والفتحُ لغةُ بني عقيل. قال الزمخشري: قرىء في الشواذ باللغات (¬5) الثلاث. وكان يومُ الجمعة يسمى في الجاهلية: عَروبةَ، والعَروبة، ولهذا قال الشافعي رحمه اللَّه: يومُ الجمعة هو اليوم الذي بين الخميس والسبت، فأرادَ إيضاحه (¬6). فائدة: كانت العرب تسمِّي أيام الأسبوع: أَوَّل: يعني: الأحد، أهون، جُبار، دُبار، مُؤنس، عَروبة، شِيار. ولبعض شعراء الجاهلية: [الوافر] ¬
أُؤُمِّلُ أَنْ أَعِيَش وَإِنَّ يَوْمِي (¬1) ... بِأوَّلَ أَوْ بأهْوَن أَوْ جُبَارِ أَوْ التَّالِي دُبَارَ فَإِنْ أَفُتْهُ (¬2) ... فَمُؤْنِسَ أَوْ عَرُوبَةَ أَوْ شِيَارِ (¬3) قال السهيلي: أول من سمى العَروبةَ الجمعةَ كعبُ بنُ لؤي، فكانت (¬4) قريش تجتمع إليه في هذا اليوم، فيخطُبُهم، ويذكِّرهم بمبعَثِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويعلمهم أنه من ولده، ويأمرهم باتباعه، والإيمان به، وينشد في هذا أبياتًا منها: يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ فحواء (¬5) دَعْوتِهُ ... إِذَا قُرَيْشٌ تُبَغِّي الحَقَّ خِذْلَانَا (¬6) وثبت في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ (¬7) الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ" (¬8). ¬
وزاد مالك في "الموطأ"، وأبو داود، وغيرُهما بأسانيد على شرط البخاري، ومسلم: "وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، مِنْ حِينِ يُصْبحُ (¬1) حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ، إِلَّا الجِنَّ وَالإِنْسَ" (¬2). ع (¬3): الظاهر: أن هذه القضايا المعدودة فيه ليست لذكر فضيلتها؛ لأن ما وقع فيه (¬4) من إخراج آدمَ من الجنة، وقيام الساعة، لا يُعد في الفضائل (¬5). وإنما هو على تعداد القضايا، وتعظيمِ ما وقع فيه وحدثَ فيه من الأمور العظام، فيجب على ذلك أن (¬6) يكون العبدُ مستعدًا متحررًا بعمل (¬7)، صالحٍ لرحمةٍ من (¬8) اللَّه -تعالى- تناله، أو بطشة تُدفع عنه. ¬
وقوله: "مُصِيخَة" -بالخاء المعجمة-، وفي رواية أبي داود: "مُسِيخَة" -بالسين (¬1) -؛ أي: مصغية مستمعة (¬2). وعنه قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَحْنُ السَّابِقُونَ الآخِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتينَا مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَاناَ اللَّهُ لَهُ، (¬3) فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَاليَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ"، رواه البخاري، ومسلم (¬4). ومعنى (بَيْدَ): غير، وقيل: مَعَ، وقيل: على، وفيها لغة بالميم (مَيْدَ)، وقد تكون بمعنى: من أجل. أنشد أبو عبيد (¬5): عَمْدًا فَعَلْتُ ذَاكَ بَيْدَ أَنِّي ... أَخَافُ إِنْ هَلَكْتُ لم (¬6) تُرِنِّي (¬7) من الرَّنين. ¬
وعظَّمت اليهودُ يومَ السبت لما كان تمامُ الخلق فيه (¬1)، فظنت أن ذلك يوجب له فضيلةً، وعظَّمت النصارى يومَ الأحد لما كان ابتداءُ الخلق فيه، وكلُّ ذلك تحكُّمٌ بعقولهم، وهدى اللَّه هذه (¬2) الأمةَ المحمديةَ بسنن (¬3) الاتباع، فعظَّمَتْ ما عظَّمَ اللَّهُ. وقد قيل: إن موسى -عليه الصلاة والسلام- أمرَهم بالجمعة وفضلِها، فناظروه في ذلك، وخالفوه، واعتقدوا أن السبت أفضلُ، فأوحى اللَّه -سبحانه- إليه: أنْ (¬4) دَعْهُم وما اختاروا. وقد قيل: إن اللَّه فرض عليهم يومًا في الجمعة، فاختاروا يومَ السبت، وكأن اللَّه سبحانه وكَّلَ تعيينَ اليوم إلى اختيارهم (¬5)، فاختلف (¬6) اجتهادُهم في تعيينه، فحرمهم اللَّه -تعالى- بركةَ يوم الجمعة، وجعلَه لمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام- وأُمته (¬7)، فكانت (¬8) هذه الأمة المحمدية ¬
أسعدَ الأمم بالهداية من حيث كان يومهم هو عروس أيام (¬1) الأسبوع (¬2)؛ كما كان البيت الحرام (¬3) الذي يحجون إليه عروسَ الفلك الأرضي في الأمكنة، المقابل للبيت المعمور. وكان يوم الجمعة من الأيام المعظَّمة في الجاهلية والإسلام. قيل: ولم يختلف العلماء أن يوم عرفةَ أفضلُ منه، ولذلك (¬4) عَظُمَ فضلُه إذا وافق يومُ عرفة يومَ جمعة؛ لاجتماع أسباب الفضل فيه. ولم تزل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يخبرون أن اللَّه تعالى عظَّمه من حيث إن فيه تمام الخلق، وكمال الدائرة، فهو أحد الأسباب التي اختص بها واقتضت تشريفه. قال مجاهد في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54]، قال (¬5): أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، فلما اجتمع خلقُها يومَ الجمعة، جعلَه اللَّه تعالى عيدًا للمسلمين، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الجُمُعَةُ حَجُّ الفُقَرَاءِ"، و"عِيدُ المَسَاكِينِ (¬6) " (¬7). ¬
ومما يدل على تفضيل يوم (¬1) الجمعة ما رُوي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال (¬2): "أُتِيتُ بِمِرْآةٍ فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ"، وفي رواية أخرى: "فِيهَا نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَا هَذِهِ الْمِرْآةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ يَوْمُ الجُمُعَةِ، قُلْتُ: ما هَذِهِ النُّكْتَةُ؟ قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةُ الَّتِي في يَوْمِ الجُمُعَةِ" (¬3). قالَ بعضُ العلماءِ: السرُّ في كونها سوداءَ: هو انْبِهامُها والتِباسُ عينِها (¬4)، وبياضُها -على مقتضى الرواية الأخرى-: تنبيهٌ على شرفِها وخصوصيتها؛ من حيثُ إن البياض أحسنُ الألوان. تنبيه: اعلمْ: أن الزمن من حيث هو زمنٌ لا يفضلُ بعضُه بعضًا، وكذلك لا يفضُل شيء شيئًا بذاته، بل بالتفضيل، وللَّه -سبحانه- أن يفضل ما شاء، ومَنْ شاء، على ما شاء، وأن يخصَّ مَنْ شاء بما شاء، وقد نص الرسول -عليه الصلاة والسلام- على تفضيل بعضِ الأزمنة، ونَبَّهَ على رُجحان العمل فيها، وكأن المقصودَ من ذلك: حَثُّ الخلق ¬
على الاجتهاد والطاعات (¬1) فيها، منها: يوم عرفة، ومنها: عَشْرُ ذي الحجة، ومنها: رمضان عمومًا، وليلةُ القدر منه خصوصًا، ومنها: شعبانُ عمومًا، وليلةُ نصفه خصوصًا، ومنها: يوم الجمعة عمومًا، والساعةُ التي فيه خصوصًا، ومنها: يومُ عاشوراء، ومنها: الساعات (¬2) التي في الليل، وخصوصًا نصفه الأخير. وفي الخبر: أن داود -عليه الصلاة والسلام- قال: إِلَهيِ (¬3)! مَتَى أقومُ لِمُنَاجَاتِكَ؟ فَقَالَ (¬4): يَا دَاوُدُ! إِذَا ذَهَبُ شَطْرُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ. وفي هذه الشريعة المباركة المحمدية: "يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ"، الحديث (¬5). وقيل في قول يعقوب -عليه الصلاة والسلام-: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]: إنه أَخَّرَ الاستغفار إلى السحر. وقيل: وعدهم أن يستغفر لهم ليلةَ الجمعة. ¬
وقيل: بل أخَّر الاستغفارَ حتى يجتمع بيوسفَ بمصرَ (¬1)؛ ليكون أجمعَ للدعاء، وأطيبَ للنفس، وليستوهبَ (¬2) من يوسف ذنوبَ إخوته، على جميعهم أفضلُ الصلاة والسلام. وبالجملة: فتخصيصُ بعض الأزمنة، وتفضيلُ بعضها على بعض ثابتٌ في الشرع، وكلُّ ذلك لأسرار علمها -عليه الصلاة والسلام-، وأطلعَ اللَّهُ مَنْ شاءَ (¬3) عليها، واستَأْثَرَ بما شاءَ منها، قاله (¬4) ابن بزيزة، واللَّه الموفق. وليسَ في الحديثِ إلا مَا يتعلقُ بحكمِ الغُسل للجمعةِ، وظاهرُهُ: وجوبُ الغُسْلِ؛ فإنَّهُ صريحٌ في الأمر، وظاهرُ الأمرِ الوجوبُ، وقد جاءَ التصريحُ بلفظِ الوجوبِ في حديثٍ آخر، وقد اختلف العلماءُ في وجوبِهِ، وسنيتِهِ، واستحبابِهِ. ع (¬5): روي عن بعضِ الصحابةِ وجوبُه. قلت: وأظنُّه أبا هريرة -رضي اللَّه عنه-. وبه قال أهلُ الظاهر، وتأول ابنُ المنذر بأنه (¬6) مذهبُ مالك، ¬
وحكاه الخطابي عنه، وعن الحسن. وعامة فقهاء الأمصار، وأئمة الفتوى على أنه سُنةٌ، وهو مذهبُ مالك، والمعروفُ من قوله (¬1)، ومعظم قول أصحابه. وجاء عنه ما دلَّ على أنه مستحب؛ وبه قالت طائفة من العلماء، وقال بعضهم: الطِّيبُ يُجزىء عنه (¬2) (¬3). و (¬4) كذلك -أيضًا- اختلفوا في الطيب والسواك، والجمهورُ على عدمِ وجوبه. قال بعض متأخري أصحابنا: والمعوَّل في إسقاط وجوبه حديثُ عمرَ بنِ الخطابِ -رضي اللَّه عنه- مع عثمانَ حين دخلَ عليه (¬5). على أنهم قد اختلفوا في الداخل من هو؟ فقيل: عثمان، وقيل: غيره. وفي "صحيح البخاري": إذ جاء رجلٌ من المهاجرين الأَوَّلِينَ من أصحابِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). ¬
و (¬1) وجه الاستدلال من حديث عمر: أنه لو كان الغسل واجبًا، لما تركه عثمانُ -رضي اللَّه عنه-، ولأَمَرَه عمرُ بالخروج والاغتسال (¬2)، فهو إقرار منه بمحضر الصحابة، فكان كالإجماع، وهذا الذي يسميه (¬3) الفقهاء: الإجماعَ السكوتيَّ، واختلفوا هل هو حجة، أم (¬4) لا؟ وروى النسائي عن الحسن، عن سَمُرة، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ، فَالغُسْلُ أَفْضَلُ" (¬5)، وهذا نصٌّ إسقاط الوجوب، وإن كان قد اختلف في تصحيح إسناد هذا الحديث؛ فضعَّفه بعضُهم، وصحَّحه بعضُهم. ق (¬6): والمشهورُ أن سندَه صحيح على مذهب بعض أهل الحديث (¬7). قلت: ووجهُ التضعيف اختلافُ أهلِ الحديث في سماع الحسنِ ¬
من (¬1) سمرةَ. وذكر أبو أحمد بن عديٍّ -أيضًا (¬2) - عن أنس، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إِلَى (¬3) الجُمُعَةِ، فَلْيَغْتَسِلْ"، فلما كان الشتاءُ، قلنا: يا رسولَ اللَّهِ! أمرتَنا بالغُسل يومَ الجمعة (¬4)، وقد جاء الشتاء، ونحن نجد البردَ، فقال: "مَنِ (¬5) اغْتَسَلَ، فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ، فَلَا حَرَجَ" (¬6). قلت: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فَبِهَا وَنِعْمَتْ"، تقديرُه: فَنِعْمَتْ فِعْلَةً فِعْلَتُه، فحذف التمييز، واسمُ الممدوح، هكذا نص عليه أهل العربية. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا" (¬7) يقتضي الحثَّ والاستحباب، والترغيبَ، دونَ الحَتْم والوجوب. وأما حديثُ أبي هريرة: "حَقٌّ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ في كُلِّ ¬
سَبْعَةِ أَيَّامٍ" (¬1)، وحديثُ أبي سعيدٍ الخدريِّ -أيضًا-: أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" (¬2)، فمقتضاهما (¬3) وجوبُ الغُسل يومَ الجمعة، وتأوله المالكيةُ على وجوب السُّنَن، وفيه عندي نظر، وفي بعض طرق الحديث: "كَغُسْلِ الجَنَابَةِ" (¬4)، فقيل: حكمًا، وقيل: صفةً. قال الخطابي: ولم تختلف الأمة أن صلاةَ مَنْ لم يغتسل للجمعة جائزةٌ (¬5). ومما استدل به الجمهور -أيضًا-: حديثُ عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: كان الناس ينتابون (¬6) الجمعةَ من منازلهم، فيأتون في ¬
العَباء، ويُصيبهم الغُبار، فيخرج منهم الريحُ، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا" رواه البخاري، ومسلم (¬1). وعن ابن عباس، قال: غُسل الجمعة ليس بواجب، ولكنه أطهرُ وخيرٌ لمن اغتسل (¬2)، وسأخبركم كيف كان (¬3) بدءُ الغسل، فذكرَ نحوَ حديث عائشة، رواه أبو داود بإسناد حسن (¬4). وبالجملة: فالأحاديثُ التي ظاهرُها الوجوب إذا حُملت على الندب، كان ذلك (¬5) جمعًا بينها وبين ما يقتضي من الأحاديث عدمَ الوجوب، واللَّه أعلم. قال العلماء: ويُستحب أن يتنظف بالاستياك، وقصِّ الأظفار، وأخذِ الشعر، وقطع الأرائح، وأن يتطيَّبَ، ويلبسَ أحسنَ ثيابه؛ لما روى أبو سعيد، وأبو هريرة -رضي اللَّه عنهما-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَاسْتَنَّ، ومَسَّ مِنْ طِيبٍ (¬6) إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يأْتيَ المَسْجِدَ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ، ثُمَّ رَكَعَ ¬
مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْكَعَ، وَأَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ؛ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا" (¬1). وأفضلُ الثياب البَياضُ؛ لما روى سَمُرَةُ بنُ جندبٍ، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْبَسُوا بَيَاضَ الثِّيَابِ؛ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ، وَأَطْيَبُ" (¬2). وَيُسْتَحَبُّ للإمامِ من الزينةِ أكثرُ مما يُسْتَحَبُّ لغيرهِ؛ لأنه مقتدًى به، والأفضل أن يعتمَّ ويرتدي؛ اقتداءً به -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 131 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ (¬1). ¬
الجمهورُ على وجوب الخطبتين. واختلف أصحابنا في شرطيتهما (¬1) في إقامة الجمعة على قولين: أشهرهما: أنهما (¬2) فرض، وشرط. و (¬3) القول الثاني: أنهما (¬4) سنة، قاله ابن الماجشون من أصحابنا. ¬
قال: ومن صلَّى بغير خطبة، لم يُعدْ، وروى في "الثمانية" (¬1): أن الجمعة تجزئه، وهو مذهب الحسن البصري، وداود. ووجه القول باشتراطهما (¬2): ما قدمناه من أنها عبادة افتتحت (¬3) على وجوه، فالأصلُ اعتبارُ جميع الوجوه التي وقعت عليها، فلا تجزىء إِلَّا كذلك، إِلَّا ما دلَّ الدليل على أنه طَرْدٌ، ولم يدلَّ دليلٌ على أنهما (¬4) طرد، بل لا خلاف أنها مقصودة مطلوبة. وأيضًا: فإن وجوب الجمعة وقع مجملًا في القرآن (¬5)، فبينه الرسول -عليه الصلاة والسلام- بفعله، وإذا كان الفعل بيانًا لمجمَل القرآن، كان على الوجوب، ولم ينقل أنه (¬6) -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاها قَطُّ إِلَّا بخطبة. قال الإمام المازري: وأيضًا: فقد قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وأولُ الذِّكْر في الجمعة الخطبةُ، فيُحمل الظاهرُ عليه. قلت: ومما يدلُّ على أن المرادَ بالذكرِ الخطبة: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ، طُوِيَتِ الصُّحُفُ، وَجَلَسَتِ ¬
المَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" (¬1)، ولا أعلم في ذلك خلافًا بين العلماء. (¬2) قال الإمام المازري: وأيضًا: فإن اللَّه -تعالى- حرم البيعَ حينَ النداء، فلولا وجوبُ الخطبة، لم يحرم البيعُ إِلَّا عند الشروع في الصلاة. وأيضًا: فإن الخطبة قامت مقام الركعتين، ألَّا ترى قولَ عمرَ -رضي اللَّه عنه-: قصرت الصلاةُ لأجل الخطبة، والركعتان الساقطتان كانتا فرضًا، فكذلك ما أُقيم مقامَهما، وكذلك قال أصحابنا في الإمام يخطب قبلَ الزَّوال: إنه (¬3) يعيد الصلاة والخطبة؛ لأنها عندهم (¬4) مقام ركعتين، فيراعى الوقت فيها؛ كما يراعى في الركعتين. وأما شبهة من قال: إنها غير واجبة، فالقياسُ على غيرها من الأذكار والخطب، والفرق عندنا: أن هذه قد غير (¬5) بسببها الفرض؛ بخلاف غيرها. وفي الحديث: دليل على الجلوس بين الخطبتين، وقد تقدَّم ¬
ذكرُ الخلاف في وجوبه بين العلماء، وأن (¬1) منقولَ مذهبِ الشافعي وجوبُه، بل قد نُقلت عنه رُكْنِيَّتُه، وأن مذهب مالك عدمُ الوجوب، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 132 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الجُمْعَةِ، فَقَالَ: "صَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟ "، قَالَ (¬1): لَا، قَالَ: "قُمْ فَارْكَعْ رَكعَتَيْنِ" (¬2). وفي رِوَايَةٍ: "فَصَلِّ رَكعَتَيْنِ" (¬3). ¬
الكنايةُ عن اسم الرجل، وهو سُلَيْكٌ الغَطَفانِيُّ بـ: "يا فلان! " يحتمل أن يكون من قوله -عليه الصلاة والسلام-، ويحتمل أن يكون من قول جابر، وأيًا ما كان، فيُسأل عن وجه العدول عن التصريح (¬1) باسمه إلى الكناية، وما حكمة ذلك؟ إذ لا يعدل عن الأصل إِلَّا لمعنى مناسب. ولتعلم: أن فلانًا وفلانةَ من الأسماء التي لا تُثنى، ولا تُجمع؛ لأنها لم تستعمل نكرة، إذ هي كناية عن (¬2) الأعلام، والاسمُ لا يُثنى ¬
ولا يُجمع حتى ينكَّر، فاعرفْه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "صليت؟ " أي: تحيةَ المسجد؛ إذ الجمعة لا يقيمُها غيرُه -عليه الصلاة والسلام- والحالة هذه. وفيه: جوازُ إسقاط همزة الاستفهام من الفعل المستفْهَم عنه؛ إذ الأصل: أصليت؟ ومنه قول الشاعر: [الطَّويل] بِسَبعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ (¬1) والتقديرُ: أبسبعٍ رمينَ الجمر؟ وقد حُمل عليه قوله -تعالى-: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، قال بعضهم (¬2)، التقدير: أفمن نفسك؟ وهو كثير. وسرُّه كثرةُ الاستعمال، حتى قيل: إن الاستفهام أكثرُ من الخبر، وقالوا: إن الاستفهام دهليزُ العلم، واللَّه أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "قمْ فاركعْ" ظاهرُ في جواز (¬3) تحية المسجد حالَ خطبة الإمام، وإلى ذلك (¬4) ذهب أكثرُ أصحاب الحديث، والشافعيُّ، وأحمدُ؛ أخذًا بظاهره، وغيره مما هو أصرحُ منه، وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا جاء أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَة وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، ¬
فَلْيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا" (¬1)، وهذا عمومٌ صريح. وذهب مالكٌ، وأبو حنيفة: إلى أنه لا يركعُهما؛ لوجوب الاشتغال بالاستماع، واستدلَّا على ذلك بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ: أَنْصِتْ، فَقَدْ لَغَوْتَ" (¬2)، وإذا منع من هذه الكلمة، مع كونها أمرًا بمعروف، ونهيًا عن منكر في زمن يسير، فلأن تُمنع (¬3) الركعتان مع كونهما مسنونتين في زمن طويل من باب أولى (¬4). قلت: ولعلَّ المخالف يقول: لعل هذه الكلمةَ الواحدة تؤدِّي إلى التشاجر والخصام، ورفعِ الصوت حالَ (¬5) الخطبة؛ فإن الغالب من حال مَنْ ينكر عليه عدمُ القبول، لا سيما في زماننا هذا، فتكون مفسدتها أشدَّ من مفسدة الاشتغال بالركعتين، مع كون الصلاةِ عبادةً مندوبة، والخصامُ حرام. وقد اعتذر أصحابنا عن حديث سُليك: أنه مخصوصٌ به، وإنما خُصَّ بذلِكَ (¬6)؛ لأنه كان فقيرًا، فأُريد قيامُه ليستشرفَه الحاضرون، فيُتَصَدَّقَ عليه. ¬
ق (¬1): وربما يتأيد هذا بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمره بالقيام للركعتين بعدَ جلوسه، وقد قالوا: إن ركعتي (¬2) التحية تفوتُ (¬3) بالجلوس، وقد عُرف أن التخصيص على خلاف الأصل، ثم يبعد الحملُ عليه مع صيغة العموم، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ" الحديث، فهذا تعميمٌ يُزيل توهُّمَ التخصيص بهذا الرجل. وقد تأولوا هذا العمومَ -أيضًا (¬4) - بتأويل مستكْرَه وأقوى من هذا للعذر (¬5): ما ورد أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سكتَ حتى فرغ من (¬6) الركعتين، فحينئذ يكون المانعُ من عدم الركوع منتفيًا، فيثبت الركوعُ، وعلى هذا أيضًا تردُ الصيغة التي فيها العموم (¬7)، واللَّه أعلم. * * * ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رِيَاضُ الأَفْهَامِ فِي شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 7 - 13 - 418 - 9933 - 978 ISBN دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالِب سوريا - دمِشق ص. ب: 34306 لبنان - بِيروت ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com
الحديث الخامس
الحديث الخامس 133 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ" (¬1). ¬
الحديث يدلُّ لمالكٍ (¬1) رحمه اللَّه تعالى على وجوب الإنصاتِ؛ لتعليقه -عليه الصلاة والسلام- بكونِ الإمامِ يخطبُ، وهذا عام بالنسبة إلى سماع المصلِّي وعدمِه. وقال الحسن البصري: لا بأس أن يسلِّمَ، ويردَّ السلامَ. وقال الشعبي (¬2)، وسالم: ردُّ السلامِ في حال الخطبة واسعٌ. وقال القاسمُ بنُ محمد: (¬3) يردُّ في نفسه. وفرق عطاءٌ بين أن يسمعَ الخطبة، فيردَّ في نفسه، أو لا يسمعَ، فيردَّ جهرًا (¬4) (¬5). وقد تقدم استدلالُ مالك، وأبي حنيفة بهذا الحديث على عدم تحيةِ المسجدِ حالَ خطبة الإمامِ. ويجوز في مضارع لغا الواو والياء (¬6)، فيقال: يَلْغو ويَلْغَى (¬7)، ¬
واللَّغْوُ واللَّغا: رديءُ الكلامِ مما (¬1) قَبُحَ ولا خيرَ فيه، وقد يطلق على الخَيْبَة (¬2) (¬3)، وقد قالوا (¬4): لغا الرجل يلغو: إذا تكلم بلُغَته، فلا يكون من هذا الباب، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 134 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ثُمَّ رَاحَ في السَّاعَةِ الأُولَى، فَكَأَنَّما قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّما قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّما قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّما قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّما قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ، حَضَرَتِ المَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: ظاهرُ هذا الحديث أن التبكير للجمعة أفضلُ من التَّهْجير، وهو اختيار الشافعي؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث (¬1). والذي اختاره مالكٌ: التهجير دونَ التبكير، وحملَ الحديثَ على أن المراد به: بعدَ الزوال؛ تعلقًا بأن الرواح لا يكون في أول النهار، وإنما يكون بعد الزوال. قال الإمام المازري: وخالفه بعضُ الأصحاب (¬2)، ورأى أن المراد (¬3): أولُ النهار، تعلقًا بذكر الساعات الأولى والثانية إلى ما ذكر، وذلك لا يكون إِلا من أولِ النهار، فتمسك مالكٌ رحمه اللَّه بحقيقة الرواح، ¬
وتَجَوَّزَ في تسمية الساعة، ويؤكده عنده (¬1) -أيضًا-: قوله -عليه الصلاة والسلام- في بعض طرق الحديث: "مَثَلُ المُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً" (¬2)، والتهجيرُ لا يكون أولَ النهار، وتمسَّك بعضُ أصحابه بحقيقة لفظ الساعة، وتجوَّزَ بلفظ الرواح (¬3). قلت: أما الرواح، فاختلف فيه اللغويون، فظاهرُ كلام الجوهري، أو نصُّ كلامه: أنه لا يكون إِلَّا بعدَ الزَّوال (¬4)؛ كما قاله مالك رحمه اللَّه، وغيره. وأما الأزهري، فأنكر ذلك، وغلَّطَ قائلَه، فقال في "شرح ألفاظ المختصر": معنى راح: مضى إلى المسجد، ويتوهم كثيرٌ من النَّاس أن الرواحَ لا يكون إِلَّا في آخر النهار، وليس ذلك بشيء؛ لأن الرواحَ والغُدُوَّ عند العرب مستعملان في السير أيَّ وقتٍ كانَ من ليلٍ أو نهار، يقال: راح في أولِ النهار وآخرِه، يروح، وغدا بمعناه (¬5). هذا لفظ الأزهري. وذكر غيرُه نحوَه (¬6) أيضًا. ¬
وقال الخطابي في شرح هذا الحديث: معنى راح: قصدَ الجمعةَ، وتوجَّه إليها مبكِّرًا قبلَ الزوال. قال: وإنما تأولناه هكذا؛ لأنه لا يبقى بعدَ الزوال خمس ساعات في وقت الجمعة، وهذا سائغ (¬1) في الكلام، تقول راح فلان: بمعنى: قصد، وإن كان حقيقة الرواح بمعنى الزوال (¬2). قلت: قولُه (¬3): لا يبقى (¬4) خمسُ ساعات بعد الزوال، إنما يثبت هذا الإشكال إذا حملنا الساعات على الأجزاء الزمانية التي يقسم النهار فيها إلى اثني عشر جزءًا، وأما إذا حملناها على ما تأوله مالك رحمه اللَّه؛ من تقسيم الساعة السادسة إلى ستة أجزاء على ما سيأتي، فلا يثبت إشكالًا، مع أنه قد سلم أن حقيقة الرواح بمعنى الزوال (¬5) في (¬6) قوله: -عليه الصلاة والسلام-: "مَثَلُ المُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً"، والتهجيرُ عند الأكثرين: السيرُ وقتَ الهاجرة. وما أبعدَ تأويلَ من تأوله من الشافعية بأن معناه: هجرَ منزله وتركه! ¬
ع: وأقوى معتمد مذهب (¬1) مالك في (¬2) المسألة، وكراهة البكور فيها (¬3) -خلاف ما قاله الشافعي، وأكثر العلماء، وابن حبيب من أصحابنا: عملُ أهل المدينة المتصلُ بتركِ ذلك، وسعيُهم إليها قربَ صلاتها، وهو نقلٌ معلومٌ غيرُ منكَرٍ عندهم، ولا معمولٍ بغيره، وما كان أهل عصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومَنْ بعدهم ممن يترك الأفضلَ إلى غيره، ويتمالؤون على العمل بأقل الدرجات. ومما يؤيد تأويلَه -أيضًا-: أنه لو كان كما تأوله غيرُه في سائر ساعات النهار، كان حكمُ الساعات كلِّها في الفضل واحدًا. قلت: يريد: كأنه (¬4) يلزمُ منه أن يكون كلُّ مَنْ جاء في الساعة الأولى -مثلًا- في الفضل واحدًا. وكذلك الثانية، إلى آخر الساعات، ومعلومٌ أن السابق له فضلٌ على اللاحق، فلا تتساوى مراتبُ النَّاس في كل ساعة، وقد جاء في (¬5) الحديث: "ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ"، وجاء في الحديث أيضًا: "يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ"، وهو بمعنى (¬6) الذي قبله. ¬
ثم قال: و (¬1) أيضًا: فإن الزوال إنما هو في آخر الساعة السادسة (¬2)، وقد: انقضت -على قولهم- الفضائلُ في الخامسة، وإنما انقطعت في الحديث بخروج (¬3) الإمام، فلم يبق على قولهم للسادسة إلى خروج الإمام فضلٌ، وهو (¬4) خلاف الحديث (¬5). ق: وهذا الإشكال إنما ينشأ إذا جعلنا الساعةَ هي الزمانيةَ، أما إذا جعلنا ذلك عبارةً عن ترتيب منازل السابقين، فلا يلزم (¬6) هذا الإشكال، واللَّه أعلم (¬7). ثم قال ع: ومعنى الساعة الأولى والثانية والثالثة على هذا: وقتُ رواحِه على طريق التقريب؛ كما يقال: اقعد بنا ساعةً، ولم يرد ساعة الزمان المعهودة (¬8). قلت: وممن اختار ما ذهب إليه مالك -رضي اللَّه عنه- في هذا التأويل من الشافعية؛ إمامُ الحرمين، والقاضي حسين، وغيرُهما (¬9) من الخراسانيين ¬
على ما نقله ح (¬1) في "شرح المهذب" (¬2). الثاني: قوله-عليه الصلاة والسلام-: "فكأنما قَرَّبَ بدنةً": اختُلف في البدنة هل تختص بالإبل، أو تقع -أيضًا- على البقر، والغنم؟ بعد الاتفاق على أنها تقع على الذكر والأنثى من الإبل. قالوا: وسميت بدنة؛ لأنها تُبَدَّنُ، والبدانة السِّمَنُ، وفيه عندي نظر، فإن (¬3) السِّمَن غيرُ مختص بالإبل، والفيلُ أعظمُ منها بَدانة وسِمَنًا، ولا يسمَّى بدنة، وأما الجزور، فلا تكون إِلَّا من الإبل. ع (¬4): وقد يحتج: بهذا الشافعي، وأبو حنيفة، في تفضيل البُدْن في الضحايا على الغنم، وأنها أفضل، ثم البقر، ثم الغنم، وسَوَّوا بين الهدايا والضحايا (¬5) وسائر النسك. ومالك وأصحابُه يقولون: أما في الضَّحايا، فالضأن أفضلُ من المعز، ثم البقر، ثم الإبل، ومن أصحابنا من قدَّمَ الإبلَ على البقر، ووافقوا في الهدايا، وحجتُهم: قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ضحَّى بالضأن، وما كان ليتركَ الأفضلَ، كما لم يتركه في الهدايا، ولأن الغرض في الضحايا استطابةُ ¬
اللحم، وفي الهدايا كثرتُه، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "بَدَنَة، ثم بَقَرَة" يحتج به (¬1) عطاءٌ في أن البُدْنَ لا تكون إِلَّا من الإبل وحدَها، ومالكٌ يرى البقرَ من البُدْن. وفائدة هذا فيمن نذرَ بدنة، ويكون ببلد لا يوجد فيه (¬2) إِلَّا البقر (¬3)، وذلك عند عدم الإبل، أو قصر النفقة (¬4). تنبيه: ظاهرُ هذا الحديث أو نصُّه، يقتضي أن هذا التقريب المذكور لا يحصل إِلا لمن اغتسل، ثم راح؛ لتصديره -عليه الصلاة والسلام- الشرطَ به، وهو كلمة (مَنْ)، وعطف الرواح عليه، بثُمَّ المرتِّبَة، نعم، من راح في الساعة الأولى -مثلًا- من غير اغتسال، كان له فضلٌ على من (¬5) راحَ بعدَه، ولكن لا يحصل له أجرُ التقريبِ المذكورِ المشروطِ بالاغتسال، فمن ادَّعى عدمَ اعتباره، فعليه الدليل. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "كأنما قَرَّبَ دجاجة" و"كأنما قرب بيضةً"، وفي الرواية الأخرى في كتاب "مسلم": "أَهْدَى دَجَاجَةً (¬6)، وَأَهْدَى بَيْضَةً"، وليس هذان مما يطلق عليهما اسمُ هَدْي، ¬
واعتذر عن رواية "أهدى": بأنه لما عطفه على ما قبلَه من الهدايا، وجاء به بعده، لزمه حكمُه في اللفظ، وحُمل عليه؛ كقوله: مُتَقَلّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا أي: وحاملًا رمحًا، وكذلك هنا؛ كأَنه (¬1) كالمتقرب بالصدقة بدجاجة، أو بيضة، وأطلق على ذلك اسم الهدي؛ لتقدمه، وتحسين الكلام به. وأما (¬2) رواية: "فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَذَا"، فاعتذر عنه -أيضًا (¬3) - بأنه ضربٌ من التمثيل للأجور ومقاديرها، لا على تمثيل الأجور وتشبيهها، حتى يكونَ أجرُها كأجر هذا، وتكون الدجاجة في التمثيل والتدريج، والبيضة بقدر أجرهما (¬4) من أجر البدنة، لو كان هذا مما يُهدى. ع (¬5): واختُلف في الغنم، هل هي من الهدي، أم لا؟ وفائدةُ الخلاف فيمن قال: عليَّ هديٌ (¬6)، هل تجزئه (¬7) شاةٌ أم لا؟ وأجاز ذلك ¬
مرةً مالكٌ، ومرة لم يُجزها إِلا من قصر النفقة، على تضعيف منه فيها. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإذا خرجَ الإمامُ، حضرتِ الملائكةُ يستمعونَ الذِّكْر"، وفي رواية البخاري: "طَوَوْا صُحُفَهُمْ". ع (¬1): قالوا: هذا يدل على أنهم غيرُ الحفظة (¬2). وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: لا دليل فيه. (¬3) قال ابن بزيزة: وأما طيُّ الصحف، فعبارة عن أنهم لا يكتبون، فهل هو تنبيه على فضيلة البكور؛ بحيث إنه إن لم يبكر، لا يكتب له مثلُ ما يُكتب للمبكر؟ أو نفي الكَتْبِ مطلقًا في حق غير المبكر؟ وهو ظاهر اللفظ. وفي "مسند الحارث (¬4) بن أبي أسامة": "إِنَّ المَلَائِكَةَ يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ: جَاءَ فُلَانٌ مِنْ سَاعَةِ كَذَا، جَاءَ فُلَانٌ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، جَاءَ فُلَانٌ وَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ، جَاءَ فُلَان وَلَمْ يُدْرِكِ الجُمُعَةَ، إِذَا (¬5) لَمْ يُدْرِكِ الخُطْبَةَ" (¬6)، فهذا يدلُّ على أن كَتْبهم لا ينقطع بجلوس الإمام على المنبر. ¬
وفي بعض طرق هذا الحديث: "ثُمَّ كَمِثْلِ مَنْ يُهْدِي عُصْفُورًا" (¬1)، ذكره بين الدجاجة والبيضة، وهو مناسبٌ من طريق المعنى، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 135 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ-، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ (¬1) الجُمُعَةِ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ، وَلَيْسَ لِلْحِيْطَانِ ظِلٌ نستَظِلُّ بِهِ (¬2). وَفِي لَفْظٍ: كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنتَتَبَّعُ الفَيْءَ (¬3). ¬
* التعريف: سَلَمَةُ بنُ عَمْرِو بنِ الأَكوعِ، واسمُ الأكوع: سنانُ بنُ عبدِ اللَّه بنِ خزيمةَ بنِ مالكٍ، الأسلميُّ. يكنى: أبا مسلم، وقيل: أبا ياسر، وقيل: أبا عامر. أسلم هو وأخوه عامر، وصحبا النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، واستوطن الرَّبذة بعدَ قتل عثمان -رضي اللَّه عنهما-، وكان يرتجز بين يدي النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في أسفاره، وبايعه يومَ الحديبية، وبايعه تحتَ الشجرة، وكان راميًا يصيدُ الوحشَ، وقال له رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مُنْصَرَفِه إلى المدينة: "خَيْرُ رِجَالَتِنَا اليَوْمَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ" (¬1)، وهو الذي استنقذ لقاحَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين أخذتها غَطفانُ وفزارةُ، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ" (¬2)، وكان يصفِّرُ رأسَه ولحيته (¬3). توفي سنة أربع وسبعين، وقيل: وستين، وله ثمانون سنة، وبايع ¬
النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاث مرات. قال سلمة: كنتُ تبعًا -صلى اللَّه عليه وسلم- لطلحةَ بنِ عُبيد اللَّه أسقي فرسَه، وأَحُسُّه، وأخدمُه، وآكلُ من طعامه، وتركت أهلي ومالي مُهاجرًا إلى اللَّه ورسوله، وذكر الحديث بطوله -رضي اللَّه عنه- (¬1). الشرح: الجمهورُ على أن وقتَ الجمعة وقتُ الظهر، وخالف في ذلك أحمدُ، وإسحاقُ، وكان حجتهما في ذلك: ما جاء في حديث سهل: مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ (¬2). وقال الإمام المازري: ومحملُه (¬3) عندنا: على أن المراد به (¬4): التبكير، وأنهم كانوا يتركون ذلك اليومَ القائلةَ والغداءَ (¬5)؛ لتشاغلهم بغسل الجمعة والتهجير (¬6). ¬
قلت: ويؤيد هذا التأويلَ قولُه في الرواية الأخرى: كُنَّا نجمِّعُ معَ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا زالتِ الشمسُ، فهذا مفسِّرٌ لما وقع في حديث سهل، وكاشفٌ (¬1) لمعناه. وأما قول سلمة: "ثم ننصرفُ وليس للحيطان ظلٌّ نستظلُّ به"، فإنه لم ينفِ مطلقَ الظلِّ، وإنما نفى ظلًا يُستظل به، مع أن جدرانهم (¬2) كانت قصيرة؛ فإنهم كانوا لا يتطاولون في البنيان، فقصرُها يمنعُ من الاستظلال بها وقتَ الزوال إلى زمان (¬3) طويل. ق (¬4): (¬5) أهلُ الحساب يقولون: إنَّ عرضَ المدينة خمسٌ وعشرون درجةً، فإذًا غايةُ الارتفاع يكون تسعًا وثمانين، فلا تُسامِتُ الشمسُ الرؤوس، وإذا لم تسامتِ الرؤوسَ (¬6)، لم يكن ظل القائم تحته حقيقة، بل لابدَّ له من ظل، فامتنع أن يكون المرادُ: نفيَ أصل الظل، فالمراد: ظلٌّ يكفي أبدانَهم للاستظلال، ولا يلزم من ذلك وقوعُ الصلاة ولا شيءٌ (¬7) من خطبتها قبلَ الزوال. ¬
وقوله: كنا نُجَمِّع: هو بضم النون وفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة؛ أي: نُقيم الجمعةَ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). والفيء: ما بعدَ الزوال من الظل، أنشد الجوهري: فَلَا الظِّلَّ مِنْ بَرْدِ (¬2) الضُّحَى نَسْتَطِيعُهُ ... وَلَا الفَيْءَ مِنْ بَرْدِ (¬3) العَشِيِّ نَذُوقُ قال (¬4): وإنما سُمي الظل فَيْئًا؛ لرجوعه من جانب إلى جانب. قال ابن السِّكِّيت: الظلُّ: ما نسخته الشمسُ، والفيءُ: ما نسخَ الشمسَ. وحكى أبو عُبيد (¬5) عن رؤبة: كلُّ ما كانت عليه الشمسُ، فزالت عنه، فهو فيءٌ، وظِلٌّ، وما لم تكن عليه الشمسُ، فهو ظِلٌّ، والجمعُ: أَفياء، وفُيوء، وقد فَيَّأَتِ الشجرةُ تَفْيِئَةً، وتَفَيَّأْتُ أَنَا في فَيْئهَا (¬6)، وتَفَيَّأَتِ الظِّلالُ: تَقَلَّبَتْ، واللَّه أعلم (¬7). ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 136 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْرَأُ في صَلَاةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] السَّجْدَةَ، و: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} (¬1) [الإنسان: 1]. ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله (¬1): "صلاة الفجر"، يعني: صلاة الصبح. الثاني: قوله: "الم" السجدة: اعلمْ: أنه قد اختُلف في الحروف المتقطعة (¬2) في أوائل السور على قولين: قال الشعبيُّ عامرُ بنُ شراحيل (¬3)، وسُفيانُ الثوريُّ، وجماعةٌ من المحدِّثين: هي سرُّ اللَّه في القرآن، وهي من المتشابِه الذي انفردَ اللَّه تعالى بعلمِه، ولا يجبُ أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت. وقال الجمهور من العلماء: بل (¬4) يجب أن نتكلم (¬5) فيها، ونلتمس (¬6) الفوائدَ التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها. واختلفوا في ذلك على اثني عشر قولًا (¬7): فقال علي بنُ أبي طالب، وابنُ عباسٍ -رضي اللَّه عنهما-: الحروفُ المقطَّعة في القرآن (¬8) اسمُ اللَّه الأعظمُ، إِلا أنا لا نعرفُ تأليفَه منها. ¬
وقال ابن عباس -أيضًا-: هي أسماءٌ أقسمَ اللَّه -تعالى- بها. وقال زيدُ بنُ أسلمَ: هي أسماءٌ للسُّوَر (¬1). وقال قَتادة: هي أسماءٌ للقرآن؛ كالفرقان، والذِّكْر. وقال مجاهدٌ: هي فواتِحُ السُّوَر (¬2). قال ابنُ عطية: كما يقولون في أوائل الإنشاد لشهير القصائد: بل، ولا بل، نحا هذا النحوَ أبو عبيدةَ، والأخفشُ. وقال قومٌ: هي حسابُ أبي جاد؛ لتدلَّ على مدة ملَّةِ محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ كما ورد في حديث حُيَيَّ بنِ أَخْطَبَ، وهو قولُ أبي العالية رفيعٍ، وغيرِه. وقال قُطْرُبٌ وغيرُه: هي إشارة إلى حروف المعجم؛ كأنه يقول للعرب: إنما تَحَدَّيتكم (¬3) بنظمٍ من هذه الحروفِ التي (¬4) عرفتم، فقوله تعالى: {الم} بمنزلة قولك (¬5): اب ت ث؛ ليدل بها على التسعةِ (¬6) والعشرين (¬7) حرفًا. وقال قوم: هي أَمارةٌ قد كان اللَّه -تعالى- جعلها لأهل الكتاب، ¬
أنه (¬1) سَيُنَزِّلُ على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- كتابًا في أولِ سُوَرٍ (¬2) منه حروفٌ مقطعة. وقال ابن عباس -أيضًا-: هي حروف تدلُّ على: أنا اللَّه أعلم، أنا اللَّه أرى، أنا اللَّه أفصل. وقال ابنُ جبير، عن ابن عباس: هي حروفٌ كلُّ واحد منها؛ إما أن يكونَ من اسم (¬3) من أسماء اللَّه -تعالى-، وإما من نعمةٍ من نعمه (¬4)، وإما من اسم مَلَكٍ من ملائكته، أو نبيٍّ من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام. وقال قوم: هي تنبيه؛ كـ: (يا) (¬5) في النداء. وقال قوم: رُوي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكةَ، نزلت؛ ليستغربوها، فيفتحوا لها أسماعهم، فيستمعون (¬6) القرآن بعدها. قال ابن عطية: والصوابُ ما قاله الجمهور: أن تفسَّر (¬7) هذه الحروف، ويُلتمس لها التّأويل؛ لأنا نجد العربَ قد تكلمت بالحروف المقطعة نَظْمًا لها، ووضعًا بدلَ الكلماتِ التي الحروفُ منها؛ كقول الشاعر: ¬
قُلْتُ لَهَا قَفِي ... قَالَتْ (¬1) قَافْ أراد: وقفتُ. وكقول الآخر: بِالخَيْرِ خَيْراتٍ وَإِنْ شَرًّا فَا ... وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا أراد: وإن شَرًّا، فَشَرًّا (¬2)، وأراد: إلا أن تشاء (¬3). والشواهد في هذا كثيرة، فليس كونها (¬4) في القرآن مما تُنكره العرب في لغتها (¬5)، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب، أن يُطلب تأويله، ويُلتمس وجهه. والوقفُ على هذه الحروف بالسكون، لنقصانها، إِلَّا إذا أخبرتَ عنها، أو عطفتَها، فإنك تُعْرِبها؛ لأنها حينئذ أسماءٌ لا حروف، وموضع {الم} من الإعراب رفعٌ، على أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أو على أنه ابتداء، أو نصبٌ بإضمار فعل، أو خفضٌ بالقسم، وهذا (¬6) الإعراب يتجه الرفع فيه في بعض الأقوال المتقدمة، والنصبُ في بعض، والخفضُ ¬
في قول ابن عباس: إنها أسماء اللَّه -تعالى- أقسَم بها (¬1). فائدة: قال ابنُ خطيب زملكا (¬2) في "برهانه": وسأوضح لكَ ذلك بشيء (¬3) من دقيق المسالك، يُشير إلى إعجاز القرآن، منه فواتحُ السُّور التي هي حروف هجاء، فإذا (¬4) نظرتها ببادي الرأي، وجدتَها مما يكاد يمجُّه السمعُ، ويقلُّ به النفعُ، مع أنها من (¬5) الحُسْنِ ترفُل في الحِبَر، ويقصرُ عنها دقيقُ النظر، وذلك من وجوه: الأول: أنها كالمهيِّجَةِ لمن سمعَها من الفُصَحاء، والموقظة للهمم الراقدة من البُلَغاء، لطلب التساجل، والأخذ في التفاضل، ألا تراها بمنزلة زَمْجَرَةِ (¬6) الراعد قبلَ الماطِر في الإعلام؛ لتعيَ (¬7) الأرضُ فضلَ الغَمام، وتحفظ (¬8) ما أُفيض عليها من الإنعام، وتخاف مواقعَ الانتقام، مما فيه من العُجْمة التي لا تُؤْلَف (¬9) في الكلام، وما هذا شأنُه خليقٌ ¬
بالنظرِ فيه، والوقوفِ على معانيهِ، بعدَ حفظ معانيه (¬1)، بل حكم الدواعي الجبلِّية أن تبعث (¬2) على ذلك اضطرارًا لا اختيارًا، لاسيما وهي صادرة (¬3) عن رجل عليه مَهَابةٌ وجلالة، قد قام مقامَ أُولي الرسالة، وكشفَ ما هم عليه من الجهالة والضلالة، وتوعَّدَهم بأن (¬4) المهلكات نازلة بهم لا محالة. الثاني: التنبيهُ (¬5) على أن تعداد هذه الحروف، ممن لم يمارس الخَطَّ، ولم (¬6) يعانِ النظرَ فيه على ما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] مُتَنَزِّلٌ (¬7) منزلةَ الأقاصيص عن الأمم السالفة، ممن ليس له اطلاعٌ على ذلك. الثالث: انحصارُها في نصفِ حروفِ المعجمِ؛ لأنها أربعةَ عشرَ حرفًا، وهي الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون، وهذا واضح على من عدَّ حروفَ المعجم ثمانيةً وعشرين (¬8) حرفًا، ¬
وقال (¬1): (لا) مركبة من اللام والألف، وإن كان بعيدًا من الصواب، مع أنه هو المشهور في التهجِّي، والصحيح: أنها تسعةٌ وعشرون، والنطق بلا في التهجِّي كالنطق بلا في: لا رجلَ في الدَّار، وذلك أن الواضع جعلَ كلَّ حرف من حروف التهجي صدر اسمه، إِلا الألف، فإنَّه لمَّا لم يمكن أن يُبتدأ به؛ لكونه مطبوعًا (¬2) على السكون، ولا يقبل (¬3) الحركةَ أصلًا، تُوُصِّلَ إليه باللام؛ لأنه يناسبُه في الامتداد والانتصاب، ولذلك يُكتب (¬4) على صورة الألف. قلت: قوله: إن منشأ الخلاف راجعٌ إلى كلمة (لا) هل هي حرف، أو حرفان؟ خلاف ما قاله أهل العربية، فإن منشأ الخلاف عندهم في عدد حروف المعجم، هل الهمزةُ من قَبيل الحروف، فتُعَدُّ، أو من قَبيل الضبط، فلا (¬5) تُعَدُّ؟ وقد جُمعت هذه الحروفُ الأربعةَ عشرَ التي ذكرها في قولك: نص حكيم قاطع له سر. ثم قال: ¬
الرابع: مجيئها في تسعٍ وعشرين سورةً (¬1) بعدد الحروف. الخامس: كما رُوعي تنصيفُها باعتبار هجائها، روعي تنصيفُها باعتبار أجناسها (¬2). قلت: يريد: أن كل جنس من أجناس الحروف؛ كالمجهورة، والمهموسة، والرخوة، والشديدة، وغير ذلك من أجناسها، قد نُصفت (¬3)، فاستُعمل (¬4) نصفُها في القرآن، وأُهمِلَ النِّصْفُ الآخر، وإذا تأملتَ ذلك، وجدته، ثم إن النصف المستعملَ في القرآن، هو الأخفُّ، والأكثرُ (¬5) استعمالًا من النصف الآخر (¬6) المهمَل. ومن وقف على ذلك، علم أن هذا القرآن ليس من كلام البشر، وجزم بأنه كلام (¬7) خالقِ القُوى والقَدَر، فإن المتبحِّرَ في معرفة الحروف، وتصرُّفِ مخارجها الخفيف والثقيل، وغير ذلك من أجناسها، لا يهتدي إلى هذا النظر الدقيق، ومما يشد من عضد (¬8) ما ذكرناه: أن الألف واللام ¬
والميم، يكثرْنَ (¬1) في الفواتح ما لم يكثر غيرُها من الحروف؛ لكثرتها في الكلام، ولأن الهمزة من الرئة، فهي (¬2) أعمق الحروف، واللام مخرجها من طرف اللسان ملصقة بصدر الغار الأعلى من الفم، فصوتها يملأ ما وراءها من هواء الفم، والميم مطبقة؛ لأن مخرجها من الشفتين إذا أطبقتا (¬3)، فرمز بهنَّ (¬4) إلى باقي الحروف؛ كما رمز -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" إلى الإتيان بالشهادتين، وغيرِهما مما هو من لوازمهما (¬5). وكذلك لسائر الحروف الفواتح (¬6) شأنٌ ليس لغيرها، و (¬7) وراء ذلك من الأسرار الإلهية ما لا تستقلُّ بفهمه البشرية (¬8)، ولقد استخرج بعضُ أئمة المغرب (¬9) من قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 1 - 3]، فتوحَ بيتِ المقدس، واستنقاذَه من يد (¬10) العدوِّ ¬
في سنةٍ معينة، وكان (¬1) كما قال، واللَّه تعالى أعلم. الثالث من الكلام على الحديث: {تَنْزِيِلُ} بضم اللام على الحكاية؛ كما تقدم تقريره في حديث عائشة: كانَ يفتتحُ الصلاةَ بالتكبير، والقراءةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]. وفيه: دليل على أنه يجوز أن تقول: قرأت الفاتحة، وقرأت البقرة، من غير ذكر سورة؛ إذ لم يقل: كان يقرأ سورة {الم} [البقرة: 1]، ولا سورة {هَل أَتَىْ} [الإنسان: 1]. وفيه أيضًا: دليل على إبطال قول من قال: لا يقالُ: سورة كذا، وإنما يقال: السورة التي يُذكر فيها كذا. الرابع: ظاهرُ الحديثِ: استحبابُ قراءة هاتين السورتين يومَ الجمعة في صلاة الصبح، وبه أخذ الشافعي رحمه اللَّه تعالى. وكره مالكٌ للإمام قراءةَ السجدةِ في صلاة الفرض (¬2) مطلقًا؛ خشيةَ التخليط على مَنْ وراءه، وخصَّ بعضُ أصحابه (¬3) الكراهةَ بالسرِّيَّة، فعلى هذا لا يكون مخالفًا لمقتضى (¬4) هذا الحديث، وفي المواظبة على ذلك دائمًا (¬5) أمرٌ آخَرُ، وهو أنه ربما أَدَّى ¬
الجهالَ (¬1) إلى اعتقادِ أن ذلك فرضٌ في هذه الصلاة. ومن مذهب مالك رحمه اللَّه حمايةُ هذه الذريعة، فالذي ينبغي أن يقال: أما القول بالكراهة مطلقًا، فيأباه الحديث، وإذا انتهى الحال إلى أن تقع هذه المفسدة، فينبغي أن تُترك في بعض الأوقات؛ دفعًا لهذه المفسدة، وليس في (¬2) الحديث ما يقتضي فعلَ ذلك حينئذ اقتضاءً قويًا، لاسيما إذا كان بحضرة الجهال، ومن يُخاف منه وقوعُ هذا الاعتقاد الفاسد (¬3) (¬4). وقد (¬5) بلغني: أن ذلك وقع، وأن بعض العلماء صلَّى الصبحَ يومَ الجمعة إمامًا، فلم يقرأ فيها السجدة، فأنكر عليه العوامُّ إنكارًا شديدًا، وأظنُّ أن ذلك كان بالقاهرة، وأن الإمام التارك للسجدة كان قاضيَ قضاةِ الشافعية حينئذ، فرحم اللَّه مالكًا، ما كان أشدَّ تيقُّظَهُ لمثل هذا! وهذا كما كره صومَ ستةِ الأيام من شوال؛ خوفَ اعتقاد الجهال فرضيتَها (¬6)، وقد بلغني أن بعض بلاد العجم يتسحرون لها كما يتسحرون (¬7) ¬
لرمضان، والفوانيسُ على حالها كما هي في رمضان، وأنهم يعملون في اليوم السابع عيدًا، ويسمونه: عيدَ الستة (¬1). ومثله -أيضًا- كراهةُ البسملة في الفاتحة، خوفَ اعتقادِ كونها من الفاتحة، وباللَّه التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إِلا باللَّه العليِّ العظيم. * * * ¬
باب العيدين
باب العيدين الحديث الأول 137 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبَو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، يُصَلُّونَ العِيْدَيْنِ قَبْلَ الخُطْبَةِ (¬1). ¬
العيد: مشتقٌّ من العَوْد، وهو الرجوعُ والمعاودة؛ لأنه يتكرر لأوقاته. وقيل: بل (¬1) لعَوْدِه بالفرح والسرور على الناس. وقيل: تفاؤلًا لأن يعود على مَنْ أدركه؛ كما سميت القافلةُ في ابتداء خروجها؛ تفاؤلًا بُقفولها سالمةً، ورجوعِها. وهو من ذوات الواو، وكان أصله: عِوْد -بكسر العين-، فقلبت الواو ياء؛ كالميقات، والميزان، وهما من الوَقْت والوَزْن، وجمعه: أَعْياد، قالوا: وإنما جُمع بالياء، صمان كان أصلُه الواو، للزومها في الواحد. قال الجوهري: وقيل: للفرق بينه وبين أعوادِ الخشب. والعيد -أيضًا-: ما عاد من همٍّ أو غيرِه، قال الشاعر: فَالْقَلْبُ يَعْتَادُهُ مِنْ حُبِّها عِيدُ وقال آخر: أَمْسَى بِأَسْماءَ هَذَا الْقَلْبُ مَعْمُوْدَا ... إِذَا أَقُولُ صَحَا يَعْتَادُهُ عِيدَا (¬2) ¬
ويروى: أن أول عيد صلَّى فيه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عيدَ الفطر في السنة الثانية من الهجرة، ثم لم يزل -صلى اللَّه عليه وسلم- يواظب على صلاة العيدين (¬1) حتى فارق الدنيا. وقيل: إنه كان للجاهلية (¬2) يومان مُعَدَّان للَّعِب، فأبدلَ اللَّه تعالى المسلمين بهما هذين اليومين اللذين يظهر فيهما تحميدُ اللَّه تعالى وتمجيدُه، وتوحيدُه، وتكبيره، ظهورًا شائعًا، يَغيظ المشركين. وقيل: إنهما يقعان شكرًا على ما أنعم اللَّه به من أداء العبادات التي في وقتهما، فعيد الفطر شكرٌ للَّه (¬3) -تعالى- على إتمام صوم رمضان، وعيدُ الأضحى شكرٌ على العبادات الواقعة في العشر، وأعظمُها إقامةُ وظيفة الحج (¬4). وصلاةُ العيدين عندنا، وعند الجمهور من السنن. وذُكر عن أبي حنيفة وجوبُها على الأعيان؛ كالجمعة، وقد رُوي عنه: أنها سنة، وقال بعض أصحابه: إنها فرض كفاية. وعن أحمد روايتان: إحداهما: أنها فرض كفاية، والأخرى: أنها سنة. ¬
ودليل الجمهور: حديثُ "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ"، الحديث (¬1)، و (¬2) لأنها صلاة مؤقتة، لا تُشرع (¬3) لها الإقامةُ، فلم تجب بالشرع؛ كصلاة الضحى. وأما كونُ الصلاة قبلَ الخطبة، فقال ع: هذا هو المتفق عليه من مذاهب علماء الأمصار، وفقهاء الفتوى، ولا خلاف بين أئمتهم فيه، وهو فعلُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الآثار الصحيحة، والخلفاء الراشدين بعدَه، إِلا ما رُوي: أن عثمانَ شطرَ خلافته قَدَّمها، إذ رأى من الناس مَنْ تفوتهم الصلاة، فقال: لو قدمنا الخطبةَ ليدركوا الصلاة. وقد رُوي مثلُ هذا عن عمر، وأنه أول من قدَّمها لهذه العلَّة، ولا يصحُّ عنه. وقيل: أولُ مَنْ فعل ذلك معاويةُ. وقال ابن سيرين: إن زيادًا أولُ من فعله -يعني: بالبصرة-، وذلك كلُّه أيامَ معاوية؛ لأنها من أعماله، وفعلَه ابنُ الزُّبير آخرَ أيامه (¬4). وقد قال أصحابنا: إنه إن (¬5) بدأ بها، أعادَها (¬6) بعدَ الصلاة، وقد ¬
علل بعضُهم فعلَ بني أمية وإطباقَهم على ذلك؛ أنهم كانوا قد أحدثوا في الخطبتين مِنْ لعنِ مَنْ لا يجوز لعنُه ما أحدثوه، فكان الناسُ إذا كملت صلاتُهم، نفروا، وتركوهم، فقدموا الخطبةَ لهذا. ق: وقد فُرِّقَ بين صلاة العيد والجمعة بوجهين: أحدهما: أن صلاة الجمعة فرضُ عينٍ ينتابه الناسُ من خارج المصر (¬1)، ويدخل وقتُها بعد انتشارهم في أشغالهم وتصرفاتهم في (¬2) أمور الدنيا، فقُدمت الخطبة عليها حتى يتلاحقَ (¬3) النَّاس، ولا يفوتهم الفرض، لاسيما فرض لا يُقضى على وجهه، وهذا معدومٌ في صلاة العيد. الثاني: أن صلاة الجمعة هي صلاة الظهر حقيقة، وإنما قصرت بشرائط (¬4)، منها الخطبتان، والشرطُ لا يتأخر، ويتعذر مقارنةُ هذا الشرط للمشروط الذي هو الصلاة، فلزم تقديمه، وليس هذا المعنى في صلاة العيد؛ إذ ليست مقصودة في شيء آخر لشرط (¬5)، حتى يلزم تقديمُ ذلك الشرط (¬6). قلت: والأولُ أظهر، واللَّه أعلم. ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 138 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الأَضْحَى بَعْدَ الصَّلاةِ, وَقَالَ (¬1): "مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ, وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلا نُسُكَ لَهُ". فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلاةِ. وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَأَحْبَبْتُ (¬2) أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بَيْتِي، فَذَبَحْتُ شَاتِي, وَتَغَذَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلاةَ، فَقَالَ: "شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّ عِنْدَنَا عِنَاقًا هِيَ (¬3) أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ، أَفَتُجْزِي عَنِّي؟ قَالَ: "نَعَمْ, وَلَنْ تَجْزِيَ (¬4) عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الحديثُ نصٌّ في وقوع الخطبة بعد صلاة الأضحى. والأضحى: يذكَّر ويؤنث، فمن ذَكَّر (¬1)، ذهب إلى اليوم، قاله الجوهري (¬2). الثاني: المرادُ بالنُّسُك ها هنا: الذبيحة، وهو -بضم النون والسين، وإسكان السين-: العبادة، والناسك: العابِد، يقال: نَسَكَ وتَنَسَّكَ: إذا تَعَبَّد، ونَسُك -بضم السين- نساكة (¬3)، أي: صار ناسكًا، والنَّسيكة: الذبيحة، والجمعُ: نُسُك، ونسَائك، تقول (¬4) منه: نَسَكَ للَّه يَنْسُكُ، والمَنْسَك (¬5)، والمَنْسِك: الموضعُ الذي تُذبح فيه النسائك، وقرىء (¬6) ¬
بهما قولُه تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67] (¬1). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صلَّى صلاتنا، ونسكَ نسكَنا"، أي: مثلَ صلاتنا، ومثلَ نُسكنا. ومعنى "أصابَ النُّسك" أي: مشروعيةَ النسك، أو صحةَ (¬2) النسك، أو ما قاربَ ذلك. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ومن نسك قبلَ الصلاة، فلا نسكَ له" يقتضي أن ما ذُبح قبل الصلاة لا يقع مجزئًا عن الأضحية، ولا شكَّ أن الظاهرَ من اللفظ: أن المراد: قبلَ فعلِ الصلاة، فإن إطلاق لفظ الصلاة، وإرادةَ (¬3) وقتها خلافُ الظاهر (¬4). وقد اختلف في ذلك. قال ابن هبيرة: واختلفوا في أول (¬5) وقت الأضحية: فقال أبو حنيفة: لا يجوز لأهل الأمصار الذبحُ (¬6) حتى يصلِّيَ الإمامُ العيدَ، فأما أهلُ القرى، فيجوز لهم بعدَ طلوع الفجر. وقال مالك: وقتُها بعد الصلاةِ، والخطبةِ، وذبحِ الإمام. ¬
وقال الشافعي: وقتُ الذبح: إذا مضى من الوقت مقدارُ ما يصلِّي فيه ركعتين، وخطبتين بعدها. وقال أحمد: يجوز ذلك بعدَ صلاة الإمام، وإن لم يكن الإمامُ ذبحَ بعدُ، ولم يفرق بين أهل القرى والأمصار، بل قال: إن أهل القرى (¬1) يتوخى أهلُها (¬2) مقدارَ وقت صلاة الإمام وخطبته، إن لم تُصَلَّ عندهم صلاةُ العيد، صمان كانت تُصَلَّى، فبعدَها. قال: واتفقوا -يعني: الأئمة الأربعة- على أنه يجوز ذبحُ الأضحية ليلًا في (¬3) وقتها المشروع لها، كما يجوز في نهاره، إلا مالكًا، فإنه قال: لا يجوز ذبحُها ليلًا، وعن أحمد روايةٌ مثلُها (¬4)، وأبو حنيفة يكرهُه مع جوازه (¬5). والحديثُ نصٌّ في اعتبار الصلاة، ولم يتعرض لاعتبار الخطبتين، لكنه لما كانت الخطبتان مقصودتين في هذه العبادة (¬6)، اعتبرهما (¬7) الشافعي (¬8). ¬
تنبيه: و (¬1) انظر هذه الإضافة في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "شاتُك شاةُ لحم" من أي أقسام الإضافة هي؟ فإن الإضافة على قسمين: لفظية، ومعنوية: والمعنوية (¬2) على ثلاثة أقسام: مقدرة بـ (من)، كخاتم حديد، وبابِ ساجٍ، أو بـ (اللام)؛ كغلامِ زيدٍ، أو بـ (في)، كضربِ اليومِ، أي: ضربٍ في اليوم، ولا يصحُّ شيء من ذلك في قولنا: شاةُ لحمٍ. وأما اللفظية: فحقيقتُها أن تكون صفةً مضافة إلى معمولها؛ كضاربِ زيدٍ، وحسنِ الوجهِ (¬3)، وشاةُ لحم ليست كذلك أيضًا (¬4). والذي يظهر لي في ذلك: أنه لما اعتقد أبو بردةَ أن شاته شاة (¬5) نُسُكٌ، أوقع -عليه الصلاة والسلام- قولَه: "شاةُ لحم" موقعَ قوله: شاة غير نسك، أو شاة غير أضحية، أي: إنما هي لحم غير متقرَّبٍ به، أو لا قربةَ فيه، لتقدُّمها على وقت التقرُّب (¬6)، فهو كلامٌ محمول على المعنى، واللَّه أعلم. ¬
ولعل الجوابَ غيرُ ذلك، فمن وجدَه فليضفْه إلى السؤال، راجيًا ثوابَ اللَّه الجزيلَ. ق: فيه: دليل على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر، لم يُعذر فيها بالجهل، وقد فرقوا في ذلك بين المأمورات والمنهيات، فعذروا في المنهيات بالنسيان، والجهل، كما جاء في حديث معاويةَ بنِ الحكمِ حين تكلَّم في الصلاة. وفرق بينهما: بأن المقصود (¬1) من المأمورات: إقامةُ مصالحها، وذلك لا يحصل إلا بفعلها. والمنهياتُ مزجورٌ عنها بسبب مفاسدها امتحانًا للمكلف، بالانكفاف عنها، وذلك إنما يكون بالتعمُّد لارتكابها، ومع النسيان والجهل لم يقصد المكلفُ ارتكابَ المنهيِّ عنه، فعُذِرَ بالجهل فيه (¬2). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولن تَجْزِيَ عن أحدِ بعدَك": هو -بفتح التاء- من (تَجْزي)، وفي ظني أن المحدِّثين لا يعرفون غيره، وقد قال الجوهري: إن فيه لغة أخرى، من أَجْزَأَتْ (¬3) عنك شاةٌ (¬4). وعلى هذا يجوز الضمُّ، والمعروفُ الفتحُ -كما تقدم-، ومعنى ¬
تجزي هنا: تَقْضي، ويقال: أجزأني الشيءُ، أي (¬1): كفاني. وانظر ما هي الحكمةُ في اختصاص أبي بردةَ -رضي اللَّه عنه- بهذا الحكم، واطلب السرَّ في ذلك (¬2)، واللَّه الموفق. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 139 - عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: صَلَّى (¬1) النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ ذَبَحَ، وَقَالَ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا, وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ (¬2) اللَّهِ" (¬3). ¬
* التعريف: جندُبُ بنُ عبدِ اللَّه بنِ سفيانَ، البَجَلِيُّ -بفتح الباء والجيم- العَلَقِيُّ -بفتح العين واللام، وبِالقاف (¬1) -، والعَلَقُ: بطنٌ من بَجيلة، وهو علقةُ ابنُ عبقرِ (¬2) بنِ أنمارِ إراشٍ، بكسر الهمزة وبالشين المعجمة. قال ابن عبد البر: صحبتُه ليست بالقديمة، يكنى: أبا عبد اللَّه، كان بالكوفة، ثم صار إلى البصرة. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعون حديثًا، اتفقا منها على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة. روى عنه: محمدٌ وأنسٌ ابنا سيرين، والحسنُ بنُ أبي الحسن البصري، وغيرهم. توفي سنة أربع وستين. وروى له -أيضًا-: الترمذي، والنسائي، وابن ماجه -رضي اللَّه عنه- (¬3). ¬
معنى هذا الحديث معنى الذي قبلَه، غير أنه (¬1) أعرقُ (¬2) في الظهور في تقديم الصلاة على (¬3) الخطبة، وتأخيرِ الذبح عنهما (¬4)، حتى لو تمسَّكَ بظاهره متمسِّكٌ بأن مَنْ لم يصل صلاةَ العيد، لم تصح أضحيته، لم يكن بعيدًا، وإن كنتُ لا أعلمُ أحدًا قال بذلك. ولتعلمْ: أن ظاهر الحديث عدمُ اشتراط الخطبتين في الذبح، وأن المشترَطَ الصلاةُ (¬5) فقط، والظاهر: أنه وجه للشافعية، أعني: أن من لم يصلِّ العيدَ، لم تصحَّ أُضحيته. وظاهره -أيضًا-: وجوبُ الأضحية، وهو مذهب أبي حنيفة، والأوزاعي، والليث، وآخرين. والمشهورُ من مذهب مالك: أنها سنة على كلِّ مَنْ قَدَرَ عليها من ¬
المسلمين، من أهل الأمصار، والقرى، والمسافرين، إلا الحاجَّ الذي (¬1) بمنى، فإنه لا أضحيةَ عليهم. وقال الشافعي، وأحمد: هي (¬2) مستحبة، إلا أن أحمد قال: ولا يستحبُّ تركُها مع القدرة عليها (¬3) (¬4). ولا يبعُد (¬5) أن يستدل به مَنْ يرى أنَّ الأضحية تتعين بنفس الشراء بنية الأضحية، وهو المعروف من مذهب مالك رحمه اللَّه؛ كالتقليد، والإشعار في الهدي، فهي تتعين عندنا بثلاثة أمور: بالتزام اللسان، أو بنية الشراء؛ كما تقدم، وإما بالذبح (¬6) (¬7). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومَن لم يذبحْ، فليذبحْ بِاسم اللَّه": المجرورُ متعلق بمحذوفِ حالٍ من الضمير في (يذبح)؛ أي: يذبح (¬8) قائلًا باسم اللَّه، أو متبركًا، أو مسميًا باسم اللَّه. وقيل: معناه: فليذبحْ للَّه. ¬
وقيل: بسنةِ اللَّه. وقيل: بتسميةِ اللَّه على ذبيحته؛ إظهارًا للإسلام. فرع: وقد اختلف العلماء في اشتراط التسمية على الذبيحة، فمذهبنا: أنها سنة، لكن من تركها عامدًا، لم تؤكل ذبيحته، وهي عند الشافعي مستحبة، لا يضر تركُها، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 140 - عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ, فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ, وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ, وَوَعَظَ النَّاسَ، وَذَكَّرَهُمْ, ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ (¬1)، وَذَكَّرَهُنَّ, وَقَالَ: "تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ حَطَبِ جَهَنَّمَ"، فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ, وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ"، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرَاطِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: (شهدتُ)، معناه: حضرتُ، والمفعولُ محذوف؛ أي: شهدتُ الصلاةَ يومَ العيد، فـ (يومَ) (¬1): ظرفٌ، لا مفعولٌ به. الثاني: قوله: (فبدأ): هو بالهمز (¬2)؛ لأنه بمعنى: ابتدأ (¬3)، وأما بدا، بمعنى: ظهر، فغيرُ مهموز. الثالث: الخُطبةُ هنا: بالضم، وأما خطبت (¬4) المرأة خِطْبَةً، فبالكسر. الرابع: قوله: "بلا أذان ولا إقامة": ع: (¬5) لا خلاف بين فقهاء ¬
الأمصار في ذلك: أنه لا أذانَ، ولا إقامةَ للعيدين، وإنما أحدث الأذانَ معاويةُ، وقيل: زيادٌ، وفعلَه آخرَ إمارته (¬1) ابنُ الزبير، والناسُ على خلاف ذلك، وعملُ أهل المدينة ونقلُهم (¬2) المتفقُ عليه يردُّ (¬3) ما أحدث (¬4). ق: وكأَن سببه (¬5): تخصيصُ الفرائضِ بالأذانِ (¬6)؛ تمييزًا (¬7) لها بذلكَ عن النوافلِ، وإظهارًا لشرَفها (¬8)، وأشار بعضُهم إلى معنى آخر، وهو: أنه لو دعا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إليها (¬9)، لوجبت الإجابةُ، وذلك منافٍ لعدم وجوبها، قال: وهذا حسنٌ (¬10) بالنسبة إلى مَنْ يرى أن صلاة الجماعة فرضٌ على الأعيان (¬11). ح: ويُستحب أن يقال فيها: الصلاةَ جامعةً -بنصبهما-، الأولُ ¬
على الإغراء، والثاني على الحال (¬1). الخامس: قوله: "متوكئًا على بلال": فيه: جوازُ اتكاء الإمام على بعض أتباعه، ولا يتعين القوسُ ولا العصا، كما قاله الفقهاء. السادس: أصلُ التقوى: وَقْوَى (¬2)؛ لأنه من وَقَى يَقي، فأُبدلت الواو تاء (¬3)، كما أُبدلت في تُراث، وتُخَمَة، وتُكَأَة، والأصلُ: وُراث (¬4)، ووُخَمَة، ووُكَأة، فكأنَّ المتقي يجعل بينه وبين النار وقاية. قالوا: وهي عبارة عن امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات. قال الغزالي رحمه اللَّه: فكأَنَّ الخَيْرَ كلَّهُ جُمع وجُعِل تحتَ هذه الخصلة التي هي التقوى، وقد قال بعضُ المريدين لشيخه: أوصني، فقال: أُوصيك بما أوصى اللَّه به الأولين والآخرين، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، وكتب على بعض القبور: ليسَ زادٌ سِوَى التُّقَى ... فَخُذِي مِنْهُ أو دَعِي ومعنى حَثَّ: حَضَّ، وحَرَّضَ. ¬
والطاعة: الانقياد للأمر (¬1)، وأصلُها: طَوْعَة؛ لأنها من طاع يطوع: إذا انقادَ، فقلبت الواو ألفًا؛ لتحركِها، وانفتاحِ ما قبلها، وهي اسمٌ للمصدر، والمصدرُ إطاعَةٌ (¬2). والوعظ: النُّصْح، والتذكير بالعواقب، وَعَظْتُه وَعْظًا، وعِظَةً، فاتَّعَظَ؛ أي: قَبِلَ الموعِظَةَ. يقال: السعيدُ مَنْ وُعظ بغيره، والشقيُّ مَنِ اتَّعَظ (¬3) به غيره (¬4). فكأن قوله: وذَكَّرهم: توكيدٌ لوعظ. السابع (¬5): قوله: "ثم أتى النساء، فوعظهن": ظاهره (¬6): جوازُ نزول الإمام عن المنبر، وقطع خطبته لمصلحة الإسماع (¬7)؛ أعني: إسماعَ مَنْ لم يسمعْ الوعظَ، وهذا كأنه مخصوص بزمانه -عليه الصلاة والسلام-، تأكيدًا لبيعة الإسلام، وحرصًا على تعميم الجميع بذلك؛ أعني الرجالَ والنساء، واللَّه أعلم. ¬
ع (¬1): وأما نزولُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في خطبته إلى النساء إذ (¬2) رأى أنه لم يُسمِعْهن، فذكَّرَهن، فهذا كان أولَ الإسلام، وتأكيد لبيعة (¬3) الإسلام، وفي حقه -عليه الصلاة والسلام- في ابتداء (¬4) التعليم، وخاصٌّ له، وليس على الأئمة فعلُه، ولا يباحُ لهم قطعُ الخطبة بنزولٍ لوعظِ النساء، ومَنْ بَعُدَ (¬5) من الرجال. وقولُ عطاءٍ في "الأم": إن ذلك لَحقٌّ (¬6) عليهم، ومالهم لا يفعلون (¬7)، غيرُ مُوافَقٍ عليه، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ" (¬8)، ولعلَّ فعلَه -عليه الصلاة والسلام- كان لتأكيد البيعة، كما قال حين تلا عليهم الآية: "أنتُنَّ عَلَى ذَلِكَ؟ "، الحديث (¬9). ¬
وفيه: كونُ النساء بمعزِلٍ عن الرجالِ، وبُعْدٍ (¬1) منهم، وغيرَ مختلطاتٍ بهم (¬2). وقوله: "تصدقن؛ فإنكن أكثرُ حطب جهنم" دليلٌ على أن الصدقة سببٌ لدفع العذاب، لاسيما السرية منها (¬3)، الخالصة من الشوائب المكدِّرَةِ للإخلاص فيها (¬4): من حبِّ مدحٍ، وثناءٍ، وغير ذلك. وفيه: الإغلاظُ في النصح بما لعلَّه يبعث على إزالة العيب، أو الذنب اللذين يتصف بهما الإنسان. وفيه: بذلُ النصيحة لمن يحتاج إليها. الثامن (¬5): قوله: "فقامت امرأةٌ من سِطَة (¬6) النساء": هكذا هو (¬7) سِطَةِ -بكسر السين وفتح الطاء المخففة (¬8) -، وفي بعض نسخ "مسلم": واسطة، ومعناه: من خيارهن، والوسط: العدلُ والخيار، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: خيارًا عُدولًا. ¬
ع: وزعم حُذَّاقُ شيوخنا: أن هذا الحرف مغير في كتاب "مسلم"، وأن صوابه: (من سفلة النساء)، وكذا رواه ابن أبي شيبة في "مسنده"، والنسائي في "سننه" (¬1)، وفي رواية لابن أبي شيبة: "امرأةٌ ليستْ من عِلْيَة النساء" (¬2)، وهذا ضد التفسير (¬3) الأول، ويعضده قولُه بعده: "سَفْعاء الخَدَّين"، وهو شحوبٌ وسوادٌ في الوجه (¬4). قال الإمام (¬5) المازري: قال الهروي في تفسير قوله في الآخر: "أَنَا وَسَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬6): أرادَ بذلك (¬7): أنها بذلت تناصف (¬8) وجهها؛ أي محاسنَه: حتى اسودَّتْ، إقامةً على ولدها بعد وفاة زوجها، لئلَّا تضيعهم. والأسفعُ: الثور الوحشيُّ الذي في خدِّه سوادٌ، وفي حديث النخعي: لقيتُ غلامًا أسفعَ أَحْوى (¬9). ¬
قال القُتَبي: الأسفعُ: الذي (¬1) أصاب خده (¬2) لونٌ يخالف سائرَ لونه من سواد (¬3). ح: وهذا الذي ادَّعَوْه من تغيير الكلمة غيرُ مقبول، بل هي صحيحة، وليس المرادُ بها: من خيار النساء، كما فسره هو -يعني: ع-، بل المراد: امرأةٌ وسطَ النساء، (¬4) جالسة في وسطهن (¬5). قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: يقال: وَسَطْتُ القومَ، أَسِطُهم، وَسْطًا، وسِطَةً، أي: تَوَسَّطْتُهم (¬6). قلت: فالحاصل من تفسير هذه اللفظة ثلاثةُ أشياء: خيار النساء، وسِفْلَة النساء، وجالسة في وسطهن، والأظهرُ عندي ما قاله ع، واللَّه أعلم. التاسع (¬7): قوله -عليه الصلاة والسلام-: "تُكثرْنَ الشَّكاةَ" هو ¬
بفتح الشين، وهي (¬1): الشكوى، وألفُها منقلبة عن واو؛ كالصلاة، والزكاة. ق: وتعليلُه -عليه الصلاة والسلام- بالشَّكاة، وكُفران العشير دليلٌ على تحريم كُفران النعمة؛ لأنه جُعل سببًا لدخول النار، وهذا السبب في الشكاية (¬2) يجوز أن يكون راجعًا إلى ما يتعلق بالزوج، وجَحْدِ حقه، ويجوز أن يكون راجعًا إلى ما يتعلق باللَّه تعالى، وعدمِ شكرِه، والشكايةِ لقضائه (¬3). قلت: والأولُ أظهر؛ لأن الشكاية لقضاء اللَّه -تعالى- غيرُ مختصَّة (¬4) بالنساء، واللَّه أعلم. وإذا كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد (¬5) ذكر ذلك في حق مَنْ هذا ذنبُه، فكيف بمن له ذنوبٌ أكثرُ من ذلك؛ كترك الصلاة، والقذف؟! وأخذ الصوفيةُ من هذا الحديث الطلبَ للفقراء عند الحاجة من الأغنياء، وهذا حسن بهذا الشرط الذي ذكرناه. وفي مبادرة النساء لذلك، والبذلِ لِما (¬6) لعلهنّ يحتجْنَ إليه مع ¬
ضيق الحال في ذلك الزمان، ما يدل (¬1) على رفيع مقامهن في الدين، وامتثالِ أمرِ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). العاشر: المراد (بالعشير) هنا: المعاشرة والمخالطة عندَ أهل اللغة، وحمله الأكثرون هنا (¬3) على الزوج، وقال آخرون: هو كل مُخالِط. وقد أحسن الحريري رحمه اللَّه حيث قال: وَأَفِي (¬4) لِلْعَشيرِ، وَإِنْ لمْ يُكَافِىءْ بِالعَشِيرِ (¬5). أراد بالأول: المعاشر، وبالثاني: العُشْر؛ فإنه يقال: عُشْر، وعَشير، ومِعْشار (¬6)، بمعنى. قال الخليل رحمه اللَّه تعالى العَشير والشَّعير على القلب. ومعنى الحديث: أنهن يجحدن الإحسانَ؛ لضعفِ عقولهنَّ، وقلَّةِ معرفتهنَّ، فيُستدل به على ذم مَنْ يجحد إحسانَ ذي (¬7) الإحسان (¬8). الحادي عشر: (الأقرطة): جمع قُرْط. ¬
قال ابن دريد: كلُّ ما عُلِّق في شَحْمَة الأذن فهو قُرط، سواء كان من ذَهَب، أو خَرَز. وأما الخُرْص، فهو الحلقةُ الصغيرة من الحلي. ع (¬1): قيل: الصواب: قِرَطَتِهن -بحذف الألف-، وهو المعروف في جمع قُرْط؛ كخُرْج، وخِرَجَة، ويقال في جمعه: قِراط؛ كرُمْح ورِماح. (¬2) ولا يبعد صحةُ أَقْراط، ويكون جمعَ جمعٍ؛ أي: جمع قِراط، لاسيما وقد صح في الحديث (¬3). وأما الخواتيم، فجمع خاتِمَ -بكسر التاء وفتحها- وخَيْتام، وخاتام، أربعُ لغات معروفة (¬4). الثاني عشر: قال الإمام (¬5) المازري: تعلق بعضُ الناس بهذا الحديث في إجازة هبة المرأة مالَها من غير إذن الزوج؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
لم يسألْ هل لهنَّ أزواج، أم لا؟ (¬1) ع (¬2): (¬3) قد يقال: إنه لا حجة في هذا (¬4)؛ لأن الغالب من ذوات الأزواج حضورُ أزواجهن في ذلك المشهد، وتركُهم الإنكارَ لفعلهن (¬5) إذنٌ لهن، وتسويغٌ لفعلهن. قلت: وفي هذا الجواب عندي (¬6) نظر، بل ضَعْف، فتأمله. وقيل: فيه: وجوبُ الصدقة في الحلي، وجوازُ تقديم الزكاة؛ إذ لم يسألهن عن حلولها، وهذا لا حجة فيه، والظاهر أنها صدقةُ تطوع، ولذلك قال بعضهم: فيه حجة ألّا زكاةَ فيه؛ لقوله (¬7): "وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ" ولا يقال هذا في الواجب. وقيل: فيه: حجةُ من يرى جوازَ فعلِ البِكْر، ولا حجة فيه -أيضًا-، إذ لم يات فيه عن بكر أنها تصدقت معهنَّ، ولا حضرت ذلك المشهدَ. وفيه: أن المعاطاةَ في العقود تقوم مقامَ القول الصريح؛ لأن النساء أَلقينَ ما أَلقينَ إذ طلب منهن الصدقة، فكانت صدقةً، وإن لم ¬
يُسمِّينَها صدقةً (¬1). الثالث عشر: هذه المقاصدُ التي ذكرها الراوي، من الأمر بتقوى اللَّه تعالى، والحث على طاعته، والموعظة والتذكير، هي مقاصد الخطبة، وقد عدَّ بعضُ الفقهاء (¬2) من أركان الخطبة الواجبة: الأمر بتقوى اللَّه -تعالى-، وبعضهم جعل الواجب ما يسمَّى خطبةً عند العرب. وقد تقدم استيعابُ ذلك في باب الجمعة بما يغني عن الإعادة، واللَّه الموفق، لا رب سواه. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس (¬1) 141 - عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ نُسَيْبَةَ الأَنْصَارِيَّةَ، قَالَتْ: أَمَرَنَا -تَعْنِي: النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ نُخْرِجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ، وَذَوَاتِ الْخُدُورِ, وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ (¬2). وَفِي لَفْظٍ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ, حَتَّى نُخْرِجَ (¬3) الْبِكْرَ ¬
مِنْ خِدْرِهَا, حَتَّى (¬1) تَخْرُجَ الحُيَّضُ, فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ, يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ (¬2). ¬
* التعريف: أُمُّ عطية: اسمُها نُسَيْبة -بضم النون وفتح السين المهملة- الأنصاريةُ. روي لها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعون حديثًا، اتفقا على ستة، وللبخاري حديث واحد، ولمسلم آخر. روى عنها: محمدُ بنُ سيرين، وأختُه حفصة. روى لها الجماعة (¬1). قال أهل اللغة: العواتق: جمع عاتق، وهي الجارية البالغة، وعَتَقَتْ، أي: بَلَغَتْ. وقال ابن دريد: التي قاربَت البلوغ. ¬
قال ابنُ السِّكِّيت: هي ما بينَ أن تبلُغُ إلى أن تَعْنُسَ ما لم تتزوَّجْ، والتعنيسُ: طولُ المقام في بيت أبويها بلا زوج، حتى تطعن في السن. قالوا: سميت عاتقًا؛ لأنها تعتق (¬1) من امتهانها في الخدمة، والخروج في الحوائج. وقيل: قاربت أن تتزوج فتعتق من قهر أبويها، وتستقل في بيت زوجها (¬2). والخدور: البيوت، وقيل: الخِدْر: السرير الذي عليه قُبة. وقيل: ستر يكون في ناحية البيت (¬3). وهذا عندي هو الأليقُ بهذا الحديث وما في معناه من ذِكْر الخِدْر، فإنا لو فسرناه هنا بالبيت، لم يكن فيه اختصاصٌ أصلًا؛ إذ البيت يجمع البكرَ وغيرها، ولا يعنون (¬4) بذوات الخدور إلا الأبكار، واللَّه أعلم. ع: وقد اختلف السلف في خروج النساء للعيدين، فرأى ذلك جماعة حقًا عليهن، منهم: أبو بكر، وعلي، وابن عمر، وغيرهم -رضي اللَّه عنهم-. ومنهم من منع ذلك جملةٌ، منهم: عروة، والقاسم، [ومنع ذلك بعضهم في الشابة دون غيرها، وأجازه في المتجالة منهم: عروة، ¬
والقاسم] (¬1)، ويحيى بن سعيد، وهو مذهب مالك، وأبي يوسف (¬2)، واختلف قولُ أبي حنيفة (¬3) في ذلك، فأجازه مرةً في العيدين، ومنعه أخرى. قال الطحاوي: وكان الأمر بخروجهن أولَ الإسلام لتكثير المسلمين في أعين (¬4) العدوِّ. و (¬5) قال غيره: هذا يحتاج إلى تاريخ -أيضًا (¬6) -، فليس النساء (¬7) مما يرهب بهن العدوُّ (¬8)، واللَّه أعلم. (¬9) فيه: أن الشأن في صلاة العيد (¬10): أن يكون (¬11) في المصلَّى دون المسجد، وهو السنَّةُ المعمولُ بها، إلا في المسجد الحرام، أو مَنْ لا مصلَّى لهم، فيصلُّون في المسجد، وكذلك إن منعَ من الخروج إلى ¬
المصلى مانعٌ؛ كشدة مطر، ونحو ذلك. وقولها: "وأَمَر الحيَّضَ": هو بفتح الهمزة والميم، من أمر، وإنما مُنع الحيَّضُ من المصلَّى لأحد أمرين: إما لعدمِ اختلاطِ مَنْ يصلي بمن لا يصلِّي، أو الاحترازِ من مقاربة النساءِ الرجالَ من غير علَّة ولا حاجة. وقيل: لأن المصلَّى أشبه بالمسجد، فلا تجلس فيه الحائض؛ كما لا تجلس في المسجد، قاله بعضُ الشافعية، والجمهور: على أن هذا المنع من المصلَّى على الكراهة، دون التحريم؛ لأن المصلى ليس بمسجد. وقولها: "يُكَبِّرْنَ مع الناس": فيه: جوازُ ذكر اللَّه -تعالى- للحائض، يحتمل أنه في وقت خروجهن، وعند تكبير الإمام في خطبته وصلاته (¬1). وفي قراءة القرآن عندنا قولان. وفيه: دليل على استحباب التكبير للعيدين (¬2) لكلِّ أحد. ح: وهو مجمَعٌ (¬3) عليه (¬4). ع: وللتكبير في العيدين (¬5) أربعةُ مواطن: في السعي إلى (¬6) ¬
المصلَّى (¬1) إلى حينِ يخرجُ الإمام. قلت: لم يُعين (¬2) وقتُ الابتداء بالتكبير، أما إذا سعى بعد طلوع الشمس، وهو المشروع في ذلك في حق مَنْ يمكنه إدراكُ الصلاة، كَبَّرَ؛ بلا خلاف، وإن كان سعيُه قبل طلوع الشمس، فقد اختلف المذهب عندنا في التكبير وعدمِه على ثلاثة أقوال: ثالثها: يكبر (¬3) إن أسفر، وإلا فلا (¬4)، واللَّه أعلم. قال: وإذا كبر الإمامُ في خطبته، والتكبيرُ المشروع في صلاة العيد (¬5)، والتكبيرُ بعدَ الصلاة. فأما الوجه الأول، فاختلف العلماء فيه: فرأى جماعة من الصحابة والسلف أنهم كانوا يكبرون إذا خرجوا حتى يبلغوا المصلى، يرفعون أصواتهم بذلك، وقاله (¬6) مالك، والأوزاعي. قال مالك: ويكبر إلى أن يخرج الإمام، وقال ذلك الشافعي، وزاد ¬
استحبابه ليلةَ الفطرِ، وليلةَ النحرِ. وروي عن ابن عباس إنكارُ التكبير في الطريق. وفرق أبو حنيفة بين العيدين، فقال: يكبر في الخروج يوم الأضحى، ولا يفعله في الفطر، وخالفه أصحابه، فقالوا بقول الجماعة (¬1). وأما تكبيرهم بتكبير الإمام في خطبته، فمالكٌ يرى ذلك، والمغيرةُ يأباه. وأما التكبيرُ المشروعُ في صلاة العيدين، فاختلف العلماء وأئمة الأمصار في ذلك. فذهب مالك، وأحمد، وأبو ثور، في (¬2) آخرين: إلى أنه سبغٌ في الأولى بتكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمسٌ (¬3) غير تكبيرة القيام. وقال الشافعي: سبعٌ، غير تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمسٌ بتكبيرة (¬4) القيام. وقال أبو حنيفة، والثوري: خمس في الأولى، وأربع في الثانية، بتكبيرة الافتتاح والقيام، لكنه تُقَدَّم (¬5) عندهم القراءةُ على التكبيرات الثلاث في الثانية. ¬
وكلهم يرى صلةَ التكبير وتواليه. وقال أحمد، والشافعي، وعطاء: يكون بين كل تكبيرتين ثناءٌ على اللَّه -تعالى-، وصلاةٌ على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ودعاءٌ، وروي عن ابن مسعود. واختلف عن الصحابة والسلف في تكبير العيد اختلافًا كثيرًا، نحو اثني عشر مذهبًا. وأما الوجه الرابع: وهو التكبيرُ بعدَ الصلاة في عيد النحر، فاختلف السلف والعلماء فيه -أيضًا- على نحو عشر مقالات: ابتداؤه: من صبح يوم عرفة، أو (¬1) ظهرها، أو من صبح يوم النحر، أو ظهره، وانتهاؤه: في ظهر يوم النحر، أو في أول يوم من أيام النفر، أو في صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، أو في صلاة الظهر، أو في صلاة العصر منه. واختيار (¬2) مالك، والشافعي، وجماعة من أهل العلم: ابتداؤه صلاة الظهر يوم النحر، وانتهاؤه صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. واختيار (¬3) بعضِ أصحابه: قطعه بعد صلاة الظهر ذلك اليوم، وبعضُهم بعدَ العصر. ومذهبنا، ومذهب الشافعي، وجماعة من أهل العلم: أنه للمنفرد، ¬
والجماعة، والرجال والنساء، والمقيم، والمسافر. وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن حنبل: إنما يلزم جماعات الرجال. وكذلك اختلفوا في التكبير دُبر النوافل: فلم ير ذلك مالك في المشهور عنه، والثوري، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعي: يكبر، وروي عن مالك. واختلفوا في صفة التكبير هل هو ثلاث؟ وهو مشهور قول مالك، أو لا حدَّ فيه؟ وهو الذي حكاه ابن شعبان في "مختصره"، إن شاء ثلاثًا، أو أربعًا، أو خمسًا، ليس فيه شيء موصوف، أو فيه حمد وتهليل. فيقول: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، اللَّه أكبر (¬1)، وللَّه الحمد، وهو قول مالك الآخر، والكوفيين، وفقهاء الحديث. واختار بعضهم غيرَ هذا من زيادة ثناء وحمد، مع التكبير والتهليل. وكذلك اختلفوا هل يكبرون تلك الأيام في غير أدبار الصلوات (¬2) وهو المروي عن جماعة السلف، أم يختص (¬3) أدبار الصلوات فقط؟ وقد ذكر مالك أنه أدركَ الناسَ يفعلون الوجهين، وأجاز كلًّا لمن فعله، لكن الذي فعله مَنْ يُقتدى به، واختار هو التكبير دُبُرَ الصلواتِ ¬
فقط، واختار بعضُ شيوخنا الوجه (¬1) الأول؛ للتشبيه بأهل منى، انتهى (¬2). وقولها: "يرجون بركةَ ذلك اليوم وطهرتَه": فيه: تعظيمُ هذا اليوم، والترغيبُ في العمل الصالح فيه، وحضورُ مظانِّ إجابة الدعاء، والاجتماعُ على الدعاء، والتأمينُ، واللَّه سبحانه الموفق بفضله ورحمته (¬3). * * * ¬
باب صلاة الكسوف
باب صلاة الكسوف الحديث الأول 142 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-: أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعُوا، وَتَقَدَّمَ, فَكَبَّرَ (¬1) (¬2)، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ, وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: يقال: كَسَفَتِ الشمسُ والقمرُ -بفتح الكاف-، وكُسِفا -بضمها-، وانْكَسَفا، وخَسَفا (¬1)، وخُسِفا، وانْخَسَفا، بمعنى. وقيل: كسفتِ الشمسُ -بالكاف-، وخسف القمر -بالخاء-. وحكى ع عكسَه عن بعض أهل اللغة المتقدمين (¬2). ح: وهو باطلٌ مردود؛ لقول اللَّه سبحانه: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} [القيامة: 8]، ثم (¬3) جمهورُ أهل اللغة وغيرهم على أن الخسوف والكسوف (¬4) يكون لذهاب ضوئهما (¬5) كلِّه، ويكون لذهاب بعضِه. وقال جماعة، منهم الإمام الليثُ بن سعد: الخسوفُ في الجميع، والكسوفُ في البعض. ¬
وقيل: الخسوفُ: ذهابُ لونهما (¬1)، والكسوفُ: تَغَيُّرُه (¬2). ع: وقد جاء في الأحاديث الصحاح في "مسلم" وغيره: "كَسَفَتِ الشَّمْسُ"، "وَلَا يَكْسِفَانِ"، و"لَا يَنْكَسِفَانِ"، "فَإِذَا خَسَفَا"، و"فَإِذَا (¬3) كَسَفَا" (¬4). الثاني: قد تقدم قريبًا: أن "الصلاةَ جامعةً" -بالنصب فيهما-، وأن الأولَ على الإغراء، والثاني على الحال. الثالث: صلاةُ الكسوف سنَّةٌ عند جميع الفقهاء، وكذلك التجميعُ لها، وحكى الخطابي عن العراقيين: أنه لا يُجَمَّع لها (¬5) (¬6). واختلفوا -أيضًا- في التجميع لصلاة خسوف القمر، بعد اختلافهم في (¬7) أنها سنة، أو فضيلة، فقال جماعة من الصحابة والتابعين، وفقهاء الحديث: بالتجميع لها، منهم: عثمانُ بنُ عفانَ، وابنُ عباس، وعمرُ بنُ عبد العزيز، والشافعيُّ، والليثُ، وأحمدُ، وداودُ. ¬
وقال مالك، وأبو حنيفة: لا تجميع (¬1) لها. وقال أشهب بالتجميع لها. وكرهه بعضهم؛ إذ لم يستمر العمل عليه، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة، وغيره: يصلي على هيئة كسوف الشمس وقد اختلف (¬2) في أقوال عبد العزيز، هل تضاف إلى المذهب، أم (¬3) لا؟ وقاعدة مالك (¬4): أنها تُصلَّى ركعتين؛ كسائر النوافل، لا يُجتمع (¬5) لها، وقد روي عن مالك: أنه يخرج لصلاتها إلى الجامع، والمعروف: سقوطُ ذلك؛ للمشقة. وكذلك اختلف السلف في الصلاة للزلازل، فقال به ابن عباس، وابن مسعود، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وغيرهم. وكذلك الصلاة عند الصواعق، والرياح الشديدة، والظلمة المنتشرة في الأفق نهارًا، ولم ير الصلاةَ لذلك، ولا التجميعَ لها: مالكٌ، والشافعي، وأتباعهما. قال بعض متأخري أصحابنا: والظاهرُ اعتبارُه؛ للتنصيص على المناط، وهو قويٌّ عند أهل القياس، ويعضِدُه ما رواه أبو داود، ¬
عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا رَأَيْتُمْ آيَةً، فَاسْجُدُوا" (¬1). قلت: وهو الذي يقوى في نفسي، ولا تأتي الصلاة إلا بخير، واللَّه أعلم. واختلفوا في صفة صلاة الكسوف (¬2): فالجمهور: على أنها ركعتان، في كلِّ ركعةٍ ركعتان وسجدتان؛ وهذا قولُ مالك، والشافعي، والليث، وأحمد، وأبي ثور، وجمهور علماء الحجاز. وقال الكوفيون: هما ركعتان كسائر النوافل، تعلقًا بحديث: أَنَّهُ صَلَّاهَا رَكْعتين. وقال أصحابنا: إن الأحاديث الأُخر تفسِّره بأنها ركعتان، في كل ركعة ركعتان (¬3). وذكر مسلم في رواية عن عائشة، وعن (¬4) ابن عباس، وجابر (¬5) ركعتين، في كل ركعة ثلاث ركعات. ¬
ومن رواية ابن عباس، وعلي -رضي اللَّه عنهما-: ركعتين، في كل ركعة (¬1) أربع ركعات. وذكر أبو داود من حديث أبي بن كعب: ركعتان (¬2)، في كل ركعة خمس ركعات. ع (¬3): وقد قال بكل مذهب منها بعضُ الصحابة (¬4). واختلف المذهب عندنا: هل يقرأ في كل ركعة من الأربع بأم القرآن، وهو المنصوص عن مالك، أم (¬5) لا يقرؤها إلا في الأولى من كل ركعة؟ وهو قول محمدِ بنِ مَسْلَمة، واللَّه أعلم. [واختلفوا في وقتها عندنا على ثلاثة أقوال: قبل الزوال؛ كالعيدين والاستسقاء -على المشهور فيه-. والثاني: أنه تصلى للغروب؛ كالجنازة. والثالث: إلى صلاة العصر؛ كالنافلة، وكلها روايات عن مالك رحمه اللَّه تعالى، واللَّه أعلم] (¬6). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 143 - عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ, وَإِنَّهُمَا لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ" (¬1). ¬
* التعريف: أبو مسعود: عُقْبَةُ بنُ عمرِو بنِ ثعلبةَ بنِ أُسَيرَة (¬1) بنِ عُسَيرةَ، بضم أولهما وفتح ثانيهما. يكنى: أبا مسعود، وهو مشهور بكنيته، سكن بدرًا، فنسب إليها، واختُلف في شهوده بدرًا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فالجمهورُ على أنه لم يشهدْها، وذهب بعضهم إلى أنه شهدَها، وممن قال ذلك: البخاري، ومسلم، وذكره البخاري في البدريين الذين شهدوا، وشهد أبو مسعودٍ هذا العقبةَ مع (¬2) السبعين، وكان أصغرَهم، وقيل: إن جابرًا كان أصغرَهم، وشهد أبو مسعود أُحدًا وما بعدَها من المشاهد. ونزل الكوفة، وابتنى بها دارًا، وتُوفي بالمدينة، وقيل: بالكوفة سنة إحدى، أو اثنتين وأربعين، وقيل: في آخر خلافة معاويةَ، وقيل: في خلافة عليٍّ -رضي اللَّه عنه-، وقيل، توفي بعد الستين (¬3)، وقيل: سنة إحدى وثلاثين، والقولان الأخيران ضعيفان. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئة حديث، وحديثان، له منها في ¬
"الصحيحين" (¬1) سبعة عشر حديثًا (¬2)، اتفقا (¬3) على تسعة أحاديث، وللبخاري حديثٌ واحد (¬4)، ولمسلم سبعةٌ. روى عنه: عبدُ اللَّه بنُ يزيدَ الخطميُّ، وأبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمنِ ابنِ الحارثِ بنِ هشام، وعَلْقَمَةُ بنُ قَيْسٍ، وغيرُهم. روى له الجماعة (¬5). الشرح: (الآية): العلامة، وقد تقدم ذكرُ الخلاف في أصلها، ووزنها. والخوف: غَمٌّ على ما سيكون، والحزن: غمٌّ على ما مضى. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإذا (¬6) رأيتم منها شيئًا": الضمير في (منها) عائد على الآيات من قوله: "من آياتِ اللَّه". ¬
ق: في الحديث ردٌّ على اعتقاد الجاهلية في (¬1) أن الشمس والقمر ينكسفان لموت العظماء. وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يخوِّفُ بهما عبادَه"، إشارة إلى أنه ينبغي (¬2) الخوف عند وقوع التغيرات (¬3) العُلْوية، وقد ذكر أصحابُ الحساب لكسوف الشمس والقمر أسبابًا عادية (¬4)، وربما يعتقد معتقدٌ أن ذلك ينافي قولَه -عليه الصلاة والسلام-: "يخوِّفُ بهما عبادَه"، وهذا الاعتقاد فاسد؛ لأن للَّه -تعالى- أفعالًا على حسب الأسباب العادية (¬5)، وأفعالًا خارجة عن تلك الأسباب؛ فإن قدرته تعالى حكمُه على كل سبب، فيقتطع (¬6) ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها من بعض، وإذا (¬7) كان ذلك كذلك، فأصحابُ المراقبة للَّه -تعالى- ولأفعاله الذين عقدوا أبصارَ قلوبهم بوحدانيته، وعمومِ قدرته على خرق العادة، واقتطاع المسببات عن أسبابها، إذا وقع شيء غريب، حدث عندهم الخوف؛ لقوة اعتقادهم في فعل اللَّه ¬
-تعالى- ما يشاء، وذلك لا يمنع (¬1) أن يكون ثَمَّ أسبابٌ تجري عليها العادة إلى أن يشاء (¬2) اللَّه -تعالى- خَرْقَها (¬3)، ولهذا كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند اشتداد هُبوب الريح يتغير، فيدخل (¬4) ويخرج؛ خشية أن يكون (¬5) كريح عاد، وإن كان هبوب الريح موجودًا في العادة. والمقصود بهذا (¬6) الكلام: أن يُعلم (¬7) أن ما ذكره أهلُ الحساب من سبب الكسوف، لا ينافي في (¬8) كون ذلك مُخَوِّفًا لعباد اللَّه، وإنما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا الكلام؛ لأن الكسوف كان عند موت ابنه إبراهيم، فقيل: إنها إنما (¬9) كسفت لموت إبراهيم، فردَّ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك. وقد ذكروا (¬10): أنه إذا صُلِّيت صلاةُ الكسوف على الوجه المذكور، ولم تَنْجَلِ الشمسُ: أنها لا تُعاد على تلك الصفة (¬11)، وليس ¬
في قوله: "فصلُّوا وادْعوا حتى ينكشفَ ما بكم" (¬1)، ما يدل على خلاف هذا؛ لوجهين: أحدهما (¬2): أنه أمر بمطلق الصلاة، لا بالصلاة على هذا الوجه المخصوص، ومطلقُ الصلاة سائغٌ (¬3) إلى حين الانجلاء. الثاني: لو سلَّمنا أن المرادَ الصلاةُ الموصوفةُ بالوصف المذكور؛ لكان لنا أن نجعل هذه الغاية لمجموع الأمرين (¬4)؛ أعني: الصلاة، والدعاء، ولا يلزم من كونها غايةً لمجموع الأمرين أن تكون غايةً لكلِّ واحدٍ منهما على انفراده، فجاز أن يكون الدعاءُ ممتدًا إلى غاية الانجلاء بعدَ الصلاة على الوجه المخصوص مرةً واحدة، ويكون (¬5) غاية المجموع (¬6)، انتهى (¬7). قلت: وكلامه في هذا الحديث حسن جدًا رحمه اللَّه، ورضي عنه. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 144 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّهُ عنها-: أَنَّهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالنَّاسِ، فَأَطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ القِيَامَ، وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ ركَعَ فَأَطَالَ الرّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَامَ (¬1)، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ فَعَلَ في الرَّكْعَةِ الأُخْرَى (¬2) مِثْلَ مَا فَعَلَ في الرَّكْعَةِ الأُولَى (¬3)، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ (¬4)، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا"، ثُمَّ قَالَ: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ ¬
أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ (¬1)، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! واللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُم قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كثِيرًا" (¬2). وَفِي لَفْظٍ: فَاسْتكْمَلَ أَرْبَعَ ركَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: فيه: المبادرة بالصلاة عند الكسوف؛ لقولها: "فصلَّى" بالفاء التعقيبية. وفيه: التجميعُ لها؛ لقولها (¬1): "فصلَّى بالناس" على ما تقدم. ¬
الثاني: قولها: "فأطالَ القيام"، ولم تقدِّرْه، وقد جاء تقديرُه في حديث آخر، في الأول (¬1): بنحو سورة البقرة، والثاني (¬2): بنحو سورة آل عمران، والثالث: بنحو سورة النساء، والرابع: بنحو سورة المائدة، وفي تقدير الثالث بالنساء نظر؛ فإن المختار كونُ القيامِ الثالثِ أقصرَ من الثاني، والنساءُ أطولُ من آل عمران، وهذا التقدير يدل على سرية القراءة في صلاة الكسوف؛ إذ لو كانت جهرية، لما احتاجت إلى تقدير، بل كان يُقال: قرأ سورة كذا، وسورة كذا (¬3). وقد اختلف العلماء في ذلك، فقالت جماعة: القراءة فيها جهر، ¬
وبه قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق. (¬1) قال ابن بزيزة: ورواه معن (¬2)، والواقدي، عن مالك. وقال الجمهور: القراءة فيها سِرٌّ؛ وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، والليث، وأصحاب الرأي، وهو المشهور عن مالك. وقال الطبري، وغيرُه من فحول العلماء: بالتخيير في ذلك؛ جمعًا بين الأحاديث، وقد صحح أبو محمد بنُ حزم هذه الأحاديثَ المقتضيةَ للجهر؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- جهرَ فيها بالقراءة، ذكره الترمذي، وغيره، وصحح -أيضًا- ما يدلُّ على الإسرار، وفي حديث عائشة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جهرَ بالقراءة في كسوف الشمس (¬3). وروى الوليدُ بنُ مسلم: أنه -عليه الصلاة والسلام- جهر في صلاة الكسوف -أيضًا (¬4) - (¬5)، وتأوله بعض العلماء على أن المراد: الكسوف القمري (¬6)، وهو وإن كان محتملًا، إلا أن حديث عائشة يقضي عليه، ويُبينه، وفي بعض طرق عائشة: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جهرَ في ¬
صلاة الكسوف بقراءته، فصلَّى أربعَ ركعاتٍ في ركعتين، وأربعَ سجداتٍ (¬1)، وقد صحح عروةُ بنُ الزبير، والزهري، والأوزاعي، حديثَها في الجهر في هذه الصلاة. وقواه بعضُ علمائنا (¬2)، فقال: صلاةٌ مأمورٌ بها تُفعل في جماعة نهارًا، فحكمُها الجهر؛ قياسًا على صلاة العيدين. وحديثُ سمرةَ بنِ جُندبٍ يقتضي الإسرارَ فيها، و (¬3) رواه النسائي، وغيره. ومن أقوى الأدلة على أن حكمها الإسرارُ: ما تقدم من تقديرها بسورة البقرة، وبما بعدها من الطول، وقد قوي ذلك بقوله -عليه الصلاة والسلام (¬4) -: "صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ"، والحديث لَيِّنُ الإسناد (¬5). وقولها: "فأطال الركوع" غيرُ محدود (¬6) -أيضًا-، وقد قال أصحابنا: يركع بطول قراءته. ¬
وقدَّره أصحابُ الشافعي بنحو مئة آية، واختار بعضُهم عدمَ التحديد إلا بما لا يضرُّ بمن خلفَه (¬1) (¬2). وقولها: "ثم قام فأطال القيام وهو دونَ القيام الأول": هذا كما تقدم من تقديره بنحو آل عمران، وهي دون البقرة، فهو على الأصل. قيل (¬3): إن السبب في تقصير القيام الثاني في الكسوف وسائر الصلوات: أن النشاط يكون في الركعة الأولى أكثرَ، فيناسبُ التخفيف في الثانية خشيةَ الملال. قلت: وشبيهٌ بهذا التعليل التعليلُ عندَ النُّحاة لاختصاص الفاعل بالرفع، والمفعول بالنصب، قالوا: لأن اللسان يتناول الفاعلَ أولًا بقوة، وجمامٍ (¬4)، ثم يتناول المفعولَ بعدُ بضعف (¬5) وكَلال، فأُعطي في الأول الأثقلُ، وهو الرفعُ، وأُعطي في الثاني الأخفُّ، وهو النصب وقد تقدم الخلاف في الحديث الذي قبل هذا، هل تُقرأ الفاتحةُ في القيام الثاني، أو لا، وأن المشهورَ قراءتها، ووجهُه (¬6): أنها قراءة ¬
يتعقبها ركوعٌ، فيقرأ بأم القرآن كسائر الصلوات، ولأنه قيام بعد ركوع، فأشبهَ القيامَ للثانية، ولأنها قراءةٌ لركعة، فتبدأ بالفاتحة كالأولى، ولأن الركوع قد حال بين القراءتين، فاقتضى الافتتاح بالفاتحة؛ كما لو حال بينهما ركوع وسجود، ولأنه في كل ركوع يستأنف القراءة. ووجهُ الشاذِّ: أنه رآها ركعةً واحدة زِيدَ فيها ركوعٌ، والركعةُ الواحدة لا تثنَّى فيها الفاتحة (¬1). الثالث: قولها: "فأطالَ السجُوْدَ": ظاهرُه: تطويلُ السجود؛ كالركوع، وهو قولُ ابنِ القاسم عندَنا. وقال غيره: لا يُطيل، وهو قول الشافعي، ولبعض أصحابه (¬2) في ذلك خلافٌ ضعيف (¬3). وظاهرُ هذا الحديث دليلٌ لابن القاسم ومَنْ وافقه. وفي حديثٍ آخرَ عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: أنها قالت: ما سجدْتُ سجودًا أطولَ منه (¬4) (¬5). ¬
وكذلك نُقل حَدُّ تطويله في حديث أبي موسى، وجابرِ بنِ عبد اللَّه. وفي أبي داود: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سجَد، فلم يكدْ يرفعُ (¬1) (¬2). وقياسًا على الركوع، لأنها أركان. ووجهُ القول بعدم التطويل، وأظنه لمالك -واللَّه أعلم-: أن ابن عباس، وعائشة -رضي اللَّه عنهما- وصفا طولَ الركوع والقيام (¬3) دونَ السجود، ولأن الركوع والقراءة كُرِّرا، فطُوِّلا؛ لأنهما غُيِّرا، والسجودُ لم يتغير، فلا يطول، كالجلوس والتشهد، ولأن الفصل بينهما لم يطول إجماعًا، فلو طول السجود، لطول الفصل كالركوع. الرابع: قولها: "ثم فعل في الركعة الثانية مثلَ ما فعلَ في الأولى": لا إشكال في القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الأولى، ولا خلاف فيهما بين العلماء: أنهما أقصرُ مما قبلهما، وكذلك القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الثانية (¬4): أنهما (¬5) أقصر مما (¬6) قبلهما (¬7). ¬
واختلف العلماء في القيام الأول، والركوع الأول من الركعة الثانية، هل هو أقصر من القيام الثاني والركوع الثاني من الأولى، فإنه بمعنى قوله: "دون القيام الأول"، أو مساوٍ لذلك، وأقصر من أولِ قيام، وأولِ ركوع، وإن هذا معنى قوله (¬1): القيام الأول والركوع الأول من الركعة الثانية، هل هما أقصر من القيام الثاني والركوع (¬2)؟ والوجهُ الأولُ أظهرُ، وهو قول مالك: إن كل ركعة دون (¬3) التي قبلها، وهو مقتضى الحديث؛ لأنه كذلك قال في كل قيام وركعة: إنه (¬4) دون الأول، فدل أنه يريد الذي قبلَه، ويعضدُه قولُه في الحديث الآخر، عن جابر: ليسَ منها (¬5) ركعةٌ إلَّا التي قبلَها أطولُ مِنَ التي بعدَها (¬6). الخامس: قولها: "فخطبَ الناسَ، فحَمِدَ اللَّه، وأثنى عليه" ظاهره: أن لصلاةِ كسوفِ الشمس خطبةً (¬7)، ولم ير ذلك مالكٌ، وأبو ¬
حنيفة، وأحمدُ -في المشهور عنهم (¬1) -، بل قالوا: يستقبل الناس، ويذكِّرُهم. وقال الشافعي: يخطب لها خُطبتين بعد فعلِها، سواءٌ كان كسوفًا، أو خسوفًا. ولأحمد نحوه، هكذا نقله عنه ابن هبيرة (¬2). وبقول الشافعي قالُ إسحاق، والطبري، وفقهاءُ أصحاب الحديث. حجةُ القائلين بعدم الخطبة (¬3): أن خطبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما كانت لإعلام الناس أن الكسوف (¬4) آيةٌ، وليس على ما قالوه (¬5) من كسوفها لموتِ إبراهيم، أو لموتِ عظيم، على ما كانت تقولُه الجاهلية فيهما، وما يقوله أهلُ الحساب والنجوم من دليلهما على ما يحدث في العالم. وقد تقدم كلامُ ق (¬6) على ما قاله أهلُ الحساب لصلاة الكسوف، وأيضًا: فلمَّا كان كثيرٌ من الكَفَرة يعتقد فيهما من (¬7) التعظيم؛ لأنهما ¬
أعظمُ الأنوار الظاهرة، حتى ارتقى الحال ببعضهم إلى عبادتهما (¬1). وقال جماعةٌ من الضُّلَّال بتأثيرهما في العالم، فأعلَمَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنهما آيتان على حدوثهما، ونقصِهما عن هذه المرتبة؛ لطروء التغيير (¬2) والنقصِ عليهما، وإزالةِ نورهما الذي به (¬3) عظم في النفوس عنهما، فلما (¬4) جاء: أن القيامة تقوم وهما مكسوفان، ولهذا -واللَّه أعلم- جاء في الحديث الآخر: فقامَ فَزِعًا، يَخْشَى أَنْ تكونَ الساعَةُ (¬5)، هذا معنى (¬6) كلام ع، وأكثر لفظه (¬7). ق: وهذا خلافُ الظاهر من الحديث، لاسيما بعدما ثبتَ أنه ابتدَأَ بما تُبتدأ به الخطبةُ من حمدِ اللَّه، والثناءِ عليه. واستضعف الشيخُ (¬8) ما قاله ع بأن الخطبة لا تنحصر مقاصدُها في شيء معين بعدَ الإتيان بما هو المطلوبُ منهما؛ من الحمدِ والثناءِ والوعِظ، وقد يكون بعضُ هذه الأمور داخلًا في مقاصدِها؛ مثل: ذكر ¬
الجنة والنار، وكونهما من آيات اللَّه، قال: بل هو كذلك جزمًا (¬1). قال ابن بزيزة: إنما خطب؛ لأن الخطبة من سنة هذه الصلاة. السادس: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإذا رأيتم ذلك، فادعوا اللَّه، وكَبِّروا، وصَلُّوا، وتصدَّقوا" ظاهره: عدمُ تقييدِ الصلاةِ بوقتٍ من النهار، وقد تقدم ذكرُ الاختلاف في وقت صلاة الكسوف. و (¬2) في الحديث: دلالة على استدفاع البلايا والمحن بالدعاء، وما ذُكر معه، وقد أمر اللَّه -تعالى- بالدعاء في كتابه في غير ما موضع، كما أمر بالصلاة وغيرها من العبادات، فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] الآيةَ، وقال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وغير ذلك من الآي، وقال ربُّنا: "هَلْ مِنْ داعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ " (¬3)، ولأن الباري -تعالى- يحبُّ السؤال، ويعطي عليه جزيلَ الثواب، وفي الحديث: "الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ" (¬4)، ¬
وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ السُّؤَالُ مِنَ اللَّهِ، وهذا يردُّ قولَ (¬1) مَنْ قال من الصوفية بعدم الدعاء، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه المأثورُ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لكان (¬2) كافيًا في فضيلة الدعاء، فكيف وقد أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ به، وحض عليه؟! وقولُهم (¬3): إن في الدعاء تحكُّمًا، فإنما يكون كذلك (¬4) لو كان أَمْرًا، وإنما هو سؤالٌ وتضرُّعٌ، وإظهارٌ لذلِّ العبودية، وعزِّ الربوبية. وأما حديث: "مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي"، الحديث (¬5)، فقال القاضي (¬6) أبو بكر بنُ العربي: معناه: أن العبدَ ليس في كل حال يدعو، بل تارة يدعو، وتارة يذكر، وإذا (¬7) دعاه، استجاب له، وإذا ذكره، أعطاه أفضلَ ما سأله، فهو الكريمُ في الحالين. وما أحسنَ قولَ الشاعر: ¬
اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ (¬1) ... وَبُنيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ السابع: قوله: " [ما] من أحدٍ أغيرُ من اللَّه"، الغيرة: مشتقةٌ من تَغَيُّرِ حالِ الغَيْران؛ لما رآه من قبيح فعلِ مَنْ غارَ عليه، وهيجانِ غضبِه بسبب هَتْكِ مَنْ يَذُبُّ عنه، واللَّهُ -تعالى- المقدَّسُ المنزه (¬2) عن تغير الذاتِ والصفات، فمعناه: ما من أحدٍ أمنعُ للفواحشِ من اللَّه، والغيورُ يمنعُ حريمَهُ، وكلَّما زادتْ غيرته، زاد منعهُ (¬3)، فاستعير لمنع الباري -تعالى- عن معاصيه اسمُ الغيرة مجازًا، و (¬4) اتساعًا، وخاطبهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما (¬5) يفهمونه، ونعني بالمنع: التحريم، لا عدمَ التمكين؛ فإن ذلك يُحيل المعنى المذكور (¬6). ¬
الثامن: قوله: "لو تعلمون مما أعلمُ" إلى آخره، معناه: لو تعلمون من عِظَمِ انتقام اللَّه -تعالى- من أهلِ الجرائم، وشدةِ عقابه، وأهوالِ يوم القيامة، وما بعدَها؛ كما علمتُ، وترون النارَ؛ كما رأيتُ في مقامي هذا، وفي غيرِه، لبكيتم كثيرًا، ولقلَّ ضحككُم، لفكْرِكم فيما علمتموه، وكلُّ ذلك مما نشأ (¬1) عن مطالعة جلالِ اللَّه (¬2)، وعظمته، وقهره، وسرعة بطشه، والمقصودُ (¬3) منه: التخويفُ لأمته -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). قال ابن بزيزة: ويحتمل أن يكون المعنى: إنكم لو علمتم من رحمة اللَّه -سبحانه-، وحلمِه، وعفوِه عن ذنوب خلقه، ومعاني كرمِه ما أعلمُ، لبكيتم كثيراَ، ولضحكتم قليلًا، فبكاؤكم إذ لم تفهموا من ذلك ما فهمتُ، ولم تعلموا منه (¬5) ما علمتُ، ونشأ هذا عن مطالعة ¬
جمالِ (¬1) اللَّه -تعالى- ونعوتِ أفضاله، ومشاهدةِ الرحمة الواسعة (¬2) التي لا تقصر عن شيء. فيه: دليلٌ على غلبة الخوف، وشديد الموعظة، وترجيحِ ذلك على إشاعة الرُّخَص؛ لما يؤدّي ذلك من التسبُّب (¬3) إلى تسامح النفوس؛ لما جُبلت عليه من الإخلاد إلى الشهوات، والميلِ إلى اللذات، وذلك من (¬4) مرضها الخطر، والطبيبُ الحاذقُ يقابل العلَّة بضدِّها، لا بما يزيدُها (¬5). التاسع: قوله (¬6): و (¬7) في لفظ: "فاستكملَ (¬8) أربعَ ركعاتٍ، وأربعَ سَجَداتٍ": المرادُ بالركعات هنا: عددُ الركوع، لا الركعاتُ المعهودة (¬9)، وجاء في موضع آخر: في ركعتين، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع (¬1) 145 - عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَامَ فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، حَتَّى أَتَى المَسْجدَ، فَقَامَ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مَا (¬2) رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهَ في صَلَاةٍ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ -تعالى- لا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِه (¬3) وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ" (¬4). ¬
استعمالُ أبي موسى الخسوفَ في الشمس يقوِّي ما تقدَّمَ من قولِ الجمهور؛ خلافًا لمن خصَّ الشمس بالكسوف. فيه: دليلٌ على المحافظة على طهارة الوضوء (¬1). و"فزعًا" (¬2) من أبنية المبالغة، كحَذِر. وقوله: "يخشى أن تكون الساعة"، روايتنا فيه بضم التاء من (الساعةُ) على تمامِ كانَ؛ أي: يخشى أن تحضر الساعةُ الآنَ، ونحو ذلك. ويجوز أن تكون (كانَ) ناقصةً، و (الساعةُ) اسمها، والخبر محذوف؛ أي: أن تكون الساعةُ قد حضرتْ، ونحو ذلك، ويجوز فتحُها على أن تكون (كان) ناقصةً، ويكون اسمُها مضمَرًا فيها، و (الساعةَ) خبرها، والتقدير: أن تكون هذه الآيةُ (¬3) الساعةَ؛ أي: علامةَ الساعة، وحضورها، واللَّه أعلم. وفيه: إشارة إلى ما تقدَّمَ من دوام المراقبة لفعلِ اللَّه تعالى، ¬
وتجريد الأسباب العادية عن تأثيرها في مسبباتها. ق (¬1): وفيه: دليل على جواز الإخبار بما يوجبه الظنُّ من شاهد الحال؛ حيث قال: "فَزِعًا يخشى أن تكونَ الساعةُ"، مع أن الفزع يحتمل أن يكون لذلك، ويحتمل أن يكون لغيره؛ كما خشي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الريح أن يكون كريح قوم (¬2) عاد، ولم يخبر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه كان سبب خوفه، فالظاهر أنه بنى على شاهد الحال (¬3)، أو قرينةٍ دلَّتْ عليه (¬4). قلت: وهذا تنبيه حسن، واللَّه أعلم. وقوله: "بأطول (¬5) قيام، وركوع، وسجود": يقوي القولَ المشهورَ عندنا؛ بإطالة السجود. وفيه: دليل على القول المشهور -أيضًا- من أن (¬6) سنتها المسجد دون المصلَّى، وهو المشهور عند العلماء أيضًا، وسره (¬7) -واللَّه أعلم-: ¬
أن هذه الصلاة تنتهي بالانجلاء، وذلك يقتضي المبادرةَ بها قبلَه، لئلا يفوتَ القيامُ بها، وهذا هو الفرق بينها، وبين صلاة العيد، والاستسقاء؛ فإن وقتهما مُتَّسِع؛ بخلاف الكسوف، واللَّه أعلم. * * *
باب صلاة الاستسقاء
باب صلاة (¬1) الاستسقاء الحديث الأول (¬2) 146 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ المازنِيِّ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَسْقِي، فتَوَجَّهَ إِلَى القِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ (¬3). ¬
وَفي لَفْظٍ: إلَى المُصَلَّى (¬1). ¬
* التعريف: عبدُ اللَّهُ بنُ زيدِ بنِ عاصمِ بنِ كعبِ بنِ عمرَ بنِ عوفٍ، الأنصاريُّ، مَدَنِيٌّ (¬1) من بني غنمِ بنِ مازنِ بنِ النجار، وهو راوي حديث وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحديث: "شُكي للنبيِّ (¬2) الرجلُ يُخَيَّلُ إليه أنه يجدُ الشيءَ"، الحديث (¬3)، وهو راوي حديث الاستسقاء -أيضًا-، وليس هو الذي رأى الأذانَ في المنام؛ فإن الذي رأى الأذانَ هو عبدُ اللَّه بنُ زيدِ ابنِ عبدِ ربِّه الأنصاريُّ، وهو -أيضًا- مدنيٌّ، وهو من بني الحارث (¬4) ابنِ الخزرج، يكنى: أبا محمد. توفي سنة ثنتين وثلاثين، وشهد بدرًا، والعقبةَ مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو معروف بصاحب الأذان. مات وله أربع وستون سنة، وصلى عليه عثمانُ بنُ عفانَ. قال البخاري: لا يُعرف لعبد اللَّه بن زيد (¬5) بنِ عبدِ ربِّه غيرُ حديث الأذان. قال الحافظ أبو الحسن عليُّ بنُ الفضل (¬6) المقدسي: ولم يُخرج ¬
له البخاري، ولا مسلم شيئًا، واللَّه أعلم (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الاستسقاءُ: طلبُ السُّقْيا، وهو استِفْعال من سَقَيْتُ، ويقال: سَقَى، وأَسْقَى، لغتان، وقيل: سَقاه: ناولَه ليشرب، وأَسْقاه: جعلَ له شربًا (¬2). الثاني: صلاةُ الاستسقاء سُنَّةٌ عند الجمهور، وبذلك قال مالك، والشافعي، وأحمدُ، وصاحبا (¬3) أبي حنيفة: أبو يوسفَ، ومحمدٌ (¬4). وقال أبو حنيفةَ، والنخعيُّ: لا تُسَنُّ لها الصلاةُ، بل يخرج الإمامُ، ويدعو، فإن صلَّى الناسُ (¬5) وحدانًا، جاز. ومنشأ الخلاف في ذلك: أنه قد صحَّ: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- استسقى، وصلَّى، وفي بعض الآثار: أنه دعا، ولم يذكر الصلاة، فهذا منشأ الخلاف. والقائلون (¬6) بأن من سنَّة الاستسقاء الصلاةَ أجمعوا على أن ¬
المستحبَّ البروزُ إلى المصلَّى، وقد استسقى -عليه الصلاة والسلام- في المسجد، وهو على المنبر يومَ جمعة. وأجمعوا -أيضًا- على أن فيها خطبة. واختلفوا هل هي قبلَ الصلاة، أو بعدها؟ وأكثرُ الآثار على أنها بعدَ الصلاة. وفي بعضها: أن الخطبةَ قبلَ الصلاة، قاله الليثُ بنُ سعد، وغيرُه، وبالأول قال مالك، والشافعي. على أن في مذهب مالك في ذلك اختلافًا مشهورًا؛ فمن قاس هذه الصلاة على الجمعة، قَدَّمَ الخطبةَ، ومن قاسها على العيد، أَخَّرَ الخطبة. واختلف العلماء هل تجوز صلاة الاستسقاء بعد الزوال، أم لا؟ فقيل: لا تجوز بعدَ الزوال قياسًا على العيدين. وقيل: تجوز في كل وقت تجوز فيه النافلةُ (¬1)، وفي "كتاب (¬2) ابن شعبان": لا بأس أن (¬3) يستسقي بعدَ الصبح، ويعدَ العصر والمغرب. وينبغي للإمام حثُّ الناس على التوبة، والاستغفار، والخروجِ من المظالم، وأن يأمرهم بالصدقة. ¬
واختلف المذهب في أمره إياهم قبلَ الاستسقاء بصوم ثلاثةِ أيام على قولين: الإباحة، والكراهة. ووجهُ الكراهة: خوفُ التحديد. ويُستسقى في العام الواحد مرارًا إذا احتيجَ إلى ذلك. وقد قال (¬1) أصبغ: استُسقي للنيل بمصر (¬2) خمسةً وعشرين يومًا متوالية، وحضره ابنُ القاسم، وابنُ وهب، وغيرُهما. واختلف المذهب هل يكبر الإمامُ والناسُ، إذا خرجوا إلى المصلى (¬3)؛ قياسًا على العيدين، أم لا يُكَبِّرون؛ لأن التكبير لم يردْ إلا في العيدين، وهو المشهور؟ وبالتكبير؛ قال ابنُ المسيب، وعمرُ بنُ عبد العزيز، ومكحولٌ، والشافعيُّ، والطبريُّ، وغيرُهم. وكذلك اختلفوا في التكبير -أيضًا- في هذه الصلاة؛ فقال بالتكبير فيها جماعةٌ من العلماء، تمسكًا بما ورد في بعض الأحاديث الثابتة: أنه صلَّى فيها ركعتين، كما تصلَّى (¬4) في العيد. ¬
وهل هو تشبه (¬1) في العدد، أو في العدد والجهر والتكبير؟ فيه احتمال. وقالت جماعة بالتخيير بين التكبير وتركِه، وهو قول داود. وخَرَّجَ الدارقطني: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّى في الاستسقاء ركعتين؛ كَبَّرَ في الأولى سبعَ تكبيرات، وقرأ: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقرأ في الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]، وكبر خمسَ تكبيرات (¬2)، يرويه محمدُ بنُ عبدِ العزيزِ بنِ عمرَ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوف (¬3). وذكر أبو محمد بنُ أبي حاتم (¬4): أنه ضعيف الحديث. ولا أعلم عندنا خلافًا في أن صفتها ركعتان؛ كسائر النوافل، والتكبير المعهود، والجهر بالقراءة (¬5). الثالث: قوله: "فتوجه إلى القبلة يدعو": ظاهره: تقديمُ الدعاء على الصلاة. ¬
الرابع: قوله: "وحوَّل رداءه": الجمهورُ على تحويل الرداء في الاستسقاء؛ لثبوته بالسنَّة المنقولة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأصلُه التفاؤلُ بالانتقال من حالِ البؤس إلى حال الرخاء، ومن حال الضيق إلى حال السَّعَة. قال ابن بزيزة؛ وقد أنكر التحويلَ أبو حنيفةَ، وضعَّفه ابنُ سلام من قدماء علماء الأندلس على مذهب الشاميين، ولعله لم يبلغهما، والسنةُ حجةٌ على جميع الخلق، ومَنْ عَلِمَ حُجَّةٌ على مَنْ لم يعلم. وهاهنا مسائل: الأولى: الجمهورُ على تحويل الناس أرديَتهم عندَ تحويل الإمام (¬1). وقال الليثُ بنُ سعد، ومحمدُ بنُ يوسف، وابنُ عبدِ الحكم، وابنُ وَهْبٍ من أصحابنا: لا تحوَّلُ أرديتُهم (¬2). وأَجمعوا على أن المرأة لا تحوِّلُ؛ لما في ذلك من تعريضها للانكشاف، ولم يُذْكَر في كثير من الأحاديث أن الصحابة حولوا أرديتَهم لمَّا حوَّلَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رداءه. المسألة الثانية: اختلف العلماء في كيفية التحويل، فعامَّتُهم أنه يردُّ ما على اليمين على الشمال، وقيل: يقلب أعلاه أسفلَه، وأن يجعل ما يلي الأرضَ على رأسه، وما على رأسه يلي الأرضَ، وهو ¬
قول الشافعي بمصر، وكان بالعراق يقول كقول (¬1) الجماعة (¬2). ومن العلماء من جَوَّزَ كلا الأمرين، وفي بعض طرق الحديث (¬3): "وقلبَ رداءَه" (¬4). و (¬5) قال علماؤنا: وإن كان طَيْلَسانًا مُدَوَّرًا، قلَبه، ولم ينكِّسْه إلا بعد القلب؛ إذ لا يتأتَّى غيرُ ذلك. فائدة: ذكر أهلُ الآثار: أن رداءه -عليه الصلاة والسلام- كان طولُه أربعَ أَذْرُعٍ وشِبْر، في عرض ذراعين وشبر، كان يلبسه يومَ الجمعة والعيد. قال الواقدي: كان بُرْدُه طولَ (¬6) ستة أذرع في ثلاثة وشبر، وإزارُه من نسجِ عُمان، طولُه أربعُ أذرع وشبر، في عرض ذراعين وشبر، كان يلبسهما يومَ الجمعة والعيد، ثم يُطْوَيان (¬7). المسألة الثالثة: اختلف العلماء في وقت التحويل، فقيل: بين ¬
الخطبتين، وقيل: في أثناء الخطبة الثانية، وقيل: بعد انقضاء الخطبتين؛ وكلُّ ذلك واقع في المذهب، وفي بعض الأحاديث: أنه كان يحوِّلُ رداءه إذا استقبلَ القبلةَ (¬1). المسألة الرابعة: قال مالك: إذا فرغ، استقبل القبلَةَ قائمًا، فحوَّلَ (¬2)، وحول الناسُ، وهم جلوس، ثم ينصرف. وقال مالك -أيضًا-: إن شاء انصرفَ، وإن شاء حولَ وجهَه، فكلَّمَ الناسَ، ورغَّبَهم في الصدقة والتقرُّب (¬3) إلى اللَّه عز وجل. وقد روي عنه: أنه يحول قبلَ استقبال القبلة (¬4). المسألة الخامسة: اختلف قولُ مالك؛ هل يجلسُ في أول الخطبة الأولى، أم لا؟ على قولين. ولم يختلفوا أنه يجلس في أثناء الخطبة، وكذلك جاء في الآثار (¬5). الوجه الخامس: من الكلام على الحديث: لم يصرح في هذا الحديث بذكر الخطبة، وقد تقدم نقلُنا (¬6) الإجماعَ على أن فيها خطبة. ¬
وقد اختلف الفقهاء، هل هي خطبةٌ واحدة، وهو قولُ أبي يوسفَ، ومحمدِ بنِ الحسن، وعبدِ الرحمن بن مهدي. أو خطبتان؟ وهو قول مالك، والشافعيِّ، وجماعة. وبالتخيير في ذلك قال الطبريُّ، وغيره (¬1). وقوله: "وفي لفظ (¬2): إلى المصلَّى" دليلٌ على أن سُنَّتها المصلَّى؛ كما هو مذهب الجمهور، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 147 - عَنْ أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ المَسْجدَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءَ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِثْنَا (¬1)، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا (¬2) ". قَالَ أَنسٌ: فَلَا واللَّهِ! مَا نَرَى في السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ، وَما بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِه سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ، انتُشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: فَلَا وَاللَّهِ! مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا. قال: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي (¬3) الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، ¬
وَرَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاستَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا (¬1) عَنَّا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ"، قَالَ: فَأقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي في الشَّمْسِ. قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول (¬1): قوله: "دار القضاء" سُميت بذلك؛ لأنها بِيعَتْ في قضاء دَيْنِ عمرَ بنِ الخطاب الذي كتبَ على نفسه لبيت مال المسلمين، أوصى أن يُباع (¬2) فيها مالُه، وما عجز، استعان ببني عَدِيٍّ، ثم بقريشٍ، فباع عبدُ اللَّه بنُ عمر دارَه هذه من معاوية، وباع مالَه (¬3) في الغابة، وقضى دينَه، فكان يقال لها: دار قضاءِ دَيْنِ عمر، ثم اختصروا فقالوا: دار القضاء؛ وهي دارُ مروان. وقال بعضهم: هي دار الإمارة، وغلط؛ لأنه بلغه أنها دارُ ¬
مروان، فظن أن المرادَ بالقضاء: الإمارة، والصوابُ الأولُ (¬1). ح (¬2): وكان دَيْنُه ستةً وثمانين ألفًا، أو نحوَه، هكذا رواه البخاري في "صحيحه"، وهكذا رواه غيره من أهل الحديث والسِّير والتواريخ (¬3). قلت: وقد ذكر بعضُهم أن دينه كان ثمانيةً وعشرين ألفًا، والظاهرُ الأولُ. الثاني: الأموال: جمعُ مال، وأَلِفُه منقلبةٌ عن واو؛ بدليل ظهورها في الجمع، وليس له جمعُ كثرة، وجُمع -وإن كان جنسًا-؛ لاختلاف أنواعه، وهو كلُّ ما يُتَمَلَّك، ويُنتفع به، والمراد هنا: مالٌ مخصوصٌ، وهو كل ما يتضرر بعدم المطر من حيوان، ونبات، واللَّه أعلم. وقوله: "وانقطعت السُّبل"، السُّبُل: جمعُ سَبيل، وهو هنا: الطريق، يذكَّر ويؤنث؛ فمن التذكير: قولُه تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]، ومن التأنيث (¬4): قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108]. وانقطاعُها: إما لعدم المياه التي يعتاد المسافر ورودَها، وإما ¬
باشتغال الناس، وشدة القحط عن الضرب في الأرض، واللَّه أعلم (¬1). الثالث: قوله: "فادعُ اللَّه يغيثنا"، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهمَّ أغثنا": هكذا هو في جميع نسخ مسلم، "أَغِثْنا" -بالألف-، و"يُغيثنا" (¬2) -بضم الياء- من أغاث، يُغيث، رباعي، والمشهور في كتب اللغة إنما يقال في المطر: غاثَ اللَّه الناسَ والأرض، يَغيثهم -بفتح الياء-؛ أي: أنزلَ، المطر وقد تأوله ع على أن هذا المذكور في الحديث بمعنى المغوثة، وليس من طلب الغيث. قال (¬3): وإنما يقال في طلب الغيث: اللهم غِثْنا، وارزقنا غَيْثًا. قال (¬4): ويحتمل أن يكون من طلب الغيث؛ أي: هَبْ لنا غيثًا، وارزقنا غيثًا؛ كما يقال: سقاه اللَّه، وأسقاه؛ أي: جعل له سقيًا على لغة من فرق بينهما (¬5). قلت: ويجوز في (يُغيثنا): الرفعُ والجزمُ؛ فالرفعُ على الاستئناف، ¬
والجزم جواب (¬1) (ادْعُ)، وهو الأصل. الرابع: قوله: "فرفع النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يديه، وقال: اللهمَّ أغثنا": فيه: جوازُ الاستسقاء في خطبة الجمعة، والدعاءُ بذلك، وكونُ ذلك على غير سُنَّة الاستسقاء؛ إذ ليس فيه تحويلٌ عن القبلة، ولا تحويلُ رداء (¬2)، والظاهر: أن هذا دعاءٌ مجردٌ بالسقي كسائر الأدعية للمسلمين في الخطبة (¬3). ع: وبهذا اغتر (¬4) الحنفي أنه لا صلاة للاستسقاء، وفاته معرفة تلك (¬5) السنن المتقدمة. قال: وفيه جوازُ الاقتصار على الاستسقاء يومَ الجمعة بالدعاء المجرد في خطبتها، دون البروز، وهو معنى قول الشافعي، ومن أجازه بغير صلاة، وبه احتج (¬6) بعض السلف: أن الخروج إليها بعدَ الزوال؛ إذ (¬7) كان دعاءُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه الحال (¬8) يومَ الجمعة، والناس ¬
كلُّهم على خلافه؛ فإنها بكرة (¬1)؛ كصلاة العيدين (¬2). قلت: انظر قوله: والناس كلُّهم على خلافه (¬3)، وقد تقدم قريبًا نقلُ الخلاف في ذلك عن ابن شعبان، وغيره. ح: قال جماعة من أصحابنا، وغيرهم: السنَّةُ في كلِّ دعاء لرفع بلاء؛ كالقحط، ونحوه (¬4): أن يرفع يديه، ويجعل أَظْهُر (¬5) كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيلِه، جعل بطنَ كفِّه (¬6) إلى السماء، واحتجوا بهذا الحديث؛ يعني: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- استسقى، فأشار بظهرِ كَفَّيه إلى السماء (¬7). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "اللهمَّ أغثنا، ثلاثًا" فيه: استحبابُ تكرارِ الدعاء ثلاثًا، وقد جاء فى بعض الأحاديث: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُلِحِّينَ في الدُّعَاءِ" (¬8)، فعلى هذا لا ينبغي الاقتصارُ على مرة ¬
واحدة، واللَّه أعلم. الخامس: (¬1) "فلا واللَّهِ ما نرى في السماء من سَحاب، ولا قَزَعة": السحاب: جنسٌ (¬2)، واحدهُ سحابةٌ، وهي الغَيْم، ويجمع -أيضًا- على سُحُب، وسَحَائِب. والقَزَعَة -بفتح القاف والزاي- وهي: القطعة من السحاب، وجمعُها (¬3) قَزَع؛ كقصبة وقَصَب. قال أبو عبيد: وأكثرُ ما يكون ذلك في الخريف (¬4). وقوله: "وما بينَنا (¬5) وبينَ سَلْعٍ من بيتٍ ولا دارٍ": ع: يحتمل -واللَّه أعلم- لتحمُّلِ الناسِ على تلك الجهة؛ لشدة الجَدْب، وحُزونة الموضع، وطلبِ الكلأ والخِصْب. وسَلْع: جبلٌ مشهور بقرب المدينة -بفتح السين وسكون اللام-، قال في (¬6) "البخاري": هو الجبل الذي بالسُّوق (¬7). ¬
وقوله: "مثل الترس": ع: قال ثابت: لم يُرِدْ -واللَّه أعلم-: في قَدْرِه، ولكن في مرحاها واستدارتها، وهو أحمدُ السحابِ عند العرب. وقوله: "ثم أمطرت" قيل: إنَّ مَطَرَتْ -ثلاثيًا- في الرحمة (¬1)، وأَمْطَرَتْ -رباعيًا- في النقمة، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82]. وقيل: هما سواء، بدليل قوله تعالى: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، فمُمْطِر: اسمُ فاعل من أَمْطَر، وهم إنما زعموا مطرَ الرحمة، وهذا هو المعروفُ في كلام العرب؛ أعني: التسويةَ بينهما. السادس: "السبت": القطعةُ من الدهر. ع: قال ثابت: والناسُ يحملونه على أنه أرادَ: من سبتٍ إلى سبتٍ، وإنما هو القطعة من الزمان، يقال: سَبْتٌ من الدهر، وسَبْتَةٌ، وقد رواه الداودي: سِتًا، وفسره؛ أي: ستة أيام من الدهر؛ أي: من الجمعة إلى الجمعة، وهو تصحيف (¬2) (¬3). قلت: السبتُ من الألفاظ المشتركة، فالسبتُ: الدهرُ، والسبت: ¬
الراحةُ، والسبت: حلقُ الرأس، والسبت: إرسالُ الشعر عن العَقْص، والسبت: ضربٌ من سير الإبل، قال أبو عمرو (¬1): وهو العَنَق، وأنشد الجوهريُّ لحُمَيْد بن ثور (¬2): وَمَطْوِيَّةُ الأَقْرَابِ أَمَّا نهَارُهَا ... فَسَبْتٌ وَأَمَّا لَيْلُهَا فَذَمِيلُ والسبتُ: القطعُ، وسَبَتَ عِلاوتَهُ سَبْتًا: إذا ضربَ عنقه. قيل: ومنه سمي يومُ السبت؛ لانقطاع الأيام عندَه، قال اللَّه تعالى: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} [الأعراف: 163]. والسبت: قيامُ اليهود بأمرِ سبتها، وقيل: لأن اللَّه أمر بني إسرائيل بقطعِ الأعمال فيه. والجمع أَسْبُتٌ، وسُبُوت (¬3)، واللَّه أعلم (¬4). فائدة نحوية: كلُّ ظرف وقع خبرًا عن أسماء أيام الأسبوع، فإنه يكون مرفوعًا، إلا الجمعةَ والسبتَ، تقول: الأحدُ اليومُ، والإثنان اليومُ -برفع اليومُ-، وتقول: الجمعةُ اليومَ، والسبتُ اليومَ -بالنصب فيهما-. قالوا: وعلَّة ذلك: أن الجمعةَ والسبتَ مصدران، فيهما معنى ¬
الاجتماع والقطع؛ كما يقال: الاجتماعُ اليومَ، والقطعُ اليومَ -بالنصب- لأن الثاني غيرُ الأول، فكذلك الجمعةُ والسبتُ، وليس كذلك في باقي الأيام؛ لأنها ليست بمصادر نابَتْ منابَ الأول، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس. وقوله: "فادعُ اللَّه يُمسكها عنا": في (يُمسكها) ما في (يغيثنا) من الرفع والجزم، على ما تقدم في (يُغيثنا). السابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "حوالينا ولا علينا" هكذا هو في النُّسَخ من هذا الكتاب، وهكذا رويناه (حَوَالينا) -بإثباتِ الألف بعد الواو-، وجاء فيه -أيضًا-: (حَوْلَنَا) -بغير ألف-، وكلاهما صحيح. فيه: جوازُ الاستِصْحاء؛ كما استُحِبَّ الاستسقاء. وفيه: معجزةٌ ظاهرة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في إجابة دعائه في الحال، حتى خرجوا يمشون في الشمس. وفيه: حُسنُ أدبِه (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدعاء؛ إذ لم يسأل رفعَ المطر من أصله، بل سألَ رفعَ ضرره (¬2)، وكشفَه عن البيوت والمرافق والطرق؛ بحيث لا يتضرر به ساكنٌ، ولا ابنُ سبيل، ويسأل (¬3) بقاءه في موضع ¬
الحاجة؛ بحيث يبقى نفعُه وخصبه، وهي (¬1): بطون الأودية، والآكام، والظِّراب (¬2). الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اللهمَّ على الآكام، والظِّراب، وبطون الأودية": أما الآكام: فيقال فيه: بالفتح والمد، وإِكام: بالكسر، ويقال أيضًا: أَكَمٌ, وأُكُمٌ -بفتحها وضمها-، والأَكَمَةُ: الموضعُ الغليظ الذي لا يبلغ أن يكون حجرًا يرتفع على ما حوله. وقال الخليل (¬3): هو تلٌّ من حجر واحد. وقال الثعالبي: الأَكَمَةُ: أعلى من الرابية. والظِّراب: الروابي الصغار، واحدها: ظَرِب؛ مثل كَتِف، ومنه الحديث: "فَإِذا حوتٌ (¬4) مِثْلُ الظِّرِبِ" (¬5). والأودية: جمعُ واد، وليس في كلام العرب جمعُ فاعِل على أَفْعِلَة، إلا في هذه الكلمة خاصة، فهو (¬6) من النوادر. ¬
التاسع: قوله (¬1): "فأقلعَتْ": هكذا هو في أكثر نسخ مسلم، وفي بعض النسخ المعتمدة: "فانقطعت" (¬2)، وهما بمعنى واحد (¬3). العاشر: قوله: "فسألتُ أنسَ بنَ مالكٍ: أهو الرجلُ الأولُ؟ قال: لا أدري": قد جاء في رواية البخاري، وغيره: أنه الأول (¬4)، واللَّه أعلم. وقوله: (لا أدري)، قد يقال: لا أَدْرِ (¬5)، بحذف الياء تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال؛ كما قالوا: لم يَكُ؛ فحذفوا النونَ أيضًا؛ لكثرة الاستعمال، على ما هو مقرر في كتب العربية، واللَّه سبحانه أعلم. * * * ¬
باب صلاة الخوف
باب صلاة الخوف الحديث الأول 148 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: صَلَّى (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةَ الخَوْفِ (¬2) فِي بَعْض أَيَّامِهِ، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالَّذِينَ مَعَهَ رَكْعَةً، ثُمَّ ذَهَبُوا، وَجَاءَ الآخَرُونَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَقَضَتِ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً ركْعَةً (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قد تقدم أن الخوف: غَمٌّ لما يُستقبل، والحزن: غَمٌّ لما مضى. الثاني: الأصلُ في صلاة الخوف: الكتابُ، والسنَّةُ، والإجماع. أما الكتاب: فقولُه تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] الآية. قال ابنُ بزيزةَ: واتفق أهلُ العلم بالآثار على أن رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يصلِّي هذه الصلاةَ على هذه الهيئة قبلَ نزول هذه الآية، فلما نزلَتْ صلَّاها. واختلفوا متى نزلت؟ فقيل: نزلت (¬1) بعسفان؛ حين هَمَّ المشركون ¬
أن يَثِبوا على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابِه في صلاة العصر، فنزل جبريلُ بهذه الآية على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينَ الظهر والعصر، وكان أمرُه على ذلك في حال (¬1) الخوف إلى أن تُوفي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي حديث ابن أبي حثمة (¬2)، وأبي هريرة، وجابر: أنه -عليه الصلاة والسلام- صلَّاها في غزوة ذاتِ الرقاعِ سنةَ خمسٍ من الهجرة. وفي حديث جابر -أيضًا (¬3) -: أنه صلاها في غزوة جُهَينة. وقيل: في غزوة (¬4) بني مُحارب ببطن نَخْل على قرب المدينة. وقيل: صلاها في غزوة نَجْد، وغَطَفان، قاله غيرُ واحد من الرواة. وأما السُّنَّةُ: فقد تواتر أن رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاها على هيئات مختلفة، صحح المحدِّثون منها سبعَ هيئات؛ لشهرتها وثبوتها، وصحح ابنُ حزم في صفتها عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعةَ عشرَ وجهًا (¬5) (¬6). وذكر ابن القصار: أنه -عليه الصلاة والسلام- صلاها في عشرة مواطن، وذكر غيرُه: أنه صلاها أكثرَ من هذا العدد، وصحَّحها بعضُهم في ثلاثة مواطنَ فقط. ¬
وانعقد إجماعُ الأمة على أنها كانت مشروعةً للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما اختلفوا هل هي مشروعةٌ بعده، أم لا؟ والجمهور: على أنها مشروعة بعده. وقال مكحول، وأبو يوسف، والحسن اللؤلئيُّ (¬1)، ومحمدُ ابنُ الحسن (¬2)، وبعض علماء الشاميين: إن صلاة الخوف مخصوصةٌ بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ اعتمادًا منهم على قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] الآيةَ. وعندنا: أنه خطابُ مواجهة (¬3)؛ لأنه المبلِّغُ عن اللَّه -تعالى- الخطابَ، لا خطابُ تخصيص بالحكم؛ لما صحَّ أن الصحابة صلَّوها بعد موته -عليه الصلاة والسلام-، وممن صلاها (¬4) بعد موته: عليُّ بنُ أبي طالب، وأبو هريرة، وأبو موسى الأشعري، وغيرُهم. قال الإمام المازري: وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلِّي" (¬5)، وعمومُ هذا الخبر يردُّ على أبي يوسف (¬6). ومن العلماء مَنْ رأى أن الصلاة تؤخَّرُ إلى وقت الأمن، ولا تُصلَّى ¬
في حال الخوف؛ كما فعل -عليه الصلاة والسلام- يومَ الخندق، وأجمعَ (¬1) أهلُ الآثار على أن فعلَه -عليه الصلاة والسلام- يومَ الخندق كان قبلَ نزول صلاة الخوف. وإذا ثبت أنها مشروعة، فقد اختلف فقهاء الأمصار في المختار من الهيئات المختلفة باختلاف الأحاديث الواردة في ذلك. فذكر ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- هذه الهيئةَ المذكورة هنا، وبها أخذ الشافعيُّ، والأوزاعيُّ، وأشهبُ. وروى صالح بنُ خَوَّاتٍ غيرَها على ما سيأتي. وبها أخذ مالك -رضي اللَّه عنه- (¬2). وروى جابر هيئةً أُخرى (¬3) غيرَها، وبها أخذ أبو حنيفة (¬4). وقد ذكر المصنف هذه الأحاديث الثلاثة. قال الإمام أبو عبد اللَّه المازري: وأحسنُ ما بنيت (¬5) عليه هذه الأحاديث المختلفة أن يحمل (¬6) على اختلاف أحوال أَدَّى (¬7) الاجتهادُ ¬
في كل حالة إلى أنَّ (¬1) إيقاعَ الصلاة على تلك الهيئة أحصَنُ (¬2)، وأكثرُ تحرزًا وأَمْنًا من العدو، ولو وقعتْ على هيئة أخرى، لكان فيها تفريطٌ (¬3)، وإضاعةٌ للحزم (¬4). قلت: ثم اختلف الفقهاء في ترجيح بعضِها على بعض؛ فمنهم من رجَّح بعض الهيئات على غيرها (¬5)، ومنهم من خَيَّرَ (¬6) في العمل بما شاء منها؛ لأنها كلَّها قد عُمل بها، على أن أحاديث صلاة الخوف كلَّها ثابتة (¬7)، وسببُ الترجيح عند من يقول به: أنها (¬8) تارة تكون لموافقة ظاهر القرآن، وتارةً بكثرة الرواة، وتارةً يكون بعضُها موصولًا، وبعضُها موقوفًا، وتارة لموافقة الأصول في غير هذه الصلاة، وتارةً بالمعاني. ق (¬9): وهذه الرواية التي اختارها أبو حنيفة توافق (¬10) الأصول في أن قضاء الطائفتين بعدَ سلامِ الإمام. ¬
وأما ما اختاره الشافعي: ففيه قضاءُ الطائفتين قبلَ سلام الإمام. وأما ما اختاره مالك: ففيه قضاءُ إحدى الطائفتين قبلَ سلام الإمام (¬1) (¬2). قلت: وبالجملة: فهذه (¬3) الصفاتُ الواردة في صلاة الخوف خارجةٌ عن الأصل (¬4) من كونِ العملِ في بعضِها، و (¬5) المشي والانصراف، وذلك غيرُ المعهودِ المألوف، وفي بعضِها القضاءُ، وهم في حكم الإمام، وذلك غيرُ معهود أصلًا، وقد تقدم سببُ اختلاف المختارين المرجِّحين بعض (¬6) الهيئات على بعض، وإذا بنينا على ما ذهب إليه الجمهور من المالكية؛ من (¬7) أنهم يُكملون لأنفسهم، فلا بد من التنبيه على مسائلَ وقع الاختلافُ فيها بين العلماء، رحمهم اللَّه تعالى. المسألة الأولى: هل ينتظر الإمامُ الطائفةَ الثانية قائمًا، أو جالسًا إن كان موضعَ جلوس له؟ قولان في المذهب بناءً على اختلاف الأحاديث. ¬
وإن لم يكن موضعَ جلوس له، انتظرهم قائمًا؛ اتفاقًا، وإن كان قد حكى فيه بعضُ المتأخرين خلافًا مطلقًا. وإذا قلنا: إنه يقوم، فهل يقرأ، أو يسبح، أو يسكت؟ ثلاثة أقوال، وزاد بعضهم رابعًا: التخيير. وقال بعض المتأخرين (¬1): إن كانت القراءة بفاتحة الكتاب خاصةً، سَبَّحَ، ولم يقرأ؛ لأنه لو قرأ، لم تدرك الطائفةُ الأخرى قراءته، كان كانت بأم القرآن وسورة، قرأ؛ لإدراكهم بعضَ القراءة (¬2). المسألة الثانية: إذا تمت صلاةُ الإمام، هل يسلِّم، أو ينتظر فراغهم؟ في المذهب قولان منشؤهما اختلافُ الأحاديث، أما وجهُ الانتظار، فليحصُل (¬3) لهم من فَضْل السلامٍ ما حَصَل للأولين من فَضْل الإحرام، ومن لم يره، فلأنه (¬4) زيادةٌ مستغنًى عنها. المسألة الثالثة: اختلف العلماء إذا وقع الخوف في صلاة المغرب. فقال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وجماعة العلماء: يصلِّي الإمامُ بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة. وقال الحسن: يصلِّي بكل طائفة ثلاثَ ركعات، فيصير للإمام ¬
ستُّ ركعات، وللطائفتين ثلاثٌ، ثلاثٌ (¬1). وذكر الدارقطني عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه فعلَ ذلك؛ كما قاله الحسن. (¬2) قال ابن بزيزة: وعليه عُوِّلَ. وقال أبو حنيفة بمثل قولِ مالكٍ، والشافعيِّ، إلا أنه خالف في صفة القضاء، فزعم أن الإمام إذا سلم بالطائفة الآخرة، نهضت من غير سلام ولا قضاءٍ إلى موضع أصحابها، وجاءت الطائفة الأولى، فقامت مقامَ أصحابها، وقضت ما بقي عليها (¬3)، ثم سلَّمَتْ، ورجعت إلى مَصافِّها، وتنصرف الأخرى، فتقضي ما سبقَها به الإمام (¬4). المسألة الرابعة: لو جهل الإمام، فصلى في الثلاثية أو الرباعية بكل طائفة ركعة، فصلاة الطائفة الأولى باطلة؛ لمخالفتهم سنةَ الصلاة. وفي صلاة الطائفة الثانية خلاف، والصحيحُ صحتُها. وجه الصحة: الشبه بالمسبوقين. ووجه البطلان: خروجهم عن الهيئة المشروعة. وأما الطائفة الثالثة، فالصحيح -أيضًا- صحتُها؛ لوقوعها على هيئتها. ¬
المسألة الخامسة: اختُلف في المسبوق في صلاة الخوف، هل يبدأ بالبناء؟ وهو قول ابن القاسم، أو بالقضاء؟ وهو قول: سحنون، واللَّه أعلم. المسألة السادسة: الصحيحُ: أن حكم السهو في صلاة الخوف كحكم (¬1) غيرها، وقد قيل غيرُ ذلك، ورُوي فيه حديث لا تقوم به حجة؛ لضعف سنده، وإذا بنينا على الصحيح، فهاهنا تفصيل (¬2): إن كان سجود الإمام قبليًا، تابعتْه (¬3) الطائفة الثانية فيه بلا خلاف. ويجري الخلاف في الطائفة الأولى، على ما تقدم؛ من تكميلهم لأنفسهم، وعدم تكميلهم، فإن قلنا: بالتكميل، سجدوا إذا كملوا، وإلا سجدوا، مع الإمام عند سجوده. وإن كان السجود بعديًا، فالطائفة الثانية تتابعه (¬4) فيه أيضًا، وأما الأولى، فيجري الخلاف فيها، على ما تقدم، فعلى التكميل: يسجدون إذا سلَّموا، وعلى عدم التكميل: يسجد الجميع مع إمامهم بعد السلام، واللَّه أعلم. المسألة السابعة: إذا صلى ركعةً من صلاة الخوف في السفر، ثم أحدث قبل قيامه إلى الثانية، قَدَّمَ مَنْ يقوم بهم (¬5)، ثم يثبت المستخلف، ¬
ويتم مَنْ خلفه، ثم تأتي الطائفة الأخرى (¬1)، فيصلي بهم ركعة، ويسلم. ولو أحدث بعدَ قيامه إلى الثانية، لم يستخلفْ؛ لأن مَنْ معه قد خرج عن إمامته، حتى لو تعمَّدَ حينئذ الحدثَ، أو الكلامَ، لم تفسد عليهم صلاتُهم، فإذا أتم هؤلاء، أتت الطائفة الأخرى، فصلَّوا بإمام يقدِّمونه. ولو أحدث بعدَ ركعةٍ من المغرب (¬2)، استخلف. قال في "المجموعة": يقدم رجلًا، فيصلي بهم الركعة الثانية، ثم يثبت قائمًا، ويقضون، ثم تأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم الركعة الثانية (¬3)، هذا هو المنصوص في المذهب. وقال بعض متأخري أصحابنا: ومقتضى النظر عندنا: أنه يَستخلف؛ فإن حكم الطائفتين واحد من حيث إنها صلاة واحدة، فالإمامةُ (¬4) ثابتة له (¬5) على الطائفتين حكمًا. قلت: ولا أستبعدُ ما قال، واللَّه أعلم بالصواب. المسألة الثامنة: إذا طرأ الأمنُ: فأما بعد كمالها، فلا خلاف في ¬
المذهب في عدم الإعادة، وإن طرأ في أثنائها مطلقًا تيقنًا، وجب (¬1) التكميلُ على حكم الأمن؛ كالمريض يصلي جالسًا، ثم يصحُّ في أثناء صلاته، فيجب عليه القيام. واختلفوا (¬2) إذا انهزم العدو والحالةُ هذه، فهل يكمِلون على الهيئة الأصلية، أو الخوفية؟ قولان، والتحقيق: أنه إن تحقق عدمُ عودِهم، كَمَّلوا على حكم الأمن، وإلا، فعلى الهيئة الخوفية، على هذا خرج القولين بعضُ المتأخرين، وهو التحقيق، واللَّه أعلم. المسألة التاسعة: إذا قلنا: إن الخوف مبيحٌ لتغيير هيئة (¬3) الصلاة، فهل هو خوفُ المطلوب من العدو، أو خوف المطلوب والطالب؟ أما المطلوبُ من قبل العدو، فلا خلاف أنه يصلي هذه الصلاة. وأما الطالب، فهل هو كالمطلوب، أم (¬4) لا؟ اختلف العلماء في ذلك، فسوَّى مالكٌ وجماعةُ أصحابِه بينهما. وقالَ الشافعيُّ، والأوزاعيُّ، وجماعة من (¬5) العلماء: لا يصلي الطالبُ هذه الصلاة، ولا يصلّي إلا بالأرض، وهو قول ابنِ عبدِ الحكم من أصحابنا. ¬
وقال الأوزاعي: إن كان الطالب قربَ المطلوب، صلَّى إيماءً، وإلا، لم يجز له الإيماءُ. وقال الشافعي -أيضًا-: إن خاف الطالبُ انقطاعَه عن أصحابه، وكثرةَ المطلوبين، واجتماعَهم عليه، صلى إيماء، وإلا فلا، هكذا نقله ابن بزيزة في "شرح الأحكام" لعبد الحق. المسألة العاشرة: الجمهورُ على جواز عمل كلِّ ما يُحتاج إليه في صلاة الخوف؛ من قول، أو فعلٍ من أمر القتال؛ قلَّ أو كثرَ. وقال الشافعي، ومحمد بن الحسن: إنما يُباح له من ذلك الشيءُ (¬1) اليسير، والطعنةُ، والضربةُ (¬2)، فأما (¬3) العمل الكثير يفعله في صلاته، فلا تجزئه الصلاةُ معه، وهذه تسمى: صلاةَ المسايفة (¬4). المسألة الحادية عشرة: قال مالك: يصلي المسايفُ (¬5) مستقبلَ القبلة، وغيرَ مستقبلها، وبه قال الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأهلُ الظاهر، وعامةُ العلماء. وقال أبو حنيفة، وابن أبي ليلى: لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة. ¬
المسألة الثانية عشرة: إذا صلوا صلاة الخوف ظانين الخوفَ، ثم كشف الغيب الأمنَ، فالمنصوصُ في المذهب: صحةُ الصلاة، وسقوطُ الإعادة (¬1)، واستحب ابن المواز الإعادةَ في الوقت، ولم يقل أحد من أصحابنا بالإعادة بعدَ الوقت، وخرَّجه بعض المتاخرين على القول: بأن (¬2) الاجتهاد لا يرفع الخطأ، وفيه عندي نظر؛ إذ لو كان كذلك، لوجبت الإعادةُ بعد الوقت على القول: بأن المصيب واحد، واللَّه أعلم. المسألة الثالثة عشرة: إذا صلَّوا صلاةَ الأمن، فحدث الخوفُ الشديد في أثناء الصلاة، قطعوا، وعادوا إلى صلاة الخوف، وسواء كان ذلك قبلَ عقد ركعة من الصلاة (¬3)، أو بعدَ عقدها، واللَّه أعلم (¬4). الثالث: الطائفة من الشيء: القطعةُ منه، ومنه قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، قال ابن عباس: الواحدُ فما فوقَه (¬5). ¬
قلت: وقوعُها على الواحد غيرُ المتبادر إلى الذهن (¬1)، وأرجحُ من هذا قولُ من قال: إنها تقع (¬2) على أربعة، وقيل: على (¬3) أربعين. وقوله: "بإزاء العدو"؛ أي: قبالته، والعدوُّ يقع على الواحد، والاثنين، والجماعة، والمؤنث، والمذكر، قال اللَّه تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77]، ومثله: ضَيْف، وصَديق، واللَّه أعلم (¬4). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 149 - عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ صَالح بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاة ذاتِ الرِّقَاع (¬1) صلاةِ الخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالَّذِينَ مَعَهُ رَكعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ (¬2) قَائِمًا، وَأتَمُّوا (¬3) لأَنفسِهِم، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا (¬4) وِجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأتَمُّوا لأَنْفُسِهم، ثُمَّ سَلمَ بِهِمْ (¬5). ¬
الَّذِي صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ سَهْلُ بنُ أبي (¬1) حَثْمَةَ (¬2). * * * ¬
* التعريف: يزيدُ بنُ رومان: كنيتُه أبو رَوْح، وهو مولى الزبير بن العَوَّام، قرشيٌّ، أسديٌّ، سمع عروةَ بنَ الزبير، وصالحَ بنَ خَوَّاتٍ، بالخاء المعجمة وتشديد الواو آخره تاء باثنتين (¬1) فوق. روى عنه: جريرُ بنُ حازم، وأبو حازم، ومعاويةُ، ومالكُ بنُ أنس، في: الحج، والأدب -يعني: عند البخاري-. قال عمرو (¬2) بنُ علي: مات سنة ثلاثين ومئة (¬3)، وقال أبو عيسى مثله، وقال الواقدي مثله، وقال ابن نمير مثله. أخرج حديثه في "الصحيحين" (¬4). (¬5) الكلام على هذا الحديث كالكلام على الحديث (¬6) الذي قبله. وقد روي عن الشافعي، وأحمد، وأبي (¬7) ثور، وغيرهم، موافقتُهم ¬
لمالك في ذلك؛ أخذًا (¬1) بهذا الحديث. وقوله: "وُجَاهَ العدوِّ" هو بكسر الواو وضمها (¬2)؛ بمعنى (¬3): مقابلة العدو، ولو أُبدلت الواو فيه همزة، لم يبعد؛ كما في وِشاح، ووِسادة، وغيرِ ذلك؛ حيث (¬4) قالوا: إِشاح، وإِسادة؛ استثقالًا للكسرة تحت الواو، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 150 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: شَهِدتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةَ الخَوْفِ، فصففا (¬1) صَفَّيْنِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وَكبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ، وَرَكَعْنَا جَمِيعًا (¬2)، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بالسُّجُودِ، وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرّكُوعِ فَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا في الرَّكْعَةِ الأولى (¬3)، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في ¬
نحر (¬1) العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- السُّجُودَ والصَّفُّ الَّذِي يَليهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤخَّرُ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا. قَالَ جَابِرٌ: كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُم هَؤُلَاءِ بِأُمَرَائِهِمْ. ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِه (¬2). وَذَكَرَ البُخَارِيُّ طَرَفًا مِنْهُ، وأَنَّهُ صَلَّى صَلاةَ الخَوْفِ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الغَزْوَةِ السَّابِعَةِ غَزْوَةِ ذاتِ الرقاعِ (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: "شهدْتُ مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"؛ أي: حضرتُ، واسم الفاعل منه شاهد، وقوم شُهود، أي: حُضور، وهو في الأصل مصدر، وشُهَّدٌ أيضًا؛ مثل: راكِع، ورُكَّع، وامرأة مُشْهِدٌ (¬1): إذا حضر زوجُها -بلا هاء-، وامرأة مُغِيْبَةٌ: غاب زوجُها، وهذا بالهاء، وأشهدني إملاكَه (¬2)؛ أي: أحضرني، والمَشْهَد: محضر الناس، ومن هذا قوله تعالى: {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدّثر: 13]؛ أي: حضورًا عنده، لا يتألم لمفارقتهم (¬3). الثاني: العدو: ضدُّ الوَلِيِّ، وقد تقدم أنه يقع على الواحد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، ويقال أيضًا: أعداء، وعَدُوَّة، وعِدًى وعُدًى (¬4). (¬5) قال الجوهري: والعِدا -بكسر العين-: الأعداء، وهو جمعٌ ¬
لا نظير له. قال ابن السِّكِّيت: ولم يأت فِعْلٌ في النعوت إلا حرف واحد، يقال (¬1): هؤلاء قوم عِدًى، أي: غرباء، وقومٌ عِدًى؛ أي: أعداء. قلت: بل جاء فِعَلٌ صفة في سبعة ألفاظ: مكانٌ (¬2) سِوًى، وقَوْمٌ عِدًى، ومَلامةٌ ثِنًى؛ أي: وثُنِّيَتْ مرتين، ومنه قوله تعالى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87]، في قول من جعلها الفاتحةَ، لأنها تُثَنَّى في (¬3) كل ركعة، وماءٌ رِوًى، وماءٌ صِرًى (¬4)، ولحمٌ زِقَمٌ (¬5)، ووادٍ طِوًى، فيمن كسرَ الطاءَ، وجعله صفةً، واللَّه أعلم. وقال ثعلب: يقال: قومٌ أعداء، وعِدًى -بكسر العين-، فإن أدخلتَ الهاء، قلت: عُداة -بالضم-، والعادي: العدوُّ، قالت امرأة من العرب: أشمتَ اللَّه عادِيَكَ؛ أي: عدوَّكَ (¬6)، واللَّه أعلم. الثالث: هذه الكيفية إنما تُمكن إذا كان العدوُّ في جهة القبلة؛ لتأتي الحراسةُ مع كون الكل مع الإمام في الصلاة، وقد دلَّ الحديث على اختصاص الحراسة بالسجود دون الركوع (¬7)، ¬
ولا أعرف (¬1) في مذهبنا خلافًا في ذلك. ق: وحكي وجهٌ عن بعض أصحاب الشافعي: أنه يحرس في الركوع أيضًا، والمذهبُ الأولُ؛ لأن الركوع لا يمنع من إدراك العدوِّ بالبصر، فالحراسةُ تمكنه معه؛ بخلاف السجود، والمراد بالسجود الذي سجده -عليه الصلاة والسلام-، وسجدَ معه الصفُّ (¬2) الذي يليه: هو السجدتان (¬3) جميعًا. الرابع: الحديث نصٌّ في سجود الصف الذي يلي الإمامَ معه في الركعة الأولى، وحراسةِ الصف الثاني. ق: ونصَّ الشافعيُّ على خلافه، وهو أن الصف الأول يحرس في الركعة الأولى، فقال (¬4) بعضُ أصحابه (¬5): لعله سها، ولم يبلغه الحديث. وجماعةٌ من العراقيين وافقوا الصحيح، ولم يذكر بعضُهم إلا ما دل عليه الحديث؛ كأبي إسحاق الشيرازي. وبعضُهم قال بذلك بناءً على المشهور [عن الشافعي]: إن الحديث إذا صح، يذهب إليه، ويترك قوله. ¬
قلت (¬1): وبعض الخراسانيين تبعَ نصَّ الشافعي، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
كتاب الجنائز
كِتْابُ الْجَنَائِز
الحديث الأول
كِتْابُ الجنائز الحديث الأول (¬1) 151 - عَنْ أَبي هُرَيْرَة -رضي الله عنه-، قَالَ: نَعَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّجَاشِيَّ في الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِم إِلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِم، وَكبَّرَ أَرْبَعًا (¬2). ¬
الجنائز: جمع جِنَازة -بكسر الجيم، وفتحها- لغتان مشهورتان، وقيل: بالفتح: للميت، وبالكسر: للنَّعشِ وعليه الميت، وقيل: عكسُه، حكاه صاحب "مطالع الأنوار"، فإن لم يكن ميتٌ، فهو سرير، أو نعشٌ، وهي مشتقه من جَنَزَهُ؛ إذا سَتَرَهُ (¬1). قال الأزهري: جُنِّزَ الميتُ تَجنيزًا: إذا هُيِّىءَ أمرُه، وجُهِّزَ، وشُدَّ على السرير (¬2). إذا ثبت، هذا فينبغي أن نقدم بين يدي الحديث مقدمةً تليق بكتاب الجنائز، ثم نعود إلى تتبع ألفاظ الحديث (¬3) على عادتنا، وأول ذلك أن نقول: كان الأصلُ وما يقتضيه الترتيب؛ أن يكون كتابُ الجنائز مع ¬
كتاب الوصية والمواريث في آخر كتب الفروع والحديث؛ فإن حاصلها راجعٌ إلى ما يُفعل بالإنسان، أو في ماله بعد وفاته، فيُبدأ بكتاب الوصايا، ثم الجنائز، ثم المواريث. وقد أُجيب عن هذا: بأن العلماء -رضي اللَّه عنهم- لما رأوا الأهمَّ من هذه الثلاثة ما يُفعل بالميت، فإنه مقدَّم على ما يُفعل في ماله، وإن أهمَّ ما يُفعل بالميت الصلاةُ عليه؛ لأن الذي يُفعل به بعد موته: غسلُه، وتكفينُه، والصلاةُ عليه، ودفنُه (¬1)، ولا إشكال (¬2) أن أهم هذه الأمور الأربعة الصلاةُ؛ إذ فائدتها أخروية، وهي الدعاء له، والشفاعة؛ ليتخلَّصَ من عذابِ القبرِ، وعذابِ النارِ، وفي الخلاص من ذلك السعادةُ التي لا شقاءَ بعدها، وأما غسلُه وتكفينُه ودفنُه، ففوائدُ دنيويةٌ؛ إذ فائدة الغسل النظافةُ، وفائدةُ التكفين سترُه، وحفظُ الجثة، وتغطيتُها عن عيون الناس، وفائدة الدفن حفظُ الجثة عن السباع، وسترُ جيفة الآدمي ورائحتِها، جعلوا هذا الكتاب تاليًا لكتاب الصلاة، وابتداؤُوه بذكر الصلاة على الميت، ثم بذكر الغسل والتكفين والدفن. وبعدُ: فينحصر غرضُنا (¬3) من هذه المقدمة في ثلاثة (¬4) فصول: ¬
الفصل الأول: ما يفعله الْمُحْتَضَرُ: قال العلماء: ينبغي لكل عاقل أن يكون شديدَ الخوف من عذاب ربه، وأن يُكثر (¬1) ذكرَ الموت في جميع أحواله، وأن يكون أجلُه بين عينيه، فيقصر أمله، ويبادر إلى التوبة، ويتحلل من مظالم الناس خوفًا من فجأة الموت؛ فإن اللَّه -تعالى- لم يجعل للموت وقتًا معينًا، ولا علامةً معلومة، حتى يَأْمَنَ من هجومه قبلها، فكم من صحيح فَجَأَه الموت، ومريضٍ طالَ مرضُه، ثم عوفي، وأنشد في ذلك: تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلًا فَمَا تَدْرِي ... إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلَى الْفَجْرِ فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ ... وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ عَاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ وكيف يطمئن العاقل إلى الدنيا، ويطيل أملَه مع ما ذكرناه، وهو أمر مشاهَد لا ينكره مؤمن ولا كافر، وقد نبه اللَّه -تعالى- على ذلك بقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. وقد روى الترمذي بإسناد حسن في كتاب: الزهد، عن ابن مسعود: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لأصحابه: "اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ"، ¬
قالوا: إنا نَسْتَحيي يا نبيَّ اللَّه! والحمدُ للَّه، قال (¬1): "لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ، فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ" (¬2). وروينا في كتاب "السنن" لابن ماجه في كتاب: الزهد من جامعه، بإسناد حسن (¬3): أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبصرَ جماعةً يحفِرون قبرًا، فبكى حتى بَلَّ الثَّرَى بدموعه، وقال: "إِخْوَانِي! لِمِثْلِ هذَا فَأَعِدُّوا" (¬4)؛ أي: تَأهَّبوا له (¬5)، واتخذوا له عُدَّةً، وهي ما يُعَدُّ (¬6) للحوادث. وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ" (¬7)؛ يعني: الموتَ. ¬
قلت: "هاذِمُ" (¬1): -بالذال المعجمة-، ليس إلا، والهَذْم: القَطْعُ. ويتأكد استحبابُ ذكر الموت حالةَ المرض؛ لأنه إذا ذكرَ الموتَ، رقَّ قلبُه وخاف، فرجع عن المظالم والمعاصي (¬2)، وأقبلَ على الطاعات، وبادرَ إلى الخيرات. قال بعض العلماء: ويُستحب الإكثارُ (¬3) من ذكر حديث: "اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ". وروينا في "صحيح البخاري": عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه-، قال (¬4): أخذ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَنْكبي، فقال: "كُنْ في الدّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ" وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيتَ، فلا تنتظرِ الصباحَ، وإذا أصبحتَ، فلا تنتظرِ المساءَ، وخُذْ من صحتك لمرضِك، ومن حياتك لموتِك (¬5). فإذا مرض إنسان، واشتد تألمه، فليصبرْ، ولا يُكثر الشكوى، ولا الجزعَ، ففي حسن الصبر جزيلُ الأجر، مع أن الشكوى والجزع لا يُفيدان شيئًا. وقد روي أن امرأة جاءت إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: يا رسول اللَّه! ¬
ادعُ اللَّه أن يَشفيني، فقال: "إِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّه فَشَفَاكَ، وَإِنْ شِئْتِ اصْبِرِي وَلَا حِسَابَ عَلَيْكِ"، قالت: أصبرُ، ولا حسابَ عليَّ" رواه البغوي (¬1)، ومسلم بهذا اللفظ، من رواية أبي هريرة (¬2). ورواه البخاري، ومسلم، من رواية ابن عباس: أن امرأة سوداءَ أتت النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالت: إني أُصرعَ، وإني أَنكشف، فادعُ اللَّه لي، فقال: "إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّه أَنْ يُعَافِيَكِ"، فقالت (¬3): أصبرُ (¬4). وليحذر من السخطا بقضاء اللَّه وقَدَره؛ فإنه معصية، وقد جاء: "من رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ" (¬5)، لا سيما وقد قال ¬
بعضُ العلماء: يُكره له الأَنينُ؛ يعني: إذا كان قادرًا على تركِه. ويُستحبُّ عيادةُ المريض المسلم؛ لما روى البراءُ بنُ عازبٍ، قال: أمرَنا النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِاتِّباعِ الجنائزِ، وعيادةِ المرضى (¬1)، الحديث (¬2). وما روى زيدُ بنُ أرقم، قال؛ عادني رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجعٍ كان بعيني (¬3)، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة. فإن رَجَاه، دعا له، ويُستحب أن يقول (¬4): أَسال اللَّه العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أَنْ يَشْفيكَ (¬5)، سبع مرات؛ لما روي: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: قال: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ، فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّه العَظِيمَ رَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ (¬6)، عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ المَرَضِ" (¬7). وإن رآه منزولًا به، فالمستحبُّ أن يُلَقِّنه قولَ: لا إله إلا اللَّه؛ لما ¬
روى أبو سعيد الخدري، قال: قالَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُم: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه" (¬1) (¬2)، وقال: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ، دَخَلَ الجَنَّةَ" (¬3)، وليرفقْ في ذلك، ولا يلحَّ عليهِ إلحاحًا يُضْجِرُهُ، لا سيما إن كانَ وارثَهُ، أو عدوَّه، ونحو ذلك. ويُكره للمريض أن يتمنى الموتَ؛ لما روى البخاري، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، عن أنس (¬4)، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَدْعُوا بِالمَوْتِ، وَلَا تَتَمَنَّوْهُ، فَمَنْ كَانَ دَاعِيًا، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِني مَا دَامَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لَي" (¬5)، وغير ذلك من الأحاديث. وينبغي للمريض أن يُحسن الظنَّ بربهِ، مع خوفِهِ منه؛ لما روى ¬
الترمذي، عن أنس: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل على شابٍّ وهو بالموت، فقال: "كَيْفَ تَجِدُكَ؟ "، قال (¬1): أرجو اللَّه، يا رسول اللَّه! وأنا أخافُ من ذنوبي، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَجْتَمِعَانِ في قَلْبِ مُؤْمِنٍ في هذَا المَوْطِنِ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو، وَأَمَّنَهُ (¬2) مِمَّا يَخَافُ" (¬3). ولما رواه مسلم، عن جابر، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُم إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ (¬4) الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى"، قال ذلك قبل وفاته بثلاثة أيام (¬5). ح: ومعنى "يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى" (¬6): أَنْ يظن أن اللَّه -تعالى- يرحمه، ويرجو ذلك ويتدبر الآيات والأحاديثَ الواردةَ في كرم اللَّه سبحانه وتعالى، وعفوِه، ورحمتِه، وما وعدَ به أهلَ التوحيد، وما ينشرُه (¬7) من الرحمة لهم يومَ القيامة؛ كما (¬8) قال سبحانه وتعالى في الحديث الصحيح: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ ¬
عَبْدِي بِي" (¬1)، هذا هو الصواب في معنى الحديث، وهو الذي قاله جمهور العلماء، وشذَّ الخطابي، فذكر معه تأويلًا آخر معناه: أحسنوا أعمالَكم حتى يحسنَ ظنُّكم بربِّكم (¬2)، فمن حَسُنَ عملُه، حسنَ ظنُّه بربه، ومن ساءَ عملُه، ساءَ ظنُّه (¬3). قال: وهذا تأويلٌ باطل نبَّهت عليه؛ لئلا يُغتر به. قلتُ: وما علمت لبطلانه وجهًا؛ إذ يحتمل أن يكون محمولًا على غير حالة الموت، وحضورِ أسبابه، ويكون المعنى: من حسن عمله حالَ صحته، حسن ظنه بربه عند حضور أسباب موته، هذا لا يمنعه عقل، ولا يرده شرع، ويكون من وادي قوله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إلًا وَأنتم مُّسلِمُونَ} [البقرة: 132]، والإنسانُ ليس من مقدوره الموتُ على الإسلام، وإنما المعنى: تَعَرَّضوا لأسباب ذلك؛ باجتناب النواهي، وامتثال الأوامر، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- في عكسه (¬4): "المَعَاصِي بَرِيدُ (¬5) الكُفْرِ" (¬6)؛ ¬
أي: سببٌ مؤدٍّ إلى الكفر، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "فَلَا يُذَادَنَّ (¬1) رِجَالُ عَنْ حَوْضي" (¬2)، الحديث -على إحدى الروايتين-؛ أعني: إثباتَ الألف بعد اللام في (فلا) (¬3)، أي: لا تتسببوا (¬4) في ذَوْدِكم عن حوضي، وهذا المعنى كثير، وقال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]. ثم قال: واتفق أصحابنا وغيرُهم على أنه يُستحب للمريض، ومَنْ حضرته (¬5) أسبابُ (¬6) الموت ومقامه: أن يكون حسنَ الظنِّ باللَّه -تعالى- بالمعنى الذي ذكرناه، راجيًا رحمته. وأما في حال الصحة، ففيها وجهان لأصحابنا، حكاهما القاضي حسين، وصاحبه المتولي، وغيرهما. أحدهما (¬7): أن يكون خوفُه ورجاؤه سواءً (¬8). والثاني: (¬9) يكون خوفُه أرجحَ. ¬
قال القاضي حسين: هذا الثاني هو الصحيحُ، هذا قول القاضي. والأظهرُ: أن (¬1) الأول هو الأصحُّ، ودليلهُ: ظواهر القرآن العزيز؛ فإن الغالب فيه ذكرُ الترغيب والترهيب مقرونين، كقوله -تعالى- {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25]، ونظائره مشهورة، وقال تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. قال: وقد تتبعت الأحاديثَ الصحيحةَ الواردةَ في الخوف والرجاء، وجمعتُها (¬2) في كتاب "رياض الصالحين"، فوجدت أحاديثَ الرجاء أضعافَ أحاديثِ الخوف، مع ظهور الرجاء فيها، وباللَّه التوفيق، انتهى كلامه (¬3). الفصل الثاني: فيما ينبغي أن يُفعل بالمحتضر: وذلك ثلاثة أشياء: أحدها: أن يُوَجَّه إلى القبلة، فيُضْجَع على جنبهِ الأيمنِ، وصدرُه إلى القبلة؛ كما يُجعل في لحده، فإن تعذر ذلك، فعلى ¬
ظهره، وأخمصاه (¬1) إلى القبلة. وقيل: بل الأولى الصورةُ الثانية، والقولُ في ذلك كالقول في المريض إذا عجز عن الجلوس، ومن دعته الضرورة إلى (¬2) أن يصلي مضطجعًا، فهل (¬3) الأولى أن يكون على جنبه الأيمن، وصدرُه إلى القبلة، أو على ظهره؟ والمقصود من ذلك: أن يُجعل على الوجه الذي هو أقربُ إلى توجهه إلى القبلة. واستحب ابن الصَّبَّاغ من الشافعية الصفةَ الأولى، واستدلَّ بقوله -عليه الصلاة والسلام- "إِذَا نَامَ أَحَدُكُم، فَلْيَتَوَسَّدْ يَمِينَهُ" (¬4). وفي "المجموعة"، من رواية ابن القاسم في (¬5) التوجيه، قال: ما أعلمه إلا من الأمر القديم. قال ابن حبيب: ولا أحبُّ (¬6) لأهل الميت (¬7) توجيهه حتى يُغلب، ¬
ويُعاين، ويوقن بالموت (¬1)، ومن علامة ذلك: إحدادُ نظره، وإشخاصُ بصره. قال ابن حبيب: وقد سئل مالك عنه (¬2)، فقال: إنما أكره أن يفعل استنانًا. الثاني: أن يُلَقَّنَ الشهادتين: لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه؛ لما روى مسلم، والنسائي، والترمذي، وأبو داود، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُم: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (¬3)، ولا ينبغي أن يلحَّ عليه بالتلقين فيُضجره؛ كما تقدم، فإذا قالها مرة، كفاه، بل إن اعتقدَها، ولم ينطق، كفاه ذلك. الثالث: قراءة: سورة (يس)، وقد اختلف في ذلك، فاستُحب، وكُره؛ خوفَ التحديد، ووجهُ الاستحباب: ما رواه أبو داود عن معقل بن يسار، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا حَضَرْتُمُ المَرِيضَ، أَوِ المَيِّتَ، فَقُولُوا خَيْرًا"، وَقَالَ: فَاقْرَؤُوا، وَكَبِّرُوا؛ "فَإِنَّ المَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلى ¬
مَا تَقُولُونَ" (¬1)، وقد فسرت القراءة بـ (¬2) (يسَ). الفصل الثالث: فيما يفعل بالميت إذا مات قبل أن يغسل: وذلك سبعة أشياء: أحدها: تغميضه؛ لأن فتحَ عينيه يُقبح منظرَه، ولِما روى مسلم، وأبو داود، [عن أم سلمة] (¬3) قالت: دخل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أبي سلمة وقد شُقَّ بصرُه، فأغمضَه، وقال: "إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ (¬4)، تَبِعَهُ البَصَرُ"، الحديث (¬5). قال ابن حبيب: من السنة إغماضُ الميتِ حين (¬6) يموت. قال ابن الصباغ: وينبغي (¬7) أن يتولى الإغماضَ أرفقُ أوليائه به ¬
بأسهلِ ما يقدر عليه. الثاني: أن يشد لَحْيه (¬1) الأسفل بعصابة عريضة، ويربطها من فوق رأسه؛ لئلا يسترخي (¬2) لَحياه، فينفتح فوه، ويدخل (¬3) الهوامُّ إلى جوفه، فيقبح بذلك منظرُه (¬4) أيضًا. الثالث: استحب ابن الصباغ بعدَ الإغماض (¬5) وشدِّ اللَّحيين تليينَ مفاصله عقبَ موته؛ لأن (¬6) ذلك أبقى للينها (¬7)، فيردُّ ذراعيه إلى عضديه، ويمدُّهما، ويردُّ فخذيه إلى بطنه، ويردُّهما فيمدُّهما (¬8)، ورجليه إلى فخذيه، ثم يمدُّهما؛ فإن ذلك يعين الغاسلَ على تمديده وتكفينه. الرابع: المبادرةُ إلى خلع ثيابه، لأن (¬9) الثياب تحمِّي الجسم، فيسرعُ إليه التغيير (¬10) والفساد. ¬
الخامس: أن يوضَع على سرير أو لوح؛ حتى لا تصيبه نداوة الأرض، فتغيره (¬1)، وتُسرع (¬2) إليه هوامُّ الأرض، فحفظهُ بذلك (¬3) برفعه عن الأرض أولى. السادس: تثقيلُ بطنه لئلًا يعلوَ، فيُجعل عليه سيفٌ، أو حديدةٌ، فإذا (¬4) لم يكن، فطين مبلول؛ لما روي: أن مولًى لأنسٍ مات، فقال أنس -رضي اللَّه عنه-: ضَعُوا على بطنه حديدة (¬5). السابع: تسجيتُه بثوب، فإنه أسترُ؛ لما روت عائشة -رضي اللَّه عنها-: أن رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سُجِّيَ بثوبِ حِبَرة (¬6)، بإضافة الثوب إلى حبرة، والحِبرة -بكسر الحاء وفتح الموحدة-: نوع من البُرُد. قال بعض متأخري أصحابنا: ولا ينبغي أن يُعجَّل بغسله (¬7) إلا بعد أن تتحقق وفاتُه، وذلك بعد أن تُرى (¬8) فيه علامات؛ منها: أن ¬
تسترخي قدماه فلا تنتصبان (¬1)، ويميل أنفُه، وتنفرج زندا يديه. و (¬2) قال الشافعي: ولا ينبغي أن يعجل بغسله؛ لأنه قد يُغْشى عليه، فيُخيل إليهم (¬3) أنه قد (¬4) مات، ولم يمت. قال: وإن كان مصعوقًا، أحببت أن يتأنى به، حتى يخاف تغيره، وإن بلغ يومين أو ثلاثة. قال: لأنه بلغني أن الإنسان يُصعق، فيذهب عقله، ثم يُفيق بعد يومين، وكذلك إن كان فزعًا من حرب، أو سبع، أو مترديًا من جبل، أو غريقًا، أو حريقًا (¬5). قال صاحب "البيان والتقريب": إنما ينبغي تأخيرُ الميت إذا وقع الشكُّ في موته، ونادر وقوعُ الشك فيه (¬6)، فإذا تحقق، فالأولى المبادرةُ بغسله وتجهيزه ودفنه. قال ابن شعبان: لا يؤخَّر غسلُ الميت بعد خروج روحه -يريد: خوفَ انفجاره، أو (¬7) تغير رائحته-، ولا حجة للخصم في تأخير ¬
غسل رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- للأمن من ذلك فيه، ولأن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- إنما أخروا غسلَه؛ لاشتغالهم بما هو أهمُّ عندهم من المبادرة بتجهيزه (¬1)، وهو أمرُ الخلافة، والنظرُ إلى من يقوم بالشريعة وحفظها، ومصالح الخلق بعده، وخوف أن يَسْبِقَ إلى (¬2) ذلك من لا يستحقه، ثم يَعْسُر خلعُه (¬3). وقد روى البخاري، ومسلم، والنسائي، وأبو داود، عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أَسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَرَّبْتُمُوها إِلَى الخَيْرِ، وَإِنْ كَانَتْ (¬4) غَيْرَ ذَلِكَ، كَانَتْ (¬5) شَرًّا تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكم" (¬6). وروى أبو داود: أن طلحةَ بنَ البراء مرض، فأتاه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعودُه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي لأَرَى طَلْحَةَ حَدَثَ بِهِ (¬7) المَوْتُ، ¬
فَآذِنُوني بِهِ، وَعَجِّلُوا؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تَجْلِسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ" (¬1). وقد انتهى ما أردناه (¬2) من تأسيس هذه المقدمة، والحمد للَّه. * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: النعي: خبرُ الموت، يقال: نَعاه يَنْعاه، نَغيًا ونُعْيًا -بالفتح، والضم-، وكذلك النَّعِيُّ على فَعِيلٍ (¬3)، يقال: جاء نعيُ فلان، والنعي -أيضًا-: الناعي، وهو الذي يأتي بخبر الموت؛ قاله الجوهري. وقال (¬4) الهروي (¬5): النَّعْيُ -بسكون العين-: الفعل، والنَّعِيُّ -يريد: بالكسر-: الميت، ويجوز أن يُجمع على نعايا (¬6)، مثل صَفِيٍّ وَصَفَايا، وبَرِيٍّ وبَرَايا (¬7). قال الجوهري: قال الأصمعي: كانت العرب إذا مات منها ميت له قدرٌ، ركبَ راكبٌ فرسًا، وجعل يسير في الناس [ويقول]: نَعاءِ فلانًا؛ ¬
أي: انْعَه وأظهرْ خبرَ وفاته، ونَعاءِ: مبنيةٌ على الكسر، مثل دَرَاكِ، وفي الحديث: "يا نَعَاءِ العَرَبَ" (¬1)؛ أي: انْعَهُم (¬2). قال الإمام المازري: والنجاشي: ملك الحبشة، واسمه أَصْحَمة، تفسيره بالعربية: عَطِيَّة قاله ابن قتيبة، وغيرُه. وقال المطرز (¬3)، وابنُ خالويه، وغيرهما: النَّجاشي: اسمٌ لكل ملكٍ ملكَ الحبشة، وكسرى اسمٌ لملكِ الفرسِ، وهِرَقْلُ: اسمٌ لملكِ الرُّوْمِ، وقَيْصَرُ كذلك، وخاقانُ: اسمٌ لملكِ (¬4) الترك، وتُبَّعٌ: اسم لملك (¬5) اليمن، والقَيْل: اسمُ (¬6) ملكِ حِمْيَر، وجمعُه أَقْيال، وقيل: بل القَيْلُ أقلُّ درجةَ من المَلِك (¬7). ¬
ع: و (¬1) ذكر مسلم اسمَ النجاشي أصحمةَ في الحديث، وهو المعروف -بهمزة أوله، ثم صاد مهملة ساكنة، بعدها حاء مفتوحة-، يعني: مهملة. قال: وكذا ذكره البخاري، وقاله ابن إسحاق، وفي "مسند ابن أبي شيبة" في هذا الحديث (¬2): تسميته صَحْمَة على وزن رَكْوَة -بغير همز، وفتح الصاد، وسكون الحاء-، وقال: هكذا قال لنا يزيد، وإنما هو صَمحَة (¬3)، كذا ذكره بتقديم الميم بغير همز (¬4). الثاني: قال أصحابنا: إنما نعاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وصلَّى عليه وهو غائبٌ؛ لأنه ماتَ بأرضٍ لم تُقف فيها عليه (¬5) فريضةُ الصلاةِ، فتعينَ الإعلامُ بموته؛ ليقام فرضُ الصلاة عليه، وإن كان معه مَنْ تابعه (¬6) على الإسلام، إلا أنه لا يقدر على إظهاره؛ لأنهم لم يظهروا إيمانهم، أو أنهم يجهلون حكمَ هذه الصلاة، ولأن هذا خصوصٌ النجاشي؛ إذ لم يصلِّ على سائر مَنْ ماتَ غائبًا عنه من أصحابه -عليه الصلاة والسلام-، فليس فيه دليل للخصم في الصلاة على الغائب، مع ما قيل: إنه رُفع ¬
إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فرآه، كما رُفع له بيتُ المقدس، فوصَفَه لمن سأل (¬1) عنه (¬2). ع: احتج بذلك أئمتُنا في جواز الإعلام بموت الميت، وأن هذا ليس من النعي الذي نُهي عنه، خلف ما رُوي عن حذيفة: أن لا يؤذن به أحدٌ، وقال: أخافُ أن يكون نعيًا، ونحوه عن ابن المسيب، وقال [به] بعضُ سلف الكوفيين من أصحاب ابن مسعود، وحمل الأول (¬3) النهي عن النعي على عادة الجاهلية. وذكرَ نحوَ ما ذكره الأصمعي، وزاد: ويكون (¬4) مع النعي ضجيج وبكاء، وكره مالك الإنذارَ بذلك على أبواب المساجد، والأسواق، ورآهُ من النَّعْي (¬5). الثالث: قوله: "وخرج بهم إلى المصلَّى": يحتج به، وبفعلِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، في غير جنازة: على (¬6) أن سُنَّتها (¬7) الصلاةُ عليها في البقيع، وأن (¬8) لصلاة الجنازة موضعًا مخصوصًا (¬9). ¬
وأما ما نُقل من صلاته -عليه الصلاة والسلام- على سَهْيلِ بنِ بيضاء (¬1) في المسجد (¬2)، فيجوز أن يكون بيانًا للجواز، وأنه ليس بحرام، ويؤيد هذا الاحتمال: أن العمل على خلافه؛ بدليل قول عائشة -رضي اللَّه عنها-: ما أسرعَ ما نَسِيَ الناسُ! فهذا صريح (¬3) في أن الناس كانوا لا يصلون على ميت في المسجد؛ إذ لو كان ذلك، لما (¬4) حسن قولها: ما أسرع ما نسي الناس! ويكون ذلك جمعًا بين الحديثين، واللَّه أعلم. الرابع: قوله: "فصفَّ" (¬5) دليلٌ على أن صلاة الجنازة يلزم فيها من إقامة الصفوف، وتقديم ما يلزم في سائر الصلوات (¬6). الخامس: قوله: "وكبر أربعًا" نصّ صريح، ودليلٌ ظاهر للجمهور، على أن تكبير صلاة الجنازة أربعُ تكبيرات، وقد اختلف الناسُ في ذلك على ستة أقوال، لا أعلم لها سابعًا: الأول: وهو أصحُّها وأشهرها: أن التكبير أربع، وبه قال مالك، ¬
والثوري، والأوزاعي والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وداود، وأبو ثور، وجماعة من الصحابة والتابعين. القول الثاني: أنه ثلاثُ تكبيرات، وبه قال ابن سيرين، وأبو الشعثاء جابرُ بنُ زيد (¬1)، وروي عن ابن عباس. القول الثالث: أنه خمس تكبيرات، وبذلك قال زيدُ بنُ أرقم، وحُذيفة بن اليمان، وذهب إليه الفقهاء السبعة (¬2). القول الرابع: ما حُكي عن ابن مسعود: أنه قال: كَبَّرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تسعًا، وسبعًا، وخمسًا، وأربعًا، فكبروا ما كبر الإمام، فأشار إلى أن ذلك كلَّه جائز، وأن المصلِّي مخيرٌ في ذلك. القول الخامس: يكبر ما كبر الإمام، ولا يزيد (¬3) على سبع، قاله إسحاق. القول السادس: ما روي عن علي بن أبي طالب (¬4): أنه كان يكبر على أهل بدر ستًا، وعلى سائر الصحابة خمسًا، وعلى غيرهم أربعًا. قال أبو عمر بنُ عبد البر: وانعقد الإجماع بعدُ على أربع، لا يُزاد ¬
عليها على ما جاء في الأحاديث الصحاح، وما سوى ذلك عندهم شذوذٌ لا يُلتفت إليه اليوم (¬1). ولا نعلم أحدًا قال من (¬2) فقهاء الأمصار بخمس إلا ابن أبي ليلى. قلت: ولم يذكر في الحديث السلامُ منها، وقد ذكره الدارقطني في "سننه"، وابن حبيب من أصحابنا (¬3). واختلف العلماء فيه في مواضع: الأول: حكمُه: والجمهورُ على أنه فرضٌ؛ كالسلام من الصلاة، ووقع في "العتبية": أنه مستحب، وقال به محمد بن أبي صفرة. الثاني: عدده: والجمهورُ على أنه تسليمة واحدة، وهو قول مالك، والشافعي. وذهب أبو حنيفة، والثوري (¬4)، وجماعة من السلف: إلى أنه تسليمتان، واختاره المزني، وهو أحد قولي الشافعي أيضًا. الثالث: صفته: فقيل: إنه جهرٌ كسائر الصلوات، وهو قولُ أبي حنيفة، والمشهور من قول مالك. وقيل: إنه سرٌّ، وهو قولُ الشافعي، والشاذُّ من قول مالك. ويُعلم ¬
كمالُ الصلاة عند هؤلاء بالانصراف. واختلف قولُ مالك في المأمومين، هل يردُّون على الإمام تسليمة أخرى، أم لا؟ وظاهر الأحاديث: أنه تسليمة واحدة. وتحصيل المسألة: أن المصلِّين ثلاثة: إمام، ومأموم، ومنفرد. فسلام الإمام من هذه الصلاة كسلامه من المكتوبة، يسلم واحدة قبالة وجهه يتيامن بها قليلًا، هذا هو المشهور. وقال أشهب في "مدونته": يسلم تسليمتين، ولا يسلم مَنْ معه حتى يفرغَ منهما. وأما المأموم، ففيه ثلاثة أقوال: أشهرها: أنه يسلم واحدة، ولا يرد على إمامه، ولا غيره. والثاني: أنه يسلم ثانية يردُّ بها على إمامه، قاله في "العتبية"، وقاله (¬1) أشهب. قال اللخمي: وهو أحسنُ؛ قياسًا على المكتوبة، فيرد المأمومُ على إمامه، وعلى مَنْ على يساره، بعد التسليمة التي يخرج (¬2) بها من الصلاة. قال (¬3): لأن رد التحية فرض، (¬4) فالإمامُ قد سلَّم على مَنْ خلفه، ¬
فيردُّون عليه، وكلُّ واحد من المأمومين قد سلَّم على صاحبه بالتي خرج بها من الصلاة. القول الثالث: قاله مالك في "الواضحة": لا يرد على الإمام إلا مَنْ سمعه (¬1)، وكذلك عنه في "العتبية"، وقد فَرَّقَ بينَ المكتوبة وهذه الصلاة -على القول المشهور فيها بالنسبة إلى المأموم، وأنه لا يسلم إلا واحدة-، بأن الغالب أن الإمام في هذه الصلاة ينصرف، ولا يثبت لرد المأموم عليه بعدَ انصرافه، فهو كمن سلم عليه رجل (¬2)، ثم ولَّى عنه، وتباعد، فلا معنى للردِّ عليه وهو لا يسمع (¬3)، إذ الأصلُ أن السلامَ وردَّه تأمين، فإذا بَعُد بحيث لا يسمع، ذهب معنى التأمين. قال بعض المتأخرين: معنى (¬4) قولِ اللخمي: أن ردَّ (¬5) السلام فرض إن قيل به، فذلك (¬6) إنما هو في سلامٍ ليس المقصودُ منه إلا التحيةَ على الغير، وتأمينَه، وأما تسليمةُ (¬7) الإمام، والتسليمُ الأول من المأمومين، فإنما شُرعت (¬8) تحليلًا من الصلاة، وليس المهمُّ فيها التسليمَ على ¬
الناس، ألا ترى أن كلَّ مصلٍّ يأتي بها، وإن لم يكن ثَمَّ أحدٌ يسلِّم عليه؟ ويشهد لذلك من المذهب: أن مَنْ حلف أن لا يكلم زيدًا، لم يحنث بهذه التسليمة، والذي يؤكد ذلك -أيضًا-: أن هذه التسليمة لو كان المقصود بها السلامَ على الناس، لاكتفى بردِّ واحدٍ من الجماعة على الإمام، وأيضًا: فإن التسليمة الثانية غيرُ واجبة عندنا، وعند الشافعي، ولو كانت لقصد (¬1) الرد، لكان (¬2) على ما يقول فرضًا. وأما الفَذُّ، فيسلِّم تسليمةً واحدة؛ كما في "المكتوبة" على المشهور (¬3)؛ إذ ليس معه مَنْ يردُّ عليه. وأطلق أصحابُ الشافعي القولَ: بأن المصلي على الجنازة يسلِّم تسليمتين: عن يمينه، وعن (¬4) شماله، ولم يفرقوا بين فَذٍّ وغيرِه، وجعلوها كالمكتوبة. وهل يجهر بالتسليم، أو لا؟ روايتان عن مالك: وجهُ الجهر: أنها صلاةُ فرض في جماعة، فيُسن فيها للإمام الإعلانُ بالسلام كالمكتوبة، وليعلَمَ المأمومون بفراغ الإمام، فيسلمون. ووجه الإسرار: أنها ذكرٌ منفرد عن الصلاة، فلا إعلانَ فيها؛ كسجود السهو بعد السلام، ولأن المأمومين يعلمون بفراغ الإمام بعد ¬
انصرافه، وقد جاء أن الصحابة كانوا يسلمون تسليمًا خفيفًا، ذكره ابن وهب في "المدونة"، والسنة أن يفعل من وراءَهُ مثله، واللَّه أعلم. ولم يذكر -أيضًا- في الحديث رفعَ الأيدي مع التكبير، وقد اختلف فيه قولُ مالك على ثلاثة أقوال: الرفع في الأولى فقط، وهو المشهور، وفي الجميع، ولا يرفع (¬1) جملة، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 152 - عَنْ جَابِرٍ (¬1): أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى عَلَى النَجَاشِيِّ، فَكُنْتُ (¬2) فِي الصَّفِّ الثَّانِي، أَوِ (¬3) الثَّالِثِ (¬4). ¬
هذا الحديث بعضُ ما قبلَه، إلا قولَه: فكنت في الصف الثاني، أو الثالث، والظاهر أن الشك من جابر، لا من الراوي عنه. فيه (¬1): جعل (¬2) الناس صفوفًا في صلاة الجنازة؛ كالمكتوبة (¬3)، مع إمكان أن يكونوا صفًا واحدًا؛ لأن الصحراء لا تضيق بالصف الواحد. ق (¬4): وقد حكي عن بعض المتقدمين: أنه كان إذا حضر الناس الصلاة، صفهم صفوفًا؛ طلبًا لقبول الشفاعة؛ للحديث المرويِّ فيمن صلَّى عليه ثلاثةُ صفوف (¬5). قلت: وفي هذا عندي نظر؛ لأن المراد من قوله -عليه الصلاة والسلام- "ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ" (¬6): الكثرةُ، لا مجرد الصفوف، حتى لو اجتمع في صف واحد مئةُ نفس -مثلًا-، وكان في ثلاثة صفوف ثلاثون (¬7)، لكان ما يتحصَّلُ من بركة أهل الصفِّ الواحد وشفاعتِهم ¬
للميت أكثرَ ممَّا يتحصل (¬1) من الصفوف الثلاثة؛ لقلة عددهم بالنسبة إلى الصف الواحد المشتملِ على مئة نفس، هذا مما لا ينازع فيه إن شاء اللَّه تعالى، وليس المقصود منه (¬2) مجردَ الصفوف (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 153 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَكَبَّرَ (¬1) عَلَيْهِ أَرْبَعًا (¬2). ¬
* الكلام على هذا الحديث من وجوه: الأول: القبر: واحدُ القبور، والمقبَرة والمقبُرة -بفتح الباء وضمها (¬1) -، ويقال: قَبَرْتُ الميتَ أَقْبُره وأَقْبِرُه -بضم الباء وكسرها- قَبْرًا؛ أي: دفنته، وأَقْبَرْتُه (¬2): أمرتُ بأَن يُقبر، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]؛ أي: جعله ممن يُقبر، ولم يجعلْه يُلقى للكلاب (¬3)، وكان القبر مما أكرم اللَّه -تعالى- به (¬4) بني (¬5) آدم (¬6). وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25، 26]؛ أي: أوعيةً، واحدُها كفتٌ، ويقال: كِفاتًا: مضَمًّا، تكفتُ أهلَها، أي: تضمُّهم أحياءً على ظهرها، وأمواتًا في بطنها، وكان يسمون بقيعَ الغَرْقَدِ: كَفْتَةَ؛ لأنه (¬7) مقبرةٌ يَضُمُّ الموتى. ¬
الثاني: قوله: "على قبر"؛ أي: على صاحبِ قبر، فحذفَ (¬1) المضافَ، وأقام المضاف إليه مقامه، وهو قياس في العربية. وقوله: "بعدما دفن"؛ أي (¬2): بعدما دُفن صاحبُه، ففي (دُفن) ضمير يعود على المضاف المقدَّر؛ إذ لا يجوز أن يقدر ظاهرًا؛ لأن المفعول القائمَ مقامَ الفاعل؛ كالفاعل في أنه لا يحذف، فليتنبه لذلك. الثالث: فيه: الصلاةُ على القبر بعدَ الدفن، وقد اختلف العلماء في ذلك، فأجازها (¬3) بعضهم، ومنعها بعضهم. وجهُ المنع: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُصَلَّ على قبره. ووجهُ الإجازة: صلاتُه -صلى اللَّه عليه وسلم- على قبر السوداء التي كانت تَقُمُّ المسجدَ (¬4). قال الإمام المازري: وانفصل (¬5) عن ذلك بوجوه: أحدها: أنه إنما فعل ذلك -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه كان وعدَها أن (¬6) يصلِّيَ عليها، فصار ذلك كالنذر عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا ضعيف؛ لأن النذر إنما يوفى به إذا كان جائزًا، فلو لم تكن الصلاة على القبر جائزة، لما فعلها. ¬
والوجه الثاني: أنه فعل ذلك؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- أمرهم أن يُعْلِموه، وهو الإمامُ الذي إليه الصلاةُ، فلما صلَّوا دونَ علمِه، كان ذلك بمنزلة مَنْ دُفِنَ بغير صلاة، وهذا التأويل تبعده (¬1) القولةُ الشاذة التي لمالك فيمن دُفن بغير صلاة. قال: ويحتمل عندي أن يكون وجهُ ذلك: أنه -عليه الصلاة والسلام- لما صلَّى على القبر، قال عند ذلك: "إِنَّ هَذ القُبُورَ (¬2) مَمْلُوءَةٌ عَلَى أَهْلِهَا ظُلْمَةً، وَإِنَّ اللَّه (¬3) -تَعَالَى- يُنَوِّرُهَا بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ" (¬4)، أو كما قال، وهذا كالإفهام بأن هذا هو علةُ (¬5) صلاته على القبور، وهذه علة تختص بصلاته -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ لا يُقطع على وجود ذلك في غيره، وفي الكتاب: عن ابن عباس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّى على القبر، ويحتمل أن يكون القبر الذي أرادَ ابنُ عباس، هو قبرُ السوداء المذكور (¬6)، انتهى كلامه (¬7). ع (¬8): وتحصيلُ مذهب مالك وأصحابه، ومشهورُ أقوالِ أكثرهم، ¬
فيمن لم يُصَلَّ عليه حتى دُفن: أنه يُصَلَّى عليه في قبره، وعنه -أيضًا-، وهو قول سحنون، وأشهب: لا يصلى عليه. ومشهور قوله، وقول أصحابه، فيمن صُلِّى عليه: ليس لمن فاتته الصلاةُ عليه إعادةُ الصلاة عليه، وهو قول الليث، والثوري، وأبى حنيفة، قال: إلا أن يكون وَلِيَّه، فله إعادةُ الصلاة (¬1). وعن مالك أيضًا: جوازُ ذلك، وهو قول الشافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم. واختلف فيما يفيت الصلاة عليه، وإخراجَه إذا دُفن بغير صلاة، هل بإهالة التراب؟ وهو قول أشهب، أو بتسويته؟ وهو قول عيسى، وابن وهب، أو خوف التغير عليه؟ وهو قول ابن القاسم، وابن حبيب، وقاله سحنون -أيضًا-، أو الطول، وذلك فيمن لم يُصَلَّ عليه، ما زاد على ثلاثة أيام فأكثر عند أبي حنيفة. وقال أحمد: فيمن صُلِّي عليه: تُعاد إلى شهر، وقاله إسحاقُ في الغائب، قال: وفي الحاضر ثلاثة أيام. قال أبو عمر (¬2): وأجمعَ مَنْ قال بالصلاة على القبر: أنه لا يُصَلَّى عليه إلا بالقرب. وأكثر ما قيل في ذلك شهر (¬3). ¬
قلت: قال الباجي: وجهُ قول أشهب: أَن وضعَ (¬1) اللَّبِن من بنيان داخل القبر، وأما إهالةُ التراب، فهو المشروعُ في الدَّفن والتغطية، وإنما يفوتُ بالدفن (¬2). ووجهُ قولِ ابن وهب: أن الفراغَ من الدفن تسويةُ التراب. ووجه قولِ ابنِ القاسم: أنه لا تأثير للتراب وتسويته؛ إذ لا مضرة على الميت في إزالته، ولا هتكَ في ذلك لحرمته ما لم يُخف التغيرُ عليه، فإذا خيف التغير، امتنع إخراجُه؛ لما في ذلك من هتك حرمته (¬3). ونقل ابن الصباغ من الشافعية عن مذهبه وجها: بأنه يُصَلَّى على القبر أبدًا، وهو غريب، وقد انفرد البخاري عن عقبة بن عامر، قال: صلَّى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على قتلى أُحُدٍ بعد ثمان سنين (¬4)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 154 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ يَمَانِيَةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ، وَلَا عِمَامَةٌ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الثوبُ: معروفٌ، وبيضٌ، وزنُه في الأصل (¬1): فُعْلٌ -بضم الفاء-؛ مثل: حُمْر، ولكن أُبدل من ضمة الباء كسرة؛ كراهةَ انقلابِ الياءِ واوًا (¬2). فائدة: قيل: إن أصول (¬3) الألوان أربعة: الابيضاض، والاحمرار، والاخضرار (¬4)، والاسوداد، وما عدا ذلك من الألوان متشعبٌ منها، واللَّه أعلم. الثاني: فيه: أن تبييض الكفن من السنة، ولا أعلم في أفضليته خلافًا، وكره الأوزاعي الثياب المصبغة في الكفن، إلا العَصْبَ، وهو ضربٌ من بُرود اليمن؛ لأنها من ملابس الجمال والزينة، وليس موضعه. الثالث: قولها: "يمانية": هو بتخفيف الياء، والأصل (يَمَنِيَّة)، ¬
-بتشديد الياء-، لكنهم عوضوا عن الياء الألف، فلا يجتمعان. قال سيبويه رحمه اللَّه: وبعضهم يقول: (يَمَانِيَّ)، بالتشديد (¬1). الرابع: قولها: "ليس فيها قميصٌ، ولا عِمامة": يحمله الشافعي على أنه ليس في الكفن بموجود (¬2). ويحمله مالك على أنه ليس بمعدود، بل يحتمل أن يكون ثلاثةُ الأثواب (¬3) زيادةً على القميص والعمامة. قلت: ومثلُه قوله تعالى: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]؛ فإنه يحتمل أن يتناول النفيُ الموصوفَ وحدَه، وهو العَمَدُ، دونَ الصفة التي هي (¬4) (ترونها)، على أن (¬5) ثَمَّ عَمَدًا، إلا أنها غيرُ مرئية، والتقدير: بغير عَمَدٍ مرئيةٍ لكم، ويحتمل أن يتناول الصفةَ والموصوفَ جميعًا، ويكون من وادي (¬6): علَى لَاحِبٍ (¬7) لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ (¬8) ¬
وَ: لا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ أي: لا مَنارَ هناك فيُهتدى به، ولا ضَبَّ هناك فينجَحِر (¬1)، واللَّه أعلم. ع: ورجح الشافعي تأويلَه بقول الراوي: وأما الحلة، فشُبِّه على الناس فيها: أنها اشتُريت له ليكفَّنَ فيها، فتركت الحلةُ، فكُفِّن في سواها. واحتج -أيضًا- من جهة القياس: بأنها لِبْسَةٌ (¬2) في حالةٍ، المقصودُ بها التقرُّب والخضوع، فشابهت لبسةَ المحرِم. واحتج أصحابنا: بإعطائه -عليه الصلاة والسلام- القميصَ لأُبيِّ ابن سلول (¬3)، وانفصلوا عن هذا الحديث: بأنه قد قيل: إنما أعطاه ذلك عوضًا عن القميصِ الذي كساه للعباس -رضي اللَّه عنه- (¬4). قلت: وذلك أن العباسَ بنَ عبد المطلب -رضي اللَّه عنه- كان بالمدينة، فطلبتْ (¬5) له الأنصارُ ثوبًا يكسونه إياه، فلم يجدوا قميصًا يصلُح عليه ¬
إلا قميصَ عبدِ اللَّهِ بنِ أُبي، فكسوه إياه (¬1)، هكذا ذكره أبو سليمان الخطابي في "شرح السنن". ع: وحكى ابن القصار: أن القميص والعمامة غيرُ مستحب عند مالك، ونحوه عن ابن القاسم (¬2)؛ كقول الشافعي، وهذا خلافُ ما حكاه متقدمو (¬3) أصحابنا: ابن القاسم وغيرُه عن مالك من أنه يُقَمَّص ويُعَمَّم، وعلى قوله: يُقَمَّص ويُعَمَّم يُدْرَج في ثلاثة أثواب، فيكون خمسةً على ما قاله بعضُ شيوخنا. وقد جاء عنه -أيضًا-: لا بأس بالقميص في الكفن، ويُكَفَّن معه بثوبين فوقَه، فهذا على قوله ثلاثة أثواب (¬4). قلت: فإن كانت خمسةً، فعمامة، وقميصٌ، ومئزر، ولفافتان (¬5). وإن كُفنت المرأة في خمسة، فإزار، وخمار، ودرع (¬6)، ولفافتان. واستحب أن (¬7) يُشد المئزرُ بعصائبَ من حَقْوَيْها إلى ركبتيها، وإن ¬
كُفنت في ثلاثة؛ فكالرَّجُل. ويُستحب في الكفنِ الوترُ، وأقلُّه ثلاثة، وأكثرُه سبعة. قال اللخمي: ولا يجاوز السبعةَ؛ فإنه (¬1) سرف. والاثنان خيرٌ من الواحد؛ لأنه أَسْتر، والثلاثةُ خيرٌ من الأربعةِ، والخمسةُ خيرٌ من الستة. قال اللخمي: فإن كان (¬2) السبعةُ مدارجَ من غير قميص ولا عِمامة، فحسن. قال مالك في "المدونة": من شَأنِ الميتِ أن يُعَمَّم. قلت: قال (¬3) أصحابنا: و (¬4) عمامةُ الميتِ على حسب عمامةِ الحيِّ، رواه مُطرِّفٌ، عن مالك، يُجعل منها تحتَ لَحْييه، ويُترك منها قدرُ الذراع ذؤابةً تُطرح على وجهه، وكذلك من خمار المرأة؛ لأنه بمنزلة العمامة للرجل، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 155 - عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارَّيةِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أكثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ في الآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فآذِنَّنَي، فَلَمَّا فَرَغْنَا، آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: "أَشْعِرْنهَا بِه"؛ تَعْنِي: إِزَارَه (¬1). وَفي رِوَايَةٍ: "أَوْ سَبْعًا" (¬2). ¬
وَقَالَ: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضعِ الوُضُوءِ مِنْهَا" (¬1). وإِنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ (¬2). ¬
* التعريف: أم عطية: اسمها نسُيْبَةُ -بضم النون-، وقيل: -بفتحها- بنتُ كعب، وقيل: بنت الحارثِ، الأنصاريةُ. روي لها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعون حديثًا، اتفقا (¬1) على ستة، وللبخاري حديث واحد، ولمسلم آخر. روى عنها (¬2): محمد بن سيرين، وأختُه حفصة. روى لها الجماعة (¬3). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: يقال تُوُفِّي الإنسانُ، وهَلَكَ، وماتَ، وقضى (¬4)، ودَرَجَ، ويقال في غير الآدمي: نَفَقَ الحمار، طَفِسَ البِرْذَوْنُ، تَنْبَلَ البعيرُ، ¬
هَمَدَتِ النار، قَرَتَ الجرحُ: إذا ماتَ الدمُ فيه. الثاني ابنتُه هذه -صلى اللَّه عليه وسلم- هي (¬1) زينبُ، هذا هو المشهور، وذكر بعضُ أهل السير أنها أُمُّ كُلثوم (¬2). وكان له -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمانيةٌ من الولد؛ أربعةُ ذكور: القاسم، وبه كان يكنى -صلى اللَّه عليه وسلم-، والطيب، والطاهر، وإبراهيم، وأربعُ إناث (¬3): زينب هذه، ورُقَيَّة، وأُمُّ كُلْثوم، وفاطمة. قال ابن هشام: أكبرُ بنيه القاسمُ، ثم الطيب، ثم الطاهر، وأكبرُ بناته رقيةُ، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة. قلت: وقيل: أكبرهُن أم كلثوم. قال ابن إسحاق: فأما القاسم، والطاهر، والطيب، فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكلهن أدركَ الإسلام، وأسلَمْن، وهاجرْنَ معه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قلت: وكلهم من خديجة -رضي اللَّه عنها-، إلا إبراهيمَ، فإنه من ماريا سُرِّية النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- التي أهداها له المُقَوْقِسُ من حَفْن من (¬4) كورة أنصنا (¬5) (¬6). ¬
الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أو أكثرَ من ذلكِ إن رأيتنَّ ذلكِ" إلى آخره، هو (¬1) بكسر الكاف من (ذلكِ)؛ لأن الخطاب لمؤنث، وإن كان المشار إليه مذكر؛ إذ القاعدة في العربية أن تجعلَ أوَّلَ الكلام لمن تسأل عنه، وآخرَه لمن تخاطبه، فتقول: كيف ذلك الرجل يا امرأة؟ وكيف تلك المرأة يا رجل؟ على ما هو مبين في كتب العربية. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اغسلْنَها" استدَلَّ به على وجوبِ الغسل. ق (¬2) والاستدلالُ بصيغة هذا الأمر على الوجوب، يتوقف عندي (¬3) على مقدمة أصولية؛ وهو جواز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد (¬4)؛ من حيث إن قوله: "ثلاثًا" غيرُ مستقل بنفسه، فلا بد أن يكون داخلًا (¬5) تحت صيغة الأمر، فتكون (¬6) محمولةً فيه على الاستحباب، وفي أصل الغسل على الوجوب، فيراد بلفظ (¬7) الأمر: الوجوبُ بالنسبة إلى أصل الغسل، والندب بالنسبة إلى الإيتار (¬8). قلت: وهو كما قال رحمه اللَّه تعالى. ¬
الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن رأيتنَّ ذلكِ"، قيل: معناه: إن رأيتنَّ الغسلَ، وقيل: معناه: إن رأيتنَّ الزيادةَ في العدد (¬1)، وهذا (¬2) الثاني هو (¬3) المتبادَرُ إلى الفهم، وانبنى على ذلك الاختلافُ في حكم الغسل، فمن قال: معناه: إن رأيتن الغسلَ، قال: غسلُ الميت سنةٌ، ومن قال: معناه: إن رأيتن الزيادةَ على العدد، قال بوجوبه، وهذا -واللَّه أعلم- ينبني (¬4) على الخلاف في التقييد، والاستثناء، والشرط، إذا تعقب الجمل، هل يعود (¬5) إلى جميعها، إلا (¬6) ما أخرجه الدليل، أو إلى أقربها؟ بين الأصوليين (¬7) خلاف. والعجب من ح في نقله الإجماعَ على أن غسل الميت فرضُ كفاية (¬8)، مع ثبوت هذا الخلاف، [الذي] نقله الإمام (¬9) أبو عبد اللَّه المازري وغيره، أعني: أن غسل الميت واجبٌ أو سنة (¬10). ¬
وإذا قلنا: إن معناه: الزيادةُ على العدد، فمعناه: التفويضُ إلى رأيهنَّ بحسب الحاجة والمصلحة، وليس على طريق التشهِّي؛ فإن الزيادة على قدر الحاجة سَرَف، فهو من قَبيل (¬1) الإسراف في ماء (¬2) الطهارة، وإذا زيد على تلك (¬3)، فالانتهاءُ إلى السبع؛ إذ لا يحتاج إلى الزيادة عليها في الأغلب. ولتعلمْ: أنه ليس عند مالك رحمه اللَّه، وبعضِ أصحابه، في غسل الميت تحديدٌ بعدد معين، ولكن ينقي (¬4) الميت، ولا يقتصر مع الإنقاء على دون الثلاث، فإن احتيج إلى زيادة، استحب الوتر، وليس لذلك عنده حَدٌّ. ع: وإلى هذا يرجع قولُ الشافعي وغيرِه من العلماء، وكذا إذا احتاج الغاسلُ إلى ذلك، أو خرج من الميت شيء بعدَ غسله، أعاد الغسلَ، وحُجَّتُهم الحديثُ، بقوله (¬5): "إنْ رأيتنَّ ذلكِ"، وصرف الأمر إلى اجتهاد الغاسل بحسب ما يحتاج إليه من زيادة الإنقاء، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: "أَوْ سَبْعًا"، وإلى هذا نحا أحمد، وإسحاق، أن لا يُزاد على سبع، وإن خرج منه شيء بعد السبع، غُسِلَ الموضعُ وحده (¬6). ¬
وقاله الثوري، والمزني، وجماعة من المالكية. قالوا: وحكمُه حكمُ الجنب إذا أحدثَ بعدَ الغسل. ومنهم من قال: يُوَضَّأُ إذا خرجَ منه شيء بعد الثالثة. وذهب بعضُهم: إلى (¬1) أنه لا حدَّ فيه أولًا، ولا آخرًا: أنه يجزىء فيه ما يجزىء في الغسل من الجنابة. ونحوه قول عطاء: الواحدةُ السابغةُ (¬2) في ذلك تجزىء (¬3). السادس: قوله: "بماء وسِدْر": معناه عند جمهور العلماء: أن يُذاب السدرُ المسحوقُ (¬4) بالماء، ثم يُعْرَك به بدنُ (¬5) الميت، ويُدلك به. ع: وليس قولهم: بماء وسدر أن تلقي (¬6) ورقاتٍ من السدر في الماء عندَ كافتهم (¬7)، بل أنكروه، ونسبوا فعله للعامة، وقد ذكر الداوودي نحوًا منه (¬8)، قال: يُسحق السدر، ويُرمى في الماء، ولكنه عند جمهورهم: ¬
على أن يُغسل أولًا بالماء القَراح، فتتم الطهارة، ثم الثانية بالماء والسدر للتنظيف (¬1)، ثم الثالثة بالماء والكافور للتنظيف والتجفيف، وهذا حقيقة مذهب مالك. وحكاه ابن حبيب، وقال: بل يبدأ بالماء والسدر ليقعَ التنظيف أولًا، ثم بالماء القراح ثانيًا. وقال أبو قِلابة مثلَه، لكنه قال: ويحسب هذا غسلةً واحدة، وهو (¬2) جارٍ على قياسات الطهارة. وذهب أحمد إلى أن الغسلاتِ كلَّها تكون (¬3) بالسدر على ظاهر الحديث، وفي حديث آخر: "كُلُّهُنَّ بِالمَاءِ وَالسِّدْرِ" (¬4)، وقد يكون قولهم: (غسلُه بالماء والسدر) ليس بأن يُلقى فيه السدر كما قالوا، ولكنه يُخَضْخَضُ السدرُ بالماء حتى تخرجَ رغوتُه للغسل، ثم يُغسل به (¬5) الميت، ويُصب الماء من فوق ذلك للتطهير، وأظن (¬6) هذا مراد الداوودي؛ كسائر ما يُزال من النجاسات والأقذار اللزجة بالغاسول، فلا يكون غسلًا مضافًا. ¬
قلت: ومذهبنا: أن غسلَ الميت عِبادة، لا للنجاسة؛ إذ لو كان للنجاسة، لما زاده الغسلُ إلا نجاسةً؛ إذ الذاتُ النجسةُ لا يطهرها الماء، على القول بنجاسة الآدمي إذا مات، فكيف، والصحيح طهارةُ المؤمن حيًا وميتًا؟ وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "المُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ" (¬1)، هذا معنى كلام ع، وأكثرُ لفظه (¬2). السابع: قوله: "واجعلْنَ في الآخرةِ كافورًا"؛ أي: المرةِ الأخيرة، وكان الكافورُ؛ لشدة تبريده وتجفيفه جسدَ (¬3) الميت، وحياطته عن سرعة التغير (¬4) والفساد، ولتطيب رائحتُه للمصلين (¬5)، ومَنْ يحضر من الملائكة. ع: على هذا الاستعمال (¬6) جماعةُ العلماء، إلا أبا حنيفةَ وأصحابَه. ورُوي (¬7) عن النخعي: إنما ذلك في الحنوط، لا في الغسل، ويمكن أن يتأول (¬8) من قال: هذا في الآخرة، أي: بعد تمامها، والظاهرُ خلافه، واللَّه أعلم. قالوا: ووجهُ تخصيص الكافور دون غيره من الطيب: أن فيه تبريدًا ¬
للجسد، وتجفيفًا له، ويمنعه (¬1) من سرعة التغير، ولقوة رائحته، وسطوعِها وغلبتِها على غيرها، فإن لم يوجد، قام غيرُه من الطِّيب مَقامَه (¬2). الثامن: قوله: "فألقى إلينا حَقْوَه، فقال: أَشْعِرْنها إياه": الحَقْوُ هنا: الإزار، والأصلُ فيه: الخَصْر، ومَعْقِدُ الإزار، وهو بكسر الحاء وفتحها، وسمي به الإزار مجازًا؛ لأنه يُشَدُّ فيه، وكأنه من باب تسمية الشيء بمجاوره؛ كما قالوا للمزادة: راوِيَة، والراويةُ: اسمٌ للجملِ الحاملِ لها (¬3)، وغير ذلك مما لا نطوِّل بذكره. وجمعه: أَحْقٍ؛ مثل: أَدْلٍ، وأَجْرٍ، في (¬4) جمع دلْوٍ، وجَرْوٍ، ويجمع -أيضًا- على أَحْقاء؛ كحِمل وأَحْمال، وفي الكثير حُقِيٌّ، وأصلُه حُقووٌ، فأَدَّاه التصريفُ إلى حُقِيٍّ (¬5). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أشعرنها به"؛ أي (¬6): اجعلْنَه شعارًا لها، والشِّعارُ: الثوبُ الذي يلي الجسدَ، سُمي شعارًا؛ لأنه يلي شعرَ الجسد، وكأن ذلك لتنال (¬7) بركته -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬
ففيه: التبرُّكُ بآثار الصالحين، ولباسهم. وفيه جواز (¬1) تكفينِ المرأة في ثوب الرجل. ع (¬2): واختُلف في صفة إشعارها إياه، فقيل: يُجعل لها مئزرًا، وهو قولُ ابنِ وهب. وقيل: لا تُؤْزر، ولكن تُلَفُّ فيه، وهو قول ابن القاسم، وجماعة من العلماء. قال ابن سيرين: المرأة تُشعر، ولا تُؤْزر. قال ابن جريج: أشعرنها: الْفُفْنَها. وقال النخعي: الحَقْو: فوقَ الذراع. وقال ابنُ عُليَّة: الحَقْو: النطاق، سَبَنِيَّةٌ طويلةٌ يجمع فيه فخذاها (¬3)؛ تحصُّنًا لها، ثم يلف على عجزها (¬4)، واللَّه أعلم. التاسع: قوله: "بميامنها، ومواضعِ الوضوء منها": الميامن: جمع مَيْمَنَة، وأمرُه بالبداية بالميامن على أصل الشرع في استحباب البداية بالميامن في الطهارة وغيرِها من العبادات؛ تيمنًا بلفظ اليمين، وتفاؤلًا بأن يكون من أصحاب اليمين، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومواضع الوضوء منها" ليس فيه عندي (¬5) دليلٌ على وضوء ¬
الميت (¬1)؛ لاحتمال أن يكون المراد: مواضعَ الوضوء المعهودَة حالَ الحياة، وإن كان الوضوء عندنا مستحبًا، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة لا يراه مستحبًا. ع: واختلفوا (¬2) متى يُوضأ عندنا، هل في المرة الأولى (¬3)، أو في الثانية، أو فيهما؟ واستدل بعضهم بهذا الحديث على أن النساء أحقُّ بغسل المرأةِ من الزوج، وهو مذهب الحسن، وأنه لا يغسلُها إلا عند عدمهنَّ، والجمهور من الفقهاء وأئمة الفتوى على خلافه، وأنه أحقُّ. وذهب الشعبي، والثوري، وأصحاب الرأي، إلى أنه لا يغسلها جملةً. وأجمعوا على غسل الزوجة زوجَها، وجمهورُهم على أنها أحقُّ به من الأولياء، وقال سحنون: الأولياء أحقُّ. ولم (¬4) يُذكر في هذا الحديث أمرُه بالغسل لمن غسَّلها، وهو موضعُ تعليم، وقد جاء في (¬5) الأمر بذلك حديثٌ من طريق أبي هريرة، وحملَه الفقهاء على الاستحباب، لا على الوجوب، واختلف الصحابه (¬6) ¬
في الأخذ به. ومعنى الغسل والحكمةُ فيه -لمن قال به-، إما ليكون على طهارة جسده؛ مخافةَ ما يصيبه من رش غسل الميت، وما يتطاير عليه من ذلك، أو أنه إذا عزم على الاغتسال، كان أبلغَ في غسلِه، وأحرى ألا يتحفَّظَ مما يصيبه، فيجيد إنقاءَهُ وتنظيفَه. واختلف قولُ مالك في ذلك، فروى المدنيون عنه (¬1): سقوطَ الغسل، وإن اغتسل، فحسنٌ. ونحوه قولُ الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد (¬2). وروى غيرُهم عنه الغسلَ. قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بوجوب ذلك، قال إسحاق: أما الوضوء، فلا بد منه، ونحوه قولُ أحمدَ بنِ حنبل (¬3). ومذهب العلماء كافة: أنه لا يجبُ عليه وضوءٌ منه (¬4). العاشر: قولها: "وجعلنا رأسَها ثلاثةَ قرون"؛ أي: ثلاث ظفائر؛ ظفيرتين، وناصيتها؛ كما جاء مبينًا في رواية أخرى، وفي رواية: "فَمَشَطْناها ثلاثةَ قرونٍ" ففيه: مَشْط رأسِ (¬5) الميت، وضَفْره، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن حبيب من أصحابنا. ¬
وقال الأوزاعي: لا يُستحب المشط، ولم يعرف ابنُ القاسم الضَّفْرَ، وقال: يُلَفُّ (¬1). وذهب الكوفيون (¬2)، والأوزاعي: إلى تفريقِه، وإرسالِه من الجانبين (¬3) بين يديها (¬4)، دونَ تسريح. ع: ومن حجتهم: أنه ليس في الحديث معرفةُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بفعلِ أُمِّ عطية، فيُجعل سُنَّةً وحجةً (¬5) (¬6). ح: والظاهر: إطلاعُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على ذلك، واستئذانُه فيه (¬7)؛ كما في غسلها (¬8). قلت: وهذا الظاهرُ عنده، غيرُ ظاهر (¬9)، واللَّه أعلم. ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 156 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ، أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا" (¬1). ¬
وَفي رِوَايَةٍ: "وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ" (¬1). قَالَ -رضي اللَّه عنه-: الوَقْصُ: كَسْرُ العُنُقِ. * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: فيه: إطلاقُ لفظِ الواقفِ على الراكبِ بعرفةَ. الثاني: الراحلة: المركَبُ من الإبل؛ ذكرًا كان أو أنثى؛ كالشاة بالنسبة إلى الغنم، وقد فسر المصنف الوَقْصَ، ويقال أيضًا: وَقَصَتْ ¬
به راحلتُه، فهو كقولك: خُذِ الخِطَامَ، وخُذْ بِالخِطام (¬1). الثالث: الحنوط: -بفتح الحاء-: ذَريرَةٌ، وقد يحنط به الرجل، وحنط الميت تحنيطًا، والتَّخْمير: التغطية. الرابع: ظاهرُ الحديث: بقاءُ حكم الإحرام بعد الموت، وبه قال الشافعي، ولم يقل به مالك، ولا أبو حنيفة، وهو مقتضى القياس؛ لأنه بالموت انقطَع التكليف، ولكن الشافعي قَدَّمَ ظاهرَ الحديث على القياس، واعتذرَ الإمامان عن الحديث بتعليله -عليه الصلاة والسلام- هذا الحكمَ في هذا المحرِمِ بعلَّةٍ لا نقطعُ (¬2) بوجودها في غيره، ولا تُعلم (¬3) إلا من جهته -عليه الصلاة والسلام-، وهو أنه يُبعث يوم القيامة ملبيًا، والحكمُ إنما يعمُّ بعموم علته، ومن رأى أن العلةَ الإحرامُ، قال: هي عامةٌ في كل محرِم، وكذلك حكمُ المعتدَّةِ عندنا -أيضًا- كغيرها، واللَّه أعلم (¬4). * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 157 - عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِّيةِ، قَالَتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا (¬1). * * * ¬
ظاهر (¬1) الحديث: كراهةُ اتباع النساءِ للجنازة (¬2)، من غير تحريم، ولعلَّه مخصوص ببعض النساء، ومذهبنا: جوازُ اتباع المرأة جنازةَ ولدِها، ووالدِها (¬3)، وزوجِها، وأختِها (¬4)، إذا كان ذلك مما (¬5) يعرف أنه يخرج مثلُها على مثله، وإن كانت شابة، وكراهةُ الخروجِ على غير هؤلاء ممن لا يُنكر عليها الخروجُ عليهم من قرابتها. قال ابن حبيب: و (¬6) يُكره خروجُ النساء في الجنائز، وإن كُنَّ غيرَ نوائحَ ولا بَواكِيَ في جنائز أهل الخاصَّة من ذوي القرابة وغيرِهم. قالوا: وينبغي للإمام أن يمنعهنَّ من ذلك؛ فقد أمر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بطرد امرأةٍ رآها في جنازة، فطردت حتى لم يرها. وقال لنساءٍ رآهنَّ في جنازة: "أَتَحْمِلْنَهُ فِيْمَنْ يَحْمِلُهُ (¬7)؟ " قلن: لا، قال: "فَتُدْخِلْنَهُ قَبْرَهُ (¬8) فِيْمَنْ يُدْخِلُه؟ "، قلن: لا؟ قال: "فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ" (¬9). ¬
قال، وكان الحسن يطردهنَّ، وإذا لم يرجعن، لم يرجعْ، ويقول: لا ندعُ حقًا لباطلٍ (¬1). وكان مسروق يَحْثي في وجوههنَّ الترابَ، ويطردهن، فإن رجعْنَ، وإلَّا، رجعَ (¬2) (¬3). وقال النخعي: كانوا إذا خرجوا بالجنائز، أغلقوا الأبوابَ على النساء (¬4). وقال ابن عمر: ليس للنساء في الجنائز نصيبٌ. وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: والصوابُ اليومَ الأخذُ بقول ابنِ حبيب؛ لأن خروجهن يؤدِّي إلى فتنة وفساد كبير، فينبغي للإمام أن يمنعهن من ذلك. قلت: ولقد رأيتهن بمصرَ (¬5) يجتمعن، ولا يُصَلِّين على الجنازة (¬6)، بل يتبعْنَها، لا لمعنًى (¬7) شرعي أصلًا، هذا دأبهنَّ في ذلك فيما عملتُ، واللَّه أعلم. ¬
وقولها: "ولم يعزم علينا" يدلُّ على أن العزيمةَ فيها معنى التأكد (¬1)؛ لأنها مأخوذة من العَزْم، وهو الطلبُ المؤكد (¬2) فيه، وهذا يخالف ما حَدَّ به الإمامُ فخرُ الدين العزيمةَ في "المحصول" في (¬3) قوله: العزيمةُ: هي جوازُ الإقدام مع عدم المانع (¬4). فيدخل في هذا الحد (¬5) أكلُ الطيبات، ولبس الناعمات، وليس ذلك من العزائم، وفيها جوازُ الإقدام مع عدم المانع. وقد حدَّها غيرُه من المتأخرين: بطلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانعٌ شرعي. وهذا يدخل فيه الواجبات، فليس بجيد أيضًا فيما يظهر، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 158 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1): "أَسْرِعُوا بِالجَنَازَةِ؛ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً، فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونها إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَه عَنْ رِقَابِكُم" (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قد (¬1) تقدم أنه يقال: جَنَازة، وجِنَازة -بالفتح وبالكسر- بمعنى (¬2)، وأما من قال بالفتح: للميت، وبالكسر: للنعش، فيتعين عنده هنا الفتحُ، فإن المقصودَ هنا بالإسراع: الميتُ، لا النعش. الثاني: فيه: الأمرُ بالإسراع بالجنازة، وهو السنَّة المعمول بها، والحكمةُ في ذلك: ما ذُكر (¬3) في الحديث، لكن للإسراع شرطان: أحدهما: القطعُ بموته، على ما تقدم. والثاني: أن لا يُخاف من شدة (¬4) الإسراع حدوثُ مفسدة بالميت؛ من انفجار، ونحوه، وقد جعل اللَّه لكل شيء قَدْرًا، وهذا كلُّه إذا قلنا: إن الإسراع راجعٌ إلى المشي بالجنازة، وهو الذي عليه الجمهور، وإلا، فقد نقل ع عن بعضهم: أن المراد: الإسراع بتجهيزها إذا تحقق موتُها (¬5). ح: وهذا قول باطل مردود؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم" (¬6). ¬
قلت: وهذا جمودٌ على ظاهر لفظ الحديث، وإلا، فيحتمل حملُه على المعنى؛ فإنه قد يعبر بالحمل، أو العنق عن المعاني دونَ الذوات، فيقال: حملَ فلانٌ على ظهره، أو على عُنقه دَيْنًا، و (¬1) نحو ذلك، [فيكون المعنى في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فشر تضعونه عن رقابكم": أنكم تستريحون من نظر من لا خير فيه، أو من مجالسته، ونحو ذلك] (¬2)؛ فلا يكون في الحديث دليلٌ على رد قول هذا القائل، ويقوي هذا الاحتمال: أن كل حاضري (¬3) الميت لا يحملونه، إنما يحمله القليلُ منهم، لا سيما اليوم؛ فإنه يحمله -في الغالب- مَنْ (¬4) لا تعلُّقَ له به، واللَّه أعلم. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإن تكُ" في الموضعين: هو بحذف النون الخفيفة؛ لكثرة الاستعمال، والأصل: (تَكونُ)، فدخل الجازم، فاسكن النون، فاجتمع ساكنان؛ الواو والنون، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، ثم حذفت النون لما ذكرناه من كثرة الاستعمال؛ كما قالوا: لا أدرِ، فحذفوا الياءَ لذلك، وقد تقدم نحوُ هذا. الرابع: خَيْرٌ، وشَرٌّ: يجوز أن يكونا مبتدأين، والخبرُ محذوف؛ أي: فلها خير، ولها شر (¬5)، وساغ هنا الابتداء بالنكرة؛ لكون فاء الجزاء ¬
وليْتهما (¬1)، فهما (¬2) من باب قول العرب: إن مضى عيرٌ، فعيرٌ (¬3) في الرباط. ويجوز أن يكونا خبرين محذوفي المبتدأ (¬4)، والتقدير: فهي خيرٌ، وفهي شرٌّ؛ أي: ذاتُ خير، أو ذاتُ شر، وأما الجملتان اللتان بعدَهما، وهما: (تقدِّمونها) و (تضعونه)، فصفة لهما، واللَّه أعلم. ومعنى قوله -عليه الصلاة والسلام (¬5) -: "فخيرٌ تقدِّمونها إليه"؛ أي: ما أعدَّ اللَّه لها من النعيم المقيم، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فشرُّ تضعونَه عن رقابكم"، معناه: أنها بعيدة عن الرحمة، فلا مصلحةَ لكم في مصاحبتها وملابستها. ويؤخذ منه: تجنبُ أهل البطالة، ومصاحبةُ من لا خير فيه، نسأل اللَّه العظيم أن يجعلنا من أهل الخير، ولا يجعلَنا من أهل الشر، بمنِّه وكرمه، آمين، بمحمد وآله أجمعين. * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع 159 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ (¬1) وَسْطَهَا (¬2). ¬
* التعريف: سَمُرَةُ بنُ جُنْدُبٍ: بفتح الدال وضمها. وفي "الصحاح": الجندَب، والجندُب: ضرب من الجراد، واسمُ رجل، قال سيبويه: نونها زائدة، وقال أبو زيد: يقال: وقع القوم في أُمِّ (¬1) جندب؛ إذا ظلموا (¬2)، فإنها اسمٌ من أسماء الإساءة، والظلم، والداهية (¬3). ابنِ هلالِ بنِ حُدَيْجِ -بالحاء المهملة المضمومة وفتح الدال المهملة أيضًا- ابنِ مرةَ (¬4) بنِ حزمِ بنِ عمرِو بن جِابرِ بنِ ذي الرياستين، الفزاريُّ، هكذا نسبه سليمانُ بن سيف (¬5)، أو نحوه (¬6). ¬
وفزارةُ هو ابنُ ذبيانَ بنِ بغيضِ بنِ ريثِ بنِ غطفانَ. يكنى: أبا سعيد، ويقال: أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو سليمان. قَدِمت به أمه المدينةَ بعد موت أبيه، وكانت امرأةً جميلة، فتزوجها رجل من الأنصار، وبقي في حجره إلى أن صارع غلامًا بحضرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فصرعه، فأجازه في البعث، وكان الغلام المصروع ممن أجازه يومئذ. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئة حديث، وثلاثة وعشرون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلمٌ بأربعة. روى عنه: أبو رجاءٍ العُطاردي، وعبدُ اللَّه بنُ بريدة، والحسنُ بن أبي الحسن البصري، وسوادةُ بنُ حنظلة. مات بالكوفة، وكان قد نزل البصرة، ثم انتقل إلى الكوفة، واشترى بها دارًا في بني أسد. قال (¬1) الحافظ أبو نعيم في "كتاب الصحابة" له: كان -يعني سمرة- عظيمَ الأمانة، يحبُّ الإسلامَ وأهلَه، بقي إلى أيام زياد. ¬
وقيل: توفي سنة تسع وخمسين قبلَ معاوية بسنة. وقال أبو محمد عبد الغني في كتاب "الكمال" له: مات بالكوفة في آخر خلافة معاوية. روى له الجماعة (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: لفظة (وراء) من الأضداد؛ فإنها قد تكون بمعنى: قُدَّام، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ} [الكهف: 79] الآية؛ أي: أمامَهم، وهو مشترك أيضًا، فإن الوراء أيضًا: وَلَدُ الولد، فإن قطع عن الإضافة، بُني كسائر الظروف. قال الأخفش: يقال: لقيتُه مِنْ وَراءُ، فترفعه على الغاية إذا كانَ غيرَ مضاف، وتجعله اسمًا، وهو غير متمكِّن؛ كقولك: من قبلُ، ومن بعدُ (¬2)، وأنشد (¬3): إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكُنْ ... لِقَاؤُك إِلَّا مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ (¬4) ¬
ووراء مؤنث، وكذلك قُدَّام، ولم يؤنث من الظروف غيرُهما، قالوا في تصغيرهما: وُرَيَّة، قُدَيْدِيمَة. قال الشاعر: وَقَدْ عَلَوْتُ قُتُودَ الرَّحْلِ يَسْفَعُني (¬1) ... يَوْمٌ قَدَيْدِيمةَ الجَوْزاءِ مَسْمُومُ (¬2) وإنما أُدخلت الهاء في تصغيرهما، وإن كان تصغيرُ ما زاد على ثلاثة أحرف لا تلحقه التاء؛ للفصل بين المذكر والمؤنث، إذ لو تُركت التاء، لالتبسَ بالمذكر، وعكسُهما أسما ثلاثية مؤنثة لم يلحق تصغيرَها الهاء، نحو، حَرب، ودِرْع، وعرب، وهي أحدَ عشر اسمًا؛ يقال: حُرَيْب، ودُريع، وعُرَيْب، وكذلك بقيتُها تُحفظ، ولا يُقاس عليها، واللَّه أعلم. الثاني: قوله: "في نِفاسِها": وصفٌ غيرُ معتبر باتفاق، وإنما هو حكايةُ أمر وقع، وهذا مما يدلُّ على تحرِّي الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وشدةِ تحرزِهم فيما ينقلونه (¬3)، وإنما المعتبر قولُه: "امرأة"، على قول مَنْ فرق بين المرأة والرجل في مقام الإِمام خلفَ الجنازة، فقال: يقف ¬
عند منكِبِها (¬1)، وفي الرجل عندَ وسطه، وهو أحدُ القولين عندنا. ع: واختُلف بسببها (¬2) في مقام الإِمام من الميت: قال الطبري: وأجمعوا على أنه لا يلاصقه أولًا، وليكنْ بينه وبينه فرجةٌ، فذهب قوم إلى الأخذ بهذا الحديث في القيام وسطَ الجنازة، ذكرًا كان أو أنثى. قال أبو هريرة: في المرأة؛ لأنه يسترها عن (¬3) الناس. وقيل: كان هذا قبل اتخاذ الأنعشة والقباب؛ وهو قول النخعي، وأبي حنيفة. وقال آخرون: هذا حكم المرأة، فأما الرجلُ، فعند رأسه؛ لئلا ينظر إلى فرجه، وأما المرأة، فمستورة بالنعش؛ وهو قول أبي يوسف، وابن حنبل. وقد خرَّج أبو داود حديثًا بمعناه. وروى ابن غانم عن مالك نحوَه في المرأة، وسكت عن الرجل، وذكر عن الحسن التوسعةُ في ذلك، وقال به أشهبُ، وابن شعبان. وقال أصحاب الرأي: يقوم فيهما (¬4) حذوَ الصَّدر (¬5). ¬
وقيل في قيام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وسطها: من أجل جنينها ليكونا أمامه معًا. الثالث: قوله: "فقام وسطها": ع: ضُبط بإسكان السين (¬1). والوجهُ عندي فيه الفتح، وهو مقتضى ما قاله أهل اللغة؛ قالوا: يقال: جلست وسْط القوم -بالإسكان-؛ أي: بينهم، وجلست وسَط الدار -بالفتح-، فكل موضع صلح فيه (بين)، فهو وسْط -بالإسكان-، وإن لم يصلح فيه (بين)، فهو وسَط، بالفتح (¬2). قال الجوهري: وربما سُكِّنَ، وليس بالوجه (¬3). ويستحيل تقدير (بين) في الحديث؛ لأن (بين) لا تضاف إلا إلى شيئين فصاعدًا، تقول: المال بينَ زيد وعمرو، ولا يصح بين زيد، وأما قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] فإنما أضيفت إلى (ذلك)، وإن (¬4) كان مفردًا؛ لوقوع الإشارة به إلى شيئين، وهما الفُروضة، ¬
والبَكارة، وأما قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] , فلِما في (أحد) من معنى العموم. قال شيخنا محيي الدين المازوني رحمه اللَّه: ويدل على أن فيها معنى العموم قولُه تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]، فنعت (أحدًا) بحاجزين (¬1)، وغلَّطَ بعضَ المعاصرين له في قوله: التقديرُ: بين أحد وأحد، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العاشر 160 - عَنْ أَبي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَرِىءَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ (¬1). وَ (¬2) الصَّالِقَةُ: الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا عِنْدَ المُصِيبَةِ. ¬
* الشرح: يقال: بَرِئْتُ منك، ومن الذنوبِ والعيوبِ، بَرِأة -بكسر الراء (¬1) - أَبْرَأُ -بفتحها-، وبَرِئْتُ من المرض بُرءًا (¬2) -بضم الباء-. قال الجوهري: وأهلُ الحجاز يقولون: بَرَأْتُ من المرض بَرْءًا (¬3)، بالفتح (¬4). فكأن براءته -صلى اللَّه عليه وسلم- من هؤلاء من باب قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا" (¬5)، ونحوه؛ أي: ليس من أهل سُنَّتنا, ولا من المهتدين بهَدْينا. وهذا القول منه -عليه الصلاة والسلام- دليلٌ على تحريم هذه الأفعال؛ لإشعارها بالسخط لقضاء اللَّه تعالى. وتقييدُ المصنف رحمه اللَّه الصَّلْق برفعِ الصوتِ بقوله: "عندَ المصيبة"، إن أراد أنه المرادُ بهذا الحديث، فصحيح، وإن أراد الإطلاقَ، فليس كذلك، بل الصِّلاقُ: شدةُ رفعِ الصوت مطلقًا، قال لَبيدٌ: ¬
فَصَلَقْنَا في مُرَادٍ صَلْقَةً ... وَصُداءً أَلْحَقَتْهُمْ بِالثَّلَلْ (¬1) أي: رفعنا أصواتنا بالدعاء إلى قتال بني مراد. وأَصْلَقَ لغةٌ في صَلَقَ (¬2) (¬3). وأما الحالقة: فالتي تحلق رأسها عندَ المصيبة، تقول العرب: لا تفعلْ ذلك (¬4)، أُمُّكَ حالِقٌ؛ أي: أثكَلَها اللَّهُ حتى تحلقَ شعرها (¬5)، وفي معناه: قده من غير حلق. وأما الشاقة: فشاقَّةُ الجَيْبِ عند المصيبة أيضًا، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الحادي عشر
الحديث الحادي عشر 161 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-، قالتْ: لَمَّا اشْتكَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ذَكَرَ بَعْضُ نِسائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، يُقالُ لَها: مَارِيَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبة أَتَتَا أَرْضَ الحَبَشَةِ (¬1)، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِها وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورةَ، أُولئَكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ" (¬2). (¬3) ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: اشتكى: افْتَعَلَ من الشَّكوى، ومعناه: مَرِضَ، وهو لفظٌ يستعمل في المرض على اختلاف أنواعه، يقال: اشتكى عينَه، واشتكى رأسَه، واشتكى بطنَه، ومنه الحديث الآتي: "إِنَّ ابنتي اشتكَتْ عينَها، أفنكحلُها؟ "، روي -بضم النون- من عينها، وفتحها. وهذا المرض -واللَّه أعلم- مرضُه الذي مات فيه -عليه الصلاة والسلام-، والرواية الأخرى تفسِّره؛ وهو قولها: "في مرضِه الذي لم يَقُمْ منهُ". الثاني: الكَنيسة -بفتح الكاف وكسر النون-: مُتَعَبَّدُ النصارى، وجمعُها كَنائِس؛ كصَحِيفة وصَحائِف. واختُلف في البِيَعِ، فقيل: كنائسُ النصارى أيضًا، وقيل: كنائسُ اليهود، واحدتها بِيعَةٌ -بكسر الباء-. وأما الصَّوامِعُ: فهي مواضعُ العبادة كانت قبلَ الإِسلام مختصةً برهبان النصارى، وبعبادِ الصابئين، قاله قتادة، ثم استُعمل في مئذنة المسلمين. وأما الصلوات: فقيل: إنها مشتركة لكل ملَّة، قاله ابن عطية. وذهبت طائفة إلى أن الصلوات اسمٌ لشرائع اليهود، وأن اللفظةَ ¬
عُربت: صلاة. وقال أبو العالية: الصلوات: مساجدُ الصابئين، والمساجدُ للمسلمين (¬1). قال ابنُ عطية: وهذه الأسماء تشترك الأمم (¬2) في مُسمياتها، إلا البيعةَ؛ فإنها مختصة بالنصارى في عرفِ لغة العرب، والمساجد للمسلمين (¬3). وقد تقدم أنه يقال: مسجِد، ومسجَد -بكسر الجيم وفتحها-، ومَسْيِد أيضًا. الثالث: فيه: تحريمُ تصوير الحيوان الآدمي، وأما تحريمُ تصوير (¬4) غير الآدمي من الحيوانات، فيؤخذ من أحاديث أخر، كما جاء أنه يقال لهم: "أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ" (¬5)، ونحو ذلك. ق: ولقد أبعدَ غايةَ الإبعاد من قال: إن ذلك محمولٌ على الكراهة، وإن هذا التشديدَ كان في ذلك الزمان لقربِ عهدِ الناس بعبادة (¬6) الأوثان، ¬
وهذا الزمانُ؛ حيث انتشرَ الإِسلام، وتمهدت قواعدُه لا يُساويه في هذا المعنى، فلا يساويه في التشديد، هذا أو معناه. قال: وهذا القولُ عندنا باطلٌ قطعًا؛ لأنه قد ورد في الأحاديث الإخبارُ عن أمر الآخرة بعذاب المصوِّرين، وأنه يقال لهم: "أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ". وهذه علة (¬1) مخالفةٌ لما قاله هذا القائل، وقد صرح بذلك في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "المُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّه" (¬2)، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة، لا تخص زمنًّا (¬3) دون زمن، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة (¬4) المتظافرة، بمعنى خيالي يمكن أن لا يكون هو المراد، مع اقتضاء اللفط للتعليل بغيره، وهو التشبيهُ بخلق اللَّه (¬5). قلت: وهذا ردُّ صحيح لا ينازِعُ فيه منصِف، وقد يؤخذ من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "المُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ (¬6) اللَّهِ" تحريمُ (¬7) تصويرِ ¬
غيرِ الحيوان مطلَقًا؛ إذ الكلُّ خلقُ اللَّه عز وجل. ولنبينِ (¬1) الحكمَ في مسألة التصوير عندنا، فنقول: الصورُ إن كانت تماثيلَ على صفة الإنسان، أو غيره من الحيوان، فلا يحلُّ فعلُها, ولا استعمالها في شيء أصلًا، وإن كانت رسما في حائط، أو رَقْمًا في سِتْر يُنشر ويُبسط، أو وسائدَ يُرتفق بها للاتكاء عليها، فهي مكروهة، وقيل: حرام (¬2). قال القاضي أبو بكر: وقد قيل: إن الذي يُمتهن من الصور يجوز، وما لا يُمتهن مما يُعلَّق، فيُمنع؛ لأن الجاهلية كانت تعظِّم الصور، فما يبقى فيه جزءٌ من التعظيم والارتفاع يُمنع، وما كان يُمتهن فهو مباح؛ لأنه ليس مما كانوا فيه، واللَّه أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "بنوا على قبره مسجدًا" إشارةٌ إلى المنع من ذلك، وقد صرح به في الحديث الآخر: "لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ" (¬3)، وقد استجاب اللَّه -تعالى- دعاءه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فله الحمد والمنة. ¬
فصل: اتُّفق على كراهة تجصيص القبور، إلا ما يروى عن أبي حنيفة من إباحة البناء، وتجصيصِها، والأصلُ فيه: ما رواه أحمدُ بنُ حنبل، عن عبد الرزاق، عن ابن (¬1) جُريج، عن ابن الزبير، عن جابر: أَنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى أن يُقْعَدَ على القبر، وأَنْ يُقَصَّص، ويُبْنى عليه. ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، ومسلم، فيه: أَوْ يُزَادَ عليه، وعند النسائي، وأبي داود: أو يُكتب عليه (¬2)، والقَصَّةُ تشبه الجِصَّ، قاله الخطابي (¬3)؛ لأن ذلك من زينة الأحياء. قيل لمحمدِ بنِ عبدِ الحكم في الرجل يوصي أن يُبنى على قبره، فقال: لا, ولا كرامةَ. قال ابن القاسم في "العتبية": كره مالك أن يُرَصَّص على القبر ¬
بالحجارة والطين، وأن يبنى عليها بطوب (¬1)، أو أحجار (¬2). قال: وكره المساجدَ المتخذةَ على القبور، وأما مقبرةٌ داثرةٌ يبنى فيها مسجدٌ يصلَّى فيه، فلم أر به بأسًا. وروى مسلم، وأبو داود، والترمذي، عن أبي مَرْثَدٍ الغَنَوِيِّ: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَا تَجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا، وَلَا تتَّخِذُوا عَلَيْهَا المَسَاجِدَ" (¬3). وكره ابنُ القاسم أن يجعل على القبر بلاطة، ويُكتب فيها, ولم ير بالحجر والعود بأسًا يَعرف به الرجلُ قبرَ وليه، ما لم يكتب فيه. ولا خلاف في وضع الصخرة والعلامة، ما كانت عند رأس القبر، والأصلُ في ذلك: ما رواه أبو داود عن المطلب: أنه لما مات عثمانُ ابنُ مظعون، ودفن: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر رجلًا أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حملَه، فقام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَحَسَر عن ذراعيه، ثم حمله، فوضعَه عند رأسه، وقال: "أَتَعَلم (¬4) قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي" (¬5). ¬
وإنما كرهت الكتابة؛ لحديث جابر، وهو قولُ الشافعي، وغيرِه. فصل: وأما ضربُ الفُسطاط على القبر، فقال ابن حبيب: ضربُه على قبر المرأة أفضلُ من ضربه على قبر الرجل، لما يستر منها عند إقبارها، وقد ضربه عمرُ على قبر زينبَ بنتِ جحش، وكره ابنُ عمر، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدريُّ، وابنُ المسيب، ضربَه على قبر الرجل، وضربَتْه عائشةُ على قبر أخيها عبدِ الرحمن، وضربَه محمدُ بنُ الحنفية على قبر ابنِ عباس، ورُوي أنه بات على قبره شهرًا. وروى البخاري: أنه لما مات الحسنُ بنُ الحسنِ (¬1) بنِ علي؛ ضربت امرأته القبةَ على قبره سنةً، ثم رجعت، فسمعوا صائحا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا، فانقلبوا (¬2). قال ابن حبيب: وأراه واسعًا اليومين والثلاثة، وإنما كرهه مَنْ كرهه لمن ضربه على وجه السمعة والمباهاة، وأما حوزُ (¬3) القبر ببيت، ويبني عليه، أو فيه، فجوزه بعضُ أصحاب الشافعي، إلا أن ذلك ¬
في غير المقبرة المسبَّلة؛ لأنه فيها تضييق (¬1) على الناس، وقد قال الشافعي رحمه اللَّه: رأيت من الولاة مَنْ يهدم بمكة ما بُني بها, ولم أر الفقهاء يَعيبون عليه ذلك (¬2). قيل: وهذا يشبه ما كرهه مالك رحمه اللَّه من البنيان المحدَثِ بعرفةَ وبمنى، وبنيان مسجدِ عرفة. قال: وما كان بعرفةَ مسجدٌ منذ كانت، وإنما أُحدث مسجدُها بعدَ بني هاشم بعشرين سنة، واللَّه أعلم (¬3). فصل: وأما ما حدث في زماننا هذا، وقبلَه بقليل؛ من أمر قَرافة مصر، وما ابتدعَ فيها الخاصُّ والعامُّ من الأبنية المَشِيدَة، والسقوف المعقَّدة، والزخارف المدونة، والبساتين المفننة، فيجب هدمُه شرعًا؛ لكونها من المقابر المحبَّسة على المسلمين، المُسَبَّلة لدفنهم خاصة، بنقل الإثبات، والأئمةِ الثقات، ومما يؤكد كونهَا مسبلةً لدفن المسلمين خاصة: ما أخبرني به الشيخُ الفقيه الإِمام علامة وقته نجمُ الدِّينِ بنُ الرفعة رحمه اللَّه تعالى، [عن شيخه القاضي الفقيه ظهير الدين الترمنتي رحمه اللَّه تعالى] (¬4): أنه دخل (¬5) إلى صورة مسجد بناه بعضُ الناس بقَرافة مصر الصُّغرى، فجلس فيه من غير أن يصلي التحية (¬6)، فقال له الباني: لم لا صليت ¬
التحية؟ قال (¬1): لأنه غيرُ مسجد؛ فإن المسجد هو الأرض، والأرضُ مسبَّلَةٌ لدفن المسلمين، أو كما قال. وأخبرني -أيضا المذكور- عن شيخه المذكور: أن الشيخ بهاءَ الدين بنَ الجميزي رحمه اللَّه تعالى قال: جهدتُ مع الملك الصالح في هدم ما أُحدث بقَرافة مصرَ من البناء، فقال: أمرٌ فعلَه والدي لا أُزيله (¬2)، وإذا كان هذا قولَ هذا الإِمام وغيره في ذلك الزمان، قبلَ أن يبالغوا في البناء والتفنن فيه، ونبش القبور لذلك، وتصويب المراحيض على أموات المسلمين، من الأشراف، والعلماء، والصالحين، وغيرهم، فكيف في هذا الزمان، وقد تضاعَفَ ذلك جدًا، حتى كأنهم لم يجدوا من البناء فيها بُدًّا، وجاؤوا في ذلك شيئًا إِدًّا؟! فيجب على وليِّ الأمرِ -أرشده اللَّه- الأمرُ (¬3) بتهديمها وتخريبها حتى يعودَ طولُها عرضًا (¬4)، وسماؤها أرضًا، هذا مع ما يُضاف (¬5) إلى ذلك من هَتْك الحريم، واختلاطِ البريء بالسقيم؛ فإنهم استباحوا التكشُّف فيها، واتخذوه عادةً وديدَنًا (¬6) لا يستَحْيون من اللَّه تعالى، ولا من الناس، وخالفوا في ذلك الكتابَ والسنةَ، والإجماعَ والقياس، ¬
وربما أضافوا إلى ذلك آلاتِ الباطل من الدفوف، والجنوك، والشبَّابات، واقتحموا في ليالي الجمع والأعياد وغيرها تعاطيَ هذه المحرمات، واستهانوا بحرمة القبور، وارتكبوا بين ظَهْرانَيْها الفجور، وربما أكلوا الحشيش، وشربوا الخمور، هذا مع أنها مواطن الاعتبار، وتذكرِ الموت وخوفِ عقوبة الجبار، فناهيك بها معصيةً ما أفظعها، وشناعة ما أبشعها! ولم أر، ولم أسمع باتفاق ذلك في بلد من بلاد المسلمين ولا غيرهم، فيجب على كل من قَدَر على إزالة ذلك، أو بعضِه القيامُ للَّه تعالى، فإن فعل البعضُ، سقط عن الباقين، وإلا أثموا كلُّهم، وأعجبُ من هذا: أن أهل هذين البلدين أو غالبهم متواطئون على ذلك، وكأنه (¬1) عندهم أمر مشروع، وحكم متبوع، لا تجد واحدًا منهم -في الغالب- يتوجع لذلك، أو يعدُّه من المهالك، بل استقرت نفوسُهم عليه، وسكنت طباعُهم إليه، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، بدأ الإِسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، ولقد أحسن أبو عمرو بنُ العلاء رحمه اللَّه تعالى حيث يقول: لا يزالُ الناس بخير ما تُعُجِّبَ من العَجَب (¬2)، فسبحانَ الحليمِ الذي لا يعجل، والجوادِ الذي لا يبخل، الذي يُمْهِل ولا يُهْمِل، اللهمَّ وإذا أردت بالناس فتنة، فاقبِضْنا إليك غير مفتونين، وحسبُنا اللَّه ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم، وصلى اللَّه على محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد للَّه رب العالمين. ¬
الحديث الثاني عشر
الحديث الثاني عشر 162 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-، قَالَتْ (¬1): قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ والنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِد"، قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَلِكَ، أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: اللعن: هو الطرد والإبعاد، فاللعنةُ (¬1) من العباد: الطردُ، ومن اللَّه: العذابُ والإبعاد من الرحمة. الثاني: في الحديث: جوازُ لعن اليهود والنصارى غيرِ المعينين، ولا خلاف فيه، والجمهور على منع لعن المعينين منهم. قال ابن العربي: قال لي كثير من أشياخي: إن الكافر المعين لا يجوز لعنه؛ لأن حاله عند الوفاة لا تُعلم (¬2)، وقد شرط اللَّه في ذلك الوفاةَ (¬3) على الكفر، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة: 161] وأما ما رُوي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه لعن قومًا بأعيانهم من الكفار، إنما كان ذلك لعلمِه بمآلهم. قال ابن العربي: والصحيحُ عندي: جوازُ لعنه لظاهرِ حاله، ولجواز قتله وقتاله. قال (¬4): وقد روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه (¬5) قال: "اللَّهُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ ¬
العَاصِي هَجَانِي، وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ، فَالْعَنْهُ، وَاهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي" (¬1)، فلعنه، وإن كان الإيمانُ والدينُ والإِسلامُ مآلَهُ، وانتصفَ بقوله: "عَدَدَ مَا هَجَاني"، ولم يزد؛ ليُعَلِّم العدل والإنصاف، وأضاف الهجو إلى اللَّه -تعالى- في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك؛ كما يضاف إليه المكر والاستهزاء، والخديعة، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا (¬2). قلت: ولا فرق في غير المعينين بين أن يكون (¬3) لهم ذمة، أو لا، بل ذلك مباح (¬4) على الإطلاق؛ لجحدهم (¬5) الحقَّ، وعداوتهم للدين. قالوا: وكذلك كلُّ مَنْ جاهر بالمعاصي؛ كَشُرَّاب الخمر، وأَكَلَة الربا، والظَّلَمة، والسُّرَّاق، والمصوِّرين، والزُّناة، ومَنْ تشبه من النساء بالرجال، ومن الرجال بالنساء، إلى غير ذلك مما ورد في الحديث لعنُه. قال بعض المتأخرين من أصحابنا: وليس لعنُ الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاءٌ على الكفر، وإظهارُ قبحِ كفره، كان الكافر ميتًا، أو مجنونًا. ¬
وقال قوم من السلف: لا فائدة في لعن من جُنَّ أو مات منهم، لا بطريق الجزاء، ولا بطريق الزجر؛ فإنه لا يتأثر به. وأما لعنُ العاصي المعين، فقال ابن العربي: لا يجوز لعنُه اتفاقًا (¬1)؛ لما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه أُتي بشارب خمر مرارًا، فقال بعضُ مَنْ حضر: لعنه اللَّه، ما أكثرَ ما يؤتى به! فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ"، فجعل له حرمةَ الأُخوة، وهذا يوجب الشفقة، وهذا حديث صحيح (¬2)، خرجه البخاري، ومسلم (¬3). قال القرطبي في "جامعه": وقد ذكر بعض العلماء خلافًا في لعن العاصي المعين، قال: وإنما قال -عليه الصلاة والسلام-: "لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ"، في حق النُّعيمان بعدَ إقامة الحدِّ عليه، ومن أُقيم عليه حدُّ اللَّه، فلا ينبغي لعنُه، ومن لم يُقَمْ عليه الحد، فلعنُه جائز، سواء سُمِّي، أو عُيِّن، أم لا؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يلعن إلا مَنْ تجب عليه اللعنة، ما دام على تلك الحالة الموجبة للعنة، فإذا تاب منها، وأقلع، وطهره الحدُّ، فلا لعنةَ تتوجَّه عليه، وبينَ هذا قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ" (¬4)، فدل هذا الحديث -مع صحته-، على أن التثريب ¬
واللعنَ إنما يكون قبل أخذ الحدِّ، وقبل التوبة، واللَّه أعلم (¬1). قال ابن العربي: وأما لعنُ العاصي مطلقًا، فيجوز إجماعًا؛ لما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ" (¬2). قلت: قوله: مطلقًا، يريد به: غيرَ المعين، واللَّه أعلم. فائدة: حكى أبو جعفر النحاس عن بعض العلماء: أنه قال: إذا لعن الإنسانُ مَنْ لا يستحقُّ اللعنَ، فليبادر بقوله: إلا أن يكونَ لا يستحقُّ (¬3). الثالث: اليهود: أصله: اليهوديون، ولكنهم حذفوا ياء الإضافة؛ كما قالوا: زَنْجِيٌّ وزَنْج. قال الجوهري: وإنما عُرِّبَ على هذا الحدِّ، فجُمع على قياس شعيرة وشعير، ثم عُرف الجمعُ بالألف واللام، ولولا ذلك، لم يجز دخولُ الألف واللام؛ لأنه معرفة مؤنث، فجرى في كلامهم مجرى القبيلة، ولم يُجعل كالحيِّ، وأنشد عليُّ بنُ سليمان النَّحْوِيُّ: ¬
فَرَّتْ يَهُودُ وَأَسْلَمَتْ جِيرَانَهَا ... صَمِّي لِمَا فَعَلَتْ يَهُودُ صَمَام (¬1) وأما النصارى: فجمع نَصْرانٍ، ونَصْرانة، مثل النَّدامى، جمع نَدْمان ونَدْمانة، قال الشاعر: فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا ... كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ و (¬2) لكن لم يستعمل نصرانٌ إلا بياء النسب؛ لأنهم قالوا: رجلٌ نَصْرانِيٌّ، وامرأة نَصْرانِيَّةٌ (¬3)، واللَّه أعلم. الرابع: اتخذ: افْتَعَلَ من تَخِذَ، قال الشاعر: [الطويل] وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إِلَى جَنْبِ غَرْزِهَا ... سَنِيفًا (¬4) كَأُفْحُوصِ القَطَاةِ المُطَرِّقِ وهو تارة يتعدَّى إلى مفعول واحد؛ كقولك (¬5): اتخذتُ دارًا، وتارة يتعدَّى إلى مفعولين؛ كما هو في الحديث، ومنه قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]. الخامس: فيه: تحريمُ اتخاذِ قبرِ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مسجدًا، فلا يجوز أن يُصَلَّى على قبره، وقد استدل بعضهم بعدم الصلاة على قبره -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
على عدم الصلاة على القبر مطلقًا كما تقدم، وعورض باختصاصه قبره -صلى اللَّه عليه وسلم-، بذلك؛ لما فهم من هذا الحديث، وبعض الناس أجاز الصلاةَ على قبرِه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)؛ لجوازها (¬2) على قبرِ غيره. السادس: قولها: "ولولا ذلك أُبرز قبرُه"؛ أي: ولولا تحذيرُه (¬3) من اتخاذ القبور مساجدَ، لأُبرز قبره، أي: أُظهر (¬4) للناس، ولكن تركوا ذلك خشيةَ ما ذُكر، لا سيما مع تقادم الأزمان، وتغير الأحوال. فصل: وقد زِيدَ في مسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين أكثر الناس، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوتُ أزواجه أمهات المؤمنين -رضي اللَّه عنهن- فيها، حتى (¬5) حجرة عائشة -رضي اللَّه عنها - فيها (¬6) مدفنُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وصاحبيه -رضي اللَّه عنهما-، وبنوا على القبر الشريف حوائطَ مرتفعةً مستديرةً حولَه؛ لئلا يظهر قبرُه في المسجد، فيصلَّى إليه، فيؤدِّي (¬7) إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، حرفوهما حتى التقيا؛ بحيث لا يتمكَّن أحد من استقبال القبر الشريف. والحجرةُ الشريفةُ المكرمة المعظمة التي حول القبر هي حجرةُ عائشة أم المؤمنين، وبيتُها المختَصُّ بها -رضي اللَّه عنها -، وقد كانت ¬
فيه بعد موته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبعد دفنه ودفنِ أبيها أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، فلما طُعن عمرُ -رضي اللَّه عنه-، أرسل إليها ابنَه عبدَ اللَّه يستأذنها في أن يُدفن عند صاحبيه، فأذنتْ له، فدُفن فيه، فلم تدخل عائشةُ -رضي اللَّه عنها - بعد دفن عمر -رضي اللَّه عنه- إلا محتجبةً، معاملةً له ميتًا معاملَتَه حيًا، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما مات في هذه البقعة الشريفة، حُوِّلَ فِراشهُ، وحُفر له مكانه، ودُفن فيه بعدَ غسله وتكفينه والصلاة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-. و (¬1) روى محمدُ بنُ سعدٍ بسنده عن هشام بن عروةَ، عن أبيه، قال: لما قُبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، جعل أصحابه (¬2) يتشاورون: أين يدفنونه (¬3)؟ فقال أبو بكر: ادفنوه حيث قبضه اللَّه عز وجل، فرُفع الفِراش، فدُفن تحته (¬4). وروي -أيضًا- عن معن بن عيسى، عن مالك: أنه بلغه: أن رسولَ اللَّه-صلى اللَّه عليه وسلم- لما تُوفي، قال ناسٌ: عند المنبر، وقال آخرون: بالبقيع، فجاء أبو بكر، فقال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مَا دُفِنَ نبِيٌّ إِلَّا في مَكَانِهِ الَّذِي قَبَضَ اللَّهُ نَفْسَهُ فِيهِ" (¬5)، فَأُخِّرَ (¬6) رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المكان ¬
الذي تُوفي فيه، فحُفر له، وأُلحد له، وجُعل على لحده بعد وضعه فيه تسعُ (¬1) لَبِنات، وفُرش له قَطيفة تحته كان يتغطى بها. ع: وروي أن الذي ألقاها في القبر شُقْرانُ مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان يلبسها، ويفترشها، فقال شقران: واللَّهِ لا يلبسكِ (¬2) أحدٌ بعدَه أبدًا. ولا خلافَ أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- غُسِّل. واختُلف في الصلاة عليه، فقيل: لم يُصَلَّ عليه جملةً، وإنما كان الناسُ (¬3) يدخلون أرسالًا أرسالًا، فيدعون، وينصرفون. ع: واختُلف في تعليل ذلك، فقيل: لفضله، وأنه غيرُ محتاج لذلك؛ كالشهيد، وهذا ينكسر بغسلِه. وقيل: بل لأنه لم يكن ثمَّ إمامٌ، وهذا خطأ؛ فإن إمامة الفرائض لم تتعطل، ولأن البَيْعة تمت لأبي بكر قبلَ دفنه، وهو إمامُ الناس. وقيل: بل صُلِّي عليه أفذاذًا، فوجٌ بعدَ فوج؛ ليأخذ كلُّ واحد منهم نصيبه من بركة الصلاة. وقد جاء في بعض الآثار في وفاته: أنه صُلِّي عليه (¬4) بصلاة جبريل، وهذه العلة المذكورة في عموم بركته هي إحدى العلل في تأخير دفنه من يوم وفاته (¬5). وقد تقدم تعليل تأخير دفنه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشرف وكرم. ¬
الحديث الثالث عشر
الحديث الثالث عشر 163 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ" (¬1). ¬
* (¬1) الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قد تقدم معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَيْسَ مِنَّا"، وأن معناه: ليس من أهل سُنَّتِنا, ولا مهتدٍ بهدينا, ولا يجوز أن يُحمل على الخروج من (¬2) الإِسلام جملةً؛ لأن (¬3) المعاصي لا يكفر بها عند أهل الحقِّ والسنَّة. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ": خَصَّ (¬4) الخدودَ بالضرب دونَ سائر الأعضاء؛ لأنه الواقعُ منهن عندَ المصيبة، ولأن (¬5) أشرفَ ما في الإنسان الوجهُ، فلا يجوز امتهانُه وإهانتُه بضربٍ ولا تشويهٍ، ولا غيرِ ذلك مما يَشْينُه، وقد أمر في الضرب والتأدب بأن يُتَّقَى الوجهُ. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "الخُدُودَ" فجمع، وليس للإنسان إلا خَدَّان، وهذا -واللَّه أعلم-، من باب قوله -تعالى-: ¬
{وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130] , وقالت العرب: شابَتْ مَفارِقُه، وليس له إلا مفرقٌ واحد، فكأنهم سموا كلَّ موضعٍ من المفرق مفرقًا، وقالوا أيضًا: جملٌ ذو عَثانين، وليس له إلا عُثنون واحد، والعُثْنونُ: شعيراتٌ طِوالٌ تحت حَنَك البعير، ونحو ذلك كثير، هذا إذا جعلنا (مَنْ) واقعةً (¬1) على مفرد، فإن (¬2) جعلناها واقعةً على جمع، فلا إشكالَ، ومثلُه شقُّ الجيوب، وهو قطعُها وإفسادُها بالقطع في غير محله، فحرم على ذلك (¬3)؛ لما فيه من إظهار السخط، وعدم إظهار الرضا بالقضاء، مع ما في شق الجيوب من إضاعة المال. الرابع: المراد بدعوى الجاهلية: الندبُ، والنياحةُ، وهو ذكرُ صفات الميت؛ فإنهم كانوا ينوحون على الميت، ويندبونه بتعديد شمائله ومحاسنه في زعمهم، وتلك المحاسن عندهم قبائحُ في الشرع، فيقولون مثلًا: واكهفاه! واسيداه! واسنداه! واجبلاه! وامُرْمِلَ النسوان! وموتمَ الوِلدان! ومخرب العمران! هذا ونحوه مما يرونه شجاعةً؛ فإنْ رُفِع الصوت بذلك، وعُدِّد، فهو نياحة، وإلا، فهو ندبٌ (¬4). وجاء في الحديث الآخر صريحًا: "النِّيَاحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ" (¬5)، ¬
وجاء: "لَعَنَ اللَّهُ النَّائِحَةَ وَالمُسْتَمِعَةَ" رواه أبو داود (¬1). ولتعلمْ: أن جمهورَ العلماء على تحريم النياحة. وذهب بعضُ أصحابنا؛ أخذًا من حديث أم عطية: إلى أن النهي عن النياحة ليس بنهي عزم وفرض؛ إنما هو نهيُ حض وندب، واستدل بقول أم عطية للنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إلا آلَ فلان؛ فإنهم كانوا أَسعدوني في الجاهلية، فلا بد أن أُسعدهم، فقال: "إِلَّا آلَ فُلَانٍ" (¬2)، وبقضية نساءِ جعفرٍ، وسكوتِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عنهنَّ آخرًا، وبأحاديثَ كثيرةٍ جاءت في ذلك، ولم يجعل فيها نسخًا، فأما إن انضاف إلى النياحة فعلٌ آخر من أفعال الجاهلية؛ من شَقِّ الجيوب، وخَمْش الخدود، أو ما كانت تُضيفه من فعل المصائب إلى الدهر، وهو دعواها، فلا خلافَ في تحريم ذلك كله؛ أعني: النياحة، وما ذُكر معها من هذه الأفعال القبيحة. وقد أُجيب عن حديث أم عطية بوجوه: فقيل: الحديث مبتور (¬3)، نقص منه: فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا إِسْعَادَ في الإِسْلَامِ"، وذكر هذه الزيادة النسائيُّ في حديث بمعناه، وليس فيه: "فقالَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا آلَ فلانٍ"، ولم يذكر فيه أم عطية (¬4)، فيكون ¬
على هذا معنى قوله: "إلا آلَ فلانٍ"، مع إثبات (¬1) تلك الزيادة: على وجه تكرار كلامها، والتقرير له، والتوبيخ، لا على الإباحة، ثم أجابها بأنه: "لا إسعادَ في الإِسلام"، قاله ع. قال: وقد يكون -على ظاهر اللفظِ بالإباحة-: أن يكون قبلَ تحريم النياحة، وأن يكون حديث أم عطية غيرَ الحديث الآخر، ثم منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الإسعادَ في الحديث الآخر (¬2). قلت: ويصلح هذا الجواب الثاني أن يكون جوابًا عن نساء جعفرٍ أيضًا، واللَّه أعلم. وقال ح: حديثُ أم عطيةَ محمول على الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة؛ كما هو ظاهر، ولا تحل النياحةُ لغيرها, ولا لها في غيرِ آلِ فلان؛ كما هو صريح في الحديث، وللشارع أن يخص من العموم ما شاء. ثم قال: هذا مذهبُ العلماء كافة (¬3)؛ يعني: تحريم النياحة مطلقًا، وقد رأيت ما تقدم من الخلاف فيها لبعض أصحابنا، وهو القاضي أبو عبد اللَّه، هكذا ذكره ع في "إكماله" (¬4) (¬5)، واللَّه أعلم. ¬
الحديث الرابع عشر
الحديث الرابع عشر 164 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، فَلَهُ قِيرَاطَان"، قِيلَ: وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: "مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ" (¬1). ولِمسلمٍ: "أَصْغَرُهُما مِثْلُ أُحُدٍ" (¬2). ¬
قد (¬1) تقدم أن شهد في مثل هذا بمعنى: حضرَ، والحديث مشعرٌ بالحض على صلاة الجنازة، والترغيب في مصاحبتها واتباعها حتى تُدفن، والتنبيه على عظيم ثوابها، وهي مما خص اللَّه -تعالى- به هذه الأمةَ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللَّه أَعْطَاكُمْ شَيْئَيْنِ لَمْ يَكُونَا لأحَدٍ مِنَ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: صَلَاةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُمْ"، الحديث. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من شهدها حتى تُدفن، فله قيراطان": قيل: معناه بالأول فيحصلُ بالصلاة قيراط، وبالاتباع مع حضور الدفن قيراط آخر، فيكون الجميع قيراطين (¬2)، بيَّنَ ذلك روايةُ البخاري في أول "صحيحه" في كتاب: الإيمان: "مَنْ شَهِدَ جَنَازَةً، وَكَانَ مَعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، رَجَعَ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَينِ" (¬3)، وهذا صريح في أن المجموع بالصلاة، والاتباع، وحضور الدفن، قيراطان. ¬
ومثل هذا ما جاء في الحديث الصحيح: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ في جَمَاعَةٍ؛ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ؛ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةً" (¬1)، هذا اختُلف فيه (¬2) -فيما أظن-، فقيل: إنما يحصل بمجموع الصلاتين؛ كأجر قيامِ ليلة، وقيل: يحصل بصلاة الصبح خاصة قيامُ ليلة، وهذا هو المتبادَرُ إلى الذهن، واللَّه أعلم. فصل: إذا فُرغ من الدفن، فانصراف الإنسان منه على خمس مراتب: الأولى: وهي أفضلها: أن لا ينصرف حتى يفرغ من الدفن، ويستغفر للميت، ويدعو له (¬3)؛ لما رواه أبو داود، عن عثمان: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كانَ إذا فرغَ من دفنِ الميت، وقفَ عليه، وقال (¬4): "اسْتَغْفِرُوا لأَخِيْكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التثبيت، فَإِنه الآنَ يُسْأَلُ" (¬5). الثانية: أن ينصرف إذا فَرَغَ من الدفن، ولا يقفَ للدعاء، فقد حصل له قيراطان؛ للحديث. الثالثة: أن ينصرف إذا سُتر عليه باللَّبِن، قبل أن يُهال عليه التراب، ¬
فهو دون الأول في الأجر. الرابعة: أن ينصرف إذا بلغت الجنازةُ القبرَ، قبلَ أن يُقبر، قال أشهب في "المجموعة": إذا بقي معها مَنْ يلي ذلك. قلت: لأن الدفن فرضُ كفاية، فإذا قام به غيره، صار في حقه كالمستحب، فلا يأثم بالرجوع، لكن فاته قيراطٌ من الأجر؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "حَتَّى تُدفن (¬1)، فله قيراطانِ"، فظاهره: اشتراطُ حضورِ الدفن في حصولِ القيراطين، واللَّه أعلم. الخامسة: أن ينصرف إذا صَلَّى عليها، فله قيراط؛ كما في الحديث، والذي قبله أفضلُ؛ لأنه تبعَ الجنازةَ إلى القبر، فحصل له ثوابُ المشي معها بعد الصلاة، وأما مَنْ تبعها، ثم رجع قبل أن يصلي، فله أجرُ مشيه، وكرهه أشهبُ إلا لحاجة. وقوله: "وما القيراطان؟ " إلى آخره: القيراط في أصل اللغة: نصفُ دانِق، والدانق: سدس درهم، وذلك ثمان حبات، وثلث حبَّة، وثلث خمس حبَّة، وأصلُه: قرَّاط -بالتشديد-؛ لأن جمعه قراريط، فأبدل من أحد حرفي تضعيفه ياء، ومثله دينار، وأصله: دِنَّار -بالتشديد -أيضًا (¬2). وأما القيراط في هذا الحديث، فقد جاء تفسيرُه فيه على طريق التمثيل ¬
لجزء (¬1) من الأجر، ومقدار منه، وهو من مجاز التشبيه، شبه المعنى العظيم بالجسم العظيم، ونحو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ ومِلْءَ الأَرْضِ"، الحديث (¬2). وقوله: "أصغرُهما مثلُ أحد"، انظر: أيهما أصغر، الأول أم الثاني؟! والظاهر (¬3) عندي: أن ذلك موكولٌ إلى علم اللَّه سبحانه، لا يطَّلع عليه إلا مَنْ عَلِمَه من جهة اللَّه تعالى؛ إما بوحي، أو إلهام، واللَّه تعالى الموفق للصواب، عليه توكلت وإليه مآب (¬4). * * * ¬
كتاب الزكاة
كِتْابُ الزَّكَاة
[باب]
كِتْابُ الزكاة الزكاة تطلق بمعنى النماء، وبمعنى الطهارة: فمن الأول: قولنا: زكا الزرعُ؛ أي: نما. ومن الثاني: قوله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]؛ أي: طهرها من دنس المعاصي والمخالفات، دليله: قولُه تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]؛ أي: أخملها بالمعاصي، والأصل دَسَّسَها، فأدغم. وأورد على الأول: أن الزكاة إخراج من المال، ونقصٌ محسوس، فكيف يكون نماءً؟ وأجيب: بأنها، وإن كانت نقصًا في الحال (¬1)، فهي تَنْمي في المآل، وتزيدُ في إصلاح الأموال. وقيل: يزكو عند اللَّه أجرُها، وينمي؛ كما جاء في الحديث الآخر: "حَتَّى تَكُونَ (¬2) كَالجَبَلِ العَظِيمِ" (¬3)، وجاء -أيضًا- في الصحيح: ¬
"مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ" (¬1). قيل: ووجه الدليل من ذلك أن النقصان محسوسٌ بإخراج القَدْرِ الواجب منه، فلا يكون [غير ناقص إلا بزيادة] (¬2) تبلغه إلى ما كان عليه، وقد أخبرني مَنْ أثق به: أنه كان عنده عشرون درهمًا، فتصدق منها بدرهم، ثم وزنها، فإذا هي [بوزن] ما كانت (¬3)، وقد وقع لي أنا -أيضًا- نحو ذلك. وقيل: لأنها لا تؤخذ إلا من الأموال المعرَّضَة للنماء؛ أي: لمَّا كان متعلقها ينمي، سميت باسم متعلقها، واللَّه أعلم. وأما معنى الطهارة فيها؛ فلأنها تطهر النفسَ من رذيلة البخل وغيره؛ كما تقدم، وقد قيل: من أَدَّى زكاةَ ماله، لم يُسَمَّ بخيلًا. ع (¬4): وقيل: سميت زكاة؛ لأنها تزكي صاحبها، وتشهد بصحة ¬
إيمانه (¬1)؛ كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها طاعة وإخلاص. وقيل في قوله تعالى: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7]: لا يشهدون أَنْ لا إله إلا اللَّه، فعبر عن أحد المتلازمين بالآخر؛ من حيث إن الزكاة ملازمة للإيمان، ولأن مخرِجَها لا يخرجُها إلا من إخلاصه (¬2)، وصحة إيمانه؛ لما جُبِلت عليه النفوس من الشح بالمال، وحبه، ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ" (¬3). وقيل: لأنها تزكي المالَ وتطهره؛ إذ لو لم تخرج منه أَخْبَثَتْه، وأبقَتْ فيه أوساخه. وأما تسميتُها صدقةً، فمن الصِّدْق؛ إذ هي دليل على صحة إيمانه، وصدق باطنه فيه مع ظاهره. وقد تسمى بذلك؛ لتصديق صاحبِها أمرَ اللَّه (¬4) -تعالى- بإخراجها. وسمَّاها الشرع -أيضًا-: حَقًّا، فقال: {وَآتُوا حَقَّهُ ¬
يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] , ونفقةً، بقوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، وعفوًا، بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199]. وبَيْنَ السَّلَفِ وأهلِ التفسير اختلافٌ في مراده -تعالى- بهذه الكلمات (¬1). قال الإِمام أبو عبد اللَّه: وقد أفهم الشرع أنها شُرعت للمواساة، وإن المواساة إنما تكون فيما له بالٌ من الأمور (¬2)، فلهذا حدَّ النُّصُبَ، وكأنه لم ير فيما دونها محملًا لذلك، ثم وضعها في الأموال النامية العين، والحَرْثِ، والماشية، فمن ذلك ما ينمي بنفسه، كالماشية، والحرث، ومنه ما ينمي (¬3) بتغير عينه وتقلُّبه، كالعين، والإجماع على تعلق الزكاة بأعيان هذه المسميات. وأما تعلق الزكاة بما سواها من العُروض، ففيها للفقهاء ثلاثة أقوال: فأبو حنيفة يوجبها على الإطلاق، وداود يُسقِطها، ومالكٌ يوجبها على المدير على شروط معلومة من مذهبه. قلت: وأما قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] , فبعمومه يحتج لأبي حنيفة، ومالكٌ حملَه على ما كان للتجارة دون القُنية (¬4). وسيأتي الكلامُ على شيء من هذا. ¬
الحديث الأول
الحديث الأول 165 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (¬1) بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: "إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُم إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُم: أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُم: أَنَّ اللَّه تعالى قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِم، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجابٌ" (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب": ق: كأنه كالتوطئة والتمهيد للوصية (¬1) باستجماع همته بالدعاء لهم، فإنَّ أهلَ الكتاب أهلُ علم، ومخاطبتهم لا تكون كمخاطبة جُهَّال المشركين (¬2) وعَبَدَة الأوثان في العناية بها (¬3). ¬
الثاني: وقعت البداية بمطالبتهم بالشهادتين؛ لأنهما أصل الدين وأساسُه الذي تُبنى (¬1) عليه جملةُ فروعه؛ إذ لا يصح شيء منها إلا بعد ثبوت الشهادتين قطعًا، ولذلك أجمعت الأمةُ على أن الكفار مخاطَبون بهما، فمن كان منهم غيرَ موحِّد على التحقيق؛ كالنصارى، طولب بكل واحدة من الشهادتين عَيْنًا (¬2)، ومن كان موحِّدًا؛ كاليهود، طولب بالإقرار بالرسالة؛ فإنهم يدخلون في الإِسلام بالإيمان بما كفروا به، وتقديم المطالبة بالإيمان لا يدل على عدم المخاطبة بالفروع من حيث إن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه الترتيبُ، ولا بد [من] الترتيب (¬3) في الوجوب؛ بدليل وجود الترتيب في الحديث بين الصلاة والزكاة، ولا ترتيبَ بينهما في الوجوب. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإنْ هم أطاعوا لكَ بذلك"؛ أي: تلفَّظوا بالشهادتين ولا بد، هذا معنى إطاعتهم بذلك (¬4)، فلا يكفي غيرُ التلفظ؛ من إشارة، أو قرينة ما دالة على الإيمان, بل لا بد من النطق بهما جميعًا، حتى لو تلفظوا بإحداهما، لم يُكتفَ منهم بذلك، وأما قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ ¬
النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه" (¬1)، فقد تقدم في باب الجمعة: أنه -عليه الصلاة والسلام- رمز بقوله: لا إله إلا اللَّه إلى الإتيان بالشهادتين وغيرِهما مما هو من لوازمهما -على ما تقرر-، وأما إطاعتُهم بالصلاة، فلا يلزم منها إقرارُهم بفرضيتها، بل لو فعلوها على الوجه المشروع، كان ذلك كافيًا, ولم يشترط تلفُّظُهم بالإقرار بالفرضية، ولذلك نقول في الزكاة: حيث يحصل منهم الامتثالُ بإخراجها, لا يلزمُهم التلفظ بالإقرار بوجوبها، وإنما المعتبرُ من ذلك الإذعانُ لما أُمروا به، وعدمُ الإنكار، واللَّه أعلم. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "خمسُ صلواتٍ في كلِّ يوم وليلة": فيه: دليل صريح على عدم وجوب الوتر، فإنَّ بَعْثَه -عليه الصلاة والسلام- معاذًا إلى اليمن كان متأخرًا بعدَ استقرار أمر الوتر، والعملِ به قبلَ وفاته -عليه الصلاة والسلام- بقليل. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "تؤخذ من أغنيائهم، فتُرَدُّ على فقرائهم": لا يفيد كونهَم أهلَ اليمن، ويقوي هذا الاحتمالَ عدمُ اعتبار أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية، كما وُوجِهوا (¬2) بالخطاب بالصلاة مع عدم اختصاصهم بها حكمًا. ¬
ولم أَرَ في مذهبنا خلافًا في عدم جواز نقلها عن البلد الذي فيه المالُ، والمالكُ، والمستحقون للزكاة، فإنْ نقلَها، أو دفعَها إلى فقراءِ غيرِ بلده، كُره له ذلك، وأَجزأ، وقال سحنون: لا يجزئه، نعم لو بلغَ الإمامَ أن ببعض البلاد حاجةً شديدة، جاز له نقلُ بعضِ الصدقة المستحقة بغيره إليه. وهل المعتبر مكانُ المال (¬1) وقتَ تمام الحول، فيفرق (¬2) الصدقة عنده، أو هو سببُ الوجوب، أو مكانُ المالك، إذ هو المخاطَب بها، فيخرجها في ذلك (¬3)؟ لأصحابنا قولان. وأما صدقة الفطر، فإنما يُنظر فيها إلى موضع المالك فقط. السادس: ذهب أبو حنيفة، وبعضُ أصحاب مالك، أخذًا من هذا الحديث: إلى أن مَنْ ملك نصابًا لا يُعطى من الزكاة؛ من حيث إنه جعل المأخوذ منه غنيًا، وقابله بالفقير، ومن ملك نصابًا، فالزكاةُ مأخوذة منه، فهو غني بهذا الاعتبار، والمعنى: لا يُعطى من الزكاة إلا في المواضع الخمسة المنشأة في الحديث. السابع: ظاهرُ هذا الحديث دليلٌ لمذهب مالكٍ وموافقيه (¬4) في ¬
إعطاء الزكاة لصنف واحد؛ إذ لم يُذكر في الحديث إلا الفقراء. وفيه -أيضًا-: أن الإمام أو نائبه هو الذي يتولى قبضَ الزكاة؛ لوصفه إياها بكونها مأخوذةً من الأغنياء. ق: فكلُّ ما اقتضى خلافَ هذه الصفة، فالحديثُ ينفيه (¬1). الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإياك وكرائمَ أموالهم": (إياك) منصوبٌ بفعل مضمر لا يجوز إظهاره، والتقدير: إياك باعد، واتق كرائمَ أموالهم، وهو من باب: إياك والأسدَ، وأهلَكَ والليلَ، وأشباه ذلك. فيه: تحريمُ أخذ كرائم الأموال، وهي جمع كريمة، إلا برضا أربابها. قال صاحب "المطالع": وهي الجامعةُ للكمال الممكن في حقها؛ من غزارة لَبَن، أو جمال صورة، أو كثرة لحم أو صوف، وهي النفائسُ التي تتعلق (¬2) بها نفسُ مالكها، ويقال: هي التي يختصها صاحبُها لنفسه، ويؤثرها. قلت: كالأكولة، والرُّبَّى، وهي التي تربِّي ولدها، والماخِضِ، وفحلِ الغنم، وحَزَراتِ المال -بتقديم الزاي-، وهي التي تُحْزَرُ بالعين، وتُرْمَقُ، لشرفها، وحُب أهلها لها. ¬
قيل: والحكمة في ذلك: أن الزكاة وجبت مواساةً للفقراء من مال الأغنياء، فلا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب الأموال، فسامح الشرعُ أربابَ الأموال بما يَضِنُّون به، ونهى المصدِّقين عن أخذه (¬1). التاسع: لم يَذْكر في الحديث -على هذه الرواية- الركنين الباقيين من أركان الإسلام الخمسة؛ وهما: الصومُ، والحجُّ، وكأن الراويَ عن معاذ تركَهما، فروى بعضَ الحديث، وترك بعضَه، وعليه يدل كلامُ الشيخ تقيِّ الدين بن الصلاح رحمه اللَّه تعالى، قال: هذا الذي وقع في حديث معاذ من تقصير الراوي. قال بعض شيوخنا: وهو الأظهر؛ لأن بَعْثَه -عليه الصلاة والسلام- معاذًا كان قبل وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقليل، ويبعُدُ حينئذ القول بأن ذلك كان قبل فرض الصوم والحج؛ لأن الصوم فُرض في السنة الثانية من الهجرة، وفرض الحج في السنة السادسة، وهو المشهور، وقيل: في التاسعة، وهو ضعيف (¬2). (¬3) قوله -عليه الصلاة والسلام-: "واتَّقِ دعوةَ المظلوم"، إلى آخره، الحجاب يقتضي: الاستقرار في المكان، والباري -تعالى- ¬
[منزه عن ذلك، إلَّا أنه] (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يخاطب العربَ بما تفهم، وإنما المراد: أنها مقبولة على كل حال، لا (¬2) أن للباري -تعالى- حجابًا يحجبه عن الناس. [ويحتمل عندي] (¬3) أن يراد هنا بالحجاب: الحجابُ المعنويُّ دون الحسي، والمعنى: أن المظلوم دعوته مقبولة، وإن كان عاصيًا مخلِّطًا، ولا يكون عصيانُه وتخليطه حاجبًا للإجابة، ومما يؤيد هذا الاحتمال: ما جاء في الصحيح: "أَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ"، الحديث (¬4)، فعلم أن المطعم الحرام، والمشربَ الحرام، ونحوَ ذلك، مما يمنع الإجابة، فأراد -صلى اللَّه عليه وسلم- أن دعوةَ المظلوم لا يمنعُها شيء؛ كما مَنَعَ المطعمُ والمشربُ الحرامُ من استجابة الدعاء؛ كما منع ذلك في حقِّ غير المظلوم، واللَّه أعلم. وهذا الحديث يشتمل على فوائد: منها: استحبابُ وصية الإمام لمن يُوَلِّيه. ومنها: تعظيمُ أمر الظلم، واستجابةُ (¬5) دعوة المظلوم، كما تقدم. ¬
ومنها: جوازُ الدعاء على الظالم بما يسوغ شرعًا. ومنها: أن أخذَ كرائم الأموال ظلم؛ لذكره -عليه الصلاة والسلام- عقبَ قوله: "وإياكَ وكرائمَ أموالهم". وفي الحديث: دليلٌ على العمل بخبر الواحد، واللَّه أعلم. * * *
الحديث الثاني
الحديث الثاني 166 - عَنْ أَبي سعيد الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: أَوَاقٍ في الحديث -بحذف الياء، مثل غَوَاشٍ-، كذا رويناه في هذا الكتاب، وفي بعض روايات مسلم (أَوَاقِيَّ) -بياء (¬1) مشددة-، وكلاهما صحيح. قال أهل اللغة: الأُوقِيَّةُ -بضم الهمزة وتشديد الياء-، وجمعها أَوَاقِيّ -بتشديد الياء وتخفيفها-، وأواقٍ، بحذفها. قال ابن السِّكِّيت: كلُّ ما كان من هذا النوع واحدُه مشدَّدٌ، جاء في جمعه التشديدُ، والتخفيفُ؛ كالأُوقية والأَواقِي، والسُّرِّيَّةِ والسَّرَارِي، والبُخْتِيَّة والبَخَاتي، والأُثْفِيَّة والأَثافي، ونظائرِها، وأنكر جمهورُهم أن ¬
يقال في الواحدة: وَقْيَّة، وجمعُها (¬1) وَقايا؛ كضَحِيَّة وضَحايا (¬2). قال أبو عبيد: هي اسمٌ لوزن مبلغُه أربعون درهمًا كَيْلًا، ودرهمُ الكيل زِنَتُه خمسون حَبَّةً، وخُمُسا حبةٍ، وسمي درهم الكيل؛ لأنه بتكييل عبد الملك بنِ مروان، أي: بتقديره وتحقيقه، وذلك أن الدراهم التي كان يتعامل الناس بها قديمًا نوعان: نوع عليه نقشُ فارس، والآخرُ عليه نقشُ الروم، أحدُ النوعين يقال لها: البَغْلِيَّة؛ وهي السود، الدرهمُ منها ثمانيةُ دوانقَ، والأخرى يقال لها: الطَّبَرِيَّة، وهي العتق، الدرهُم منها أربعةُ دوانق، فجاء الإسلام وهي كذلك، فكان الناس يتعاملون بها مجموعةً على النصف من هذه، والنصف من هذه عند الإطلاق، ما لم يعينوا أحدَ النوعين، وكذلك كانوا يؤدون الزكاة في أول الإسلام باعتبار مئة من هذه، ومئة من هذه في النصاب، ذكر هذا أبو عُبيد وغيره، فلما كان عبدُ الملك بن مروان، تحرَّجَ من نقوشها، وضرب الدرهمَ بنقش الإسلام بعد أن تَحَرَّى معاملَتهم الإطلاقية، فجمَع بين درهم بغليٍّ من ثمانية دوانق، وبين درهم طبريٍّ من أربعة دوانق، فكان اثني عشر دانقًا، فقسمها نصفين، فضرب الدرهم من نصفها، وهو ستة دوانق (¬3). ¬
وقد تقدم أن الدانق ثمانُ حبات وثلثُ حبة وثلثُ خمس حبة من الشعير المطلق، واتفق المسلمون على اعتبار درهم الكيل المذكور؛ لموافقته ما كان معتبرًا من عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإلى أن ضربت. والجمهور على أن نصاب الزكاة مئتا درهم من دراهم الكيل؛ وهي الخمس الأواقي المذكورة في الحديث، ولم يخالف في ذلك إلا مَنْ زعم أن أهل كل بلد يعتبرون النصاب بما يجري (¬1) عندهم من الدراهم؛ صَغُرت أو كَبُرت، وهو مذهب ابن حبيب، والصحيحُ ما ذهب إليه الجمهور، ويعضده قولُه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الوَزْنُ عَلَى وَزْنِ أَهْلِ مَكَّةَ"، وهو حديث صحيح (¬2)، وقد تقدم أن هذا المقدار المذكور هو الذي كان وزن أهل مكة في عصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد وَهِمَ من قال: إن (¬3) الدراهم كانت مجهولةَ القدر في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى زمان عبد الملك، وكيف ذلك وهو -عليه الصلاة والسلام- يوجب الزكاةَ في أعدادها، وبها تقع البياعات، وتنعقد الأنكحة (¬4)، والإجارات، وغير ذلك من المعاملات، وإنما معناه: أنها لم يكن منها شيءٌ من ضرب الإسلام، ¬
على ما تقدم تقريره. تتميم: لا بد أن تكون الأوقية أربعين درهمًا، خالصةً غيرَ مشوبة بغيرها، فإن كانت مغشوشة، أو بعضُها، لم تجب الزكاة حتى تبلغ مئتي درهم خالصة، هذا هو المشهور من مذهبنا. وقيل: يعتبر الأكثر، فيكون الأقلُّ تبعًا. قال القاضي عبد الوهاب: إلا أن يكون ما لا حكم له؛ كما يقول (¬1) أهل الصنعة: إنه لا يتأتى الضرب إلا به؛ كالدانق في العشرة وما أشبهه. قلت: ولو تصور أن يكون جودة، أو سِكَّة (¬2) تجبر ما نقصه الغشُّ، لم يعتبر باتفاق. تنبيه (¬3): وما حكاه الغزالي رحمه اللَّه عن مالك، من أن الزكاة تجب على مَنْ معه مئة وخمسون تساوي مئتين قراضة، ونقدُ البلد قراضة، فلا يعرفه أصحابه، ولا نقله أحدٌ منهم عنه، بل صرح المتأخرون منهم بنفيه، وقالوا: إنما رأوا في "الموطأ" أنها إذا نقصت، وكانت تجوز بجواز الوازنة، وجبت الزكاة، فظنوا النقصَ في المقدار، والجوازَ في الفضة؛ لأنها بارتفاع ثمنها تلحق بالوازنة، وهذا الذي ظنوه باطل قطعًا، وليس هو مراد أهل المذهب، وإنما مرادهم: أنها ناقصة نقصًا ¬
لا يتشاحُّ (¬1) الناس في مثله في العادة، واللَّه أعلم، فليعلمْ (¬2) ذلك. ولا يغتر (¬3) بما نقله الغزالي فيه؛ فإنه باطل قطعًا، واللَّه الموفق. ولم يذكر في هذا الحديث الذهب؛ لأن غالب تصرفهم كان بالوَرِق، وقد ذكر الذهب في غير هذا الحديث من غير "الصحيحين"، أو ما يدل عليه، وأظنه في "سنن أبي داود" (¬4)، واللَّه أعلم. ودينارُه أربعة وعشرون قيراطًا، والقيراطُ ثلاثُ حبات من وسط الشعير، فمجموعه اثنان وسبعون حبة، وهو مجمَع عليه، فإذا كان معه عشرون دينارًا، أو مئتا درهم على ما وصفنا، وجبت الزكاةُ فيها إجماعًا، إلا ما رُوي عن الحسن البصري، والزهري، من أنهما قالا: إنها لا تجب في أقل من أربعين مثقالًا، والأشهرُ عنهما الوجوبُ في عشرين، كما قاله الجمهور. ع: وعن بعض السلف: وجوبُ الزكاة في الذهب إذا بلغت قيمته (¬5) مئتي درهم، وإن كان دون عشرين مثقالًا، قال هذا ¬
القائل: ولا زكاة في العشرين حتى تكون قيمتها مئتي درهم (¬1)، واللَّه أعلم. الثاني قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا فيما دونَ خمسِ ذَوْدٍ صدقةٌ": الرواية المشهورةُ: إضافةُ خمس إلى ذود، كقولهم: خمسة أبعرة، وخمسة جمال، وخمس نوق، وخمس نسوة (¬2). قال سيبويه: تقول: ثلاثُ ذَوْد؛ لأن الذود مؤنثة، وليس باسم كُسِّر عليه مذكره. وقال أبو عبيد: الذود: ما بين ثنتين إلى تسع، قال: وهو مختص بالإناث. وقال الحربي (¬3): قال الأصمعي: الذود: ما بين الثلاث إلى العشر، والصُّبَّة: خمسٌ أو ستٌّ، والصَّرْمَة: ما بين العشر إلى العشرين، والعكرة: ما بين العشرين إلى الثلاثين، والهجمة: ما بين الستين إلى السبعين، والهُنَيْدَة (¬4): مئة، والخطر: نحو مئتين، والعرج: من خمس مئة إلى ألف (¬5). وقال أبو عبيد وغيره: الصرمة: من العشر إلى الأربعين. ¬
وقال غير الأصمعي: وهِنْدٌ -غير مصغر-: مئتان وإمامه ثلاث مئة. وأنكر ابن قتيبة أن يقال: خمس ذود؛ كما لا يقال: خمس ثوب، وغلطه العلماء؛ فإن هذا الحديث شائع في الحديث الصحيح، ومسموع عن (¬1) العرب، معروف في كتب اللغة، وليس هو جمعًا لمفرد، بخلاف الأثواب. قال أبو حاتم السجستاني: تركوا القياس في الجمع، فقالوا: خمسُ ذَوْدٍ لخمسِ من الإبل، وثلاثُ ذَوْدِ لثلاث من الإبل، وأربعُ ذود، وعشرُ ذود، على غير قياس، كما قالوا: ثلاثُ مئة، وأربعُ مئة، والقياس: مئين ومئات، ولا يكادون يقولونه. قال بعض المتأخرين من أصحابنا: وهذا صريح بأن الذود واحدٌ في لفظه. وقد ضبطه الجمهور: خمس ذود، ورواه بعضهم خمسة ذود، وكلاهما لرواة مسلم، والأول أشهر، وكلاهما صحيح في اللغة، فإثبات الهاء لانطلاقه على المذكر والمؤنث، ومن حذفها قال الداوودي: أراد أن الواحد منه فريضة (¬2). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة"، الأوسق جمع، وَسق -بفتح الواو، وهو المشهور- ¬
وكسرها، فعلى الأول يجمع على أفعل، كفلس وأفلس، وعلى الثاني يجمع على أفعال (¬1) كحمل وإحمال، قالوا: وأصله الحمل. قال شمر: كل شيء حملته، فقد وَسَقْته، يقال: ما أفعلُ كذا ما وسقت عيني الماء، أي: [حملت. وقال] (¬2) غيره: الوسقُ: ضَمُّكَ الشيء إلى الشيء، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17]؛ أي: جمعَ وضَمَّ، وذلك أن الليل يضم كل شيء (¬3)؛ واستوسق (¬4) الشيء: إذا اجتمع وكمل (¬5). وقيل: معنى وسق: علا، وذلك أن الليل يعلو كل شيء، وُيجلله (¬6)، ولا يمتنع منه شيء، ويقال للذي يجمع الإبل: واسِق، وللإبل نفسِها: وَسَقَة، وقد وسقتها فاستوسقتْ، أي: اجتمعتْ وانضمَّتْ. وقال الخطابي: الوَسْقُ: تمامُ حمل الدواب النقالة، وهو ستون صاعًا بصاع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والصاعُ خمسةُ أرطال وثلثٌ بالبغدادي (¬7). ¬
واختلف في الرطل البغدادي بعد الاتفاق على أنه اثنتا (¬1) عشرة أوقية، والأوقية هنا هي زنة عشرة دراهم، وثُلُثي درهم من دراهم الكيل، والأظهر: أنه مئة وثمانية وعشرون درهمًا، وأبيبعةُ أسباع درهم، وقيل: لا (¬2) أسباع، وقيل: مئة وثلاثون، فالأوسق: ألف وخمْس مئة رطل بالبغدادي. وهل ذلك تحرير أو تقريب؟ للشافعية في ذلك وجهان: أصحهما: أنه تقريب، فإن نقص عن ذلك يسيرًا، وجبت الزكاة. والثاني: أنه تحرير، فمتى نقص شيئًا -وإن قل-، لم تجب (¬3). وما أظنهم يختلفون في مثل الحبة والحبتين والحبات اليسيرة في الوجوب. ولم أر في مذهبنا خلافًا أن (¬4) النقصان إذا كان يسيرًا، لم يُسقط (¬5) الزكاة. واختُلف في اليسير، فقيل: ما لا يتسامح الناسُ (¬6) في العادة، ومنهم من فسره بالمقدار الذي تختلف فيه الموازين، وهذا عندهم ¬
بشرط جوازها بجواز الوازنة. قال الإمام أبو عبد اللَّه: فإن كثر النقص، وجرى مجرى الوازنة، ففي وجوب الزكاة فيه قولان: فمن اتبع مقتضى اللفظ والتحديد، أسقطها. ومن اتبع المقصودَ الذي هو الانتفاعُ بها، كالانتفاع بالوازنة، أوجب الزكاة (¬1). وحكي عن عمر بن عبد العزيز: أن نصاب الدراهم إن نقص ثلاثة دراهم، ونصاب الذهب إن نقص ثُلُثَ دينار، لم تسقط الزكاة، واللَّه أعلم. الرابع (¬2): ولقد أبعدَ غايةَ الأبعاد من قال: إن "دونَ" في هذا الحديث ونحوه، بمعنى: غير، وإنما معناه: أَقَلّ، وإلا، لزم أن لا تجب الزكاة فما زاد على الخمسة، ولم أعلم من يقول ذلك غيرُه، وهو باطل قطعًا، واللَّه الموفق. فائدة (¬3): قال الإمام أبو عبد اللَّه: قال بعض العلماء: إنه ظهر من حُسن ترتيب الشريعة التدريجُ في المأخوذ من المال يزكَّى بالجزء على حساب التعب فيه، فأعلى ما يؤخذ الخمسُ، فما وجد من أموال الجاهلية ¬
ولا تعبَ في ذلك، ثم ما فيه التعبُ من طرف واحد يؤخذ فيه نصف الخمس، وهو العُشْر فيما سَقَت السماءُ والعيون، وما سُقي بالنَّضْح، فكان (¬1) فيه التعبُ من الطرفين، يؤخذ فيه ربعُ الخمس، وهو نصفُ العُشر، وما فيه التعبُ في جميع الحول، كالعَيْن، يؤخذ فيه ثُمُنُ ذلك، وهو ربعُ العشر، فالمأخوذ إذًا: الخمسُ، ونصفُه، وربعُه، وثمنُه (¬2). قلت: ولا خلاف أن ما دون النُّصُب المحدودة بحدِّ الشارع لا زكاةَ فيه -على ما تقدم من الخلاف في النقصان اليسير-؛ كما يدل عليه نص الحديث، إلا ما نُقل عن أبي حنيفة: من (¬3) أنه يوجب في زكاة الحرث الزكاة مطلقًا، قليلًا كان أو كثيرًا، واحتج له بعموم قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ العُشْرِ" (¬4)، وهذا عامٌّ في القليل والكثير. وأجيب عن هذا: بأن المراد: بيانُ قدر المخرَج منه، وكأنه -واللَّه أعلم- نزعة ظاهرية. ¬
ع: وقال داود: كلُّ ما يدخله (¬1) الكيل، فيراعى فيه خمسة الأوسق، وما عداه؛ مما لا يوسق، ففي قليله وكثيره الزكاة. قلت: وعكسُ هذا ما نقل عن الحسن، والزهري: أن لا صدقةَ في أقلَّ من أربعين دينارًا، وإن كان الأشهرُ عنهما مذهب الجماعةَ، على (¬2) ما تقدم. ع: ورُوي عن بعض السلف: أن الذهبَ إذا كانت قيمتها مئتي درهم كان فيها الزكاة، وإن لم تبلغ عشرين دينارًا، وكذلك (¬3) لا زكاة في العشرين إلا أن تكون قيمتها مئتي درهم (¬4)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 167 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ" (¬1). وَفي لَفْظٍ: "إلا زَكَاةَ الفِطْرِ في الرَّقِيقِ" (¬2). ¬
قال العلماء: هذا الحديث أصلٌ في عدم زكاة عين العُروض، وقلنا: عين العروض، تحرزًا عن قيمتها إذا كانت للتجارة، ونفى الزكاةَ في عين الخيل والرقيق، ولم يخالف في ذلك أحدٌ على ما نقله ح إلا أبو حنيفة، وشيخُه حَمَّادُ بْنُ سلمة، وزُفَرُ، فأوجبوا في الخيل إذا كانت إناثًا، أو ذكورًا وإناثًا (¬1)، في كل فرس دينارًا، وإن شاء قَوَّمَها، وأخرج عن كل مئتي درهم خمسةَ دراهم، وعنه روايةٌ بتخصيص الزكاة بالإناث المحض. ح: وليس لهم حجة في ذلك، وهذا الحديث صريحٌ في الردِّ عليهم (¬2). ¬
ق (¬1): وقد استدل بهذا الحديث الظاهريةُ على عدم وجوب زكاة التجارة، وقيل: إنه قول قديم للشافعي رحمه اللَّه (¬2)، من حيث إن الحديث يقتضي عدمَ وجوب الزكاة في الخيل والعبيد مطلقًا. ويجيب (¬3) الجمهور عن استدلالهم بوجهين: أحدهما: القول بالموجب: فإن زكاة التجارة متعلقها القيمةُ لا العين، والحديث يدل على عدم التعلق بالعين، فإنها لو تعلقت بالعين من العبيد والخيل، لثبتت ما بقيت العينُ، وليس كذلك، فإنه لو نوى القُنية، لسقطت الزكاة، والعينُ باقيةٌ، وإنما الزكاة متعلقة بالقيمة؛ بشرط التجارة، وغير ذلك من الشروط. والثاني: أن الحديث عام في العبيد والخيل، فإذا أقاموا الدليل على وجوب زكاة التجارة، كان هذا الدليل أخصَّ من ذلك العام، فيقدَّم عليه. نعم، يحتاج إلى تحقيق إقامة الدليل على وجوب زكاة التجارة، وإنما المقصود هنا: بيانُ كيفية النظر بالنسبة إلى هذا الحديث، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِلَّا زَكَاةَ الفطرِ في الرقيق" ظاهرٌ في وجوب زكاة الفطر، وهو أشهرُ الروايتين عن مالك (¬4). ¬
مسألة: لا خلافَ في أن السيد تجب عليه الزكاةُ عن عبده المسلم، وأما الكافر، فالجمهورُ على عدم وجوبها عليه عنه، وكذلك القريبُ الكافرُ ممن تلزم نفقتُه، أو الزوجةُ الكافرة. وقال ابن المنذر: و [به قال] عطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: تجب عن عبده وقريبه الذميِّ، ودليلنا: قولُه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من المسلمين"، وهو في "الصحيحين" (¬1). تفصيل: إذا ثبت هذا، فالعبدُ إما مسلم، أو كافر، فالكافرُ لا تجب فُطرته، والمسلم إما أن يكون كلُّه رقيقًا، أو بعضُه، فإن كان كلُّه رقيقًا؛ فإما أن يكون لمالكٍ واحد، أو أَزْيَدَ، فإن كان لمالكٍ واحد، فظاهر، وإن كان لأزيدَ، فالمشهورُ: أن الفطرة على قدر الأجر (¬2)، لا على العدد، وإن كان بعضُه رقيقًا، فثلاثة أقوال: مشهورها: على السيد بقدر حصته، ولا شيء على العبد، وقيل: عليهما ما (¬3) بقدر الحرية والرقِّ، وقيل: على السيد الجميع. مسألة: لو اشترى يومَ الفطر عبدًا، فالمشهورُ الذي رجع إليه: أن زكاته على البائع، وأما المبيع بالخيار، والأمة تتواضع، فعلى البائع، والمبيع بيعًا فاسدًا، زكاتُه على المشتري، وأما العبد المخْدَمُ ¬
يرجع إلى حرية على مخدَمه، بفتح الدال. فإن كان يرجع إلى رق، ففي المذهب ثلاثة أقوال، يفرق (¬1) في الثالث بين طول الخدمة، فيكون على المخدَم أيضًا، أو لا يطول، فيكون (¬2) على المخدَم، وتجب على سيد المكاتَب على المشهور، وعلى الآبق المرجُوِّ، وعلى رب المال في عبيد القِراض، ولا يخرج من مال القراض. وقال أشهب: إذا بيعوا، نُظر إلى الفضل (¬3)، فإن كان ربعَ المال أو ثلثَه، فقد صار للعامل ثُمُنُ المال، أو سُدُسُه، إن كان القراض على النصف، فعليه من الزكاة بقدر ما صار له من العبيد؛ لأنه قد كان شريكًا يومئذ. قال ابن حبيب: فعلى قول أشهب تؤخذ الزكاةُ مما بِيَدِ المقارض، فإذا تفاصلا، نُظر إلى الربح، ثم تكون الزكاة على ما ذكر. قال ابن المَوَّاز: قولُ ابن القاسم في ذلك هو الصواب؛ لأن الزكاة هاهنا على الأبدان، لا على الأموال، والزكاةُ تجب قبل تمييز العاملِ حقَّه، ولا يصير له حتى يقضيه، ومنشأ الخلاف: النظرُ إلى العامل، هل ملك قبل إنضاض المال، أم لا؟ وقد أشار إلى ذلك ¬
أشهب، وابن المواز، واللَّه أعلم (¬1). وقول المصنف: وفي لفظ: "إلا زكاة الفطر في الرقيق" غيرُ متفق عليه، بل اختص به مسلم. رويناه بخفض الزكاة، وهو بعيدٌ، أو باطل، والوجه فيه: الرفعُ، على البدل من: صدقةٌ، ويجوز نصبه على الاستثناء، والأولُ أولى، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 168 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "العَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالبِئْرُ جُبَارٌ، وَالمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الخُمْسُ" (¬1). ¬
الجُبَارُ: الهَدَرُ الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ، وَالْعَجْمَاءُ: الدَّابَّةُ. * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: العجماء: البهيمة؛ كما قال المصنف. قال الجوهري: وإنما سُميت عجماءَ؛ لأنها لا تتكلم، فكل من لا يقدر على الكلام أصلًا فهو أعجم، مستعجم، والأعجم -أيضًا-: الذي لا يُفصح ولا يُبين كلامه، وإن كان من العرب، والمرأة عجماء، ومنه زيادٌ الأعجمُ الشاعرُ، والأعجم: الذي في لسانه عُجْمة، وإن أفصحَ بالعجمية، ورجلانِ أَعْجَمان، ورجالٌ أَعْجَمون، وأَعَاجِمُ، قال اللَّه تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} [الشعراء: 198] (¬1). والجُبَار: قد فسره المصنف. ونصُّ الحديث يقتضي أن جرحَ العجماء جبار، وظاهره: اختصاصُه (¬2) بالأبدان دونَ الأموال، وهو أقربُ إلى حقيقة الجرح. ¬
ع: أجمعوا على أن جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها، إذا لم يكن معها أحد، فإن كان معها راكب، أو سائق، أو قائد، فجمهورُ العلماء على ضمان ما أتلفت. وقال داود، وأهل الظاهر بعدم الضمان مطلقًا، إلا أن يحملها الذي هو معها على ذلك، أو يقصده (¬1). ق: وفيه حديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، يعني: قول الجمهور الثاني (¬2). البئر مؤنثة، والقليب: البئر قبل أن تطوى، يذكر ويؤنث (¬3). وقال أبو عبيد: هي البئر العادية القديمة. وجمعُ البئر في القلة: أَبْؤُر، وَأبْآر -بهمزة بعد الباء-، ومنهم من يقلب الهمزة، فيقول: آبار، وفي الكثرة: بِئَار (¬4). وأما المعدِن: فبكسر الدال، سمي بذلك، لعدنِ الناس فيه، وهو إقامتُهم صيفًا وشتاءً، يقال: أعدنْتُ البلدَ: إذا توطنته، وعَدَنَتِ الإبلُ بمكانِ (¬5) كذا: لَزِمَتْه، فلم تبرحْ منه، ومنه قوله -تعالى- {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72]؛ أي: جنات إقامة، ومركز كل شيء معدِنُه، والعادِنُ: ¬
الناقة المقيمة في الرَّعْي (¬1). ومعنى الحديث: أن يحفر الرجل بئرًا في مكان يسوغ له فيه الحفرُ، أو مَعْدِنًا، فيمر به مارٌّ، فيسقطُ فيه فيموتُ، أو يستأجرَ أجيرًا فيه، فيهلك بسبب العمل، أو يستأجر أجيرًا، فيحفر له بئرًا، أو معدنًا، فيقع عليه، فهذا كلُّه لا ضمان عليه فيه، ما لم يقصد الإهلاك، فيضمن، حتى لو حفر بئرًا لإهلاك لص، فهلك فيها، لَقُتِل (¬2)، أما لو فعل ذلك لا لقصدِ إهلاك، فإن كان فيما لا يجوز له، ضمنَ الديةَ، أو القيمة، وإن كان فيما يجوز، فإن قصد ضررًا، والسارق (¬3)، ضمن الديةَ دونَ القود؛ لأنه فعل في ملكه، وإلا، فلا ضمان عليه، وباللَّه التوفيق (¬4). الثالث قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وفي الركاز الخمس": الركاز: هو المركوز، كالكتاب بمعنى المكتوب، ومعناه في اللغة: الثبوت، ومنه: ركزَ رُمْحَه: إذا غَرَزَه، وأثبَتَه، ومركز الدائرة وسطُها، ومركزُ الرجل: موضعُه (¬5). ¬
وهو في الشرع: دفين الجاهلية، ويجب فيه الخمسُ، بلا خلاف عندنا. قال ابن المنذر: وبه قال جميع العلماء، قال: ولا أعلم أحدًا خالفَ فيه إلا الحسنُ البصري، فقال: إن وجد في أرض الحرب، ففيه الخمس، وإن وجد في أرض العرب، ففيه الزكاة. قلت: إذا ثبت هذا، فالنظرُ (¬1) في جنسه، وقدره، ومحله. فأما جنسه، فروي تخصيصُه بالنقدين عن مالك، وبه قال ابن القاسم، وابن المواز، وروي عنه -أيضًا (¬2) - تعميمُ الحكم في جميع ما يوجد فيه من النحاس، والرصاص، واللؤلؤ، والطيب، وغير ذلك، واختاره -أيضًا (¬3) - ابن القاسم، وبه قال مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع. وللشافعي -أيضًا- في ذلك قولان: جديدهما: اختصاصُه بالتقدير (¬4)، وظاهر الحديث يقتضي العموم. وأما قدره، فقال في "الكتاب": في العين يخمس، وإن كان يسيرًا، وفي "كتاب ابن سحنون": لا خمس فيه، والمذهبُ الأولُ. ¬
وأما محله: فله محالُّ أربعةٌ: الأول: أرضُ الحرب، فما وجد فيه، فهو للجيش الذي وصل واجده إليه بهم. الثاني: أرض العَنْوَة، فما وُجد فيها، فهو للجيش الذي افتتحوها، أو لورثتهم إن وُجدوا. قال سحنون: وإن لم يوجدوا، و (¬1) انقطع نسلُهم، كان كاللُّقَطَة، ويفرق في المساكين. وقال أشهب: إن عرف أنه لأهل العنوة، فهو لمن افتتح البلاد إن عُرفوا، وإلا، فهو لعامة المسلمين، وخمسُه في وجوه الخمس. الثالث: أرضُ الصلح. قال ابن القاسم، والمغيرة: ما وجد فيها، فهو لأهل الصلح دون واجده. قال القاضي أبو الوليد: وهذا إذا كان واجده من غير أهل الصلح، فإن كان منهم، فقد قال ابن القاسم: هو له، وقال غيره: بل هو لجملة أهل الصلح. وقال أشهب: إن علم أنه من أموال أهل الصلح، كان لهم، وكان حكمُه حكمَ اللقطة تُعَرَّف (¬2)؛ فمن ادعاها منهم، أقسم (¬3) ¬
على ذلك في كنيسته، وسُلمت إليه اللقطة، وإن علم أنها ليست من أموالهم، ولا من أموال من ورثوه، فهو لمن وجده، يُخرج خمسه. الرابع: فيافي المسلمين، وما وجد في فيافي العرب والصحارى التي لم تُفتح عنوة، ولا أسلمَ أهلُها عليها، فهو لمن وجده، ويخرج خمسه. وقال مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، وأصبغ: ما وجد من الركاز، فهو لواجده، وعليه فيه الخمسُ، كان في أرض العرب، أو أرض عنوة، أو أرض صلح. فرع: لو وُجد الركازُ في موضع جُهل حكمهُ، فقال سحنون في "العتبية": هو لمن أصابه، يريد: ويُخمسه (¬1). ولو وجده عبدٌ، أو ذمي، فقال المغيرة: في كل ما وجد من الركاز من العين وغيره الخمسُ، وجده حرٌّ، أو عبد، أو ذميٌّ، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، وقاله ابن نافع، وكذلك قال الشيخ أبو إسحاق: قال أصحابنا: وما لَفَظَه (¬2) البحرُ، ولم يتقدم عليه مِلْكُ أَحدٍ، فهو لواجده، ولا خمسَ فيه، وإن تقدم عليه ملكٌ لمعصومٍ، فهل يكون لواجده (¬3)؛ لأنه في حكم المستهلك، أم ¬
لمالكه؟ فيه خلاف (¬1)، وكذا ما تُرك بمضيعة في البر أو البحر، وعجز عنه ربُّه، وصُوِّرَ تاركًا له. وقال القاضي أبو بكر: إذا ترك الحيوانَ أهلُه بمضيعة، فقام عليه إنسانٌ حتى أحياه، ففيه روايتان. إحداهما: أنه له، وهو الصحيح؛ لأنه لو تركه لغيره بقوله، فقبضه، كان له، وكذلك إذا تركه بفعله. قال: أما لو كان بغير اختياره، كعطيب البحر، والسلب، فهو لصاحبه، وعليه لجالبه كِراءُ مُؤْنتِه. تعميم (¬2): ومصرفُ الخمس إلى الإمام العدل، وإلا، أخرجه واجدُه لمستحقيه. وأما المعدن، فيجب فيما تخرج منه الزكاة ما لم يكن نَدْرَة (¬3)، وهي التي لا يُتكلف فيها عمل، ففيها الخمس. وروى ابن نافع عن مالك: أنها كغيرها. وقيل: إن كانت يسيرة، فهي كغيرها، وإن كانت كثيرة، ففيها الخمس. الرابع: الحديث يدل بظاهره على عدم اشتراط الحول في الركاز، ¬
ولا أعلم فيه خلافًا، بل هو كالغنيمة، والمعشرات (¬1). واختلف قول الشافعي في اعتبار الحول في المعادن، والفرق بينهما: وجودُ التعب، وكلفةُ العمل في المعادن، فأشبهت زكاةَ الأرباح التي لا تُنال إلا بذلك، بخلاف الركاز، فإنه لا كُلفة فيه البتةَ، فالنماءُ فيه متكامل، وما تكاملَ فيه النماء، لا يُعتبر فيه الحول، فان الحول مدة مضروبة لتحصيل النماء، والنماءُ في الركاز متكامل -كما تقدم- بخلاف المعادن، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 169 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ, وَالْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ، فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، وَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ، فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا", ثُمَّ قَالَ: "يَا عُمَرُ! أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟ ". (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: بعث: معناه: أبيسل، وكذلك ابتعثَ، وقولهم: كنت في بَعْثِ فلان؛ أي: في الجيش الذي بعث معه (¬1)، والبُعوث: الجيوش (¬2). الثاني: قوله: "على الصدقة"، أي: الزكاة المفروضة، ويبعد أن يراد بها: صدقةُ التطوع، كما قاله ابن القصار من أصحابنا، لوجهين: أحدهما: أن المتبادَرَ إلى الذهن خلافُه، فلا يُعْدَل عنه. والثاني: أنه -عليه الصلاة والسلام- إنما كان يبعث في الزكاة المفروضة على ما نُقل. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما يَنْقِم ابنُ جميل"، ¬
يقال: نَقَم يَنْقِمُ؛ كضَرَبَ يَضْرِبُ، ومنه قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج: 8]، وقال الشاعر: مَا نَقَمَ النَّاسُ مِنْ أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا وَأَنَّهُمْ سَادَةُ المُلُوكِ وَلَا ... تَصْلُحُ (¬1) إِلَّا عَلَيْهِمُ العَرَبُ ويقال أيضًا: نَقِمَ يَنْقَمُ؛ مثل: عَلِمَ يَعْلَمُ (¬2)، وقد استعملَ هذه اللغة الحريري، فقال: ولا أَنْقَمُ، وَلَوْ لَدَغَنِي الأَرْقَمُ (¬3). واختلف في معناه، فقيل: يعيبُ، وقيل: ينكر، وقيل: يكره، وقد فسر قوله تعالى: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} [المائدة: 59] الآية: تَتَكَرَّهون، وتُنْكِرون (¬4)، فإن فسرناه بـ: "ينكر"، كان معناه: أنه لا عذَر له في المنع؛ إذ لم يحصل للمنع موجبٌ، إلا إغناءُ اللَّه عز وجل إياه، وذلك ليس بموجب للمنع، ولا موجب البتةَ، وهذا من وادي قوله: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِن قِرَاعِ الكَتَائِبِ (¬5) ¬
فيقصدون النفيَ على سبيل المبالغة في الإثبات، إذ المعنى (¬1): إن لم يكن لهم (¬2) عيبٌ إلا هذا، وهذا ليس يعيب، فلا عيبَ فيهم البتةَ، وكذلك المعنى هنا (¬3)، إذ (¬4) لم ينكرْ إلا كونَ اللَّه -تعالى- أغناه بعدَ فقره، فلم ينكر منكرًا أصلًا، فلا عذر له في المنع (¬5). وكذلك إن فسرناه بـ: "يكره"، أي: ما يكره إخراجَ الزكاة -على ما تقدم-. وأما تفسيره بـ: يحيب، ففيه عندي بُعدٌ، واللَّه أعلم. قيل: إن ابن جميل كان منافقًا أولًا، فمنع الزكاة، فأنزل اللَّه تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة: 74]، فقال: استتابني اللَّه، فتابَ، وصلحت حالُه. الرابع: الأعتاد: آلاتُ الحرب؛ من السلاح، والدوابِّ، وغيرِها، هكذا فسره أهل اللغة، والواحدُ عَتاد -بفتح العين- ويجمع -أيضًا- على أَعْتِدَة. ع: روي في غير كتاب مسلم: أعبده، وأَعتده -بالباء، والتاء-، واختلف فيه رواة البخاري، وهو جمعُ فرسٍ عَتْدٍ، وهو: الصلب، وقيل المُعدُّ للركوب، وقيل: السريعُ الوثب، ورجح بعضُهم هذه ¬
الرواية بأنه لم تجر العادة بتحبيس العبيد في سبيل اللَّه، وهذا جائز غيرُ ممتنع، بل قد وجد في العرب قبلُ، وقد ذكر ذلك في الغوث (¬1) بن مَرٍّ المسمى بصوفةَ، وبالربيط، وذلك أن أمه ربطتْ رأسَه بصوفةٍ، وجعلله ربيطَ الكعبة يخدمها، وقيل مثلُه في ابن (¬2) الأخرم (¬3). ح: ومعنى الحديث: أنهم طلبوا من خالد زكاةَ أَعتاده، ظنًا منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاةَ عليَّ، فقالوا للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن خالدًا منع الزكاة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: إِنَّكم تظلمونه، إنه قد حبسها ووَقَفها في سبيل اللَّه، قبل الحول عليها، فلا زكاة فيها. ويحتمل أن يكون المراد: لو وجبت عليه زكاة، لأعطاها، ولم يَشِحَّ بها؛ لأنه قد وقف أمواله للَّه تعالى متبرعا بها، فكيف يشح بواجب عليه؟! (¬4) ع: وقيل: يجوز أن يكون -عليه الصلاة والسلام- أجاز لخالد أن يحتسب ما حبسه من ذلك فيما يجب عليه من الزكاة؛ لأنه في سبيل اللَّه، ¬
فهو حجة لمالكٍ في جواز دفعِها لصنف واحد، وهو قول العلماء كافة؛ خلافًا للشافعي في وجوب قسمتها على الأصناف الثمانية، وعلى هذا يجوز إخراجُ القيم في الزكاة. وقد أدخل البخاريُّ هذا الحديثَ في باب: أخذ العرض (¬1) في الزكاة، فيدل أنه ذهبَ إلى هذا التأويل، ومذهبُ مالك، والشافعي: منعُ إخراج القيم في الزكاة (¬2)، وأبو حنيفة يُجيز ذلك، وذكره البغداديون عن المذهب أيضًا (¬3). ق: وأقول: هذا التأويلُ لا يزيل الإشكال؛ لأن ما حُبِسَ على جهة معينة، تَعَيَّنَ صرفُه إليها، واستحقَّه أهلُ تلك الصفة، مضافًا إلى جهة الحبس (¬4)، فإن كان قد طُلب من خالد زكاةُ ما حبسه، فكيف يمكن ذلك مع تعين ما حبسه لصرفه؟ وإن كان طُلب منه زكاةُ المال الذي لم يحبسه من العين والحرث والماشية، فكيف يحاسب بما وجبَ عليه في ذلك، وقد تعين صرف ذلك المحبَّسِ إلى جهته؟ قلت: وهذا إيراد صحيح لا ينازِعُ فيه منصفٌ. ثم قال ق: وأنا أقول: يحتمل أن يكون تحبيسُ خالدٍ لأدراعِه ¬
وأعتادِه في سبيل اللَّه: إرصادَه إياها لذلك، وعدمَ تصرفه بها في غير ذلك، وهذا النوع حبس، وإن لم يكن تحبيسًا، ولا يبعد أن يراد مثلُ ذلك بهذا اللفظ، ويكون قوله: "إنكم تظلمون خالدًا" مصروفًا إلى قولهم: منعَ خالدٌ؛ أي: تظلمونه في نسبته إلى منع الواجب، مع كونه صرفَ ماله إلى سبيل اللَّه، ويكون المعنى: أنه لم يقصد منعَ الواجب، ويُحمل منعُه على غير ذلك (¬1). قلت: فهذه ثلاثة تأويلات: تأويل ح: وهو ظنهم أنها عروض للتجارة، وأن الزكاة تعلَّقت بها، فحملها على أنه حبسها قبل الحول قبلَ وجوب الزكاة فيها، فكان (¬2) ذلك هو المسقطَ عنده. والثاني: تأويل ع: أنه أخرج العُروض قيمةً عما وجب في ماله من زكاة، وأنه صرف هذه (¬3) العروض في أحد مصارف الزكاة، وهو سبيل اللَّه. والثالث: تأويل ق: وهو أنه صرفَ لفظةَ (حبس) عن ظاهرها، إلى أنه حبس الأعيان عن تصرفه فيها لغير الجهاد في سبيل اللَّه، فإن قصد ق: أنها صارت حبسًا بغير لفظ الحبس، فالإشكالُ الذي قرره أولًا ¬
يعود، وإن أراد: أنه أرصده؛ كما صرَّحَ به، ويكون ملكُه باقيًا مستمرًا عليها، فالزكاة باقية في ذمة المالك، ولم يعلم ما جرى فيها فقد. . . (¬1) وطلبُ السعاةِ لزكاة العروض بعيدٌ، فقد ترجَّحَ تأويلُ ع، واللَّه أعلم. هذا كله إذا قلنا: إن الصدقة هي الزكاة، وهو الظاهرُ على ما تقدم. وإن قلنا: إنها صدقة التطوع، ارتفعَ الإشكالُ من أصله، ويكون المعنى: أنه -عليه الصلاة والسلام- اكتفى بما حبسه خالدٌ في سبيل اللَّه عن أخذ شيء آخرَ صدقةَ تطوعٍ، حتى يكون الطالبُ منه شيئًا آخرَ بعدَ تحبيسِه مالَه ظالمًا له على سبيل المبالغة والتوسُّع، واللَّه أعلم. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وأما العباس، فهي عليَّ ومثلُها" فيه: جوازُ التصريح باسم القريب؛ كما تقدم تقريرُه في حديث عبد اللَّه بنِ عمرَ حين أصابَ أرضًا بخيبرَ، الحديث. ودخلت الألف واللام على (عباس)، وإن كان عَلَمًا؛ لمحًا (¬2) لصفته قبل التسمية، على ما هو مقرر في كتب العربية. ¬
واختُلف في معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فهي عليَّ ومثلُها (¬1) ": فقيل: يحتمل أن يريدَ بقوله: "عليَّ"، أي: أُؤَدِّيها عنه، وهذا مناسب لقوله -عليه الصلاة والسلام- عقبَ ذلك: "إِنَّ العمَّ صِنْوُ الأبِ"، فإن كونَه صنوَ الأب يناسب التحمُّلَ عنه بما وجب عليه. وقيل: معنى قوله: "عليَّ"، أي: له زكاةُ عامين قَدَّمها. قال الإمام أبو عبد اللَّه: وهذا التأويلُ إنما يصحُّ على مَنْ رأى جوازَ تقدمةِ الزكاة قبلَ حلولها (¬2). ع: وقد روي في ذلك حديثٌ منصوص: "إِنَّا تَعَجَّلْنَا مِنْهُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ" (¬3)، وفي حديث آخر: أنه سأل النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك، فأذَن له (¬4)، وبه يحتج عامة الفقهاء: أبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي، وفقهاء أصحاب الحديث، ومَنْ وافقهم من السلف: على جواز تقديم الزكاة قبلَ حولها بالكثير، وتقديم زكاة عامين وأكثر. ¬
خلافًا لقول مالك، والليث، وهو قول عائشة، وابن سيرين: في أنها لا تجوز قبلَ وقتها، كالصلاة، وعن مالك خلاف مذكور: إن قرب، وتحديد القرب في كتبنا معلوم. وقد تأول بعض المالكية قوله -عليه الصلاة والسلام-: "تَعَجَّلْنَا مِنْهُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ" بمعنى: أوجبناها عليه، وضَمَّناها إياه، وتركناها عليه دَيْنًا. وقيل: بل كان تسلَّفَ منه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مالًا، لما احتاج إليه في السبيل، فقاصَّه بها عندَ الحول، وهذا ما لا يختلف فيه، وليس من التقديم في شيء (¬1). والوجه الأولُ أثبتُ هذه الأوجه وأظهرُها، واللَّه أعلم. وأما الصِّنْوُ: فهو المِثْلُ. قال أهل اللغة: هو أن تخرج نخلتانِ أو ثلاثٌ من أصل واحد، فكل واحدة منهنَّ صِنْوٌ، والاثنانِ صِنْوانِ، والجمع صِنْوانٌ، وأصناء (¬2): بأن يكون الأصلُ واحدًا فيه النخلتان والثلاثُ والأربعُ، ورَكِيَّتان صنوانِ: إذا [تقاربتا] ونبعتا من عين واحدة (¬3)، واللَّه أعلم. والمراد بالحديث: أن أصل الأب والعم واحد، فيتعين إكرامُه كما يتعين إكرامُ الأب، واللَّه أعلم. ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 170 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَسَمَ فِي النَّاسِ, وَفِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا (¬1) إذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ, فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهُدَاكُمْ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ، فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ (¬2) بِي، وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: "مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ "، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: "لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا، أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ, وَتَذْهَبُونَ بالنَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ, وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ" (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: (أفاء): أَفْعَلَ من الفَيْء، وهو الغنيمة، يتعدَّى إلى مفعولين: أحدهما: بنفسه، والآخر: بحرف الجر، نقول: أفاء اللَّه على المسلمين مالَ الكفار يُفيء إفاءة، واسْتَفَأْتُ هذا المالَ: أخذتُه فيئًا (¬1). وفي حديث سعدِ بنِ الربيع: فاستفاءَ (¬2) عَمُّهما مالَهما (¬3)؛ أي: أخذه كالفيء، والأصلُ في أفاء: أَفْيَأَ، فنُقلت فتحةُ الياء إلى الفاء، فتحركت الياء في الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفًا، فصار أفاء. وأصل الفيء في اللغة: الردُّ والرجوع، ومنه سُمي الظل بعدَ الزوال فيئًا، لرجوعه من جانب المغرب إلى جانب المشرق. ¬
وكأن الأموال التي بأيدي الكفار كانت بالأصالة للمؤمنين، إذ الإيمانُ هو الأصل، والكفرُ طارىءٌ عليه، فغلب الكفارُ على تلك الأموال، فإذا غنمَ المسلمون منها شيئًا، رجعت إلى كون من كان يملك أصلها. الثاني: غزوةُ حنين كانت في السنة الثامنة من الهجرة، وهي من غنائم هوازن، و (حنين) مذكر، ولذلك صُرف -على ما تقدم في أسماء البلدان-، ومفعولُ (قَسَمَ) محذوف، أي: قسمَ الأموالَ في الناس. الثالث: اختُلف في المؤلفة قلوبهم، من هم؟ فقيل: هم كفارٌ يُعْطَوْن ترغيبًا في الإسلام، وقيل: مسلمون ليتمكن إسلامُهم، وقيل: مسلمون لهم أتباعٌ كفارٌ ليتألفوهم. قال القرطبي في "مفهمه": واختلف في هذا العطاء الذي أعطاه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لهؤلاء المؤلفة قلوبهم، هل كان من الخُمس، أو من صُلْب الغنيمة؟ قال: والأحرى (¬1) على أصول الشريعة أن يكون من الخمس، ومنه أكثرُ عطاياه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد قال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَالِي مِمَّا (¬2) أفاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الخُمُسُ، وَالخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ" (¬3). ¬
والظاهرُ من مراجعةِ الأنصار، وقولِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلا ترضونَ أن يرجعَ الناسُ بالشاةِ والبعير، وترجعونَ برسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى رحالكم؟ " أنه: كان من صُلْب الغنيمة، وأن ذلك إنما كان لما يعلم من رضا أصحابه بذلك، ولطِيب قلوبهم به، و (¬1) يكون هذا مخصوصًا بتلك الواقعة، وله أن يفعل ما شاء في الأموال والرقاب، والأصلُ: التمسُّك بقواعد الشريعة على ما تقررت، واللَّه أعلم (¬2). قلت: وأما أخذُهم من الزكاة، فَبِنصِّ القرآن، وقد اختُلف هل لهم في هذا الوقت نصيبٌ، أم لا؟ والصحيحُ من مذهبنا: بقاءُ حكمهم إن احتيجَ إليهم. تقسيم: قال العلماء: المشركون أصناف، منهم من رجع إلى الإسلام بالمعجزة وظهور البرهان، ومنهم من رجع بالقهر والسنان، ومنهم من رجع بالعطاء والإحسان، وهم المؤلفة قلوبهم. الرابع: الأنصار: جمعٌ مفردُه نصير، كشَريف وأشراف، وأما جمعُ ناصرٍ، فَنَصْر؛ كصاحِب وصَحْب، هذا معنى كلام الجوهري (¬3). ولا يبعد عندي أن يجمع ناصر على أنصار، كشاهد وأشهاد، وصاحب وأصحاب، وإن كان جمع فاعِل على أَفْعال ليس بالكثير. ¬
الخامس: قوله: "فكأنهم وَجَدوا في أنفسهم": ق: تعبيرٌ حسنٌ كُسِيَ حُلَّةَ الأدبِ في الدلالة على ما كانَ في أنفسهم (¬1). قلت: (وَجَد) من الألفاظ المشتركة، يقال: وَجَد مطلوبه يَجِدُهُ وُجُودًا، وَيجُدُهُ -أيضًا بالضم- لغةُ عامر. قال أهل اللغة: لا نظيرَ لها في باب المثال، قال الشَاعر: لَوْ شِئْتِ قَدْ نَقَعَ الفؤَادُ بِشَرْبَةٍ ... تَدَعُ الصَّوَادِيَ لا يَجُدْنَ غَلِيلا ووجد ضالَّتَهُ وجْدَانًا -بالكسر-، وَوَجَدَ عليه في الغضب، مَوْجِدَة ووِجْدانًا -بالكسر أيضًا- ووَجَدَ في الحزن وَجْدًا -بالفتح-، ووجَد في المال وُجْدًا، ووَجْدًا، وجِدَةً، أي: استغنى (¬2). السادس: (معشر): مفردُ معَاشِر، وهي جماعاتُ الناس، وقد تقدم الكلام عليه بأبسطَ من هذا، والضُلَّال: جمعُ ضالّ، والضَّلالُ والضلالةُ: ضدُّ الرشاد والهدى، وهو هنا ضلالُ الإشراك والكفر، والهدايةُ هداية الإيمان، ولا مِرْية في أن نعمة الإيمان لا يُعادلها شيء من أمر الدنيا، ثم أتبع ذلك بالألفة، وهي أعظمُ من الأموال (¬3)، ¬
إذ تُبذل الأموالُ في تحصيلها، وهيهاتَ أن تحصُلَ، قال اللَّه تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63]. ق (¬1): وقد كانت الأنصار في غاية التباعد والتنافر، وجرت بينهم حروب قبل المبعث؛ منها: يوم بعاث. ثم أتبع ذلك نعمةَ الغنى والمال (¬2). ففي الحديث: دليل على إقامة الحجة على الخصم، وإفحامه بالحق، وأحسنَ الصحابةُ -رضي اللَّه عنهم- الأدبَ في جوابهم، وحُسْنِ خطابهم مع اعترافهم بالحق، وتركِ المماراة، لا جرم أعقَبهم اللَّه عز وجل من حُسن أدبهم شكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم، وثناءه عليهم، فسبحان مَنْ هداهم، وامتنَّ عليهم برؤيته وصحبته -صلى اللَّه عليه وسلم-. السابع: ما كُني عنه بكذا وكذا، وقد جاء مصرَّحًا به في رواية أخرى، ولكن أتى الراوي بالكناية المحصِّلَة للمقصود تأدبًا. الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو شئتم لقلتم جئتنا": هكذا هو منه -صلى اللَّه عليه وسلم- على طريق التواضع ولين الجانب، وإلا ففي الحقيقة الحجة البالغة، والمنة الظاهرة في جميع ذلك للَّه ولرسوله عليهم وعلى ¬
غيرهم، فإنه -تعالى- هو الذي أَهَّلَهم لمحبته، وأعانهم على نصر رسوله (¬1)، وسَمَّاهم أنصارًا، وناهيكَ نعمةً وافتخارًا. التاسع: قول -عليه الصلاة والسلام-: "ألا ترضون" إلى آخره تنبيهٌ على ما غفلوا عنه من عظيم ما حصل لهم، بالنسبة إلى ما أصاب غيرهم من عرض الدنيا، وأنه لا شيء بالنسبة إلى ما حصل لهم (¬2). العاشر (¬3): قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لولا الهجرةُ لكنت امرأً من الأنصار"، أي: أتسمَّى باسمهم، وأَنتسبُ إليهم، كما كانوا يتناسبون بالحِلْف، لكن خصوصية الهجرة ومرتبتَها سبقت وعَلَتْ، فهي أعلا وأشرفُ، فلا تُبدل بغيرها، ولا ينتفي منها مَنْ حصلت له، ففيه: إشارة عظيمة إلى فضيلة الأنصار -رضي اللَّه عنهم-. الحادي عشر (¬4): قوله -عليه الصلاة والسلام-: "الأنصارُ شعارٌ، والناسُ دِثار" من أحسن التشبيه، فإن الدثارَ ما كان من الثياب فوقَ الشعار، وهو الثوبُ الذي يلي الجسمَ، فاستعار ذلك، لفرط قربهم، وكأنه جعلَهم بطانتَه وخاصَّتَه، وأنهم ألصقُ به وأقربُ إليه من غيرهم. ¬
الثاني عشر (¬1): قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولو سلكَ الناسُ واديًا" إلى آخره، الوادي: مجرى الماء، ويُجمع على أَوْدِيَة، وقد تقدم أنه لا نظير له في كلامهم، وإن فاعِلًا لا يجمع على أَفْعِلَة، إلا في وادٍ وأَوْدِيَة. وأما الشِّعْبُ -بالكسر-: فهو الطريق بين الجبلين، و-بالفتح-: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي يُنسبون إليه، أي: يجمعهم ويضمهم، والشِّعْبُ -أيضًا-: ما تشعَّب من قبائل العرب على العجم (¬2). الثالث عشر (¬3): قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنكم ستَلْقَوْنَ بعدي أَثَرَة". قال صاحب "المفهم": روي عن العذري والطبري -وهي روايتنا-: أَثَرَة، بفتح الهمزة والثاء. قال أبو عبيد: أي: يُستأثر عليكم، فيُفضل غيرُكم نفسَه عليكم في الفيء. والأَثَرَةُ: اسم من آثَرَ يُؤثِر إيثارًا، قال الأعشى: اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالبَقَاءِ وَالعَدْل ... وَوَلَّى الملامَةَ الرَّجُلَا ¬
قال: وسمعت الأزهري يقول: الأَثَرَةُ: الاستئثار، والجمع: الأَثَر، وعند أبي بحر في هذا الحرف -بضم الهمزة وسكون الثاء-، وأصل الأثر: الفضلُ، قال أبو عبيد: يقال: له عليَّ أُثْرَة؛ أي: فضل، ومعناها قريب من الأولى، وقيده عليُّ بنُ الحسينِ بنِ سراجٍ بالوجهين (¬1). وفي هذا عَلَمٌ من أعلام النبوة؛ فإنه إخبار بما سيقع، وقد وقع على وَفْق ما أخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- وشَرَّفَ وكَرَّم. * * * ¬
باب صدقة الفطر
باب صدقة الفطر الحديث الأول (¬1) 171 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: فَرَضَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَدَقَةَ الفِطْرِ -أَوْ قَالَ: رَمَضَانَ- عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنثى، وَالحُرِّ وَالمَمْلُوكِ: صاعًا مِنْ تمرٍ (¬2)، أو صاعًا مِنْ شَعِيرٍ، قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صاعٍ مِنْ بُر عَلَى الصَّغِيرِ والْكَبِيرِ (¬3). ¬
وَفي لَفْظٍ: أَنْ تُؤَدَّى قَبلَ خُروجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: يقال: صدقة الفطر، وزكاة الفطر، ويقال للمُخْرَج: فِطْرة -بكسر الفاء لا غير-، وهي لفظة مولَّدة، لا عربية، ولا مُعَرَّبة، بل اصطلاحية للفقهاء، ونعني بالمعرَّبة: أن تكون الكلمة عجمية، فتتفوَّهُ بها العرب على منهاجها، وكأنها من الفِطْرة التي هي الخِلْقة؛ أي: زكاة الخِلْقة، واللَّه أعلم (¬1). الثاني: اختُلف في قوله: "فرض" هل هو بمعنى التقدير، أو بمعنى الإيجاب والإلزام؟ فمن قال: هو بمعنى التقدير، قال: صدقة الفطر سُنَّة. ومن قال بالثاني، قال: هي واجبةٌ فرضٌ. والقولان لمالك رحمه اللَّه تعالى، والمشهور منهما: وجوبُها، وإن كان بعض شيوخنا رحمه اللَّه كان يعتقد أن المشهور أنها سُنة. وبالوجوب قال الجمهور من الفقهاء. ¬
وقال أبو حنيفة: هي واجبة لا فرض، على أصله في الفرق بينهما. ونقل ع عن بعضهم: أنها منسوخة بالزكاة المفروضة (¬1). والصحيح: أنها ثابتة غير منسوخة، وغلط القائل بالنسخ. ثم اختلفوا: هل وجبت بالقرآن، أو بالسنة: فمن أوجبها بالقرآن، أدخلها تحت عموم قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وقد قيل: إن الإشارة بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]؛ أي: زكاة الفطر، وبقوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]؛ أي: صلاة العيد. وعن قيس بن سعد، قال: أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة، لم يأمرنا، ولم يَنْهَنا، ونحن نفعلُها، وكنا نصوم عاشوراءَ، فلما فُرض شهرُ رمضان، لم نؤمر، ولم نُنْه (¬2). قال العلماء: شرع رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صدقةَ الفطر لحكمتين: الأولى: أن تكون طُهرة لرَفَثِ الصوم، وقد قيل: إن الصيام يبقى موقوفًا لا يرتفع إلى اللَّه عز وجل -على معنى الرضا والقبول- (¬3) ¬
إلا بعد إخراجها. الثانية: إغناءُ الفقراء عن سؤال يومِ العيد، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "أَغْنُوهُمْ عنْ سُؤَالِ هَذَا اليَوْمِ" (¬1). وقد اختلف العلماء متى تجب؟ وفي مذهب مالك أربعة أقوال: فقيل (¬2): تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان. وقيل: بطلوع فجر يوم الفطر. وقيل: بطلوع شمسه. وقيل: إنها تجب وجوبًا موسَّعًا، من غروب الشمس آخرَ يوم من رمضان، إلى غروب الشمس يومَ الفطر. والمشهورُ منها الأولُ، وقد صح أنه -عليه الصلاة والسلام- أمر أن تُؤَدَّى قبلَ خروج الناس إلى المصلى، وهو المعمولُ عليه عندنا. وتظهر فائدةُ هذا الخلاف فيمن وُلد، أو أسلم، أو مات، أو بِيع من العبيد، فيما بين هذه الأزمان. واتفقوا على استحباب إخراجها بعد الفجر، قبل الغدوِّ إلى ¬
المصلَّى؛ ليتفرغ قلبُ الفقير في ذلك الوقت لما هو بصدده من الصلاة وغيرِها من العبادات، وهو سرُّ قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا اليَوْمِ"، واللَّه أعلم. وهل يجوزُ تقديمها بيوم، أو يومين، أو ثلاثة؟ في ذلك عندنا قولان: قال بعض متأخري أصحابنا: وأجمعت الأمة على أنه يؤمر بها الحر المسلم، العاقل، المالك للنصاب، الذي ليس من أهل العمود. قلت: ولا يشترط في إخراجها ملكُ النصاب؛ خلافًا لأبي حنيفة. وقال سفيان: مَنْ له خمسون درهمًا، فهو غني، ويتوجه عليه الأمرُ بهذه الزكاة، فإن كان له أقلُّ من خمسين، لم تجب عليه. وقال قوم من العلماء: لا يؤمر بها إلا غني، وهو من له أربعون درهمًا. قلت: ومشهورُ مذهبنا: وجوبُها على مَنْ عنده قوتُ يومه معَها. وقيل: إنما تجبَ على مَنْ لا يُجْحِفُ (¬1) به إخراجُها. وقيل: إنما تجب على مَنْ لا يحل له أخذُها (¬2). ¬
وقيل: إنما تجبُ على مَنْ لا يحل له أخذُ (¬1) الزكاة. ويجب عليه (¬2) إخراجها عمَّن تلزمُه نفقتُه من قريب، أو رقيق؛ كالأولاد، والآباء، والعبيد. وقد تقدم ذكرُ أحكام العبيد، وبيانُ مَنْ يلزمه إخراجُها عنه على التفصيل، مستوعبًا في حديث: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ في عَبْده وَفَرَسِهِ صَدَقَةٌ". فرع: لو كان لعبيده عبيدٌ، فهل يلزمُه إخراجُها عنهم؟ قال ابن بزيزة: اختلف الفقهاء في ذلك، والصحيحُ: لزومُ الإخراج عنهم؛ لأن الجميع ملكه. قلت: انظر: (¬3) "البيان والتقريب"؛ فإن فيه (¬4) غيرَ هذا؛ فإنه لم يذكر خلافًا في عدم لزوم إخراجِه عن عبيد عبيده، وهو مذهبُ الكتاب. واختُلف في وجوبها عليه عن زوجته، والمشهورُ: وجوبها عليه عنها، وعن خادمها أيضًا، و (¬5) إن كانت الزوجة مَليَّة، وكذلك زوجة أبيه الفقير، وخادمه. ¬
وأما عبدُه الغائب، فمذهبنا: وجوبها على سيده إن كانت الغيبة قريبةً مرجُوَّة. وقال الشافعي: لا تؤدَّى عنه مطلقًا؛ لما يتطرق إليه من الإغرار، واحتمال الحياة والموت، وهو أصلُه في منع بيع الغائب على الصفة. وقال قوم: يؤدي (¬1) عن عبده الغائب مطلقًا؛ لأن أصل المِلْك ثابت (¬2). فرع: قال ابن بزيزة: جمهورُ العلماء أوجبَ زكاة الفطر على الصغير. وهل يجبُ إخراجها عن الجنين في بطن أمه، أم لا؟ اختلف السلف في ذلك، فالجمهور: على أنها غيرُ واجبة عليه، ومن شواذِّ الأقوال أنها تُخرج عن الجنين، قال: وروينا عن عثمان بن عفان، وسليمان بن يسار: أنهما كانا يخرجانها عن الصغير، والكبير، والجنين. وقال قوم من سلف العلماء: إذا أكمل الجنينُ في البطن مئة وعشرين يومًا قبلَ انصداع الفجر، وجب إخراجُ زكاة الفطر عنه، وإنما خص المئة والعشرين؛ اعتمادًا على حديث عبد اللَّه بن مسعود، قال: حدثنا الصادقُ المصدوق: "أنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ في ¬
بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا"، الحديث (¬1). الثالث: قوله: "على الذكرِ والأنثى، والحرِّ والمملوك": ظاهره: وجوبها على هؤلاء المذكورين دونَ مَنْ تلزمه (¬2) عنهم، ولم أر في مذهبنا نقلًا صريحًا في ذلك، وإن كان صاحب "البيان والتقريب" قد قال: إن مقتضى المذهب: أن أصل وجوبها على السيد، وإنما رأيته في كتب الشافعية، وهو أن الفقهاء اختلفوا في أن الذين تُخْرَج عنهم هذه الزكاةُ، هل باشروا الوجوب أولًا، ثم انتقل عنهم إلى المخرِج عنهم بطريق التحمُّل، أم الوجوبُ يلاقي المخرجَ أولًا؟ قالوا: وفائدة هذا الخلاف تظهر فيما لو تطوع المؤدَّى عنه وأخرج بغير إذن المؤدِّي، فقال الشيخ أبو إسحاق في "المهذب": إن قلنا: إنها تجب على المؤدِّي (¬3) ابتداءً، لم تُجزه؛ كما لو أخرج زكاةَ مالِه عنه بغير إذنه، وإن قلنا: بتحمل (¬4)، جاز، لأنه؛ أخرج (¬5) ما وجبَ ¬
عليه، واللَّه أعلم (¬1). الرابع: قوله: "صاعًا": قد تقدم أن الصاع خمسةُ أرطال وثُلُثٌ بالبغدادي، وأنه أربعةُ أمداد بمدِّ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد قال صاحب "الشامل" من الشافعية، وغيره: الأصلُ فيه الكيل، وإنما قدره العلماء بالوزن استظهارًا. ح: قد يستشكل ضبطُ الصاعِ بالأرطالِ؛ فإنَّ الصاعَ المخرَج به في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مكيال معروف، ويختلف قدرُه وَزنًا باختلافِ ما يوضع فيه؛ كالذرة، والحِمِّصِ، وغيرهما؛ فإن أوزان هذه مختلفة، وقد تكلم جماعات من العلماء في هذه المسألة، وأحسنُهم فيها كلامًا الإمام أبو الفرج الدارمي من أصحابنا، فإنه صنف فيها مسألة مستقلة، وكان كثيرَ الاعتناء بتحقيق أمثالِ هذا. قال: ومختصر كلامه: أن الصواب: أن الاعتمادَ في ذلك على الكيل دون الوزن، وأن الواجب إخراجُ صاعٍ مُعَايَرًا بالصاع الذي كان يُخْرَج به في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذلك الصاعُ موجود، ومن لم يجده، وجبَ عليه الاستظهار؛ بأن يخرج ما يتيقَّن أنه لا ينتقص عنه، وعلى هذا، فالتقدير بخمسة أرطال وثلثٍ تقريبٌ، هذا كلام الدارمي، وذكر البندنيجيُّ (¬2) نحوه. ¬
وقال جماعة من العلماء: الصاعُ أربعُ حَفَنات بكفي رجلٍ معتدل الكفين. ونقل الحافظ عبد الحق في كتابه "الأحكام" عن ابن حزم: أنه قال: وجدنا أهلَ المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مُدَّ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، الذي تؤدَّى به الصدقات، ليس أكثرَ من رِطْل ونصف، ولا دونَ رطلٍ وربع، وقال بعضهم: هو رطل وثلث، قال: وليس هذا اختلافًا، ولكنه على حسب رزانة المكيل من البُرِّ والتمر والشعير، قال: وصاع ابن أبي ذؤيب خمسةُ أرطال وثلثٌ، وهو صاع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). قلت: وقد اجتمع عندي أربعةُ مكاييل، يدَّعي كلُّ واحد من أصحابها أنه حرره على مُدِّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنه لا تحريرَ بعده، فوجدت الأربعةَ متباينة جدًا، فلم يبق سوى التقريب والاستظهار دون التحقيق، واللَّه أعلم. وقد خالف أبو حنيفة في ذلك، فقال: الصاعُ ثمانية أرطال. واستدل مالك رحمه اللَّه بنقل الخلف عن السلف بالمدينة. ق: وهذا استدلالٌ صحيح قوي في مثل هذا، ولما ناظر أبا يوسف بحضرة الرشيد في هذه المسألة، رجع أبو يوسف إلى قوله لما استدل ¬
بما ذكرناه (¬1). الخامس: قوله: "صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير": (مِنْ) فيه لبيان الجنس للمخْرَج. ع: اختُلف في النوع المخرَج، فأجمعوا على أنه يجوز البُرُّ، والزبيبُ، والتمرُ، والشعيرُ، إلَّا خلافًا في البُرِّ لمن لا يُعتد به، وخلافا في الزبيب (¬2) لبعض المتأخرين، وكلاهما مسبوق بالإجماع، ومردودٌ قولُه به، وأما الأَقِطُ، فأجازهُ مالكٌ، والجمهورُ، ومنعه الحسنُ، واختلفَ فيه قولُ الشافعي. وقال أشهب: لا يخرج إلا هذه الخمسة، وقاس مالكٌ على الخمسة كلَّ ما هو عيشُ أهلِ كلِّ بلدٍ من القطاني وغيرِها. وعن مالكٍ قول آخر: إنه لا يجزىء غيرُ المنصوص في الحديث، وما في معناه. ولم يُجِزْ عامةُ العلماء إخراجَ القيمة، وأجازها أبو حنيفة (¬3). السادس: قوله: "فعدل الناسُ به نصفَ صاع، إلى آخره": هو مذهب أبي حنيفة في البُرِّ، وأنه يخرج نصفَ صاع. ¬
وقيل: إن الذي عدل إلى ذلك معاويةُ بنُ أبي سفيان، وسيأتي الكلام على ذلك في الحديث الآتي بعدَ هذا، واللَّه أعلم. * * *
الحديث الثاني
الحديث الثاني 172 - عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَنِ النِّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ، وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ، قَالَ: أَرَى مُدًّا مِنْ هَذِهِ يَعْدِلُ مُدَّيْنِ، قَالَ أبو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا، فَلا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُه (¬1) (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: (صاعا) منصوبٌ على أحدِ وجهين: أحدهما: البدل من الهاء والألف في (نعطيها) (¬1)؛ إذ هما ضمير الصدقة. والثاني: على الحال، ويكون صاعًا بمعنى مَكِيلًا ونحوه. فيه دليل: على أن أهل الحجاز يخصون الطعام بالبر؛ كما هو منقول عنهم. الثاني: (الأَقِط)، فيه لغتان: فتح الهمزة وكسر القاف، وهو المعروف المشهور. والثانية: إِقْط؛ مثل: عِدْل، نُقلت حركةُ القاف (¬2) ¬
إلى الهمزة بعدَ حذف فتحتها (¬1)، واللَّه أعلم. الثالث: (السمراء): الحنطة الشامية، وهي حنطة سمراء، وهي خلاف المحمولة، وهي البيضاء. الرابع: قولُ معاوية: أرى مدًا من هذا يعدل مدين: ح: هذا الحديث هو الذي يعتمده أبو حنيفة وموافقوه في جواز نصف صاع حنطة، والجمهور يجيبون عنه بأنه قول صحابي، وقد خالفه أبو سعيد وغيره، وهو (¬2) أطولُ صحبةً، وأعلم بأحوال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإذا اختلف الصحابة، لم يكن قولُ (¬3) بعضِهم أولى من بعض، فيرجعُ إلى دليل آخر، ووجدنا ظواهر الأحاديث والقياس متفقةً على اشتراطِ الصَّاعِ من الحنطةِ كغيرها؛ فوجب اعتمادُه، وقد صرح معاوية: بأنه رأيٌ (¬4) رآه، لا أنه سمعه من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولو كان عندَ أحد من حاضري مجلسه (¬5) -مع كثرتهم- من تلك الحنطة علمٌ في موافقة معاويةَ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، لذكره كما جرى في غير هذه القصة، واللَّه أعلم (¬6). ¬
قلت: أما قوله: إن أبا سعيدٍ خالفَ معاوية، ففيه نظر؛ إذ ليس فيه تصريحٌ بالمخالفة، بل يحتمل أن يكون اختار أن لا ينقصَ شيئًا مما كان يُخرجه، وأن نصفَ صاع عنده من البر يجزىء، ولكن تورَّعَ، واحتاط، وطابت نفسُه بجريه على عادته، لا أنه خالفَ معاوية فيما رآه، واللَّه أعلم. * * *
كتاب الصيام
كِتْابُ الصِّيِامِ
[باب]
الحديث الأول 173 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَومِ يومٍ (¬1) وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ" (¬2). ¬
ينبغي أن نقدم أمامَ الحديث مقدمةَ تتعلق بكتاب الصيام، يحصل الغرضُ منها في أربعة أطراف، ثم نعود إلى تتبُّع ألفاظ الحديث. الطرف الأول: في حقيقة الصيام لغةً وشرعًا، وهو في اللغة: الإمساكُ والكَفُّ، يقال: صام الرجلُ: إذا وقفَ عن السير، وصامَ النهار: إذا وقف سيرُ الشمس، وصام الرجلُ: إذا سكت عن الكلام، ومنه قوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]، وقال الشاعر: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا (¬1) وأما معناه في الشرع: فإمساك عن شهوتي البطن والفَرْج بِنِيَّةٍ قبلَ الفجر، أو معه، إلى غروب الشمس، فإن كان ذلك في زمن الحيض أو النفاس، أو يومي العيد، سمي صومًا فاسدًا، ويدل عليه: أنه -عليه الصلاة والسلام- نهى عن صيام يوم الفطر، فسماه صيامًا، وكذلك ¬
نقول (¬1): صلاةُ أيام الحيض حرامٌ، فنسميها (¬2) صلاة. وأما تفصيلُ القولِ في شهوتي البطن والفرج، وبيانِ المفسد وغير المفسد، والنية وحقيقتها، ووقتها، فمبسوطٌ في كتب الفقه. الطرف الثاني: في أركانه، وله ركنان: الركن الأول: النية، والركن الثاني: الإمساك. الركن الأول: النية: فلا يصح إلا بها، سواء كان الصوم رمضان، أو نذرًا، أو كفارة، أو تطوعًا، وهو قول أكثر الفقهاء، وحكي عن زُفَرَ: أن الصوم إذا كان معينًا على المكلف؛ بأن يكون مقيمًا صحيحًا، لا يفتقر إلى نية، وحكي ذلك عن مجاهد، وعطاء، وهو قول عبد الملك ابن الماجشون من أصحابنا، وهذا مردود بما رواه النسائي، وأبو داود، عن حفصة: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ، فَلا صِيَامَ لَهُ" (¬3)؛ ولأن القضاء يفتقر إلى النية، فكذلك الأداء؛ كالصلاة. الركن الثاني: الإمساكُ عن المفطرات، وهي: الجماعُ، والاستمناء، ¬
والاستقاء، على خلاف (¬1) فيه خاصة، ودخولُ الداخل؛ وهو كل عين يمكن الاحتراز منها يتصل من الظاهر إلى المعدة، أو إلى الحلق، من منفذٍ واسعٍ؛ كالفم، والأنف، والأذن، وفي إلحاق الحقنة بالمائعات كذلك (¬2) خلاف، وكذلك في إلحاق غير المغذي من ذلك، أو القصر عليه، وذلك مبسوطٌ في كتب الفقه، وإنما المقصود هنا: التمهيدُ دونَ التفاصيل. الطرف الثالث: في أحكام الصيام، وتردُ عليه الأحكام الأربعة: الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة. فالواجب منه: شهر رمضان، وقضاؤه، والكفارة، والنذر. والمندوب منه: على وجهين: أحدهما: ما بلغ مبلغَ الفضيلةِ المرغَّبِ فيها بتأكيد الندبِ إليه، والوعد بالثواب عليه؛ كصيام يوم عرفة، ويوم التروية، وأيام العشر، وعاشوراء، وتاسوعاء، والأشهر الحرم، وشعبان، وأيام (¬3) البيض، وثلاثة أيام من كل شهر، على ما في بعض ذلك من الخلاف المذكور في كتب الفقه. والثاني: مندوبٌ مطلقًا غير متأكد، وهو صيام بقية أيام العمر غير الأيام المنهيِّ عن صيامها. ¬
والمحرم منه: يومُ الفطر، ويومُ النحر، واليومان بعدَه يليانه على المشهور. والمكروه: صيامُ الرابع من أيام التشريق، ويوم الشك؛ على خلاف فيه. وأما رمضان، فهو قاعدة الإسلام في الصيام، ووجُوبه معلومٌ من الدين ضرورة، وجاحدُه كجاحد الصلاة، وأدلته على الجملة: الكتاب، والسنة، والإجماع. فالكتاب: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] الآيةَ (¬1)، ثم بينه -تعالى-، فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، ثم بين وجوبَه فقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. وأما السنة: فما رواه البخاري، والنسائي عن طلحةَ بنِ عبد اللَّه: أن أعرابيًا جاء إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثائرَ الرأس، فسأله عَمَّا فرضَ اللَّه من الصيامِ، فقال: "شَهْرُ رَمَضَانَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا"، فذكر الحديث (¬2). وما رواه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أنه -عليه الصلاة والسلام- لما سُئل عن الإسلام، فقال: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَ (¬3) لَا تُشْرِكَ بِهِ ¬
شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ"، الحديث (¬1). وأجمعت الأمةُ قاطبةً على وجوبِ صوم (¬2) شهر رمضان على كل مسلمٍ، بالغٍ، حاضرٍ، مطيقٍ. فصل (¬3): اختُلف في سبب تسميته رمضانَ؛ فقيل: إنه كان يوافقُ زمانَ الحرِّ والقَيْظ (¬4)، مشتقٌّ من الرَّمْضاء، وهي الحجارة الحارَّة؛ لأن الجاهلية كانت تكبسُ في كل ثلاثِ سنينَ شهرًا، فيجعلون المحرَّمَ صفرًا؛ حتى لا تختلفَ شهورُها في الحر والبرد، وذلك هو النَّسيءُ الذي حَرَّمَ اللَّهُ تعالى، وكذا ربيع في زمان الربيع، وجُمادى في جُمود الماء، فلما حُرِّمَ النسيء، اختلفت الشهورُ في ذلك. وروى أنس، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه قال: "إِنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانَ؛ لأنَّهُ مُحْرِقٌ الذُّنُوبَ" (¬5)، فيحتمل أن يُقال: أراد بذلك: أنه شُرِعَ صومُه دون غيره ليوافق معناهُ اسمَه. ¬
فصل: اختُلف في ابتداء فرضِ الصيام، فقيل: إن أولَ ما فُرض صومُ عاشوراء، وقيل: لم يكن فرضًا، وإنما كان تطوعًا. قال ابن الصباغ من الشافعية: وهذا هو الظاهر في الرواية. وحكي عن معاذ بن جبل: أنه قال: لما قدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينةَ، أمر بصيام ثلاثةِ أيام من كل شهر، وذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183]، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] إلى قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. قال بعض المتأخرين من أصحابنا: وفي إطلاق لفظِ النسخ هنا، وأنه مأخوذٌ من هذه الآية تَجَوُّزٌ؛ لأنه لم يقل فيها: لا تصوموا إلا شهر رمضان، بل ظاهر الآية على هذا النقل: إيجابُ ثلاثة أيام من كل شهر، وإيجابُ صوم شهرِ رمضانِ (¬1)، وإنما المراد: أنه فُهم عند نزول هذه الآية بدليل (¬2) آخر، أن لا واجبَ إلا رمضان. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المراد بقوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]: شهرُ رمضان، وهذا هو الظاهر؛ لما في قوله ¬
تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] من الإطلاق والإبهام، فخصص، وبيَّن بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185]، فتكون الآية على هذا منسوخة. قيل: أولُ ما فُرض الصومُ، كان المطيقُ مخيرًا بين أن يصوم، أو يفتديَ، والصومُ أفضلُ، وذلك بيِّن في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} إلى {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]، ثم نُسخ التخيير بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. الطرف الرابع: في (¬1) شروط صحة الصيام، وسننه. أما شروط صحته: فأربعة؛ ثلاثة في الصائم، وهي: العقل، والإسلام، والنقاء من الحيض والنفاس. فعدمُ الإسلام يمنع الصحةَ، وكذلك زوالُ العقل، والجنونُ، وأما استتارهُ بالنوم، فلا يمنع الصحةَ، وفي الإغماء تفصيلٌ، تلخيصه: إن أُغمي عليه قبل الفجر إلى الغروب، فالقضاء اتفاقًا، وإن كان بعد الفجر، ودامَ يسيرًا، فلا قضاء، وإن كان قبلَ الفجر، وزال بعده بيسير، أو بعد الفجر، ودام نصفَ النهار أو أكثرَه (¬2)، فخلافٌ عندنا، واللَّه أعلم (¬3). ¬
الشرط الرابع: الوقتٌ القابل للصوم، وهو جميع الأيام، ويُستثنى من ذلك الأيامُ المنهيُّ عن صيامها؛ كما تقدم. وأما سُننه ومُستحباته، فخمس: الأولى: تعجيلُ الفطر عندَ اعتقاد الغروب، فإن أراد الوصالَ، فحكى اللخمي قولين في جوازِه ونفيِه، ثم اختار جوازَه إلى السحر، وكراهتَه إلى الليلة القابلة (¬1)؛ لما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، قال: قال: النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ" (¬2). قلت: وبه قال ابنُ وهب من أصحاب مالك، وإسحاق، وابنُ حنبل. وسبب هذا الخلاف: قولُهُ -عليه الصلاة والسلام-: "أَنْهَاكُمْ عَنْ الوِصَالِ" (¬3)، هل هذا النهيُ على التحريم، أو الكراهة؟ لأنه -عليه الصلاة والسلام- واصلَ بأصحابه بعد أن نهاهم، فلم ينتهوا. ¬
ثم إذا حملناه على الكراهة، فإنما هي لأجل ما يلحق من المشقة والضعف، فإذا أمن من ذلك، فهل يجوز، أم تُسَدُّ الذريعةُ فلا يجوز؟ خلاف أيضًا. وأما من خصَّه بالسحر، فلأن أكلةَ السحر يؤمَنُ معها الضعفُ والمشقة التي لأجلها كُره الوصال، واللَّه أعلم. والثانية: تأخيرُ السحور؛ لقوله في الأثر المروي في "الموطأ": وتعجيلُ الفطر، والاستيناء (¬1) بالسحور (¬2). وإنما ذلك للتخفيف على الصائم، ورفع المشقة عنه. والثالثة: كفُّ اللسانِ عن الهذيان، وأن ينزه صيامَه عن اللفظ القبيح، والمشاتمة، فإن شوتم، فليقل: إني صائم؛ للحديث المشهور (¬3)، ولما روى أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدع طَعَامَه (¬4) وَشَرَابَهُ" (¬5). ¬
قلت: وهذا الشرطُ لا مفهوم له، إذ الباري عز وجل غيرُ محتاج على الإطلاق، فليتنبه (¬1) لذلك. فإن شاتم، لم يُفطر. وقال الأوزاعي: يفطر؛ لنهي النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عنه، ودليلُنا: أنه كلامٌ لا يخرج به عن الإسلام، فلا يفطر كسائر أنواع الكلام، والنهيُ ليس عن الصوم، وإنما هو عن الكلام، فلا يدل على فساد الصوم. الرابعة: تركُ السواك بالعودِ الرَّطْب الذي يخرج له طعمٌ في الفم، وأما بالجوزة المحمرة، فحرام. الخامسة: تركُ المبالغة في المضمضة والاستنشاق. وهذا تمام المقدمةِ الموعودِ بها، فلنرجع إلى تتبع الحديث، وباللَّه التوفيق. * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تَقَدَّموا": أصلُه: لا تتقدَّموا بتاءين، فحذفت إحداهما تخفيفًا، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} [البقرة: 267] الآية، وفي الحديث الآخر: "لا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا (¬2) " (¬3)، وأمثالُ ذلك. ¬
تنبيه: شرطُ جوازِ الحذف في مثل هذا تماثلُ الحركتين (¬1)؛ كما هو هنا، فإن اختلفتا، لم يجز الحذف، لو قلت: تُتَغافر الذنوب، وتُتَعَّلم الحكمة، ونحو ذلك، لم يجز الحذف؛ لاختلاف الحركتين، فليعلمْ ذلك. قال الإمام المازري: محملُه على من صام تعظيمًا للشهر، واستقبالًا (¬2) له بذلك، فأما إن صيم يومُ الشك على جهة التطوع، ففيه اختلاف، وذلك إذا لم يكن عادته صومَ ذلك اليوم، أو نذره، وأما صومُه للاحتياط؛ خوفًا أن يكون من رمضان، فالمشهورُ عندنا: النهيُ عنه، وأوجبَهُ بعضُ العلماء في الغيم (¬3). قلت: وجهُ المشهورِ: سدُّ الذريعة، وقد وقع لأهل الكتابَيْنِ من الزيادة في أيام الصوم حتى أَنْهَوْا ذلك إلى ستين يومًا؛ كما هو المنقولُ عنهم، فمحملُ النهي على ما يخاف من الزيادة، فإن أُمن ذلك، جازَ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِلَّا رَجُلًا كان يصوم صومًا، فَلْيصمه"، وبدليل قول عائشة -رضي اللَّه عنها-: كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يصوم شعبان كله إلا قليلًا (¬4). ¬
الثاني: فيه: دليل على أنه يُقال: رمضان، من غير ذِكْر الشهر، بلا كراهة. ح: وفي هذه المسألة مذاهب. قالت طائفة: لا يقالُ: رمضان -على انفراده- بحال، وإنما يقال: شهر رمضان، قال: وهذا قول أصحاب مالك، وزعم هؤلاء أن رمضان اسمٌ من أسماء اللَّه تعالى، فلا يطلق على غيره إلا بقيد. وقال أكثر أصحابنا، وابن الباقلاني: إن (¬1) كان هناك قرينةٌ تصرفه إلى الشهر، فلا كراهةَ، وإلَّا فيكره، قالوا: فيقال (¬2): صُمنا رمضان، وقُمنا رمضان، ورمضانُ أفضلُ الأشهر، ويندب طلبُ ليلة القدر في أواخرِ رمضانَ، وأشباه ذلك، ولا كراهة في هذا كله، وإنما يكره أن يقال: جاء رمضان، [ودخل رمضان]، وحضر رمضان، وأحبُّ رمضان، ونحو ذلك. والمذهب الثالث: مذهب البخاري والمحققين: أنه لا كراهةَ في إطلاق رمضانَ بقرينة وبغير قرينة، وهذا المذهبُ هو الصواب، والمذهبان الأولان فاسدان؛ لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت فيه نهيٌ، وقولهم: إنه اسمٌ من أسماء اللَّه تعالى، ليس بصحيح، ولم يصحَّ فيه شيء، وإن كان قد جاء فيه أثرٌ ضعيف، وأسماءُ اللَّه تعالى توقيفيةٌ، لا تُطلق إلا بدليل صحيح، ولو ثبت أنه ¬
اسم، لم يلزم منه كراهةٌ، وهذا الحديث المذكور في الباب صريحٌ في الردِّ على المذهبين، انتهى كلامه (¬1). قلت: المؤاخذة عليه رحمه اللَّه تعالى في هذا الفصل في مواضع: الأول: إقدامُه على إفسادِ قولِ هذا الجمِّ الغفير من الأئمة، والتعبير بهذا اللفظ الغليظ الشنيع، مع إمكان حصول مقصودِه بلفظ يُشعر بالأدب معهم؛ مثل: فيه نظر، وانظر هذا، ونحو ذلك؛ كما هو عادة العلماء الراسخين -رضي اللَّه عنهم-. الموضع الثاني: قوله: لم يثبت فيه نهي، فهو نافٍ، وهم مُثْبِتون، وحاشا دينَ أقلِّهم أن يَدَّعي إثباتَ شيء مع علمه بأنه غير ثابت، فإن قال: وهموا كلهم، قلنا: وأنت -أيضًا- غير معصوم من ذلك، فليس قولك أولى من قولهم، بل عند التعارض هم المرجَّحون بلا نزاع، سلمنا أنه لم يرد فيه نهي، أليس للعلماء تنزيل الأحكام الشرعية على وَفْق ما تقتضيه قواعدُ الشريعة؛ كما هو معلوم من دأبهم وعادتهم؟ الموضع الثالث: قوله: وقولُهم: إنه اسم من أسماء اللَّه، ليس بصحيح، هو أيضًا من العبارة الغليظة الشنيعة، والنفي المعارض للإثبات، مع اختلاف الناس في عدة أسماء اللَّه تعالى اختلافًا مشهورًا، حتى قيل: إن بعض الناس بلغها إلى مئة وخمسين اسمًا، وإن بعضهم ¬
بلغها إلى ألف اسم، وأما قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ للَّهِ تِسْعَةً وتسعِينَ اسْمًا"، الحديث (¬1)، فليس فيه دليل على أنه -تعالى- ليس له أسماءٌ غيرُها، بل ليس فيه إلا إثباتُ هذه الأسماء المحصورة بهذا العدد، لا نفيُ ما عداها، قالوا: وإنما وقع التخصيصُ بالذكر لهذه الأسماء دونَ غيرها؛ لأنها أشهر أسمائه عز وجل وأثبتُها، وأظهرُها. قال الخطابي: وجملة قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ للَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا، دَخَلَ الجَنَّةَ"، قضية واحدة، لا قضيتان (¬2)، ويكون تمام المراد في هذا الخبر في قوله: "مَنْ أَحْصَاهَا، دَخَلَ الجَنَّة"، لا في قوله: "تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا"، وإنما هو بمنزلة قولك: إن لزيد ألفَ درهم أعدها للصدقة؛ وكقولك: إن لعمرو مئةَ ثوب، من زارَه، خلعها عليه، وهذا لا يدل على أنه ليس عنده من الدراهم أكثرُ من ألف درهم، ولا من الثياب أكثرُ من مئة ثوب، وإنما دلالته: أن الذي أعدَّه زيد من الدراهم للصدقة ألفُ درهم، وأن الذي أرصده عمرو من الثياب للخلع مئةُ ثوب. قال: والذي يدل على صحة هذا التأويل: حديثُ عبد اللَّه بن مسعود، وقد ذكره محمدُ بنُ إسحاق في المأثور: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان ¬
يدعو: "اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ (¬1) عَبْدِكَ، نَاصِيَتي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْل فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِيْ كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِيْ عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ"، الحديث (¬2)، فهذا يدل على أن للَّه تعالى أسماءً لم يُنزلها في كتابه، حَجَبَها عن خلقه، ولم يظهرها لهم، انتهى كلام الخطابي. وفيه: دلالة ظاهرة على اختصاص بعض الناس ببعض أسمائه -تعالى-؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا منْ خَلْقِكَ"، فلا ينبغي، أو لا يجوز أن يجزم بأنه ليس له -تعالى- من الأسماء إلا هذه التسعة والتسعون، واللَّه الموفق. الموضع الرابع: قوله: ولو ثبت أنه اسم، لم يلزم منه كراهة، وهذا ممنوع، فإن ذلك يؤدي إلى الإبهام والاشتراك، وقد منع -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُكنى بكنيته؛ خوفًا مما ذكرنا، فهذا أولى. ثم إن هذا الذي قال إنه يرد قولَ المتقدمين، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ"، الحديث (¬3)، ¬
غيرُ عارٍ عن القرينة الدالة على أن المقصود به الشهر، ولا يتبادر (¬1) الذهن إلى غير ذلك (¬2)، فلا يردّ على من قال: إنه لا يطلق رمضان إلا بقرينة، وهو عندي أظهرُ (¬3) المذاهب الثلاثة، واللَّه أعلم. الوجه الثالث من الكلام على الحديث: فيه ردٌّ صريح على الروافض الذين يرون تقدم (¬4) الصومِ على الرؤية؛ فإن رمضان اسمٌ لما بين الهلالين، وصيام يوم قبلَه تقديمٌ (¬5) عليه، ويرد عليهم (¬6) -أيضًا- قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" (¬7)، فاللام هنا للتأقيت، لا للتعليل؛ كما زعمت الروافضُ، ولو سلمنا لهم كونَها للتعليل، لما لزم من ذلك تقدمُ الصوم على الرؤية، ألا تراك تقول: أكرم زيدًا لدخوله، فلا يقتضي تقدمَ الإكرام على الدخول، وغير ذلك من الأمثلة. ¬
ق: وحملُه على التأقيت لابد فيه من احتمال تجوز وخروج عن الحقيقة؛ لأن وقت الرؤية وهو الليل لا يكون محلًا للصوم (¬1). قلت: إذا حملنا: "صوموا" على انووا الصيامَ، لم يكن فيه تجوز البتةَ، واللَّه أعلم؛ إذ الليل كله ظرفٌ لإيقاع نية الصوم فيه. الرابع: الظاهر من الحديث: كراهةُ إنشاء الصوم قبلَ رمضان بيوم أو يومين، لا تحريمه، واللَّه أعلم. وأما من كانت له عادة، فوافقت ما قبل رمضان بيوم أو يومين معينين، أو متوقفين على غرض صحيح؛ مثل قوله: للَّه عليَّ أن أصومَ يومَ قدوم فلان، ونحو ذلك، فوافق ذلك ما قبل رمضان بذلك القدر، فهذا ونحوُه لا كراهة فيه؛ فإن ذلك داخل تحت قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِلَّا رجلًا كانَ يصومُ صوما فليصُمْه" (¬2)، وكذلك من كان يسردُ الصومَ، وأما المنهيُّ عنه: إنشاءُ صوم يوم أو يومين على طريق الاحتياط لرمضان، وأما صومُ يومِ الشَّكِ تطوعًا على غير الشك، فقد تقدم ذكرُ الاختلاف فيه، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 174 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا رَأَيْتُمُوهُ، فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ، فَأفْطِرُوا، فَإِنْ غمَّ عَلَيْكُمْ، فَاقْدُرُوا لَهُ" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا رأيتموه" هو من الضمير الذي يفسره سياق الكلام؛ كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، و {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات: 4]، وقد تقدم مثلُه؛ أي: إذا رأيتم الهلال، وقد جاء في بعض روايات مسلم: "حَتَّى تَرَوُا الهِلَالَ" (¬1) مصرَّحًا به. قال أهل اللغة: ويقال: هِلال من أولِ ليلةٍ إلى الثانية، ثم يقال: قَمَرٌ بعدَ ذلك (¬2). الثاني: قوله: "فصوموا"؛ أي: بَيِّتوا الصيام؛ لأن الليل ليس محلًّا للصوم، كما تقدم. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإن غُمَّ عليكم، ¬
فاقدُروا له": جمهور العلماء على أن "اقدروا له" بمعنى: أكملوا العددَ ثلاثين، وجاء ذلك مصرَّحًا به في الرواية الأخرى: "فَأَكْمِلُوا العَدَدَ ثَلَاثِينَ" (¬1)، وذهب مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللَّه بنِ الشِّخِّير إلى أن معنى "اقدروا له": احسبوا له بحساب المنجِّمين، قال ابن سيرين: وليته لم يقل ذلك، وإن كان من كبار التابعين، بل من المخضرمين، واستدل مطرف بقوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، ورد: بأن المرادَ (¬2): الاهتداء في طريق البحر والبر، وقالوا أيضًا: لو كان التكليف يتوقف على حساب التنجيم؛ لضاق الأمر فيه؛ إذ لا يعرف ذلك إلا القليلُ من الناس، والشرعُ مبني على ما يعلمه الجماهير، وأيضًا: فإن الأقاليم على رأيهم مختلفة، ويصح أن يُرى في إقليم دون إقليم، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الصوم عندَ أهلها، مع كون الصائمين منهم لا يعدلون غالبًا (¬3) على طريق مقطوع به، ولا يلزم قومًا ما ثبت عند قوم على تفصيل يأتي. وأيضًا: لو كان حساب المنجمين معتبرًا في ذلك، لبينه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للناس (¬4) كما بين لهم أوقات الصلوات وغيرها، واللَّه أعلم. وحكى ابنُ سريج عن الشافعي مثلَ قولِ مطرِّفٍ، والمعروف من ¬
مذهب الشافعي الموجودِ في كتبه خلافُ هذا. ق: والذي أقولُ به: إن الحساب لا يجوز أن يُعتمد عليه في الصوم؛ لمفارقة (¬1) القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدُّم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو يومين؛ فإن ذلك إحداثٌ لم يشرَعْه اللَّه تعالى، وأما إذا دل الحسابُ على أن الهلال قد طلعَ من الأفق على وجه يُرى لولا وجودُ المانع؛ كالغيم مثلًا، فهذا يقتضي الوجوبَ؛ لوجود السبب الشرعي، وليس (¬2) حقيقة الرؤية المشترطة في اللزوم؛ لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بكمال العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان، وجب عليه الصوم، وإن لم يرَ الهلال، ولا أخبره مَنْ رآه (¬3). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا (¬4) رأيتموه": ليس المراد: أن يراه كلُّ فرد فرد ولا بُدَّ، وإنما المراد: ثبوتُ الرؤية الشرعية، ولا خلافَ أعلمُه أنها تحصُل بشهادة شاهدين عدلين، إلا عند أبي حنيفة، فله تفصيلٌ يأتي. واختُلف في شهادة العدل الواحد، هل يثبت بها الصوم، أم لا؟ ¬
مذهبنا: لا يثبت إلا بشهادة عدلين مَرْضيين إن كان ثَمَّ مَعْنيون (¬1) بالشريعة، وإلا، كفى الخبر. نعم، لو رآه واحد، لزمه دون غيره؛ لظاهر هذا الحديث، وكذلك إذا انفرد برؤية هلال (¬2) شوال، أفطر سرًا، لكن يجب عليه رفعُ شهادته للحاكم إن كان ممن تُقبل شهادتُه؛ رجاءَ أن ينضاف إليه غيرُه، فيثبت الحكم، وقيل: يرفع، وإن كان لا يرجى قبولُ شهادته؛ لجواز حصول الاستفاضة، وإذا رُئي الهلالُ ببلد، لزم غيرَهم الصومُ بذلك، والقضاء إن فات من غير تفصيل. وروي: إن كان ثبتَ بأمر شائع، فالحكم كذلك، وإن كان ثبتَ بشهادة شاهدين عند حاكم، لم يلزم من خرج عن ولايته، إلا أن يكون أميرَ المؤمنين، فيلزم أيضًا جماعتَهم. قال الإمام المازري: والفرقُ بين الخليفة وغيره: أن سائر البلدان (¬3) لما كانت بحكمه (¬4)، فهي كبلد (¬5) واحد، ويحتج للزوم (¬6) الصوم من جهة القياس -يعني: على القول الآخر-: بأنه كما يلزم الرجوعُ إلى قول بعض أهل المصر، فكذلك يرجع أهلُ مصرٍ إلى أهل مصرٍ؛ إذ ¬
العِلَّةُ حصولُ الخبر بذلك (¬1). وقد اختلف قولُ الشافعي في ذلك -أعني: في ثبوت الصوم بشهادة واحد-، ففي "البويطي": لا يُقبل إلا من عَدْلَين. وقال في القديم والجديد: يقبل من عدل واحد، وهو الصحيح، إلا أنهم قالوا: إذا قلنا: يثبت بقولِ واحدٍ، فإنما ذلك في الصوم خاصة، فأما في الطلاق، والعتق، وغيرهما مما عُلِّق على رمضان، فلا يقع به، بلا خلاف. قالوا: وكذلك للدين (¬2) المؤجَّل، ولا تنقضي العدة، ولا يتم حولُ الزكاة، والجزية، والدية المؤجَّلة، وغير ذلك من الآجال؛ بلا خلاف، بل لابدَّ في كل ما سوى الصوم من شهادة رجلين عدلين، كامِلَي العدالة ظاهرًا وباطنًا. وممن صرح بهذا: المتولي، والبغوي، والرافعي، وآخرون (¬3). وقال أبو حنيفة: إن كانت السماء مُصْحِيَة، فإنه لا يثبتُ إلا بشهادة جمع كثير يقع العلمُ بخبرهم، وإن كانت السماء بها علةٌ من غيم، قبل الإمامُ شهادةَ العدلِ الواحد، رجلًا كان أو امرأة، حرًا كان أو عبدًا. ¬
وعن أحمد روايتان: أظهرهما (¬1): أنه تقبل (¬2) شهادة عدل واحد، والأخرى: لابد من عدلين؛ كمذهبنا، واللَّه أعلم (¬3). الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإن غُمَّ عليكم": معناه: إن حال بينكم وبينه غيمٌ، يقال: غُمَّ، وأُغْمِيَ، وغُمِّيَ، وغُمِيَ -بتشديد الميم وتخفيفها، والغينُ مضمومة فيهما-، ويقال: غَبِيَ -بفتح الغين وكسر الباء-، وكلها صحيحة، وقد غامَتِ السماء، وغَمَّتْ، وأَغامَتْ، وتَغَيَّمَتْ، وأَغَمَّتْ، كلها بمعنى، واللَّه أعلم. وقيل: معنى هذه الألفاظ مأخوذة من إغماء المريض، يقال: غُمِيَ عليه، وأُغْمِي عليه، والرباعي أفصح. ع: وقد يصح أن يرجع إلى إغماء السماء والسحاب، وقد يكون -أيضًا- من التغطية، ومنه قولهم: غَمَمْتُ الشيءَ: إذا سترته، والغَمَى -مقصور-: ما سقفت به البيت من شيء، ووقع في حديث محمد بن سلام الجُمحي في الكتاب هذا الحرف، عند القاضي الشهيد: عَمِيَ -بالعين المهملة والميم المخففة-، وكذا حدثنا به -أيضًا- الخشني عن الطبري، ومعناه: خفي، يقال: عَمِي عليَّ الخبرُ؛ أي: خفي، وقيل: هو من العَماء، وهو السحابُ الرقيق، وقيل: السحاب المرتفع؛ أي: دخل في العَماءِ، أو يكون من العَمَى -المقصور-، وهو عدم ¬
الرؤية، واللَّه أعلم. السادس: الحديثُ دليلٌ على أحمدَ بنِ حنبلٍ القائلِ بوجوب صومِ يومِ الشكِّ احتياطًا، وإن صح أنه من رمضان، أجزأَه. ع: وروي صومُه عن عائشة، وأسماء، وابن عمر، وطاوس. وقال الأوزاعي، والكوفيون: إن صامه، وتبين أنه من رمضان، أجزأَه، وجمهورهم: لا يصومه، ولا يُجزيه إن صامه. وكان بعض الصحابة يأمر بالفصل ما بين رمضان وشعبان بفطر يوم أو يومين. وكره محمدُ بنُ مسلمةَ (¬1) -من أصحابنا- تحريَ ذلك آخرَ يوم؛ كما يُكره تحرِّي صومه، واللَّه أعلم (¬2). قلت (¬3): وقد قيل: إن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- بنى على تحوُّلِ النية، وقد قال ابن مسعود: لأَنْ أُفطر يومًا من رمضانَ، ثم أَقضيه، أحبُّ إليَّ من أن أزيدَ فيه. وقال حذيفة: كان نبينا ينهانا عن صيام اليوم الذي يُشك (¬4) فيه. وصح عن عمر بن الخطاب، وعليِّ بن أبي طالب، وابن عباس، وأنسٍ، وحذيفةَ، وأبي هريرة، وعمرَ بنِ عبد العزيز، والنخعيِّ، ¬
والشعبيِّ، وعِكْرِمة، وابنِ جُبير، ومحمدِ بنِ سيرينَ، النهيُ عن صيام يوم الشك. وفي "الترمذي"، عن عمار بن ياسر، قال: مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فيه، فقد عَصى أَبَا القاسِم -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). واختلف أصحابنا: هل يُصام يومُ الشك تطوعًا، أم لا؟ على ثلاثة أقوال، الفرقُ في الثالث باختصاصِ صومِ مَنْ عادتُه سردُ الصوم دونَ غيره، وكذلك يصومُه عندنا مَنْ نَذَرَه (¬2)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 175 - عَنْ أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ في السُّحُورِ بَرَكَةً" (¬1). * * * ¬
"السحور" -بفتح السين-: ما يتسحَّرُ به، كالبَرُود، وهو ما يُتَبَرَّدُ به، والسَّنُون، وهو ما يُسْتَنُّ به، والرَّقُوءُ، وهو ما يُرْقَأُ به الدمُ، والسُّحور -بضم السين-: الفعل، هذا هو الأشهر. والبركة: النماءُ (¬1) والزيادة، وكأنه سمي باسم زمنه؛ لأنه يُفعل في السحر قُبيل الفجر، والأمر به أمرُ إرشاد لا إيجاب، وهذه (¬2) البركة المعلل بها السحور يجوز أن تكون أُخروية؛ لأن فيها إقامة السنة، وإقامةُ السنة موجبةٌ للثواب وزيادة وثمرته، ومن جملة بركة السحور: ما يكون في ذلك الوقت من ذِكْر المتسحرين للَّه تعالى، أو (¬3) قيامِ القائمين، وصلاةِ المتهجدين؛ فإن الغالب ممن قام يتسحَّر أن يكون منه ذكرٌ ودعاء، وصلاةٌ واستغفار، وغيرُ ذلك مما يُفعل في رمضان. ويحتمل أن تكون دنيويةً، لقوة البدن التي (¬4) يخاف مع تركه (¬5) سقوطُها مع (¬6) الصوم، وقد يحتمل أن البركة مجموعُ الأمرين، واللَّه أعلم (¬7). ¬
والسحور مما اختصَّت به هذه الأمة -زادها اللَّه شرفًا-، ومما خُفِّف به عنهم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "فَضْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ أكلَةُ السَّحَرِ" (¬1) -بفتح الهمزة من أَكْلَة-، وهي مصدر أكلَ أكلةً؛ كضربَ (¬2) ضربةً، والمراد بها: أكلُ ذلك الوقت، وقد رُوي بضم الهمزة، وفيه بُعد؛ لأن الأكلة -بالضم-: هي اللقمة الواحدة، وليس المراد أن المتسحر لا يأكل إلا لقمة واحدة إلا على طريق المجاز والتوسع؛ كما يقال: تعالَ بنا نأكلْ لقمةً، والمراد: غَدْوَةٌ، أو عَشْوَةٌ، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 176 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ زيدِ بْنِ ثَابتٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ أَنَسٌ: قُلْتُ لِزَيْدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً (¬1). ¬
فيه: استحبابُ السحور؛ كما تقدم، واستحبابُ تأخيره إلى قبيل الفجر. وفيه: حسنُ الأدب في العبارة، وذلك قولُه: مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنه لو قال: تسحرنا نحن ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحو ذلك، لم يكن مثلَ قوله: مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنه يعطي التبعيةَ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والكونَ معه، وفي ذراه (¬1)، بخلاف الأول. وفيه: الحرص على طلب العلم، وتحرير المسائل، لقول أنس: كم كان بين الأذان والسحور؟ وقول زيد: قدر خمسين آية؛ أي: قدر قراءة خمسين آية. وفيه: استحباب الاجتماع على السحور، وقد يختلف باختلاف الحال، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 177 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-، وَأُمِّ سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ (¬1). * * * الجمهورُ على صحة صومِ مَنْ أصبحَ جُنبًا، لهذا الحديث، ولقوله ¬
تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]؛ فإنه يقتضي جواز الوطء ما دام الليل إلى آخر جزء منه، ومن ضرورة من وطىءَ في آخر جزء منه أن يصبح جنبًا. وقال عروةُ بنُ الزبير، والحسنُ البصريُّ، وطاوسٌ، وعطاءٌ، وسالمُ بنُ عبدِ اللَّه بنِ عمرَ بنِ الخطاب: إن صيام الجنب باطلٌ، وإنه إذا علم بجنابته، ثم لم يغتسل حتى أصبح، وجب عليه صومُ ذلك اليوم، وقضاءُ يومٍ مكانه. وقال النخعي: أما التطوع، فلا يقضيه، وصومُ الجنب فيه صحيح، وأما الصوم المفروض، فيُمِمُّ صومَه، ويقضي يومًا مكانه. وقال هشام بن عروة: من أدركه الصومُ جنبًا عامدًا لذلك (¬1)، فهو آثم، وليبدلْ يومًا مكانه، وإن كان غيرَ متعمد، صح صومُه، ولا قضاء عليه. واختلف في ذلك عن أبي هريرة. وكذلك اختلفوا في الحائض يدركُها الفجر قبلَ الغُسل، فقالت طائفة: إنها تقضي ذلك اليوم، وبه قال ابنُ الماجشون من أصحابنا، إذا قدرت على الغُسل قبل طلوع الفجر، وخرَّج النسائي عن أبي هريرة: أنه قال: لا وربِّ هذه! ما أنا قلتُ (¬2): من أدركه الصبحُ وهو جنبٌ فلا ¬
يصوم، محمدٌ وربِّ الكعبة! قالَهُ (¬1). وخرَّج النسائي -أيضًا- من حديث عبدِ اللَّه بنِ عبدِ اللَّه بنِ عمرَ: أنه احتلم ليلًا في رمضان، فاستيقظ قبلَ أن يطلع الفجرُ، ثم نام قبل أن يغتسل، فلم يستيقظ حتى أصبحَ، قال: فلقيتُ أبا هريرة حين أصبحتُ، فاستفتيتهُ في ذلك، فقال: أفطرْ؛ فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يأمر بالفطر إذا أصبح الرجل جنبًا، قال عبدُ اللَّه بنُ عبدِ اللَّه بنِ عمرَ بنِ الخطاب: فجئت عبدَ اللَّه بنَ عمر، فذكرتُ له الذي أفتاني به أبو هريرة، فقال: أقسمُ عليكَ لئن أفطرتَ، لأُوجعَنَّك ضربًا، فإن بدا لك أن تصوم يومًا آخر، فافعل (¬2). قال ابن عبد البر في "التمهيد": روي عن أبي هريرة: أنه رجع عن هذه الفتيا إلى ما كان -عليه الصلاة والسلام- من حديث عائشة، ومَنْ تابعها (¬3). وقيل: إن ذلك كان في أول الإسلام، ثم نسخ، وكانوا إذا ناموا، حَرُمَ عليهم الجماعُ، فلما نسُخ ذلك، نُسخ ما تعلق به، واللَّه أعلم. قال ابن المنذر: نسخ ذلك، ولم يعلَمْه (¬4) أبو هريرة، فكان يفتي بما ¬
علمَه، فلما بلغه الناسخُ، رجع إليه، وقال: هذا أحسنُ ما سمعتُ فيه (¬1). وقولهما (¬2): من أهله؛ أي: من جماعِ أهله، فحُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه، وفي رواية: "مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ" (¬3). قال بعض متأخري أصحابنا: ربما يُفهم منه: أنه كان يحتلم، وقد قيل: إنه لم يحتلم، ولم يتثاءب قَطُّ؛ لأن ذلك من الشيطان، وهو -عليه الصلاة والسلام- معصوم. قال غيره: وقد اختُلف هل يجوز الاحتلامُ على الأنبياء، أم لا؟ والأشهرُ: امتناعه، وباللَّه التوفيق. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 178 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ" (¬1). ¬
الواو في "وَهُوَ صَائِمٌ"، واو الحال؛ أي (¬1): نسيَ في حال صومه، فأكل أو شرب، وإنما خص الأكلَ والشرب من بين سائر المفطرات؛ لأنها أغلبُها وقوعًا، وأنهما (¬2) لا يُستغنى عنهما؛ بخلاف غيرهما، ولأن نسيان الجماع نادرٌ بالنسبة إلى ذلك، والتخصيصُ (¬3) بالغالب لا يقتضي مفهومًا (¬4)، فلا يدل ذلك على نفي الحكم عما عداه، أو لأنه من باب تعليق الحكم باللقب، وقد عرفت في الأصول: أنه لم يقل به غيرُ الدقَّاق، وظاهرُ الحديث: عدمُ القضاء على مَنْ أكل ناسيًا في نهار صومه، وقد اختلف في ذلك: فذهب مالك: إلى أنه لا بدَّ من القضاء في الصوم المفروض. ق: وهو القياس؛ فإن الصوم قد فات ركنه -يريد: وهو الإمساك-، وهو من باب المأمورات، والقاعدةُ تقتضي أن النسيانَ يؤثر في باب المأمورات. وعمدةُ مَنْ لم يوجب القضاء -وبذلك قالت طائفةٌ من الصحابة ¬
والتابعين والفقهاء بعدَهم، كان الصوم فرضًا أو تطوعًا، كان الفطر بأكل أو شرب أو جماع- هذا الحديثُ، وما في معناه، أو ما يقاربه، وفي بعض طرقه: "وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ" (¬1)، فإنه أمر بالإتمام، وسمي الذي يتم صومًا، وظاهرهُ: حملهُ على الحقيقة الشرعية، دونَ صورة الصوم؛ كما يقوله من أوجب القضاء؛ لأنه إذا دار (¬2) حملُ اللفظ على حقيقته الشرعية أو اللغوية، كان حملُه على الشرعية أولى، وإذا كان صومًا شرعيًا، وقع مجزئًا، ويلزم من ذلك عدمُ وجوب القضاء، فهذا منشأ الخلاف، واللَّه أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإنما أطعمه اللَّه وسقاه": ظاهره: إقامةُ عذر الناسي؛ لإضافته -عليه الصلاة والسلام- ذلك للَّه تعالى، فهذا قد يدلُّ على صحة الصوم؛ إذ إفسادُ الصوم يناسبه إضافةُ الفعل للمكلف، وكأن أصحابنا حملوا ذلك على الإخبار بعدم الإثم والمؤاخذة لعلَّة النسيان، لا أنه يدل على صحة الصيام، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 179 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكْتُ (¬1)، قَالَ: "مَا لَكَ؟ "، قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَناَ صَائِمٌ، وَفي رِوَايَةٍ: أَصَبْتُ أَهْلِي في رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ تَجدُ رَقَبَةً تُعْتِقُها؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَيْنَا (¬2) نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ (¬3)، أُتِيَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، والعَرَقُ: المِكْتَلُ، قَالَ: "أَيْنَ السَّائِلُ؟ "، قَالَ: أَنَا، قَالَ: "خُذْ هَذَا (¬4) فَتَصَدَّقْ بِهِ"، فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَوَاللَّهِ! مَا بَيْنَ لَابَتَيْها -يُرِيدُ: الحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى بَدَتْ أَنيَابُهُ، ثُمَّ ¬
قَالَ: "أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ" (¬1). ¬
الحرَّةُ: أَرْضٌ تَرْكَبُهَا حِجَارَةٌ سُودٌ (¬1). * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: هذا الرجل السائل هو سَلَمَةُ بنُ صخرٍ البياضيُّ، وقيل: سلمانُ بنُ صَخْر (¬2). الثاني: قوله: "بينما نحنُ عندَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ جاءه رجلٌ": اعلم أن "بينما" تُتلقى تارة بإذ، وتارة بإذا اللتين للمفاجأة، قال الشاعر: فَبَيْنَمَا العُسْرُ إِذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ وكقوله في هذه القطعة: وَبَيْنَمَا المَرْءُ في الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ ... إِذَا هُوَ الرَّمْسُ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ (¬3) فتلقى هذا الشاعر (بينما) في البيت الأول بإذ، وفي البيت الثاني بإذا، وأما (بينا)، فلا تُتلقى بواحدة منهما، بل وجهُ الكلام أن يقال: ¬
بينا زيدٌ قائمٌ جاء عمرٌو، وعليه قول أبي ذؤيب: بَيْنَا تُعَانِقُهُ الكُمَاةُ، وَرَوْغُه (¬1) ... يَوْمًا، أُتِيحَ لَهُ جَريءٌ سَلْفَعُ فقال: أتيح، ولم يقل: إذ أُتيح، وهذا البيت ينشد بجر (تعانقه) (¬2)، ورفعه، فمن جَرَّ، جعل الألف ملتحقةً لإشباع الفتحة؛ لأن الأصل فيها (بينَ)، وجر (تعانقه) على الإضافة، ومن رفع، رفعه على الابتداء، وجعل الألف زائدةً ألحقت (بين) لترتفع بعدها الجملة؛ كما زيدت في (بينما) لهذه العلة (¬3). وقد جاءتا -أعني: بينا، وبينما- في هذا الحديث على هذه القاعدة، فقال: بينما نحن عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذ جاءه رجل، فتلقى (بينما) بإذ، وقال: فبينا نحن على ذلك، أُتي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يقل: إذ أتي، فاعرفْه. الثالث: استدل الجمهور بقول هذا المجامع في رمضان: هلكتُ، وفي الرواية الأخرى: احترقتُ، على أنه كان متعمّدًا، وقصروا الكفارةَ على المتعمِّد دون الناسي، وهو قولُ مالكٍ المشهورُ، وقولُ أكثر أصحابه (¬4). وذهب أحمد، وبعض الظاهرية، وعبد الملك بن الماجشون، ¬
وابن حبيب، إلى إيجابها على الناسي، وروي ذلك -أيضًا (¬1) - عن مالك، وعطاء، محتجين بترك استفساره -عليه الصلاة والسلام-، مع أن ظاهره عمومُ الوقوع في العمد، والجهل، والنسيان، وقد أطلق -عليه الصلاة والسلام- الفتيا مع هذا الاحتمال، وهذا كما قاله الشافعي في الأصول: تركُ الاستفصالِ مع الاحتمال يتنزَّلُ منزلةَ العموم في المقال، وهذا ضعيف؛ كما قيل؛ لأنه يمكن أن يقال: إنه ترك هنا استفصاله لقرينةِ حالِهِ الدالةِ على تعمُّدهِ الجماعَ من قوله: (هلكتُ) و (احترقتُ). قال الإمام: وشذ بعضُ الناس، فقال: لا كفارةَ على المجامِع، وإن تعمَّدَه، واغتر بقوله -عليه الصلاة والسلام- لمَّا أمره أن يتصدق بالعَرَق من التمر، وشكا (¬2) الفاقةَ: "اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"، فدلَّ ذلك عنده على سقوط الكفارة. وأحسن ما حُمل عليه الحديث عندنا: أنه أباح له تأخيرَها لوقتِ يُسْرِه، لا على أنه أسقطها عنه، وليس في الحديث ما يدلُّ على إسقاطها جملة (¬3). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "هل تجد رقبة تعتقها؟ ": يحتمل أن يستدل به على أمرين: ¬
أحدهما: جوازُ إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة؛ لإطلاق لفظ الرقبة من غير تقييد بإيمان، وهو مذهبُ أبي حنيفة، وكذلك المَعِيبة (¬1) عند داود، والجمهورُ على خلافهما؛ فإنهم شرطوا في إجزاء الرقبة الإيمانَ؛ بدليل تقييدها في كفارة القتل، فيُرَدُّ المطلَق إلى المقيد؛ كما هو المعروف في الأصول، وأيضًا: فإن مقصود الشرع بالعتق: تخليصُ الرقاب من الرق، ليتفرغوا للعبادة، ولنصر المسلمين، وهذا المعنى مفقودٌ في حق (¬2) الكافر. قيل: وقد دلَّ (¬3) على صحة هذا المعنى: قولُه -عليه الصلاة والسلام- في حديث السوداء: "أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ" (¬4)، وأما العيبُ، فنقصٌ في المعنى والقيمة، فلا يجوز، لأنه في معنى عتق الجزء؛ كالثلث والربع، وهو ممنوع بالاتفاق. الثاني: أنه لا يجب في الجماع على الرجل والمرأة إلا كفارةٌ واحدة؛ إذ لم يذكر له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حكمَ المرأة، وهو مذهبُ الشافعي، وداود، وأهل الظاهر. ¬
ومالك، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، على وجوب الكفارة على المرأة إن طاوعته. ع: ويتأول هذا الحديث لعل المرأة مكرَهَةٌ، أو ناسيةٌ لصومها، أو ممن يُباح لها الفطر ذلكَ اليومَ؛ لعذر المرض، أو السفر، أو الطُّهر من الحيض. وسوَّى الأوزاعي بين المكرَهَة والطائعة على مذهبه. وقال مالك في مشهور مذهبه في المكرهة: يُكَفَّر عنها بغير الصوم. وقال سحنون: لا شيء عليه (¬1) لها، ولا عليها، وبهذا (¬2) قال أبو ثور، وابن المنذر، ولم يختلف مذهبنا في قضاء المكرهة، والنائمة، إلا ما ذكر (¬3) عن القاضي إسماعيل عن مالك: أنه لا غسلَ على الموطوءة، نائمةً ولا مكرهةً، ولا شيء عليها، إلا أن تلتذ، قال ابن القصار: فتبين من هذا: أنها غير مفطرة. ع: فظاهره: أنه لا قضاءَ على المكرَهة إلا أن تلتذَّ، ولا على النائمة؛ لأنها كالمحتلمة، وهو قول أبي ثور في النائمة والمكرَهة. واختُلف في وجوب الكفارة على المكره على الوطء لغيره على هذا، وحكى ابن القصار، عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم المُكرَهَ كفارةٌ عن ¬
نفسه، ولا عَمَّنْ أَكره (¬1). الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ ": يقال: اسْتَطاع يَسْتَطيع، واسْتَتاع يَسْتَتيع، واسْطَاع يَسْطيع، وقد ضموا حرف المضارعة من هذا الأخير، وإن كان زائدًا على أربعة أحرف، ومثله أَهْرَاقَ يُهريقُ، واعتذر عنهما سيبويه رحمه اللَّه بأن السين في اسطاع، والهاء في أهراقَ، زائدتان للعوض، واعتُرض عليه: بأنه لم يحذف منهما شيء فيحتاجا إلى عِوَض (¬2)، وأجاب السّيْرافي عن ذلك بأن قال: العِوَضُ إنما هو من نقل الحركة؛ إذ الأصل في اسطاع: اطوع، وفي أهراق: أروق، فلما نُقلت فتحةُ الواو إلى ما قبلها في الموضعين، قُلبت ألفًا؛ لتحركها في الأصل، وانفتاحِ ما قبلَها الآن، فكانت (¬3) الزيادة عوضًا من (¬4) ذلك، فاعرفْه. ومعنى يستطيع: يقدرُ، ويُطيق، ويَقْوى (¬5). والتتابع: التوالي، وهو حجة للجمهور (¬6) على ابن أبي ليلى؛ إذ لم يشترطه. ¬
السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فهل تجدُ إطعامَ ستين مسكينًا؟ " صريحٌ في الدلالة على استيعاب هذه العِدَّة، وبه قال عامةُ الفقهاء؛ خلافًا لما روي عن الحسن: أنه يطعم أربعين مسكينًا صاعًا، وحجةٌ -أيضًا- على من قال: يطعم عشرين مسكينًا ثلاثةَ أيام. ق: والقولُ بذلك (¬1)، عملٌ بعلَّةٍ مستنبطةٍ تعود (¬2) على ظاهر النص بالإبطال، وقد عُلم ما في ذلك في أصول الفقه (¬3). وقوله: "فمكث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-": هو بضم الكاف وفتحها. السابع: العَرَق: -بفتح العين والراء المهملتين- هو المعروف المشهور في اللغة والرواية، وكذا حكاه ع عن رواية الجمهور، ثم قال: ورواه كثيرٌ من شيوخنا بإسكان الراء، والصواب: الفتح (¬4). قلت: وأما العَظْم الذي عليه اللحم، فبالإسكان لا غيرُ. ويقال للعَرَق: الزَّبِيلُ (¬5) -بفتح الزاي-؛ كالرَّغيف، والزِّنْبِيل -بكسر الزاي-؛ كالقِنْديل، ويقال له: القُفَّة، والمِكْتَل -بكسر الميم وفتح المثناة فوق-، والسَّفيفة -بفتح السين وبفاءين-، قاله ابن دريد. ¬
وسمي عَرَقًا؛ لأنه جمع عَرقَة، وهي الظفيرة (¬1) الواسعة، ومَنْ سماه عَرقَةً، فلأنه منها، ويجمع -أيضًا- على عرقات. ع: وسمي زَبيلًا (¬2)؛ لأنه يُحمل فيه الزِّبل. وقد قال الفقهاء: إنه يسع خمسةَ عشرَ صاعًا، وذلك ستون مدًا، لكل مسكين مدٌّ؛ لأن الصاع أربعة أمداد؛ كما تقدم، وإذا ضربنا أربعةً في خمسةَ عشرَ، كانت ستين. وفيه: حجة للجمهور على أبي حنيفة، والثوري؛ إذ قالا: لا يجزىء أقلُّ من نصف [صاع] لكلِّ مسكين (¬3). الثامن: ظاهرُ الحديث يدلُّ على الترتيب؛ كما ذهب إليه بعض (¬4) الفقهاء، وجعلوه ككفارة الظِّهار، والمشهورُ من مذهبنا: أنها على التخيير، ومذهبُ الشافعي: أنها على الترتيب؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث. ونازع ع في ظهور دلالة الترتيب في السؤال على ذلك، وقال ما معناه: إن مثل هذا السؤال يُستعمل فيما هو على التخيير، وجعلَه (¬5) يدلُّ على الأولوية مع التخيير، وأما ما وقع في "المدونة" من قول ابن ¬
القاسم: ولا يعرفُ مالكٌ غيرَ الإطعام، فمحمولٌ ومؤوَّلٌ على استحباب تقديم الإطعام على غيره من الخصال. وذكر ع في تعليل ذلك وجوهًا: فقال: لذكر اللَّه -تعالى- له في القرآن، وإن كان نسخ رخصة للقادر، ففضله بالذكر والتعيين له غير منسوخ؛ لاختيار اللَّه -تعالى- في حكمه، وكذلك بقاء حكمه للمفرِّط في قضائه، وفي العاجز، وذي العذر، ولشمول نفعِه في المساكين، ولأن له مَدْخَلًا في كفارة رمضانَ للمرضع، والحامل، والشيخِ الكبير، والمفرِّط في قضائه، ولأنه المطابقُ لمعنى الصوم الذي هو الإمساكُ عن الطعامِ والشرابِ، واستحبَّ بعضُ أصحابنا ترتيبَ ذلك على ما جاء في الحديث، واستحبَّ بعضُهم ترتيب ذلك بحسب الأوقات والشدائد، فيكون الإطعامُ هناك أفضل (¬1)، واللَّه أعلم. التاسع: ليس في الحديث ما يدل على أمره بالقضاء، ولا زوجته، والجمهورُ على وجوب القضاء عليهما، قيل: والسكوتُ عنه لتقرُّره وظهوره. وعند الشافعية ثلاثة أوجه: ثالثها: إن كفَّر بالصيام، فلا قضاء عليه، وإن كفَّر بغيره، قضى يومًا، هذا في الرجل، وأما المرأة، فلا خلاف في وجوب القضاء عليها، زاد إمام الحرمين: إذا لم نوجب (¬2) ¬
عليها كفارةً، فمفهومه: أن القضاء لا يجب عليها إذا وجبت الكفارة، أو يختلف فيه، واللَّه أعلم. وأما مذهبنا، فلا أعلم فيه خلافًا في وجوب القضاء عليها (¬1)، إلا ما تقدم من احتمال كلام ابن القصار، مكرهةً كانت أو طائعة، وأما الكفارةُ، فلا خلاف عندنا في وجوبها على الواطىء، وأما المرأة، فإن كانت طائعة، فكذلك يجب عليها كفارةٌ أخرى عن نفسها مع القضاء، وإن كانت مكرَهَةً، فلا قضاء (¬2) عليها، وتجب الكفارةُ على زوجها عنها، فتكون عليه كفارتان عنه وعنها، هذا هو المشهور. وقال سحنون: لا شيء عليه لها، ولا عليها، وبهذا قال أبو ثور، وابن المنذر. وفي مذهب الشافعي ثلاثة أقوال: أصحُّها: تجب الكفارة على الرجل عن نفسه فقط، ولا شيء على المرأة، ولا يلاقيها الوجوب (¬3). والثاني: تجب عليه الكفارة، وتكون عنه وعنها، وهي كفارة واحدة. والثالث: تجب عليه كفارتان؛ إحداهما عنه، والأخرى عنها. وبقول الشافعي: قال داود، وأهل الظاهر -أعني: اتحاد الكفارة-، ¬
والأوزاعي يوافقهم، إلا إذا كفَّر بالصيام. وبقول مالك قال أبو ثور، وأهل الرأي -أعني: وجوب الكفارة على المرأة إن طاوعته-، واللَّه أعلم (¬1). العاشر: في الحديث: دلالة ظاهرة على أنه لا مدخل لغير هذه الخصال الثلاث في الكفارة، ونقل عن الحسن البصري، وعطاء: أن المكفِّر إن لم يجد رقبةً، أهدى بدنةً إلى مكة، قال عطاء: أو بقرة، ع (¬2). وقد اختُلف في عطاءٍ هذا، فقيل: هو عطاءُ بنُ عبد اللَّه، وقيل: ابنُ ميسرة مولى المهلَّبِ بنِ [أبي] صفرة، وأدخله البخاري في الضعفاء والمتروكين (¬3). قال ابن بزيزة: وهو وهم، بل كان عالمًا فاضلًا، مجيدًا للقراءات، ولعلمِ القرآن؛ من التفسير، وغيره، روى عنه: مالك، ومعمر، والأوزاعي، قال ذلك الأئمةُ: ابن أبي حازم، وغيره. قلت: وإنما ضعفه البخاريُّ لتكذيب ابنِ المسيب له، حين سُئل عنه أنه حدثه بحديث الأعرابي: كذبَ، ما حدثْتُه، واللَّه أعلم. ¬
وقد وردت البَدَنة في حديث المفطِرِ (¬1) في رمضان يعدمُ (¬2) الرقبةَ، من رواية عطاء، عن سعيد بن المسيب، ذكره مالك في "الموطأ"، وقد أنكر سعيدٌ على عطاءٍ روايتَه عنه البدنةَ (¬3). الحادي عشر: قوله: "على أفقرَ مني يا رسول اللَّه؟! ": هكذا وقع في نسخ هذا الكتاب، وفي كتاب مسلم: (أفقرَ) -بالنصب- من غير حرف (على)، على (¬4) إضمار فعل تقديره: أتجدُ أفقرَ مني؟ أو: أعطي أفقرَ مني (¬5)؟ ويجوز فيه -الرفع- على أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أحدٌ أفقرُ منا، أو مَنْ يتصدق عليه أفقرُ منا، وهكذا رواه النسائي: "أَحَدٌ أحوجُ منَّا"، واللَّه أعلم (¬6). الثاني عشر: قوله: "ما بين لابتيها": اللابتان: الحَرَّتان، والمدينةُ بينَ حَرَّتين، والحَرَّة: الأرضُ الملبسةُ حجارةً سوداءً (¬7)، و (¬8) يقال: لابَة، ولوبَة، ونوبة -بالنون (¬9) -، حكاهن ابنُ عبد البر، والجوهري، ¬
وخلائقُ من أهل اللغة، ومنه قيل للأسود: لوبِيٌّ، ونوبِيٌّ -باللام والنون-، وجمع اللابة: لوبٌ، ولابٌ، ولاباتٌ، ولا همزَ فيها (¬1). الثالث عشر: قوله: "فضحك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى بدت أنيابه". ع: سبب ضحكه -عليه الصلاة والسلام- التعجبُ من حالِه ومقاطعِ كلامه، وإشفاقِه أولًا، ثم طلبِه ذلك لنفسِه، وقد يكون من رحمة اللَّه تعالى، وتوسعتِه عليه، وإطعامِه له هذا الطعامَ، وإحلالِه له بعد أن كُلِّف إخراجَه، واللَّه أعلم (¬2). والأنياب: جمعُ ناب، وهي الأسنان الملاصقة للثنايا، وهي أربعة، وذلك أن الإنسان له أربع ثنايا، وأربع رَباعِيات، الواحدة رَبَاعِيَة -مخففة-، وأربعةُ أنياب، وأربعةُ ضواحك، واثنتا عشرةَ رحى، ثلاثٌ في كل شق، وأربعةُ نواجذَ، وهي أقصاها، فذلك اثنان وثلاثون سنًا، قاله أبو زيد فيما نقله ابنُ قتيبة عنه، وقال الأصمعيُّ مثله، إلا أنه قال: الأرحاء ثمانية، فتكون على قوله: ثمانية وعشرين (¬3)، واللَّه أعلم (¬4). ¬
فيه: جوازُ الضحك، وهو غيرُ التبسُّم، وما جاء من (¬1) أنه -عليه الصلاة والسلام- كان ضحكُه تبسُّمًا (¬2)، فيجوز أن يكون الغالبُ من ضحكه -عليه الصلاة والسلام-، لا كلُّه، واللَّه أعلم. وأما قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19]، فضاحكًا حالٌ مقدرة، أي: تبسم مقدرًا (¬3) الضحك؛ لأن الضحك يستغرق التبسُّمَ، هذا هو الصحيح عندي، وقد جعله ابن عصفور حالًا مؤكدة، وهو بعيدٌ، أو وهمٌ، واللَّه أعلم. فقد علمت بذلك كلِّه: أن التبسم غيرُ الضحك، يقال منه: ضحك يضحك ضِحْكًا، وضَحْكًا، وضَحِكًا، وضِحِكًا أربع لغات، والضَّحْكَة: المرةُ الواحدةُ (¬4)، واللَّه أعلم. الرابع عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اذهبْ، فأطعِمْه أهلَكَ": ع: قال الزهري: هذا خاصٌّ لهذا الرجل وحدَه، يعني: أنه ¬
يجزيه أن يأكل من صدقة نفسه؛ لسقوط الكفارة عنه لفقره، فسوغها له النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد روي: "كُلْهْ وَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ" (¬1). وقيل: هو منسوخ. وقيل: يحتمل أنه أعطاه إياه لكفارته، وأنه يجزئه على من لا تلزمه نفقتُه من أهله. وقيل: بل لما كان عاجزًا عن نفقة أهله، جاز له إعطاءُ الكفارة عن نفسه لهم. وقيل: بل لمَّا ملَّكها إياه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو محتاج، جاز له أكلُها هو وأهلُه لحاجته. وقيل: يحتمل أنه لما كان لغيره أن يكفِّرَ عنه، كان لغيره أن يتصدَّق عليه عند الحاجة بتلك الكفارة. وقد ترجم البخاري عليه: إذا أطعم المجامعُ أهلَه [في رمضان من الكفارة وهم محاويج. قال غيره: وهذا ساغ إذا عجز عن نفقتهم، إذ] (¬2) لا تلزمه لهم نفقة، فكانوا كغيرهم. قال بعضهم أيضًا: ولأن في أكله منها إذا كان محتاجًا إحياء رمقه، ¬
فجاز له (¬1) وفيما قاله نظر. وقيل: بل (¬2) أطعمه إياه لفقره، وأَبقى الكفارةَ عليه متى أيسر -كما تقدم-، وهذا تحقيق مذهب كافة العلماء، وذهب الأوزاعي (¬3) وأحمد إلى أن حكمَ مَنْ لم يجد الكفارة ممن لزمته من سائر الناس سقوطُها عنه مثل هذا الرجل (¬4)، واللَّه أعلم. قلت: ظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أهلك" دخولُ ذوي القربى والزوجةِ فيه، يقال: أهلُ الرجل، وأهلُ الدار، وكذلك الأَهْلَةُ، والجمع أَهْلات، وأَهَلات (¬5) -بسكون الهاء وفتحها-، وأَهَالٍ، زادوا فيه الياءَ على غير قياس؛ كما جمعوا ليلًا على ليالٍ، وقد جاء في الشعر: آهال، مثل: فَرْخ، وأفراخ، وزيد، وأزياد، وأنشد الأخفش: وَبَلْدَةٍ مَا الإِنْسُ مِنْ آهَالِهَا والمنزلُ الآهِلُ الذي فيه أهلُه، واللَّه أعلم (¬6). ¬
باب الصوم في السفر
باب الصوم في السفر الحديث الأول 180 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ للنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَصُومُ (¬1) في السَّفرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيامِ، "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وإِنْ شِئْتَ فَاَفْطِرْ" (¬2). ¬
* الشرح: ظاهرُ هذا الحديث أن الصوم المسؤولَ عنه صومُ التطوُّع، لا رمضان. وقوله: "وكان كثيرَ الصيام" يُشعر بذلك، ويقوي ذلك أيضًا: أن في الكتابين رواية أخرى مشتملة على زيادة بينت هذا الحديث، وهي أنه قال: يا رسول اللَّه! إني أَسْرُدُ الصومَ، فأصومُ (¬1) في السفر؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ"، لكنه قد جاء في رواية أخرى في مسلم: "هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا، فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ" (¬2)، ومثلُ هذا لا يُقال في التطوُّع. وأيضًا: فإن هذا الحديث أخرجه أبو داود، وقال فيه: يا رسولَ اللَّه! إني صاحبُ ظَهْر أُسافر عليه، وأركبُه في هذا الوجه، وإنه ربما صادفني هذا الشهرُ، -يعني: رمضان-، وأنا أجد القوةَ، وأنا شابٌّ، وأجدُني أن أصومَ أهونُ من أن أُؤخره، فيكون دَيْنًا عليَّ، أفأصومُ يا رسول اللَّه ¬
أعظم لأجري، أو أفطر؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أَيَّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ" (¬1)، قال صاحب "المفهم": وهذا نصٌّ في التخيير (¬2). قلت: وأَيًّا ما كان، ففيه التخيير (¬3)، وهذا يرد قولَ من قالَ بعدم انعقاد الصوم في السفر، من أهل الظاهر، وغيرهم، وإن كان متمسكهم قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فقد تأوله الجمهور بأن هناك محذوفًا تقديره: فَأَفْطَرَ، ويستدل على صحته بصومه -عليه الصلاة والسلام- في السفر، وبتخييره بينَ الصوم والإفطار في غير ما حديثٍ صحيح، ولو كان الصوم في السفر لا ينعقد، لَمَا صامَ، ولا (¬4) أباحَ لغيره الصومَ فيه؛ فإن ذلك عبث، فدلَّ ذلك على أن المعنى ما قدره من الحذف، وأن القضاء إنما يلزم من أفطرَ، لا من صام، واللَّه أعلم. ويقوي قولَ الجمهور أيضًا: قولُه -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الآخر الصحيح: "هِيَ رُخْصَة مِنَ اللَّهِ"، الحديث، وبيانُه: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ"، الحديث يعطي بوجه الخطاب بالصوم إلى كلِّ مكلف، حاضرًا كان أو مسافرًا، ثم ¬
رخص لأهل الأعذار بسببها؛ لأن الرخصة حاصلُها راجعٌ إلى تخلف الحكم الحزم (¬1) مع تحقق سببه لأمر خارج عن ذلك السبب؛ كإباحة أكل الميتة عند الضرورة، فاعرفْه. إذا ثبت هذا، فقد اختلفوا هل الصوم أفضل، أو الفطر أفضل، أو هما سيَّان؟ فقيل: الصوم أفضل؛ لما ورد من صومه -عليه الصلاة والسلام- هو وعبدُ اللَّه بنُ رواحة (¬2)، ولغير ذلك من الأحاديث، ولقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] الآيةَ، فَعَمَّ، وإليه ذهب أنسُ ابنُ مالك، ومالكٌ في المشهور عنه. قال صاحب "المفهم": والشافعي على أن الفطر من باب الرخص، وأن فعل الصوم مبادرةٌ إلى تخليص الذمم، ومسابقةٌ إلى الخيرات، فقد أمر اللَّه بذلك في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] (¬3). وقيل: الفطرُ أفضلُ؟ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَيْسَ البِرُّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ"، ورُوي: "لَيْسَ مِنَ البِرِّ" (¬4)؟ و (¬5) لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "هِيَ رُخْصَة مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا، فَحَسَنٌ، وَمَنْ ¬
أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ" فقد جعل الفطر حسنًا، والصوم لا جناح فيه، فهذه إشارة إلى تفضيل الفطر، وكان ابن عمر يقول: رخصةٌ ربي أحبُّ إليَّ (¬1)، مع أنه كان من أهل التشديد على نفسه، والأخذِ بالأشدِّ، وقال: أرأيتَ لو تصدَّقْتَ بصدقة، فردَّتْ عليكَ، ألا تغضب (¬2)؟ ونهى أبو هريرة، وابنُ الزبير، وغيرُهما عن الصوم في السفر. وسئل ابن عباس -رضي اللَّه عنه-، فقال: يُسْرٌ وعُسْرٌ، خذْ بيسر (¬3) اللَّه (¬4). وإليه ذهب ابن عباس، وابن عمر، وغيرهما -رضي اللَّه عنهما-. وقيل: الفطرُ والصومُ سواءٌ؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ"، وإليه ذهب جُلُّ أهل المذهب على ما ذكره القرطبي في "مفهمه"، قال: وعليه تدلُّ أحاديث مسلمٍ في هذا الباب (¬5). قال الخطابي: وذهبت طائفة إلى أن الأفضلَ الأيسرُ عليه، والأسهلُ؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] الآيةَ. ع: وروي عن عمر بن عبد العزيز، وقتادة، ومجاهد (¬6). ثم هل هذا في كل سفر؛ طاعةً كان أو معصيةً، طويلًا كان أو ¬
قصيرًا، أو مختصٌّ (¬1) بالسفر المباحِ أو الواجب؟ قال ابن بزيزة: والصحيح: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم (¬2) يخصَّ سفرًا من سفر، وهو ظاهر الآية. قلت: والمذهبُ على أن العاصي بالسفر لا يترخص، والمذهب -أيضًا (¬3) - اشتراطُ سفر تُقْصَرُ فيه الصلاة؛ خلافًا لمن لم يشترطه. قال الخطابي: وأظنه قولَ داود، وأهلِ الظاهر، فأما سائرُ الفقهاء، فإنهم لا يرون الإفطارَ إلا في سفر يجوز فيه القصرُ، وهو عند أهل العراق ثلاثةُ أيام، وعند أكثر أهل الحجاز ليلتان، أو نحوهما، وقد كان ابنُ عمرَ، وابنُ عباس، لا يريان القصرَ والإفطارَ في أقل من أربعة بُرُدٍ (¬4). قلت: وهو مذهبنا، ومذهبُ الجمهور، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 181 - عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، وَلا المُفْطِرُ على الصَّائِمِ (¬1). ظاهرُه: في رمضان؛ بقرينة عدم العيب، إذ (¬2) الصومُ المرسَلُ لا يُعاب، واللَّه أعلم. ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 182 - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، في شَهْرِ رَمَضَانَ، في حَرٍّ شَديدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، مَا فينا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ (¬1). * * * ¬
(إن) هذه هي المخففة من الثقيلة عندَ البصريين، والأصلُ عندهم: إنه كانَ أحدُنا ليضعُ، وهي عند الكوفيين بمعنى (ما)، و (اللام) بمعنى (إلا)، والتقدير: ما كان أحدُنا إلا ليضع، على ما هو مقرر في كتب العربية. وهذا الحديث يردُّ على أهل الظاهر ومَنْ وافقهم في قولهم: إن الصوم لا ينعقد في السفر؛ كما تقدم. * * *
الحديث الرابع
الحديث الرابع 183 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا، وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ "، قَالُوا: صَائِمٌ، قالَ: "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ" (¬1). وَلِمُسْلِمٍ: "عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ" (¬2). ¬
فيه: تفقُّد الإمام أحوالَ رعاياه، وعدمُ إهمالهم، وسؤالُه عن حقيقة الأمر، والسببِ المقتضي (¬1) لتغير الأحوال المعهودة. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ليس من البر الصومُ في السفر": نزله العلماء على مَنْ أصابه بسبب الصوم جهدٌ ومشقة، أو أداه الصوم إلى ترك قُربة من القُرَب، وبذلك يقع الجمع بينه وبين ما تقدَّمَ من التخيير بين الصوم والإفطار في الأحاديث. ¬
وأما الظاهرية القائلون بعدم انعقاد الصوم في السفر، فيحتجون بأن اللفظ عامٌّ، والعبرةُ بعموم (¬1) اللفظ لا بخصوص (¬2) السبب، ولا دليلَ لهم في ذلك؛ فإنا نفرق بين دلالة السياق، والقرائنِ على (¬3) تخصيص العام، و (¬4) على مراد المتكلم، وبين مجردِ ورودِ العامِّ على سبب، ولا نُجريها مجرًى واحدًا؛ فإن مجردَ ورود العام على سبب (¬5) لا يقتضي التخصيص به؛ كنزول قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بسبب سرقة رداء صفوانَ؛ فإنه لا يقتضي التخصيصَ بالضرورة والإجماع، وأما السياق والقرائن، فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه، وهي المرشدةُ إلى بيان المجمَلات، وتعيين المحتمَلات (¬6)، وهاهنا قد دلنا على تخصيصِ مثلِ هذا الصائم الذي لَحِقَه من الجهد والمشقة ما لحقه، بنفي البِرِّ عن صومه والحالة هذه ما شوهد من قرائن أحواله ولا بد، فلا يلزم منه أخذُ الحديث على عمومه؛ أعني قولَه -عليه الصلاة والسلام-: "ليسَ من البر الصومُ في السفر"، لا سيما في حق من لا يتأثر بالصيام، ولا يجد له أدنى مشقة، أو مَنْ يكون الصومُ له ¬
وِجاءً، أو وازعًا عن الوقوع في منهيٍّ عنه، هذا مع ما تقدم من صومه -عليه الصلاة والسلام- في السفر، هو وعبدُ اللَّه بنُ رواحة، وغير ذلك من الصيام في السفر، وعلَامَ يحملونه؛ فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم يفعل ذلك عبثًا، وإنما فعله على وجه العبادة، وإبراء الذمة، وكيف تبرأ الذمة بصومٍ لا ينعقد على ما يزعمون؟ وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "عليكم برخصة اللَّه" دليلٌ على استحباب الأخذ بالرخصة عندَ الاحتياج إليها، وتركِ التنطُّع والتعمُّق في الدين، وقد جاء: "هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ" (¬1)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ؛ فَإِنَّ المُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى" (¬2)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ يُشَادَّ (¬3) هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ" (¬4)، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 184 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في سَفَرٍ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا المُفْطِرُ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَأَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الكِسَاءَ، فَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ، قَالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ المُفْطِرُونَ، فَضَربُوا الأَبْنِيَةَ، وَسَقَوُا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ" (¬1). ¬
قوله: "فمنَّا الصائم، ومنَّا المفطر": فيه (¬1): دليل على ما تقدَّمَ من جواز الصوم في السفر، وانعقادِه فيه، لتقريره -عليه الصلاة والسلام- ذلك، وعدمِ إنكاره؛ خلافًا لمن قال: لا ينعقد من أهل الظاهر وغيرِهم، على ما تقدم. وقوله: "وأكثرنا ظِلًا صاحبُ الكساء"؛ أي: إن أكثرهم ظلًّا مَنْ له كساء يُلقيه على رأسه اتقاءً لحرِّ الشمس. فيه: دلالةٌ على عدم احتفالهم بآلات السفر؛ كالخيم، والفساطيط، ونحو ذلك؛ بحيث إنهم لم يكن معهم ما يتقون به حرَّ الشمس، وإن أكثرهم ظلًّا من له كساء، بل كان جُلُّ احتفالهم -رضي اللَّه عنهم- بآلات الحروب، وما يُعنى (¬2) من ذلك، ويُحتاج إليه على سبيل الضرورة، بخلاف حال أهل زماننا على ما يُرى. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ذهبَ المفطرونَ اليومَ بالأجر"، أي: بأجرٍ يزيدُ على أجر الصائمين، فإن عملَهم كان متعدِّيًا، وعمل الصائمين كان قاصرًا. ق: ويحتمل أن يكون أجرُهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغًا ينغمر فيه أجرُ الصوم، فتحصلُ المبالغة بسبب ذلك، ويجعل (¬3) ¬
كأن الأجر كلَّه للمفطر (¬1)، واللَّه أعلم، انتهى. وفيه: أنه إذا تعارضت المصالح، قُدِّمَ منها الأولى، والأقوى؛ فإن الصوم مصلحة، والفطر أيضًا -والحالة هذه- مصلحةٌ، ولكن مصلحة الفطر حينئذ أَوْلى؛ لتعدِّيها، وقصورِ مصلحةِ الصيام، كما تقدم. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 185 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-، قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ (¬1). ¬
فيه: دليل على ما تقدَّم من أنه يقال: رمضان، من غير ذكر الشهر مع القرينة، على المذهب الأعدلِ من المذاهب الثلاثة المتقدِّم ذكرُها، واللَّه أعلم. وفيه: دليل على جواز تأخير قضاء رمضان، والتوسعة في ذلك ما لم يدخل رمضان آخرُ. وقد اختلف الفقهاء في وجوب الإطعام إذا أُخِّر القضاءُ إلى رمضان ثانٍ، وليس (¬1) له بهذا الحديث ذلك التعلُّق. وقد جاء في رواية أخرى: أن تأخيرَ قضاءِ عائشة -رضي اللَّه عنها- كانَ للشُّغْلِ برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ففيه: دليلٌ على شدة احتفالها بأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- هي وسائرُ أزواجه -عليه الصلاة والسلام-، فكانت كل واحدة من أمهات المؤمنين -رضي اللَّه عنهن- مُهَيِّئَةً نفسَها لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، مترصِّدَةً لاستمتاعه في جميع أوقاتها، أو غالبِها، إن أراد ذلك، لا تدري متى يريده، ولم تستأذنه في الصوم؛ مخافةَ أن يأذنَ لها، وقد يكون له حاجةٌ فيها، فتفوِّتُها عليه، وهذا من الأدب. ¬
وقد اتفق العلماء على أن المرأة لا يحلُّ لها صومُ التطوُّعِ وزوجُها حاضرٌ إلا باذنه، وإنما كانت تصومه في شعبان؛ لأن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصوم شعبانَ كلَّه، أو مُعظمه، فلا حاجة له فيهنَّ حينئذ في النهار، ولأنه إذا جاء شعبان، تَضَيَّق قضاءُ رمضان، فإنه لا يجوز تأخيرُه عنه. ح: ومذهبُ مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمدَ، وجماهيرِ الخلف والسلف في حق من أفطره بعذر، لحيض وسفر: أنه يجب على التراخي، ولا تُشترط المبادرةُ به في أول الإمكان، لكن قالوا: لا يجوز تأخيرُه عن شعبان الآتي، لأنه يؤخَّر حينئذ إلى زمان لا يقبله، وهو رمضانُ الآتي، فكان كمن أخَّره إلى الموت. وقال داود: تجب المبادرةُ به في أول يوم بعدَ العيدِ من شوال، وحديثُ عائشة هذا يردُّ عليه. قال الجمهور: وتُستحب المبادرةُ به؛ للاحتياط فيه، فإن أخره، فالصحيح عند المحققين من الفقهاء وأهل الأصول: أنه يجبُ العزمُ على فعله، وكذلك القولُ في جميع الواجب الموسَّع، إنما يجوز تأخيرُه بشرطِ العزمِ على فعله، حتى لو أَخَّره [بلا عذر]، عصى، وقيل: لا يشترط العزم. وأجمعوا: أنه لو مات قبل خروج شعبان، لزمته الفديةُ في تَرِكته عن كل يوم مُدٌّ من طعام، هذا إن كان تمكَّنَ من القضاء، فلم يَقْضِ، فأما من أفطرَ في رمضان بعذر، ثم اتصل عجزُه، ولم (¬1) يتمكن من الصوم ¬
حتى ماتَ، فلا صومَ عليه، ولا يُطْعَمُ عنه، ولا يُصام عنه. قلت: والجمهورُ على استحباب تتابُعِه. وقالت جماعة من الصحابة والتابعين: يجبُ تتابُعه (¬1)، واللَّه الموفق. * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 186 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" (¬1). [وأخرجه أبو داود، وقال: هذا في النذر، وهو قولُ أحمدَ بنِ حنبلٍ] (¬2). ¬
هذا الحديثُ ليس على شرط المصنِّف؛ إذ لم يتفق الشيخان على إخراجه، وإنما أخرجه مسلم (¬1). قال الإمام: أخذَ بظاهر هذا الحديث: أحمدُ، وإسحاق، وغيرُهما، وجمهورُ الفقهاء على خلاف ذلك، ويتأولون الحديثَ على معنى: إطعامِ الحيِّ عن وليِّهِ إذا مات، وقد فَرَّطَ في الصوم، فيكون الإطعام قائمًا مقامَ الصيام (¬2). قلت: إلا أن المخالفين خصصوه بالنذر، وروي مثلُه عن الشافعي، وأما قضاءُ رمضان، فلا يجوز عندهم، ولكنه يُطْعَم عنه من رأس ماله. ¬
ع: وهو مشهورُ قول الشافعي في وجوب الإطعام عليهم من رأس ماله دونَ الصوم، وهو قولُ كافة العلماء، ومالكٌ لا يوجب عليهم الإطعامَ إلا أن يوصي بذلك، أو يتطوَّعوا (¬1). قلت: فيكونُ من الثلُث؛ كسائر الوصايا. وقد انعقدَ الإجماعُ على أنه لا يصلِّي أحدٌ عن أحد في حياته، ولا بعدَ وفاته، وعلى أنه لا يصومُ أحدٌ عن أحد في حياته، وإنما الخلافُ في ذلك بعد (¬2) موته (¬3). قال القرطبي في "مفهمه"، وإنما لم يعمل مالك بالخبر؛ لأمور: أحدهما: أنه لم يجد عملَهم عليه. وثانيها: أنه اختُلف في إسناده. وثالثها: أنه رواه أبو بكر البزار، وقال في آخره: "لِمَنْ يَشَاءُ"، وهذا يرفع الوجوبَ الذي قالوا به. قلت: إنما يعدُّ هذا عذرًا لمالك لو كان يجيز ذلك -أعني: الصومَ عن الغير-، وهو لا يصح عنده، فلا ينبغي عَدُّه. ثم قال: ورابعها: أنه معارض لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]، ¬
ولقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] كلام كثير للعلماء، من جملته: أنه منسوخ، فلينظرْ ذلك. ثم قال: وخامسها: أنه معارض لما أخرجه البخاري (¬1) عن ابن عباس، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ" (¬2). وسادسها: معارِض (¬3) للقياس الجليِّ، وهو أنه عبادة بدنية، فلا يفعل من وجبت عليه كالصلاة، ولا ينقض هذا بالحج؛ لأن للمال فيه مدخلًا (¬4)، انتهى. وقيل: المراد بالولي هنا: القريبُ، سواء كان عَصَبَةً، أو وارثًا، أو غيرَهما. وقيل: المراد: الوارثُ، وقيل: المراد: العَصَبَة. والصحيحُ الأولُ، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 187 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أفأَقْضِيهِ (¬1) عَنْهَا؟ فَقَالَ: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟! "، قَالَ: نعَمْ، قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ: جَاءَتِ امْرأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أفاَصُومُ عَنْهَا؟، فَقَالَ: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتيِهِ، أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي عَنْهَا؟! "، قالتْ: نعَمْ، قال: "فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ" (¬3). ¬
فيه: جوازُ سماع كلام الأجنبية في الاستفتاء ونحوِه من مواضع الحاجة. وفيه: دليل على صحة القياس؛ من حيث إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قاس وجوبَ أداء حق الآدمي، وجعلَه من طريق الأحق، فيجوز لغيره القياسُ؛ لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] الآيةَ، لا سيما وقولُه -عليه الصلاة والسلام-: "أَرَأَيْتَ" إرشادٌ وتنبيه على العلَّة التي هي كشيء مستقرٍّ في نفس المخاطَب. وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فدينُ اللَّه أحقُّ بالقضاء" دلالةٌ على أحد الأقوال الثلاثة من العلماء في تزاحُم حقِّ اللَّه وحقّ الآدمي أَيُّهما يقدَّمُ؟ وثالثها: هما سواء، فيقسم بين الجهتين، ومن صوره (¬1) المسلَّمة: مَنْ مات وعليه دينٌ لآدمي، ودينٌ للَّه تعالى؛ كالزكاة، وضاقت التركةُ عن الوفاء بهما جميعًا. ¬
وفيه: قضاءُ الدين عن الميت، ولا خلافَ فيه. وفيه: استحبابُ تنبيه المفتي على وجه الدليل إذا كان مختصرًا واضحًا؛ فإن ذلك أشرحُ لصدر المستفتي، وأطيبُ لنفسه، وأدعى لإذعانه لأحكام اللَّه -تعالى- من غير وجود حرج في نفسه، بل يسلِّم تسليمًا، ويستفيد فقهًا وتعليمًا. وأما الرواية الأخرى، ففيها ما في الأولى، وتزيدُ بتخصيص الصوم بالنذر تصريحًا، فإن دل دليل على أن الحديث واحد، تعين أن يكون السؤالُ فيهما عن صيام النذر، إلا أنه يقع بين الروايتين تباينٌ من حيث إن السائل في الأولى رجل، وفي الثانية امرأة، وقد تقرر في علم الحديث: أنه يُعرف كونُ الحديث واحدًا باتحاد سندِه ومخرجه، وتقارب ألفاظه، واللَّه الموفق. * * *
الحديث التاسع
الحديث التاسع 188 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ" (¬1). ¬
* التعريف: سَهْلُ بنُ سعدِ بنِ مالكِ بنِ خالدِ بنِ ثعلبةَ بنِ حارثةَ بنِ عمرَ (¬1) ابنِ الخزرجِ بنِ ساعدةَ بنِ كعبِ بنِ الخزرجِ، الساعديُّ، الأنصاريُّ، المدنيُّ. يكنى: أبا العباس، وقيل: أبو يحيى. كان سنه يوم مات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسَ عشرةَ سنةً، وتوفي سنة ثمان وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين بالمدينة، وهو آخرُ من مات من الصحابة (¬2) بالمدينة، ومات وله مئةُ سنة، وأحصنَ سبعينَ امرأة، شهدَ قضاءَ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المتلاعِنَيْن، وأنه فرق بينهما، كان اسمه حزنًا، فغير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اسمه، فسماه سهلًا. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئةُ حديث، وثمانية وثمانون حديثًا، اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر. روى عنه: الزهري، وأبو حازم سلمةُ بنُ دينار (¬3)، وسعيدُ بنُ المسيبِ، وأبو زُرعة عمرُ بنُ جابرٍ الحضرميُّ، وبكرُ بنُ سوادةَ، وغيرهم (¬4). فيه: إشارةٌ إلى أن فساد الأمور يتعلَّق بتغير هذه السُّنَّةِ، التي هي ¬
تعجيلُ الفِطْر، وأن مخالفة السنة بتأخيره؛ كالعلم على فساد الأمور، وقد اتفق العلماء على استحباب تعجيل الفطر بعد تيقن الغروب؛ أخذًا بهذا الحديث. وفيه: ردٌّ على الشيعة المؤخِّرين الفطر إلى ظهور النجم. ق: ولعل هذا هو السببُ في كون الناس لا يزالون بخير ما عجلوا الفطر؛ لأنهم إذا أخروه (¬1)، كانوا داخلين في فعلٍ خلاف السنة، ولا يزالون ما فعلوا السنة بخير (¬2). و (ما) من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما عَجَّلوا الفطرَ" مصدرية ظرفية، والتقدير: تعجليهم الفطر، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العاشر 189 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" (¬1). ¬
الإشارةُ في الأول إلى جهة المشرق، وفي الثاني إلى جهة المغرب، وهما متلازمان؛ إذ لا يُقبل الليلُ إلا إذا أدبر النهارُ، ولكنه قد لا تتفق (¬1) مشاهدةُ عينِ الغروب، ويُشاهد (¬2) هجومُ الظلمةِ حتى يتيقن الغروب بذلك، فيحلُّ الإفطار. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فقد أفطر الصائم": الألف واللام في (الصائم) للجنس قطعا، وهذا يردُّ (¬3) قولَ من يقول: إن الاسم المشتق لا يكون جنسًا عامًا. والإفطار هنا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى: فقد حَلَّ له (¬4) الإفطار حينئذٍ، فالغروبُ على هذا عَلَمٌ على حِلِّ الإفطار. والثاني: أنه بالغروب صار مُفْطِرًا حكمًا، فيؤخذُ منه استحالة الإمساك الشرعي ليلًا، بل قال بعضهم: إنه حرام كإمساك يوم الفطر، ويوم النحر. وقال بعضهم: ذلك جائز، وله أجر الصائم، واحتج هؤلاء بوصاله -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقريره ذلك لغيره، وإن الأحاديث الواردة بالنهي عن ¬
الوصال التي ذكرها مسلم في ألفاظها ما يدلُّ على أن النهيَ عن ذلك تخفيفٌ ورِفْق، وفي بعض طرق مسلم: نهاهُمْ عَنِ الوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ (¬1)، وفي بعض طرقه: لَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنتهُوا عَنِ الوِصَالِ، وَاصَل بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الهِلَالَ، فقالَ -عليه الصلاة والسلام-: "لَوْ تَأَخَّرَ الهِلَالُ، لَزِدْتُكُمْ"؛ كَالمنكل لهم (¬2)، وفي بعض طرقه: "لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْرُ، لَوَاصَلْنَا وِصَالًا يَدَعُ المُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ" (¬3)، وهذا كله دليل على عدم استحالةِ إمساكِ الليل شرعًا، ولو كان مستحيلًا، لما واصل -عليه الصلاة والسلام- بهم، ولا حملَهم على ما لا يحلُّ، ولعاقبَ مَنْ خالفَ نهيَه. وقد تقدم لنا في أول (¬4) مقدمة كتاب: الصيام نقلُ الخلاف في الوصال، وأن في ذلك ثلاثةَ أقوال؛ ثالثها: جوازُ الوصال إلى السحر خاصةً، وسيأتي الكلامُ على ذلك أيضًا. * * * ¬
الحديث الحادي عشر
الحديث الحادي عشر 190 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الوِصَالِ، قَالُوا: إِنَّكَ تُواصِلُ، قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى" رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، وَأَنسُ بْنُ مَالِكٍ (¬1). ¬
191 - وَلِمُسْلِم عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: "فَأَيُّكُمْ (¬1) أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُواصِلْ إِلَى السَّحَرِ" (¬2). ¬
قوله: "نهى"، يحتملُ التحريمَ، والكراهةَ، وكأنه في التحريم أظهرُ، وقد تقدَّم الخلاف في ذلك مبينًا. وقولهم: "فإنكَ تُواصل" فيه: معارَضَة المفتي إذا أَفتى بما يخالف حالَه، ولم يعلم المستفتي بسرِّ المخالفة. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إني لستُ كهيئتكم": الهيئة في أصل اللغة: الشَّارَةُ، يقال: فلانٌ حسنُ الهيئة، والهيئة (¬1) -بفتح الهاء وكسرها-، والمعنى: لستُ مثلَكم؛ كما جاء مفسرًا في الرواية الأخرى لمسلم: "إِنَّكمْ لَسْتُمْ في ذَلِكَ مِثْلِي" (¬2). قال الخطابي: الوصالُ من خصائص ما أُبيح للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو محظور (¬3) على أمته (¬4). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إني أُطعَم وأُسقى"، قيل: هو على ظاهره كرامةً له -عليه الصلاة والسلام-، واختصاصًا، قاله ع (¬5)، واعترضه ح: بأنه لو أكل حقيقةً، لم يكن مُواصِلًا، وقوي ذلك بقوله ¬
-عليه الصلاة والسلام- في الرواية الأخرى: "إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُني رَبِّي وَيَسْقِيني" (¬1)، ولفظ (ظَلَّ) لا يكون إلا في النهار، ولا يجوز الأكلُ الحقيقي في النهار، بلا شك (¬2). قال ع: ويجوز أن يكون كنايةً عن القوة التي جعلها اللَّه -تعالى- له، وإن لم يطعم، ولم يُسْقَ حقيقةً حتى يكون كمن فُعل به ذلك. أو أن اللَّه -تعالى- يخلُق فيه من الشِّبَع والرِّيِّ ما يُغنيه عن الطعام والشراب، واللَّه أعلم (¬3). نادرة: كنتُ يومًا مع شيخنا مكينِ الدين، المعروفِ بالأسمر -رضي اللَّه عنه-، في بعض بساتين الإسكندرية، في جماعة من أصحابنا، فحضر الطعام، وكنت صائمًا، فسألني الجماعة موافقتهم، فَأبيتُ، قال الشيخ -رضي اللَّه عنه-: دعوه وأنا آكلُ عنه، وشرعوا في الأكل دون الشيخ، فوجدتُ من الشبعِ والريِّ ما يجده الطاعمُ الشارب، حتى نبرتْ جنباي حسًّا، وظللت بقيةَ يومي متغذيًا بذلك. * * * ¬
باب أفضل الصيام وغيره
باب أفضل الصيام وغيره الحديث الأول 192 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنِّي أَقُولُ: واللَّهِ! لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: "فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأفطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ"، قُلْتُ: إِنِّي (¬1) أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "صُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ"، قُلتُ: إِنِّي أُطِيقُ أكثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا (¬2)، وَأفطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيامُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ" (¬3)، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، [فقالَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا أَفْضَلَ ¬
مِنْ ذَلِكَ"] (¬1). وَفي رِوَايَةٍ: "لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ -شَطْرِ الدَّهْرِ- صُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَومًا" (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: فيه: الإخبار (¬1) بمحاسن الأعمال، إذا لم يقصد بذلك التسميع، والمراءاة، فربما كان ذلك داعيةً لغيره إلى (¬2) العمل الصالح، والاقتداء به في ذلك (¬3). وفيه: الحلفُ اختيارًا من غير استحلاف، وكون الحالف في اليمين على حنث (¬4)؛ فإن ذلك غير ممتنع شرعًا. ¬
الثاني: (ما) من قوله: "ما عشتُ" مصدرية ظرفية؛ أي: مدة حياتي. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تستطيع ذلك" (¬1)، عدمُ الاستطاعة تطلق (¬2) تارة على المتعذِّر أصلًا، وأُخرى على ما شَقَّ (¬3) فعلُه، وإن لم يكن متعذّرًا، وعليهما ذُكر الاحتمالُ في قوله تعالى: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، فحمله بعضُهم على المستحيل، حتى أخذَ منه جوازَ تكليف المحال، وحمله بعضُهم على ما يشقُّ، وهو الأقربُ. ق: ويمكن أن يُحمل على الممتنع، إما على تقدير أن يبلغَ من العمر ما يتعذَّر معه ذلك، وعلمه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بطريق [الرفق]، إذ (¬4) في ذلك التزام الأوقات تقتضي العادة أنه لابدَّ من وقوعها مع تعذر ذلك فيها، ويحتمل أن يكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تستطيع ذلك"، مع القيام ببقية المصالح المرغَّبة شرعًا (¬5). قلت: وهذا خلافُ قوله -عليه الصلاة والسلام- لحمزةَ بنِ عمرٍو المتقدم، وإقراره إياه على سَرْد الصوم، والظاهر: أنه -عليه الصلاة ¬
والسلام- عَلِمَ من حال أحدهما ما عَلِمَ من حال الآخر، وينشأ من ذلك عدمُ كراهة صيام الدهر؛ إذ كان -عليه الصلاة والسلام- لا يُقِرُّ على مكروه، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب جماعة إلى جوازه، منهم: مالك، والشافعي -رحمهما اللَّه-، ومنعه (¬1) أهلُ الظاهر؛ لأحاديثَ وردتْ فيه؛ كقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا صَامَ مَنْ (¬2) صَامَ الأَبَدَ" (¬3)، وغير ذلك، وتأول ذلك مخالفوهم: بأن هذا محمولٌ على إدخال صيام الأعياد والتشريق. ع: والأشبهُ عندنا في التأويل: أن يكون محمولًا على أنه يضر به ذلك، ألا تراه قال: "فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ، هَجَمَتْ لَهُ عَيْنُكَ، وَنَهِكَتْ نَفْسُكَ" (¬4). قلت: معنى هَجَمَتْ: غارَتْ، ونهِكَتْ -بفتح النون، وفتح الهاء وكسرها، وإسكان التاء-؛ أي: ضَعُفَتْ. ح: وضبطه بعضهم -بضم النون (¬5) وكسر الهاء وفتح التاء-؛ ¬
أي: نُهِكْتَ أنتَ؛ أي: ضَنيت، قال: وهذا ظاهر كلام القاضي (¬1). الرابع: فيه: استحبابُ صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وعلّتُه مذكورة في الحديث، واختُلف في تعيينها، وليس ذلك من غرضنا في هذا الحديث، وسيأتي الكلامُ على ذلك قريبًا في حديث أبي هريرة. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإن الحسنة بعشر أمثالها": كان المرادَ بالحسنة: الفعلة الحسنة شرعًا، فأقيمت الصفةُ مقامَ الموصوف. فإن قلت: القاعدةُ في العربية إثباتُ التاء من الثلاثة إلى العشرة في عددِ المذكر، وحذفُها في المؤنث، والمثلُ مذكَّرٌ، فلم حُذفت التاء؟ قلت: هو مثلُ قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وقد أجيب عنه من وجهين: أحدهما: أن التقدير فله عشرُ حسناتٍ أمثالها، وحذفت التاء من عشرة؛ لأن الأمثال في المعنى مؤنثة؛ لأن مثل الحسنة حسنة. والثاني: أنه أُنِّثَ، لإضافته إلى مؤنث، وهو الهاء والألف التي هي ضمير مؤنث، فكان (¬2) من باب: سقطتْ بعضُ أصابعه، و: كَمَا نَهِلَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ¬
وأشباهِ ذلك. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وذلك مثلُ صيام الدهر"، قيل: إنه مؤوَّلٌ عندهم على أنه مثلُ أصلِ صيام الدهر من غير تضعيف؛ فإن التضعيف مرتَّبٌ على الفعل الحسي الواقع في الخارج. ق: والحاملُ على هذا التأويل: أن القواعد تقتضي أن المقدَّرَ لا يكون كالمحقَّق، وأن الأُجور تتفاوت بحسب تفاوت المصالح، أو المشقَّة في الفعل، فكيف يُسَوَّى من فعلَ الشيءَ بمن قدر فعله [له]، فلأجل ذلك (¬1) قيل: إن المراد: أصلُ الفعل في التقدير، لا الفعلُ المرتَّبُ عليه التضعيفُ في التحقيق، وهذا البحث يأتي في مواضع، ولا يختص بهذا الفعل (¬2). ومن هنا يمكن أن يجاب عن الاستدلال بهذا اللفظ وشبهه، على جواز صوم الدهر؛ من حيث إنه ذكر الترغيب في فعل هذا الصوم، ووجهُ الترغيب بأنه مثل صوم الدهر، ولا يجوز أن تكون (¬3) جهةُ الترغيب هي جهة النهي، وسبيل الجواب: أن (¬4) الذمَّ عند من قال به متعلقٌ بالفعل الحقيقي، وجهةُ الترغيب هاهنا حصولُ الثواب على الوجه التقديري، ¬
فاختلفت جهةُ الترغيب وجهةُ الذم، وإن كان هذا الاستنباط الذي ذُكِرَ لا بأسَ به، ولكن الدلائل الدالةَ على كراهة صوم الدهر أقوى منه دلالةً، والعملُ بأقوى الدليلين واجب، والذين أجازوا صوم الدهر حملوا النهي على ذي عجز أو مشقة، أو ما يقرب من ذلك من لزوم تعطيل مصالح راجحة على الصوم أو متعلقة بحق الغير؛ كالزوجة مثلًا (¬1). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 193 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صَومُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ داوُدَ؛ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا" (¬1). ¬
معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَحَبُّ إلى اللَّه"؛ أي: أكثرُه ثوابًا، وأعظمُه أجرًا، وتقديرُه بما ذكر، ونومُ سُدُسِه فيه مصلحةُ الإبقاء على النفس، واستقبالُ صلاة الصبح وأذكار أولِ النهارِ بنشاط، وأنه أقربُ إلى عدمِ الرِّياءِ في الأعمال؛ فإن من نامَ السدسَ الأخير، أصبح جامًّا (¬1) غيرَ منهوكِ القوى، وهو أقربُ إلى أن يخفي أثر عمله على من يراه، وقد قيل: إن عدم النوم في السحر يُصَفِّر الوجهَ، ومن يخالفْ هذا، يجعلْ قولَه -عليه الصلاة والسلام-: "أَحَبُّ الصيامِ" مخصوصا بحالةٍ، أو بفاعلٍ، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 194 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أَوْصَاني خَلِيلِي -صلى اللَّه عليه وسلم- بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكعَتَي الفَجْرِ، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ (¬1). ¬
هو بخفض (صيام) وما بعده على البدل من (ثلاث)، ويجوز الرفعُ على إضمار المبتدأ، والأول أولى. فيه: الحضُّ على هذه الخصال الثلاث؛ لقرينة الإيصاء بها. أما صومُ ثلاثة أيام من كل شهر، فاختُلف في تعيينها، ففسره جماعة من الصحابة والتابعين بأيام البيض، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، منهم: عمرُ بنُ الخطاب، وابنُ مسعود، وأبو ذَرٍّ، وبه قال أصحابُ الشافعي. واختار النخعي [آخر الشهر. واختار] وآخرون: ثلاثةَ أيام من أوله؛ منهم: الحسن. واختارت عائشةُ، وآخرون: صيامَ السبت، والأحد، والاثنين من الشهر، ثم الثلاثاء، والأربعاء، والخميس من الشهر الذي بعده. واختار آخرون: الاثنين والخميس. ح: وفي حديث رفعه ابنُ عمر: أَوَّلُ اثْنَيْنِ في الشَّهْرِ، وَخَمِيسَانِ بَعْدَهُ، وعن أم سلمة: أول خميس، والاثنانِ بعده، ثم الاثنان. وقيل: أول يوم من الشهر، والعاشر، والعشرون. وقيل: إنه صيام مالكِ بنِ أنس، وروي عنه كراهةُ صومِ أيام البيض. وقال ابن شعبان: أول يوم من الشهر، والحادي عشر، والحادي والعشرون (¬1). ¬
وقوله: "وركعتي الضحى": جاء في صلاة الضحى أحاديثُ كثيرة، وربما قيل: إنها الصلاة الوسطى، وقد تقدم ذلك في صدر هذا الكتاب. وأما الوتر، فقد تقدم في بابه مستوعَبًا، واللَّه ولي التوفيق والمنة (¬1). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 195 - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَادِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَهَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: نعَمْ. وَزَادَ مُسْلِمٌ: وَرَبِّ الكَعْبَةِ (¬1)!. ¬
* التعريف: محمدُ بنُ عَبَّادِ بنِ جعفرٍ، المخزوميُّ، القرشيُّ، المكيُّ. سمع جابرَ بنَ عبدِ اللَّه، وعبدَ اللَّه بنَ عباس، وعبدَ اللَّه بنَ عَمرو، وعبدَ اللَّه بنَ عُمرَ بنِ الخطاب. روى عنه: ابنُ جُريج، وزيادُ بنُ سعدٍ، وعبدُ الحميد بنُ جبير. تابعي، أخرج حديثه في "الصحيحين" (¬1). * الشرح: المراد بالنهي: إفرادُه بالصوم؛ كما سيأتي في الحديث الذي بعدَه مبيَّنًا. وقد اختلف العلماء في علَّةِ ذلك، فقيل: إن يوم الجمعة يومُ دعاءٍ وذِكْرٍ وعبادة؛ من الغسل، والتبكير إلى الصلاة وانتظارها، واستماع الخطبة، وإكثار الذكر؛ لقول اللَّه تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الجمعة: 10]، وغير ذلك من العبادات، فاستحب الفطرُ فيه؛ ليكون أعونَ لها على هذه الوظائف، وأدائها ¬
بنشاط وانشراح لها، والتذاذٍ بها، من غير ملل ولا سآمة، وهو نظيرُ الحاجِّ يومَ عرفة؛ فإن السنَّةَ له الفطرُ، وهذا تعليل يتبادر إلى الذهن جودتُه، وإذا تُؤُمِّل، ضَعُفَ، لزوال الكراهةِ بصيامِ يومٍ قبلَه أو بعدَه. فإن قلتَ: إنه يحصل له بفضيلة الصوم القبليِّ أو البعديِّ ما ينجبر به ما عساه أن يقع في وظائف يوم الجمعة من فتور وتقصير. قلتُ: هذا ضعيف أيضًا، لأن الجابر لذلك أعمُّ من كونه صومًا، أو ذِكْرًا، أو صدقة، أو غير ذلك، فلِمَ حصرتَه في الصيام دونَ غيره؟ ثم نقول لهذا القائل: ما تقول لو أَعتق المكلَّفُ رقبةً، أو تصدَّق بمال كثير، ونحو ذلك، ثم أفردَ يومَ الجمعة بالصيام، هل تنتفي الكراهة والحالة هذه، ويكون ذلك جابرًا كما قلت؟ فإن قال بزوال الكراهة، فقد خرق الإجماعَ فيما علمت، وإن قال: انتقض التعليل، فليختر قائلُ هذا التعليل أَيَّ الأمرين شاء. وقيل: سببُ النهي: خوفُ المبالغة في تعظيمه بحيث يُفتتن به؛ كما افْتُتِنَ بيوم السبت، واعترض (¬1) هذا -أيضًا- بصلاة الجمعة وغيرِها مما هو مشهورٌ من وظائفها وتعظيمه. وقيل: سببُ النهي: خوفُ اعتقاد وجوبه، واعترض -أيضًا- بصوم يوم الاثنين؛ فإنه يُندب صومُه، كما في الصحيح، ولا يلتفت إلى هذا الاحتمال البعيد، واعترض -أيضًا- بيوم عرفة، ويوم عاشوراء. ¬
وأما قول مالك في "موطئه": لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه، ومن يُقتدى به، ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامُه حسنٌ، وقد رأيت بعضَ أهل العلم يصومُه، وأراه كان يتحرَّاه (¬1). فقد قال الداوودي من أصحابنا: لم يبلغ مالكًا هذا الحديثُ، ولو بلغه، لم يخالفه. قلت: وفي هذا عندي بُعد؛ لشهرة الحديث وانتشاره. وقال ع (¬2): أخذ بظاهر هذا الحديث الشافعيُّ، ولعل قول مالكٍ إليه يرجع؛ لأنه إنما قال: وصومُه حسنٌ، ومذهبُه معلومٌ في كراهة تخصيص يومٍ بالصوم، وهذا محتمل من معنى ما جاء في الحديث: "لَا تَخُصُّوهُ بِصِيَامٍ" عند بعضهم، وإنما حكى مالكٌ عَمَّن حكى صومَه، وظن أنه كان تحرَّاه، ولم يقل مالك: إني أرى هذا، و (¬3) لا أحبه -أعني: تحريه-، فيحتمل (¬4) أنه مذهبه. قلت: وهذا أقربُ من التعسف، وظاهرُ قول مالك رحمه اللَّه أو نصُّه وقوةُ سياقه، يقتضي عدمَ كراهة صومِه منفردًا بلا إشكال. قال: وقد أشار الباجي إلى أن مذهب مالك هذا يحتمل قولة له أخرى في صيام يوم الجمعة، فوافق الحديث. ¬
قلت: وهذا ليس ببعيد. وقال الداوودي في كتاب "النصيحة" (¬1) ما معناه: أن النهي إنما هو عن تحريه واختصاصه دونَ غيره، وأنه متى صامَ مع صومه يومًا غيرَه، فقد خرج عن النهي، كان ذلك الصوم قبلَه أو بعدَه، إذ لم يقل: اليوم الذي يليه، وقد يرجح (¬2) ما قاله قولُه في الحديث الآخر، في الأم (¬3): "لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ، وَلَا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي" (¬4). وذكر الطحاويُّ فيه معنًى آخرَ جاء في أثر رواه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "يَوْمُ الجُمُعَةِ يَوْمَ عِيدِكُمْ، فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ، إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ" (¬5)، انتهى (¬6). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 196 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إِلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أَوْ بَعْدَهُ" (¬1). * * * * الشرح: هذا الحديثُ مبيِّنٌ للحديث الذي قبلَه من أن المراد بالنهي: إفرادُ ¬
يوم الجمعة بالصيام -كما تقدم-، وقد تقدم تعليلُ ذلك، وما يرد عليه من النقوض آنفًا، وللنظر في ذلك مجال، واللَّه -تعالى- يُطلع مَنْ شاء على ما شاء (¬1)، فلا يلزم من عدم ظهور المصلحة لنا عُرُوُّ الحكم عنها، وباللَّه التوفيق. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 197 - عَنْ أَبي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ (¬1)، وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نهى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ صِيَامِهِمَا؛ يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، واليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ (¬2). ¬
* التعريف: سَعْدُ بنُ عُبَيدٍ الزُّهْرِيُّ، القرشيُّ، المدنيُّ، أبو عبيدٍ التابعيُّ مولى عبدِ الرحمنِ بنِ أزهرَ، وهو منتسب إلى عبدِ الرحمن بنِ عوف -أيضًا-؛ لأنهما ابنا عم. كان سعد هذا من فقهاء أهل المدينة ومفتيهم. روى عن عمرَ بنِ الخطاب، وعثمانَ بنِ عفان، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ، وأبي هريرة -رضي اللَّه عنهم-. روى عنه: الزهري. مات سنة ثمان وتسعين. أخرج له في "الصحيحين" (¬1). * الشرح: صيامُ هذين اليومين حرامٌ اتفاقًا، فلا يجزئان مَنْ صامهما عن فرض، ولا نذر، ولا قضاء، ولا كفارة، ولا تطوُّع. وقال ابن هبيرة: قال أبو حنيفة: إنْ نذر صومَ يوم العيد، فالأَولى ¬
أن يُفطره، ويصومَ غيره، فإن لم يفعل، وصامه، أجزأه عن النذر (¬1). قلت: وأيامُ التشريق عنده كذلك. ق (¬2): فطريقُ (¬3) الحنفية في ذلك: أن الصوم له جهةُ عموم، وجهةُ خصوص، فهو من حيث إنه صوم يقع الامتثالُ به، ومن حيث إنه صومُ يوم (¬4) عيدٍ يتعلق به النهيُ، فالخروجُ عن العهدة يحصل بالجهة الأولى -أعني: كونه صومًا-، والمختار عند غيرهم خلافُ ذلك، وبطلانُ النذر، وعدمُ صحة الصوم، والذي يدَّعى من الجهتين (¬5) بينهما تلازم هاهنا، ولا انفكاك، فيتمكن (¬6) النهي من هذا الصوم، فلا يصح أن تكون قربة، فلا يصح نذره. بيانه (¬7): أن النهيَ وردَ عن صوم يوم العيد، والناذرُ له معلَّقٌ لنذره بما تعلَّقَ به النهيُ، وهذا بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة عندَ من يقول بصحتها؛ فإنه لم يحصل التلازم بين جهة العموم -أعني: كونها صلاة-، وبين جهة الخصوص -أعني: كونها حصولًا في مكان ¬
مغصوب-، وأعني بعدم التلازم هاهنا: عدَمه في الشرعية؛ فإن الشرع وَجَّهَ الأمرَ إلى مطلق الصلاة، والنهيَ إلى مطلق الغصب، وتلازُمهما واجتماعُهما إنما هو من فعل المكلَّف، لا في الشرعية، فلم يتعلق النهيُ شرعًا بهذا الخصوص، بخلاف صوم العيد، فإن النهي ورد عن خصوصه، فتلازمت جهةُ العموم وجهة الخصوص، وتعلق النهيُ بعين ما وقع في النذر، فلا يكون قربةً. وتكلم الأصوليون في قاعدة تقتضي النظر في هذه المسألة، وهو أن النهي عند الأكثرين لا يدل على صحة المنهيِّ عنه، وقد نقلوا عن محمد بن الحسن رحمه اللَّه: أنه يدل على صحة المنهيِّ عنه، لأن النهي لابد فيه من إمكان المنهيِّ عنه (¬1)، إذ لا يقال للأعمى: لا تبصر، ولا للإنسان: لا تنظر، فإذًا المنهي عنه -أعني: صومَ يوم العيد- ممكنٌ، وإذا أمكن، ثبتت الصحةُ، وهذا (¬2) ضعيف؛ لأن الصحة إنما تعتمد التصور والإمكان العقلي والعادي، والنهي يمنع التصور الشرعي، فلا يتعارضان، وكأن محمدَ بنَ الحسن يصرف اللفظ في المنهيِّ عنه إلى المعنى الشرعي (¬3)، واللَّه أعلم. فيه: استحبابُ ذكرِ الخطيبِ ما يتعلق بوقته من الأحكام. ¬
وفيه: الإشارة إلى علة تحريم صوم يوم النحر، وهو الأكلُ من النسك، فلذلك لم يقل: يوم النحر؛ فإن قوله: "تأكلون فيه من نُسُكِكم" يستلزمه، ويزيد فائدةَ التنبيه على التعليل. وقوله: "هذان يومان" تغليبٌ للحاضر على (¬1) الغائب، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع (¬1) 198 - عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ: الفِطْرِ وَالنَّحْرِ، وَعَنِ الصَّمَّاءِ (¬2)، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وعَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْح وَبَعْدَ العَصْرِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِهِ (¬3)، وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ الصَّوْمَ فَقَطْ (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
* الشرح: قد تقدم ذكر تحريم صوم اليومين آنفًا (¬1). أما اشتمالُ الصَّمَّاء، فقال الفارسي في "مجمعه": تفسير الفقهاء: أنه يشتمل بثوب، ويرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبيه، فالنهيُ عنه لأ [نه] يؤدِّي إلى الكشف وظهور العورة، قال الفارسي: وهذا التفسير لا يُشعر به لفظُ الصماء، وقال الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب جميع جسده؛ بحيث لا يترك فرجة يُخرج منها يدَه، [واللفظ مطابق لهذا المعنى] (¬2). ق: والنهي عنه يحتمل وجهين: ¬
أحدهما: أن يخاف منه أن يدفع إلى حالة سادَّة لمتنفسه (¬1)، فيهلك (¬2) عما تحته إذا لم يكن فيه فُرجة. والآخر: أنه إذا تخلل به، فلا يتمكن من الاحتراز إن أصابه شيء، أو نابه مؤذٍ، ولا يمكنه أنْ يتقيَه بيديه، لإدخاله إياهما تحت الثوب الذي اشتمل به (¬3). وأما الاحتباء: فهو أن يجمع الرجل ظهرَه وساقيه بعِمامته، وقد يحتبي بيديه، أو بغير ذلك. وأما النهي عن الصلاة بعدَ الصبح، وبعد العصر، فالمراد بها: صلاة النافلة، وقد تقدم ذلك مستوعَبًا في حديث: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ" الحديث، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 199 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" (¬1). ¬
* الشرح: ظاهرُه في الغزو والجهاد، ويحتمل أن يريد بسبيل اللَّه: طاعتَه؛ لأن كل ما يُتقرب به إلى اللَّه -تعالى- فهو في سبيل اللَّه، وكأنه عبَّر بذلك عن إخلاص النية وحسنِ القصد، وكأن الأول أظهرُ بالنسبة إلى العرف (¬1)، وإن كان قد جاء في بعض الأحاديث جعل الحج، أو سفره من سبيل اللَّه، فإن حملناه على الغزو، فلاجتماع العبادتين فيه، لكن قيل: يُحمل على مَنْ لم يتضرر بالصيام، ولا يفوِّت حقا، ولا يختل أمرُ قتاله ولا غيره من مهمات غزوه (¬2). ومعنى المباعدة من النار: المعافاة منها -عافانا اللَّه منها (¬3) بمنِّه وكرمه-. ومعنى سبعين خريفًا: سبعون عامًا؛ أي: مسيرةَ سبعين عامًا. ق: وإنما عبر بالخريف عن السنة؛ من جهة أن السنة لا يكون فيها إلا خريف واحد، فإذا مرَّ الخريف، فقد مرت السنة كلُّها، وكذلك لو عبر بسائر الفصول عن العام، كان سائغًا لهذا المعنى، إذ ليس في السنة إلا ربيعٌ واحد، ومصيف (¬4) واحد. قال بعضهم: ولكن الخريف أولى بذلك؛ لأنه الفصل الذي ¬
تحصل (¬1) به نهايةُ ما بدأ في سائر الفصول؛ لأن الإزهار يبدو (¬2) في الربيع، والثمار تتشكل (¬3) صورُها في المصيف، وفيه يبدو نضجُها، ووقتُ الانتفاع بها أَكْلًا وتحصيلًا وادخارًا في الخريف، وهو المقصود منها، فكان فصل الخريف أولى بأن يُعبر به عن السنة من غيره (¬4). قلت: إن سلَّمنا مناسبة هذا التعليل، فلنا أن نقول: فما وجهُ العدول عن التعبير بالسنة إلى لازمها الذي هو الخريف، والأصلُ التعبيرُ بالشيء لا بلازمه؟ والذي يظهر لي في ذلك -واللَّه أعلم-: أن السامع إذا سمع الخريف، تصور أن في كل سنة فصولًا أربعة، ولا كذلك إذا عبر بالسنة، إذ ربما ذهل عن تصور ذلك، والحديث إنما أُتي به في سياق الترغيب، فكان ذكرُ الخريف أنسبَ لذلك، واللَّه أعلم. ويجوز -أيضًا- أن يكون -عليه الصلاة والسلام- عبر بذلك لما كان الخريف نصفُه الأول فيه الحر، إذ هو معاقِبٌ لفصل الصيف، ونصفُه الآخر فيه البرد، إذ كان يليه فصلُ الشتاء، ليتذكر العبد (¬5) بذلك حرَّ النار وزمهريرَها، واللَّه تعالى أعلم. ¬
باب ليلة القدر
باب ليلة القدر الحديث الأول (¬1) 200 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المَنَامِ مِنَ السَّبع الأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبع الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبع الأَوَاخِرِ" (¬2). ¬
* الشرح: اختلف العلماء (¬1) لم سُميت ليلةَ القدر؟ فقيل: المعنى: أنها ليلةُ الشرف والمنزلة والفضيلة، فسماها بهذا؛ لنزول القرآن جملة إلى سماء الدنيا، وثباتِ خيرها ودوامِه، وهو معنى البركة في قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] في الآية الأخرى. وقيل: لأنها ليلةُ تقديرِ الأمور وقضائِها؛ من قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]. وقيل: المراد بهذه الآية: ليلةُ النصف من شعبان. ع: ومعنى ذلك -واللَّه أعلم-: إظهارُ ما قَدَّره اللَّه -تعالى- في أَزَلهِ من ذلك لحَمَلةِ وحيه، وملائكةِ سمواته، ونفوذُ أمره بذلك لهم ووحيه، أو إظهارُ ما شاء (¬2) من أفعاله الدالة على ذلك عندهم، وإلا فقَدَرُ اللَّه وسابقُ علمِه بالآجال والأرزاق، وقضاؤه بما كان ويكونُ ¬
لا أولَ له (¬1). وقيل: سماها ليلة القدر؛ لأنها يتنزل فيها من فضل اللَّه وخزائن مِنَنِهِ ما لا يُقدر قدرُه. قلت: وفي هذا التعليل الأخير عندي نظر. ثم اختلفوا في سر كونها خيرًا من ألف شهر، وتخصيصها بهذه المدة، فقيل: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَرَ رجلًا من بني إسرائيل حملَ السلاحَ في سبيل اللَّه ألفَ شهر، فعجب المؤمنون من ذلك، وتقاصَرَتْ إليهم أعمالُهم، فأُعْطُوا ليلة هي خيرٌ من مدة ذلك الغازي. وقيل: إن الرجل كان فيما مضى ما كان يقال له عابدٌ حتى يعبد اللَّه ألفَ شهر، فأُعطوا ليلة إن أَحْيَوها، كانوا أحقَّ بأن (¬2) يسمَّوا عابدين من أولئك العباد (¬3). وروى مالك في "موطئه": أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أُري أعمالَ الناس قبله، أو ما شاء اللَّه من ذلك، فكأنه (¬4) تقاصرَ أعمارَ أمته أن لا يبلغوا من العمل مثلَ الذي بلغَ غيرُهم في طول العمر، فأعطاه اللَّه ليلةَ القدر خير من ألف شهر (¬5). ¬
قلت: هذا أحدُ الأحاديث الأربعة الواقعة في "الموطأ" المطعونِ فيها، على ما نقله ابن بزيزة في "شرح الأحكام" لعبد الحق -رحمهما اللَّه-، وغيرُه. والثاني: قوله: "إِذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةً، ثُمَّ تَشَاءَمَتْ، فَتِلْكٌ عَيْنٌ غَدِيقَةٌ". والثالث: قوله: "إِنِّي لأَنْسى، أَوْ أُنَسَّى لأِسُنَّ". والرابع: قوله: أخبر معاذٌ، قال: آخرُ ما أَوصاني به رسولُ اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - حينَ وضعتُ رِجْلي في الغَرْزِ، الحديث. وقد أُلحق بها: أنَّ رسولَ اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - دخلَ يومَ الفتح مكةَ وعلى رأسِه المِغْفَرُ. وخالف في هذه الزيادة الأخيرة سائرُ أصحاب ابن شهاب. وقال ابن عبد البر: حديثُ مالك هذا -يعني: حديث ليلة القدر- لا يُحفظ مسنَدًا، ولا مرسَلًا -فيما علمت-، إلا من "الموطأ"، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد مسندة ولا مرسلة من إرسال تابعي ثقة (¬1). قلت: قال الأفلنحي: والحديثُ وإن كان كما قاله أبو عمر، فينبغي أن يُعَوَّلَ عليه؛ لكونِ مالكٍ خَرَّجَه، وهو رئيسُ صناعة الحديث. وأما ما روى الترمذي وغيرُه: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُري في منامه بني أمية ¬
يَنْزون على مِنبره نَزْوَ القِرَدَة (¬1)، فشقَّ ذلك عليه، فأَنزل اللَّهُ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]، إلى قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر: 3] مَلَكَها بنو أمية بعدَ ذلك، قال: فحسبناها، فوجدناها ألفَ شهر، لا تزيدُ يومًا، ولا تنقص يومًا (¬2). فقال القاضي أبو بكر بن العربي في "قبسه": وهذا لا يصح، قال: والذي روى مالكٌ من أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُري تقاصُرَ أعمارِ أمته، أصحُّ وأولى، ولذلك أدخله؛ ليبين بذلك الفائدةَ فيه، ويدلَّ على بطلان هذا الحديث (¬3). ثم اختلفوا في ميقات (¬4) رجائها، فقيل: هو العام كله. قال ابنُ مسعود: مَنْ يَقُمِ الحولَ يُصِبْ ليلة القدر. والثاني: أنها في شهر رمضان؛ لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، فجعله محلًا عامًا في لياليه وأيامه لنزول القرآن، ثم قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] فجعله خاصًا في ليلة القدر منه. ¬
فائدة: قال الزمخشري: قوله تعالى (¬1): {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] عظَّم اللَّهُ القرآنَ فيها من ثلاثة أوجه: الأول: أنه أحالَ تنزيله إليه -تعالى- خصوصًا. الثاني: أنه أتى به مضمَرًا، لا مُظْهَرًا؛ تنبيهًا على أنه أنبَهُ (¬2)، وقدرُه أعظمُ من أن يفتقرَ إلى إظهاره. الثالث: أنه رفع من مقدار الوقت الذي نزَّلَه فيه بسبب كونِهِ ظرفًا لنزوله (¬3). الثالث من الأقوال: أنها ليلةُ سبعَ عشرةَ من رمضان، قاله ابن الزبير، ورواه ابن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإلى ذلك إشارة من كتاب اللَّه تعالى، وهي قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، وذلك ليلة سبعة عشر من رمضان؛ قاله القاضي أبو بكر بن العربي. الرابع: أنها ليلةُ إحدى وعشرين؛ لرؤيا النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فكان ذلك فيها. الخامس: أنها ليلةُ ثلاثٍ وعشرين، وهي رواية عبدِ اللَّه بنِ أُنيس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: وقد روى أهل التزهُّد: أن جماعة منهم سافروا ¬
في البحر في رمضان، فلما كانت ليلة ثلاث وعشرين، سقط أحدُهم من السفينة في البحر، فجرجرَ الماءَ في حلقه، فإذا به حلوٌ، وكان ما ينزل من السماء في تلك الليلة من البركة والرحمة يقلب المِلْحَ الأُجاج عَذْبًا، فما ظنك إذا وجد ذنبًا؛ وذلك قوله: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمانًا واحْتِسَابًا"، الحديثَ (¬1)، وإن قام الشهرَ كلَّه، فقد نالها، وإن اتفق أن يقوم فيه ليلةً، فصادَفَها، فقد نالَها. السادس: أنها ليلةُ خمسٍ وعشرين، وفي ذلك أثر. السابع: أنها ليلةُ سبع وعشرين، قاله أُبيٌّ، وقال: أخبرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بآية: أن الشمسَ تطلعُ في صبيحتها بيضاءَ لا شعاعَ لها (¬2)، كأن الأنوارَ المفاضة في (¬3) الخلق (¬4) تلك الليلةَ تغلبها. وكان ابنُ عباس يحلف أنها ليلة سبعة وعشرين، وشرع في ذلك بإشارة عليها بنى الصوفية عَقْدَهم في كثير من الأدلة، فيقول: إذا ¬
عددْتَ حروفَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر: 1] فقولُك: (هي) هو الحرف السابع والعشرون، ووافقه (¬1) في هذا الاستنباط أبيُّ بنُ كعب، وزاد -أيضًا- بأن قال: إن لفظة ليلة القدر تكررت في (¬2) السورة ثلاثَ مرات (¬3)، وهي تسعةُ أحرف، وتسعةٌ في ثلاثة سبعةً (¬4) وعشرين، وروي هذا القول -أيضًا- عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. الثامن: أنها ليلة تسع وعشرين. التاسع: أنها في أشفاع هذه الأفراد، وادعت ذلك الأنصارُ في تفسير قوله -عليه الصلاة والسلام-: "في تَاسِعَةٍ تَبْقَى"، قالوا: هي ليلةُ عشرين، قالوا: نحن أعلمُ بالعدد منكم. العاشر: أنها تختص بأوتار العشر. الحادي عشر: أنها في ثلاث وعشرين، أو سبع وعشرين، وهو قول ابن عباس أيضًا. الثاني عشر: أنها تُطلب في ليلة سبعَ عشرةَ، أو إحدى وعشرين، وهو قولٌ محكيٌّ عن بلالٍ، وابنِ عباس، والحسنِ، وقَتادةَ (¬5). ¬
الثالث عشر: أنها آخرُ ليلة من الشهر (¬1). الرابع عشر: أنها تدور في السنة، وقيل: بل تدور في شهر رمضان من السنة، وقيل: لا تدور أصلًا، بل هي ليلة معينة عند اللَّه -تعالى- مخصوصة بالعشر الأواخر من رمضان، غير معينة عند الناس. ومن أعجب الأقوال قولُ أبي حنيفة: أنها رفعت؛ تمسُّكًا منه بظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فتلَاحَى رَجُلَانِ، فَرُفِعَتْ"، وإنما المقصود: رفعُ تعيينها (¬2)، لا وجودها، وهو مقتضى السياق؛ بدليل أمرِه -عليه الصلاة والسلام- بالتماسِها، والتماسُ المرتفع محالٌ، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُم، الْتَمِسُوهَا في السَّبْعِ والتِّسْعِ"، هكذا هو في أول "صحيح البخاري" (¬3)، والذي عليه الجمهورُ من أهل العلم أنها مخصوصةٌ برمضانَ في كل سنة. وقيل: إنها مخصوصةٌ برمضان بعينه، كان في ذلك الزمن، وهو باطل لا دليل عليه. قال ابن بزيزة: والصحيح -واللَّه أعلم- أن هذه الليلة أُخفيت عن الخلق؛ ليجتهدوا في العشر. ¬
قلت: فهي كالساعة في يوم الجمعة، وكالصلاة الوسطى، وكاسم اللَّه الأعظم؛ على القول بذلك، وكما أخفى -تعالى- رضاه في طاعته، وغضبَه في معصيته، ووليَّه في خلقه؛ كما في الحديث. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَرى رؤياكم قد تواطَأَتْ"؛ أي: توافَقَتْ، هو بهمزة بعد الطاء؛ من قوله -تعالى-: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]. فيه: دليل على اعتبار الرؤيا، والاستناد إليها في الأمور الوجوديات، وما لا يخالف القواعد الكلية من غيرها. ق: وقد تكلم الفقهاء فيما لو رأى النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الرؤيا، وأمره بأمر، هل يلزم ذلك؟ فقيل فيه: إن ذلك إما أن يكون مخالفًا لما ثبتَ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحكام في اليقظة، أو لا، فإن كان مخالفًا، عملَ بما ثبتَ (¬1) في اليقظة؛ لأنا وإن قلنا: إن من رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الوجه المنقول (¬2) من صفته، فرؤياه حَقٌّ، فهذا من قَبيل تعارُض الدليلين، والعملِ بأرجَحِهما، وما ثبتَ في اليقظة فهو أرجحُ. قلت: لقائل أن يقول: ليس هذا من باب تعارضُ الدليلين؛ إذ النسخُ لا يُتصور بعدَه -عليه الصلاة والسلام- في منامٍ ولا يقظة، وإنما ¬
يقال: تعارَضَ الدليلان: إذا تساويا في الأصل، ولا مساواة هاهنا، لما ذكرناه، فاعرفه (¬1). ثم قال: فإن كان غيرَ مخالف لما ثبتَ في اليقظة، ففيه خلاف (¬2). قلت: ولم أدرِ كيف يتصور الخلافُ مع ذلك مع عدم المخالفة، ألا ترى أنه لو قال -عليه الصلاة والسلام- لراءٍ رآه في منامه: حافظْ على الصلوات، وأَدِّ الزكاة، ونحو ذلك مما تقرر في الشريعة، هل يُتصور الخلافُ في ذلك، أو يعقل؟ إلا أن يريد: أنه -عليه الصلاة والسلام- أمره بشيء لم يتقرر له حكمُ الشرع، فهذا محتمل، واللَّه أعلم. ثم قال: والاستنادُ إلى الرؤيا (¬3) هاهنا في أمر ثبتَ استحبابُه مطلقًا، وهو طلبُ ليلة القدر، وإنما ترجَّحَ السبعُ الأواخر بسبب المرائي الدالة على كونها في السبع الأواخر، وهو استدلال على أمر وجودي لزمَه استحبابٌ شرعيٌّ مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي، مع كونه غيرَ منافٍ للقاعدة الكلية الثابتة من استحباب طلب ليلة القدر (¬4). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فليتحَرَّها"؛ أي: ليحرِصْ على طلبها، وليجتهدْ فيه، واللَّه أعلم. ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 201 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في لَيَالِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ" (¬1) (¬2). ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 202 - عَنْ أبَي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتكَفَ عَامًا، حَتَّى إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِي اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: "مَنِ اعْتكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتكِفِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، فَقَدْ أُرِيتُ (¬1) هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأيتُنِي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ، فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، ¬
وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ"، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكانَ المَسْجدُ عَلَى عَرِيشٍ، فَوَكَفَ المَسْجدُ، فَاَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى جَبْهَتِهِ أثَرُ المَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشِرينَ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: يقال: العشر الأوسط، والوُسَط -بضم الواو-، وهكذا رأيته بخط ابن عصفور النَّحْوي رحمه اللَّه، أعني: الوُسَط، ووجهُه: أن العشرَ اسمٌ لمجموع الليالي العشر، فهو كالأُخَر في جمع أخرى، ووجهُ الأوسط: إرادةُ انقسام الشهر إلى ثلاثةِ أعشار، والأولُ كأنه الأصل، واللَّه أعلم (¬1). الثاني: قوله: "من رمضان" فيه: استعمال رمضان من غير ذكر الشهر، على ما تقدم استيعابهُ. الثالث: قوله (¬2): "فاعتكفَ عامًا"، سُميت السنة عامًا؛ لأنه مصدرُ عامَ: إذا سبحَ، يعوم عَوْمًا وعامًا، فالإنسانُ يعومُ في دنياه على الأرض طولَ حياته حتى يأتيَه الموتُ، فيغرقُ فيها، وكأنَّ (¬3) استعمالَ العام أولى من السنة، فإن السنة عندَهم قد تكون عَلَمًا عندهم على الجُدُوبة والقحط، يقال: أَسْنَتَ القومُ: إذا أصابتهم الجدوبةُ، يقلبون الواو تاء، أو (¬4) ليس بقياس في مثل هذا، واللَّه أعلم. الرابع: العريش: ما يُستظل به، وكأنه بناءٌ من خشب، والعريش ¬
-أيضًا-: عريشُ الكَرْم، والعريشُ: شبهُ الهودج، وليس به، يتخذ ذلك للمرأة تقعدُ فيه على بعيرها، والعريش -أيضًا-: خيمة من خشب وثُمام، والجمعُ عُرُشُ؛ مثل: قَليب وقُلُب. قال الجوهري: ومنه قيل لبيوت مكة: العُرُش؛ لأنها عيدان تُنصب ويُظلل عليها، وفي الحديث: "تَمَتَّعْنا معَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفلانٌ كافرٌ بالعُرُش" (¬1)، ومن قال: عُروش، واحدُها عَرْش؛ مثل فَلْس وفُلوس، ومنه الحديث: كان ابنُ عمر يقطع التلبيةَ إذا نظر إلى عُروش مكة (¬2)، وأما العُرش -بضم العين- فهو أحدُ عُرْشَي العنق، وهما لحمتان (¬3) مستطيلتان في ناحيتي العنق، أنشد الأصمعي: وَعْبدُ يَغُوثَ يَحْجُلُ (¬4) الطَّيْرُ حَوْلَهُ ... قَدِ اهْتَزَّ عُرْشَيهِ الحُسَامُ المُذَكَّرُ ويروى: قَدِ اهْتَدَّ (¬5). ¬
الخامس: الوُكوف: القَطْرُ، يقال: وَكَفَ يَكِفُ وَكْفًا و (¬1) وُكُوفًا: إذا قَطَرَ، ووَكَفَ الدمعُ وَكِيفًا ووَكفانًا ووَكْفًا؛ بمعنى: قَطَر (¬2). السادس: سجودُه -عليه الصلاة والسلام- في الماء والطين، وعلوقُ الطين بجبهته -عليه الصلاة والسلام-، ولم يمنعْه ذلك من صحة السجود؛ دليلٌ لمذهب مالك رحمه اللَّه في صحةِ صلاةِ منْ سجدَ على الطاق والطاقتين من عِمامته، وهو الكَور -بفتح الكاف-، وإن كان تعمُّدُ ذلك مكروهًا. والشافعية يشترطون مباشرةَ الأرض بالجبهة، والحديثُ دليل عليهم، وبيانُه: إذا سجدَ في الماء والطين، ففي السجود الأول تعلقُ الطين بالجبهة، فإذا سجد ثانيًا، كان ما علق بالجبهة في السجود الأول حائلًا في السجود الثاني عن مباشرة الجبهة بالأرض، ويبعد أن يكون مسح جبهته -عليه الصلاة والسلام- من الأول، ثم سجد (¬3) بُعدًا شديدًا (¬4). السابع: قوله: "وهي الليلة التي يخرجُ من صَبيحتها من اعتكافِه"، وقوله في آخر الحديث: "فرأيتُ أثرَ الماء والطين على جبهته من صُبْح إحدى وعشرين": نُقل عن بعض أهلِ الظاهر من المحدثين: أن ¬
ليلةَ اليوم هي الآتيةُ بعدَه، والصحيحُ المشهور: أنها السابقةُ قبلَه، فلهذا الخلاف تعلق بهذه المسألة (¬1). فائدة: يقال: فعلنا الليلة كذا: من طلوع الفجر ما لم تَزُلِ الشمسُ، فإذا زالتْ، قيل: فعلنا البارِحَةَ، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب الاعتكاف
باب الاعتكاف الحديث الأول 203 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَعْتكِفُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل، ثُمَّ اعْتكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ (¬1). وَفي لَفْظٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْتكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الغَدَاةَ، جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتكَفَ فِيهِ (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: في حقيقة الاعتكاف لغةً: وهو الثبوتُ، واللزومُ، والاحتباسُ، والإقامةُ، قال اللَّه تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97]؛ أي: مقيمًا ملازمًا، وقال تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]؛ أي: محبوسًا ملزومًا، وقال تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]؛ أي: ثابتون ملازِمون. وخصَّ الشرعُ هذه الأمةَ بصفاتٍ لا تصحُّ (¬1) أن تكون اعتكافًا شرعيًا وإقامةَ عبادة إلا بها، ويجمعها أن يقال: الاعتكافُ الشرعي: لزومُ المسلم (¬2) المميزِ المسجدَ للعبادةِ، صائمًا، كافًّا عن الجِماع ومقدِّماته، يومًا فما فوقه، فيصحُّ من الصبي، والمرأة، والرقيق (¬3). ¬
وخالف الشافعيُّ و (¬1) أصحابه في اشتراط الصيام فيه، واحتج بوجهين: أحدهما: إيقاعه في رمضان؛ والثاني: بقول عمر: يا رسول اللَّه! إني نذرتُ اعتكافَ ليلةٍ في الجاهلية، فقال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬2). والجواب عن الأول: أنَّا لم نشترط أن يكون الصومُ للاعتكاف، ولكن (¬3) نقول: من شرطِ الاعتكاف ألا يصحَّ إلا مع وجود الصوم، كان رمضان، أو غيره من الصيام. وعن الثاني: أنه قد جاء في الرواية الأخرى: "إني نذرتُ يومًا وليلةً". وجوابٌ آخَرُ وهو أن العرب تُعبر بالليلة عن اليوم والليلة، ولذلك قالوا: صُمنا معَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تسعًا وعشرين أكثرَ مما صُمْنا معه ثلاثين، فعبروا بالليالي عن الأيام، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ" (¬4)، وهو كثير، بل باب التاريخ كله كذلك -أعني: الاستغناء بالليالي عن الأيام-، وقال تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، قال مالك: فخاطب به الصائمين. ¬
ع: ولم يأت أنه -عليه الصلاة والسلام- اعتكفَ إلا وهو صائمٌ، ولأنه عملُ أهلِ المدينة؛ كما ذَكَرَ مالكٌ في "موطئه"، وهو مذهب جمهور العلماء (¬1). ومن جهة المعنى: أن الاعتكافَ هو ملازمةُ المسجد بالنية -على ما تقدم-، والنيةُ تقطعُ قلبَه عن الدنيا وعلائِقِها، والمسجدُ يمنع بدنَه عن الاشتغال بأشغالها؛ لأن المساجد بيوتٌ أذنَ اللَّه أن تُرفع وُيذكر فيها اسمه، ليس فيها عملٌ في غيره، فلا يجوز له أن يعمل من الدنيا إلا ضرورة (¬2) الآدمية، وهي الطعام والشراب، وما لهما، فيمنع من الأكل نهارًا؛ لأنه أحد الأسباب المنقطعة عن الدنيا، ألا ترى أنه مُنع من الخروج إلا لحاجة الإنسان، أو لتحصيل القوت؟ قال ابن العربي: ومنعَه مالكٌ رحمه اللَّه تفطُّنًا لهذه الدقيقة من قراءة العلم؛ لأنه من أسباب الدنيا، وقَصَرَه على الذكر المجرَّد، وقال غيرهُ من العلماء: يقرأ (¬3) العلمَ إذا خلصتْ له النيةُ للَّه عز وجل. قال: وبه أقول (¬4). وأما النية: فلا خلافَ فيها؛ لكونه عبادة، ومحلُّه المسجد مطلقًا. ¬
وذهب حذيفةُ، وسعيد بن المسيب: إلى أنه لا يصحُّ إلا في أحد المساجد الثلاثة؛ المسجدِ الحرام، ومسجدِ المدينة، ومسجدِ بيت المقدس. وقال الزهري: لا يكون إلا في الجامع. قلت: إن كان ممن تلزمه الجمعةُ، ونذرَ اعتكافَ أيام تدخل فيها الجمعةُ، فمشهورُ مذهبِ مالكِ: ما قاله الزهريُّ، وهو قول الشافعي، والكوفيين، وغيرهم. ع (¬1): و (¬2) ذهب جماعةٌ من السلف: إلى أنه لا يعتكف إلا في مسجد تُجمع فيه الجمعةُ، وروي عن (¬3) مالك، زاد في رواية ابن عبد الحكم: أو في رحابه التي تُجمع فيها الجمعة. وقال الكوفيون: ولا يعتكف (¬4) النساء إلا في بيوتهنَّ. وقال ابنُ لُبابةَ من المتأخرين من أصحابنا: يجوز للجميع في غير مسجد، ولا صومٍ (¬5). قلت: وظاهرُ قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ¬
حجةٌ للجمهور في تعميم المساجد، وحجةٌ على ابن لبابة في عدم اشتراط المسجدِ والصومِ، على ما تقدم. والحديث -أيضًا- يردُّ عليه؛ من حيث إن المسجد قُصِدَ لذلك، مع ما فيه من مخالفة العادة في الاختلاط (¬1) بالناس في المسجد، وتحمل المشقة في الخروج لعوارض الخِلْقة. ولا خلاف أنه لا حدَّ لأكثرِه لمن نذره، واستحب أن يكون أقلُّه عشرةُ أيام؛ اقتداءً بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وعن مالك فيمن نذر اعتكافًا مبهمًا روايتان: يوم وليلة، وعشرةُ أيام (¬2) (¬3). الثاني: فيه: استحباب الاعتكاف مطلقًا للرجال والنساء؛ لقولها: "ثم اعتكفَ أزواجُه من بعده"، واستحبابُه في رمضان بخصوصه، وفي العشر (¬4) الأواخر بخصوصها، ولفظُ الحديث يُشعر بالمداومة، وقد صرح بذلك في رواية: "في كُلِّ رمضانَ"، وعملُ أزواجه من بعده -أيضًا (¬5) - يؤكده. ¬
الثالث: قولها: "فإذا صلَّى الغداةَ، جاء مكانَه الذي اعتكفَ فيه" لا بد من تأويله، فإن الجمهور على استحباب دخولِ المعتكف قبلَ غروب الشمس لمن أراد اعتكاف العشر، فظاهر هذا يقتضي دخولَه قبل طلوعها، وقد أُوِّلَ على تقدم اعتكافه -عليه الصلاة والسلام-، وأن دخوله بعد صلاة الغداة للانفراد عن الناس بعدَ الاجتماع بهم (¬1) في الصلاة، لا أنه كان ابتداء دخول المعتكَف، ويكون المراد بالمعتَكَف هنا: الموضعَ الذي خَصَّه بالاعتكاف، وهيأه له؛ كما جاء: أنه -عليه الصلاة والسلام- اعتكفَ في وقته، وكما جاء: أن أزواجه -رضي اللَّه عنهن- ضربن أخبيةً (¬2). وأخذ بظاهره الأوزاعي، والثوري، والليثُ في أحد قوليه. وقال أبو ثور: يفعل هذا مَنْ نذرَ عشرةَ أيام، فإن زاد عليها، فقبلَ غروب الشمس من الليلة. وقال مالك: لا يدخل اعتكافَه إلا قبل غروب الشمس، وقاله أحمد، ووافقهما الشافعي، وأبو حنيفة، وأبو ثور في الشهر، واختلفوا في الأيام، فقال الشافعي: يدخل فيها قبل طلوع الفجر، وبه (¬3) قال القاضي أبو محمد عبدُ الوهاب في الأيام، وفي الشهر. ¬
وقال عبد الملك: لا يُعتد بذلك اليوم (¬1). وسبب هذا الاختلاف: هل أولُ ليلةِ أيامِ الاعتكاف داخلةٌ فيها، أم لا تدخل، وأن اليوم هو المقصودُ بالاعتكاف، والليل تابعٌ له؛ قولان، ومن قال بالأول، تأوله على ما تقدم آنفًا. مسألة: الاعتكافُ على قسمين: نذر، وتطوُّع. والنذر قسمان: معين، وغير معين. فالمعين: يلزمه بتعيينه (¬2)، فإن كان في رمضان، لزم قضاؤه، وإن كان في غير رمضان، فهل يقضيه، أم لا؟ في المذهب قولان. وغير المتعين (¬3): لا يتقيد بالزمان، ويتقيد بالصوم والمكان. مسألة: اختلف العلماء في العمل الذي يخصُّ الاعتكافَ، فقيل: كلُّ عملٍ من أعمالِ البِرِّ مما يتعلَّق بالآخرة، القاصرةُ والمتعديةُ في ذلك سواء، مع الكَفِّ عن الجِماع ومقدِّماته. وقال ابن القاسم: قراءة القرآن، وذكر اللَّه تعالى، والصلاة، ونحو ذلك. وقال غيره: وقراءة العلم، ويجوز له أن يأمر ببعض شؤونه، وما فيه مصلحةُ معاشه، ولا بأس أن يعقد النكاح، وأن يتطيب؛ بخلافِ ¬
المحرمِ فيهما، ويخرج لحاجة الإنسان، ولشراء طعامه وشرابه إن احتاج إلى ذلك، ولم يجد مَنْ يكفيه، ولغُسْلِ جُمعته؛ بخلاف عيادة المرضى، وصلاة الجنائز، والحكومة، وأداء الشهادة، فإن كان ذلك في المسجد، وقلَّ الاشتغال به، ففي المذهب قولان: قال ابن بزيزة: وصح عن سعيد بن جبير، وقتادة والحسن بن حُيَيٍّ، والثوريِّ، وعطاءٍ، والنخعيِّ: أن المعتكف يشهد الجنائز، ويعودُ المرضى إذا اشترط ذلك حين عقد الاعتكاف. وقال مجاهد، وعطاء -أيضًا-، والزهريُّ، والليثُ، وغيرُهم: لا يعود المرضى، ولا يشهد الجنائز (¬1). وقال أبو حنيفة: إن خرج لعيادة المريض، أو للجنازة، بَطَلَ اعتكافُه. وقال صاحباه محمدٌ وأبو يوسفَ: له أن يخرج لشهود الجنازة، وعيادة المرضى، وغير ذلك، فإن كان مقدارُ لبثِه لذلك نصفَ يوم فأقلَّ، فاعتكافُه صحيح، وإن كان أكثرَ من ذلك، بَطَلَ اعتكافه. قلت: ليت شعري! من أين أخذ هذا التحديد الذي لا دليلَ عليه، ولا معنًى يرشد إليه؟! (¬2) ¬
قال ابن بزيزة: اختلفوا: هل يخرجُ لرفع شهادةٍ حملها، أم لا؟ والصحيح: أنه إن تَعَيَّنَ وقتُها، واضطرَّ الأمر فيها، وجبَ رفعُها، ورجع إلى اعتكافه. ومن أهل العلم مَنْ أجاز له الخياطةَ، والعملَ القليل؟ كالنسخِ، والبيع والشراء، والخصام من الحق القريب، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، وداود. مسألة: هل يبطل الاعتكاف بالقُبلة والمباشَرة؟ اختلف العلماء. فقال أبو حنيفة: لا يُبطل الاعتكافَ مباشرةٌ ولا قبلةٌ، إلا أن يُنْزِلَ. وقال مالك: يبطل الاعتكافُ بذلك. وللشافعيِّ في ذلك قولان. وقال بعضُ الظاهرية: يبطل الاعتكافُ بمباشرة أحدِ الزوجين صاحبَه، إلا في ترجيل الشعر؛ لقوله -تعالى-: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، واختص ترجيل الشعر بحديث عائشة. وقال ابن لبابةَ من المالكية، وغيرُه: تحرم المباشرةُ في المسجد، ¬
وأما في غير المسجد، فلا. وهذا دليلٌ على أن المسجدَ ليس بشرطٍ عنده في الاعتكاف شرعًا. واستيعابُ أحكامِ الاعتكاف في كتب الفقه (¬1). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 204 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-: أنَهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهِيَ حَائِضٌ، وَهُوَ مُعْتكِفٌ فِي المَسْجدِ، وَهِيَ في حُجْرتِهَا، يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ لا يَدْخُلُ البَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الإنْسَانِ (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: إنْ (¬3) كُنْتُ لأَدْخُلُ البَيْتَ لِلْحَاجَةِ، ¬
وَالمَرِيضُ فيهِ، فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلَّا وَأَنا مَارَّةٌ (¬1). * * * التَّرْجيل: تَسْرِيحُ الشعر. قال ابن السِّكِّيت: شَعْرٌ رَجَلٌ، ورَجِلٌ: إذا لم يكن شديدَ الجعودة، ولا سَبِطًا (¬2)، تقول منه: رَجَّلَ شعرَه تَرْجيلًا (¬3). ¬
والحُجْرَةُ معروفة، وجمعها حُجَر، مثل: غُرَف، وحُجُرات. قال ابن فارس: وحَجَرات، كجَمَرات، ويجوز حَجْر، كجَمْر (¬1). وقوله: "يناولها رأسه" كأنه من مجاز التشبيه، إذ المناولةُ نقلُ الشيء من شخص إلى غيره، يقال: ناولته الشيءَ، فتناوله: إذا أعطيته إياه. قال الشاعر: [الكامل] إِنَّ الَّتي ناولتنِي فرددتُها ... قُتِلَتْ قُتِلْتَ فَهَاتِهَا لَمْ تُقْتَلِ كِلْتَاهُمَا حَلَبُ العَصِيرِ فَعَاطِنِي ... بِزُجَاجَةٍ أَرْخَاهُمَا لِلْمِفْصَلِ والرأسُ: مذكَّرٌ بلا خلاف أعلمُه، وما أكثرَ تأنيثَ العامة له (¬2) من المتفقهة وغيرهم! فيه: دليل على طهارة بدن الحائض، فيكون الجنب بالطهارة أولى. وفيه: دليل على أن خروج رأس المعتكف من المسجد لا يُفسد اعتكافَه. ق: وقد أخذ منه بعض الفقهاء: أن خروجَ بعضِ البدن من المكان الذي حلفَ الإنسان أن لا يخرجَ منه لا يوجب حِنْثَه، وكذلك دخول بعض بدنه إذا حلف أن لا يدخله؛ من حيث إن امتناع الخروج من ¬
المسجد يوازيه تعلُّق الحنث بالخروج؛ لأن الحكم في كلِّ واحد منهما معلَّقٌ بعدم الخروج، فخروجُ بعضِ البدن إن اقتضى مخالفةَ ما علق (¬1) [الحكم] عليه في أحد الموضعين، اقتضى مخالفته في الآخر، وحيث لم يقتض في أحدهما، لم يقتض في الآخر، لاتحاد المأخذ فيهما، وكذلك تنتقل (¬2) هذه المادة في الدخول أيضًا، بأن (¬3) نقول: لو كان دخولُ البعض مقتضيًا للحكم المعلق بدخول الكل، لكان خروجُ البعض مقتضيًا للحكم المعلق بخروج الجملة، لكنه لا يقتضيه ثَمَّ، فلا يقتضيه هنا. وبيان الملازمة: أن الحكم في الموضعين معلَّق بالجملة، فإما أن يكون البعضُ موجبًا لتركيب الحكم على الكل (¬4)، إلى آخره. قلت: والظاهر: أن هذه ملازمة صحيحة لا يُرتاب في صحتها، إن شاء اللَّه تعالى. وقولها: "حاجة الإنسان" كنايةٌ عن الحدث، وظاهره: حصرُ الخروج في ذلك، وإن كان المعتكف يخرج لغيره -على ما تقدم بيانه ¬
في الحديث الأول-، وكأنها إنما أخبرت بصورة الواقع منه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلا يدل ذلك على عدم الخروج لغيره، وسيأتي أنه -عليه الصلاة والسلام- خرج ليَقْلِبَ أُمَّ المؤمنين صفيةَ بنتَ حُيَيٍّ -رضي اللَّه عنها- وهو معتكفٌ (¬1). وفي قولها في المريض: "فما أسأل عنه إلا وأنا مارّةٌ" إشارةٌ إلى أنه لا يجوز أن يُعاد حالَ الاعتكاف على غير هذه الحالة، وباللَّه التوفيق. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 205 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيّهِ أَنْ أَعْتكِفَ لَيْلَةً، وَفِي رِوَايةٍ: فِي المَسْجدِ الحَرَامِ، قَالَ: "فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬1). ¬
وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُ الرُّوَاةِ: يَوْمًا، وَلَا لَيْلَةً. * * * فيه: دليل لمن يقول بصحة نذر الكافر، وهو قولٌ أو وجهٌ في مذهب الشافعي، والجمهورُ على عدم صحته؛ لأنه قربة، والكافرُ ليس من أهلها، وقد اختلف في الجواب عن هذا الإشكال: فقال ابن العربي في "قبسه"؛ لما كان عمر -رضي اللَّه عنه- نذره في الجاهلية، فأسلم، أراد أن يُكَفِّر ذلك بمثله في الإسلام، فلما أراده، ونواه، وسأل النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أعلمَهُ أنه لزمَه، وكلُّ عبادةٍ أو عملِ ينفرد به العبدُ عن غيره يلزمُه بمجرد النية العازمة الدائمة؛ كالنذر في العبادات، والطلاق في الأحكام، وإن لم يتلفظ بشيء من ذلك (¬1). قلت: وفي هذا التعليل نظر؛ فإن ظاهرَ كلام عمر -رضي اللَّه عنه- مجرَّدُ الإخبار بما وقعَ في حال الجاهلية، مع الاستخبار عن لزومِه وعدمِ ¬
لزومه، وليس فيه ما يدلُّ على نيةٍ في الإسلام، ولا إرادة ثَمَّ، ولو تنزلنا على أنه نواه، فلنا (¬1) أن نقول: بمجرد النية لا توجب اعتكافًا، ولا غيرَه من العبادات من غيرِ مقارنةِ فعلٍ لها، ألا ترى أنه لو نوى صلاة نافلة، أو صدقة، أو حجًا، أو عتقًا، أو غيرَ ذلك من القُرَب: أنه لا يلزمه شيء من ذلك بمجرد النية؟ وقد قال ابنُ بشير من أصحابنا: لم يختلف المذهبُ: أن العبادات لا تلزمُ (¬2) إلا بالقول، أو بالنية والدخولِ فيها، وهو الشروعُ. فقد علمت أن هذا الجواب ليس فيه تحصيل، فلا تشغلْ ذهنَك به لحظة (¬3). وقال ق: من يقول: إن الكافر لا تصح منه القُربة يحتاج إلى أن يؤوِّلَ الحديث بأنه أُمر بأن يأتي باعتكافِ يومٍ شبيهٍ بما نذرَ؛ لئلا يُخِلَّ بعبادة نوى فعلَها، فأطلق عليه أنه منذور، لشبهه بالمنذور، وقيامِه مقامَه في فعل ما نواه من الطاعة، وعلى هذا إنما يكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَوْفِ بنذرِكَ" من مجاز الحذف، أو من مجاز التشبيه، وظاهرُ الحديث خلافه (¬4). ¬
قلت: ولا يكونُ التأويل إلا (¬1) خلاف الظاهر، فلا اختصاصَ لهذا الحديث بذلك، وهذا الجواب -أيضًا- ليس بواضح كلَّ الوضوح؛ كما ترى. وقد تقدم أن الشافعيَّ احتجَّ بهذا الحديث على عدم اشتراط الصوم، وتقدم -أيضًا- الجواب عنه، واللَّه الموفق. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع (¬1) 206 - عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ -رضي اللَّه عنها-، قَاَلتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُعْتكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِيَ لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا في دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ"، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَ (¬2) إِنِّي خَشِيْتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا شَرًّا"، أَوْ قَالَ: "شَيْئًا" (¬3). ¬
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ فِي اعْتِكافِهِ فِي المَسْجدِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضانَ، فتحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَهَا يقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ المَسْجدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَة، وَ (¬1) ذَكَرَ بِمَعْنَاهُ (¬2). ¬
* التعريف: صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بنِ أخطبَ بنِ سفينةَ (¬1) بنِ عبيدِ بنِ الخزرجِ بنِ حبيبِ بنِ النضيرِ (¬2) بنِ النَّحَّام، النَّضِيريَّةُ، من بنات هارونَ بنِ عمران، أخي موسى بنِ عمران -عليهما الصلاة والسلام-، سباها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عامَ خيبرَ في شهر رمضان سنةَ سبع من الهجرة، ثم أعتقَها وتزوَّجَها، وجعل عتقَها صداقَها. روى عنها (¬3): عليُّ بنُ الحسينِ بنِ عليٍّ. ماتت في رمضان في خلافة معاويةَ سنة خمسين من الهجرة. روى لها: أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، رضي اللَّه عنها (¬4). ¬
* الشرح: فيه: جوازُ خروج المرأة ليلًا، وزيارةُ المرأةِ المعتكفَ، وجوازُ التحدُّث معه. وفيه تأنيسُ الزائر بالمشي معه، ويتأكد ذلك في الضيف عند خروجه، لا سيما في الليل، وقد بين بالرواية الأخرى: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما مشى معها إلى باب المسجد فقط، فعلى هذا يكون مرور الرجلين في المسجد دون الطريق (¬1) (¬2). وفيه: التحرُّزُ مما يقع في الوهم من نسبة الإنسان إليه ما لا ينبغي. ق (¬3): وقد قال بعض العلماء: إنه لو وقع ببالهما شيء، لكفرا. قلت: وهذا لا شكَّ فيه إذا اعتقدا ذلك، أو ظَنَّاه، وإلَّا، فمجردُ خطوره بالبال من غير استقرار فلا يكفران بذلك -إن شاء اللَّه تعالى-؛ لأن ذلك أمرٌ غيرُ مقدور على دفعه. قال: ولكن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أرادَ تعليمَ أمته، وهذا متأكد في حق العلماء، ¬
ومن يُقتدى بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلًا يوجب ظنَّ السوء بهم، وإن كان فيه مخلصٌ؛ لأن ذلك سببٌ إلى إبطال الانتفاع بعلمهم. قلت: وقد بلغني عن بعض الفقهاء: أنه كان إذا وقع منه درهمٌ، أو دينار، أو غير ذلك، تركَه، ولم يأخذْه؛ خوفا أن يُتوهم أنه التقطه، وأنه يَستحلُّ مثلَ ذلك، فرحمه اللَّه، فلقد استبرأ لدينه وعِرْضه. قال: وقد قالوا: إنه ينبغي للحاكم أن يبين الحكمَ للمحكوم عليه إذا خفيَ عنه، وهو من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجَوْر (¬1) في الحكم. وفي الحديث: دليل على هجوم خواطر الشيطان على النفس، وما كان من ذلك غيرَ مقدور على دفعه، لا يؤاخذ به؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ولقوله -عليه الصلاة والسلام- في الوسوسة بالذي يتعاظم الإنسان أن يتكلم به: "ذَلِكَ (¬2) مَحْضُ الإِيمَانِ" (¬3)، وقد فسروه بأن التعاظمَ لذلك محضُ الإيمان، لا الوسوسة، وكيفما كان، ففيه دليل على أن تلك الوسوسةَ لا يؤاخذَ بها، نعم، في الفرق بين الوسوسة التي لا يؤاخذ بها، وبين ما يوقع شكًا إشكالٌ (¬4). ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "على رِسْلِكما": هو بكسر الراء: على هِينَتِكُما؛ أي: اتَّئِدَا، ولا تُسْرِعا حتى أُخبرَكُما، ومنه الحديث: "إِلَّا مَنْ أَعْطَى في نَجْدَتِهَا وَرِسْلِهَا" (¬1). قال الجوهري: يريد: الشدة والرخاء، يقول: يعطي وهو سِمانٌ حِسانٌ، يشتد على مالكها إخراجُها، فتلك نجدتُها، ويعطي في رِسْلِها وهي مَهازيلُ مقاربة. والرِّسْلُ -أيضًا-: اللبن، وأما الرَّسَل -بفتح الراء والسين-: فالقطيعُ من الإبل والغنم (¬2). * * * ¬
كتاب الحج
كِتْابُ الْحَجِّ
باب المواقيت
باب المواقيت الحديث الأول 207 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَّتَ لأَهْلِ المَدِينَةِ: ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ الشَّامِ: الجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ المَنَازِلَ، وَلأَهْلِ اليَمَنِ: يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلمِنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ أَوِ العُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الحج -بالفتح- المصدر، وبالكسر والفتح: الاسم، و-بالكسر خاصة-: الحجاج، أنشد الفارسيُّ في "تكملته" شاهدًا على ذلك: وَكَأَنَّ عَافِيَةَ النُّسُورِ عَلَيْهِمُ ... حُجٌّ بِأَسْفَلِ ذِي المَجَازِ نُزُولُ هكذا ضبطناه عن الشيوخ، وهكذا هو في النسخ المعتمدة، وأنشده الجوهري بالضم. جعلَه جمعَ حاجّ؛ كبازِل وبُزْل. وأصله في اللغة: القصد (¬1). وقال الخطابي: قصدٌ فيه تكرار، ومنه قول الشاعر: يَحُجُّونَ بَيْتَ (¬2) الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا يريد: أنهم يقصدونه في أمورهم، ويختلفون إليه في حاجاتهم مرةً بعدَ أُخرى. ¬
وقد استدلوا بهذا المعنى على إيجاب العمرة، وقالوا: إذا كان الحج قصدًا فيه تكرارٌ، فإن معناه لا يتحقق إلا بوجوب العمرة؛ لأن القصد في الحج إنما هو مرة واحدة لا يتكرر (¬1). قلت: وهذا ضعيف، أو غلط؛ فإن التكرار يمكن (¬2) في الحج، ولا يلزم أن يكون التكرار واجبًا، قال اللَّه تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]؛ أي: يرجعون إليه، ويتقربون في كل عام، ولأن الحاج يكون ورودُه على البيت عندَ القدوم، وعندَ الإفاضة، وعندَ الوداع، وذلك غيرُ ما يُتنفل به من الطواف، فالتكرارُ حاصلٌ بلا إشكال. ع: والحجُّ -أيضًا-: العمل، وقيل: الإتيانُ مرةً بعد أخرى (¬3). وهو في الشرع: عبارة عن أفعالٍ مخصوصة، في أماكنَ مخصوصة، في زمانٍ مخصوص. إذا ثبت هذا، فقد وقع الإجماعُ على أن الحج أحدُ أركان الإسلام الخمسة، الذي من جحدَه كفرَ، وهو فرضٌ على كل مسلم، عاقلٍ، بالغٍ، صحيحٍ، مستطيعٍ، في العمر مرةً واحدة، ذكرًا كان أو أنثى، هذا مع الأمنِ على النفس والمال، وإن كانوا قد اختلفوا في صفة الاستطاعة (¬4). ¬
واختُلف فيمن حجَّ حجةَ الإسلام، ثم ارتدَّ، ثم عاد إلى الإسلام، فقال أبو حنيفة، وأحمد: تجب (¬1) عليه حجة الإسلام، ولا يُعتد له بالماضية. وقال الشافعي: لا تجب عليه حجةٌ أخرى. وعن مالك روايتان كالمذهبين، والمشهورُ: وجوبُها أيضًا. واختلفوا أيضًا: هل هو على الفور، أو على التراخي؟ واختلف فيه أصحاب مالك والشافعي، فالذي يحكيه العراقيون عن المذهب: أنه على الفور، وهو قولُ أبي يوسف، والمزني، وقال ابن خويزمنداد: تحصيلُ مذهبنا أنه على التراخي، وهو قول محمد بن الحسن (¬2). قلت: وهو مذهب المغاربة. الثاني: قوله: "وقَّتَ لأهل المدينة ذا الحُلَيفة"؛ أي: حَدَّدَ، ومعنى التحديد في هذه المواقيت: أن لا يُتعدَّى ولا يتجاوزَ إلا بإحرام، وإن لم يكن في لفظ وقَّتَ من حيث هو تصريحٌ بالوجوب. وقد جاء في غير هذه الرواية: "يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ" (¬3)، فهذه صيغةُ خبر، المرادُ بها الأمرُ. وورد -أيضًا- في بعض الروايات: لفظُ الأمر. ¬
قال الخطابي: وقد أجمعوا على أنه لو أحرمَ دونها حتى وافى الميقاتَ محرمًا، أجزأه، وليس هذا كتحديد مواقيت الصلاة؛ فإنها إنما ضُربت حدًا لئلا تُقدَّمَ الصلاةُ عليها (¬1). قلت: إلا أنه يُكره عندنا تقديمُ الإحرام على الميقات زمانًا أو مكانًا، ويلزم إن فعل. وذو الحُلَيْفة: بضم الحاء المهملة وفتح اللام وبالفاء، وهي من مياه بني جُشم، وهي أبعدُ المواقيت من مكة، بينهما نحوٌ من عشرِ مراحلَ، أو تسعٍ، وهي قريبة من المدينة على نحوِ ستةِ أميال منها، وقيل: سبعة، وقيل: أربعة (¬2). الثالث: قوله: "لأهل الشام الجحفة": قد تقدم أن الأفصح: الشَّأْم -بالهمز والقصر-، وأنه يذكر ويؤنث. والجُحْفَة: -بضم الجيم وإسكان الحاء المهملة-، وهي ميقاتٌ لهم ولأهل مصرَ والمغربِ، قيل: سُميت بذلك؛ لأن السيل اجْتَحَفَها (¬3) في وقتٍ، ويقال لها: مَهْيَعة -بفتح الميم وإسكان الهاء وفتح المثناة تحت-، وحكى ع عن بعضهم: -كسر الهاء- (¬4). وهي على ثلاث مراحلَ ونحوِها من مكة على طريق المدينة، وعلى ثماني مراحل من المدينة. ¬
تنبيه: وهذا عَلَمٌ من أعلام النبوة، أعني: توقيتَه -عليه الصلاة والسلام- لأهل الشام الجحفةَ قبل أن يُفتح (¬1) الشَّأْمُ، وقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- بفتح الشأم، واليمن، والعراق، وكان كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-. الرابع: قوله: "ولأهل اليمن يَلَمْلَمَ": هو بفتح المثناة تحت واللامين، ويقال أيضًا: أَلَمْلَم -بهمزة بدل الياء-، وهو جبل من جبال تِهامة على مرحلتين من مكة (¬2). الخامس: قوله: "ولأهل نجد قَرْنَ المنازل": هو بفتح القاف وسكون (¬3) الراء ليس إِلَّا، وهو تلقاء مكة على مرحلتين منها. قالوا: وهو أقرب المواقيت إلى مكة، وغلط الجوهري رحمه اللَّه في قوله: هو بفتح الراء، وزَعْمِه أُوَيْسًا القَرَنيَّ رحمه اللَّه منسوبٌ إليه (¬4)، والصواب: إسكانُ الراء، وأن أُوَيْسًا منسوبٌ إلى قبيلةٍ معروفةٍ، يقال لهم: بنو قَرَن؛ وهم بطنٌ من مراد القبيلةِ المعروفة، ينسب إليها المرادي. ع: قال القاضي (¬5): من قاله بالإسكان، أراد: الجبل المشرفَ ¬
على الموضع، ومن فتح: أراد: الطريق الذي يفترق منه، فإنه موضعٌ فيه طرق مختلفة (¬1). ولتعلمْ: أن هذا التوقيت متفقٌ عليه لأرباب هذه الأماكن. والجمهورُ على إيجابِ الدمِ على مجاوِزِها؛ خلافًا لعطاءٍ، والنخعيِّ؛ فإنهما قالا: لا شيء على تاركها، ودليلُهم على ذلك مأخوذ من غير هذا الحديث؛ إذ ليس في لفظه ما يشعر بإيجاب ذلك. وقال سعيد بن جبير -رضي اللَّه عنه-: لا حجَّ لتاركها؛ أي: مَنْ جاوزَها دونَ إحرام (¬2). السادس: قوله: "هُنَّ" يريد: المواقيت. وقوله: "لهنَّ" يريد: الأماكن التي هي: المدينة، والشأم، ونجد، واليمن، وإن كان المراد أهلها، فهو من وادي قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وكان الأصل أن يقال: هنَّ لهم؛ لأن المراد: الأهل، وقد جاء ذلك في بعض روايات "مسلم"، و"البخاري": "فَهُنَّ لَهُمْ"، وكذا رواه -أيضًا- أبو داود، وغيره، وهو الوجه، وكذا ذكره "مسلم" في رواية ابن أبي شيبة؛ لأنه ضميرُ أهلِ هذه المواضع المذكورة. ولتعلمْ: أن قوله: "هُنَّ لَهُنَّ" أكثرُ ما يستعمل العرب هذه ¬
الصيغةَ فيما دون العشرة، وما جاوز العشرة (¬1)، استعملته بالهاء والألف، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]؛ أي: بين (¬2) الاثني عشر. ثم قال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]؛ أي: في هذه الأربعة، وقد قيل: في الاثني عشر (¬3)؛ وهو ضعيف شاذّ، فاعلمْ هذه القاعدةَ؛ فإنها من النفائس. السابع: "ولمن أتى عليهنَّ من غيرهنَّ": قال الخطابي: معناه: أن المدني إذا جاء من الشام على طريق الجحفة، فإنه يُحرِم من الجحفة، ويصير كأنه شامي، وإذا أتى اليماني على ذي الحليفة، أحرمَ منه، وصارَ كأنه جاء من المدينة (¬4). ح: وهذا لا خلاف فيه (¬5). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ممن أرادَ الحجَّ والعمرةَ": استنبط منه بعضهم: أن الحجَّ على التراخي، لقوله: "ممن أرادَ"، ورُدَّ بأنَّ الإرادة هنا معناها: النية، لا التخيير، وقد تأتي للوجوب. وقوله: "ومَنْ كان دونَ ذلك، فمن حيثُ أَنشأَ": يريد: أن مَنْ ¬
كان منزلُه بعدَ الميقات، فميقاته منزلُه، ولا يلزمُه الرجوع إلى الميقات الأصلي. وقوله: "حتى أهلُ مكةَ من مكةَ": يريد: أن أهل مكة يحرمون بالحج خاصةً من مكة، فإن أرادوا الإحرامَ بالعمرة، أو مَنْ كان بها من غير أهلها، لم يحرم بها، وخرجَ إلى أدنى الحِلِّ؛ كما أمر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عبدَ الرحمن بنَ أبي بكر أن يخرجَ بعائشةَ، فيُعْمِرها من التنعيم. تنبيه: لم يُذكر في هذا الحديث ذاتُ عرق، وقد روت عائشة -رضي اللَّه عنها-: أن رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقَّتَ لأهل العراق ذاتَ عِرْقٍ (¬1)، وهو الصحيح عندَ بعضهم، ودليلُه حديث جابر. ح: لكنه غيرُ ثابت؛ لعدم جزمِه برفعِه (¬2). قلت: قد ضعَّفه الدارقطني، وقيل: هو من توقيت عمر -رضي اللَّه عنه-؛ لأن العراق فُتح في زمانه، وفي "صحيح البخاري": أن عمر وَقَّته (¬3)، ورجَّحَه بعضُهم بما ذكرنا من فتحها في زمانه، وأنها كانت في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دارَ كفرٍ، وهذا احتجاجٌ باطل؛ لأن الشأم -أيضًا- كانت دارَ كفر بإجماع النقلَة، على ما حكاه ابن بزيزة. وإنَّما (¬4) وقَّت النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه المواقيت على حسب ما علمَه ¬
بالوحي من فتح المدائن والأقطار (¬1) لأمته، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "زُوِيتْ لِيَ الأَرْضُ، فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا"، الحديث (¬2)، وفي "الصحيح" عن سفيان بن أبي زهير، قال: سمعت رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "تُفْتَحُ اليَمَنُ (¬3)، فَيَأْتِي قَوْمٌ يبَسُّونَ، فَيَحْتَمِلُونَ (¬4) بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" الحديث (¬5)، والبَسُّ: السَّوْقُ اللَّيِّنُ. وأخبر -عليه الصلاة والسلام- بفتح مصرَ، فقال: "وَإنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْضٌ يُذْكَرُ فِيهَا القِيرَاطُ" (¬6)، و"إِنَّ عِيسَى -عليه الصلاةُ والسلامُ- يَقُومُ عَلَى المَنَارَةِ البَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ" (¬7)، ¬
وكلُّ ذلك في "الصحيح". وفي "الصحيح" من هذه الأحاديثُ ما يطول (¬1) ذكرَه. فثبت أَنْ لا دليلَ في ذلك، أعني: كونهَا في زمانه -عليه الصلاة والسلام- دارَ كفرٍ. وبالجملة: فكل عراقي ومشرقي، أحرمَ من ذاتِ عرقٍ، فقد أجزأه عندَ (¬2) الجميع. قال ابن عبد البر: والعَقيقُ أحوطُ، وأَوْلى عندَهم (¬3). مسألة: قال بعضُ المتأخرين من أصحابنا: اختلف العلماء في الرجل يجاوزُ ميقاته إلى ميقات آخر أقربَ إلى مكة، فقيل: عليه دمٌ، وهو المنصوص عن مالك، ولأصحابه في ذلك قولان: فقال بعضهم بإيجاب الدم عليه، وهو قول الشافعي. وأسقطه بعضهم، وهو قول أبي حنيفة. واختَلف المذهبُ في المريض يكون من أهل المدينة، هل له أن يؤخِّر إحرامَه إلى الجحفة؛ لأنها أقربُ إلى مكة، أم ليس له ذلك؟ والصحيح: الجوازُ مع الضرورة. واختلفوا فيمن جاوز الميقات، وأحرمَ بعدَه، ثم رجع إلى ¬
الميقات، هل يسقط عنه الدم، أم لا؟ فقال مالك، وأبو حنيفة: لا ينفعُه رجوعُه، وعليه دمٌ. وقال زُفَرُ: عليه دمٌ، رجعَ، أو لم يرجع. وقال الشافعي، والأوزاعي، وأبو يوسف: إن رجع إلى الميقات، سقط عنه الدمُ، وإن تمادى ولم يرجع، فعليه الدم. وقد تقدم أن سعيد بن جبير يقول ببطلان حجه. وقال عطاءٌ: لا شيءَ عليه، لا من دم، ولا غيره. واختلفوا -أيضًا- فيمن جاوزَ الميقاتَ لا يريد حجًا ولا عمرة، ثم بدا له، وعزمَ على أحدهما، هل يُحرم من موضعه ذلك، ولا دمَ عليه، أو يرجعُ إلى الميقات؟ وهو قول أحمد، وإسحاق. والأولُ قولُ الفقهاء الثلاثة: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة. واختلفوا -أيضًا- فيمن أفسدَ حجَّه، من أين يَقضيه، هل من حيثُ أفسدَه، أم من الميقات، أو هو بالخيار في ذلك؟ فبالأول قالَ الشافعي، وبالثاني قال الحسينُ بنُ حيي، والثوري، وبالثالث قال أبو حنيفةَ وأصحابُه (¬1)، واللَّه الموفق. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 208 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَبَلَغَنِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "وَمُهَلُّ (¬1) أَهْلِ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ" (¬2). ¬
قد تقدم أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يهلُّ [أهلُ] المدينة من ذي الحليفةِ" إلى آخره، صيغةٌ خبر يُرادُ بها الأمرُ، وقدَّمَ المصنفُ حديثَ ابن عباس على هذا الحديث؛ لاشتماله على زيادة عَرِيَ عنها حديثُ ابنِ عمر هذا، وهي سماعُ ابنِ عباس منه -عليه الصلاة والسلام- لميقات أهل اليمن، فلذلك حَسُنَ تقديمُه عليه (¬1)، واللَّه أعلم. ¬
باب ما يلبس المحرم من الثياب
باب ما يلبس المحرم من الثياب الحديث الأول 209 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَلْبَسُ القُمُصَ، وَلَا العَمَائِمَ، وَلَا السَّراوِيلَاتِ، وَلَا البَرَانِسَ، وَلَا الخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ" (¬1). ¬
وَلِلْبُخَارِيِّ: "وَلَا تنتقِبُ المَرْأَةُ، وَلَا تَلْبَسُ القُفَّازينِ" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الأصلُ في الجواب المطابقةُ، والزيادةُ المفيدةُ عليها حسنةٌ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه: 17 - 18]، فهذا الجواب المطابق، ثم زاد قوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه: 18] الآيةَ، افتراضًا للخطاب، واستعذابًا للجواب، حتى لو أمكنه زيادةٌ، لزادَ، وكيف لا، وهو في مقامِ الاقتراب، مكالمٌ ربَّ الأرباب؟! وكذلك قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)} [الشعراء: 23 - 24]؛ فقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24] جاء بعدَ المطابقة مما تقدم، فجاءت الزيادةُ عليها في أعلى مقامات البلاغة؛ لأن المعنى: إن كان يرجى منكم الإيقانُ الذي يؤدي إليه النظرُ الصحيح، نفعكم هذا الجوابُ، وإلَّا، لم ينفع، أو إن كنتم موقنين بشيء قط، فهذا أولى ما توقنون به؛ لظهوره، وإنارة دليله، وأشباهُ ذلك كثيرة. فأما إن عريتِ الزيادةُ عن الفائدة، كانت عِيًّا ورَكاكةً، وذلك نحو قولك (¬1) في جواب مَنْ قال: من جاءك؟ -مثلًا-: جاءني زيد، وانطلق عمرٌو، وسافر بكرٌ، وليس غرض السائل إلا معرفة من جاءك لا غير، فمثلُ هذا يَمُجُّه السمعُ، وينفِرُ عنه (¬2) الطبع. ¬
فأما إن كان السائلُ لم يحرر السؤال، ولم يُحْسِنْه، فللمجيب تغييرُ سؤاله معنى، وإجابتُه بجواب صالح للسؤال الذي كان ينبغي الإتيانُ به؛ كما في هذا الحديث، فإن وَجْهَ السؤال فيه: يا رسول اللَّه! مالذي لا يلبسه المحرم؟، فإن ما لا يلبسه المحرمُ منحصرٌ، وما يلبسه غيرُ منحصر؛ إذ الأصلُ (¬1) الإباحةُ، فأجابه -عليه الصلاة والسلام- بما يناسب السؤالَ المحرَّرَ الذي كان حقُّه أن يأتي به، فقال: لا يلبسُ كذا، ولا يلبس كذا، حتى كأن السائل قال: يا رسول اللَّه! ما الذي لا يلبسه المحرم؟ فتنبهْ لهذه القاعدة، تجدْ لها في كلِّ ما يَرِدُ عليك من مثل هذا أعظمَ فائدة، وأجزلَ عائدة، وباللَّه التوفيق والعصمة (¬2). ¬
فائدة: اعلمْ: أن الإحرامَ يمنع من (¬1) عشرة أشياءَ: لبسِ المخيطِ كلِّه، وتغطيةِ رأسِه ووجهِه، ولبس الخفيْنِ وما في معناهما، والطيبِ كلِّه، وتقليمِ الأظفار، وحلقِ الشعر، وقتلِ القملِ وسائر الدوابِّ التي ليست بصيدٍ، إلا ما استثناه الحديثُ، وقتلِ الصيد، والنكاحِ، فلا يَعْقِدُ له، ولا لغيرِه، والوطءِ ودواعيه (¬2). الثاني: الألفُ واللام في (المحرِم) للجنس، ولذلك جمع -عليه الصلاة والسلام- القُمُصَ وما بعدها، ولو أريد المحرمُ الواحد؛ لقيل: لا يلبس قميصًا، ولا عمامة، ونحو ذلك، فأفرد. ع: أجمع المسلمون على أن ما ذُكر لا يلبسه المحرم، وأنه نبه بالقُمُص والسراويلات على كلِّ مخيط، وبالعمائم والبرانس على كلِّ ما يُغَطَّى به الرأسُ، مخيطًا، أو غيره، وبالخِفاف على كل ما ستر الرِّجْل، وأن لباس هذا جائز للرجال في غير الإحرام؛ لأن خطاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما كان لهم؛ ولأن النساء مأمورات بستر رؤوسهنَّ. ¬
قال: ومنع علماؤنا المحرم (¬1) من جميع (¬2) ما نهى عنه من لباس؛ ليبعدَ (¬3) عن الترفُّه، وليتَّسِمَ بسماتِ المتذللين الخاشعين الذي خروجُه لذلك الغرض؛ من تَذَلُّلِهِ لربه، وضراعته لغفر ذنبه، وكذلك امتناعه من الطيب والنساء من ذلك، ليبعدَ عن أعراض الدنيا (¬4) في سفره، وزينةِ حياتها ولذَّاتها (¬5) جهدَه، فتخلص نيتُه، وينفرد همُّه بما خرج له، فلعلَّ اللَّه أن يُنيله من عَوْنه ومن رحمته فيرحَمَهُ (¬6). تنبيه: البرانِس هنا: قَلانِسُ طِوالٌ. قال الجوهري: كان يلبسها النُسَّاك (¬7) -يعني: الزُّهَّادُ-، وليست على ما يفهمه الناسُ اليوم من حيثُ العُرف. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إلا أحدٌ لا يجد نعلين، فيقطعهما أسفلَ من الكعبين"، فإن لبسهما تامَّين (¬8)، فعليه الفديةُ. وقال عطاءٌ: لا يقطعُهما؛ لأن في قطعهما فسادًا؛ وكذلك ¬
قال أحمد بن حنبل، وبقول مالك قال الثوريُّ، والشافعيُّ، وإسحاق. قال الخطابي: والعجبُ من أحمدَ في هذا، فإنه لا يكاد يخالف سنةً تبلُغه، وقلَّت سنةٌ لم تبلُغْه، ويشبه أن يكون إنما ذهب إلى حديث ابن عباس، وليست هذه الزيادة فيه، وإنما رواها ابن عمر، إلا أن الزيادات مقبولة. وقول عطاء: إنَّ قطعها فسادٌ، يشبه أن يكون لم يبلُغْه حديثُ ابن عمر، وإنما الفساد أن يفعل ما نهت عنه الشريعةُ، وأما ما أَذِنَ فيه الرسولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فليس بفساد (¬1). قلت: وما أحسنَ جوابَ من قيل [له]: لا خيرَ في السَّرَف، فقال: لا سَرَفَ في الخير. الرابع: اللبسُ هنا محمول عند الفقهاء على اللبس المعتاد في القميص، لا الارتداء، فلو ارتدى بقميص، أو جبة، فلا بأس، وكذلك لو التحفَ بأحدهما. ولو لبس القباء، لزمته الفديةُ، وإن لم يُدخل اليَدَ في الكُمِّ، ولا زَرَّه؛ هذا مذهبنا. وقال بعض الناس: لا فديةَ عليه. ووجه ما ذهبنا إليه: أن ذلك من المعتاد فيه أحيانًا، فاكتفي في التحريم بذلك (¬2). ¬
الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يلبسُ من الثياب" إلى آخره، الزعفران: معروف، والوَرْسُ: نبتٌ باليمن (¬1) يُصْبَغ به، وقد قيس عليه ما في معناه من الطِّيب، وما اختلفوا فيه، فاختلافهم بناء على أنه من الطيب، أَوْ لا؟ ع: أجمعت الأمة أن المحرِمَ لا يلبس ما صُبغَ بزعفرانٍ، أو وَرْسٍ، وذلك لما فيها من الطيب الذي هو داعيةٌ للجِماع، ومن التجمُّل الذي يُنافي بذاذة الحاج. والرجالُ والنساءُ في هذا سواء، وعلى لابسِ ذلك منهما الفديةُ عند مالك، وأبي حنيفة. ولم ير الثوري، والشافعي، وإسحاق، وأحمد عليه شيئًا إذا فعل ذلك ناسيًا. واختلفوا في المُعَصْفَر، فرآه الثوريُّ، وأبو حنيفةَ طيبًا كالمزعفر، وفيه الفديةُ (¬2)، ولم يره مالك، والشافعيُّ طيبًا، وكره مالكٌ المفَدَّمَ (¬3) منه. قلت: قال الجوهري: ثوبٌ مُفَدَّمٌ: إذا كان مصبوغًا بحُمرة مشبعًا (¬4). ¬
قال: واختُلف عنه (¬1) هل على لابسه فدية؟ واختلف [فيه] أصحابُه، وأجاز مالكٌ سائرَ الثيابِ المصبغةِ بغير هذا، وكرهها بعضُهم لمن يُقتدى به، فيظن (¬2) به جواز لباس كلِّ مصبوغ (¬3). وقال الخطابي: إن المحرِم منهيٌّ عن الطيب في بدنه وفي لباسه، وفي معناه: الطيبُ في طعامه؛ لأن بغيةَ الناس في تطييب الطعام كبغيتهم في تطييب اللباس (¬4). قلت: قال أصحابنا: لا شيء عليه في أكل الخبيص المزعْفَر، وقيل: إن صبغَ الفمَ، فعليه الفديةُ، وما خُلط بالطيب من غير طبخ، ففي إيجاب الفدية به روايتان. قالوا: ولو بطلت رائحة الطيب، لم يُبح استعمالُه، ومعنى الاستعمال: إلصاقُ الطيب باليد، أو الثوب، فإن عبق به الريحُ دونَ العين؛ كجلوسه في حانوت عطار، أو في بيحت تَجَمَّرَ (¬5) ساكنوه، فلا فديةَ عليه، مع كراهة تماديه على ذلك. ¬
ولو (¬1) مس جرمَ الطيب، فإن عبقت به رائحتُه، وأبقاه (¬2)، افتدى، وإن لم يعبق، أو عبقَ ومسحَه في الحال، ففي وجوب الفدية الخلاف المتقدم. ولو حمل مسكًا في قارورة مصمَّمَةِ الرأس، فلا فدية عليه. وما تجب به من ذلك الفديةُ تجبُ بفعلِه عمدًا أو سهوًا، أو اضطرارًا أو جهلًا، فإن ألقت الريح عليه طيبًا، فليبادرْ إلى غسله، فإن تراخى، لزمته الفدية، وكذلك إن كان نائمًا، فطيبه غيرُه، فليغسلْه عند الانتباه، فإن أَخَّر، افتدى، وعلى فاعلِه به الفديةُ بنسك، أو طعام، لا بصيام، فإن كان عديمًا، فليفتد المحرِمُ، ويرجع على الفاعل إن أيسر بالأول من ثمن الطعام، أو ثمن (¬3) النسك إن افتدى بأحدهما، وإن صامَ، فلا يرجع عليه بشيء، واللَّه أعلم (¬4). السادس: القُفَّازان: بضم القاف وتشديد الفاء. قال الجوهري: شيء يُعمل لليدين، يُحشى بقطن، ويكون عليه أزرارٌ تُزَرُّ على الساعدين من البرد، تلبسه المرأةُ في يديها (¬5). واختلف أصحابنا إذا لبستهما المرأة في وجوب الفدية على ¬
قولين، والمعروفُ: وجوبها؛ لأن إحرام المرأة في وجهها وكَفَّيها، ولم يختلفوا في الرجل إن لبسهما أن عليه الفدية، وكذلك ليس لها لبس النقاب ولا البرقع ولا اللثام، فإن فعلت شيئًا، من ذلك افتدت (¬1)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 210 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: "مَنْ لَمْ يَجدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ" (¬1). ¬
قوله: "بعرفات": قال الجوهري: عَرَفاتٌ موضعٌ بمنى، وهو اسمٌ في لفظ الجمع، فلا يُجمع، وهو مُنَوَّنٌ، وإن كان فيه العلميةُ والتأنيث؛ لأن التنوينَ فيه تنوينُ مقابلةٍ لجمع المذكر السالم، لا تنوينُ صرف؛ للعلَّتين المذكورتين. قال الفراء: ولا واحدَ له بصحة، وقول الناس: نزلنا عَرَفَةَ شبيهُ بمولِّدٍ، فليس بعربي، وهو معرفةٌ وإن كان جمعًا؛ لأن الأماكن لا تزول، فصار كالشيء الواحد، فخالف (¬1) الزَّيْدِين، ومثله أَذرِعات، وعانات، وعريتنات (¬2). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ لَمْ يَجدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ": ظاهرُه: لبسُهما تامَّين، ولكن الحديث الذي قبلَه يفسِّرُه، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ"، فيُرَدُّ المطلَق فيهما (¬3) إلى المقيَّد. قال ابنُ الجلاب: وإذا وجدَ النعلين غاليين، فله لبسُ الخفين ¬
المقطوعَيْن (¬1). فجعل غلاءَهما كعدمهما. قلت: وهذا كما إذا وجدَ الماءَ غاليًا غلاءً فاحشًا، فإنه يجوز له التيممُ والحالةُ هذه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وَمَنْ لَمْ يَجدْ إِزَارًا" إلى آخره، الإزارُ: معروف، وهو يذكَّر ويؤنَّث، ويُقَالُ -أيضًا-: إِزارة؛ كالوِساد والوِسادة، أنشد الجوهريُّ للأعشى: كتَمَيُّلِ النَّشْوَانِ يَرْ ... فُلُ في البَقِيرِ وَفي الإِزَارَهْ وجمعُ القلة آزِرَة، والكثرة أُزُر؛ مثل: حمار وأَحْمِرَة وحُمُر. وقد يعبر عن المرأة بالإزار، قال الشاعر: أَلَا أَبْلِغْ أَبَا حَفْصٍ رَسُولًا ... فِدًى لَكَ مِنْ أَخِي ثِقَةٍ زَارِي قال أبو عمر الجرمي: يريد بالإزار هاهنا: المرأةَ، والمِئْزَرُ: الإزارُ، وهو كقولهم: لحاف ومِلْحَفٌ، وقِرَامٌ ومِقْرَمٌ (¬2)، والإِزْرَة -بالكسر-: هيئةُ الاتِّزار؛ كالجِلْسة، والرِّكْبَة (¬3). وأما السَّراويل، فيُذَكَّرُ -أيضًا- ويؤنث، والجمعُ سَراويلات. قال الجوهري: قال سيبويه: سراويلُ واحدة، وهي أعجمية ¬
عُرِّبت، وأشبهَتْ من كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، كما أشبه بِقُم الفعلَ، ولم يكن له نظير في الأسماء، فإن خص بها (¬1) اسمُ رجل، لم تصرفْها؛ كما لا يصرف (¬2) عَناقِ اسمُ رجل، انتهى كلام سيبويه رحمه اللَّه. ومن النحويين من لا يصرفه -أيضًا- في النكرة، ويزعم أنه جمع سِرْوال وسِرْوالة، وينشد: عليه من اللؤم سِرْوالة ويَحتج في ترك صرفه بقول ابنِ مُقْبِل: فَتًى فَارِسِيٌّ في سَرَاوِيلَ رَامِحُ والعمل على القول الأول، والثاني أقوى عند بعضهم (¬3)، واللَّه أعلم. ولتعلمْ (¬4): أن ظاهر الحديث: أنه إذا لم يجد إزارًا، جاز له لبسُ السراويل، ولا فديةَ عليه، وإلى هذا ذهب عطاءٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاق، وحُكي ذلك عن الثوري. وقال مالك: ليس له أن يلبس السراويل؛ يعني: مع عدم المئزر. ¬
وقال ابن الجلاب: فإن فعل ذلك، فعليه الكفارةُ (¬1). وهو خلاف ظاهر الحديث؛ أعني: قول مالك رحمه اللَّه. قال الإمام المازري: وإنما لم يأخذ مالك بهذا الحديث؛ لسقوطه من رواية ابن عمر (¬2). ع: وقد ذكره مسلم أيضًا من رواية جابر. وقال مالك في "الموطأ": لم أسمع بهذا، ولا أرى أن يلبس المحرمُ السراويل، واحتجَّ بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منعَ لبسَه، ولم يستثنِ فيه كما استثنى في الخفين (¬3). وظاهر الكلام يدلُّ على أن هذه الزيادة لم تبلغ مالكًا، أو لم يبلغه لبسُها على حالها، وكذلك قولُه: ولا أرى أن يلبسها المحرم إلا على الوجه المعتاد دون تغيير؛ كما قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، أو (¬4) لا يلبسها دون فدية (¬5). وبالجملة: فهذا الحديث مجمَل، وقد فُسِّر بغيره من الأحاديث في هذا الباب، وإن الزيادة التي (¬6) حفظ ابنُ عمر -رضي اللَّه عنهما- من ذلك تحكُم على حديث ابن عباس، وجابر، فلا دليل فيه لمن يرى لبسَ السراويلِ ¬
والخفين من غير قطع جمودًا على ظاهر هذا الحديث، واللَّه أعلم. * * *
الحديث الثالث
الحديث الثالث 211 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ تَلْبِتةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ". قَالَ: وَكَانَ عَبْدَ اللَّهِ (¬1) بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالعَمَلُ (¬2). ¬
التلبية: مصدر لَبَّى، ثُنِّي للتكثير والمبالغة، ومعناه: إجابةً بعدَ إجابة، ولزومًا لطاعتك؛ لأنه يقال: أَلَّبَ بالمكان: إذا لزمَه، وأقامَ به. ع: فتثنيتُه للتأكيد، لا تثنيةُ حقيقة، بمنزلة قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]؛ أي: نعمتاه (¬1)، على تأويل اليد بالنعمة، ونعمُ اللَّه لا تُحصى. قال يونس: إنها اسم مفرد، وإن ألِفَه إنما انقلبت ياء، لاتصالها بالضمير على حد يدي، ومذهب سيبويه أنه مثنى؛ بدليل قلبها ياء مع المظهر، قال الشاعر: دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرُ قال ابن الأنباري: ثنُّوا لَبَّيْكَ، كما ثَنَّوا حَنَانَيْكَ، أي: تَحَنُّنٌ بعدَ تَحَنُّنٍ، وأصلُ لَبَّيْكَ: لبببك، فاستثقلوا الجمعَ بين ثلاث باءات، فأبدلوا الثالثةَ ياء؛ كتَظَنَّيْت، وقَصَّيْت، والأصل: تَظَنَّنْت، وقَصَّصْت. ¬
ع: واختلفوا في معنى لَبَّيْكَ واشتقاقِها، كما اختلفوا في صيغتها، فقيل: معنى لبيك: اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذٌ من قولهم: داري تلبُّ دارَك؛ أي: تواجهها. وقيل: معناها: محبتي لك، مأخوذٌ من قولهم: امرأة لَبَّةٌ: إذا كانت محبةً لولدها، عاطفة عليه. وقيل: معناه: إخلاصي لك، مأخوذ (¬1) من قولهم: حَسَبٌ (¬2) لُباب: إذا كان خالصًا مَحْضًا، ومن ذلك لُبُّ الطعام، ولُبابه. وقيل: معناه: أنا مقيم على طاعتك وإجابتك، مأخوذٌ من قولهم: قد لَبَّ الرجلُ بالمكان، وألَّبَ به (¬3): إذا أقام فيه، ولزمه. قال ابن الأنباري: وإلى هذا المعنى كان يذهب الخليل، والأحمر. وقال الحربي في معنى لبيك؛ أي: قربًا منك وطاعة، والإلباب: القرب. وقيل: معناه: أنا مُلِبٌّ بين يديك؛ أي: مختضع، واللَّه أعلم. وهذه الإجابة لقوله -تعالى- لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] (¬4). ¬
روي أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لما أُمر بالأذان بالحج، قال: يا رب! وإذا ناديتُ فمن يسمعني؟! فقيل له: نادِ يا إبراهيم، فعليكَ النداءُ، وعلينا البلاغُ، فصعِد على أبي قُبيس، وقيل: على حَجَر المقام، وقال: يا أيها الناس! إن اللَّه قد أمركم بحجِّ هذا البيت، فحُجُّوا. قال ابن عطية: اختلفت الروايات في ألفاظه -عليه الصلاة والسلام-، واللازم أن يكون فيها ذكرُ البيت والحجِّ. وروي: أنه يوم نادى، أسمعَ كلَّ مَنْ يحجُّ إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال، وأجابه كلُّ شيء في ذلك الوقت من جماد وغيره: لبيك اللهمَّ لبيك، فَجَرَتِ التلبيةُ على ذلك، قاله: ابن عباس، وابن جبير (¬1). وقوله: "إن الحمد والنعمة": يروى بكسر الهمزة من (إن)، وفتحها. قال الخطابي: الفتحُ روايةُ العامَّة (¬2)، قال ثعلبٌ: الاختيارُ الكسرُ، وهو أجودُ معنى من الفتح، لأن الذي يكسِر يذهب إلى أن المعنى: إن الحمدَ والنعمة لك على كل حال، والذي يفتحها يذهب إلى معنى: لبيك لهذا (¬3) السبب. قلت: يريد: فمن كسر، عَمَّ، ومن فتح، خَصَّ، وليس كذلك إذا أُعطي من التأمل حَقَّه. ¬
ويجوز (والنعمةُ لك) [بالرفع] على الإبتداء (¬1)، والخبر محذوف تقديره: إن الحمدَ لك (¬2)، والنعمة لك. قال ابن الأنباري: وإن شئتَ جعلتَ خبر (إن) محذوفًا. وقوله: "وسَعْدَيْك" إعرابها وتثنيتها كما تقدَّم في (لبيك)، ومعناه: ساعدت طاعتك يا ربِّ! مساعدةً بعدَ مساعدةٍ. وقوله: "والخير بيديك"؛ أي: الخيرُ كلُّه بيد اللَّه (¬3)، وهو في المعنى -واللَّه أعلم- كقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]. فائدة كلامية (¬4): قال ابن فورك في "كتاب المقدمات" له: اعلم أنا نقول: إن ما وصف اللَّه -تعالى- به نفسَه؛ من أن له يَدَين بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] هما صفتان له، طريقُ إثباتهما الخبرُ، ولا يجوزُ أن يُقَالَ: هما بَعْضان، أو عضْوان، أو غيران، كما يوصف بذلك غيرُهما من الأيدي، وليس هما بمعنى الملك والقدرة، ولا بمعنى النعمة والصلة، بل هما بمعنى الصفة، والدليلُ على ذلك ¬
قوله -تعالى- مخبرًا عن اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، فكذَّبهم، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، فأثبت اليدَ لنفسه، ونفى الغلَّ عنها؛ كما ادعته اليهود، وتواترت الأخبارُ عن الرسول -عليه الصلاة والسلام-: أنه قال: "كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ شَجَرَةَ طُوْبَى بِيَدِهِ، وَخَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ" (¬1)، وقال -أيضًا-: "كِلْتَا يَدَيِ الرَّحْمَنِ يمَيِن" (¬2)، فوجب قبولُ ذلك، والتسليمُ له، ونفيُ التشبيه عنه. فإن قيل: كيف يعقل يدٌ ليست بجارحةٍ ولا نعمةٍ، ولا قدرةٍ ولا ملكٍ؟ قيل: ليس المعوَّلُ (¬3) في إثباتِ الحقائقِ على معقولِ الشَّاهِدِ، ولو كان كذلك، لَبَطُلَ التوحيدُ من جهة أن الموجود إذا لم يكن جسمًا ولا عَرَضًا ولا جوهرًا غيرُ معقول في الشاهد، والحيّ إذا لم يكن حَسّاسًا وجائيًا يتحرك ويسكن غيرُ معقول في الشاهد، والمتكلِّم إذا لم يكن ذا لسان وشفتين، ولَهاة وأسنانٍ ومخارج غيرُ معقول، ومع ذلك، فلم يمنع إثبات موجود حيٍّ متكلِّمٍ (¬4) على خلاف معقول الشاهد؛ من جهة إيجاب الدليل لذلك، كذلك وردَ ¬
خبرُ الصادق الذي خبرُه حجَّةٌ، فوجب إثباتُ اليدين على الوجه الذي قلنا، واللَّه أعلم. وقوله: والرغباء إليك": روي بضم الراء مع القصر، وبفتحها مع المد؛ كالنُّعْمى والنَّعْماء سواء. وحكى أبو عليٍّ القالي في ذلك أيضًا: الفتحَ والقَصْرَ؛ مثل سَكْرَى، ومعناه: الطلبُ والمسألة؛ أي: الرغبةُ إلى مَنْ بيده الخيرُ، وهو المقصودُ بالعمل، الحقيقُ بالعبادة (¬1). وانظر اختيارَ ابنِ عمرَ لهذه الزيادة على تلبيةِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو من أتبع الصحابة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأرعاهم لما يصدُرُ عنه من قولٍ أو فعلٍ، حتى أدارَ راحلَتُهُ حيثُ أدارها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ اقتداءً به من غير تعليل؛ كما هو في الأثر المشهور عنه. إذا ثبت هذا، فقد اختُلف في حكم التلبية، فقال أبو حنيفة: هي واجبة، وقال مالك، والشافعيُّ: هي سُنَّة. واختُلف إذا لم يأت بها، فعند مالك: يلزمه دم، ولم يلزمه ذلك عند الشافعي. فأما إن أتى بها -ولو مرة واحدة-، فلا دم عليه عند مالك أيضًا (¬2). ¬
فإن أهلَّ بما في معناها من التسبيح والتهليل، لم يكن عليه لذلك دم، بخلاف تارك ذلك كلِّه عندنا، وابنُ حبيب من أصحابنا ينزلها منزلة تكبيرة الإحرام في الصلاة. قال ابن شاس: فعلى حقيقة تشبيهه لو نوى وتوجَّه نحوَ البيت من غير تلبية، لم ينعقد إحرامه، أما لو تجرَّدَت النيةُ عنهما -يعني: التلبيةَ والتوجُّهَ-، فالمنصوص: أنه لا ينعقد. قال: ورأى اللخميُّ إجراء الخلاف في هذه الصورة من الخلاف في مسألة انعقاد اليمين بمجرد النية، وأنكر الشيخ أبو الطاهر هذا الاستقراء، وقال: لم يختلف المذهب أن العبادات لا تلزم إلا بالقولِ، أو بالنيةِ، والدخولِ فيها، وهو الشروع. قلت: والذي نقله ع عن المذهب يخالف هذا؛ فإنه قال: وعند مالك، والشافعي: أن الحج يصحُّ الدخولُ فيه بالنية خاصَّة، وأنه ينعقد بالقلب؛ كما ينعقد الصومُ، وعند أبي حنيفة: لا ينعقد إلا بمقارنة التلبية، أو سَوْقِ الهدي؛ إلى (¬1): عقد القلب (¬2). فهذان النقلان متعارضان كما ترى، فانظر -إن أمكن- وجهَ الجمع بينهما. ¬
إشكال: قال الشيخ شهابُ الدين القرافي رحمه اللَّه: كان الشيخ عزُّ الدين بنُ عبد السلام رحمه اللَّه يستشكل معرفةَ حقيقة الإحرام بالحجِّ، فإذا قيل له: إنه النية، اعترض عليه بأن النية شرطُ في الحجِّ الذي الإحرامُ ركنُه، وشرطُ الشيء غيرُه، ويعترض على أنه التلبية: بأنها ليست بركن، والإحرامُ ركنٌ، وكان يحوم على تعيين فعلٍ تتعلق به النيةُ في الابتداء (¬1). والإشكال قوي جدًا، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 212 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَحِلُّ لامْراةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا حُرْمَةٌ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: " [لا] تُسَافِر مَسِيرَة يَوْمٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الجملة التي هي: "تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ" في موضعِ خفضٍ، صِفَة لامرأة، قال: وسُمي يومُ القيامة اليومَ الآخِر (¬1)؛ لأنه لا ليلَ بعدَه، ولا يقال يومٌ إلا لما تقدمه ليلٌ (¬2). ولا يتوهم منه عدمُ خطاب الكفار بالفروع؛ لأن مثل هذا يأتي في كلام الشارع على معنى: أن (¬3) المؤمن هو الذي ينقاد لأحكامنا، وينزجر عن مُحَرَّمات شرعنا، ويستثمر (¬4) أحكامه، ويكون ذلك من ¬
باب التهييج والإلهاب، وأن مقتضاه: أن استحلال هذا المنهيِّ عنه لا يليق بمن يؤمن باللَّه واليوم الآخر، بل ينافيه (¬1)، حتى لو قيل: لا يحلُّ لأحد مطلقًا، لم يحصل هذا المعنى، وخطابُ التهييج معلومٌ عند علماء البيان، ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وتقول العرب: أَطِعْني إِنْ كنتَ ابني. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مسيرةَ يوم وليلة" جاء أيضًا: "فَوْقَ ثَلَاثٍ" (¬2)، وروي: "ثَلَاثَ لَيالٍ" (¬3)، وروي: "لا تُسَافِرُ المَرْأَةُ يَوْمَيْنِ" (¬4)، وروي: "مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ" (¬5)، وروي: "مَسِيرَةَ يَوْمٍ" (¬6)، وروي: "يَومًا وَلَيْلَة" (¬7)، وروي: "بَرِيدًا" (¬8)، وحُمل هذا الاختلافُ على حسب اختلافِ السائلين، واختلافِ المواطن، وأن ذلك معلَّق ¬
بأقلِّ ما يقع عليه اسمُ السفر، واللَّه أعلم (¬1). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إلا مع ذي محرم": اختلف العلماء هل من شرط وجوب الحجِّ عليها الزوجُ، أو ذو المحرم يُطاوعها، أم لا؟ فقال مالكٌ، والشافعيُّ: ليس ذلك بشرط في الوجوب، ولها أن تخرجَ إِذا وَجَدَتْ رُفْقَةً مأمونةً. قال ابن بزيزة: وقد وقع لمالكٍ: أنها إن لم تجد سبيلًا إلا في البحر، فلا يلزمها جملةً من غير تفصيل، قال: لأنها عورة. وقال ابن القاسم: إذا لم تجد ما تركبه، وقدَرَتْ على المشي لم (¬2) يلزمها الحجُّ، إلا أن يكون الموضع قريبًا جدًا؛ كأهل مكة، ومَنْ في عملِهم. وقد قيل: إن الحج لازمٌ لها إذا قدرتْ على المشي، أو على ركوب البحر، مع أمانٍ غالبٍ. وقال طاوسٌ، والنخعيُّ، والشعبيُّ، والحسنُ البصريُّ، والحسنُ ابنُ حُيَيٍّ، وأبو حنيفةَ، وأحمدَ: وجودُ ذي المحرم ومطاوعتُه شرطٌ في وجوب الحج عليها، ورأوا أنها لا تحجُّ إلا مع زوج، أو ذي محرم. ¬
وقال كثير من أهل العلم: إن كان لها زوجٌ، ففرضٌ عليه أن يحجَّ معها، فإن لم يفعل، فهو عاصٍ، وعليها الحجُّ دونه، وليس له منعُها من حجة الفريضة، وله منعُها من التطوع، وأما من لا زوجَ لها، ولا ذو محرم، فالحجُّ واجب عليها. وقال سفيانُ: إن كانت من مكة على أقلَّ من ثلاث ليالٍ، فلها أن تحجَّ مع غير ذي محرم أو زوجٍ، وإن كانت على ثلاث ليال فصاعدًا، فليس لها أن تحج إلا مع زوج أو ذي محرم. قال: والذي عليه الجمهور من أهل العلم: أن الرُّفْقَة المأمونة من المسلمين (¬1) تتنزل (¬2) منزلةَ الزوج أو ذي المحرم، وذُكر عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، وقالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: ليس كل النساء تجد محرمًا (¬3). تحصيل: أجمع العلماء على أن الحج لازم للمرأة مع ذي المحرم أو الزوج، واختلفوا إذا لم يكن لها ولي، وفي مذهب مالك فيه ثلاثة أقوال: قيل: إنها تسافر مع الرفقة المأمونة؛ تقديمًا لفريضة الحج. ¬
وقيل: لا تسافر إلا مع ذي وليٍّ. والقول الثالث: أنها تسافر لحجة الفريضة مع غير ولي، ولا تسافر للتطوُّع إلا مع الوليِّ (¬1). وفرق سفيانُ بين المسافة القريبة والبعيدة، فلا تسافر في المسافة البعيدة إلا مع الولي، أو ذي المحرم، وتخرج بالمسافة (¬2) القريبة مع المأمون من الرفاق، وإن لم يكن وليٌّ. قال: والصحيح عندنا: أن فريضة اللَّه في الحج لازمةٌ، والمؤمنون إخوة، وطاعةُ اللَّه -سبحانه- واجبة، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- "لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ" (¬3)، والمسجدُ الحرام أجلُّ المساجد، فكان داخلًا تحت مقتضى هذا الخبر، واللَّه أعلم. ق: وهذه المسألة تتعلق بالنصين إذا تعارضا، وكان كلُّ واحد منهما عامًا من وجه، خاصًا من وجه. بيانه: أن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] يدخل تحته الرجال والنساء، فيقتصي ذلك أنها إذا وجدَتِ الاستطاعةَ المتفقَ عليها، أن يجب عليها الحج، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا يَحِلُّ لامْرَأةٍ" الحديث، خاصٌّ بالنساء، ¬
عامٌّ في الأسفار، فإذا قيل به، وأخرج عنه سفر الحج، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، قال المخالف: بل يُعمل بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، فتدخل المرأةُ فيه، ويخرجُ (¬1) سفرُ الحجِّ عن النهي، فيقوم في كل واحد من النصين عمومٌ وخصوص، ويحتاج إلى الترجيح من خارج، وذكر عن بعض الظاهرية: أنه ذهب إلى دليل من خارج، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ" (¬2)، ولا يتجه ذلك؛ فإنه عام في المساجد، فيمكن أن يخرج عنه المسجدُ الذي يُحْتَاجُ إلى السفرِ في الخروجِ إليه بحديث النهي (¬3). الرابع: لفظُ المرأة عامٌّ في الشابَّة والمتجالَّة، وخصَّهُ بعضُ أصحابنا بالشَّابَةِ، وقال في المتُجَالَّة التي لا تُشتهى: تسافر كيف شاءَت في الحجِّ وغيره، كان معها محرم، أم لا، وهو من باب تخصيصُ العمومِ بالمعنى (¬4). ولِقائلٍ أن يقولَ له: إن المرأة مَظِنَّة الطمعِ والشَّهوةِ، وإن كانت كبيرة، وقد قالوا: لكل ساقطةٍ لاقِطَةٌ، فلا فرق إذًا بين الشابة والمتجالَّة، وإن كانت النفسُ إلى الشابة أميلَ غالبًا. ¬
الخامس: لا فرقَ بين المَحْرَم من النسب؛ كالابن والأخ، أو مَحْرَم الرضاع، أو مَحْرَم الصِّهر؛ كأبي الزوج وابنه. ق (¬1): واستثنى بعضُهم ابنَ زوجها، فقال: يُكره سفرُها معه؛ لغلبة الفساد في الناس بعد العصر الأول، ولأن كثيرًا من الناس لا يُنزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلةَ محارم النسب، والمرأةُ فتنة، إلا فيما جبل اللَّه عليه النفوسَ من النفرة عن محارم النسب، والحديث عامٌّ، فإن (¬2) كانت هذه الكراهة للتحريم مع محرمية ابن الزوج، فهو مخالفٌ لظاهرِ الحديثِ، وإن كانت كراهيةَ تنزيهٍ للمعنى المذكور، وهو أقرب تشوفًا إلى المعنى، وقد فعلوا ذلك في غير هذا الموضع، ومما يقويه هاهنا: أن قوله: "لا يَحِلُّ" استُثني منه السفرُ مع المحرم، فيصير التقدير: إلَّا مع ذي محرم، فيحلُّ. ويبقى النظر في قولنا: (يحلُّ) هل يتناولُ المكروهَ أو (¬3) لا؟ بناء على أن لفظة (يحلُّ) تقتضي (¬4) الإباحةَ المتساويةَ الطرفين، فإن قلنا: لا يتناول المكروهَ، فالأمر قريبٌ فيما قاله، إلا أنه تخصيصٌ يحتاج إلى دليل شرعيٍّ عليه، وإن قلنا: يتناول، فهو أقربُ؛ لأن ما قاله لا يكون حينئذ منافيًا لما دل عليه اللفظ. ¬
قلت: وهذا تفصيلٌ حسن لا نزاعَ فيه، وتحريرٌ لا شكَّ أن القواعد تقتضيه. وقد ذكر الشافعية ضابطًا للمحْرَم، فقالوا: المحرَمُ الذي يجوز معه السفرُ والخلوةُ: كُلُّ مَنْ حَرُم نكاحُ المرأةِ عليه، لحرمتها على التأبيد بسبب مباح. فقولهم: على التأبيد، احترازًا من أخت الزوجة، وعمتها، وخالتها. وقولهم: بسبب مباح، احترازًا من أم الموطوءة بشُبْهَة، فإنها ليست محرمًا، فإن وطءَ الشُّبهة لا يوصف بالإباحة. وقولهم: لحرمتها، احترازًا من الملَاعَنة؛ فإن تحريمها ليس لحرمتها، بل تغليظًا. قلت: ولا أعلم ما يخالف ذلك عندنا، واللَّه أعلم. تنبيه: قد تقدم أن الزوج يتنزلُ منزلةَ المحرَم عند الفقهاء في جوازِ السفرِ معه، وليس مذكورًا في هاتين الروايتين، وهو مذكور في رواية أخرى، فيُحتمل أن يكون مستندهم في إِلحاقه بالمحرم تلك الرواية، ويجوز أن تُستعمل لفظةُ الحرمة في إحدى الروايتين في غير معنى المَحْرمية استعمالًا لغويًا فيما يقتضي الاحترام، فيدخل فيه الزوج لفظًا، ويكون ذلك وجهَ العدول في إحدى الروايتين عن قوله: "ذِي مَحْرَمٍ" إلى قوله: "وَمَعَهَا حُرْمَةٌ"؛ لعموم هذه، وخصوص تلك، واللَّه الموفق (¬1). ¬
باب الفدية
باب الفدية 213 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الفِدْيَةِ، فَقَالَ: نزَلَتْ فِيَّ خاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً؛ حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: "مَا كُنْتُ أُرَى الوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى"، أوْ: "مَا كُنْتُ أُرَى الجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، أتجدُ شَاةً؟ "، فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: "فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ ¬
يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (¬1). ¬
* التعريف: عبدُ اللَّهِ بنُ مَعْقِل: -بفتح الميم وإسكان العين المهملة وكسر القاف- بنِ مُقَرِّنٍ -بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة بعدها نون- المزنيُّ، الكوفيُّ. كنيته: أبو الوليد، تابعيٌّ متفق عليه، وقال فيه أحمدُ بنُ عبد اللَّه: كوفي، تابعي، ثقةٌ من خيار التابعين. سمع عَدِيَّ بنَ حاتمٍ، وكعبَ بنَ عُجْرَةَ عند البخاري ومسلم، وثابت بن الضحاك، وأبا (¬1) إسحاق الهمداني، وعبد اللَّه ابن السائب. مات سنة اثنتين وخمسين بالمدينة، وله خمس وسبعون سنة (¬2)، ¬
متفق عليه (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الفِدْيَةُ والفِدَى والفِدَاءُ، كلُّه بمعنى واحد (¬2). قلت: وكأنهما بمعنى البدل، أو المبادلة عمَّا نقصَ من المناسك (¬3). الثاني: فيه: الجلوس للمذاكرة في العلم ومدارسته، ومن ذلك الاعتناءُ بسبب النزول، وما يترتب عليه من الحكم. وقوله: "نزلت فيَّ" يعني: آيةَ الفدية، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] الآية. ¬
وقوله: "خاصَّةً"؛ أي: اختصاصٌ لسبب (¬1) النزول بى؛ فإن لفظ (¬2) الآية عام. وقوله: "والقملُ يتناثر على وجهي": جملة حالية من التاء في (حُمِلْتُ). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما كنت أُرى الوجعَ بلغَ"، هو بضم الهمزة؛ أي: أظنُّ. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "بلغَ بك ما أَرى" -بفتح الهمزة-؛ يعني: أُشاهد، فهو من رؤية العين، وحُذف مفعولُه للدلالة عليه؛ أي: أراه. والجهد -بفتح الجيم-: المشقة، وبضمها: الطاقة، ومعنى الحديث على الفتح لا غير؛ أي: المشقة اللاحقة بسبب الوجع (¬3). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أتجدُ شاةً؟ ": اعلمْ: أن هذه الشاة التي تجب عن إلقاء (¬4) التَّفَث، وإزالة الشَّعَث، وطلبِ الرفاهية بالرخصة في فعل ما يُمنع المحرِمُ منه يُعتبر فيها السنُّ والسلامةُ ¬
ما يُعتبر في الأضحية، وليست كهَدْيٍ، ولا يلزم إيقافُه (¬1) بعرفة، وله أن يذبحها حيثُ شاء من البلاد، إلا أن يشاء أن يجعلها هَدْيًا، فيوقفها موقِفَه، وينحرُها بمنحَرِه، فذلك له، لا عليه، وله أن يُقَلِّدها ويُشْعِرَها إن جعلها بَدَنَةً أو بقرةً، والشاةُ تقع على الضأن والمعز، والذكر والأنثى؛ كالبَدَنَة تقع على الإبل والبقر، والبعير والناقة. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أو أطعمْ ستةَ مساكين": نص في مراد الآية من عدد المساكين المصروفة إليهم الصدقةُ فيها؛ خلافًا لمن قال من المتقدمين: يطعم عشرة مساكين؛ قياسًا منه على كفارة اليمين، ولعل الحديث لم يبلُغْه؛ إذ لو بلغه؛ لم يخالفه، واللَّه أعلم. السادس: قوله: "لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاع": عامٌّ في الحنطة وغيرها، وبيانٌ لمقدارِ المُطْعَم. وقال الثوريُّ: إذا تصدَّق بالبُرِّ، فنصفُ صاعٍ، وإن أطعم تمرًا أو زَبيبًا، أطعمَ صاعًا صاعًا. قال الخطابي: قال أبو عثمان: هذا خلافُ السنَّة، وقد جاء في الحديث ذكرُ التمرِ مقدَّرًا بنصف صاعٍ؛ كما ترى، فلا معنى لخلافهِ، وقد جاءَ ذكرُ الزبيبِ أيضًا من غير هذا (¬2) الطريق بنحو هذا التقدير، ¬
وذكره أبو داود (¬1). ق: وعن أحمد رواية: أنه لكل مسكين مُدُّ حنطة، أو نصفُ صاعٍ من غيرها (¬2). السابع: الفَرَقُ: قال الخطابي: ستةَ عشرَ رِطلًا، وهو ثلاثةُ أَصْوُعٍ (¬3). قلت: هو بفتح الراء، وقد تُسكَّن، وكلتا الروايتين دالة على كونه ثلاثةَ أَصْوُعٍ كما قيل، وهو بَيِّنٌ. الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أو تُهديَ (¬4) شاة": بيانٌ للنُّسُكِ المجمَلِ في (¬5) الآيةِ، وقد تقدمَ أن حكمَها حكمُ الأضحية؛ سِنًّا وسلامةً. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أو صُمْ ثلاثةَ أيامٍ" تعيينٌ وتبيينٌ لمقدارِ الصَّومِ المجملَ في الآية. ق (¬6): وأبعدَ مَنْ قالَ من المتقدمين: إن الصومَ عشرةُ أيام؛ لمخالفة هذا الحديث، ولفظ الآية والحديث كلاهما يقتضي التخيير ¬
بين هذه الخصال الثلاث -أعني: الصيام، والصدقة، والنسك-؛ لأن كلمة (أو) تقتضي التخيير (¬1). قلت: حقُّه أن يقول: هنا، وإلا، فـ "أَوْ" لها معانٍ أُخر غير التخيير، وكلامُه يوهم حصرَها في التخيير. التاسع: قوله -في إحدى الروايتين-: "أتجدُ شاة؟ " إلى آخره، ليس المراد به أن الصوم لا يجزىء إلَّا عندَ عدمِ الهَدْي، قيل (¬2): بل هو محمولٌ على أنه سألَ عن النسك، فإن وجده، أخبره بأنه مخيرٌ بين الصيام والإطعام. العاشر: لا فرقَ عندنا، بين أن يحلِقَ رأسَه لِعُذرٍ، أو غيره، في تخييره بين الخصال الثلاث، وفرق الشافعيُّ وأبو حنيفةَ، فقالا: إنْ حَلَقَه لعذرٍ، كان مخيرًا بينها، وإن كان لغيرِ عذرٍ، فالدَّمُ ليس إلَّا، هكذا نقله عنهما أبو سليمان الخطابي في "شرح السنن" له (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب حرمة مكة
باب حرمة مكة الحديث الأول (¬1) 214 - عَنْ أَبِي شُرَيْحِ خُويلِدِ بْنِ عَمرٍو الخُزَاعِيِّ العَدَوِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّهُ قَالَ لِعُمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ العَاص، وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: اِيْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُناَيَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِه: إِنَّهُ حَمِدَ اللَّه، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ (¬2) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ؛ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ"، فَقِيلَ لأَبي شُرَيْحِ: مَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ ¬
يَا أَبَا شُريَحْ! إِنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ" (¬1) الخَرْبَةُ -بِالخَاءَ المُعْجَمَةِ، وَالرَّاءَ المُهْمَلَةِ- قِيلَ: الخِيانَةُ، وَقِيلَ: البَلِيَّةُ، وَقِيلَ: التَّهَمَةُ، وَأَصْلُها في سَرِقَةِ الإبِلِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَالخَارِبُ اللِّصُّ يُحِبُّ الخَارِبَا * * * ¬
* التعريف: أبو شُرَيْح الخزاعيُّ: ويقال فيه: العَدَوِيُّ، ويقال: الكَعْبِيُّ، اسمه خُويلد، والأكثر يقولون: خويلدُ بنُ عمرِو بنِ صخرِ بنِ عبدِ العزَّى. أسلم يوم فتح مكة، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وستين -رضي اللَّه عنه- (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قولُه: "ائْذَنْ لي أَيُّها الأمير"، الأصل: يا أيُّها، فحُذف حرفُ النداء، قال أهل العربية: ولا يُحذف حرفُ النداء إلا في أربعة مواضع: العَلَم؛ نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]. والمضاف؛ نحو: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286]. وأي. ومَنْ؛ نحو: من لا يزالُ محسنًا أحسنْ (¬2). ¬
فيه: حسنُ الأدبِ في مخاطبةِ الأكابر، لاسيما الملوك، لاسيما فيما يخالف مقصودَهم؛ لأن ذلك يكون أدعى لقبول الحقِ، لاسيما في حقِّ مَنْ يُعرف منه ارتكابُ غرضه، فإن الغِلْظَةَ عليه تكون سببًا لإثارَةِ نفسِه، ومعاندةِ مَنْ يُخاطبه. وفائدة قوله: "أُحدثكَ قولًا قامَ به رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، سمعتْه أُذناي، ووعاه قلبي": التحققُ (¬1) لما سيخبر (¬2) به، والنفيُ لوهم أن يكون بواسطة غيره دونَ مشافهة منه، وأن قلبه قد فهم ذلك، وتحققه، وثبت في تعقل معناه. وقد يؤخذ من قوله: "ووعاه قلبي" دليلٌ لقول الجمهور: إن العقل محلُّه القلبُ، لا الدماغُ؛ إذ لم يقل: وعاه رأسي، ثم أكد ذلك بقوله: "وأبصرتْه عيناي حين تكلم به". الثاني: قوله: "حَمِدَ اللَّه، وأثنى عليه" إلى قوله: "الناس": فيه: استحبابُ الحمدِ والثناء بين يَدَي تعليم العلم وتبيينِ الأحكام. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَها اللَّهُ، ولم يُحَرِّمها الناسُ": قيل: سُمِّيَتْ مكة، لأنها كانت تَمُكُّ مَنْ ظلم؛ أي: تستأصِلُه وتُهلكه. وقال آخرون: إنما سميت مكة؛ لقلة مائها؛ لقولهم: امْتَكَّ ¬
الفَصيلُ ما في ضَرْعِ أُمِّه: إذا شربَه. وقيل: سُميت مكة؛ لاجتذابها للناس من كلِ أُفُقٍ، لقولهم: امْتَكَّ الفَصِيلُ ما في ضَرْعِ الناقةِ: إذا اسْتَقْصى، فلم يدع فيه شيئًا. وأما بَكَّة: فقيل: هي اسم لبطنِ مكةَ خاصةً؛ لأنهم كانوا يتباكُّون فيها؛ أي: يَزْدَحمون. وقيل: بَكَّةُ: اسمٌ لمكان البيت، ومَكَّةُ -بالميم-: سائر البلد، قاله الشيخ أبو بكر العُزَيرِي (¬1). ومعنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولم يحرِّمْها الناسُ"؛ أي: لم يحرمها الناسُ من قِبَلِ أنفسِهم؛ كما حَرَّمَتِ الجاهليةُ أشياءَ من قِبَلِ أنفسِهم. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فلا يحلّ لامرىءٍ يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يَسفِكَ بها دمًا": قد تقدم الكلامُ على قوله: "اليوم الآخر" قريبًا، وتقدم أيضًا أنه يقال: امرؤ، ومَرْءٌ في (¬2) حديث: "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" (¬3). يقال: سَفَكَ يَسْفِكُ وَيَسْفُكُ -بكسر الفاء وضمها- والكسرُ قراءَةُ ¬
السبعة، وفي الشاذ بالضم في قوله تعالى: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، والسفك في اللغة: صبُّ الدَّم. قال ابنُ عطية: هذا عُرْفُه، وقد يقال: سفكَ كلامَه في كذا، وسَرَدَه (¬1). وسياق الحديث ولفظه على تحريم القتالِ لأهلِ مكة، وبه قال القَفَّالُ من الشَّافعيَّةِ، قال: حتى لو تحصَّنَ جماعةٌ من الكفارِ فيها، لم يَجز قتالُهم فيها. وقال الماوردي: من خصائص الحرم: أن لا يُحارَبَ أهلُه إن بَغَوا على أهل العدل. وقد قال بعض الفقهاء: يحرمُ قتالُهم، بل يُضَيَّقُ عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام أهل العدل. قال: وقال جمهورُ الفقهاءِ: يقاتَلُون على بَغْيهم إذا (¬2) لم يكن رَدُّهم عن البغي إلَّا بالقتالِ؛ لأن قتالَ البُغاةِ من حقوقِ اللَّهِ تعالى التي لا يجوزُ إضاعَتُها، فحفظُها في الحَرَم أَوْلى من إضاعَتِها. وربما استدلَّ به أبو حنيفة رحمه اللَّه على أن الملتجىء إلى الحرم لا يُقتل به؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يحلُّ لامرىءٍ أن يسفكَ بها دمًا"، وهذا عامٌّ يدخل فيه صورةُ النزاع. ¬
قال: بل يُلْجَأُ إلى أن يخرج من الحرم، فيُقتل خارجَه، وذلك بالتضييق عليهم (¬1). قلت: وقولُ أبي حنيفة هذا منقولٌ عن ابن عباس، ولفظه: مَنْ أَصَابَ حَدًّا، ثم دخلَ الحرمَ، لم يُجَالَسْ، ولم يُبايَعْ حتى يُضْطَرَّ إلى الخروج، فإذا خرجَ، أُقيم عليه الحَدَّ (¬2). قال ابنُ بزيزة: وهو قولُ عمرَ بنِ الخطابِ، وسعيدِ بن المسيب، والحكمِ بنِ عتبة، وابنِ جُريجٍ، وابنِ الزبير. قال: وقال ابنُ عمر: لو وجدتُ فيه قاتلَ أبي، ما تعرضتُ إليه، وفي لفظ آخر: ما ندهته، قال ابنُ عباس أيضًا: لو وجدتُ فيه قاتلَ أبي، ما عَرَضْتُ له (¬3). وقال أبو يوسف، ومالك، وجماعة من العلماء: يُخرج، فيُقامُ عليه الحدُّ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "اقْتُلُوهُمْ وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ". قلت: وقد أمر -عليه الصلاة والسلام- بقتل ابن خَطَلٍ بعد أن قِيْلَ لَهُ: هو متعلقٌ بأستار الكعبة؛ كما سيأتي (¬4). ¬
وإن كان لقائل أن يقول: إن ذلك كان خاصًا به -عليه الصلاة والسلام-؛ لقوله: "ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي، ولا لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهارٍ"، فيضعف الدليل، أو يبطل. ولم يخالف أبو حنيفة في إقامة الحدود في الحرم غيرَ حدِّ القتلِ خاصةً. وقد أخرج ابنُ الزبير قومًا من الحرم إلى الحِلِّ فصلبهم. وقال حماد بنُ أبي سليمان: مَنْ قَتَلَ، ثم لجأَ إلى الحرمِ، قال: يُخرج منه فيُقتل، وأما مَنْ تُعُدِّيَ عليه في الحرم، فليدفعْ عن نفسه، قال اللَّه تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] الآية. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يُعْضَدُ شجرُه"؛ أي: يُقطع بالمِعْضَد؛ وهو سيفٌ يُمتهن في قطع الشجر، ويقال: المِعْضاد أيضًا، يقال منه: عَضَدَ يَعْضِد، كضَرب يضرِب، ويعضُد -بالضم-: إذا أعان، والمعاضَدَة: المعاونَةَ (¬1). فيه: دليل على تحريم قطع شجر الحرم، ولا خلاف فيه أعلمُه. تكميل: قال ابنُ بزيزةَ: ولا يُخرج شيئًا من تراب الحرم، ولا من حجارته إلى الحِلِّ. واختلفَ العلماءُ هل يُكره أن يُدخل ترابَ الحل إلى الحرام، أم لا؟ ¬
وأما ماءُ زمزم فإخراجُه جائزٌ، إذ لم يأتِ فيه أثر. مسألة: اختلف العلماء فيمن احتطبَ في الحرم، هل يحل أخذ سَلَبِه، أم لا؟ فالجمهورُ على أنه لا يحل؛ خلافًا لطائفة من أهل الحديث؛ فإنهم أجازوا تجريده، وأَخْذَ كلِّ ما معه، إلا ما يستر به عورته، محتجين بحديث إسماعيل بن محمد، وسعد بن أبي وقاص، عن عمه عامر بن سعد، قال: إن سعدًا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا ويَخْبِطُه (¬1)، فسلَبَه، فجاء أهلُ العبدِ فسألوه أن يردَّ على غلامِهم سَلَبَهُ، فقال: مَعاذ اللَّه! أن أردَّ شيئًا نَفَّلَنِيهِ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبى أن يردَّه عليهم، رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه (¬2). وعن عمر بن الخطاب: أنه قال لمولى عثمانَ بنِ مظعون: إني استعملتُك على ما هاهنا، فمن رأيته يحطب شجرًا، أو يعضِدُه، فخذ حبلَه وفأسه، قلت: آخذ رداءه؟ قال: لا (¬3). قال ابن بزيزة: ولا مخالف له من الصحابة. وهل هذا الحكم عام في الحشيشِ والاحتطابِ، أم مخصوص بالاحتطابِ؛ لوروده؟ فيه نظر. ¬
ولتعلمْ: أنه قد اتُّفِق على ما لا يَسْتَنْبِتُه بنو آدم، دونَ ما يستنبتونه. قال الخطابي: وسمعتُ أصحابَ أبي حنيفةَ يفرِّقون بين ما ينبتُ من الشجِرِ في الحرمِ، وبين ما يُنبتُهُ الآدميون، ويجعلون النهيَ مصروفًا إلى ما يُنبِتُهُ اللَّهُ عز وجل دونَ غيره. قلت: وكذلك مذهبُ مالك رحمه اللَّه في التفرقة المذكورة. قال: والشافعيُّ يرى فيه الفديةَ (¬1). قلت: وأما مذهبُنا في ذلك: فإنه لا فديةَ على مَنْ قطعَ شيئًا مما لم يستنبتْه الآدميون في الحرم؛ لكنه مأمورٌ بأن لا يفعلَ، رطبًا كان أو جافًا، فإن فعل، فليستغفر (¬2) اللَّه، ولا شيء عليه. قال في "الكتاب": ولا بأس أن يقطع ما أنبته الناسُ في الحرم من الشجرِ؛ مثل: النخل، والرُّمانِ، والفاكهةِ كلِّها، والبقلِ كلِّهِ، والكُرَّاثِ، والحشيشِ، والشجرِ. قال: وأكَره أن يحتشَّ في الحرم حلالٌ أو حرامٌ؛ خيفةَ قتلِ الدوابِّ، وكذلكَ الحرام في الحِلِّ، فإن سلموا من قتل الدواب، فلا شيء عليهم، وأكره لهم ذلك. قال: ونهى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخبط، يريد: -بإسكان الباء-، وقال: ¬
"هُشُّوا، وَارْعَوْا" (¬1)، قال مالك رحمه اللَّه: الهَشُّ: تحريكُ الشجرِ بالمحجَن (¬2) ليقع الورق، ولا يَخْبِط، ولا يَعْضِد (¬3). ودليلُنا على عدم الفدية فيما قُطع من شجر الحرم: أن إتلاف الشجر الذي لا ملكَ عليه لآدميٍّ، لا غرمَ على متلِفه في الأصول، ولأن كونَه من شجر الحرم لا يقتضي ضمانَ الجزاء اعتبارًا بما فيه مَنْفَعة الناسِ، ولأنه نوعٌ من النبت؛ كالخشب، والثمار (¬4)، ولأنه لم يتلف حيوانًا، ولا شيئًا من الحيوان، فلم يلزمه جزاءٌ كسائر الجامدات (¬5)، وقياسًا على المحرِم بقطعِ الشجر في الحِلِّ، لأن ما لزم الحلالَ جزاؤه في الحرم لزمَ المحرِمَ مثلُه في الحِلِّ، فلو كان في قطع الشجر جزاءٌ، للزم (¬6) المحرمَ ذلك في الحل، واللَّه أعلم، ولأن الجزاء لا يجب إلا بالشرع، والأصلُ براءةُ الذمة، ولم يرد شرعٌ بذلك. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإنْ أحدٌ ترخَّصَ ¬
بقتال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (أحدٌ): فاعلٌ بفعل مضمَرٍ يفسره ما بعده؛ أي: فإن تَرَخَّصَ أحدٌ تَرَخَّصَ (¬1). فيه: دليل على أن مكة -شرفها اللَّه تعالى- فُتحت عَنْوَةً، وهو مذهبُ الأكثرين، وقال الشافعيُّ: فُتحت صلحًا، وقيل في تأويل الحديث: إن القتالَ كان جائزًا له -صلى اللَّه عليه وسلم- في مكةَ، ولو احتاج إليه: لفعله، ولكن ما احتاج إليه. ق: وهذا التأويل يضعفه قولهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإنْ أحدٌ ترخَّص بقتالِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، فإنه يقتضي وجودَ قتالٍ منه -صلى اللَّه عليه وسلم- ظاهرًا، وأيضًا السِّير (¬2) التي دلَّت على وقوع القتال، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ (¬3) دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ" (¬4) إلى غيره من الأمان المعلَّقِ على أشياء بخصوصها يُبعد هذا التأويل (¬5). قلت: وهذا ظاهرٌ مكشوف. قال الخطابي: وتأول غيرُهم قولَه -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّما أُحِلَّتْ لي ساعةً مِنْ نَهارٍ" على معنى دخوله إياها من غير إحرام؛ ¬
لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخلها وعليه عِمامةٌ سوداءُ. وقيل: إنما أُحِلَّ له في تلك الساعة إراقةُ الدم، دونَ الصيدِ وقطعِ الشجرِ وسائر ما حرم على الناس منه (¬1). فائدة نحوية: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "بالأمس" اعلم أن أَمْسِ إذا أَدخلتَ (¬2) عليه الألفَ، واللامَ، أو أضفته، أو نَكَّرته، كان معربًا، وسببُ ذلك أن بناء (أَمْسِ) إنما كان لتضمنه معنى الألف واللام، فإذا دخلتْ عليه الألفُ واللام، أو نكَّرته فقد زال التضمُّنُ، وكذلك -أيضًا- إذا أضفتَه، لم يكن متضمِّنًا الألف واللام؛ لامتناع نية الإضافة مع الألف واللام، كما امتنعت الإضافة معهما، فإن عَرِيَ من الألف واللام والإضافة، ولم ينكر، فإما أن تستعمله ظرفًا، أو غير ظرف. ففي الأول: لا يجوز فيه غيرُ البناء على الكسر، نحو قولك: ذَهَبَ أَمْسِ بما فيه. وفي الثاني: يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مبنيًا على الكسر، نحو قولك -أيضًا-: ذهب أَمْسِ بما فيه (¬3). ¬
والأخرى: أن يُعرب إعرابَ ما لا ينصرف؛ فيقال: ذهبَ أمسُ بما فيه، أنشد سيبويه: لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا مُذْ أَمْسَا عَجَائزًا مِثْلَ السَّعَالِي خَمْسَا يَأْكُلْنَ مَا في رَحْلِهِنَّ هَمْسَا لَا تَرَكَ اللَّهُ لَهُنَّ ضِرْسَا لأن (مذ) حرفُ جر، وحروف الجر إذا دخلت على الظروف، تقلبُها عن حكم الظروف (¬1) إلى حكم الأسماء. قال سيبويه: ولا يصغَّرُ أَمْس، كما لا يصغر غدًا، والبارحة، وكيف، وأين، ومتى، وأنى (¬2)، وما، وعندَ، وأسماءُ الشهور كلُّها، والأسبوع غيرَ الجمعة (¬3). السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فليبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ": حَثٌّ وتحريضٌ على نقلِ العلم ونشرِه، وإشاعةِ الأحكامِ والسُّننِ، وفي الحديث الآخر: "رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمعَ مَقَالَتِي، فَبَلَّغَهَا ¬
كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ" (¬1)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وقد أشبعنا القولَ في فضل العلمِ في أولِ شرح رسالة ابن أبي زيد (¬2)، أعان اللَّه على إكماله. ق: وقولُ عمرٍو: أنا أعلمُ بذلك إلى آخره، هو كلامُه، لم يسنده إلى رواية (¬3). قلت (¬4): وذكر ابنُ بزيزة رحمه اللَّه تعالى في تفسيره: أنه حديثٌ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، عند قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، واللَّه أعلم (¬5). ¬
وقوله: "لا يعيذ عاصمًا": الاستعاذةُ: الاستجارةُ بالشيء، والتحصُّنُ، والاعتصامُ به، يقال منه: عاذَ يعوذُ عَوْذًا ومَعاذًا وعِياذًا، وأعاذَه غيرُه يُعيذه (¬1). وقوله: "ولا فارًّا بخربة": الفارُّ: الهاربُ، والخربةُ قد فسرها المصنف رحمه اللَّه. وفيها أيضًا: خُرْبَة، بضم الخاء. قال (¬2) ابن بزيزة: ورواه بعضهم: بخزية -بالياء المعجمة باثنتين تحتها-، والأول أصح، وأصلُها سرقةُ الإبل؛ كما قال، وتطلق (¬3) على كل خيانة. وقال الخليل: هي الفسادُ في الدين، من الخارِبِ، وهو اللصُّ المفسِدُ في الأرض. وقيل: هي العيب. ق: وفي "البخاري": أنها البَلِيَّةُ (¬4). ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 215 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ، فَانْفِرُوا". وَقَالَ يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لأِحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ (¬1) لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولا تُلْتَقَطُ لُقْطَتُهُ، إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ"، فَقَالَ العبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا الإذْخِرَ؛ فَإِنَّهُ لِقَيْيهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فقال: "إِلَّا الإذْخِرَ" (¬2). ¬
القَيْنُ: الحَدَّادُ. * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"، قد تقدم ذكرُ الهجرات السِّتّ واشتقاقُها في حديث: "الأعمالُ بِالنياتِ"، ومعنى: "لَا هِجْرَةَ"؛ أي: لا تجب من مكة إلى المدينة؛ لصيرورة مكةَ دارَ إسلام، وأما الهجرةُ من دار الكفر إلى دار الإسلام، فواجبة في كلِّ زمانٍ مع الإمكان؛ إجماعًا. وفي الحديث: إشارةٌ قوية تكادُ تكونُ نَصًّا إلى أنَّ مكةَ -شَرَّفَهَا اللَّهُ- تكونُ دارَ إسلامٍ إلى يومِ القيامةِ. ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ" يحتمل وجهين: أحدهما: ولكنْ جهادٌ لمن أمكَنَه الجهادُ، ونيةٌ لمن لم يمكنه، ويقويه الحديث: "مَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ" الحديث (¬1)، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ" (¬2). والثاني: أن يُراد: جهادٌ بنيةٍ خالصةٍ، وهي أن يكون جهادُه لتكون كلمةُ اللَّه هي العليا، لا (¬3) لصيتٍ وسمعةٍ، ولا اكتسابِ الحطام، "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ" الحديث (¬4). الثاني: قوله: -عليه الصلاة والسلام-: "وإذا استُنْفرتم، فانْفِروا". فيه: حجةٌ لبقاءِ الجهاد، وكونِه فرضًا، وقد اختلف العلماءُ في هذا، هل سقط فرضُه على الجملة، إلا أن تقدح قادحة، أو يطرق عدوٌّ قومًا، أو هو باقٍ؟ والقولان عندنا، وسنبسطه في الجهاد إن شاء اللَّه تعالى. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن هذا البلدَ حَرَّمَه اللَّهُ يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ"، وقد جاء -أيضًا- أن إبراهيمَ -عليه ¬
الصلاة والسلام- حَرَّمَ مكةَ، وأُجيب عن هذا التعارض: بأن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أظهرَ حرمتَها بعدَما نسُيت، والحرمةُ ثابتةٌ من يومِ خلقَ اللَّهُ السمواتِ والأرض. وقيل: إن التحريم في زمن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وحرمتُها يومَ خلق السموات والأرض: كتابتُها في اللوحِ المحفوظِ، أو غيره حرامًا، وأما الظهورُ للناس، ففي زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام (¬1). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فهي حرامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يومِ القيامة" يشتمل على أمرين: تحريم القتال، والثاني: أن ذلك ثابتٌ لا يدخله نسخ. وقد تقدم الكلام على اختلافهم في القتال. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يُعْضَد شوكُه": كأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا مُنع من قطع الشوك المؤذي، فأحرى أن يُمنع من قطع ما يُنتفع به، وهو يقارب قولَه تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا} [الإسراء: 23]، وإن كانوا قد اختلفوا في قطع الشوك، فذهب بعضُ الشافعية إلى منعه، كما هو ظاهر الحديث، وأباحه غيره، لأذاه، وخالف ظاهر الحديث (¬2). ¬
السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يُنَفَّرُ صيدُه": هو -أيضًا- من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأن معنى "لا يُنفر صيده": لا يُزعج من مكانه، فأن لا يُقتل أولى؛ إذ المراد بالصيد هنا: المَصِيدُ. مسألة: مذهبُ مالكٍ رحمه اللَّه: أن صيدَ الحلالِ في الحرم يوجِبُ عليه الجزاءَ؛ خلافًا لداود. وحجةُ مالك رحمه اللَّه قولُه تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، ويعبر عَمَّنْ حَلَّ بالحرم أنه مُحْرِم؛ كما يُقَالُ: مُنْجِد فيمن حَلَّ بنجد، وبتهامةَ: مُتْهِم، ومنه قول الشاعر: [الكامل] قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الخَلِيفَةَ مُحْرِمًا ... وَدَعَا فَلَمْ يُرَ مِثْلُهُ مَخْذُولَا يعني: ساكنًا بالحرم. قيل: ولأن حرمة الحرم متأبدةٌ، والإحرام مؤقتٌ، فكان المؤبَّدُ آكَدَ. واختُلف -أيضًا- في الحلال إذا صادَ صيدًا في الحِلِّ، ثم أتى به الحرَمَ، فاراد ذَبْحَه به، فأجاز ذلك مالكٌ، ومنعه أبو حنيفةَ، وقال: يرسلُه، وقولُ مالك أظهرُ؛ لأن ما كان في اليد وتحتَ القهر لا يُسمى صيدًا، فلم يكن داخلًا في قوله: "لا يُنَفَّرُ صَيْدُه". قال المازري: واختلف مالكٌ وأبو حنيفةَ فيمن صادَ في الحرم، هل يدخل في جزائه الصيامُ؟ فأثبته مالك، ونفاه أبو حنيفة، ولمالكٍ
عمومُ الآية، وفيها الصيام (¬1). ع: ولا خلافَ أنه إذا نَفَّره، فسلمَ: أنه لا جزاء عليه إلا أن يَهْلِك؛ لكنْ عليه الإثمُ؛ لمخالفة نهيِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا شيئًا، رُوي عن عطاء: أنه يُطْعِم (¬2). السابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يلتقطُ لُقطته إلا مَنْ عَرَّفها": اللُّقَطَةُ -بإسكان القاف وبفتحها (¬3) (¬4) -: الشيءُ الملتَقَط. ولتعلم: أنه لا فرق عندنا بين لُقطة الحرمِ وغيره. وذهب الشافعي: إلى أن لقطةَ الحرم لا تؤخذ إلا للتعريف، ولا تُتملك أصلًا بظاهر هذا الحديث. قال الإمام: وتحتمل اللفظة على أصلها على المبالغة في التعريف بها؛ بخلاف غير مكة (¬5). الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يُخْتَلَى خَلَاهَا": ¬
الخَلَى -بالقصر-: الرَّطْبُ من الحشيش، الواحدةُ خلَاةٌ، واخْتلاؤهُ (¬1): قَطْعُه. وأما الحشيشُ؛ فاليابسُ خاصة، وأظن أن الكَلأَ يُطلق على الرطب واليابس (¬2). والإذخِرُ: نبتٌ طيبُ الرائحة، يشبه الحَلْفاء. وقد فسر القَيْن بأنه الحداد، ومعنى قوله: "فإنه لِقَيْنِهم"؛ أي: إنه يُحتاج لوقوده، ولعمله في تسقيف البيوت وغيرِها. وقوله: "إلا الإذخر" على الفور تَعَلَّقَ به مَنْ يرى اجتهادَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو تفويضَ الحكمِ إليه من أهل الأصول. وقيل: يجوز أن يكون بوحي إليه في زمن يسير؛ فإن الوحي إلقاءٌ في خفية، وقد تظهر أمارتُه، وقد لا، قاله ق (¬3). فائدة نحوية: إن قلت: الأحسنُ في صناعة العربية في الاستثناء من النفي البدلُ من المستثنى منه، فما بالُه جاء في هذا الحديث منصوبًا على الاستثناء، وكان حقُّه الرفع على البدل من قوله: "لا يُعْضَدُ شوكُه" وما بعدَه؟ ¬
قلت: قال بعض المتأخرين: إنما رُجِّحَ الإِتباعُ في غير الإيجاب على النصب؛ لأن معناه ومعنى النصب واحدٌ، وفي الإِتباع تشاكُلُ اللفظين، فإن تباعدا تباعدًا بيِّنًا، رُجِّحَ النصبُ؛ كقولك: ما ثبتَ أحدٌ في الحرب ثباتًا نفعَ الناسَ إلا زيدًا، ولا تنزلْ على أحدٍ من بني تميمٍ إن وافَيْتَهم إلا قَيْسًا؛ لأن سببَ ترجيح الإتباع طلبُ التشاكل، وقد ضعف داعيه بالتباعد، والأصل في هذا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُختلى خَلاها، ولا يُعْضَدُ شوكُها"، فذكر الحديث. * * *
باب ما يجوز قتله
باب ما يجوز قتله 216 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالحِدَأة، وَالعَقْرَبُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ" (¬1). وَلِمُسْلِم: "يُقْتَلُ خَمْسٌ فَوَاسِقُ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ" (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الدَّوَابُّ: جمعُ دَابّه، وأصلُها دَابِبَة؛ كقائِمة، فأُدغمت الباء الأولى في الثانية، وكلُّ ماشٍ على الأرض دابَّةٌ (¬1). والفسق في اللغة: الخروجُ؛ من قولهم: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ: إذا خرجَتْ من قشرها، فقالوا: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]: إذا (¬2) خرجَ عنه، يَفْسِق ويَفْسُق -بالكسر والضم-، وكأن الضم أكثرُ، فِسْقًا وفُسُوقًا. ¬
قال ابن الأعرابي: لم يُسمع قَطُّ في كلام الجاهلية، ولا في شعرِهم، فاسِقٌ، قال: وهذا عجيبٌ (¬1)، وهو كلام (¬2) عربيٌّ، والفسيق: الدائمُ الفِسْق (¬3). والغراب: معروفٌ، وجمعُه في القِلَّة: أَغْرِبَةٌ، وفي الكَثْرة: غِرْبانٌ (¬4). والحِدَأة: -بكسر الحاء وفتح الدال- مقصورٌ (¬5) مهموزٌ، وجمعها حِدَأٌ؛ كعِنَبَةٍ وعِنَبٍ (¬6). والعَقْرَبُ: أنثى العَقارب، ويقال -أيضًا-: عَقْرَبَةٌ، وعَقْرَباءُ -بالمدِّ غيرَ مصروف-، والذَّكر (¬7) عُقْرُبان، بالضم (¬8). والفأرة: مهموزةٌ، وفارة المسك: النافِجَةُ. وأما الكلب العقور: فاختُلف فيه، فقيل: هو الإنسيُّ المتخذُ، وقيل: كلُّ ما يعدو؛ كالأسد والنَّمِر، واستدلَّ لهذا: بأن الرسول ¬
-عليه الصلاة والسلام- لما دعا على عُتبةَ بن أبي لهبٍ بأن يُسلط عليه كلبًا من كلابه، افترسَهُ (¬1) الأسدُ (¬2)، فدلَّ على تسميته بالكلب، وهذا هو المشهور من مذهبنا، فيدخل فيه السَّبُعُ، والكلبُ، والفَهْد، والنمر، وأشباهها مما يعدو. وترجح (¬3) القولُ الأولُ، أو رُجِّحَ (¬4) بان إطلاق اسم الكلب على غير الإنسي المتخذ خلافُ العرف، واللفظة إذا نقلها أهل العرف إلى معنى، كان حملُها عليه أَوْلى من حملها على المعنى اللغوي. وفائدةُ هذا الخلاف: ما تقدم من التعدية إلى غير الكلب الإنسي المتخذ، وكلِّ ما يعدو، وعدمِها. كما اختُلف أيضًا في الأربع البواقي، هل يقتصر عليها، أو تُعَدَّى (¬5) إلى ما هو أكثرُ منها بالمعنى؟ فقيل بالاقتصار عليها، وهو المذكور في كتب الحنفية. ق: ونقل غيرُ واحد من المصنفين المخالفين لأبي حنيفة: أن ¬
أبا حنيفة ألحقَ الذئبَ بها، وعدُّوا ذلك من مناقضاته (¬1). قال الخطابي: وقاس الشافعيُّ على هذه الخمس كلَّ سَبُعٍ ضارٍ، وكلَّ شيء من الحيوان الذي لا يؤكل لحمُه (¬2). قلت: واعتبر مالك رحمه اللَّه في ذلك الأذى، فكلُّ مؤذٍ يجوز عنده (¬3) للمحرِم قتلُه بغير معنى الصيد. قال القاضي عبد الوهاب: وليس من ذلك الصقرُ والبازي، ولا القردُ والخنزيرُ، إلا أن يبتدىء بشيء من ذلك بالضرر. قال: وقَتْلُ: صغارِ ما يجوز قتلُ كبيره من الصيد؛ كالسباع والطير، مكروهٌ، ولا جزاء فيه، فأما صغارُ الحيات والعقارب والزنابير، فغير مكروه. قال ابن شاس: والمشهورُ: أن الغرابَ والحدأة يُقتلان، وإن لم يبتدئا بالأذى. وروى أشهب المنعَ من ذلك. وقال ابنُ القاسم (¬4): إلا أن يؤذي، فيُقتل (¬5)، إلا أنه إن قتلهما (¬6) ¬
من غير أذى، فلا شيء عليه. وقال أشهب: إن قتلهما من غير ضرورة، وَدَاهُما (¬1). واختُلف -أيضًا- في قتل صغارهما، وفي وجوب الجزاء بقتلهما (¬2). وأما غيرُهما من الطير، فإن لم يؤذ، فلا يُقتل، فإن قتل، ففيه الجزاء. وإن آذى، فهل يقتل، أم لا؟ قولان. وكذلك (¬3) إذا قلنا: لا يقتل، فقتل، قولان أيضًا، المشهورُ: نفيُ وجوب (¬4) الجزاء. وقال أشهب: عليه في الطير الفديةُ، وإن ابتدأتْ بالضرر. وقال أصبغ: من عدا عليه شيءٌ من سباع الطير، فقتلَه، وَداه بشاة. قال ابن حبيب: وهذا من أصبغ غلطٌ. وحمل بعضُ المتأخرين قولَ أصبغَ هذا على أنه كان قادرًا على الدفع بغير القتل، فأما لو تعين القتلُ في الدفع، فلا يختلف فيه. وأما العقرب والحية والفارة، فيقتلن، حتى الصغير، وما لم يؤذ ¬
منها؛ لأنه لا يؤمَنُ منها، إلا أن تكون من الصغر بحيث لا يمكن منها الأذى، فيختلف في حكمها. وهل يلحق صغارُ غيرها من الحيوان المباحِ القتلِ لأذيته بكبارها في جواز القتل ابتداءً؟ فيه خلاف. قلت (¬1): وأما الأسدُ والنمرُ والفهدُ، وما في معناها، فالمشهورُ: جوازُ قتلِ صغيرِها (¬2)، وما لم يؤذِ من كبيرها (¬3) (¬4). ونقل الخطابي عن النخعي: أنه قال: لا يقتل المحرمُ الفأرةَ، قال: وأراه قال: فإن قتلها، فعليه الفديةُ، وقال: هذا مخالف للنص، خارجٌ عن أقاويل العلماء (¬5). ع: وروي عن عليٍّ ومجاهدٍ: لا يُقتل الغراب، ولكن يُرمى، ولا يصحُّ عن علي ذلك (¬6). وقالت طائفة أخرى: لا يقتل من الغربان (¬7) إلا الأبقعُ، وهو ¬
الذي في بطنه وظهره (¬1) بياضٌ -على ما جاء في حديث سعيد عن (¬2) عائشة. ع: وحكى الخطابي عن (¬3) مالك: أنه (¬4) لا يُقتل الغرابُ الصغير، وتُؤُوِّل أنه نوع من الغربان يأكل الحبَّ، وعندي أنه تحريف عن مالك (¬5)، انتهى (¬6). ق: واستُدل بالحديث على أنه يُقتل في الحرم (¬7) من لجأ إليه بعدَ قتلِه لغيرِه مثلًا، على ما هو مذهبُ الشافعي، وعلل ذلك: بأن إباحة قتل هذه الأشياء في الحرم مُعلَّلٌ بفسق العُدْوان، فيعمُّ الحكمُ لعموم العلَّة، والقاتِلُ عدوانًا فاسقٌ بعدوانه، فتوجد العلَّة في قتله، فيُقتل، وبل أولى؛ لأنه مكلَّفٌ، وهذه الفواسقُ فسقُها طبعيٌّ (¬8)، ولا تكليف عليها، والمكلَّفُ إذا ارتكب الفسقَ هاتكٌ لحرمةِ نفسه، فهو أولى ¬
بإقامة مقتضى الفسقِ (¬1) عليه. قال: وهذا عندي ليس بالهيِّن (¬2)، وفيه (¬3) عوزٌ (¬4)، فليتنبه له (¬5). فائدة: قال العبدي: وجملةُ ما يجوز للمحرم قتلُه، وفي الحرم (¬6) أيضًا، ثلاثةَ عشرَ شيئًا (¬7)؛ ستة تُذبح للأكل، وسبعة تُقتل للضررِ ودفعِ أذاها. فأما ما يذبح للأكل: فبهيمةُ الأنعامِ الثلاثُ: الإبل، والبقر، والغنم، وثلاثٌ من الطير، وهي (¬8): البَطُّ، والإوَزُّ، والدجاجُ. وأما لدفع الضرر، فثلاثةٌ هوائيةٌ، وهي: الغراب، والحِدأة، والزُّنبور، على خلاف في الزُّنبور، وثلاثةٌ ترابيةٌ: الحية، والعقرب (¬9)، والفأرة، وواحدٌ من الوحش، وهو الكلب العقور، واللَّه أعلم. ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رِيَاضُ الأَفْهَامِ فِي شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 7 - 13 - 418 - 9933 - 978 ISBN دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالِب سوريا - دمِشق ص. ب: 34306 لبنان - بِيروت ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com
باب دخول مكة
باب دخول مكة (¬1) الحديث الأول (¬2) 217 - عَنْ أَنسَ بْنِ مَالكٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ (¬3) عَامَ الفَتْح (¬4)، وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نزَعَهُ، جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ (¬5) ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّق بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، فقَالَ: "اقْتُلُوهُ" (¬6). ¬
الرجل (¬1): قيل (¬2): هو أَبو بَرْزَةَ الأسلميُّ -رضي اللَّه عنه- (¬3). واسم ابن خَطَل: عبدُ العزى، وخَطَل: بفتح الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة (¬4). وقد ثبت عن ابن شهاب الزهري: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن محرِمًا ذلكَ اليومَ (¬5). ¬
ق: وظاهرُ كونِ المغفرِ على رأسه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقتضى ذلك (¬1) (¬2)، ولكنه محتملٌ لأن (¬3) يكون لعذر. وأُخذ من هذا: أن المريدَ لدخول مكة إذا كان محارِبًا يُباح له دخولُها بغير إحرام؛ لحاجة المحارب (¬4) إلى الستر بما يقيه وَقعَ السلاح. وإباحةُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لقتله (¬5) قد يتمسك به في إباحة قتل الملتجىء إلى الحرم، ويجاب عنه: بان ذلك محمولٌ على الخصوصية التي دلَّ عليها قولُه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا حَلَّتْ (¬6) لي سَاعَةً مِنْ نهارٍ" (¬7). قلت: ولا أَستبعد هذا الجواب، وقد تقدم نحوُ هذا في حديث شُريح بن خُويلد -رضي اللَّه عنه-. وأما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في ابن خطل: "اقتلوه"، فلعظم (¬8) ذنبه، وهو أحدُ ¬
الستة الذين أمر -عليه الصلاة والسلام- بقتلهم، ولو تعلَّقوا بأستار الكعبة، وكان منهم امرأتان. وقال محمدُ بنُ عمرَ الواقديُّ: كان معهم أربعُ نسوة، وكان ابنُ خطلٍ قد ارتدَّ بعد إسلامه، وقَتَلَ (¬1)، ولحق بدار الكفرِ بمكة، واتخذ قَينتين تُغنيان بسبِّ (¬2) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهِجائه (¬3)، فعهد فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4) بما عهد -نسأل (¬5) اللَّه تعالى حسنَ الخاتمة بلا محنة- آمين يا (¬6) ربَّ العالمين. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 218 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيَا الَّتِي بِالبَطْحَاءَ، وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى (¬1). * * * ¬
قد تقدم أن (دخل) يتعدى بنفسه إلى كل ظرفِ مكانٍ مختصٍّ. وتقدم أيضًا الكلامُ على مكةَ، واشتقاقها. وكَدَاء: -بفتح الكاف والمد-، ولم أسمعه إلا منونًا، ولا يبعد فيه منعُ الصرف إذا حُمل على البقعة؛ إذ هو عَلَمٌ على المكان المخصوص المعروف (¬1). والثَّنِيَّة: هي الطريقُ بين الجبلين، والثنيةُ السفلى المعروفُ فيها كُدًى -بالضم والقصر-. ق: وثَمَّ موضعٌ اَخَرُ يقال له: كُدَيٌّ -بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء-، وليس هو السفلى على المعروف، والمشهورُ (¬2) استحبابُ الدخول من كَدَاء، وإن لم تكن (¬3) طريق الداخل إلى مكة، فيعرِّجُ إليها. وقيل: إنما دخل النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- منها؛ لأنها على طريقه، فلا يُستحبُّ لمن ليستْ على طريقه، وفيه نظر (¬4)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 219 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- البَيْتَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ، وعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ (¬1) البَابَ، فَلَمَّا فتحُوا، كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلَالًا، فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَ: نعمْ، بَيْنَ العَمُودَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ (¬2). ¬
فيه: اختصاصُ المتبوع بعضَ (¬1) أتباعه ببعض (¬2) الأمور المخصوصةِ بالعبادات. وفيه: العملُ بخبر الواحد. وفيه: جوازُ الصلاة في البيت. وقد اختلف أصحابنا في جواز ذلك، والمذهب: جواز النفل خاصةً دونَ الفرضِ، والسننِ؛ كالوتر، وركعتي الفجر، وركعتي الطواف. قال اللخمي: وأجازه أشهبُ في "مدونته" في الفرض، فقال: إن فعل، فلا إعادة عليه، وإن كان يُستحب له أن لا يفعل ذلك ابتداءً، فعلى المشهور: لو صلى الفرضَ فيها، قال في "الكتاب": يعيد في الوقت، وحُمل على الناسي؛ لقوله: كمن صلَّى لغير القبلة (¬3). وقال ابن حبيب: يعيد أبدًا في العَمْد والجهل، وكأنه راجع إلى الأول، والحِجْر مثلُها، والصلاةُ على ظهرها أشدُّ، وقيل: مثلُها، وقيل: إن أقام قائمًا بقصده (¬4)، فمثلُها، وإلَّا، لم يجز؛ للنهي عنه (¬5)، والأكثرُ على الأول. وقال أشهب: إن كان بين يديه قطعةٌ من سطحها؛ بناء على أن ¬
الأمر ببنائها، أو بهوائها. وقال المازري: المشهورُ: منعُ الصلاة داخلَها، ووجوبُ الإعادة أبدًا، وعن ابن عبد الحكم: الإجزاء. مسألة: لو امتد صفٌّ مستطيل قريبًا (¬1) من البيت، فالخارجُ عن سمت البيت لا صلاةَ له، ولو فُرِضَ بعدُ هؤلاء عن مكة في أفق من الآفاق، لصحت صلاتهم، والواقفُ بمكةَ خارجَ المسجد يسوِّي محرابه بناءً على عِيان الكعبة، فإن لم يقدر، استدلَّ عليها بما يدلُّ عليها، فإن قدر على الاجتهاد بمشقة، فقد تردَّدَ بعضُ المتأخرين في جواز اقتصاره على الاجتهاد. وقال الشافعي، وأبو حنيفة، والثوري: يصلِّي فيها كلَّ شيء، وهو قولُ جماعة من السلف. وقال بعض الظاهرية: لا يصلِّي فيها نافلةً ولا فريضة، ونحوُه مذهبُ ابن عباس (¬2). ق: (¬3) في الحديث -أيضًا-: جوازُ الصلاة بين الأَساطين والأَعْمِدة، وإن كان يحتمل أن يكون صلَّى في الجهة التي بينهما، وإن لم يكن في مُسامَتَتِها (¬4) حقيقة، وقد وردت في ذلك كراهةٌ، فان لم يصحَّ سندُها، ¬
قدم هذا الجواب (¬1)، وعمل بحقيقة (¬2) قوله: "بينَ العمودين"، وإن (¬3) صح سندُها، أُوِّل بما ذكرناه: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّى في سمت ما (¬4) بينَهما، وإن كانت آثارًا فقط، قُدِّمَ المسندُ عليها (¬5). قلت: وعُللت كراهةُ الصلاة بين الأساطين بأشياء: منها: أنها تُوقع خللًا في الصف. ومنها: أنها موضعُ الأقدام، فلا يخلو (¬6) عن نجاسة في الغالب. ومنها: أنها محالٌّ الشياطين على ما قيل، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 220 - عَنْ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تنفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ، مَا قَبَّلْتُكَ (¬1). ¬
فيه: حُسْنُ الاقتداء، وشدةُ المتابعة، وإن لم يعلم (¬1) العلَّة، ومثلُه ما تقدم (¬2) من إدارة ابنِ عمرَ راحلَته في مكانٍ أدارَ فيه -عليه الصلاة والسلام- راحلَتَه، ولم يذكر مُسْتَنَدًا في ذلك سوى الاقتداء حين سُئل عن ذلك، هذا وإن كان قد علم في الجملة أن تقبيلَ الحجرِ الأسودِ إكرامٌ له، وإعظامٌ لحقه، وتبرُّكٌ به. وقد قيل: إن اللَّه عز وجل لما أَخَذَ على بني آدمَ الميثاقَ وهُمْ كالذَّرِّ في صُلْب آدمَ -عليه الصلاة والسلام-، كتبَ ذلكَ في رَقٍّ، ثم دعا هذا الحجرَ، فألقمَه إياه، فهو يشهدُ (¬3) لمن وافاهُ إلى يومِ القيامةِ. قال الخطابي: وقد فَضَّلَ اللَّهُ بعضَ الأحجارِ على بعضٍ؛ كما فَضَّلَ بعضَ البِقَاعِ (¬4) والبلدانِ، وكما فَضَّلَ بعضَ الليالي والأيامِ والشهورِ، وبابُ هذا كله التسليمُ، وهو أمرٌ سَائِغٌ (¬5) في العقول، جائزٌ فيها غيرُ ممتنع ولا مستَنْكَر، وقد رُوي في بعض الأحاديث: "إِنَّ الحَجَرَ الأَسْوَدَ يَمِينُ اللَّهِ في الأَرْضِ" (¬6)، فالمعنى: أَنَّ مَنْ صافَحَه في الأرض، كان ¬
له عندَ اللَّه عهدٌ، فكان (¬1) كالعهد يعقده الملكُ بالمصافحة لمن يريدُ موالاته والاختصاصَ به (¬2)، وكما يصفق على أيدي الملوك بالبَيْعَة (¬3)، وكذلك تقبيلُ الخدمِ أيديَ السادةِ (¬4) والكبراء، فهذا كالتمثيل بذلك، والتشبيهِ به (¬5). قلت: وكأن عمر -رضي اللَّه عنه- قال ذلك، لإزالةِ وهمٍ في بعض أذهانِ الناس من أيام الجاهلية، وما كانت تعتقدُه في أصنامها، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 221 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وقد وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَم يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا، إِلَّا الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ (¬1). ¬
* الشرح (¬1): قدومُه -عليه الصلاة والسلام- كان في عُمرة القضاء، ولم يكن في الحجَّة. ق: وأُخذ (¬2) من هذا: أنه نسُخ (¬3) منه عدمُ الرمل فيما بين الركنين؛ فإنه ثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- رَمَلَ من (¬4) الحجَرَ إلى الحجَر، وذكر أنه كان في الحجِّ، فيكون متأخِّرًا، فيقدَّم على المتقدِّم. وفيه: دليلٌ على استحباب الرَّمَل، والأكثرون على استحبابه مطلَقًا في طوافِ القدوم في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وبعده، وإن كانت العلَّة التي ذكرها ابنُ عباس قد زالت، فيكون استحبابهُ في ذلك الوقت لتلك العلَّة، وفيما بعد ذلك تأسيًا واقتداء بما فُعِلَ في زمن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي ذلك من الحكمة تذكُّرُ الوقائع الماضية للسلف الكرام، وفي طَيِّ تذكُّرِها مصالحُ دينية؛ إذ تبين في أشياءَ كثيرة ما كانوا عليه من امتثالِ أمرِ اللَّه تعالى، والمبادرةِ إليه، وبذلِ الأنفس (¬5) في ذلك، وبهذه النكتة (¬6) ¬
يظهر (¬1) الآن كثيرٌ من الأعمال التي وقعت في الحج، ويقال فيها: إنها تعبُّد؛ كما قيل: ألا ترى أنا إذا فعلناها، وتذكَّرنا أسبابها، حصلَ لنا من ذلك تعظيمُ الأولين، وما كانوا عليه من احتمال المشاقِّ في امتثال أمر اللَّه تعالى، وكان (¬2) هذا التذكُّر باعثًا على مثلِ ذلك، ومقرِّرًا في أنفسنا تعظيمَ الأولين، وذلك (¬3) معنًى معقول. مثالهُ: السعيُ بين الصفا والمروة، إذا فعلناه وتذكَّرْنا أن سببَه قصةُ هاجرَ مع ابنها، وتركُ (¬4) الخليلِ عليه السلام لهما في ذلك المكان الموحشِ منفردَيْن مُنقطِعَي (¬5) أسبابِ الحياة بالكلية، مع ما أظهره اللَّه تعالى من الكرامة والآية في (¬6) إخراج الماء لهما، كان في ذلك مصالحُ عظيمةٌ؛ أي: في التذكر لذلك الحال (¬7). وكذا رميُ الجِمار، إذا فعلناه، فتذكرنا (¬8) أن سببه رميُ إبليسَ بالجمار في هذه المواضع عندَ إرادةِ الخليلِ ذبحَ ولده، حصلَ من ذلك ¬
مصالحُ عظيمةُ النفعِ في الدين (¬1). (¬2) الرَّمَلُ والرَّمَلانُ: -بفتح الميم-: الهَرْوَلَةُ، وهو من الألفاظ المشتركة، تقع (¬3) أيضًا (¬4) على جنس من العَرُوض، كأنه -واللَّه أعلم- من العَروض -بفتح العين (¬5) - الذي استنبطَه الخليلُ شاهد (¬6)، وعلى القليل من المطر، وعلى خُطوط تكون (¬7) في قوائم البقرة الوحشية تُخالف سائرَ لونها (¬8). والشوط في الأصل: الطَّلَق، يقال: عَدا شَوْطًا، أي: طَلَقًا -بفتح اللام-، والمراد به هنا: الطوافُ بالبيت مرة من الحَجَر إلى الحَجَر (¬9). وقد كره الشافعيُّ وبعض المتقدمين (¬10) تسميتَه بذلك، والحديثُ ¬
على خلافه، وإنما لم يَرْمُلوا فيما بين الركنين؛ لأن المشركين لا يرونهم في هذا المكان؛ إذ العلةُ إنما كانت حينئذ إظهارَ الجَلَد، وإنكاءَ (¬1) المشركين (¬2)، ومناقضتَهم (¬3) بذلك، حيث قالوا عن الصحابة: وَهَنَتْهُم حُمَّى يثربَ؛ أي: أضعفَتْهم، يقال: وَهَنَ الإنسانُ، وَوَهَنَهُ غيرُه، يتعدَّى ولا يتعدَّى، ويقال -أيضًا-: وَهِن -بالكسر-، وَأَوْهَنَتْه، وَوَهَّنَتْه تَوْهينًا. ولتعلمْ: أن الرملَ مستحبٌّ، ولا شيء على مَنْ تركه جَهْلًا أو عمدًا. ونقل الخطابي عن سفيان الثوري: أنه يراه سنةً مؤكَّدَةً، ويوجب بتركه دمًا (¬4). قلت: وقد نُقل ذلك عن مالك. قال الأبهري: لأنه ترك شيئًا مستحبًا، وذلك أحوطُ (¬5)، ثم رجعَ فقالَ: لا دم عليه. قال الأبهري -أيضًا-: لأن ذلك هيئةُ العمل (¬6)، فإذا تركه الإنسان، ¬
فلا شيء عليه؛ كما لو ترك رفعَ اليدين في الصلاة، والتبدئةَ بالميامن في الوضوء، وهو مختصٌّ بالرجال دون النساء؛ لأن إسراعَهن عورةٌ، واللَّه أعلم. * * *
الحديث السادس
الحديث السادس 222 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ، أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ (¬1). ¬
يعني بالركن: الحَجَرَ الأسودَ؛ لأنه بعضُ الركن؛ كما أنه إذا قال: استلَم الركنَ، إنما يريد: بعضه. فيه: استحبابُ استلامِ (¬1) الحَجَر. وفيه: دليلٌ على الخَبَبِ (¬2) في جميع الأشواط الثلاثة، والخَبَبُ (¬3): الإسراعُ في المشي مع تقارُبِ الخُطا (¬4). وفيه: الابتداءُ بالطواف أولَ القدوم، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 223 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: طَافَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى بَعيِرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ (¬1). ¬
فيه: جواز قول: حجَّة الوداع، وقد كرهه بعضُ العلماء، وغُلِّط (¬1). وفيه: جوازُ الطواف راكبًا، وإنما طاف -عليه الصلاة والسلام- راكبًا -وإن كان المشيُ في حقِّ غيرِه (¬2) أفضلَ-؛ ليراه الناس، وليُشْرِفَ، وليسألوه، ولبيان الجواز أيضًا، فكان ذلك في حقِّه الأفضلَ، أو الأوجبَ، وقد قيل: إنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان في طوافه هذا مريضًا (¬3)، وإلى هذا المعنى (¬4) أشار البخاري، وترجم عليه: باب: المريض يطوف راكبًا، فيحتمل أن يكون -عليه الصلاة والسلام- طاف لهذا كلِّه. وفيه: دليلٌ على طهارة بولِ ما يؤكل لحمُه وروثه؛ لأنه لا يؤمَنُ من البعير، فلو كان نجسًا، لما عرَّض المسجدَ له، وقد يُنزه المسجدُ عما هو أخفُّ من هذا؛ تعظيمًا له. وذهب أبو حنيفة، والشافعي إلى نجاسة ذلك (¬5). وليس الهما -فيما علمت- على (¬6) ذلك دليل واضح. ¬
وفيه: استحبابُ استلام الحجر، وأنه إذا عجزَ عن استلامه استلمَه بعُود، وهذا الاستلام مستحَبٌّ، وليس بواجب. قال مالك رحمه اللَّه: لأنه ليس من فرائض الحج، ولا من سُننه، وإنما هو مستحبٌّ، فمن تركه، لم يكن عليه شيء. قال أصحابنا: الأولى أن يُقبله بفيه إن قَدَر، فإن لم يقدر، لمسه بيده. واختُلف هل يُقبل يدَه، أو يضعُها على فيه من غير تقبيل؟ فقال مالك مرةً: يضعُها على فيه من غير تقبيل؛ لأن ذلك عوضٌ عن (¬1) التقبيل، وقد فعله جماعة من الصحابة. وروي عن مالك أيضًا: أن له أن يُقبل يدَه. قلت: وجه هذا القول: أن في الرواية الأخرى زيادة؛ وهو قوله: "ثم يقبلُ المحجنَ". فإن لم يقدر أن يستلمه (¬2) بعود (¬3) و (¬4) نحوِه، فإن (¬5) لم يمكنه ذلك، كَبَّرَ، ومضى. ¬
نادرة: سمعت شيخَنا أبا عليٍّ النجائي (¬1) -رضي اللَّه عنه- يحكي: أن رجلًا من أهل العراق (¬2) لم يصلْ إلى الحجر من زحام الناس، فرجعَ إلى بيته، فاستصحبَ معه ألفَ دينار، وأتى قربَ الحجر فنثرَها على الناس، فقعدوا يلتقطونها، وأسرع هو إلى الحجر فقبله حالَ اشتغالهم بالتقاط الذهِب، هذا أو معناه. وقد أنكر مالكٌ وضع الخدَّين (¬3) عليه. نعم، يُسن الدعاءُ عنده؛ إذ هو من مواطن الإجابة، وليس الدعاءُ عنده بمحدود، وقال ابن حبيب: يقول: باسم اللَّه، واللَّه أكبر، اللهمَّ إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتِّباعًا لسنَّةِ نبيِّك محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأنكره (¬4) مالك؛ لكون العمل على خلافه. وهل تُكره التلبيةُ عنده، أو (¬5) لا؟ في المذهب قولان (¬6). * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 224 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ (¬1). ¬
* الشرح: الركنان اليمانيَان هما: الركنُ الأسود، والركنُ اليماني، فغُلِّب أحدُهما على الآخر؛ كالأَبَوين (¬1)، والعُمَرَين. فإن قلت: لم غُلب اليماني؟ قلت: يُحتمل أن يكون ذلك من باب استحباب لفظ التيمُّن الذي هو التبرُّك، واللَّه أعلم. واليمانيان -بتخفيف الياء- هذه (¬2) اللغة الفصيحة (¬3) المشهورة، وحكى سيبويه وغيرُه لغة أخرى بالتشديد (¬4). فمن خفف (¬5)، فللنسبة (¬6) إلى اليمن، والألفُ عوض من إحدى ياءَي النسب، ولو شدد، لكان ذلك جمعًا بين العِوَض والمعوَّض عنه، وذلك ممتنعٌ، وكأن من شدَّدَ جعل الألف زائدة، وأصلُه اليمني، كما زادوا الألفَ في صنعاني، ورَقَباني، ونظائرهما (¬7). وأما الركنان الآخران: فيقال لهما: الشامِيَّان. ¬
ففي الركن الأسود فضيلتان: كونُه على قواعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وكونُ الحجر الأسود فيه. وأما اليماني، ففيه فضيلة واحدة: وهو كونُه على قواعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-. وأما الركنان الشاميان، فليس فيهما شيء من هاتين الفضيلتين، فلذلك خُصَّ الحجرُ الأسودُ بسُنَّتين (¬1): الاستلام، والتقبيل، وأما اليماني، فيستلمه، ولا يقبله؛ لأن فيه فضيلةً واحدة، ولذلك كان (¬2) الركنان الآخران لا يُستلمان، ولا يُقَبلان (¬3). ح (¬4): وقد أجمعتِ الأمةُ على استحباب استلام الركنين اليمانيين، واتفق الجماهيرُ على أنه لا يمسح الركنين الآخرين، واستحبَّه بعضُ السلف، وممن (¬5) كان يقول باستلامهما: الحسن، والحسين ابنا عليٍّ -رضي اللَّه عنهم- (¬6)، وابن الزبير، وجابر بن عبد اللَّه، وأنس بن مالك، وعروة ابن الزبير، وأبو الشعثاء جابرُ بنُ زيد -رضي اللَّه عنهم-. ¬
قال القاضي أبو الطيب: أجمعت أئمةُ (¬1) الأمصار (¬2) والفقهاء على أنهما لا يُستلمان. قال (¬3): وإنما كان فيه خلافٌ لبعض الصحابة والتابعين، وانقرضَ الخلافُ، وأجمعوا على (¬4) أنهما لا يُستلمان (¬5). والمِحْجَن: عَصًا معقفة (¬6) يتناولُ الراكبَ بها (¬7) ما سقطَ له (¬8)، ويحرِّكُ بطرفِها بعيرَه للمشي (¬9)، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب التمتع
باب التمتع الحديث الأول (¬1) 225 - عَنْ أَبي جَمْرَةَ، نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما- عَنِ المُتْعَةِ، فَأمَرَنِي (¬2) بِهَا، وَسَأْلتُهُ (¬3) عَنِ الهَدْيِ، فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، أَوْ شَاةٌ، أو شِرْكٌ في دَمٍ، قَالَ: وَكَأَنَّ ناسًا كَرِهُوهَا (¬4)، فَرَأَيْتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عبَّاسٍ، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكبَرُ! سُنَّةُ أَبي القَاسِمِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). ¬
* التعريف: أبو جَمْرَة -بالجيم والراء المهملة-: واسمُه نصرُ بنُ عِمرانَ الضُّبَعِيُّ -بالضاد المعجمة المضمومة (¬1) والعين المهملة والباء الموحدة المفتوحة (¬2) -، اليَزَنِيُّ -بالمثناة تحت والزاي وبعدها نون-، البصريُّ التابعيُّ (¬3). سمع عبدَ اللَّه بنَ عباس، وأبا بكر بنَ أبي موسى زَهْدَمَ (¬4) الجرميَّ. روى عنه: شُعبة، وقُرَّةُ بنُ خالد، وحَمَّادُ بنُ زيد، وعَبَّادُ بنُ سعد. أخرج حديثه في "الصحيحين". قال أبو عيسى: مات سنة ثمان وعشرين ومئة -رضي اللَّه عنه- (¬5). ¬
قد تقرر أن الإحرام على ثلاثة أوجه: إفراد، وتمتع، وقِران. وقد اتفق العلماء على صحة الحج بكل واحدٍ منها (¬1)، إلا أبا حنيفة؛ فإنه استثنى المكيِّ، فقال: لا يصحُّ في حقه التمتعُ، ولا القِرانُ، ويكره له فعلُهما، فإن فعلَهما، لزمه دم. وأما النهي الوارد عن عمرَ وعثمانَ -رضي اللَّه عنهما-، فعلى التنزيه، لا على التحريم، على ما سيأتي. ثم اختلفوا في أولاها: فقال أبو حنيفة: القِرانُ أفضلُ، ثم التمتعُ، ثم الإفرادُ للآفاقي. وقال مالك، والشافعيُّ في أحد قوليه، وهو الصحيح عند أصحابه: الأفضلُ الإفراد، ثم التمتُّع، ثم القِران. وعن الشافعي قول آخر: أن التمتعَ أفضلُ. وقال (¬2) أحمد: التمتعُ، ثم الإفرادُ، ثم القِران (¬3). والقِران: اشتراكُ العمرة والحجِّ في إحرام واحد ابتداءً وإِردافًا (¬4). وأما التمتُّع: فله شروط ستة: أحدها: الجمعُ بين العمرة والحج في عام واحد. ¬
الثاني (¬1): في سفر واحد. الثالث: تقديمُ العمرة على الحج. الرابع: أن يأتي بها أو ببعضِها في أشهر الحج. الخامس: أن يُحْرِم بعد الإحلال منها بالحج. السادس: أن يكون المتمتِّعُ مقيمًا بغير مكةَ. والإفراد: ما عَرِيَ (¬2) عن صفة التمتُّع والقران. وقد (¬3) اختلف في حجة النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، هل كان فيها مُفْرِدًا، أو متمتِّعًا، أو قارِنًا؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة، فكلُّ طائفة رَجَّحَتْ (¬4) نوعًا، وادَّعت أن حجةَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كانت كذلك. والصحيح: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أولًا مفردًا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلَها على الحج، فصار (¬5) قارنًا. وقد اختلفت رواياتُ الصحابة -رضي اللَّه عنهم- في صفة حجَّتِه -عليه الصلاة والسلام- حجةِ الوداع، هل كان قارنًا، أو مفردًا (¬6)، أو متمتعًا؟ وقد ذكر البخاري، ومسلم رواياتهم كذلك. ¬
وطريقُ الجمع بينها (¬1): أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أولًا مفردًا، ثم صار قارنًا، كما تقدم، فمن روى الإفراد، فهو الأصل، ومن روى القِرَان، اعتمد آخرَ الأمر (¬2)، ومن روى التمتُّعَ، أراد: التمتع اللغوي، وهو الانتفاع والارتفاق، وقد ارتفق بالقِران كارتفاقِ المتمتع وزيادة، وهي (¬3) الاقتصار على فعل واحد، وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث، واللَّه أعلم. سؤال وهمي: قال القاضي أبو بكر بن (¬4) العربي في "قبسه": فإن قيل -وهو سؤال وجهه المُلحِدَةُ، واعترض به الطاعنون على الشريعة، قالوا-: كيف يثقون بالرواية، وهذا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حجة واحدة (¬5) قد اجتمع (¬6) أصحابُه حولَه، وحدَّقوا إليه، وتشوَّفوا نحوه، يقتدون به، ويعملون بعمله، لم تنتظم (¬7) روايتُهم، ولا انضبطَ بقولهم ما كان النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه، فهذا (¬8) حالهم فيما قصدوا إليه بالتحصيل، فكيف يكون فيما جاء عرضًا (¬9)؟ ¬
ثم قال بعد ذلك في موضع آخر: وقد أتقن (¬1) علماؤنا المتأخرون (¬2) الجواب، فقالوا: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما (¬3) أمره اللَّه بالحج، وأحرمَ، انتظر (¬4) الوحيَ بكيفية الالتزام وصورة التلبية، فلم ينزل عليه شيء، فاعتمد ظاهرَ ما أُمر، فقال: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ، لَبَّيْكَ بِحَجَّةِ"، فسمعه جابرٌ، وعائشةُ، فسمعا (¬5) الحقَّ، ونقلا الحقَّ، وانتظر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُقَرَّ على ذلك، أو يتبين له فيه شيءٌ، فلم يكنْ، فقال: "لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ"، فسمعه أَنَسٌ، وهو تحتَ راحلته حين قال: "مَا تعدوننا (¬6) إِلَّا صبيانًا (¬7) "، لقد سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصرِّح بهما (¬8) جميعًا: "لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا (¬9) " (¬10)، فسمع الحقَّ، ونقل الحقَّ، وسار (¬11) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على هذه الحالة حتى نزلَ بالعقيق، فنزل جبريلُ، وقال له: "صَلِّ في هَذَا الوَادِي ¬
المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ في حَجَّةٍ" (¬1)، فكشف له قناع البيان عن القرآن، فاستمر عليه، والتزمَ من ذلك ما لزمه، وخرج حتى دخلَ مكة، فأمر أصحابَه أن يفسخوا الحجَّ إلى العمرة، فقالوا له: كيف نفعل ذلك، وقد أَهْلَلْنا بالحج؟ فقال لهم: "افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الهَدْيَ، لأَحْلَلْتُ كَمَا تُحِلُّونَ"، وقال: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا سُقْتَ الهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً"، فارتفع التناقضُ، وزال التعارضُ، وانتظم القولُ من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والعملُ منه ومن أصحابه (¬2)، انتهى. وقد تعلق أحمدُ بنُ حنبل رحمه اللَّه في أفضلية التمتُّع بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَوِ استقبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ" الحديث، فتمنى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يكون متمتِّعًا، ولا يتمنَّى إلا الأفضلَ. وأجيب: بأنه -عليه الصلاة والسلام- أيضًا بأنه لا يفعلُ إلا الأفضلَ، وكيف يفوِّتُه اللَّه -تعالى- الأفضلَ، وَيَرُدُّهُ إلى الأَدْوَن؟! وقيل: إنما قالَ هذا من أجل فسخ الحج إلى العمرة الذي هو خاصٌّ لهم تلك السنةَ خاصةً؛ لمخالفةِ الجاهلية، ولم يُرَدْ بذلك التمتع الذي فيه (¬3) الخلاف. ¬
واحتج -أيضًا- بما جاء في الحديث من قولهم: تمتع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأجيب: بأن (¬1) المرادَ بالتمتُّع: التمتُّع اللغوي -كما تقدم-، ولم يُرد به المتعةُ المطلقة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- تمنَّاها، ولو كان فيها، ما تمناها. قال ابن العربي: وأما التمني، فلا حجة فيه؛ لأنه إنما تمنى المتعةَ رِفْقًا بأمته، وتَطييبًا لنفوسهم حين أَمرهم بها، فقالوا: كيف نفعلُها وأنت لم تفعلْها (¬2)؟! واحتج مالك والشافعي -رحمهما اللَّه- على ما ذهبا إليه من أفضلية الإفراد: بأن الخلفاء الراشدين -رضي اللَّه عنهم- واظَبوا على إِفراده، وإن كان قد اختلفَ فعلُ عليٍّ -رضي اللَّه عنه-، ولو لم يكن الإفرادُ أفضلَ، وعلموا أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حجَّ مُفْرِدًا، لم يواظبوا عليه، مع أنهم الأئمةُ الأعلام، وقادةُ الإسلام، ويُقتدى بهم في عصرهم وبعدَهم. قالوا: وكيف نظن فيهم (¬3) المواظبةَ على خلافِ فعلِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد اتصلَ عملُ أهلِ المدينة بذلك، أعني: بالإفراد (¬4)؟ وأما الخلاف عن عليٍّ -رضي اللَّه عنه-، وعن غيره، فقيل: إنما فعلوه (¬5) لبيان ¬
الجواز، وقد ثبت (¬1) في "الصحيحين" ما يوضِّح ذلك؛ ولأن الإفرادَ لا يوجب دمًا إجماعًا، وذلك لكماله، ويجب الدم في القران والتمتع (¬2)، وهو دمُ جُبران؛ كفواتِ الميقاتِ، وغيره، فكان ما لا يحتاج إلى جبر (¬3) أفضلَ. ح (¬4): ولأن الأمة (¬5) أجمعت على جواز الإفراد من غير كراهة، وكره عمرُ، وعثمانُ، وغيرهما التمتعَ، وبعضُهم التمتعَ (¬6) والقِران، فكان الإفراد أفضلَ، واللَّه أعلم (¬7). إذا (¬8) ثبت هذا، فلنرجعْ إلى تتبع ألفاظ الحديث: قوله: "فأمرني بها" دليلٌ على جوازها عندَه من غير كراهة. وقوله: "وسألته عن الهَدْي" إلى آخره، أخذه من قول اللَّه (¬9) تعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. ¬
قال ابن عطية: وما استيسر عند جمهور (¬1) أهل العلم: شاةٌ، وقال عمر، وعروة بن الزبير (¬2): ما استيسر: جملٌ (¬3) دونَ جمل، وبقرةٌ دونَ بقرة، وقال الحسن: أعلى الهدي بدنةٌ، وأوسطُه بقرةٌ، وأَخَسُّه شاةٌ (¬4). وقوله: "وكان ناسٌ يكرهونها" (¬5) يعني بالناس: عمرَ، وعثمان، كما تقدم. ق: اختلفوا فيما كرهه عمرُ من ذلك، هل هذه المتعةُ، أو فسخُ الحج إلى العمرة؟ قال: والأقربُ (¬6) أنها هذه، فقيل: إن هذه الكراهة والنهيَ (¬7) من باب الحمل على الأولى، والمشورة به على وجه المبالغة. وقوله: "رأيت في المنام" إلى آخره، فيه: الاستئناسُ بالمرائي على طريق ترجيح (¬8) الأحكام الشرعية بها، وقد شهد الشرعُ بِعِظَم قدرِها ¬
وجعلَها جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من النبوة (¬1). قالوا: والسرُّ في كونها على هذا (¬2) المقدار: أنه (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- أقام يُوحَى إليه (¬4) ثلاثة وعشرون عامًا، عشرةً (¬5) بالمدينة، وثلاثةَ عشرَ (¬6) بمكة، وكان قبلَ ذلك بستة أشهر يرى في المنام ما يُلقيه إليه المَلَكُ -عليهما الصلاة والسلام-، وذلك نصفَ (¬7) سنة، ونصفُ سنة من ثلاثة وعشرين سنة؛ جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا. قلت: وقد قيل في ذلك وجهٌ آخر، تلخيص معناه (¬8): أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خُصَّ بضُروب من العلم دون الخليقة، فيكون المراد: أن المنامات نسبتُها مما حصل له، ومُيِّزَ به جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 226 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَجَّة الوَداعِ (¬1) بِالعُمْرَةِ إِلى الحَجِّ، وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالحَجِّ، فتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ (¬2) الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ للنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا (¬3) وَالمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحِلَّ (¬4)، ثُمَّ يُهِلُّ (¬5) بِالحَجِّ، وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في الحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ". فَطَافَ (¬6) ¬
رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، وَرَكعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالبَيْتِ عِنْدَ المَقَامِ رَكْعَتَينِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ (¬1) مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْه (¬2) حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأفاضَ، فَطَافَ بِالبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الهَدْيَ مِنَ النَّاسِ (¬3). * * * ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قد تقدم قريبًا: أن التمتع في هذه الأحاديث محمولٌ عند العلماء (¬1) على التمتع اللُّغوي، وهو القِرانُ (¬2)، إجراءً على ما تقرَّرَ في الحديث الذي قبلَ هذا، ويليه (¬3). الثاني: قالوا: سُميت حجةَ الوداع؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- ودَّعَ الناسَ فيها، ووَعَظَهم، وقد تقدَّمَ تغليطُ (¬4) مَنْ كرهَ تسميتَها حجةَ الوداع، ومخالفتُه للحديث (¬5). الثالث: قوله: "فساقَ معه الهَدْيَ من ذي الحُلَيفة" دليلٌ على سَوْق الهدايا، وإن بَعُدَ مكانُها (¬6). الرابع: قوله: "و (¬7) بدأَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأهلَّ بالعُمْرة، ثم أهلَّ (¬8) بالحجِّ (¬9) ": ¬
ح (¬1): هو محمول على التلبية في أثناء الإحرام، وليس المراد أنه أحرمَ في أول مرةٍ بعمرة، ثم أحرم بحجةٍ (¬2)؛ لأنه يؤدي إلى المخالفة في أحاديث الإفراد، ويؤيد هذا التأويلَ قولُه: "وتمتع الناسُ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعمرة إلى الحج"، ومعلوم أن كثيرًا منهم أو أكثرَهم أحرموا أولًا (¬3) بالحجِّ مفردًا، وإنما فسخوه إلى العمرة آخِرًا، فصاروا متمتعين. وقوله: "وتمتع (¬4) الناس" (¬5) [يعني] في آخرِ الأمرِ، واللَّه أعلم (¬6). قلت: قولُه: محمولٌ على التلبية في أثناء الإحرام، يريد: أن المعنى: أنه -عليه الصلاة والسلام- بدأَ بلفظ الإحرام بالعُمرة، ثم أتى (¬7) بلفظ الإحرام في الحج بعدَ ذلك في إحرامٍ واحد. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ كان منكم أهدى، فإنه لا يحلُّ من شيء حَرُمَ منه حتى يقضيَ حجَّه" موافقٌ لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومَنْ لم يكن أَهْدَى، فليطُفْ بالبيت وبالصفا والمروةِ" دليلٌ على طلب هذا الطواف في الابتداء. وقوله: "وليقصِّرْ": قيل: إنما أمر به، وإن كان الحِلاقُ أفضلَ (¬1)، ليبقى له شعر يحلقه في الحج؛ لأن الحلاقَ في الحجِّ أفضلُ منه في تحلُّل العُمرة (¬2). واستدل بالأمر من (¬3) قوله: "فليحلِقْ" (¬4) على أن الحِلاق نُسُكٌ، وهو مذهبُنا، ومذهبُ الجمهور؛ خلافًا لمن قال: إنه استباحةُ محظور، وليس بنسُك، وأظنه قولًا عندنا، واللَّه أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وليحلل"، أمرٌ معناه الخبرُ؛ أي: قد صار حلالًا، فله فعلُ كلِّ ما كان محظورًا عليه في الإحرام؛ من الطيب، والنساء، والصيد (¬5)، وغير ذلك. ¬
السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ثُمَّ ليُهلَّ بالحجِّ"؛ أي: يحرم به وقت الخروج إلى عرفات؛ لا أنه (¬1) يهلُّ به عقبَ (¬2) تحلُّلِ العمرة، ولهذا قال: "ثم ليهلَّ"، فأتى بـ (ثُمَّ) التي هي للتراخي والمهلة (¬3). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فمن لم يجد هديًا"؛ أي: لم يجده هناك؛ إما لعدم الهَدي، أو لعدم ثمنه، أو (¬4) لكونه يُباع بأكثرَ من ثمنِ المِثْلِ، وإما لكونه موجودًا لا يبيعه صاحبُه، ففي كل هذه الصور يكون عادِمًا للهَدْي، فينتقل إلى الصوم، سواء كانَ واجدًا لثمنه (¬5) في بلده، أم لا (¬6). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فليصمْ ثلاثةَ أيامٍ في الحجِّ، وسبعةً إذا رجع إلى أهله" موافق لنصّ كتاب اللَّه عز وجل بصيام (¬7) ثلاثة أيام في الحج، وذلك من حينِ يُحْرِمُ بالحج إلى يوم النحر، فإن أَخَّرَها إليه، فأيام التشريق. ¬
وقيل: ما بعدها. ويصوم سبعةَ أيام إذا رجع من منى إلى مكةَ، أو غيرِها. وقيل: إذا رجع إلى أهله، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو ظاهرُ الحديث، أو نصُّه، فإن أخرها، صامَ متى شاء، والتتابعُ فيهما ليس بلازمٍ على المشهور من مذهبنا، لكن إذا لم يصم العشرةَ حتى رجعَ إلى وطنه، ولزمَه صومُها فيه صيام عشرة أيام متصلات أو متفرقات، وإن (¬1) شاء، وصلَ الثلاثةَ بالسبعة، وإن شاءَ، فَرَّقَها (¬2). واختلفت الشافعية هل يُشترط في ذلك التفريقُ بين الثلاثة والسبعة، أو لا (¬3)؟ فقيل: لا يجب، كما نقول، وقيل: يجب التفريق الواقع في الأداء؛ وهو بأربعة أيام، ومسافة الطريق بين مكة ووطنه. ح: وهو الصحيح (¬4). وقال أبو حنيفة رحمه اللَّه: إذا فاته صومُ ثلاثة الأيام في الحج، سقطَ صومُها، واستقرَّ الهديُ في ذمته، واحتجَّ على ذلك بأن اللَّه -تعالى- شَرَطَها في الحج، فلا يُجزىء في غيره (¬5)، ودليلنا: أنه صومٌ واجب، ¬
فلم يسقط القضاء (¬1) بفوات وقته (¬2)؛ كصوم رمضان. السابع (¬3): قوله: "ثم ليحللْ" إلى آخره: امتثالٌ لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وفيه: دليلٌ على أن ذلك حكمُ القارن. قال ابن عطية: ومحلُّ الهدي حيث يَحِلُّ نحرُه، وذلك لمن لم يُحْصَرْ بمنى، ولمن أُحْصِرَ بَعْدُوٍّ حيثُ أُحصر إذا لم يمكن (¬4) إرساله وأما المريض، فإن كان له هَدْيٌ، فيرسلُه إلى محلِّه، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 227 - عَنْ حَفْصَةَ (¬1) زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه! مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنَ العُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فقَالَ: "إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ" (¬2). ¬
الشأن هنا: الأَمْرُ والحالُ، والفعلُ منه: شَأَنَ؛ كضَرب (¬1)، يقال: لأَشْأَنَنَّ شَأْنَهُم؛ أي: لأُفسدنَّ أمرَهم، ويقال، اشْأَنْ شَأْنَكَ؛ أي: اعملِ الحسنةَ، وشَأَنْتُ شَأْنَهُ: قصدتُ قَصْدَهُ، وما شَأَنْتُ شَأْنَهُ؛ أي: لم أَكْتَرِثْ به (¬2). والتلبيد: أن يجعل المحرِمُ في رأسه شيئًا من صَمْغ أو عسلٍ (¬3) ليتلبد شعرُه، بُقْيا عليه أن لا يتشعَّثَ في الإحرام، وقد يقومُ الصَّبِرُ وما أشبهَه مقامَ الصَّمْغ (¬4). والتقليد: أن يُعَلَّق في عنق البَدَنَةِ شيءٌ ليُعلم أنها هديٌ. وقولها: "ما شأنُ الناسِ قد حلُّوا": ق: هذا الإحلالُ (¬5) هو الذي وقع للصحابة في فسخ الحج إلى ¬
العمرة، وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) أمرَهم بذلك ليحلُّوا بالتحلُّل من العمرة، ولم يَحِلَّ هو -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه كان ساقَ الهَدْيَ (¬2). وقولها: "من عُمرتك" دليلٌ واضح على أنه -عليه الصلاة والسلام- كان قارنًا في حجة الوداع هذه؛ أي: من عُمرتك المضمومةِ إلى الحج. وفيه: أن القارن لا يتحلل (¬3) بالطواف والسعي، ولابدَّ له في تحلُّلِه من الوقوف بعرفاتٍ، والرميِ، والحلقِ، والطوافِ؛ كما في الحاجِّ (¬4) المُفْرِد. ح: وقد تأوله مَنْ يقول بالإفراد تأويلاتٍ ضعيفةً (¬5)، منها: أنها أرادت بالعمرة الحَجَّ؛ لأنهما يشتركان في كونهما قصدًا (¬6). قال غيره: بناءً على النظر إلى الوضع (¬7) اللغوي، وهو أن العموم (¬8) الزيادة، والزيادة موجودة في الحج، أي: موجودة المعنى فيه، وهو ¬
ضعيف؛ لأن الاسم إذا انتقل إلى حقيقة عُرْفية، كانت اللغوية مهجورةً في الاستعمال. وقيل: المراد بها: الإحرام. وقيل: إنها ظنت أنه -عليه الصلاة والسلام- معتمرٌ. وقيل: معنى "من عمرتك"، بعمرتك: بأن تفسخَ حجَّك إلى عمرة كما فعل غيرُك (¬1). قلت: وهذا ضعيف جدًا، أو باطل؛ لأنه لا يعلم في لسان العرب استعمالُ (مِنْ) بمعنى الباء، وقد حصر النحويون معاني (مِنْ) في سبعة أقسام، ليس فيها أن تكون بمعنى الباء، على ما هو معلوم في كتب العربية، فإن شذَّ عن ذلك شيء، لم يُلْتفت إليه (¬2) و (¬3) بالجملة: فهذه التأويلاتُ كلُّها ضعيفة كما ترى. وفيه: استحبابُ التلبيد لشعرِ الرأس عند الإحرام. وفيه: أن للتلبيد أثرًا في الإحلال إلى النحر. وفيه: أن من ساق هديًا لم يحل حتى يوم النحر، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، واللَّه أعلم. ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 228 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: أُنْزِلَتِ آية (¬1) المُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآن يُحَرِّمُهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيهِ مَا شَاءَ (¬2). قَالَ البُخَارِيُّ: يُقَالُ: إِنَّهُ (¬3) عُمَرُ (¬4). ولِمُسْلِمٍ: نَزَلَتْ آيَةُ المُتْعَةِ -يَعْني: مُتْعَةَ الحَجِّ-، وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ لَمْ تنزِلْ آيَة تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الحَجِّ، وَلَمْ يَنْهَ ¬
رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهَا حَتَّى مَاتَ (¬1) وَلَهُمَا: بمعْنَاه (¬2) (¬3). * * * * الشرح: آيةُ المتعة: قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ¬
الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، [وقد تقدم الكلام على صفة المتعة، وبيان شروطها الستة، وتقدم أيضًا الكلام على قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}] (¬1). ق: وفي الحديث إشارةٌ إلى جواز نسخ القرآن بالسنة؛ لأن قوله: "ولم يَنْهَ عنها" نفيٌ منه لما يقتضي رفع الحكم بالجواز الثابتِ بالقرآن، فلو لم يكن هذا الرفعُ ممكنًا، لما احتاج إلى قوله: "وَلَمْ يَنْهَ عَنْها"، ومرادُه بنفي نسخ القرآن: الجوازُ، وبنفي (¬2) ورود السنة بالنهي: تَقَرُّرُ الحكمِ ودوامُه؛ إذ لا طريقَ لرفعه إلا أحدُ هذين الأمرين. وقد يؤخذ منه: أن الإجماع لا يُنسخ به؛ إذ لو نُسخ به، لقال: ولم يُتفق على المنع؛ لأن الاتفاق حينئذ يكون سببًا لرفع الحكم، فكان يحتاج إلى نفيه؛ كما نفى نزولَ القرآنِ بالنسخ، وورود السُّنَّةِ بالنهي (¬3). والرجلُ المشارُ إليه هنا هو عمرُ -رضي اللَّه عنه-؛ كما ذكره المصنف عن البخاري. وهذا الحديث يدلُّ لقولِ مَنْ قال: إِن المرادَ بالمتعة التي نهى عنها عمرُ -رضي اللَّه عنه-: متعةُ الحج، لا فسخ الحجِّ إلى العمرةِ، ويُبطل -أيضًا- قولَ من قال: إن (¬4) المرادُ بها: متعةُ النساءِ؛ إذ لم ينزل قرآنٌ بجواز ¬
هاتين المتعتين، ولا إحداهما (¬1). وقد تقدم أن نهي عمر -رضي اللَّه عنه- هنا نهيُ تنزيه، وحَمْلٌ على الأَوْلى؛ حذرًا (¬2) من أن يترك الناسُ الأفضلَ (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب الهدي
باب الهدي الحديث الأول (¬1) 229 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ أَشْعَرَهَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، وَقَلَّدَهَا، أَوْ قَلَّدْتُهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى البَيْتِ، وَأقامَ بِالمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلًا (¬3) (¬4). ¬
* الشرح: يقال: هَدْيٌ؛ كفَلْسٍ، وهَدِيٌّ (¬1)؛ كعَلِيٍّ، والأشهرُ الأولُ (¬2)، وقد قُرىء (¬3) بهما قولُه تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. قال الجوهري: الواحدة هَدْيَةٌ، وهَدِيَّهٌ (¬4). قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الهديُ مصدرًا سُمِّي به (¬5)؛ كالرَّهْنِ (¬6) ونحوِه، فيقع للإفراد (¬7) والجمع. وقال أبو عمرو بنُ العلاء: لا أعرفُ لهذه اللفظة نظيرًا (¬8). قال (¬9) بعضُ متأخري أصحابنا: والهَدْيُ: ما خرج عن فدية الأذى ¬
من دماء الحج؛ كدم القِران، والتمتُّع، والفساد (¬1)، و (¬2) الفَوَات، وجزاءِ الصيد، وغيرِه (¬3). قال الأستاذ أبو بكر: الهديُ في نحو أربعين خصلة. والقَلَائِدُ: حبالٌ تكون في حلق البعير أو (¬4) البقرة، وتعلق فيه نعلان، وإن اقتصر على نعل واحدة، أجزَأَ، والأولُ أفضلُ، وقد كرِه بعضُ أصحابنا تقليدَ النعال والأوتار. قال ابن حبيب: اجعلِ التقليدَ مما شئتَ. وإذا قَلَّدَ الهديَ، أشعرهُ. وصفة الإشعار عندنا: أن يشق في الجانب الأيسر. وقال مالك في "المبسوط": أَستحِبُّ الأيسرَ، ولا بأسَ بالأيمن، فيشق شقًا آخِذًا من نحو الرقبة إلى المؤخَّر. واستحبَّ الشافعي وغيرُه الإشعارَ في الجانب الأيمن، ويُسمِّي اللَّه -سبحانه- عند الإشعار. وقال في "المختصر": يقول: باسم اللَّه، واللَّه اكبر. قال في "الكتاب": ثم يجللها إن شاء، وكلُّ ذلك واسع. ¬
ولا يختلف أصحابنا أن ذلك يُفعل في الإبل المسنَّمَة (¬1)، فإن لم تكن مسنَّمَةً (¬2)، فأطلق في "الكتاب" أنها تُشعر. وقال في "كتاب محمد": لا تُشعر. ولا يختلفون -أيضًا- في أن الغنم لا تُشعر، والمشهور: أنها لا تُقَلَّد أيضًا (¬3). وقال ابنُ حبيب: تقلَّد. وقال الشافعيُّ والجمهور بتقليد الغنم، واتفقوا على عدم إشعارها؛ لضعفها عن الجرح، ولأنه يستره (¬4) الصوف. وأما البقر (¬5)، فإن كانت مسنَّمة، قُلِّدَت، وأُشعرت، وإن لم يكن لها أَسْنِمَة، لم تُشعر. وأصلُ الإشعار والشُّعور: الإعلام والعلامة، فالإشعارُ للهدي علامة على كونه هَدْيًا، فإن ضلَّ (¬6)، رَدَّهُ واجدُه (¬7)، وإن اختلطَ بغيره (¬8)، ¬
تَمَيَّزَ، ولأن فيه إظهارَ (¬1) الشعائر، وفيه تنبيهُ غيرِ صاحبه على فعل مثله، هذا مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: إنها مُثْلَة (¬2). [وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة المشهورة في الإشعار. ح: وأما قوله: إنها مثلة] (¬3)، فليس (¬4) كذلك، بل هذا كالفصد، والحجامة، والختان، والكيِّ، والوَسْم (¬5). وفي الحديث: دليل على استحباب المقليد والإشعار في الهدايا. وفيه: دليل على الاستعانة بالغير على (¬6) العبادة. وفيه: دليل على أن مَنْ بعثَ بهديه، لا يحرُمُ عليه شيء من محذورات الإحرام، وخالف في ذلك ابنُ عباس وغيرُه من المتقدمين (¬7). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 230 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-، قَالَتْ: أَهْدَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَةً غَنَمًا (¬1). ¬
* الشرح: الغنم: اسمٌ مؤنثٌ، موضوعٌ للجنس، يقع على الذكور والإناث (¬1)، وعليهما جميعًا، وتصغيرُها: غُنَيْمة (¬2). فيه: دليل على إهداء الغنم (¬3). واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 231 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ نبَيَّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةَ، فَقَالَ: "ارْكبْهَا"، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنةٌ، قَالَ: "ارْكبْهَا"، فَرَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ في الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ: "ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ، أَوْ: وَيْحَكَ! " (¬2). ¬
البدنة هنا: من الإبل؛ لقرينة الركوب؛ إذ البقر لا تُركب غالبًا، ولا عادة. ولتعلمْ: أن البدنة لا تُركب عند مالك إلا لضرورة؛ لقوله بعد هذا من طريق جابر: "ارْكَبْهَا بِالمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا" (¬1)، فَيُردُّ حديثُ أبي هريرة -وإن كان مطلَقًا- إلى هذا المقيَّد، ومن حيث المعنى: أنه شيء خرجَ للَّه، فلا يرجعُ فيهِ، ولو استبِيحتْ المنافعُ من غير ضرورةٍ، لجاز استئجارُها. ¬
قال المازري (¬1): ولا خلافَ في منع ذلك (¬2). ع: ذهب أحمدُ، وإسحاق، وأهلُ الظاهر: إلى جوازِ ذلكَ، يعني: جوازَ الركوب من غير ضرورة؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث، ولقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] الآية (¬3). وقد روى ابنُ نافعٍ عن مالك: لا بأسَ أن يركبَ الرجلُ بدنته ركوبًا غيرَ فادحٍ. وأوجبَ ركوبَها بعضُهم لمطلَقِ الأمرِ به. وقد علل بعضُهم جوازَ ذلك بمخالفة ما كانت عليه الجاهلية في البحيرة والسائبة والوَصيلة والحامي؛ من الحرجِ من الانتفاع بها. واحتجوا أيضًا بقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج: 33] الآيةَ. والعلة التي في الحديث تقضي عليهم لجمهور (¬4) العلماء، لاسيما وقد ورد في غير كتاب (¬5) مسلم: أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رَجُلًا يسوقَ بدنةً، وقد جهد، فقال: "ارْكَبْهَا" (¬6). ¬
وفيه: حجة لأحد قولي مالك: أنه إذا احتاج إليها، فركب واستراح، نزل. قال إسماعيل القاضي: وهو الذي يدل على مذهب مالك. وهذا خلاف ما ذكره ابن القاسم من (¬1) أنه لا يلزمه النزولُ، وحجته إباحةُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له الركوبَ، فجازَ له استصحابُه (¬2). وقال أبو حنيفة، والشافعيُّ: إن نَقَصَها هذا الركوبُ المباحُ له، فعليه قيمةُ ذلك، ويتصدَّقُ به (¬3). وقد تقدم الكلام على لفظةِ (ويل) مستوعَبًا في حديث: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ" (¬4). وبالجملة: فإنها كلمة تُستعمل عندَ إِرادةِ التغليظِ على المخاطَبِ، فيجوزُ أن يكون ذلك تأديبًا له، لمراجعته النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في فتواه، فيؤخذ منه تأديبُ العالم المتعلِّمَ. ع: وعلى رواية: تقديمُ (ويلك)، يريد: أنه جاء في رواية: "وَيْلَكَ ارْكَبْهَا" (¬5) لا يكون من باب الإغلاظ لأجل التأديب، وهو لفظ يُستعمل ¬
لمن وقع في هَلَكَة، وهذا يدل على ما جاء في الحديث: أنه رآه قد جهدَ. قال: وقد تُستعمل [و] لا يراد بها هذا، وهي من الكلمات التي تدعم بها العربُ كلامها؛ كقولهم: لا أُمَّ له، ولا أَبَ له، وتَرِبَتْ يَداهُ، وشِبْهه (¬1)، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- لأبي بَصيرٍ: "وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ" (¬2). وقد قيل: إن (ويلك) هنا يكون إغراءً بما أمره به من ركوبها؛ إذ رآه قد تحرَّجَ منه (¬3). نكتة نحوية: إن قلت: علامَ انتصبَ (راكبَها) من قوله: "فرأيتُه راكبَها"؟ قلت: على الحال؛ إذ الرؤيةُ هنا رؤيةُ عين بلا إشكال. فإن قلت: كيف جاز أن ينصب على الحال، واسمُ الفاعل إذا كان بمعنى المضي معرفة؟ قلت: هذا من باب قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ¬
بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18]، فأُعْمِلَ، وإن كان بمعنى المضيِّ؛ لما (¬1) كان حكايةَ حالٍ، وهكذا (¬2) هنا في انتصابه على الحال، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 232 - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا، وَأَجَلَّتِهَا، وَأَلَّا أُعْطِيَ الجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: "نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا" (¬1). ¬
* الشرح: اشتمل هذا الحديث على فوائد: منها: ما تقدم من جواز استحباب سَوْق البُدْنِ من المكان البعيد. ومنها: جوازُ الاستنابة في نحر الهدايا، والقيامِ عليها، وتفرقَتِها. ومنها: أن حكم الجلود حكمُ اللحم في التصدُّق بها. ومنها: منعُ إعطاء الجزار شيئًا من لحمها، أو جلدها، لا عوضًا، ولا تبرُّعًا؛ لأن ذلك بيعٌ، أو كالبيع، أما كونُه بمعاوَضَة، فبيعٌ بلا إشكال، وهو ممتنعٌ، وأما كونُه تبرعًا، فإنه وإن كان القياس جوازَه؛ لكنَّ القياسَ مع وجود النص باطلٌ، فإنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "نحنُ نُعطيه منْ عندِنا"، وأطلقَ (¬1) المنعَ من إعطائه البتةَ، ولم يُقيده بالمعاوضة. وسر (¬2) ذلك -واللَّه أعلم-: أنه ربما تسامح في الأجرة إذا علم أو ظنَّ أنه يُعطى من اللحم، فيرجع ذلك إلى المعاوضة معنًى، لاسيما إذا قلنا بسدِّ الذرائع، هذا (¬3) مذهبنا، ومذهبُ الجمهور. ¬
ونقل الخطابي، وغيره عن الحسن البصري: أنه قال: لا بأس أن يُعطى الجزارُ الجلدَ (¬1). ح: وهذا منابذ للسنة (¬2). وأما الأكلُ منها، فيؤكل عندنا من الهدايا كلِّها، إلا أربعةً: جزاء الصيد، ونسك الأذى، ونذر المساكين، وهدي التطوع إذا عطبَ قبل محلِّه. وذكر محمدٌ قولًا: أنه لا يؤكلُ من هَدْي الفساد. وذكر (¬3) ابن نافع عن مالك في "المبسوط" في الجزاء والفدية: أنه قال: ينبغي أن لا يأكل (¬4)، وإن فعل، فلا شيء عليه، هذا مذهبنا (¬5). وفي المسألة خلاف بين العلماء: فالمنقولُ عن مذهب الشافعيِّ: أن ما كان منها واجبًا، لم يحلَّ أكلُ شيء منه. قال الخطابي: وهو مثلُ الدم الذي يجب في جزاء الصيد، وإفسادِ ¬
الحج، ودمِ المتعة والقِرانِ، وكذلك ما كان نذرًا أوجَبَه المرءُ على نفسه، وما كان تطوُّعًا؛ كالضحايا، والهدايا، فله أن يأكل منه، ويُهدي، ويتصدَّق، قال: وهذا كلُّه على مذهب الشافعي. وقال أحمدُ، وإسحاق: لا يؤكل من الفدية (¬1)، ولا من جزاء الصيد، ويؤكل ما (¬2) سوى ذلك، وروي ذلك عن عمر -رضي اللَّه عنه-. قال أصحاب الرأي: يأكلُ من هَدْي المتعةِ، وهَدْي القِرانِ، وهديِ التطوُّع، ولا يأكل مما سواها (¬3) (¬4). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 233 - عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أتى عَلَى رَجُلٍ وقَدْ أَناَخَ بَدَنَتَهُ فَنَحَرَهَا، فَقَالَ: ابعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ مُحمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * * * * التعريف: زِيادُ بنُ جُبَيْرٍ -بالجيم المضمومة بعدها الباء الموحدة المفتوحة ¬
بعدها المثناة تحت آخره راء مهملة -ابنِ حيَّة- بالحاء المهملة والياء المثناة تحت المشددة-، الثقفيُّ، البصريُّ، التابعيُّ. سمع عمرَ، وابنَ عمر. (¬1) روى عنه: يونسُ بنُ عُبيد، وعُبيدُ اللَّه بنُ عون، ومَعَدُّ بنُ عبدِ اللَّه الثقفيُّ. روي عنه في "الصحيحين" -رضي اللَّه عنه- (¬2). قال الجوهري: بَعَثْتُ الناقَةَ: أثَرْتُهَا (¬3). فيه: سُنِّية نحرِ الإبلِ قائمة، ولذلك (¬4) أيضًا أصلٌ (¬5) في كتاب اللَّه عز وجل، وهو قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]، جمعُ صَافَّة؛ أي: مُصْطَفَّة في قيامِها، وقرأ ابن مسعود وغيره: (صَوَافِنَ) -بالنون-، جمع صافنة، وهي التي رفعت إحدى يديها بالعَقْل؛ لِئَلَّا ¬
تضطربَ، والصَّافِنُ من الخيل: الرافعُ إحدى يديه؛ لفراهيته (¬1)، وقيل: إحدى رِجليه، ومنه قوله تعالى: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] (¬2). وهذه القراءة يُسعدها أنه (¬3) ورد في "صحيح مسلم" ما يدل على أنها تكون معقولةً حالَ (¬4) نحرِها، وورد في حديث آخرَ صحيحٍ ما يدل على أنها معقولةُ اليدِ اليسرى (¬5). ومعنى (وَجَبَتْ): سقطت بعد نحرِها، ومنه: وَجَبَتِ الشمسُ. ق: وبعضُهم سوَّى بين نحرِها قائمة، أو بارِكَةً، ونقل عن بعضهم: أنه قال: تُنحر باركةً، واتباعُ السنة أولى (¬6)، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب الغسل للمحرم
باب الغسل للمحرم 234 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَالمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ المُحْرِمُ رَأْسَهُ، وَقَالَ المِسْوَرُ: لا يَغْسِلُ المُحْرِمُ رَأْسَهُ، قَالَ: فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إِلى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ القَرْنينِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا (¬1) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَني إِلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، يَسْألكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبَو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأْ حَتَّى بَدَا لي (¬2) رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ المَاءَ (¬3): اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ (¬4) بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَفْعَلُ (¬5) (¬6). ¬
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ المِسْوَرُ لابْنِ عَبَّاس: لَا أُمَارِيكَ أَبَدًا (¬1). القَرْنَانِ: العَمُودَانِ اللَّذَانِ تُشَدُّ فِيهِمَا الخَشَبَةُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَيْهَا (¬2) البَكَرَةُ. * * * * التعريف: عبدُ اللَّه بنُ حُنَيْنٍ: هو مولى العباس بن عبد المطَّلب، ويقال: مولى عليِّ بن أبي طالبٍ، الهاشميُّ. ¬
حدَّث عن أبي أيوب، والمسوَرِ بن مَخْرَمَةَ، وابنِ عباس. (¬1) روى عنه: ابنُه إبراهيمُ بنُ عبدِ اللَّه، ومحمدُ بنُ المُنْكَدِرِ، وأبو بكرِ بنُ حفصٍ. قال الواقدي: مات قريبًا من خلافة يزيدَ بنِ عبدِ الملك. قيل: ووُلِّيَ يزيدُ بنِ عبدِ الملكِ بنِ مروانَ بعدَ عمرَ بنِ عبد العزيز، وكانت وفاةُ عمرَ سنة إحدى ومئة -رضي اللَّه عنه- (¬2). * الشرح: الأبواء -بفتح الهمزة وسكون الباء (¬3) الموحدة والمد-: موضعٌ معروفٌ بين مكةَ والمدينةِ (¬4). والحديث يشتمل على فوائد: منها: جوازُ المناظَرَة في مسائل الاجتهادِ والاختلافِ؛ إذا غلبَ على ظنِّ المختلفين فيها حكمٌ. ومنها: الرجوعُ إلى مَنْ يُظَنُّ به العلم. ومنها: قبولُ خبرِ الواحد (¬5). ¬
ومنها: الرجوعُ إلى النصِّ عند الاختلاف، وتركُ الاجتهاد والقياس. ومنها: جوازُ غسلِ المحرمِ رأسَه بالماء القَراح. قال أصحابنا: فإن غسل رأسَه بخطميٍّ ونحوه مما يُحَسِّنُ الشعرَ، افتدى، إلا (¬1) أن تكون له وَفْرَةٌ، فالأمر فيه خفيف. وبذلك قال أبو حنيفة. وأجاز ذلك الشافعيةُ بحيث لا ينتفُ شعرًا. قال مالك: ولا يغمسُ رأسَه في الماء خشيةَ قتل الدواب. يريد فيمن كانت له وَفْرَةٌ، وإن لم تكن له وفرةٌ، أو علم أنه لا شيءَ برأسه، فلا بأس أن يغمس رأسَه فيه. قال مالك في "كتاب ابن المواز": ولا يدخلُ المحرمُ الحمَّامَ، فإن فعل، فليفتدِ إذا أنقى وسخَه وتَدَلَّكَ، فإن لم يبالغْ في ذلك، فلا شيء عليه. قال اللخمي: وأرى أن يفتدي، وإن لم يتدلَّكْ؛ لأن الشأن فيمن دخل الحمام، ثم اغتسلَ أن الشعثَ يزولُ عنه، وإن لم يتدلك. قلت: ويقوي قولَ اللخميِّ قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "المُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ" (¬2). ¬
قال الأبهري: وإنما كُره للمحرم دخولُ (¬1) الحمام؛ خيفةَ أن يقتل دوابَّ جسدِه أو رأسِه، وهو ممنوع من ذلك؛ لأنه لا يجوز له أن يُميط الأذى عنه، حتى يرميَ جمرةَ العقبة، فمتى فعل ذلك، كانت عليه الفديةُ، وإِن خافَ أن يكونَ قد فعل ذلك، فالاحتياط أن تكون عليه الفديةُ، وأما الواجبُ، فلا يلزمه إلا فيما يتيقَّن (¬2). وقد تقدم شيء من هذا. ومنها: السلامُ على المتطهِّرِ في وضوءٍ أو غُسْلٍ، بخلاف الجالسِ للحدثِ، والآكلِ، والمؤذّنِ والمُلَبِّي؛ هؤلاء الأربعةُ لا يُشرع السلامُ عليهم في تلكَ الأحوال. ومنها: جوازُ الاستعانة في الطهارة، وإن كان الأَوْلى تركُها إلا (¬3) لحاجة. ق: وقد ورد في الاستعانة أحاديثُ صحيحة، وورد في تركها شيءٌ لا يقابلها. ومنها: السترُ (¬4) عندَ الغُسل. ¬
ومنها: تحريكُ المحرمِ رأسَه بيديه إذا لم يؤدِّ إلى نتف الشعر، وقتل الدوابِّ (¬1). وأما غُسْلُ (¬2) الجنابة، فمتفقٌ عليه، والجمهورُ على جوازِ غسلِه تبرُّدًا من غير كراهة. وقوله: "أرسلني إليك ابنُ عباس يسألُكَ: كيف كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يغسلُ رأسَه؟ " يعطي ثبوتَ علمِ ابن عباس بأصل الغسل؛ إذ لم يسألْ إلا عن الكيفية فقط. ويعطي -أيضًا-: أن غسل البدن كان متقررًا عنده؛ إذ لم يسأل إلا عن كيفية غسل الرأس، ويحتمل أن يكون خصَّ (¬3) الرأس بالسؤال؛ لأنه (¬4) موضعُ الإشكال في المسألة؛ إذ الشعرُ عليه (¬5)، وتحريكُ اليد عليه (¬6) يُخاف منه نتفُ الشعر؛ بخلاف البدن (¬7)، واللَّه أعلم. وقوله: "لا أُماريكَ أَبدًا": أصلُ المِرَاءِ في اللغة: الاستخراجُ، ¬
مأخوذٌ من مَرَيْتَ الناقةَ: إذا ضربتَ ضَرْعَها لِتدرَّ، ومَرَيْتُ الفَرَسَ (¬1): إذا استخرجْتَ ما عندَه من الجري؛ بصوت، أو غيره (¬2). وقال ابنُ الأنباري: يقال: أَمْرَى فلانٌ فلانًا: إذا استخرجَ ما عنده من الكلام، فكأنَّ كلَّ واحد من المتمارِيَيْن، وهما المتجادِلان يُمْري ما عندَ صاحبِه؛ أي: يستخرجه (¬3)، ويقال: مَرَيْتُه حقَّه: إذا جحدتُه، واللائقُ بالمراءِ في الحديث حملُه على المراء الجائز الذي قَصَدا به استخراجَ الحقِّ وظهورَه، لا قصدَ المغالبة وجحودِ الحقِّ بعد ظهوره؛ فإن ذلك هو اللائقُ بحال الصحابة -رضي اللَّه عنهم-؛ فإن المراء يكون بحق، وبغير حَقٍّ، ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ. . . " الحديث (¬4). * * * ¬
باب فسخ الحج إلى العمرة
باب فسخ الحج إلى العمرة الحديث الأول 235 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ بِالحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَيَطُوفُوا، ثُمَّ يُقَصِّرُوا، وَيَحِلُّوا، إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْيُ، فَقَالُوا: ننطَلِقُ إِلى مِنَى، وَذَكَرُ أَحَدِناَ يَقْطُرُ؟! فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الهَدْيَ، لأَحْلَلْتُ"، وَحَاضَتْ عائِشَةُ -رضي اللَّه عنها-، فَنَسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّها، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تنطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ (¬1) وَعُمْرَةٍ، وَأنْطَلِقُ بِحَجٍّ؟! فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحمنِ ابْنَ أَبي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيم، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الحَجِّ (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: أصلُ الإِهْلال: رفعُ الصوتِ، وشاعَ استعمالُه في التَّلْبِيَةِ والإحرام، إلا أَنَّ رفعَ (¬1) الصوت بذلك مختصٌّ بالرجال دون النساء. قال مالك: سمعتُ أهل العلم يقولون: ليس على النساء رفعُ الصوت بالتلبية، لتُسمعِ المرأةُ نفسَها (¬2). ¬
قال الباجي: لأن النساء ليس من شأنهنَّ (¬1) الجهرُ؛ لأن صوتَ (¬2) المرأة عورةٌ، فليس من حكمِها، والجهرُ في الصلاةِ كذلك. قال مالك: ولا يرفع المحرِمُ صوتَه بالإهلال في مساجد الجماعات؛ ليُسْمعَ (¬3) نفسَه ومَنْ يليه، إلا في مسجد مِنَى، والمسجدِ الحرام (¬4). قال الباجي: وقال القاضي أبو الحسن: روى ابنُ نافع عن مالكٍ: أنه قال: يرفعُ صوتَه بالتلبية في المساجد التي بمكةَ (¬5) والمدينة. قال أبو الحسن: وهذا وفاقٌ للشافعيِّ في أحدِ قوليه، وله قولٌ ثانٍ: أنه يستحبُّ رفعُ الصوت بالتلبية في سائر المساجد. ووجهُ قولِ مالكٍ المشهور: أن المساجد إنما بُنيت للصلاة، وذكرِ اللَّه تعالى، وتلاوة القرآن، فلا يصلحُ رفعُ الصوت فيها بما ليس من مقصودِها؛ لأنه لا يتعلَّق شيء منها بالحجِّ، وأما المسجدُ الحرام، ومسجدُ الخيف، فللحجِّ (¬6) اختصاصٌ بهما؛ من الطوافِ والصلاةِ أيام مِنَى، وبسبب (¬7) الحجِّ بُنِيا، فلذلك يستحبُّ رفع الصوت فيهما ¬
بالتلبية، واللَّه أعلم (¬1). الثاني: قوله: "أهلَّ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابُه": اختُلف (¬2) فيمن يُطلق عليه صاحبٌ، أو صَحابِيٌّ: فالمعروفُ عند (¬3) المحدِّثين: أنه كلُّ مسلمٍ رأى رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وعن أصحاب الأصول، أو بعضهم: أنه من طالت مجالستُه على طريق التَّبَع (¬4). وعن سعيد بن المسيب: أنه لا يُعد صحابيًا إلا مَنْ أقام مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنةً أو سنتين، وغزا معه غزوةً أو غزوتين. ح: فإن صحَّ عنه، فضعيف؛ فإن مقتضاه: أن لا يُعد جريرٌ البجليُّ وشِبْهُه صحابيًا، ولا خلافَ أنهم صحابةٌ. ثم تعرف صحبته بالتواتر، أو (¬5) الاستفاضة، أو قولِ صحابي، أو قوله إذا كان عدلًا (¬6). وقد تكرر (¬7) هذا. ¬
الثالث: قوله: "بالحجِّ": ظاهرُه (¬1) يدل على الإفراد، وهي روايةُ جابر. الرابع: قوله: "أهللتُ بما أهلَّ به النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-": ع: أخذ بظاهره الشافعي وجوَّز (¬2) الإهلال بالنيَّة المبهَمَة. قال: ثم له بعدُ أن ينقلها لما شاء من حَجٍّ أو عُمرة، وله عنده أن ينتقل من نسك إلى غيره، وخالفه سائرُ العلماء والأئمة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" (¬3)، ولقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ولقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، ولأن هذا كان لهؤلاء خصوصًا؛ إذ كان شرعُ الحجِّ بَعْدُ (¬4)، وما فعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يستقرَّ ولم يكمُلْ بعدُ، فلم يمكنه الإقدامُ على أمرٍ بغير تحقيق (¬5). الخامس: قوله: "وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه أن يجعلوها عُمرةً": يريد ممن لا هَدْيَ معه، فهو عمومٌ أُريد به الخصوص. قال الإمام المازري: جمهور الفقهاء على أن فسخ الحج في العمرة إنما كان خاصة للصحابة، وأنه -عليه الصلاة والسلام- إنما ¬
أمرهم [بذلك] لمخالفة (¬1) ما كانت (¬2) عليه الجاهلية؛ من أنها لا تَستبيح العمرةَ في أشهر الحج، ويقولون: إذا بَرَأَ الدَّبَر، وعَفَا الأَثَر، وانْسَلَخَ صَفَر، حَلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ (¬3)؛ أي: برىء الدَّبَر الذي في ظهر الإبل عندَ انصرافها من الحجِّ من كثرة السير عليها، وعفا الأثر معناه: امَّحَى ودَرَسَ (¬4)، ويكون عفا -أيضًا- بمعنى: كَثُرَ، قال اللَّه تعالى: {حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا} [الأعراف: 95]؛ أي: كَثُروا، وهو من الأضداد، ويروى: عَفَا الوَبَر. وقال بعض (¬5) أصحاب الظاهر: ذلك جائزٌ إلى الآن، واحتجوا بقوله -عليه الصلاة والسلام- لسراقَةَ: "بَلْ لِلأَبَدِ (¬6) " (¬7). ويحتمل عندنا أن يريد بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "بَلْ لأَبَد (¬8) ": الاعتمارَ في أشهر الحج، لا فسخَ الحجِّ في العُمرة. ¬
وقد ذكر مسلم في حديث أبي ذر: "كانَتْ لَنَا رُخْصَةً" (¬1)؛ يعني: المتعةَ في الحج (¬2)، وفي الحديث الآخر: "لأَصْحَابِ محمدٍ خاصَّةً" (¬3). وذكر النسائي حديثَ سرُاقة، وفيه: تمتعنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقلتُ: لنا خاصةً أم للأبد؟ فقال: "بَلْ للأَبَد"، وذكر حديثَ الحارثِ ابنِ بلالٍ عن أبيه، وفيه: فقلتُ: يا رسولَ اللَّه! فسخُ الحجِّ لنا خاصةً، أم للناس عامةً؟ فقال: "بَلْ لَنَا خَاصَّةً" (¬4). فقد تبين بمجموع هذه الأحاديث، وتفسير ما فُسِّر منها في رواية، وبيانه لما أجمل في غيرها: أن الخصوص لفسخ الحج في العمرة، وعموم الإباحة فعل العمرة في أشهر الحج، قاله المازري (¬5). السادس: قوله: "فيطوفوا": يريد: ويَسْعَوْا؛ لما عُلم أنه لابدَّ من السَّعْي في العمرة، وإنما ترك ذلك؛ للعلم به، ويجوز أن (¬6) يكون عبر بالطواف عن مجموع الطواف والسعي، وقد قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا ¬
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، ولم يذكر السعيَ، وإن كان مرادًا. السابع: قوله: "فقالوا: ننطلق إلى منى، وذكرُ أحدِنا يقطُر": منى: مذَكَّر مصروفٌ، وقد تقدم الكلامُ عليه في صدر الكتاب. قال ابنُ الأنباري: وإنما سُميت (¬1) مِنى (¬2) من مَنَيْتُ الدَّمَ: إذا صَبَبْتُه، وذلك لما يُمنى بها من الدماء، وقال غيره: بل لأن آدمَ تمنَّى بها الجنةَ (¬3). ق: فيه: دليل على استعمال المبالغة في الكلام، فإنهم إذا (¬4) حَلَّوا من العمرة، وواقعوا النساءَ، كان إحرامُهم للحجِّ قريبًا من زمن المواقعة والإنزال، فجعلت المبالغة في قرب (¬5) الزمان؛ بأن قيل: "ذكرُ أحدِنا يقطُر"، وكأنه إشارة إلى اعتبار المعنى في الحج، وهو الشعثُ، وعدمُ الترفُّهِ، فإذا طال الزمانُ في الإحرام، حصلَ هذا المقصودُ، وإذا قَرُبَ زمنُ الإحرام من زمنِ التحلُّل، ضعف هذا المقصود (¬6)، أو عدِمَ، وكأنهم ¬
استنكروا زوالَ هذا المقصود، أو ضعفَه؛ لقرب إحرامهم من تحللهم (¬1). الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ": فيه: جواز قول: (لو)، وإن كان قد ورد النهيُ عنها، وهو قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" (¬2)، وقد جُمع بينهما بأن قيل: إن كراهةَ استعمالها (¬3) مخصوصٌ (¬4) بالتلهُّفِ على أمور الدنيا؛ إما طلبًا؛ كما يقال: لو فعلتُ كذا، حصلَ لي كذا، وإما هربًا؛ كقولك: لو كان كذا وكذا، لما وقع كذا وكذا (¬5)؛ لما في ذلك من صورة عدم التوكُّل، ونسبة الأفعال إلى القضاء والقدر، وأما إذا استُعملت في تمني القُرُبات؛ كما جاء في هذا (¬6) الحديث، فلا كراهة في (¬7) هذا أو (¬8) نحوه (¬9). وقد تقدم أنه قد استُدل به مَنْ يرى أن التمتع أفضلُ من القِران ¬
والإفراد، والجواب عنه في باب: التمتع بما يُغني عن الإعادة. التاسع: قوله: "وحاضتْ عائشةُ -رضي اللَّه عنها-" إلى آخره، دليلٌ على امتناع الحائض من الطواف، إما لنفسِه، وإما لملازمتِه لدخول المسجد والحالة هذه؛ بخلاف سائر أعمال الحج، وأنه لا تُشترط (¬1) الطهارةُ في بقية أعماله. العاشر: قوله: "غيرَ أنها لم تطفْ بالبيت": يريد: ولم تَسْعَ؛ إذ السعيُ إنما يكون عقب طواف (¬2)، و (¬3) اتفق مالكٌ وأصحاب الشافعيِّ على ذلك، بل قد اشترط بعضُ أصحابنا أن يكون السعي عقبَ (¬4) طوافٍ واجب، وإنما صحَّ بعد طواف القدوم عندَه؛ لاعتقاده وجوبَ طواف القدوم، فخالف في أمرين: الشرطية المذكورة، ووجوب طواف القدوم (¬5). الحادي عشر: قولها: "تنطلقون بحجٍّ وعمرة"؛ أي: العمرة التي فسخوا الحجَّ إليها، والحج الذي أنشؤوه من مكة. وقولها: "وأَنطلقُ بحجٍّ": ظاهره: عدمُ حصول العمرة لها، وأنها لم تفسخ الحج الأول إلى العمرة، لكن يعارضُه روايات أُخر ¬
تقتضي أنها اعتمرتْ، وذلك أنه -عليه الصلاة والسلام- أمرها بتركِ العمرة، ونقضِ رأسِها وامتشاطها، والإهلالِ بالحج لمَّا حاضتْ؛ لامتناع التحلل من العمرة؛ لوجود الحيض، ومزاحمة وقت الحج، وحملوا أمره -عليه الصلاة والسلام- بترك العمرة على ترك المضيِّ في أعمالها، لا على رفضِها بالخروج منها، وأهلَّتْ بالحج مع بقاء العمرة، فكانت قارنةً، اقتضى ذلك أن يكون قد حصل لها حجٍّ وعمرةٌ؛ لما تقرر من كونها صارت قارنةً، فاحتاجوا إلى تأويل هذا اللفظ، فأولوا قولها: "تنطلقون بحجٍّ وعمرة، وأَنطلقُ بحجٍّ" على أن المراد: إذ (¬1) تنطلقون بحجٍّ مفردٍ عن عمرة، وعمرةٍ مفردة عن حج، وأَنطلق أنا (¬2) بحج غير منفرد عن عمرة، فأمرها النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعمرة (¬3) ليحصل لها قصدُها في عمرة منفردةٍ عن حج، وحج مفردٍ عن عمرة، هذا معنى كلام ق، وأكثرُ لفظه. قال: هذا حاصل ما قيل في هذا، مع أن الظاهر خلافُه بالنسبة إلى هذا الحديث؛ لكن الجمعَ بين الروايات ألجأهم إلى مثل هذا (¬4). الثاني عشر: قوله: "فأمرَ عبدَ الرحمن بنَ أبي بكر" إلى آخر الحديث. فيه: دليلٌ على الخلوة بذات المحرم، ولا خلافَ فيه. ¬
وفيه: أن من أحرمَ بالعمرة من مكة لا يُحرم بها من جوفها، بل يخرج إلى الحل؛ فإن التنعيم أدنى الحِلِّ، وعلَّله العلماء بالجمع بين الحلِّ والحرَمِ في العمرة؛ كما كان ذلك في الحج؛ فإن عرفةَ حِلٌّ، وهي أحدُ أركان الحج. وهل ذلك واجب، أو مندوب؟ مذهبُنا وجوبه، وعند الشافعية خلاف. ق: وجمد بعضُ الناس، فشرطَ (¬1) الخروجَ إلى التنعيم بعينِه، ولم يكتفِ إلى مطلق الحل، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 236 - عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالحَجِّ، فَأَمَرَناَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً (¬1). * * * * الشرح: قد تقدم الكلامُ على التلبية في باب: ما يلبس المحرم، وهذا الحديث يدلُّ على أنهم أحرموا بالحجّ أولًا، وقد تقدَّم أن مذهبَ بعض الظاهرية جوازُه مطلقًا، أعني: فسخَ الحجِّ إلى العمرة. ¬
ق: وهو المحكيُّ -أيضًا- عن أحمد. وقولهم فيه: "ونحن نقولُ: لبيك بالحجِّ"؛ أي: بعضهم، وإلا، فقد جاء الحديث الآخر عن غير جابر: فمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بالحج، ومنَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمرة (¬1)، فليعلَمْ ذلك (¬2)، وباللَّه التوفيق والعصمة. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 237 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: قَدِمَ رَسَولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الحِلِّ؟ قَالَ: "الحِلُّ كُلُّهُ" (¬2). * * * ¬
* الشرح: هذا أيضًا يدلُّ على فسخ الحجِّ إلى العمرة، ويريد: أن التحلُّلَ بالعمرة تحلُّلٌ كاملٌ بالنسبة إلى جميع محظورات الإحرام؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "الحِلُّ كُلُّه"، وكان سبب سؤالهم عن ذلك: (¬1) استبعادَ بعض أنواع الحلِّ، وهو الجماعُ المفسِد للإحرام، فأزال -عليه الصلاة والسلام- استبعادَهم ذلكَ بقوله: "الحِلُّ كُلُّه"، وقريبٌ من هذا الاستبعاد قولُهم: "ينطلقُ أحدُنا (¬2) إلى مِنًى وذَكَرُ أحدِنا يَقْطُرُ" (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 238 - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأناَ جَالِسٌ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسِيرُ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيُر العَنَقَ، فِإذَا وَجَدَ فَجْوَةً، نَصَّ (¬1). ¬
العَنَقُ: انْبِسَاطُ السَّيْرِ، والنَّصُّ: فَوْقَ ذَلِكَ. * * * * التعريف: عُرْوَةُ بنُ الزُّبير: ابنِ العَوَّامِ بنِ خُويلدِ بنِ أسدِ بنِ عبدِ العُزَّى، القرشيُّ، الأسديُّ. كنيته: أبو عبد اللَّه، أمه: أسماءُ بنتُ أبي بكر الصديق، من أهل المدينة، من أفاضل أهلها وعُقلائهم، تابعيٌّ مشهور -رضي اللَّه عنه-. سمع أبا أيوبَ الأنصاريَّ، وسُفيانَ بنَ عبدِ اللَّه الثقفيَّ، وأبا مراوحٍ الليثيَّ، وحكيمَ بنَ حزام، وأبا هريرةَ، وجماعة كثيرة غيرَهم. قال عَمْرُو بنُ عليٍّ: مات سنة أربع وتسعين فيما حكاه عنه أبو الفضل بنُ طاهر. وقال أبو نصر الكلاباذيُّ في كتابه "في رجال البخاري": قال البخاري: قال الفراوي: مات سنة تسع وتسعين، أو (¬1) مئة، أو إحدى ومئة، قال الذهلي: قال ابن بُكَير: مات سنة أربع أو خمس وتسعين (¬2)، ¬
وقال الغلابي عن يحيى بن معين: عروةُ استُصغر يومَ الجَمَل. أُخرج حديثه في "الصحيحين" (¬1). * الشرح: هذا الحديث أجنبيٌّ عن الباب، ليس له تعلُّق بفسخ الحج إلى العمرة، وإنما يتعلق بصفة سَيْره -عليه الصلاة والسلام- عندَ دفعِه لا غير. وقوله: "العَنَق" هو بفتح العين المهملة والنون بعدها قاف. قال الجوهري: والعَنَقُ: ضَرْبٌ من سيرِ الدابَّة، وهو سيرٌ مُسْبَطِرٌّ (¬2)؟ أي: مُمْتَدٌّ (¬3)، وأنشدَ: [الرجز] يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا (¬4) فَسِيحًا ... إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا ¬
وقد أَعْنَقَ الفرسُ، وفرسٌ مِعْنَاقٌ؛ أي: جيدُ العَنَق، يريد: بفتح العين أيضًا (¬1). و"النَّصُّ": بفتح النون وبالصاد المهملة المشددة. قال الأصمعي: وهو السير الشديدُ حتى يستخرجَ أقصى ما عند الناقة، قال: ولهذا قيل: نَصَصْتُ الشيءَ: رفعتُه، ومنه مِنَصَّةُ العروس، ونَصَصْتُ الحديثَ إلى فلان؛ أي: رفعتُه إليه، وسيرٌ نَصٌّ ونَصيصٌ، ونَصُّ (¬2) كُلِّ شيء: مُنْتَهاه (¬3). فائدة: قال الثعالبيُّ في كتابه "فقه اللغة وسر العربية": العَنَقُ من السير: المُسْبَطِرُّ (¬4)، فإذا ارتفعَ عن ذلكَ، فهو الذَّميلُ، فإذا ارتفع عن ذلك، فهو الرَّسيمُ (¬5)، فإذا داركَ (¬6) المشيَ وفيه قرمطةٌ، فهو الحقد، فإذا ارتفعَ عن ذلك، وضربَ قوائمَه كلَّها، فذلك الارتباع (¬7) والالتباط، فإذا لم يَدَعْ جُهدًا فذلك الازدهاق (¬8). ¬
وقال في موضع آخر عن النَّضْر بن شُمَيل: أولُ السير الدَّبيبُ، ثم التَّزيُّدُ، ثم الذَّميلُ، ثم الرَّسيمُ (¬1)، ثم الوَخْدُ، ثم العَجيسُ، ثم الوَجيفُ (¬2)، ثم الرتكانُ، ثم الإجمارُ (¬3)، ثم الإرْقالُ (¬4). والفجوة: للمكان المتسع (¬5)، فكان -عليه الصلاة والسلام- عند الازدحام يرفُق في سيره بعضَ الرفق، وعندَ وجود الاتساع يشتدُّ (¬6) في السير مع اقتصاد؛ لما جاء (¬7) في الحديث: "عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ" (¬8). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 239 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ (¬1) رَجُلٌ، لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: "اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ"، وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: "ارْمِ وَلَا حَرَجَ"، فَمَا سُئِلَ يَومَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا (¬2) أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ" (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قد تقدم أنه -عليه الصلاة والسلام- وقفَ راكبًا، والضميرُ في قوله: "فجعلوا يسألونه (¬1) " مما يفسره سياقُ الكلام؛ إذ لم يتقدم ما يعود عليه؛ كما تقدم بيانُه. وقوله: "لم أشعر"، أي: لم أَفْطَن. قال الجوهري: شَعَرْتُ بالشيء -بالفتح- أَشْعُرُ به شِعْرًا؛ أي: فَطِنْتُ له، ومنه قولهم: لَيْتَ شِعْري؛ أي: ليتني (¬2) علمتُ. قال سيبويه: أصله شِعْرَة (¬3)؛ ولكنهم حذفوا الهاء كما حذفوها من قولهم: ذَهَبَ بعُذْرِها، وهو أبو عُذْرِها (¬4). ¬
الثاني: الحَرَج هنا: الإثم، والحَرَج أيضًا: الضيق، والحرج: الناقة الضامرة، ويقال: الطويلة على وجه الأرض. قال الجوهري: والحَرَجُ خشبٌ (¬1) يُشدُّ بعضُه إلى بعض يُحمل فيه الموتى، قيل: وربما وضع فوقَ نعش النساء، والحرج جمع حَرَجَة، وهي الجماعة من الإبل، والحَرَجَة -أيضًا-: مجتمع شجرٍ، والجمع حَرَج، وحَرَجَات، وحِراج (¬2). فهي (¬3) من الأسماء المشتركة. الثالث: الذي يُفعل يوم النحر أربعة أشياء: رميُ جمرة العقبة، ثم الذبحُ (¬4)، ثم الحلقُ، ثم طوافُ الإفاضة. فالثلاثة (¬5) الأُوَلُ (¬6) محلُّها مِنى، فإن قدَّمَ من ذلك شيئًا (¬7) على صاحبه، فلا فدية عليهِ، إلا في تقديم الحِلاقِ على الرمي؛ فإن عليه الفديةَ عندنا؛ لحلقه قبل حصول أحد التحللين، فأشبهَ مَنْ حلقَ عقبَ الإحرام، وبه قال أبو حنيفة، وهو قول الشافعي، وعند المخالف: لا فديةَ ¬
عليه؛ لما وقع في بعض طرق هذا الحديث أعني: تقديمَ الحِلاق (¬1) على الرمي. قال الإمام المازري: ومحملُ هذا عندنا على نفي الإثم، لا الفدية، وحمله المخالف عليهما جميعًا، وهكذا حمل (¬2) ابن الماجشون -أيضًا- قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحلق قبل النحر: "انْحَرْ وَلا حَرَجَ" على نفي الإثمِ، لا الفدية، لأنه يرى أن مَنْ حلقَ قبل الذبح فقد أخطأ، وعليه الفدية؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، والمشهور عندنا: لا فدية عليه، ويحمل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وَلَا حَرَجَ" على نفي الإثمِ والفديةِ جميعًا، ويُحمل قولُهُ تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] على وصوله إلى منى، لا نحره (¬3). قلت: ومنشأ هذا الخلاف -أعني: وجوبَ الفدية في تقديم الحلق على الرمي، وعدمَ وجوبها- ينبني على الخلاف في مسألة، وهي: أن الحلق نسك، أو (¬4) استباحة محظور؟ فإن قلنا: إنه نُسُك، جاز تقديمُه على الرمي؛ لكونه من أسباب التحلل، وإلا، لم يجز؛ لما تقدم من ¬
وقوع الخلاف (¬1) قبل أحد التحللين. ق: وفي هذا البناء نظر؛ لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكًا أن يكون من أسباب التحلل، ومالكٌ رحمه اللَّه يرى أن الحلقَ نسكٌ، ويرى مع ذلك أنه لا يقدَّم على الرمي، إذ معنى كون الشيء نسكًا: أنه مطلوبٌ، مُثابٌ عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون سببًا للتحلل. ونُقِلَ عن أحمدٍ رحمه اللَّه أنه إن (¬2) قدم بعضَ هذه الأشياء على بعضٍ، فلا شيء عليه إن كان جاهلًا، وإن كان عامدًا، ففي وجوب الدم روايتان، وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي دون العامد قويٌّ من جهة أن الدليل على وجوب اتباع أفعال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" (¬3)، وهذه الأحاديثُ المرخِّصَةُ بالتقديم لما وقع السؤال عنه إنما قُرِنَتْ بقول السائل: "لم أشعرْ"، فتخصَّصَ الحكمُ بهذهِ (¬4) الحالَةِ، وتبقى حالةُ العمدِ على أصل وجوب اتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الحج (¬5). قلت: وما قاله ظاهرٌ جليٌّ (¬6). ¬
ع: واختَلف قولُ مالك إذا قدمَ الإفاضةَ على الرمي، فقيل: يُجزئه، وعليه الهديُ، وقيل: لا يُجزئه، وهو كمَنْ لم يُفِضْ، وقال (¬1): يعيدُها بعد الرمي والنحر، وكذلك إذا رمى، ثم أفاض قبل الحِلاق، فقال مرة: يُجزئه، وقال: لا (¬2) يُعيد الإفاضةَ بعد الحِلاق، وقال في "الموطأ": أحبُّ إليَّ أن يُهريقَ دمًا، وإن قدَّمها (¬3) على الذبح. وقال الشافعيُّ، وفقهاءُ أصحاب (¬4) الحديث في جماعة من السلف: لا شيء عليه في الجميع (¬5)، قدَّم منها ما قدَّم، وأخَّر ما أخَّر؛ لظاهر الحديث. قلت: قد تقدَّم (¬6) أن ظاهر الحديث اختصاصُه بالجاهل و (¬7) الناسي، فلا يكون فيه دليلٌ على جواز تقديمِ العامدِ أو تأخيرِه، واللَّه أعلم. وقال أبو حنيفة: على مَنْ حلقَ قبل أن يرميَ أو ينحرَ دمٌ، وخالفه صاحباه، وقال: إن كان قارنًا، فحلق قبل النحر، فدمانِ، وقال ¬
زُفر (¬1): عليه ثلاثة. وروي عن ابن عباس فيمن قدَّم شيئًا من النسك أو أخَّره: عليه دمٌ. ع (¬2): وليس بالثابت (¬3) عنه، ونحوُه عن ابن جبير، وقتادة، والحسن، والنخعيِّ، ولم يختلفوا فيمن نحر قبل الرمي أنه لا شيء عليه (¬4). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: " (¬5) ولا حَرَجَ"، معناه: افعلْ ما بقيَ عليك، وقد أجزأَكَ ما فعلتَه، ولا حرجَ عليك في التقديم والتأخير، لا أنه أمره بالإعادة؛ كأنه قال: افعلْ ذلك كما فعلته، أو متى شئت، ولا حرجَ عليك؛ لأن السؤالَ إنما كان عمَّا مضى وتَمَّ (¬6). وقوله: "فما سُئل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر"؛ يعني: من هذه الأربعة، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 240 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَرَآهُ يَرْمِي الجَمْرَةَ الكُبْرَى بِسَبع حَصَيَاتٍ، فَيَجْعَلَ البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنَى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). ¬
* التعريف: عبدُ الرحمن بنُ يزيدَ النخعيُّ: هو (¬1) أخو الأسودِ بنِ يزيدَ، الكوفيُّ. يكنى: أبا بكر. قال عمرُو بنُ عليٍّ: مات في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. سمع: سليمان، وعثمان بن عفان، وأبا مسعود الأنصاري، وعبدَ اللَّه ابن مسعود. روى عنه: إبراهيمُ بنُ يزيدَ النخعيُّ، وعمارةُ بنُ عُمير، وإبراهيمُ ابنُ سعد، وابنُ إسحاق السَّبيعيُّ. تابعي مشهور أُخرج له في "الصحيحين" -رضي اللَّه عنه- (¬2). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: "الجمرةَ الكبرى" يريد: جمرة العقبة. قالوا: وهي حدُّ مِنَى من الغرب، وليست من مِنَى، وهي التي بايع النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الأنصارَ عندها على الإسلام والهجرة. وانظر: لم سميت جمرةً هي وأختاها؟ وكأن ذلك -واللَّه أعلم- من حيث كانت تُرمى بالجمار، وهي الحصى، فكأنه من باب تسمية الشيء بلازمه؛ كالغائط، والراوِيَة، ويحتمل أن يكون لغير ذلك، واللَّه أعلم. ع: وأجمع العلماء أن سُنَّةَ الحاجِّ أن يرمي جمرةَ العقبة يوم النحر، ثم يحلق بمنًى، ثم يطوف طواف الإفاضة (¬1). قلت: واختلفوا في وجوبها وسُنِّيتها، فمشهورُ مذهبنا: أنها سُنَّةُ، والشاذُّ: أنها واجبة، وهو قولُ عبد الملك بنِ الماجشون من أصحابنا. وحكى الطبري عن بعض الناس: أن الجمار إنما تُعمل حفظًا للتكبير، ولو ترك الرمي تاركٌ، وكَبَّرَ، أجزأه، ونحوه عن عائشة رضي اللَّه عنها (¬2). فائدة: جمرةُ العقبةِ تختصُّ عن غيرها بأربعةِ أشياء: إحداها: أنها تُرمى قبل الزوال، ضحًى. والثاني: أنها تُرمى من أسفلها استحبابًا، ويجزىء من أعلاها، ¬
وأوسطها، وما عداها، فمِنْ أعلاها. والثالث: أنه لا يُرمى يومَ النحر غيرُها. والرابع: أنه لا يوقَف عندها للدعاء، واللَّه أعلم. الثاني: قوله: "بسبع حَصَيات": اختُلف فيمن رماها بأقلَّ، فجمهورُ العلماء: على أن على تارك ذلك دمًا إذا فاته جمرة (¬1) أيام التشريق؛ وهو قولُ مالك، والأوزاعي. وذهب الشافعي، وأبو ثور: إلى أن على تارك حصاة، مُدًّا من طعام، وفي اثنتين مُدَّين، وفي ثلاثٍ فأكثرَ دمًا. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لو ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث، ففي كل حصاة نصفُ صاع، وإن كان أكثرَ من نصفها، فعليه [دم، وقال مالك: إن نسي جمرة تامة، أو الجمار كلها عليه] (¬2) بدنةٌ، فإن لم يجد، فبقرة، فإن لم يجد، فشاة. وقال البصريون: على ناسي الجمرة والجمرتين دمٌ. وقال عطاء فيمن رمى بخمس، ومجاهد بست: فلا شيء عليه. واتفقوا أن بخروج أيام التشريق يفوت الرميُ إلا العقبةَ، إلا ¬
ما قاله أبو مصعب: أنه يرمي متى ما ذَكر؛ كمن نسيَ صلاةً يصليها (¬1) متى ذكرها. والسنَّة أن يُكَبِّر مع كلِّ حصاةٍ رافعًا صوتَه بالتكبيرِ. ع: وبه أخذ مالك، والشافعي، وبه عمل الأئمة، وأجمعوا على أن (¬2) من لا يكبر لا شيء عليه (¬3). الثالث: قوله: "هذا مقامُ الذي أُنزلت عليه سورةُ البقرة -صلى اللَّه عليه وسلم-": مقام: مَفْعَلٌ من القيام؛ أي: المكان الذي قام فيه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهو اسمٌ للمصدر الذي هو القيام. والسورة: قيل: معناها في كلام العرب: الإبانةُ لها من سورة أخرى، وانفصالها عنها، وسميت بذلك؛ لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة، قال النابغة: [الطويل] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونهَا يَتَذَبْذَبُ أي: منزلةَ شرفٍ ارتفعتْ إليها عن منزلِ الملوك. وقيل: سميت بذلك؛ لشرفها وارتفاعها؛ كما يقال لِمَا (¬4) ارتفعَ من الأرض: سور. ¬
وقيل: سميت بذلك؛ لأن قارئها يُشرف على ما لم يكن عنده؛ كسور البناء، كلُّه بغير همز. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها قطعة من القرآن على حِدَة، من قول العرب للبقية: سُؤْرُ، وجاء في أسآر (¬1) الناس؛ أي: بقاياهم، فعلى هذا يكون الأصل: سؤرة -بالهمز-، ثم خُففت، فأُبدلت واوًا؛ لانضمام ما قبلها. وقيل: سميت بذلك؛ لتمامها وكمالها، من قول العرب للناقة التامة: سورة. وجمعُ سُورة: سُوَر -بفتح الواو-، وقال الشاعر: [البسيط] سودُ المحاجِرِ لا يقرأْنَ بالسورِ ويجوز أن يجمع على سُورَات، وسُوَرَات (¬2)، واللَّه أعلم. وفي الحديث: دليل على جواز قول: سورة كذا؛ خلافًا للحَجَّاج ابنِ يوسفَ حيثُ قال: لا يقال إلا: السورة التي يذكر فيها البقرة، ونحو ذلك، والحديث يردُّ عليه. وإنما خَصَّ سورةُ البقرةِ، وإن كان القرآن كلُّه منزَلًا (¬3) عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنَّ مُعظَمَ مناسكِ الحجِ فيها؛ فكأنه قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه ¬
المناسكُ، وأُخذت عنه الأحكام -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولتعلمْ: أن جملةَ (¬1) ما يرميه الحاج غيرُ المتعجل (¬2) سبعون حصاة: سبعٌ يوم النحر، وفي كل يوم بعدَه إحدى وعشرين حصاةً للجمار الثلاث، فإن تعجَّل، فتسع وأربعون: سبع يوم النحر، واثنتان وأربعون لليومين اللذين بعده. وصفةُ الحصا المرمِيّ بها: أن تكون قدرَ حصى الخَذْف، بالخاء والذال المعجمتين. قال الإمام: قال الليث: الخذف رَمْيَتُكَ حصاة أو نواة، تأخذُها (¬3) بين سَبَّابَتَيْكَ، أو تجعل مخذفةً من خشب ترمي بها بين إبهامك والسبابة (¬4). ع: وهذا حدُّ حصى الرمي، وقد روي نهيُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عما سواه، وقال: "لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بعضًا" (¬5). وقيل: إن أصل مشروعية الرمي: أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ¬
حين هربَ منه الكبشُ المفدى به الذبيحُ -عليه الصلاة والسلام- عندَ الجمرة، رماه بسبع حصيات حتى أخذه. وروي (¬1) أنه رمى الشيطانَ حين تعرَّضَ له بالوسوسة عند ذبح ولده. وروي أنه لما ذبحه، قال جبريل: اللَّه أكبرُ، اللَّه أكبرُ، فقال الذبيح: لا إلهَ إلا اللَّهُ واللَّهُ أكبر، فقال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: اللَّهُ أكبرُ وللَّه الحمدُ، فبقي سنةً (¬2)، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 241 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَم المُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: والمقصرين (¬1) يَا رسُولَ اللَّهِ! قالَ (¬2): "اللَّهُمَّ ارْحَم المُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: وَالمُقَصِّرِينَ (¬3) يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالمُقَصِّرِينَ، قَالَ: "وَالمُقَصِّرِينَ" (¬4). ¬
* الشرح: لما استثقلوا مخالفةَ أفعالِه -عليه الصلاة والسلام- من حيثُ أمرهم، فحلُّوا، ولم يحلَّ، فوقفوا عن الحِلاق، فلما عزمَ عليهم، مالوا إلى التقصير؛ لأنه أخفُّ عليهم، وأقربُ شبهًا به -عليه الصلاة والسلام-، إذ لم يحلَّ، أو لأنهم لم يكونوا معتادين للحِلاق، فحضَّ -عليه الصلاة والسلام- على الحِلاق، بمظاهرته في الدعاءِ للمحلقين ثلاثًا؛ حَثًّا منه -عليه الصلاة والسلام- لهم على فعل (¬1) الأفضل، وإنما كان الحِلاق أفضلَ من التقصير؛ لأنه أقربُ إلى التواضع والخضوع بين يدي ذي الجلال، وأبلغُ في العبادة، وأدلُّ على صدق النية؛ ولأن الشعرَ زينة، والمحرِمُ مأمور بترك الزينة، "الحاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ" (¬2). قال الإمام: وقد اختُلف في الحلاق، فمذهبنا: أنه عند التحلُّلِ نُسُكٌ مشروع؛ لأجل ظاهر هذا الحديث، ولقوله سبحانه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27]، ¬
ووصفُهم بذلك يقتضي كونَه مشروعًا. وقال الشافعي رحمه اللَّه: ليس بنسكٍ، وهو مباح؛ كاللباس، والطيب؛ لأنه وردَ (¬1) بعدَ الحظر، فحُمل على الإباحة، ولأنه لو حلق في حال الحج، لافتدى؛ كما إذا لبسَ وتطيَّبَ، ولو كان من النسك، لم يلزمه (¬2) فديةٌ؛ كما لو رمى الجمار قبلَ وقتها، فإنَّ أقصى ما عليه أن يُعيدها، ولا يلزمه دم. قال: وما ذكرناه من الظاهر يردُّ قولَه هذا، وقد استقر في الشرع تحريمُ السلام في أثناء الصلاة المفروضة، وأُمر به في آخرها، ولم يكن ذلك على وجه الإباحة، بل حُمل على الوجوب. واختلف الناس -أيضًا- في القدرِ الذي تتعلق به الفديةُ (¬3) إذا حلق، والمشروع منه عند التحلل، فعند الشافعي: عليه (¬4) ثلاثُ شعرات، وعند أبي حنيفة: ربعُ الرأسِ، وعند أبي يوسف: نصفُه، وعند مالك: كلُّه في التحلل، فتتعلق الفديةُ (¬5) عنده بما يُماط به الأذى (¬6). ¬
قلت: قال أصحابنا: فإن لم يكن على رأس المحرِم شعر، فليُمِرَّ الموسى على رأسه، وهذا عندي كعَرْض العود على الإناء، واللَّه أعلم. تنبيه: قد يتعين الحِلاقُ، ولا يجزىء التقصير، وذلك حين لا يمكن الإتيانُ بالتقصير على وجهه، وذلك في صور: منها: ما تقدم فيمن لا شعرَ على رأسه. ومنها: من شعرهُ لطيفٌ لا يمكن تقصيره. ومنها: من لبَّد شعره؛ مثل أن يجعل الصمغ في الغسول، ثم يلطخ به رأسه عند (¬1) الإحرام -كما تقدم-، وكذلك إذا عَقَصَه، أو ضفره، فإنه لا بدَّ من الحلق في جميع هذه الصور. قالوا: ويفتقر في التقصير إلى الأخذ من جميع الشعر؛ كما يأخذ في الحِلاق جميعه، ولو زال الشعرُ عن رأسه بالنورَة، أجزأه، على المشهور. واستحب مالك رحمه اللَّه إذا حلق أن ياخذ من لحيته وشاربه وأظفاره، وذكر: أن ابن عمر كان يفعله. وأما النساء، فسنتهن التقصيرُ دونَ (¬2) الحلق، إذ هو تشويهٌ في حقها. قال مالك في المرأة إذا قصرت: تأخذ قَدْرَ الأنملة و (¬3) فوقَه بقليل، أو دونَه بقليل. ¬
وقال في الرَّجل: ليس تقصيرُه أن يأخذ من أطراف شعره؛ ولكن يَجُزُّ ذلك جَزًّا، وليس مثل المرأة، فإن لم يجزَّهُ، وأخذ منه، فقد أخطأ، ويجزئه. قال القاضي أبو الوليد: يبلغ به الحدَّ (¬1) الذي يقرُب من أُصول الشعر، واللَّه أعلم (¬2). ع: ذكر بعضُهم: أن قولَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما كان يومَ الحديبية؛ حين أمرهم بالحلق، فما قام أحد له؛ لِما وقع في نفوسهم (¬3) من الصلح، وذكر ابنُ إسحاقَ وغيرُه الخبرَ بكماله. وذكر عن ابن عباس، قال: حلقَ رجالٌ يوم الحديبية، وقَصَّر آخرون، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ، ثَلَاثًا"، قيل: يا رسول اللَّه! ما بالُ المحلقين (¬4) ظاهَرْتَ (¬5) لهم بالترحُّم (¬6)؟! (¬7) قال: "لأنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا" (¬8). ¬
قال أبو عمر: وكونه في الحديبية هو المحفوظ (¬1). ولعلَّه وقع فيهما -يعني: الحديبية، وحجة الوداع-، وهو الأقرب، وقد كان في كلا الوقتين توقفُ الصحابة في الحلق، أما في الحديبية، فإنه عَظُم عليهم الرجوعُ قبل تمام مقصودهم من الدخولِ إلى مكة، وكمالِ نسكهم، وأما في الحج، فلأنه شق عليهم فسخُ الحج إلى العمرة، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 242 - عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-، قَالَتْ: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقُلْتُ: يَا وَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهَا حَائِضٌ، قَالَ: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قال: "اخْرُجُوا" (¬1). وَفِي لَفْظٍ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَقْرَى حَلْقَى، أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ "، ¬
قِيلَ: نعمْ، قال: "فَانْفِرِي" (¬1). * * * فيه: دليل ظاهرٌ على وجوب طواف الإفاضة، وأن حيضَ المرأة موجِبٌ لحبسِها حتى تطوفَ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "أَحَابِسَتُنَا؟ ". ع: ويؤخذ منه أن الكَرِيَّ يُحْبَس لها إذا لم تَطُفْ طواف الإفاضة؛ كما قال مالك رحمه اللَّه: حتى تطهر، أو تمضي أيامها، وأقصى ما تمسك ¬
النساء الدم، والاستطهار؛ على اختلاف قوله في هذا الأصل. وقال الشافعي: لا يُحبس لها كريٌّ، ولتكر جملها، أو يحمل مكانها غيرها. ع: وهذا كله في الأمنِ ووجودِ المحرم، وأما مع خوف الطرق، أو عدم ذي المحرم فلا يُحبس؛ باتفاق؛ إذ لا يمكن أن يسير بها وحدَه، ويفسخ الكِراءُ، و (¬1) لا تُحبس عليها الرفقةُ، إلا أن يبقى لطهرها كاليوم واليومين، قاله مالك رحمه اللَّه تعالى (¬2). وفيه: سقوطُ طوافِ الوداع عن الحائض حينئذ. وأما قوله -عليه الصلاة والسلام-: "عَقْرَى حَلْقَى" -فبفتح أولهما وإسكان ثانيهما وآخرهما ألف التأنيث المقصورة-، فلا يكاد المحدِّثون يعرفون غيره (¬3)، وبعضُهم نَوَّنهما، فأجراهما (¬4) مجرى سَقْيًا ورَعْيًا وجَدْعًا، وأفةً ونَفَةً، وما أشبهَ ذلك من المصادر التي يُدعى بها، ولا أَستبعدُه؛ فإن الموضعَ موضعُ دعاء، وإن كان ما قاله المحدِّثون صحيحًا (¬5). ¬
واختُلف في معناهما (¬1)، فقيل: عقرى بمعنى: عَقَرَها اللَّه؛ أي: جَرَحَها، وقيل: عقر قومَها، وقيل: جعلها عاقرًا لا تلد. وحَلْقى؛ أي: أصابها بوجع في حَلْقها، أو بمعنى: تحلقُ قومَها بشؤمها، وإما بمعنى: حلق شعرها، وهذا من الكلام الذي لم يُقصد به أصلُ وضعه (¬2)، وإنما هو كلامٌ جرى على ألسنة العرب، لا يقصدون به الدعاءَ ولابدَّ (¬3)؛ نحو قولهم (¬4): تَرِبَتْ يَداكَ، وتَرِبَتْ جبينُك، وقاتَلَه اللَّهُ ما أَشْعَرَهُ! وأشباهِ ذلك، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع 243 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاس -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِم بِالبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ المَرْأَةِ الحَائِضِ (¬1). * * * ¬
* الشرح: هذا الطوافُ المختَتَمُ به يسمَّى: طوافَ الوداع، وطوافَ الصَّدَر، وهو مشروع إذا لم يبقَ (¬1) شغلٌ، وتم التحلُّلُ، وعَزَمَ على الانصراف، فإن عَرَّجَ بعدَه على شغل خفيف؛ كما لو باع أو اشترى بعضَ حوائجه، لم يُعِدْه، ولو أقام بعدَه يومًا، أو جزءًا منه معتبرًا، أعاد، ومن خرجَ ولم يودِّعْ، رجعَ ما لم يخشَ فواتَ أصحابه، ولا يجبُ عندَنا بتركه دمٌ، خلافًا للشافعيِّ، وهو ظاهر الحديث، وهذا بعدَ تقرير أن إخبارَ الصحابي عن صيغةِ الأمرِ بحكايته لها، وقد تَقدمَ الكلامُ على ذلك مستوعَبًا. واستدل الإمام المازري على عدم وجوب طواف الوداع بحديث صفيةَ المتقدِّمِ آنفًا؛ لَمَّا أُخبر -عليه الصلاة والسلام- أنها حاضت، فقال: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ "، ثم أُخبر أنها أفاضت، فقال: "فَلَا إِذَنْ"، فلو كان طوافُ الوداع واجبًا، لاحتبس من أجله (¬2)؛ كما يحتبس من طواف الإفاضة (¬3). ولتعلمْ: أن طواف الوداع يخاطَب به كلُّ حاجٍّ أو معتمِر، صغيرًا كانَ أو كبيرًا، ذكرًا كان أو أنثى، حُرًّا أو عبدًا، إلا المكيَّ خاصة، وأما ¬
من خرجَ إلى العمرة، فإن خرجَ إلى الجعرانة (¬1) أو التنعيم، لم يلزمه عندَنا وعندَ الشافعي، ويلزمه عندَ الثوري، وعليه دمٌ إن تركَهُ، وهو مذهبه، ومذهبُ أبي حنيفةَ في تاركِ طوافِ الوداعِ، واختَلفَ قولُ الشافعيِّ في وجوبِ الدمِ عليه. وحكمُه الاتصالُ بالخروج. واختلف أصحابنا إن خرج إلى المواقيت. واختلف قولُ الشافعيِّ في وجوب الدَّمِ على تارِكِهِ، ولا دمَ عليه عندنا (¬2). وقوله: "إلا أنه خُفِّفَ عن المرأة الحائضِ": (¬3) قد مر مفسَّرًا في حديث صفيةَ -رضي اللَّه عنها-، وقد روي عن بعض السَلفِ: أنها لا تنفرُ حتى تودِّعَ، وجماعةُ الفقهاءِ على خلافِه، وكذلك من أَخَّرَ طوافَ الإفاضة إلى أيام مِنَى، فإنه يُجزِئُهُ إذا طافه أن يصدُرَ به، وكذلك لو كان خروجه بأثر طوافِ تطوُّع، أو بحجِّ، أو عمرةٍ، أجزَأَهُ عن الوداع (¬4). مناقشة لفظية: انظر: ما فائدةُ ذِكرِ ابن عباس -رضي اللَّه عنه- المرأةَ، في قوله: ¬
"المرأةِ الحائضِ"، وهو لا يكادُ يُستعمل؛ إذ المحيضُ محيضُ النساء (¬1)، ويقال: حائضة أيضًا، قال الشاعر: كَحَائِضَةٍ يُزْنى (¬2) بِهَا غَيْرِ طَاهِرِ (¬3) * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العاشر 244 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: استَأْذَنَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ (¬1) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَياليَ مِنَى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَاَذِنَ لَهُ (¬2). ¬
الاستئذان: طلبُ الإِذْن، يقال: ائْذَنْ لي (¬1) على الأمير (¬2)، والماضي: أَذِنَ -بالكسر-، وأَذِنَ أيضًا: بمعنى عَلِمَ، ومنه قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، وأَذِنَ لَهُ أَذَنًا، بمعنى: استمعَ، قال قعنبُ بنُ أُمِّ صاحب: [البسيط] إِنْ يَسْمَعُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا ... عنِّي (¬3) وَمَا أَذِنُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا وفي الصحيح: "مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ (¬4) كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ" (¬5). ومن فسر يتغنَّى هنا: يستغني، فقد أبعدَ من حيثُ اللفظُ والمعنى، وجانبَ من الصوابِ المغنى. ويبيت هنا تامَّةٌ. فيه: دليل على أن المبيت ليالي مِنًى من مناسك الحج وواجباته؛ فإن ظاهره تعليلُ الإذن بهذه العلَّة التي هي: الاشتغالُ بأمر السِقايَةِ، ¬
وإعدادِ الماء للشَّارِبِيْنَ، حتى لو لم يكن ذلك، لَما أَذِنَ له (¬1) -عليه الصلاة والسلام- في المبيت بمكة والحالةُ هذه، وهو مذهبُنا، فإنْ تركَ المبيتَ (¬2) بها لياليَها الثلاثَ، أو ليلةً منها، فعليه دمٌ. واختُلف في تركِ المبيتِ بالمزدلفةِ ليلةَ العيد، فإن دفعَ من عرفةَ إلى مِنًى، ولم ينزل بالمزدلفةِ، فقالَ مالكٌ: عليهِ الدَّمُ، وإن نزلَ بها، ثم دفعَ من أولِ الليلِ (¬3)، أو وسطه، فلا دمَ عليه. وقال عبد الملك: لا دمَ عليه، وإن دفعَ من عرفةَ إلى منى. ق: ومدلولُ هذا الحديث تعليقُ هذا الحكم بوصف السقاية، وباسم العباس، فتكلم (¬4) الفقهاء في أن هذا من الأوصافِ المعتبرةِ في هذا الحُكْمِ، فأما عينُ العباسِ، فلا يختصُّ (¬5) به الحكمُ اتفاقًا، لكن اختلفوا فيما زاد على ذلك، فمنهم من قال: يختص هذا الحكمُ بآل العباسِ، ومنهم من عَمَّمَه في بني هاشم، ومنهم من عَمَّ (¬6) وقال (¬7): كلُّ مَنِ احتاجَ للسِقَايَةِ (¬8)، فَلَهُ ذَلِكَ. ¬
الحديث الحادي عشر
الحديث الحادي عشر 245 - وَعَنْهُ: -يَعْنِي: ابْنَ عُمَرَ- قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بَجَمْعٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا إِثْرَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (¬1). * * * ¬
* الشرح: فيه: دليل على الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدَلِفة، وأنه (¬1) السنَّة، وقد اختلف الفقهاء هل يجوز الجمعُ بغير المزدلفةِ في هذه الليلة، فيجمع في الطريق -مثلًا-، أو بعرفةَ على التقديم، ومنشأ الخلاف: هل هذا الجمعُ عذرهُ السفرُ، أو عذرُه النسك؟ على تفصيل لا نطول بذكره. وأما حديث الأذان والإقامة لكل صلاة، فقد تقدم في باب الجمع بين الصلاتين بما يغني عن الإعادة. وقوله: "لم يسبِّح بينَهما"؛ أي: لم يتنفَّل، وهو دليلٌ لمشهورِ مذهبِ مالك رحمه اللَّه، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" (¬2)، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب المحرم يأكل من صيد الحلال
باب المحرم يأكل من صيد الحلال الحديث الأول 246 - عَنْ أَبي قتادَةَ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ حَاجًّا، فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ، فِيهِمْ أَبُو قتادَةَ، وقَالَ: "خُذُ سَاحِلَ البَحْر حَتَّى نَلْتَقِيَ"، فَأَخَذُوا سَاحِلَ البَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا، أَحْرَمُوا كلُّهُمْ، إِلَّا أَبُو (¬1) قتادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ، إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الحُمُرِ، فَعَقَرَ مِنْهَا أتانًا، فَنَزَلْنَا، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟! فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا، فَأَدْركْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "فِيكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا" (¬2). ¬
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ [منه] شَيْءٌ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَنَاوَلْتُهُ العَضُدَ، فَأَكَلَهَا (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: اختُلف في عِدَّة (¬1) الطائفة، فقيل: أقلُّها ثلاثةٌ، أو أربعة، وهي صفةٌ غالبة، فإنها الجماعة الحافة حولَ الشيء المطيفة به. وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعةٌ إلى أربعين رجلًا. وعن الحسن: عشرة. وعن قتادة: ثلاثة فصاعدًا. وعن عكرمة: رجلان فصاعدًا. وعن مجاهد: الواحد فما فوقه. وأظهرُ هذه الأقوال قولُ ابن عباس، وأبعدُها قولُ مجاهد (¬2). والساحل: شاطىء البحر. قال ابن دريد: هو مقلوب، وإنما الماء سحله. والبحر، قيل: يسمى بحرًا؛ لعمقه واتساعِه، ويُجمع على: أَبْحُر، وبِحار، ويُحور، وكلُّ نهرٍ عظيمٍ بحرٌ (¬3)، قالوا: وكيف (¬4) تقلَّبَتْ حروفُ ¬
ب ح ر، دلت على الاتساع؛ كبحر، ورحب، وحبر، ونحو (¬1) ذلك. وقوله: "فعقر منها أتانًا؛" أي: جرح منها حمارًا أنثى. الثاني: اعتُذر عن عدمِ إحرامِ أبي قتادة -رضي اللَّه عنه-، مع كونهم خرجوا للحج، ومروا بالميقات، بوجوه (¬2): أولها وأولاها: ما دلَّ عليه أولُ (¬3) الحديث من أنه أُرسل (¬4) إلى جهة أخرى ليكشفَها، فكان الالتقاءُ معه بعد مضيِّ مكان الميقات. وثانيها وأضعفُها: أنه لم يكن مريدًا للحج (¬5). وثالثها: أن ذلِكَ كانَ قبلَ توقيتِ المواقيتِ، وفيه نظر. الثالث: فيه: الاجتهادُ في زمنه -عليه الصلاة والسلام-، وقد تقدم ما في ذلك، فإنهم إنما أكلوا بالاجتهادِ دون النصِّ. وفيه -أيضًا-: وجوبُ الرجوع إلى النصِّ عندَ تعارضِ الأشباهِ والاحتمالات. الرابع: قوله: -عليه الصلاة والسلام-: "فيكم (¬6) أحدٌ أَمَرَه أن ¬
يحملَ عليها؟ "، إلى آخره يدلُّ على جواز أكل المحرِمِ الصيدَ الذي لم يأمرْ باصطياده، ولا شاركَ في اصطياده بإشارة ولا غيرِها، فإن كان في شيء من ذلك، امتنعَ أكلُه؛ فإن مفهوم الحديث: أنهم لو فعلوا ذلك، لكان سبباً للمنع. وقد اختُلف في أكل المحرِم لحمَ الصيد على مذاهب ثلاثة: فذهب بعض السلف: إلى منعه على الإطلاق؛ صِيَد (¬1) لأجله، أو لا، وكأنه تمسَّك بحديث الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ الآتي (¬2). وذهب مالك، والشافعي: إلى أنه ممنوع، إن صاده، أو صيد لأجله، سواء كان بإذنه، أو بغير إذنه. والمذهب الثالث: التفرقةُ بين أن يكون اصطادَه بإذنه، أو بدلالته (¬3)، فيحرُم، أو لا يكون كذلك، فيحِلُّ (¬4). مسألة: قال أصحابنا: لا بأس بكل المحرم من لحمِ صيدٍ صاده حلالٌ لنفسه، أو لحلالٍ، ولا يكل من لحمِ صيدٍ صاده، أو صِيدَ من أجله، وما (¬5) ذُبح من الصيد بيده، أو صاده بكلبه، فهو ميتةٌ، لا يحل ¬
أكلُه لحلال، ولا لحرام (¬1)، حتى لو وَداه، ثم أكل (¬2) من لحمه، فلا جزاء عليه لما أكل؛ كما إذا أكل الميتةَ، وما ذُبح من أجل محرِمٍ بأمره، أو بغير أمره، أو ذبحه حلالٌ أو حرامٌ (¬3)، فلا يأكله المحرِمُ، ولا غيرُه. وروي عن ابن القاسم: أنه إن كان عالمًا به (¬4) أَنه صِيدَ من أجله، أو (¬5) من أجل محرِمٍ سواه، فالجزاءُ عليه، وإن لم يعلم، فلا شيء عليه، وإن صِيَد من أجلِهِ. وروي عن مالك في "المختصر"، وكتاب "ابن المواز"، و"العتبية": أنه (¬6) لا جزاء على من لم يُصَدْ من أجله من المحرِمين. وقال أصبغ: لا جزاء عليه، وإن صيد من أجله، وإن علم؛ كمن أكل ميتةً محرمةً، وغير هذا خطأ (¬7). وأحكام الجزاء مبسوطة في كتب الفقه. ¬
الخامس (¬1): في قوله -عليه الصلاة والسلام- في الرواية الأخرى: "هَلْ معكم منه شيءٌ" (¬2) ثلاثة أمور: تبسُّطُ الإنسان إلى صاحبه في مثل هذا. والثاني: المبالغةُ في بيان الأحكام. والثالث: الزيادةُ في تطييب قلوبهم من حيث موافقتُهم في الأكل منه (¬3)، وهذا آخذٌ بحُجْزَةِ قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، ما سُقْتُ الهَدْيَ" على ما تقدمَ بيانه، وأن ذلك كان (¬4) تطييبًا لقلوبهم، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوية: 128]، صلى اللَّه عليه وسلم. السادس (¬5): العَضُد: الساعِدُ. قال الجوهرى: وهو عن المِرْفَقِ إلى الكَتِف (¬6)، فيه (¬7) أربعُ لغات: ¬
عَضُد مثل: رَجُل (¬1)، وعَضِد مثل: كَتِف، وعَضْد مثل: فَلْس، وعُضْد مثل: قُفْل (¬2). قلت: وقد غلط الجوهري رحمه اللَّه في قوله: ساعدا الإنسان عضُداه (¬3)، وقيل: إنما ساعداه ذِراعَاهُ، وهو الحقُّ إن شاء اللَّه. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 247 - عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَبْوَاءَ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّه عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَىَ مَا فِي وَجْهِهِ، قَالَ: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: رِجْلَ حِمَارٍ (¬2). ¬
وَفِي لَفْظٍ: شِقَّ حِمَارِ (¬1). وَفِي لَفْظٍ: عَجُزَ حِمَارٍ (¬2). وَجْهُ هَذَا الحَدِيثِ: أَنَّه ظَنَّ أَنَّهُ صِيدَ لأجْلِهِ، وَالمُحْرِمُ لا يَأْكُلُ مَا صِيدَ لأجْلِهِ. * * * * التعريف: الصَّعْبُ بنُ جَثَّامَةَ: -بالصادِ المهمَلةِ، والعين الساكنة المهملة ¬
أيضًا (¬1) -، وجثَّامة -بالجيم المهملة (¬2) والثاء المثلثة المشددة- ابنِ قيسِ ابنِ ربيعةَ بنِ يعمرَ، وهو الشدَّاخُ بنُ عوفِ بنِ كعبِ بنِ عامرِ بنِ ليثٍ، الليثيُّ، المدنيُّ، وهو أخو محلِّم (¬3) بنِ جثامة، وقد قيل في نسبه غيرُ هذا. هاجر إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعِداده في أهل الطائف. قيل: إنه روى عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ستةَ عشرَ حديثًا، اتفقا منها على حديث (¬4) واحد. روى عنه: عبدُ اللَّه بنُ عباس. وكان ينزل وَدَّانَ -بفتح الواو وتشديد الدال المهملة- من أرض الحجاز. روى عنه (¬5) الجماعةُ. مات في خلافة أبي بكر -رضي اللَّه عنه- (¬6). ¬
* ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: "حمارًا وحشيًا" ظاهرُه: إهداؤه بجملته (¬1) حَيًّا وعليه يدل تبويبُ البخاري، وقد قيل: إنه تأويلُ مالك رحمه اللَّه، وعلى مقتضاه يستدلُّ (¬2) بالحديث على منعِ وضعِ المحرمِ يدَه على الصيد بطريق التملُّكِ بالهدية، ويقاس عليها ما في معناها من البَيعْ والهِبَة. ق: ورُدَّ هذا التأويلُ بالروايات التي ذكرها المصنف عن مسلم، من قوله: عجز حمار، أو شق حمار، أو رجل حمار، فإنها قويةُ الدلالة على كون المُهْدَى بعضًا، فيحمل قوله: حمارًا وحشيًا على المجاز، وتسميةِ البعضِ باسم الكلِّ، أو فيه حذفُ مضافٍ، ولا يبقى فيه دلالةٌ على ما ذُكر من تملُّكِ الصيد بالهبة (¬3). قلت: وفي بعض الروايات -أيضًا-: "عَجُزَ حِمَارٍ يَقْطُرُ دَمًا" (¬4)، وفي بعضها -أيضًا- "لَحْمَ حِمَارٍ" (¬5)؛ ولكن نقل ح في "شرح المهذب": ¬
أن الشافعيَّ رحمه اللَّه تعالى قال: وحديثُ مالك: أن الصعبَ أهدى النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حمارًا أثبتُ من حديثِ مَنْ حدث: أنه أهدى من لحم حمار (¬1). الثاني: قد تقدم أن الأبواء موضعٌ بين مكة والمدينة، وودانُ كذلك، وهو غير منون؛ لكونه علما على مكان مخصوص مع زيادة الألف والنون. وقوله: "لما رأى ما (¬2) في وجهه"، يعني: من الكراهة لردِّ (¬3) هديته. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّا لم نردَّهُ عليك إلا أنا حرم": (إنا) الأولى مكسورة لكونها مبتدأة (¬4)، و (أنَّا) الثانية مفتوحة، أي: لأجل أَنَّا حرم، ففُتحت؛ لكونها معمولة لما قبلها في التقدير، وقوله: "لم نرده عليك" (¬5) لا يكاد المحدِّثون يروونه بغير فتح (¬6) الدال، والأكثر فيه عند النحويين الضمُّ؛ أعني: كل فعل أُدغمت عينُه في لامه، واتصل به (¬7) ضميرُ المذكر في الجزم والوقف، نحو رُدَّه، ولم نَرُدَّه، ¬
وصُبَّه، ولم يَصُبَّه، وأشباه ذلك، ومن العرب من يكسر. وحكى ثعلب في "فصيحه": زُرُّ القميص، وزُرَّه، وزُرِّه، بالحركات الثلاث. وإنما اختير الضمُّ عند الجمهور؛ لأن الهاء خفية، فكان الواو التي كان حقُّها تثبت خطًا بعد الهاء، كما ثبتت الألفُ بعد الهاء في رُدَّهَا، وَلِيَتِ الدالَ، وما قبل هذه الواو لا يكون إلا مضمومًا، فكأنه قيل: رُدَّا ورُدُّوا. و (¬1) في عبارة بعضهم: أن الضم لإتباع (¬2) ضمةِ ما قبلَه، وهذا إنما هو فيما (¬3) لم يتصل به ضمير المذكر (¬4)، فهذا وجه اختيار الضم. ومن كَسَرَ، فعلى أصل التقاء الساكنين. ومن فَتَحَ (¬5)، فلمقابلته (¬6) التثقيلَ بعذوبة الفتحة (¬7)، فإن اتصل ذلك بضمير المؤنث، فالفتحُ ليس إلا، نحو رُدَّها، ولم يَرُدَّها؛ لما تقدم من أن الهاء حرف خفي، فكان الألف -أيضًا- وَلِيَتِ الدالَ، ¬
والألفُ لا يكون قبلها غيرَ مفتوح، فلنعلمْ هذا الأصل؛ فإنه أصلٌ مهمٌّ من أصول التصريف (¬1). الرابع: تمسَّكَ مَنْ منعَ من أكل لحم الصيد مطلقًا بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ"، قال: فإنه علل ذلك بمجرد الإحرام، ومن أباح أكلَه، لا يكون مجردُ الإحرام عنده علةً. ق: وقد قيل: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما ردَّه لأنه صِيْدَ من أجله؛ جمعًا بينه وبين حديث أبي قتادة (¬2). والحُرُم -بضم الحاء والراء-: جمعُ حَرام، وقيل: إنه كرضي، يقع على الواحد والجمع، والحرام: الذي يدخل الإحرامَ أو الحَرَمَ، ويقال أيضًا للمذكر والمؤنث. والأصل في عدم أكل المحرم الصيد قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، لكن هل (¬3) المراد بالصيد المَصِيدُ، أو الاصطياد؟ فيه نظر، وبسطُه في كتب التفسير. فصلٌ مهمٌّ: في بيان حدود حرم مكة -شَرَّفَهَا اللَّه تعالى- الذي ¬
يحرُم فيه الصيد والنباتُ، ويُمنع أخذُ ترابِه أو أحجارِه. اعلمْ: أَنَّ الحَرَمَ هو مَكَّةُ، وما أحاطَ بها من جوانبها، جعل اللَّه تعالى له حكمَها في الحرمة تشريفًا لها: فحدُّ الحرَم من جهة المدينة: دونَ التَّنْعِيم عند بيوت نِفَارٍ، على ثلاثة أميال من مكة. ومن طريق اليمن: طرفُ أَضَاةِ (¬1) لِبْنٍ في ثنية لِبْنٍ، على سبعة أميال من مكة. ومن طريق الطائف على عرفات: من بطن نَمِرَة (¬2)، على سبعة أميال. ومن طريق العراق: على ثنيةِ جبلٍ بالمقطع، على سبعة أميال. ومن طريق الجعرانة: على شعب آل عبد اللَّه بن خالد، على تسعة أميال. ومن طريق جُدَّة: من منقطع الأعشاش، على عشرة أميال من مكة. هكذا ذكر هذه الحدودَ أبو الوليد الأزرقيُّ في كتاب "مكة" (¬3)، وأبو الوليد هذا من (¬4) أصحاب الشافعي الآخذين عنه، الذي روى عنه الحديثَ والفقه. ¬
وكذا ذكرها -أيضًا (¬1) - الماورديُّ صاحب "الحاوي" في كتابه (¬2) "الأحكام السلطانية". وكذا ذكرها -أيضًا (¬3) - الشيخُ أبو إسحاقَ الشيرازيُّ في "مهذبه"، وجماعة من مصنفي الشافعية غيره، إلا أن عبارة بعضهم أوضحُ من بعض. لكن الأزرقيَّ قال في حدِّه من طريق الطائف: أحد عشر ميلًا، والذي قاله الجمهور: سبعة فقط، بتقديم السين على الباء. واعلمْ: أن الحرم عليه علاماتٌ منصوبة في جميع جوانبه، ذكر الأزرقيُّ، وغيرُه بأسانيدهم: أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عَلَّمَها، ونصبَ العلامات فيها، وكان جبريل -عليه الصلاة والسلام- يُريه مواضعَها، ثم أمر نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- بتحديدها (¬4)، ثم عمر، ثم عثمان، ثم معاوية -رضي اللَّه عنهم-، وهي إلى الآن بيِّنة والحمدُ للَّه، هذا معنى كلام ح، وأكثر لفظه (¬5). ¬
فائدة: نقل الماورديُّ خلافًا للعلماء في أن مكة مع حرمها هل صارتْ حرمًا آمِنًا بسؤال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، أم (¬1) كانت قبلَه كذلك؟ واحتج للأول (¬2): بحديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في جملة (¬3) حديث طويل: "اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَجَعَلَهَا حَرَمًا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ حَرَامًا ما بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا؛ أَنْ لا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ (¬4) إِلَّا لِعَلَفٍ (¬5) "، رواه مسلم في آخر كتاب الحج (¬6)، وبغيره من الأحاديث الصحيحة مما في معناه. واحتج للثاني: بحديث ابن عباس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال يومَ فتح مكة: "فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بحُرمَةِ (¬7) اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ" رواه البخاري، ومسلم (¬8). ¬
وبقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ" متفق عليه (¬1). ومن قال بهذا (¬2)، أجاب عن الحديث السابق، وما في معناه من الأحاديث: بأن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أظهرَ تحريمَها بعد أن كان خَفِيًا مهجورًا لا يُعلم، لا أنه ابتدأَهُ. ومن قال بالمذهب الأول، أجابَ عن حديث ابن عباس، وما في معناه: بان المراد: أن اللَّه -تعالى- كتبَ في اللوح المحفوظِ أو غيرِه: أن مكةَ سيحَرِّمُها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، أو (¬3) أظهرَ ذلك لملائكته. ح: والأصحُّ من القولين: أنها ما زالت محرَّمَةً من حين خلقَ اللَّه السمواتِ والأرضَ، واللَّه أعلم (¬4). فائدة أخرى: ذكر العلماء -رحمهم اللَّه تعالى-: أن الكعبة الكريمة بُنيت خمسَ مرات: إحداها: بَنَتْها الملائكةُ قبلَ آدمَ، وحجَّها (¬5) آدمُ فمَنْ بعدَه من الأنبياء، صلوات اللَّه وسلامه عليهم. ¬
الثانية: بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام. الثالثة: بنتها قريشٌ في الجاهلية، وحضر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا البناءَ قبلَ النبوةِ، ثبتَ ذلك في "الصحيحين"، وكان له -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسٌ وعشرون سنة، وقيل: خمس وثلاثون. الرابعة: بناها ابنُ الزبير، ثبت ذلك في "الصحيح". الخامسة: بناها الحجَّاجُ بنُ يوسفَ في خلافة عبدِ الملك بنِ مروانَ، ثبت ذلك في "الصحيح". واستقر بناؤها الذي بناه الحجاج إلى الآن. وقيل: إنها بُنيت مرتين أُخريين قبلَ بناء قريش، واللَّه تعالى أعلم (¬1). تكميل: قال ابنُ بزيزة من أصحابنا: اختلف الفقهاء في حَرَم المدينة، هل هو كحرمِ مكة، أم لا؟ وفيه قولان في المذهب المشهور: نفي الجزاء في قتل صيده (¬2). وأوجب ابنُ أبي ذئب، ومحمدُ بنُ إبراهيمَ النيسابوريُّ في صيده الجزاء، إذا قتل؛ قياسًا على حرم مكة. وهو قول بعض أصحاب مالك، واختيارُ أبي محمدِ بنِ حزم. وبناءُ المسألة على جريانِ (¬3) القياسِ في الحدودِ والكفارات. ¬
وتعلق ابنُ حزم بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، وحرَّمَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما بين لابَتَي المدينة، فهما حرامانِ بحرمة اللَّه عز وجل (¬1). * * * ¬
كتاب البيوع
كِتْابُ الْبُيُوعِ
[باب]
(¬1) الحديث الأول 248 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا (¬2) جَمِيعًا، أو يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فتبايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ" (¬3). ¬
مقدمة: البيوع: جمع بيع، وهو مصدر باعَ، وإنما جُمع؛ لاختلاف أنواعه؛ كالعلوم، والحلوم (¬1) والأشغال. والبيع يستعمل بمعنى: الشراءِ أيضًا. قال الأزهري: تقول العرب: بِعْتُ، بمعنى: بعتُ ما كنت أملِكُه، وبعتُ، بمعنى: اشتريتُ، قال: وكذلك شَرَيْت بالمعنيين (¬2)، قال: وكل واحد بَيِّعٌ وبائع، لأن الثمنَ والمثمَّن (¬3) كلُّ واحدٍ منهما مبيعٌ (¬4). وكذا قاله ابن قتيبة وآخرون، ومن ذلك قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ ¬
بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 25]، قال (¬1) المفسرون: أي: باعوه (¬2). فصل: قال الإمام المازري في "معلمه": الأحاديثُ الواردة (¬3) في البيوع هاهنا (¬4) كثيرة، ونحن نقدِّم فصلًا حسنًا يشتمل على عقد جيد، وتَطَّلعُ (¬5) منه على أسرار في البيوع: فاعلمْ (¬6): أن العرب لبلاغتها، وحكمتها، وحرصها على تأدية المعاني إلى الأفهام بأدنى ضُروب الكلام، تخصُّ كلَّ معنًى بعبارة، وإن كان مُشارِكًا للآخَر في أكثرِ وجوهِه، فلما كانت الأملاكُ تنتقل عن أيدي مالكيها بعِوَض وبغيرِ عِوَضٍ، سموا (¬7) المنتقلَ بعوضٍ بيعًا، فحقيقةُ البيع: نقلُ الملك بعِوَض، ولكن المعاوَضَة إن كانت على الرقاب، سموها بتسمية البيع، وإن كانت على المنافع، سموها (¬8) بتسمية ¬
الإجارة، إلا أن تكون المنافعُ منافعَ الفروج (¬1)، فخصوها (¬2) -أيضًا- بتسميتها نكاحًا. وإذا علمتَ حقيقةَ البيعِ ومعانيَ هذه التسميات، فاعلمْ: أن البيع يفتقر إلى أربعة أركان: أحدها: متعاقدان، أو مَنْ في معناهما، وقولنا: مَنْ في معناهما احترازٌ من عقد الأبِ على ولديه (¬3)، أو وَصِيٍّ على يتيمه. والثاني: معقودٌ به. والثالث: معقودٌ عليه. والرابع: العقدُ في نفسه. فأما المتعاقدان (¬4)، فمن حقهما أن يكونا مطلَقَي اليد والاختيار، فقولنا: مطلقي اليد: احترازٌ ممن يُحْجَر عليه، وهم أربعة أصناف: أحدها: مَنْ يُحجر عليه لحقِّ نفسِه، وهو السفيه، ويدخل فيه المجنونُ، والصغيرُ، والعاقلُ البالغُ الذي لا يميز أمورَ (¬5) دنياه. والثاني: مَنْ يُحجر عليه لحقِّ غيره ممن يملك (¬6) أعيانَ ما في ¬
يديه (¬1)؛ كالسيد مع عبده. والثالث: مَنْ يُحجر عليه لمن يخاف أن يملك عينَ ما في يديه؛ كالمريض مع ورثته، وقد تُلحق (¬2) به الزوجةُ مع زوجها، والمرتدُّ مع المسلمين. والرابع: مَنْ يُحجر عليه لحقِّ من يملك ما في ذمته؛ كالمِدْيانِ مع غرمائه، ولكن طرق (¬3) الحجر تختلف (¬4) مع هؤلاء، ونستقصي (¬5) كلَّ فصل في موضعه إن شاء اللَّه تعالى. فالسفيهُ يُمنع من البيع رأسًا (¬6)، وكذلك العبدُ إذا شاء سيدُه، وكذلك المرتدُّ والمِدْيانُ إذا ضُرب على أيديهما، والمريضُ والزوجةُ يمنعان إذا حابيا محاباةً تزيدُ على ثلثهما. وعندنا اختلافٌ في السفيه، إذا كان مهملًا، فقيل: تُمْضَى بِياعاتُه (¬7)، وقيل: تُرَدُّ إن كان ظاهرَ السفه، وتُمضى إن كان خَفِيَّه (¬8)، ¬
وكان (¬1) (¬2) المحققون من شيوخنا يختارون الردَّ؛ لأن السفيهَ المحجور عليه يُرد بيعُه اتفاقًا (¬3)، فكأن المحققين رأوا أن الردَّ من مقتضى السفهَ، فردوا أفعال المهمل. ورأى بعض أصحاب مالك الردَّ من مقتضى الحَجْر، فأجازوا أفعالَه إذ لا حَجْرَ عليه (¬4)، والأصحُّ عند شيوخنا: أنه من مقتضى السفَه؛ لأن الحجر كان عن (¬5) السفَه، ولم يكن السفَهُ عن (¬6) الحجرُ، وإذا كان الحجرُ عن السفَه (¬7)، ومن مقتضاه، وجب أن يكون الردُّ في السفيه المحجور عليه لأجل السفَه، لا لأجل الحَجْر. وكان شيخي رحمه اللَّه يقول: السفَهُ علَّة في ردِّ الأفعال؛ بدليل الاتفاق على ردِّ أفعال الصغير والمجنون، ومَنْ بلغَ سفيهًا، وإن لم يبلغ الخمسةَ والعشرين (¬8) عامًا، فإن الاتفاق على ردِّ فعل هؤلاء، إذا كانوا في الحَجْر، وإذا ثبت رشدُ السفيه، وجبَ تسليمُ مالِه إليه، فدلَّ ¬
ذلك على أن (¬1) العلة وجودُ السفه، والعلةُ حيث ما وجدت، اقتضت (¬2) حكمَها (¬3)، هذا المعنى الذي كان يشير إليه. وكذلك اختلف المذهب في المحجور عليه إذا رَشَدَ، ولم يُفَكَّ الحجرُ عنه، هل تُمضى أفعاله؟ وهي عكس السفيه المهمل، والنظر عند شيخنا يقتضي جوازَ أفعاله؛ لوجود علة الجواز، وهي الرشدُ، وارتفاعُ علة الردِّ، وهي السفه، وهكذا أجرى الخلاف في المرتدِّ إذا باع قبل الحجرِ عليه؛ قياسًا على السفيه المهمل. والرشدُ عندنا المطلوب هاهنا: في تدبير الدنيا وإصلاحها، لا في إصلاح (¬4) الدِّين، وقال بعض أصحابنا (¬5): الرشدُ (¬6) إصلاحُهما جميعًا، والأولُ أولى إذا كان الفاسقُ ممسكًا لمالِه، منمِّيًا له (¬7)، لا يُتلفه في المعاصي؛ ولا أعظمُ فسقًا من الكافر وفسقُه لم يوجب ردَّ بِياعاته (¬8)، إذا تحاكم إلينا، وقد باعَ على الصحة من مسلمٍ، وقد حدَّ ¬
رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الزُّناة، وقطع السُّرَّاقَ (¬1)، وضرب شُرَّابَ الخمر، ولم يُنقل إلينا أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حجرَ عليهم، وهذا هو الأصحُّ؛ لهذا الذي قلناه، ولغيره. وأما قولنا: مطلَق الاختيار، فلأن المُكْرَهَ المقصورَ الاختيار لا يلزمه عقدُه؛ لأن اللَّه -تعالى- أباح إظهارَ كلمةِ الكفر للإكراه، فدلَّ على أن الإكراهَ يُصيِّر المكرَهَ كغير القاصد، ومن لا قصدَ له، لا يلزمُه بيعُه، وقد ألزمه المخالفُ طلاقَه وعتقَه، وهذا التعليل يردُّ قوله، ويرده -أيضًا- قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي (¬2) الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ" (¬3). وأما السكرانُ، فإن الحدود تلزمُه، وقد حكى بعض الناس الإجماعَ على أنه إذا قَتَلَ، قُتِلَ. وقال بعض الناس: فارق المجنونَ في ذلك؛ لأنه متعدٍّ في شربِ (¬4) ما أزالَ عقلَه، ومكتسِبٌ لما أَدَّى إِلى ذلك، فكانت أفعالُه ¬
كأفعال المكتسبِ القاصدِ. وقال بعضُهم: فإنَّ رفعَ التكليف عن المجنون رخصةٌ وتخفيف، وهذا عاصٍ بشربه، والعاصي لا يترخَّص له (¬1)، وأما عقودُه، فإن كان طلاقًا، أو عتاقًا، فالمشهورُ عندنا: لزومه (¬2)؛ لأن ذلك من ناحية الحدود، فأُلحق بها في الحكم، وقد رويت عندنا رواية شاذة في طلاقه: أنه لا يلزم (¬3)؛ قياسًا على المجنون. وسلَّم بعضُ أصحابنا: أنه لو صُبَّ في حلقه الخمرُ حتى ذهب (¬4) عقلُه: أن طلاقَه لا يلزم حينئذ؛ لأنه غير متعدٍّ في الشُّربِ. قلت: وهذا يفهمَ منه عدمُ النقل في مسألة المكرَه على الشرب (¬5)، فهي منقولة (¬6) فيما أظن، واللَّه أعلم. وأما بياعاتُه ففيها عندنا قولان: جمهورُ (¬7) أصحابنا: على أنها لا تلزمُه؛ لأنه بسكره (¬8) (¬9) يقصر ¬
ميزُه في معرفته بالمصالح (¬1) عن (¬2) السفيه، والسفيهُ لا يلزمه بيعُه، وإن كان يُقام الحدُّ عليه كما يُقام على السكران. وذهب بعضُ أصحابنا إلى أنه تلزمُه بياعاتُه، كما تلزمه الحدود، وأما هباته فتجرى على القولين (¬3)، هذا حكمُ أحدِ الأركان، وهما المتعاقدان. وأما المعقودُ به، والمعقودُ عليه، فحكمهما واحد، وإنما تحسينُ التقسيم أدى إلى إفرادهما بالذكر، وإلا فكلُّ معقودٌ به، معقودٌ عليه، فيجب أن يُعلم: أن ما لا منفعةَ فيه أصلًا لا يجوز العقد به، ولا عليه؛ لأن ذلك يكون من أكل المال بالباطل، ولم يقصِدْ باذِلُ ما لا يُنتفع به إلى الهبة، فيجوز له، وهذا الذي لا منفعةَ فيه أصلًا لا يصحُّ ملكُه (¬4)، إذا كان مما نهى الشرعُ عن تملُّكه (¬5)؛ كالميتةِ، والدمِ، ولحمِ الخنزير، والخمرِ، إلا أن الخمرَ إذا أجزنا تَخْليلها، فقد سَهَّلَ في إمساكها للتخليل (¬6) (¬7) بعضُ أصحابنا. ¬
وأما ما فيه منفعةٌ مقصودة (¬1)، فلا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون سائرُ منافعه محرَّمَةً. والثاني: أن تكون سائرُ منافعه محلَّلَةً. والثالث: أن يكون بعضُها محللًا، وبعضها محرَّمًا. فإن كانت سائر منافعها (¬2) محرمة، صار هو القسم الأول الذي لا منفعةَ فيه؛ كالخمر، والميتة. وإن كانت سائر منافعة محللة، جاز بيعه إجماعًا؛ كالثوب، والعبد، والعقار، والثمار، وغير ذلك من ضروب الأموال. وإن كانت منافعه مختلفة، فهذه المواضع المشكلات (¬3) في الأفهام، ومزلَّة الأقدام، وفيه ترى العلماء يضطربون، وأنا أكشف عن سره (¬4) -إن شاء اللَّه- ليهون (¬5) عليك اختلافُهم فيه. فاعلمْ (¬6): أنه قد تقدم لك أصلان: جوازُ البيع (¬7) عند تحليل ¬
سائر المنافع، وتحريمُه عند تحريم جميعِها، فإذا اختلفت (¬1) عليك، فانظر: فإن كان جلُّ المنافع والمقصودُ منها محرمًا، حتى (¬2) صار المحلَّلُ من المنافع كالمُطَّرَح، فإن البيع ممنوع، وواضحٌ إلحاقُ هذا بأحدِ الأصلين المتفق عليهما؛ لأن المطَّرَحَ من المنافع كالعدم؛ فإذا (¬3) كان كالعدم، صار كأنَّ الجميع محرم. وإن كان الأمر بعكس ذلك، كان الحكم بعكسه، وهو أن يكون المقصودُ من المنافع وجُلُّها مباحًا، والمحرَّمُ مُطَّرَحًا في المقصود، فواضحٌ إِلحاقُ هذا بالأصل (¬4) الثاني، وهو ما جُلُّ سائر منافعه محللة، وأشكل من هذا القسم: أن يكون فيه منفعةٌ محرمةٌ (¬5) مقصودةٌ (¬6) مرادةٌ (¬7)، وسائرُ منافعه سواها محلَّلٌ مقصودٌ، فإن هذا ينبغي أن يُلحق بالقسم (¬8) الممنوع؛ لأن كونَ هذهِ المنفعة المحرمة مقصودةً مؤذِنٌ (¬9) ¬
بأن لها حصةً من الثمن، وأن العقد اشتمل عليها؛ كما اشتملَ على سائرِ المنافعِ سواها، وهو عقدٌ واحدٌ على سبيلٍ (¬1) واحدٍ (¬2)، لا سبيلَ إلى تبعيضه، والتعاوضُ (¬3) على المحرَّم منه ممنوعٌ، فمنع (¬4) الكلّ؛ لاستحالةِ التمييزِ، وأنَّ الباقيَ من المنافع المباحةِ يصير ثمنُه مجهولًا، لو (¬5) قُدِّرَ جواز انفراده بالتعاوض. وربما وقعَ في هذا النوع مسائلُ تُشكل على العالِم، فيلحظ (¬6) المسألةَ بعين فكرته، فيرى المنفعةَ المحرَّمَة ملتبِسًا أمرُها، هل هي مقصودة، أم لا؟ ويرى ما سواها منافعَ مقصودةً محللةً، فيمتنع من التحريم؛ لأجل كونِ المقصودِ من المنافعِ محلَّلًا، ولا ينبسط لإطلاق الإباحة؛ لأجل الإشكال في تلك المنفعة المحرمة، هل هي مقصودة، أم لا؟ (¬7) فيقف هاهنا المتورِّعُ، ويتساهل آخَرُ، فيقولُ بالكراهة، ولا يمنعُ ولا يحرِّمُ، ولكنه يكره لأجل الالتباس. فاحتفظ بهذا الأصل؛ فإنه من مُذْهَبَات العلم، ومن تمثَّلَه علمًا، ¬
هان عليه جميعُ مسائل الخلاف الواردة في هذا الباب، وأفتى على بصيرة في دين اللَّه. فيكفيك من أمثلة هذا الباب -على اتساعها (¬1) وكثرتها-: ما وقع لأصحابنا من الاختلاف (¬2) في بيع كلب الصيد؛ فإنه من لم يَسمع فيه حديثًا بالنهي (¬3) عن بيعه، واستعمل هذا الأصل خرج له حكمه، فيقول: في الكلبِ منافعُ كذا وكذا، ويعدِّدُ سائرَ منافعه، ثم ينظر: هل جميعُها محرَّم؟ فيمنعُ (¬4) البيعَ، أو محلَّل (¬5)؟ فيُجيز البيع، أو مختلفة (¬6)؟ فينظر هل المقصودُ المحرَّمُ (¬7) أو المحلَّلُ، ويجعل الحكمَ للغالب -على ما بسطناه-، أو يكون (¬8) منفعة واحدة محرمة خاصة، وهي مقصودةٌ، فيمتنع -على ما بيناه-، أو يلتبس كونُها مقصودةً، فيقف، أو يكره -على ما بيناه-، والعرض على هذا الأصل هو سببُ اضطراب أصحابنا فيه. ¬
وكذلك بيعُ النجاسات ليزبِّلَ (¬1) بها النباتَ، ما وقع فيه في (¬2) "المدونة"، وفي "الموَّازية"، [و] لابن القاسم، ولأشهب (¬3)، على هذا الأصل يُعْرَض، ومنه يُعْرَف الحقُّ فيه. وقد نبه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأحسن عبارة، وأقربِ اختصارٍ على هذا المعنى الذي بسطناه بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في (¬4) الخمر: "إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا" (¬5)، ومن كلامه هذا اقتضبنا هذا الذي هو الأصلُ العظيم (¬6)، وذلك أنه أشار إلى أن المنفعة المقصودة من الخمر هي الشربُ لا أكثر، فإذا حُرِّمت، حُرِّمت المعاوضة؛ لأن المشتري منعه الشرعُ من الانتفاع بها، فإذا بذلَ مالَه وهو مطيعٌ للشرع في أن لا ينتفعَ بها، فقد سَفِهَ وضلَّ رُشْدُه، وصار من أكل (¬7) المال بالباطل. وهكذا -أيضًا- نبه -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الآخر (¬8) الذي لعنَ فيه اليهودَ لما حُرِّمَ عليهم الشحمُ، جَمَلُوه، فباعوه، وأكلوا ¬
ثمنَه؛ لأن الشحمَ المقصودُ منه الأكل، فإذا حُرِّمَ، حُرِّمَ الثمنُ، فهذا من وضوحه كاد (¬1) يُلحق بالعقليات، ولهذا قال: "لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوها، فَبَاعُوهَا" (¬2). وقد نبه -صلى اللَّه عليه وسلم- على (¬3) القسم الآخر المشكِل؛ لأنه لما قيل له في شحم الميتة: يا رسول اللَّه! إنها يُطلى بها السفن، فأوردَ ما دلَّ على المنع من البيع، ولم يعذرْهم بذلك، ولا أباحَ البيعَ؛ لاعتلالهم له بحاجتهم إليه في بعض المنافع، هذا على طريقة مَنْ يجيز استعمالَ ذلك في مثلِ هذهِ المواضع، فتكون بعضُ (¬4) المواضع محللة، ولكن المقصود الذي هو الأكلُ محرم، فلم يرخص في البيع لذلك (¬5). ويُلحق بهذا المعنى (¬6) بياعاتُ الغَرَر؛ لأنه قد لا يحصلُ النفع، فتصير (¬7) المعاوضَةُ على غير منتفَع به، ويُلحق بالقسم الأول الذي هو المعاوضة على ما لا منفعةَ فيه أصلًا، وقد تقدَّم، ولكن ذلك يكون عدمُ المنفعة فيه تحقيقًا، وهذا يكون عدمُ المنفعة فيه تقديرًا وتجويزًا. ¬
أما العقد، فمن شروطه أَنْ يُخَلَّص عن المنهِيَّات كلِّها، وهي محصورة فيما تقدم، وفيما مثل منه مما (¬1) يرجع إلى أُصول أُخَرَ؛ كالنهيِ عن العقدِ عندَ صلاة الجُمُعَةِ، إلى غيرِ ذلكَ مما ننبه عليه -إن شاء اللَّه تعالى- في أحاديث هذا الكتاب (¬2). انتهى كلامه رحمه اللَّه تعالى. فائدة: قال القاضي أبو بكر بنُ العربي رحمه اللَّه: قال لنا القاضي الزنجاني ببيت (¬3) المقدس: البيعُ والنكاحُ عَقْدان يتعلَّق بهما قوامُ عالمِ الإنس (¬4)، وذلك أن اللَّه -تعالى- خَلَقَ الآدميَّ محتاجًا إلى الغذاءِ، مشتهيًا للنساءِ، وخلق له ما في الأرضِ جميعًا؛ كما (¬5) أخبر (¬6) في صادق كتابِهِ، ولم يتركه سُدًى فيتصرفُ في اقتضاء شهواته (¬7)، ويستمتع بنفسه في اختياره؛ كما فعل بالبهائم؛ لأنه فَضَّلَه عليها بالعقل الذي جعلَه لأجله خليفةً في الأرض، ولتعارُضِ الشهوات والعقل، تَعَيَّنَ أن يكون هناك قانونٌ يَنْفصل به وجهُ المنازعة بين الأمرين، ¬
فتسترسل الشهوةُ بحكم الجِبِلَّة، ويقيدها القانون بُحكم الشريعة (¬1)، وجعلَ لكلِّ واحد من المكلَّفين اختصاصًا، يقال له: المِلْكُ بما يتهيأ به النفعُ، وجعل له شيئين: أحدهما: يُنْشِئُه ابتداءً، وهو الاصطيادُ، والاحتشاشُ، والاحتطابُ، والاقتطاعُ، على اختلاف وتفصيل. والثاني: نَقْلُه من يد إلى يد، وهو على وجهين: أحدهما: بغير عِوَض، وهو الهبة (¬2). والثاني: بعِوَض، وهو البيعُ وما في معناه (¬3). انتهى. عدنا إلى الكلام على الحديث. اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث بعدَ الاتفاق على العمل به. فذهب الشافعي، والثوري في أحد قوليه، والليثُ، والعنبريُّ، والأوزاعيُّ، وأهلُ الظاهر، وسُفيان بنُ عُيينةَ، وابنُ المبارك، وفقهاءُ أصحاب الحديث، (¬4) وابنُ حبيب من أصحابنا: إلى الأخذ بظاهرِهِ، وأن (¬5) ¬
المراد مِنهُ الافتراقُ بالأبدان، وهو قولُ سعيدِ بنِ المسيَّبِ، والزهريِّ، وابنِ أبي ذئبٍ من المدنيين، وجماعةٍ من الصحابة والتابعين، وأن المتبايعين (¬1) إذا عقدا بينهما بالخيار ما داما في مجلسهما. وذهب مالك، وأبو حنيفة وصاحباه، والثوريُّ في رواية عنه، وربيعةُ، وروي (¬2) عن النخعيِّ، وحُكي عن شُريح: إلى ترك العملِ بظاهره، وحملوا التفرقَ فيه على التفرُّق بالأقوال، وأنهما إذا عقدا البيع، لم يكن لأحدهما خيارٌ. و (¬3) من هؤلاء من قال: هو على ظاهره، لكن على الندب والترغيب، لا على الوجوب. ع (¬4): وهذا التأويل لا يساعده ظاهرُ الحديث، ويُبعده منه (¬5). قلت: وهو كما قال: فإن الحديث نصُّ في إثبات خيار المجلس، والتأويلُ خلافُه، ولا حاجة بنا إلى التأويل إلا عندَ التعارض، ولم يجىء حديث آخرُ يُعارضه، فالأخذُ بالظاهر أو النصِّ أولى. وأما قول بعض أصحابنا: إنه مخالِفٌ للعملِ، فقال الإمام: ¬
لا يُعَوَّل عليه؛ لأن العملَ إذا لم يَرِدْ به عملُ الأمةِ بأسرِها، أو عَمَلُ مَنْ يجب الرجوعُ إلى عمله، فلا حجةَ فيه، لأن قُصارى (¬1) ما فيه أن يقول عالم لآخر (¬2): اتركْ علمَك لعلمي، وهذا لا يلزم قبولُه إلا ممن تلزمُ (¬3) طاعتُه في ذلك. قال: وكذلك حملُ هذا على الندبِ (¬4) بعيدٌ؛ لأنه نصٌّ على إثبات الخيار في المجلس، من غير أن يذكر استقالة، ولا عَلَّق ذلك بشرط (¬5) (¬6) (¬7). قلت: وقد استدلَّ أصحابُنا وموافقوهم بقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فقال مالك، وأبو حنيفة: تمامُ التراضي: أن يُعقد البيعُ بالألسنةِ، فتنجزم العقدةُ (¬8) بذلك، ويرتفع الخيار. ¬
وقال الشافعي: بل تمامُ التراضي وجزمُه بافتراق الأبدانِ بعدَ عقدِ البيع، أو بأن يقول أحدُهما لصاحبه: اخترْ، فيقولُ: (¬1) اخترتُ، وذلك بعد العقدة أيضًا، فيجزم حينئذ. احتجَّ أيضًا بعضُ أصحابنا بقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] فهذه فُرقةٌ بالقول؛ لأنها (¬2) بالطلاق. وقالَ مَنِ احتجَ للشافعيِّ (¬3): بل هي فرقة بالأبدانِ، بدليل تثنيةِ الضمير، والطلاقُ لا حظَّ للمرأةِ فيه (¬4)، وإنما حظُّها في فرقةِ البدن الذي هو ثمرةُ الطلاق. وقال من (¬5) احتج لمالك: إنما القصدُ في (¬6) الحديثِ الإخبارُ عن وجوبِ ثبوتِ العقد في (¬7) قوله: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا" توطئة لذلك، وإن كانت التوطئة معلومة، فإنها تهيئ النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومه. ¬
استدلَّ (¬1) الشافعيُّ بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا يَسُمِ (¬2) الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلَا يَبِعْ (¬3) عَلَى بَيع أَخِيهِ" (¬4)، فجعلهما (¬5) مرتبتين (¬6)؛ لأن حالة البيعين (¬7) بعدَ العقد قبلَ التفرق تقتضي (¬8) أن يفسده مفسدٌ بزيادة في السلعة، فيختار ربُّها (¬9) حلَّ الصفقة الأولى، فنهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك الإفساد. ألا ترى أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "لا يَخْطُبِ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَّةِ أَخِيهِ" (¬10)، فهو (¬11) في درجة لا يَسُمْ، ولم يقلْ: لا يَنْكِح على نكاح أخيه؛ لأنه درجة بعدَ عقد النكاح، لا تقتضي (¬12) تخييرًا بإجماع الأمة (¬13). ¬
قال من يحتج لمالك رحمه اللَّه: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يَسُمْ"، وَ"لَا يَبعْ" هي درجةٌ واحدةٌ، كلُّها قبلَ العقدِ، وقال: "لا يبعْ" (¬1) تجوزًا في لا يَسُمْ؛ إذ مآلُه إلى البيعِ، فهي جميعًا بمنزلة قوله: "لَا يَخْطُبْ"، والعقدُ جازمٌ فيهما (¬2) جميعًا، واللَّه أعلم. قال الإمام: وأمثلُ ما وقع لأصحابنا في ذلك عندي (¬3): اعتمادُهم على قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَ (¬4) لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ" (¬5)؛ فإن الاستقالة فيما قالوه أظهرُ منها في الفسخ بالخبر الذي يقوله المخالف، وإنما يبقى النظرُ في طريق هذه الزيادة وثبوتها، ثم يُجمع بينَها وبين ما تقدم، ويُبنى بعضُها على بعض، أو يُستعمل الترجيحُ إن تعذَّرَ البناء، وجُهلت التواريخ، هذا هو الإنصاف (¬6) والتحقيق في هذه المسألة (¬7). ¬
قال: وقد يتعلق أصحابنا بحديث اختلافِ المتبايِعَيْنِ: أنهما حَكَمَ فيهما بالتحالف (¬1) والتفاسخ، ولم يفرقْ بين المجلس وغيره، فلو كان لهما الفسخُ، ما احتاجا إلى التحالف (¬2)، ومحملُ هذا عند المخالف (¬3) على التحالف في الثمن في بيع وجبَ واستقرَّ حتى لا يمكن فسخُه، وحديثُهم أخصُّ من هذا (¬4)، فيكون بيانًا له، مع أن الغرض (¬5) في حديث (¬6) اختلاف المتبايعين تعليمُ حكمِ الاختلافِ في الثمن، والغرضُ في البيعتين (¬7) بالخيار تعليمُ مواضعِ الخيار، وأخذُ الأحكام من المواضع المقصود فيها تعليمُها أَوْلى من أخذها (¬8) مما لم يُقصد فيه ذلك (¬9). ع: لا خفاءَ أن مقتضى قوله: "لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ" (¬10) ظاهرٌ في الوجوب على ما جاء في بعض الروايات، ¬
لكنَّ (¬1) تركَ معظمِ السلف، وأهلِ المدينة، ومَنْ روى الحديثَ وبلغَه (¬2) العمل به، من أقوى ما يُتمسك به في أنه غير واجب، وهذا ابن عمر -وإن كان قد عملَ به- قد خالفَ مقتضى هذه الزيادة بما قد (¬3) ذكره عنه مسلم بعدَ هذا، وبرجوعه القهقرى عند مبايعته لعثمان مخافةَ أن يَستقيله، ثم قال في حديثه ذلك: وكانت (¬4) السنةُ يومئذٍ أن البيعين بالخيار ما لم يفترقا، فدل على أن السنة حين تحدث بهذا (¬5)، لم تكن (¬6) كذلك، ولا كان (¬7) يعمل بها، ولو كان الأمر واجبًا، لأنكر هذا ابنُ عمر، ولو حُملت أولًا على الوجوب، لما تُركت (¬8) (¬9). قلت: وبالجملة: فالمسألة مستوعَبَة في كتبِ أصولِ (¬10) الفِقهِ، فلا حاجةَ إلى التطويلِ فيها هاهنا، غيرَ أن الذي عندي في المسأَلِةِ: أن ظواهر الأحاديثِ الصحيحةِ الثابتةِ مع الشافعية، وما تمسَّكَ (¬11) ¬
به (¬1) المالكيةُ؛ من أن عملَ فقهاء المدينة على خلافها، فقد تقدَّم من قول الإمام المازري: أنه يُعَوَّل عليه على ما قرره، مع أن بعض فقهاء المدينة (¬2) خالفَ في ذلك؛ كابن أبي ذئب، فأهلُ المدينة غيرُ متفقين على تركِ العملِ بظاهر (¬3) الحديث، فلم يبق لأصحابنا في الحقيقة سوى التأويل، وهو -كما تقدم- إنما يكون عند التعارض المتساوي. وبالجملة: فاعتقادي في المسألة اعتقادُ الشافعية، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 249 - عَنْ حَكِيم بْنِ حِزَامٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفرَّقَا"، أَوْ قَالَ: "حَتَّى يَفْتَرِقَا، فَإِنْ صَدَقَا، وَبَيَّنَا، بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا، وَكَذَبَا، مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" (¬1). ¬
* التعريف: حَكِيمُ بنُ حِزَامِ: بنِ خُوَيْلِدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ قُصَيِّ بنِ كلابِ بنِ مُرَّةَ بنِ كعبِ (¬1) بنِ لؤيِّ بنِ غالبٍ، القرشيُّ، الأسديُّ. يكنى: أبا خالد، وهو ابنُ أخي خديجةَ بنتِ خويلدٍ زوجِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولد في جوف الكعبة، وذلك أن أمه كانت (¬2) دخلتِ الكعبةَ في نسوة من قريش وهي حاملٌ، فضربها المخاض، فأُتيت بنَطْع، فولدت حكيمَ بن حزامٍ عليه، وكان من أشرف (¬3) قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام. كان مولدُه قبل الفيل بثلاثَ عشرةَ سنة، أو اثنتي عشرة (¬4)، على اختلاف في ذلك، وشهد بدرًا مشركًا، وكان إذا اجتهد في دعائه قال: والذي نجاني (¬5) أن أكون قتيلًا يوم بدر (¬6)! ¬
وتأخر إسلامه إلى (¬1) عام الفتح، وهو من مُسلمة (¬2) الفتح هو وبنوه: عبدُ اللَّه، وخالدٌ، ويحيى، وهشام، وكلُّهم صَحِبَ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وعاش حكيمُ بنُ حزامٍ مئةً وعشرين سنة؛ ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام. وتوفي بالمدينة في داره بها (¬3) عند بلاط الفاكهة وزُقاقِ الصوَّاغين، في خلافة معاوية سنةَ أربعٍ وخمسين، وكان عاقلًا شريفًا، فاضلًا تقيًا (¬4)، سيدًا غنيًا بماله. قال مصعبٌ: جاءَ الإسلامُ ودارُ الندوة بيدِ حكيمِ بنِ حزام، فباعَها بعدُ (¬5) من معاويةَ -رضي اللَّه عنه- بمئة ألف درهم، فقال له (¬6) الزبير: بعتَ مكرمةَ قريش، فقال حكيم: ذهبتِ المكارمُ إلا التقوى. وكان من المؤلَّفة قلوبُهم، وممن حَسُنَ إسلامُه منهم، أعتق في الجاهلية مئة رقبة، وحمل على مئة بعير، ثم أتى النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد أن أسلم، فقال: يا رسول اللَّه! أرأيتَ (¬7) أشياءَ كنتُ أفعلُها في الجاهلية أتحنَّث ¬
[بها]؛ أي: أتعبد (¬1)، ألي فيها أجرٌ؟ فقال (¬2) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3): "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ" (¬4)، وحج في الإسلام ومعه مئةُ بَدَنَةٍ قد جَلَّلها بالحِبَرَةِ، وكفَّها عن (¬5) أعجازها، وأهداها، ووقف بمئة وصَيفٍ بعرفةَ في أعناقهم أطواقُ الفضة، منقوشٌ فيها: عُتَقاءُ اللَّه عن حكيمِ بنِ حزام، وأهدى ألفَ شاة. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعون حديثًا، اتفقا منها على أربعة. روى عنه: سعيدُ بنُ المسيب، وعروة بن الزبير، وموسى بن طلحة بن عبد اللَّه. روى له الجماعة (¬6) (¬7). ¬
الكلام على الحديث كالكلام على الذي قبله، إلا ما فيه من الدلالة على ثبوت البركة للمتبايِعَين إذا صَدَقا وبَيَّنا، وكأن المرادَ بالتبيين هنا: تبيينُ عيبٍ إن كان بالسلعة، ونحو ذلك، وذلك (¬1) بالنسبة إلى كل واحد منهما: البائع، والمشتري. وقد قال أصحابنا: إنه يجب أن يذكر من أمر سلعته ما إذا ذكره (¬2) للبائع قَلَّتْ (¬3) رغبتُه فيها، والقصدُ: أن لا يَقدما (¬4) في تبايعهما على غش ولا خديعة، فقد (¬5) جاء: "مَنْ غَشّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا" (¬6)؛ أي: ليس مُتَّبِعا لسُنَّتِنا، ولا مُهتديًا بهَدْينا، نسأل اللَّه تعالى العصمةَ في القول والعمل، إنه وليُّ ذلك، والقادرُ عليه. * * * ¬
باب ما نهي عنه من البيوع
باب ما نهي عنه من البيوع الحديث الأول 250 - عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عَنِ المُنَابَذَةِ، وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيعْ (¬1) إِلَى الرَّجُلِ -قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ (¬2) يَنْظُرَ إِلَيْهِ-، وَنَهَى عَنِ المُلَامَسَةِ، وَالمُلَامَسَةُ: لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ (¬3). ¬
(¬1) لا خلاف أن هذا النهي عن (¬2) التحريم، وأن هاتين البيعتين ممنوعتان (¬3)، وهما من بياعات (¬4) الجاهلية. والمنابذة، قد فسرها المصنف. وقال القاضي عبد الوهاب: هو أن ينبذ أحدُهما ثوبَه إلى الآخر، وينبذ الآخرُ ثوبَه إليه، فيجب (¬5) البيعُ بذلك، وكأن علةَ المنع الجهلُ بصفة المبيع، فكان كبيع الأعيان الغائبة. وأما الملامسة، فقد فسرها -أيضًا- المصنف. وقال غيره: هو أن يلمس الرجل الثوبَ، فيلزمه (¬6) البيعُ بلمسه، وإن لم يتبينْه. ¬
وفسرها الشافعي: بأنْ يأتيَ بثوبٍ مطوِيٍّ، أو في ظُلمة، فيلمسه (¬1) الراغبُ، ويقول صاحبُ الثوب: بِعْتُك كذا بشرط أن يقوم لَمْسُكَ (¬2) مقامَ النظرِ، وكأنه راجعٌ إلى الأول، واللَّه أعلم. وقيل غيرُ ذلك. وعلةُ المنع: الجهلُ بصفة المبيع. وأيضًا: فيه العدولُ عن الصيغة الموضوعة للبيع شرعًا، وتعليقُه بالشرط، وكأن هذا الحديث أصلٌ في منعِ بيعِ الأعيانِ الغائبة، إذا قلنا: إن علة المنع فيها الجهلُ بصفات المبيع، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 251 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَا تَلَقَّوُا الرُّكبَانَ، وَلَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيع بَعْضٍ، وَلَا تناجَشُوا، وَلَا يَبِعْ (¬1) حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تُصَرُّوا الغَنَمَ، وَمَنِ ابْتَاعَهَا، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، إِنْ رَضِيَهَا، أَمْسكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا، رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمرٍ" (¬2). وَفِي لَفْظٍ: "فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلَاثًا" (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تلقوا الركبان": الأصل: (¬1) تَتَلَقَّوا (¬2)، فحذف (¬3) إحدى التاءين تخفيفًا، وقد تقدم أن شرطَ الحذف ¬
في مثل هذا (¬1) تجانُسُ الحركتين. والرُّكْبان: جمعُ رَكْب (¬2). قال الجوهري: الركب (¬3) أصحابُ الإبلِ في السفرِ دونَ الدوابِّ، وهم العشرةُ فما فوقها (¬4)، والجمعُ: أَرْكُب، والرَّكَبَةُ -بالتحريك- أقلُّ من الرَّكْب، والأُركوب -بالضم- أكثرُ من الركب، والرُّكبان: الجماعة منهم (¬5). قلت: وراكبُ البعير يقال فيه: راكب، وراكبُ الفرس: فارس، واختلف أهلُ اللغة في راكب الحمار، هل يقال له: فارسٌ على حمار، أو لا يقال له (¬6) إلا حَمَّار؟ وصورةُ التلَقِّي: أن يتلقى الرجلُ طائفةً يحملون متاعًا، فيشتريه (¬7) منهم قبلَ أن يقدَموا (¬8) الأسواقَ، ويتعرفوا (¬9) سعرَه. ¬
قال الإمام أبو عبد اللَّه: والنهيُ عنه معقولُ المعنى، وهو ما يلحق الغيرَ من الضرر، ولكن ينقدح هاهنا في نفس المتأمل (¬1) معارضة، فيقول (¬2): المفهومُ من منعِ (¬3) بيعِ الحاضرِ للبادِي (¬4): أن لا يستقصيَ (¬5) البادي (¬6)، وأن يوجدَ السبيل لغَيْيه، والمفهومُ من النهي عن التلقي: أن لا يُغْبَنَ البادي، بدليل قوله هنا (¬7): فإذا أتى سيدُه السوقَ، فهو بالخيار، والانفصالُ عن هذا أنَّا كنا قد (¬8) قدمنا أن الشرع في هذه المسألة وأخواتها مبني (¬9) على مصلحة (¬10) الناس، والمصلحةُ تقتضي أن يُنظر للجماعة على الواحد، ولا تقتضي أن يُنظر للواحد على الواحدِ، ولما كانَ البادي إذا باع بنفسه، انتفع سائرُ (¬11) أهلِ السوقِ، فاشترُوا ما يشترونه رخيصًا، وانتفع (¬12) به سائرُ سكانِ البلد، نُظِر لأهلِ البلدِ عليه، ولما كان إنما ¬
ينتفع بالرخيصِ المتلقِّي خاصة، وهو واحدٌ في قبالةِ الواحدِ الذي هو البادي، ولم يكن في إباحة المتلقى (¬1) مصلحة، لاسيما وتضاف (¬2) إلى ذلك علَّة ثانية، وهي (¬3) لحوقُ الضرر بأهل السوقِ في انفراد المتلقِّي عنهم بالرخيصِ، وقطعِ الموادِّ عنهم (¬4)، وهم أكثرُ من المتلقِّي، فنظر لهم عليه، فعادت المسألة إلى المسألة الأولى، فصارا أصلًا واحدًا، وانقلب ما ظنَّه الظانُّ في هذا من التناقض بأن صارا (¬5) مِثلين يؤكد (¬6) بعضُهما بعضًا. وقد اختلف المذهبُ عندنا فيمن لم يَقْصِدِ التلقِّيَ، ولم يبرزْ إليه خارجَ المدينةِ، بل مَرَّ به (¬7) على بابه بعضُ البُداة، هل يَشتري منه ما يحتاج إليه (¬8) قبلَ وصوله إلى السوق؟ فقيل بالمنع؛ لعموم الحديث. وقيل: بالجواز؛ لأن هذا لم يقصِدِ الضررَ، ولا الاستبداد دونَ أهلِ السوق، فلم يمنع، وقد جُعل له في بعض هذه الطرق هاهنا الخيارُ ¬
إذا جاء السوق، ولم يفسخ البيع، لما كان النهي لحق الخلق، لا لحقِّ اللَّه سبحانه (¬1)، ومن لم تثبت (¬2) عنده هذهِ الزيادةُ، ورأى أن النهيَ يدلُّ على فساد المنهيِّ عنه، فسخ البيع، قال: وفي ذلك اضطرابٌ في المذهب (¬3). قلت: وانظر: إذا تلقى الركبانَ ليبيع منهم، لا ليشتريَ، هل يُشرع له ذلك، أم لا؟ (¬4) ويلوح من هذا (¬5) الحديث إثباتُ الخيارِ للمغبونِ؛ لأنه إذا ثبتَ أن النهيَ (¬6) عن التلقِّي لكي لا يُغبنَ الجالبُ، لم يكن لإثباتِ الخيارِ له معنى إلا لأجلِ الغبن، و (¬7) لأنه يرجو الزيادة في السوق (¬8). ع: وخالف أبو حنيفة في هذا، فلم يأخذ بهذا الحديث، وأجاز التلقِّيَ، إلا أن يضرَّ بالناس، فيكره. وقال الأوزاعي مثلَه. ¬
واختُلف فيه إذا وقع، فعن مالك وبعضِ أصحابه: أنه ينهى، ولا ينتزع (¬1) منه، ورأى بعض أصحابنا (¬2) فسخَ بيع المتلقِّي. والشافعي، وأحمد يَرَيان (¬3) للباع الخيارَ، كما جاء في الحديث، ومال إليه بعضُ أصحابنا، والمشهور عن مالك وأكثرِ أصحابه: أن يعرض على أهل السوق، فإن لم يكن سوقٌ، فأهلُ المصر، يشترك فيها (¬4) مَنْ شاء منهم. وقال الإِصطخري: إنما يكون البائع بالخيار إذا اشتُريت بأقلَّ من ثمنها (¬5). قلت: وقال الخطابي: وهو قول قد يخرج على معاني الفقه (¬6). وقال ح: إن كان الشراء بسعرِ البلد أو أكثرَ فوجهان: الأصحُّ: لا خيارَ له؛ لعدم الغبن. والثاني: ثبوتُه؛ لإطلاق الحديث (¬7). ¬
ق: واذا قلنا بثبوت الخيار، فهل هو على الفور، أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ [فيه] خلافٌ للشافعية (¬1). ع (¬2): واختُلف عندنا في حدِّ التلقِّي الممنوعِ، فعن مالك: كراهةُ ذلك على مسيرة يومين، وعن مالك تخفيفُه وإباحتُه على (¬3) ستة أميال، ولا خلاف في منعه إذا كان قربَ المِصْرِ وأطرافه. وقال بعض المتأخرين: وكذلك يجوز تلقِّيها في أول السوق، لا في خارجه، وكذلك لو لم يكن للسلعة سوق، فشراؤها إذا دخلت البلدَ جائز، وإن لم تبلغْ أسواقَه (¬4). انتهى. الثاني: قوله: -عليه الصلاة والسلام-: "وَلَا يَبِعْ (¬5) بَعْضكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ": قال الإمام: معناه: لا يَسُمْ على سَوْمه، وقد صَرَّحَ بذلك في حديثٍ آخرَ من "كتاب مسلم" (¬6). قلت: وقد فُسّرَ السَّومُ على السَّوم: بأن يأخذ شيئًا ليشتريَه، فيقول له إنسانٌ: رُدَّهُ لأبيعَ منك خيرًا منه وأرخصَ، أو يقول لصاحبه: ¬
اشتره (¬1) لأشتريَه منكَ بأكثرَ. قال الإمام: وعلَّته (¬2) ما يؤدِّي إليه من الضرر، وقد كره بعض أهل العلم بيع المزايدة في الحِلَق؛ خوفًا من الوقوع في ذلك، وإن قلنا: إنه منع (¬3) من ذلك مع (¬4) التراكن إلى البيع، خرج بيعُ الحلقِ من ذلك (¬5). ع (¬6): معنى لا يَبعْ (¬7) هاهنا (¬8) لا يشتري، وأما بيعُه سلعتَه على بيعِ أخيه، فغيرُ منهيٍّ عنه (¬9)، والأَوْلى أن يكون على ظاهره، وهو أن يعرض سلعتَه على المشتري برُخْصٍ ليزهِّدَه في شراءِ تلكَ السلعة التي ركن إليها أولًا من عند الآخر، فيشتمل عليه النهي، فيكون على ظاهره. والشراءُ والبيعُ ينطلق على المتبايِعَيْن معًا، واختُلف في هذا، أعني: فيما وقع من الخِطْبة على الخِطْبة، أو السومِ على السومِ بعدَ التراكُن، هل يُفسخ العقد، أم لا؟ ¬
فذهب الشافعي، والكوفيون، وجماعة من العلماء: إلى إمضاء العَقْد، وأن النهيَ (¬1) ليس على الوجوب. وقال داود: هو على الوجوب، ويُفسخ. ولمالك قولان؛ كالمذهبين، وفي النكاح قول ثالث: الفسخ قبل البناء، والمُضِيُّ بعده، ولا خلاف أن فاعل ذلك عاصٍ (¬2). ق: وتَصرَّفَ بعض الفقهاء في هذا النهي (¬3)، وخَصَّصَه بما إذا لم يكن في الصورة غَبْنٌ فاحش، فإن [كان] المشتري مغبونًا غبنًا فاحشًا، فله أن يُعلمه ليفسخَ (¬4) ويبيعَ منه بأرخصِ، وفي معناه: أن يكون البائع مغبونًا، فيدعوه إلى الفسخ، فيشتريه منه بأكثر (¬5). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تَناجَشُوا": هو كما تقدَّم في "تَلَقَّوا" من حذف إحدى التاءَين، وهو تَفاعَلُوا؛ من النَّجْش، وأصلُ النجش؟ الاستئارةُ (¬6)، ومنه نَجَشْتُ الصيدَ، أَنْجُشُهُ -بضم الجيم- نَجْشًا: إذا استثرته (¬7)، سُمي الناجِشُ في السلعة (¬8) ناجشًا؛ لأنه ¬
يثُير (¬1) الرغبةَ فيها ويرفع ثمنها (¬2). وقال ابن قتيبة: أصلُ النَّجْش: الخَتْلُ، وهو الخِدَاعُ، ومنه قيل للصائِدِ ناجشٌ؛ لأنه يَخْتِلُ الصيدَ، ويحتال عليه، وكلُّ من استثارَ شيئًا فهو ناجِشٌ. وقال الهروي: قال أبو بكر: النَّجْشُ: المدحُ والإطراء (¬3)، و (¬4) على هذا معنى الحديث، وعلى هذا يكون معنى الحديث: لا يمدحَ أحدُكم السلعةَ، ويزيد في ثمنِها بلا رغبة، والصحيح الأول (¬5). قال الإمام: وصفتُه عند الفقهاء: أن يزيدَ في السلعة ليغترَّ به غيرُه، لا ليشتريَها، فإن وقع ذلك، وعلم أن الناجش من قبل البائع، كان المشتري بالخيار بين أن يُمضي البيع، أو يَرُدَّه. وحكى القزوينيُّ عن مالكٍ: أن بيع النجشِ مفسوخٌ، واعتلَّ بأنه منهيٌّ عنه. قال: وهكذا اعتلَّ ابنُ الجَهْمِ لمَّا ردَّ على الشافعي، فقال (¬6): الناجشُ عاصٍ، فكيف يكون مَنْ عصى اللَّه -تعالى- يتمُّ بيعُه، ولو ¬
صحَّ هذا، نفذ النكاحُ في الإحرام والعِدَّة (¬1). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يبعْ (¬2) حاضرٌ لبادٍ": هذا محمول عند مالك على أهلِ العمودِ ممن لا يعرفُ الأسعارَ، وأما من يقرُب من المدينة، ويعرفُ الأسعارَ (¬3)، فلا يدخلُ (¬4) في ذلك. قال الإمام: واختُلف عندنا في الشراءِ هل يمتنع كما امتنع البيعُ له؟ فقيل: هو بخلاف البيع؛ لأنه إذا صار الثمنُ في يديه أشبهَ أهلَ الحضر فيما يشترونه، فيجوز أن يشتري له الحاضرُ، فإن وقعَ البيعُ على الصفَةِ التي نُهي عنها، ففي فَسْخِهِ خلاف (¬5). ع: وفي المذهب عندنا (¬6) قولٌ آخر: إنه على العموم التامِّ في كل بادٍ، وكلِّ طارِىء على بلدٍ، وإن كان من أهل الحضر (¬7)، وهو قولُ أصبغَ، وكأنه تأول التشبيه (¬8) بالبدوي على الطارئ والجاهل. ومفهومُ العلَّة في الحديث يقويه قولُه -عليه الصلاة والسلام-: ¬
"دَعِ النَّاسَ في غَفَلَاتِهِمْ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْض" (¬1). قال: وذهب أبو حنيفة، وعطاء، ومجاهد، ومن قال بقولهم: [إلى] أن الحديث غيرُ معمول به، وأن ذلك مباح، ثم اختلفوا في تأويل الحديث وعلَّة ردَّه، فقال بعضهم: إنما كان ذلك (¬2) مخصوصًا بزمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأما اليوم، فلا، وظاهرُ قولِ هؤلاء: أنه منسوخ. وقال آخرون: بل يردُّه حديث: النَّصِيحَةُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ (¬3)، وإلى هذا أشار البخاري في "كتابه"، وإدخاله في الترجمة: "لا يَبعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ"، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَإِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَنْصحْهُ" (¬4)؛ لإدخاله داخلَ الباب مع الحديث المذكور، وحديث: "النَّصِيحَةُ (¬5) للَّهِ وَرَسُولهِ وَلِعَامَّةِ المُسْلِمِينَ" (¬6). ¬
وقيل: بل كان هذا النهيُ عن تربُّصِ الحاضرِ سلعةَ البادي، والزيادةِ في السوق إلى أن يبيعَها بسعرِ يومِئِذٍ (¬1)؛ لأن الباديَ غيرُ مقيم، فيبيع بسعرِ يومه، فيرتفق بذلك الناسُ، فإذا قال له الحضري: أنا أتربَّصُ لك بها، وأبيعُها لك، حرمَ الناسَ ذلكَ الرفقَ. وقيل: إنما ذلك في البلاد الضيقة التي يَستبين فيها الضررُ، وغلاءُ السعر إذا لم يبع الجالبُ متاعه، فأما البلادُ الواسعة التي لا تظهر (¬2) في ذلك فيها، فلا بأسَ. وقيل: ذلك على الندب، ليس على الوجوب. ثم اختلف من أوجبه إذا وقع، فعند الشافعي، وابن وهب، وسحنون من أصحابنا: يُمضى، وعن ابن القاسم: يُفسخ ما لم يَفتْ (¬3). قلت: وفيما إذا استشار البدويُّ البلديَّ (¬4) في ادِّخاره وبيعِه على التدريج وجهانِ لأصحاب الشافعي. ق: واعلمْ: أن أكثر هذه الأحكام تدور بين اعتبار المعنى، واتِّباع معنى اللفظ، ولكن ينبغي أن يُنظر (¬5) في المعنى إلى الظهور والخفاء، ¬
فحيثُ يظهر ظهورًا كثيرًا، فلا بأس باتباعه، وتخصيصِ النصِّ به، أو تعميمِه على قواعد القياسيين، وحيث يخفى، ولا يظهرُ ظهورًا قويًا (¬1)، فاتباعُ اللفظ أولى (¬2). الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تُصَرُّوا الغنَم": هو بضم التاء وفتح الصاد المهملة وبعد الراء واو وألف؛ مثل قوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]. ع: وهو الصوابُ على مذهب العلماء كافةً في شرح المُصَرَّاة واشتقاقها. قال: وقد رويناه عن بعضهم في غير مسلم: "تَصُرُّوا الإِبِلَ" -بفتح التاء وضم الصاد-؛ من الصَّرِّ، وعن بعضهم: بضم الأول بغير واو بعد الراء، على ما لم يُسمَّ فاعلُه، من الصَّرِّ -أيضًا-، وهو الربط، على تفسير الشافعيِّ ومَن اتبعه (¬3) (¬4). قال الإمام: معناه: لا تجمعوا اللبنَ في ضَرْعِها حتى يعظُمَ، ومنه: صَرَيْتُ الماءَ في الحوض؛ أي: جمعتُه، والصراةُ: المياهُ المجتمعة (¬5). ¬
قال الجوهري: وصَرى الماءَ في ظهره (¬1) زمانًا؛ أي: احْتَبَسَه، وصرى بولَه صَرْيًا؛ أي (¬2): قطعه، وصَرَّيْتُ الشاةَ تَصْرِيَةً: إذا لم تحلُبْها أيامًا حتى يجتمعَ اللبنُ في ضرعها، والشاةُ مُصَرَّاةٌ (¬3). قال الخطابي: اختلف أهل العلم في تفسير (¬4) المُصَرَّاة، ومن أين أُخذت واشتُقَّت: فقال الشافعي: التصرية: أن تُربط أخلافُ الناقة أو الشاة، وتُترك من الحلب اليومين والثلاثة حتى يجتمعَ فيها لبن، فيراه مشتريها كثيرًا، فيزيد في ثمنها؛ لما يراه من كثرة لبنها، فإذا حلبها بعدَ تلك (¬5) الحلبة حلبةً أو اثنتين، عرفَ أن ذلك ليس بلبنها، وهذا غررٌ للمشتري. قلت: إن كان هذا تفسيرًا للتصرية، فهو صحيح، وإن كان حدًّا، فحدُّه عند قوله: أو الثلاثة، والباقي ليس من الحدِّ في شيء، إنما هو تعليلٌ للتصرية، لا التصريةُ. وقال أبو عبيدة (¬6): المُصَرَّاةُ: الناقة أو البقرة أو الشاة التي صُرِّيَ ¬
اللبنُ في ضَرْعها؛ يعني (¬1): حُقن فيه، وجُمع أيامًا، فلا يحلب، وأصلُ التصرية: حبسُ الماء وجمعُه، يقال منه: صَرَيْتُ الماءَ، ويقال: إنما سُميت المُصَرَّاة؛ لأنها مياهٌ اجتمعت. قال أبو عبيد: ولو كان من الربط، لكانَ مَصْرورَةً، أو مُصَرَّرَةً. قال الخطابي -كأنه يريد ردًّا على الشافعي-: وقولُ أبي عُبيد حسن، وقولُ الشافعي صحيحٌ، والعربُ تَصُرُّ ضُروعَ الحَلُوباتِ إذا أرسلَتْها تسرحُ، ويُسمون ذلك الرباطَ: الصِّرارَ، فإذا راحت، حُلَّتْ تلك الأَصِرَّةُ، وحُلبت. ومن هذا حديثُ أبي سعيد الخدري: "لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَحُلَّ صِرَارَ ناَقَةٍ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا؛ فَإِنَّهُ خَاتَمُ أَهْلِهَا عَلَيْهَا" (¬2)، ومن هذا قول عنترة: العبدُ لا يُحسِن الكرَّ، إنما يُحسن الحَلْبَ والصَّرَّ. قال: ويحتمل أن تكون المُصَرَّاة: المُصَرَّرَة (¬3)، أُبدلت إحدى الراءين ألفًا؛ كقولهم تَقَضَّى البازي، وأصلهُ: تَقَضَّضَ، كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة، فأبدلوا حرفًا منها بحرف ¬
آخرَ من غير جنسها، قال العجاج: [الرجز] تَقَضِّيَ البَازِي إِذَا البَازِي كسر ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]؛ أي: أَخْمَلَها بمنع الخير، وأصلُه: دَسَّسَها، ومثلُ هذا كثير في الكلام (¬1). وقد أجمعت (¬2) الأمة -فيما علمت- على تحريم التصرية؛ لما اشتملت عليه من الغِشِّ والخديعة المحرَّمَين قطعًا في الشرع. قال الإمام: وهي أصلٌ (¬3) في تحريم الغش -يعني: التصرية-، وفي الردِّ بالعيب. وقد كان شيخنا أبو محمد [بن] عبد الحميد رحمه اللَّه يجعلها أصلًا في أن النهي إذا [كان] لحقِّ الخلق، لا يوجب فسادَ البيع؛ لأن الأمَّةَ أجمعت على تحريمِ الغِش في البيعِ، ووقع النهيُ عنه (¬4) هاهنا، ثم خَيَّره رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعدَ ذلكَ في أن يتماسَكَ بالبيعِ، والفاسِدُ لا يصحُّ التماسُكُ به (¬5). وفي هذا الحديث: دلالة على أن التدليس محرم، ويوجب الخيار ¬
للمشتري، وإن كان بتحسين المبيع الذي يؤدي إلى الخدع والغرور، وأن الفعل يقوم مقام النطق في مثل (¬1) هذا؛ لأن قصارى ما فيه: أن المشتريَ رأى ضَرْعًا مملوْءًا، فقدَّرَ بأن ذلك من (¬2) عادتها، فحلَّ ذلك محلَّ قول البائع: إن ذلك عادتُها، فجاء الأمرُ بخلافه، وصار البائع لما دلَّس كالقائل (¬3) لذلك الحكم (¬4) (¬5). والحكمُ عندنا في الإبل والبقر حكمُ الغنم في التصرية، إذا كان المقصودُ منها اللبنَ. قال (¬6) أصحابنا: وفي معنى التصرية تلطيخُ ثوبِ العبدِ بالمِداد؛ ليخيل بذلك أنه كاتب، وكذلك ما أشبهه من التغرير بالفعل (¬7). ومن الشافعية من عدَّى التصريةَ (¬8) إلى كل حيوانٍ مأكولِ اللحم، وكان هذا نظرٌ إلى المعنى؛ فإن المأكولَ اللحمِ يُقصد لبنُه. ¬
وكذلك عندهم خلافٌ (¬1) فيما إذا حَفَّلَ (¬2) أتانًا؛ لأن المقصود منها تربيةُ الجحش. واختلفوا -أيضًا- في الجارية لو حَفَّلَها (¬3). ق: وإذا ثبت الخيارُ في الأتان، فالظاهر أنه لا يَرُدُّ لأجل لبنها شيئًا، ومن هذا يتبينُ لكَ أن الأتَانَ لا تقاس على المنصوص عليه في الحديث -؛ أعني: الإبل والغنم-؛ لأن شرط القياس اتحادُ الحكم، فينبغي أن يكون إثباتُ الخيار فيها من القياس على قاعدة أخرى. وفي ردِّ شيء لأجل لبنِ الآدمية خلافٌ أيضًا (¬4). فلو كان الضرعُ مملوءًا لحمًا، وظنه المشتري لبنًا، لم يثبت له بذلك خيارٌ (¬5) عندنا. وبين الشافعية في ذلك خلافٌ، فمن نظر إلى المعنى، أثبتَ؛ إذ العيبُ مثبتٌ للخيار، وإن لم يدلِّسْ به البائع، ومن نظر إلى أن هذا الحكمَ خارجٌ عن القياس، خَصَّه بموردِهِ، وهو حالة العمد؛ إذ النهيُ إنما يتناول العمدَ خاصة. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "بعد أن يحلُبَها"، وإن كان مطلقًا، ¬
فقد تقيد في الرواية الأخرى بثلاثة أيام. وتحصيل المسألة عندنا: أن نقول: إن عَلِمَ المشتري بالتصرية قبلَ الحلبِ، كان له أن يودَّها قبلَ الحِلاب، وأن يمسكها ويحلبها، ثم يختبرها، وينظرُ كيفَ عادتها، ومقدار ما ينقص عن (¬1) التصرية، وكذلك (¬2) لو لم يعلم بالتصرية إلا بعدَ الحلب، لكان (¬3) له الخيارُ بين أن يردَّ، أو يُمْهَلَ حتى يحلبَ ثانيةً، ويعلمَ عادتَها، فإن احتلبها الثالثةَ، قال ابن المواز: ذلك رِضًا. وفي "الكتاب" من رأي ابن القاسم: أنه إذا جاء من ذلك ما يعرف أنه كان قد (¬4) اختبرها قبلَ ذلك، فما حلبَ بعدَ ذلك فهو رضًا منه بالشاة، ولا يكون له ردُّها. وقال مالك في "كتاب محمد": له أن يود ولو حلب الثالثةَ، وهو مقتضى الحديث، ولأن التصرية لا تتحقق إلا بثلاث حلبات؛ فإن الحلبة الثانية إذا انفصلت (¬5) عن الأولى، جوز المشتري أن يكون ذلك لاختلاف المرعى، أو لأمر غير التصرية، فإذا حلبها الثالثةَ (¬6)، تحقق التصريةَ، ¬
وإذا كانت لفظة: (حلبها) مطلقة، فلا دلالةَ له فيها على الحلبة الثانية والثالثة، وإنما يؤخذ ذلك من حديث آخر، واللَّه أعلم (¬1). وقوله: -عليه الصلاة والسلام-: "وصاعًا من تمر"، وقد تقدَّم تفسيرُ الصَّاعِ في كتابِ الزكاةِ، والواو يجوز (¬2) أن تكونَ عاطفةً للصَّاعِ على الضميرِ (¬3) في (ردَّها)، ويجوزُ أن تكون واوَ (مع)، فعلى الأول: لا تقتضي فورية الصاع مع الرد، وعلى الثاني: تقتضيها -أعني: الفورية-، واللَّه أعلم. مسألة: اختُلف إذا كانت الغنم التي صُرَّتْ (¬4) كثيرةً، هل يردُّ لجميعها صاعًا واحدًا، أو لكلِّ شاة صاعًا؟ قال الإمام: والأصوبُ: أن يكون حكمُ الكثير منها غيرَ حكم الواحد؛ لأنه من المستشنع (¬5) في القولِ، على خلافِ مقتضى الأصولِ، أن يغرم متلفُ لبنِ ألفٍ شاة؛ كما يغرمُ متلفُ لبنِ شاةٍ واحدةٍ، وإن احتج علينا: بأنه -عليه الصلاة والسلام- ساوى بين لبنِ الناقة، ولبنِ الشاة (¬6)، مع كونِ لبنِ الناقةِ أكثر. ¬
قلنا: قد قال بعضُ أهلِ العلم: إنما ذلك؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أرادَ أن يكونَ ذلك حدًّا يُرْجَع إليه ليرتفعَ الخصام، ويزولَ النزاعُ (¬1) والتشاجُرُ، وقد كان -صلى اللَّه عليه وسلم- حريصًا على رفع التشاجُر عن أمتهِ، وهذا كما قضى في الجنين بالغُرَّة، ولم يفصل بين الذكر والأنثى (¬2)، مع اختلافهما في الدِّياتِ؛ لأن هذه المواضع لما كان يتعذر ضبطُها عندَ البيناتِ، كثر التنازعُ فيها، فرفعه (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن جعلَ القضاءَ في ذلك لواحد (¬4). انتهى. فإن قلت: لم لا يكونُ جودةُ لبن الشَّاةِ- وإن قلَّ- مقابلًا لكثرةِ لبنِ الناقةِ، فيكونان كالمتساويين من حيث المعنى، ويكون هذا الجوابُ أسدَّ مما (¬5) حكاه الإمام؛ لكونه غيرَ خارج عن الأصل، ولا مفتقرٍ إلى التعليل بقطع النزاع؛ بخلاف الأول؟ قلت: لو لم يعارضْه اختلافُ الإبل نفسِها في كثرة الحلب وقِلَّته، لكان كما قلتَ، ولا يخلو عندي من نظر. إذا ثبتَ هذا، فلتعلمْ: أن الحديثَ نصٌّ في رد الصاع مع الشاة، ويلزم منه عدمُ ردِّ اللبن؛ إذ لو أراد أن يردَّ اللبنَ بعينه عوضًا عن الصاعِ ¬
المأمورِ به، لم يكن له ذلك؛ لأن الصاع لم يجبْ لفواتِ اللبنِ، بل لما ذكرناه؛ بدليلِ أنه لم يضمن بالمثل، قاله ابن القاسم، ثم قال: ولو وافق البائعُ المشتريَ على ذلك، لم يصحَّ، إذ يدخلُه (¬1) بيعُ الطعامِ قبل قبضه. وقال سحنون: إذا ردَّهُ بعينه، فهو إقالةٌ، والإقالةُ في الطعامِ جائِزَةٌ. قلت: ولأن المعنى فيه قطعُ التنازع، وقد حصلَ. ثم إن الحديث يقتضي تعيينَ الثمن (¬2)، وقد اختلفوا في ذلك، فقال القاضي أبو الوليد: روى ابن القاسم: أنه يكون من غالب قوت البلد، ووَجْهُهُ: أنه ورد في بعضِ ألفاظِ هذا الحديثِ في رواية ابن سيرين: "صَاعًا مِنْ طَعَامٍ"، فيُحمل تعيينُ صاعِ التمرِ (¬3) في الرواية المشهورة على أنه كانَ غالبَ قوتِ ذلك البلد (¬4). ومنهم من اقتصر على التمر ولابدَّ (¬5)، مراعاة للفظ (¬6) الحديث، واستصوبه بعضُ شيوخنا المحققين. ومنهم من عدَّاه (¬7) إلى سائر الأقوات، وهذا ضعيف؛ لما جاء في ¬
الرواية الأخرى: "صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، لَا سَمْرَاءَ" (¬1) (¬2)، وهو أيضًا (¬3) يضعِّفُ اعتبارَ قوت البلد؛ لأن السمراء كانت (¬4) غالبَ قوتِ أهل المدينة. ثم لتعلمْ: أن قدر الصاع متعين (¬5)، فلا يُزاد عليه لكثرةِ اللبنِ وغزارته، ولا يُنقص منه لقلته ونزارته، ولا يُلتفت إلى غلائه ورخصه، بل قال بعض المتأخرين: بل إن كانت قيمتُه تساوي قيمةَ الشاة، أو تزيدُ عليها، فظاهرُ المذهب: أن عليه الإتيان به. واختُلف عندنا لو رضي التصريةَ، ثم رَدَّ بعيبٍ آخرَ غيرِها، فقال: محمد: لا يردُّ عوضَ ما حلب، ورأى قَصْرَ الحديث على ما ورد. وذكر عن أشهب: أنه يردُّ الصاعَ، ومال إليه بعضُ المتأخرين. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وهو بخيرِ النَّظَرَين بعد أن يحلُبها": إن قلت: كيف خَصَّ -عليه الصلاة والسلام- الخيارَ ببعدِيَّةِ الحلبِ، والخيارُ ثابتٌ قبلَه (¬6)، إذا عُلمت التصرية؟ قلت: كأن الحديث خرجَ مخرجَ الغالب، وذلك أن الغالبَ توقُّفُ ¬
العلم بالتصرية على الحلب، والنادرُ أن يعلمه ربُّها بالتصرية قبلَ أن يحلبها؛ إذ لا غرضَ له في ذلك؛ إذ هو قاصد للتدليس، فإن وقع هذا النادر بإخبار البائع، أو بقرينةٍ ما، كان ذلك مردودًا إلى قاعدة الردِّ بالعيب، واللَّه أعلم. السابع: قوله: -عليه الصلاة والسلام-: "فَهُو بالخيارِ ثلاثًا" دليلٌ على ما تقدَّمَ من أن الحلبةَ الثالثةَ لا تقطع الردَّ، وهو قول مالك، وظاهرُ "المدونة" على ما تقدم؛ لكن مالكًا لم يأخذ بثلاثة أيام (¬1)؛ إذ لم تكن في روايته، لكن في (¬2) معناها ثلاثُ الحلبات (¬3) -على ما تقدم تقريره-، وجعل المخالفون هذا أصلًا في ضرب أَجَل الخيار، وأنه لا زيادة فيه على ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي. وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن: قليلُ الخيار وكثيرُه جائز، ومالك لا يرى للخيار أجلًا محدودًا، لا يُتَعَدَّى، بل قدرَ ما يختبر فيه المشتري، ويختلف ذلك باختلافه، فليس اختيار الثوب؛ كاختيار العبد، وسكنى الدار. وبيعُ الخيار عندنا جائز، ضربَ له أَجَلًا، أم لا، ويضربُ الحاكمُ للبيع من الأجل قدرَ ما يختبر فيه مثلَه؛ خلافًا لأبي حنيفة، والشافعي، ¬
في إبطاله (¬1) إذا لم يُضرب له أجلٌ، وهو رخصة خارجة عن الأصل؛ للضرورة الداعية للبحث عن المشترى، وتقصِّي (¬2) معرفته، وأخذِ رأي من يريد (¬3) مشورته فيه (¬4). الثامن: لم يقل أبو حنيفة بهذا الحديث، وقال: هو منسوخ. وروي عن مالك قولٌ بعدم القول به، وقال: ليس بالموطأ، ولا الثابت -يريد: العملَ به-، ورأى أن الأصول تخالفه من وجوه: الأول: أن الأصل في ضمان المِثْلِيَّات: ضمانُها بالمثل، وفي المتقومات (¬5): ضمانُها بالقيمة من النقدين، وهاهنا إن كان اللبن مثليًا، فالمثل -وإن كان متقومًا- فالقيمة من النقدين، وقد وقع هاهنا (¬6) مضمونًا بالثمن، فهو خارج عن الأصلين جميعًا. وأجيب عنه بأن قيل: لا نسلِّم أن جميع الأصول تقتضي الضمانَ بأحد الأمرين، كما قلتم، بدليل أن الحرَّ يضمَّن بالإبل، وليست بمثلٍ، ولا قيمةٍ، والجنين يُضَمَّن بالغُرَّة، وليست بمثلٍ، ولا قيمةٍ، وأيضًا: قد ¬
يُضَمَّنُ المثليُّ بالقيمة إذا تَعَذَّرَتِ المماثلةُ، وهاهنا تعذرَتْ (¬1). أما الأول: فمن أتلف شاةً لبونًا (¬2)، كان عليه قيمتُها مع اللبن، ولا يجعل (¬3) بإزاء لبنِها لبنٌ آخرُ؛ لتعذر المماثلة. وأما الثاني: وهو تعذُّرُ المماثلة هاهنا، فلأن ما يردُّه من اللبن عوضًا عن (¬4) اللَّبَنِ التالِفِ، لو جازَ، لتحقق مماثلتُه له في المقدار، ويجوزُ أن يكونَ أكثرَ من اللَّبَنِ الموجودِ حالةَ العقد، أو أقلَّ. الاعتراض الثاني: أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمونُ مقدَّرَ الضَّمان (¬5) بقدر التالفِ، وذلك مختلفٌ، [فقدر الضمان مختلف] لكنه قُدِّر هاهنا بمقدار واحد، وهو الصاعُ مطلقًا، فخرج عن القياس الكلي في اختلاف ضمانِ المتلَفات، باختلاف قدرِها وصفتها. وأجيب عنه: بأن بعض الأصول لا تتقدر (¬6) بما ذكرتموه؛ كالموضِحَة؛ فإن أَرْشَها مقدَّرٌ مع اختلافها بالكِبَرِ والصِّغر، والجنين (¬7) مقدَّرٌ أَرْشُه، ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات، والحرُّ ¬
ديتهُ مقدرة، وإن اختلفت (¬1) بالصغرِ والكِبَرِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، والحكمة فيه: أن ما يقع فيه التنازعُ والتشاجرُ يُقْصَدُ قطعُ النزاعِ فيه بتقديرهِ بشيءٍ معلومٍ، وتُقَدَّمُ هذه المصلحةُ في مثل هذا المكانِ على تلكَ القاعدةِ؛ لما ذكر (¬2). الاعتراض الثالث: أن اللبن التالفَ إن كان موجودًا عندَ العقد، فقد ذهب جزءٌ من المعقود عليه من أصل الخِلْقَة، وذلك مانعٌ من الردِّ؛ كما لو ذهب بعضُ أعضاء المبيع، ثم ظهر على عيب، فإنه يمتنع الردُّ، وإن كان هذا اللبن حادثًا بعدَ الشراءِ، فقد حدث على ملك المشتري، فلا يضمنه، وإن كان مختلطًا، فما كان فيه موجودًا عند العقد (¬3)، منع الردّ، وما كان حادثًا، لم يجب ضمانُه. وأجيبَ عنه بأن قيل: متى يمتنع الردُّ بالنقص إذا كان النقصُ لاستعلام العيب، أو (¬4) إذا لم يكن؟ الأولُ ممنوع، والثاني مُسَلَّمٌ، وهذا النقص لاستعلام العيب، فلا يمنع الرد. الاعتراض الرابع: إثباتُ الخيار ثلاثًا مخالفٌ للأصول؛ فإن الخياراتِ الثابتةَ بأصل الشرع من غير شرط لا تتقدَّرُ بالثلاث (¬5)؛ كخيار ¬
العيب، وخيار الرؤية عند مَنْ يثبته، وخيارِ المجلس عند من يقول به (¬1). وأجيب عنه بأن قيل: إنما يكون الشيء مخالفًا لغيره إذا كان مماثِلًا له، وخولف في حكمه، وهاهنا هذه الصورةُ انفردتْ عن غيرها؛ بأن الغالبَ أن هذه المدةَ هي التي يتبين بها لبنُ الحلبة المجتمعُ (¬2) بأصلِ الخلقة، واللبنُ المجتمع بالتدليس، وهي (¬3) مدةٌ يتوقف العيبُ (¬4) عليها غالبًا؛ بخلاف خيار الرؤية، والعيب؛ فإنه يحصُل من غير هذه المدة فيهما، وخيارُ المجلس ليس لاستعلام عيب. الاعتراض الخامس: يلزم من القول بظاهره الجمعُ بين الثمن والمثمَّن للبائع في بعض الصور (¬5)، وهو ما إذا كانت قيمةُ الشاة صاعًا من تمر، فإنه يرجعُ إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها. وأجيب عنه: بأن الخبر وارد على العادةُ، والعادة أَلَّا تُباع شاةٌ بصاع. ق: وفي هذا ضعف. وقيل: بأنَّ (¬6) صاعَ التمر بدلٌ على اللبن، لا عن الشاة، فلا يلزم ¬
الجمعُ بين العِوض والمعوِّض. قلت: وفيه نظر. الاعتراض السادس: أنه مخالف لقاعدة الربا في بعضِ الصور، وهو ما إذا اشترى شاة بصاع، فإذا استردَّ معها صاعًا من تمرٍ، فقد استرجعَ الصاع، الذي هو الثمنُ، فيكون قد باعَ صاعًا وشاةً بصاعٍ، وذلك خلافُ قاعدة الربا عندَكم، فإنكم تمنعون (¬1) مثلَ ذلك. وأجيب عنه بأن قيل: إن الربا إنما يعتبر في العقود، لا في الفسوخ؛ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبًا بفضة، لم يجز أن يفترقا قبل القبض، ولو تقايلا في هذا العقد، لجاز أن يفترقا قبل القبض. الاعتراض السابع: قالوا: إذا كان اللبن باقيًا، لم يكلف بردِّه (¬2) عندكم، فإذا (¬3) أمسكَهُ، فالحكم كما لو تلف، فيرد الصاع، وفي ذلك ضمانُ الأعيان مع بقائها، والأعيانُ لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها؛ كالمغصوبِ وسائرِ المضمونات. وأجيب عنه: بأن اللبن الذي كان في الضَّرع حالَ العقد يتعذَّر ردُّه؛ لاختلاطه باللبن الحادثِ بعدَ العقد، وأحدُهما للبائع، والآخرُ للمشتري، وتعذُّرُ الردِّ لا يمنع من الضمان مع بقاء العين؛ كما لو ¬
غصب عبدًا، فأَبَق، فإنه يضمن قيمتَه مع بقاء عينه؛ لتعذُّر الردِّ. الاعتراض الثامن: قال بعضُهم: إنه (¬1) ثبت الردُّ من غير عيب ولا شرط؛ لأن نقصان اللبن لو كان عيبًا، لثبت به الردُّ من غير تصرية، ولا يثبت الردُّ في الشرع إلا بعيبٍ أو شرط. وأجيب عنه: بأن الخيار ثبتَ بالتدليس؛ كما لو باع رحًى دائرةً بماء قد جمعَه لها، ولم يعلمْ به (¬2). قلت: بل أقولُ: إن هاهنا شرطًا معنويًا، والشرط كما يكون لفظيًا يكون معنويًا (¬3)، وذلك أن المشتريَ رأى ضَرْعًا مملوءًا، فظن أن ذلك عادتُها (¬4)، وكأنه اشترط له ذلك من حيث المعنى، فجاء الأمرُ بخلافه، فوجب الردُّ لفقدان الشرط المعنوي، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 252 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهَى عَنْ بَيْع حَبَلِ الحَبَلَةِ؛ وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايعُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ؛ كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا (¬1). ¬
قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الشَّارِفَ -وَهِيَ الكَبِيرَةُ المُسِنَّةُ- بِنتَاجِ الْجَنِينِ الَّذِي فِي بَطْنِ نَاقَتِهِ. * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: حَبَل الحَبَلَة -بفتح الباء الموحدة- فيهما لا غيرُ. وما حكاه ع عن بعضهم: أنه أسكنَ الباءَ في حبل، فغلط من المحكيِّ عنه، بل الصوابُ الفتح ليس إلَّا. قالوا: والحبلة هنا: جمع حابِل؛ ككاتِب وكَتَبَة، وقاتِل وقَتَلَة. قال الأخفش: يقال: حَبِلَتِ المرأةُ فهي حابِلٌ، والجمعُ: نسوةٌ حَبَلَةٌ. وقال ابن الأعرابي وغيرُه: الهاء في (حبلة) للمبالغة (¬1). ولا خلاف بين أهل اللغة أن الحبل من خصائص الآدميات، ويقال ¬
فيهن: الحَمْلُ أيضًا، ولا يقال في غيرهن: الحبلُ، فالآدمياتُ تختص وتشارك، ويقال: حَمَلَت المرأةُ ولدًا، وحَبِلَت بولدٍ، وحَمَلَتِ الشاةُ سخلةً، ولا يقال: حَبِلَتْ. قال أبو عبيد: لا يُقال لشيء من الحيوان: حَبِل، إلا ما جاءَ في هذا (¬1) الحديث. وأما تفسير حَبَل الحَبَلة، فقال جماعة: هو البيعُ بثمنٍ مؤجَّلٍ إلى أن تَلِدَ الناقةُ، ويلدَ ولدُها، وبذلك فسره ابنُ عمر فيما رواه مسلم، وبه قال مالك، والشافعي، ومن تابعهم. وقال آخرون: هو بيعُ ولدِ ولدِ الناقةِ الحابلِ في الحال، وهذا تفسير أبي عبيدة مَعْمَرِ بنِ المثنى، وصاحبِه أبي عبيدٍ القاسمِ (¬2) بنِ سَلَّام، وآخرين من أهل اللغة، وبه قال أحمدُ، وإسحاق. ح: وهذا أقربُ إلى اللغة، لكن (¬3) الراوي هو ابنُ عمر، و (¬4) قد فسره بالتفسير الأول، وهو أعرفُ (¬5)، ومذهبُ الشافعي ومحققي الأصوليين أن تفسير الراوي مقدَّم (¬6) إذا لم يخالف الظاهرَ. ¬
وهذا البيعُ باطل على التفسيرين: أما الأول: فلأنه (¬1) يقع بثمن مجهول، والأجلُ يأخذ قسطًا من الثمن. وأما الثاني: فلأنه بيعُ معدومٍ ومجهولٍ، وغيرِ مملوك للبائعِ، وغيرِ مقدورٍ على تسلِيمِهِ (¬2). قال الإمام: ويصير هذا أصلًا في النهي عن البيع بثمن إلى أجَلٍ مجهول (¬3)، وقد اختلف المذهبُ عندنا في مسائل: كالبيع إلى العطاءِ، وهو خلافٌ في حال، لا خلاف في فقه، فمن أجاز البيع إلى العطاءِ، رآه معلومًا في العادة، ومن أباه، رآه يختلف في العادة. والتأويل الثاني: أن يكون المراد: بيعَ نتاجِ نتاجِ الناقة، فيكون ذلك جَهْلًا بالمبيع وصفته، وفيه أيضًا: الجهالةُ بزمن تسليمه، وكلُّ ذلك ممنوع (¬4). الثاني: الجزورُ من الإبل يقع على الذكر والأنثى، وهي تؤنث، والجمع الجُزُر، قاله الجوهري (¬5) (¬6). الثالث: النتاج: الولادة، يقال: نتُجَتِ الناقةُ؛ على ما لم يُسم ¬
فاعله، تُنْتَجُ نِتاجًا، وقد نتَجَها أهلُها نَتْجًا، وأَنْتَجَتِ الفرسُ: إذا حانَ نتَاجُها، وقال يعقوب: إذا استبانَ حملُها، وكذلك الناقة، فهي نتَوج، ولا يقال: منتج (¬1)، وأتت الناقةُ على مَنْتِجِها؛ أي: الوقتِ الذي تُنْتَج فيه، وهو مَفْعِلٌ -بكسر العين-، ويقال للشاتين إذا كانتا سِنًّا واحدة (¬2): نتَيجة، وغنمُ فلانٍ نتائجُ؛ أي (¬3): في سن واحدة، قاله الجوهري أيضًا (¬4). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 253 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى عَنْ ذَلِكَ (¬1) البَائِعَ وَالمُشْتَرِيَ (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: اختُلف في هذا النهي، هل هو على التحريم، أو على الكراهة؟ والأكثرون: على التحريم، لكن الفقهاء أخرجوا من هذا العموم بيعَها بشرطِ القطع؛ اعتبارًا للمعنى الذي لأجلِه نهي عن بيعها قبلَ بُدُوِّ صلاحها؛ فإنها قبل ذلك مُعَرَّضة للآفات والعاهات، فإذا بدا صلاحُها، أمنت الآفة (¬1) فيها غالبا، وقَلَّ غَرَرُها، وكَثُرَ الانتفاعُ بها؛ لأكلِ الناس إياها رُطَبًا، فلا يقصدون بشرائها الغَرَرَ، فإذا اشتُريت على القطع، لم يكن بذلك بأس؛ لزوال الغَرَر بالقطع. ¬
واختلفوا إذا باعها مطلقًا (¬1) من غير اشتراطِ قطعٍ، ولا إبقاءٍ (¬2)، فمنع ذلك مالكٌ، والشافعي، ودليلُهما ظاهر الحديث؛ فإنه إذا خرج من عمومه جوازُ البيع على القطع، دخل باقي صور البيع تحت النهي (¬3)، ومن جملة صور البيع: البيعُ على الإطلاق، أعني: من غير اشتراط قطعٍ ولا إبقاءٍ. و (¬4) قال ابن القاسم: إن جذَّها (¬5) مكانَه، فالبيعُ جائز. وقال ابن القصار: البيعُ فاسد حتى يشترط الجذاذ، وبه قال القاضي عبد الوهاب، والأبهري. قال اللخمي: وقولُ (¬6) ابن القاسم أحسنُ عند عدم الفائدة (¬7)، لأنَّ محل (¬8) البياعات على التقابض (¬9) في الثمن (¬10) والمثمن (¬11). ¬
وقال ابن الجلاب: فإن شرطَ قطعَها، فبقَّاها (¬1) مشتريها، ضمنَ مكيلتَها (¬2) إن كانت معلومة، أو قيمتَها إن كانت مجهولة (¬3)، وإنما قال ذلك؛ لأنهما يتَّهمان أن يكونا دخلا على التبقية، ومالك رحمه اللَّه ينظر لفعلهما، لا إلى قولهما، والمسألةُ مستوعبةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ. الثاني: قوله: "حتى يبدوَ صلاحُها"؛ أي: يظهر، وهو غير مهموز، يقال: بدا: إذا ظهرَ -من غير همز-، وبدأ في الشيء: إذا شرع فيه، بالهمز (¬4). ح: ومما ينبغي أن ينبه عليه: أنه (¬5) يقعُ في كثيرٍ من كُتُبِ المحدثين وغيرهم: حتى يبدوا -بالألف- في الخط، وهو خطأ، والصوابُ حذفها في مثل هذا للناصب، وإنما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصبٌ؛ مثل زيدٌ يبدو، والاختيارُ حذفُها أيضًا، ويقع مثله في: حتى تزهو، وصوابُه حذفُ الألف كما ذكرناه (¬6). قلت: تخصيصُه بـ: يبدو ويزهو بمفردهما عجيبٌ؛ فإن ذلك يقع كثيرًا في غيرهما في كتب المحدثين وغيرِهم (¬7)، نحو: يغزو، ¬
ويلهو، ويدعو، وأشباهها (¬1). وقوله: والصوابُ حذفُها للناصب، أعجبُ وأغربُ من الذي قبلَه؛ إذ ليس في العربية ألف يحذفها الناصب، وإنما يحذف الناصبُ النونَ، من الأمثلةِ الخمسةِ لا غيرُ. ثم إن (¬2) قوله: والصوابُ حذفُها للناصب، هذا (¬3) يُشعر بأنها كانت موجودة قبلَ دخول الناصب، وليس الأمرُ كذلك قطعًا. وقوله: إن إثباتها (¬4) في ذلك خطأ، ليس متفقًا عليه، بل أجاز الكسائي لحاقَ هذه الألف في حالِ النصب؛ فرقًا بين الاتصال (¬5) والانفصال. قال ابن عصفور: فيكتب عنده: لن يغزوَا زيدٌ عمرًا -بألف بعد الواو-، ولن يغزوك -بغير ألف-؛ لانفصال الفعل من الظاهر في المسألة الأولى، واتصاله بالضمير في المسألة الثانية؛ كما كتبوا (¬6): ضربوا زيدًا -بألف بعد الواو-، ولم يثبتوا الألف في ضربوك، فكان اللائق أن يقول: لا يجوزُ إثباتُها عند الجمهور، أو نحو ذلك مما يُشعر بالخلاف، وإلا، ¬
أوهمَ كلامهُ عدمَه، لاسيما على اصطلاحه (¬1) في تصحيح التنبيه (¬2). وقوله: و (¬3) إنما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصبٌ، ليس كذلك؛ لما تقدَّم آنفًا (¬4) من خلاف الكسائي رحمه اللَّه ومَنْ قال بقوله، فكان عدمُ هذا التنبيه خيرًا من وجوده، فلتعلمْ (¬5) ذلك، وباللَّه التوفيق (¬6). الثالث: قوله: "نهى البائعَ والمشتريَ" تأكيدٌ للمنع، وإيذانٌ بأن المنعَ -وإن كان احتياطًا لحق الإنسان-، فليس له تركُه مع ارتكاب النهي، فيقول: أسقطتُ حقي من الاحتياط؛ فإن الاحتياط هنا لمصلحة مشتري الثمار، وهي قبلَ بدوِّ الصلاح معرضةٌ للآفات والعاهات -كما تقدم-، فإذا أُجيحَتْ، حصل الإجحافُ لمشتريها، ومع هذا، فقد منعه الشرعُ ونهاه؛ كما نهى البائع؛ فإن ذلك من إضاعة المال المنهيِّ عنها، ولما يترتب على ذلك من التنازع والتخاصم، هذا في حقِّ المشتري، وأما البائع، فقيل: لأنه (¬7) يريد أكلَ المالِ بالباطل؛ أي: على تقدير ¬
إِجاحة الثمرة، وذلك ممنوعٌ أيضًا، فاستويا في المنع؛ لهذه المعاني (¬1)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 254 - عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْع الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: "حَتَّى تَحْمَرُّ"، قَالَ: "أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ " (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: "حَتَّى تُزْهِيَ": هو بضم التاء لا غير. قال ابنُ الأعرابي (¬1): يقال: زَهَا النخلُ، يَزْهُو: إذا ظهرتْ ثمرتُه، وأَزْهَى يُزْهِي: إذا احمرَّ أو (¬2) اصفرَّ. وقال الأصمعي: لا يقال في النخل: أزهى (¬3)، إنما يُقال: زها، وحكاهما أبو زيدٍ لغتين. وقال الخليل: أَزْهَى النخلُ: بدا صلاحُه. قال الخطابي: هكذا (¬4) يُروى حتى يَزْهُو (¬5)، والصواب في العربية: حتى تُزْهِيَ. قلت (¬6): ووجهُه (¬7): أن الأصل: حتى تَزْهُوَ؛ لأنه من الزَّهْو، ¬
فكان لقلب الواو ياءً موجبان: أحدهما: وقوعُها رابعة (¬1)، والثاني: كسرُ ما قبلها، فهي كيُدعي ويُغْزي، وأشباههما، إذا عُدِّيَتْ بهمزة النقل، فلما قُلبت الواو ياء، صار تُزْهي، واللَّه أعلم. قال الخطابي: والإزهاء في العربية (¬2): أن تحمرَّ أو تصفرَّ، وذلك علامةُ الصلاح فيها، ودليلُ خلاصِها من الآفة (¬3). قال ابن الأثير: منهم من أَنْكَر تُزْهي، كما أن منهم من أنكر تَزْهُو. وقال الجوهري: الزَّهْوُ: -بفتح الزاي-، وأهل الحجاز يقولون بضمها، وهو البُسْرُ الملوَّنُ، يقال: إذا ظهرت الحمرةُ أو الصفرةُ في النخل، فقد ظهر فيه الزَّهْوُ، وقد زَهَا النخلُ زَهْوًا، وأَزْهى لغةٌ. فهذه أقوالُ أهل العلم فيه، ويحصلُ (¬4) من مجموعِها جواز ذلك كلِّه، فالزيادةُ (¬5) من الثقة مقبولة (¬6)، ومن نقل شيئًا لم يعرفه غيرُه، قبلناه إذا كان ثقةً (¬7). ¬
الثاني: في هذه الرواية إشارةٌ لما تقدَّمَ من كون الثمار قبلَ بدوِّ صلاحها عُرضَةً للآفاتِ والعاهاتِ، وهي قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "أرأيتَ إن منعَ اللَّهُ الثمرةَ بم يستحلُّ أحدُكم مالَ أَخيه؟ "، وإن كان قد اختُلف في ذلك، هل هو من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو من كلام أنس؟ فائدة نحوية: اعلمْ: أن (ما) (¬1) الاستفهامية إذا كانت مخفوضة بالإضافة، أو بحرف الجر، حُذفت ألفُها، مثال الإضافة: قولُهم: مجيءَ مَ جئتَ؟ ومثلَ مَ أنت؟ ومثالُ حرف الجر: قوله تعالى: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]، ومنه في هذا الحديث: "فَبِمَ يستحلُّ أحدُكم مالَ أخيه؟ "، وأشباه ذلك كثيرة. وهذا بخلاف (ما) الخبرية، نحو قولك: رغبتُ فيما رغبتُ فيه، وجئتُ لما جئتَ إليه، فالألف ثابتة على حالها. قالوا: والفرق بينهما من وجهين. أحدهما: أن الاستفهام أكثرُ من الخبر، وما كَثُرَ استعمالُه، التُمِسَ تخفيفُه، ولا فرقَ في ذلك بين عمل اللسان وعمل البدن (¬2)، فلما حُذفت لفظًا، حذفت خَطًّا. والثاني: أن (ما) الاستفهامية اسمٌ تامٌّ غيرُ مفتقرٍ إلى صلةٍ ولا صفةٍ، و (ما) الخبرية موصولةٌ، والموصولُ والصلةُ كالشيء الواحد، ¬
فلو حُذفت ألف الخبرية، لوقع الحذفُ حشوًا لكلمة، ومحلُّ الحذف إنما هو الطرفُ (¬1)، وليس كذلك التامة؛ إذ لا صلةَ لها، فوقع الحذف فيها طَرَفًا (¬2) لا حَشْوًا، فليعلمْ ذلك؛ فإنه من النفائس (¬3) في فن العربية. الثالث: إذا كان في الحائط الواحد نخلٌ، فطابَ بعضُه، جاز بيعُه كلِّه، إذا كان طيبه متلاحِقًا متتابِعًا، ولا يُشترط طيبه كلِّه، وهذا الحديث دليلٌ على ذلك؛ لدلالته على الاكتفاء بمسمَّى الإزهاء وابتدائه من غير اشتراطٍ لكماله؛ لأنه جعل الإزهاء غايةً للنهي، وبأَوَّلِه يحصُل المسمَّى. ق: ويحتمل أن يُستدل به على العكس؛ لأن الثمرة المبيعةَ قبلُ -أعني: ما لم تُزْهِ (¬4) - من الحائط داخل تحتَ اسمِ الثمرة، فيمتنع بيعُه قبل الإزهاء، فإن قال بهذا قائل، فله أن يستدل بذلك (¬5). قلت: إنما تخيل ذلك إذا جمدنا (¬6) على اللفظ، وأهملنا المعنى. وبيانُ ذلك: أن الشرع جعل مطلَقَ الإزهاء علامةً للزمن الذي تؤمَن (¬7) فيه العاهةُ غالبًا، فحيثُ وُجدت العلامةُ -وإن قَلَّتْ-، عُمل ¬
عليها، ولم يُرد الشارع إزهاءَ الجميع؛ لأن ذلك كان يؤدي إلى فساد الحائط، أو جُلِّه؛ لأنَّا لو لم نجوِّزْ بيعَه إلا بأن يعمَّ الصلاحُ الحائط كلَّه، لكان في ذلك ضرر عظيم، ومَشقَّة شديدة؛ إذ لا يكادُ يلحق (¬1) الآخرُ بالأول إلا بفساد الأول، وهذا حرجٌ عظيم ينافي وضعَ الشريعة السمحة؛ إذ لم يجعل اللَّه علينا في الدين مِنْ حَرَج، نعم، لو كان الذي أزهى باكورةً، لم يجز بيعُ متأخره معه، بل يباع المبكِّر (¬2) وحدَه، وإنما منع أن يُباع معه؛ لاستقلال المتأخِّر بعدم الإزهاء، فهو داخلٌ تحت النهي. قال الأبهري: ولأنه لا يؤمَن فيه الجائحة إذا بيع في هذا الوقت، فيكون بيعُه غررًا، وقد نهى -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الغَرَر، وهذا راجع لما ذكرناه من استقلاله عن المبكر بعدم (¬3) الإزهاء، وكذلك لو كان في الحائط نوعان من النخل؛ صيفي وشتوي، لم يُبع أحدُهما بطيبِ الآخر، بل يُباع ما طابَ وحدَه، فإذا طاب الآخرُ، بيع -أيضًا- وحدَه؛ كما لا يجوز بيعُ ثمرة السنة الثانية مع الأولى. تكميل (¬4): لو لم يزه الحائطُ، وأزهى ما حوله من الحوائط، قال مالك: يجوزُ بيعه. وقال ابن القاسم: أحبُّ إلي أن لا يبيعه حتى يزهي. ¬
قال ابن يونس: و (¬1) الأولُ أَقْيَسُ؛ لأنه لو مَلَكَ ما حولَه، جاز بيعُ بعضِها بإزهاء بعض. قال القاضي عبدُ الوهاب: ولأن الزمانَ (¬2) الذي تؤمَنُ فيه العاهة غالبًا قد حصلَ (¬3). وفي المسألة فروعٌ مستوفاة في كتب الفقه. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 255 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا (¬1). ¬
قد تقدم الكلامُ على معنى هذا الحديث، وليس فيه زيادةٌ على ما تقدم إلا تفسير قوله: "حاضرٌ لبادٍ" بقوله: "لا يكونُ له سِمْسارًا"، وكأن هذه اللفظة أعجمية، واللَّه أعلم. * * *
الحديث السابع
الحديث السابع 256 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ المُزَابَنَةِ، والمُزَابَنَةُ (¬1): أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلًا بِتَمْرٍ كَيْلًا، أَوْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ (¬2). ¬
* الشرح: حاصلُ هذه التفاسير كلِّها (¬1) يرجع إلى بيعِ معلومٍ بمجهول من جنسه، وهذا حدُّ المزابَنَة. وربما قيل: بيعُ مجهول لمجهول (¬2) من جنسٍ واحد. والأولُ أظهر، فإن كان الجنسُ مما فيه (¬3) الربا، دخله وجهان من التحريم: الربا، والمزابنة. أما الرّبا: فلجواز أن يكون أحدُهما أكثرَ من الآخَر، ولا فرقَ بين تجويز ذلك، أو تبقيته من المبيع (¬4). وأما المزابنة (¬5): فلأن أصلَ الزَّبْنِ في اللغة: الدفعُ، ومنه قوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18]؛ أي: ملائكة النار؛ لأنهم يدفعون ¬
الكَفَرَةَ فيها للعذاب، ومنه قيل للحرب: زَبُونٌ؛ لأنها تدفع بَنِيهَا (¬1) للموت، ويقال ذلك -أيضًا- للمتبايِعَين؛ لأنهما يتدافعان عندَ البيع مدافعةً معنوية لا حسيةً، فيقول البائع: مئة، فيقول المشتري: خمسين؛ فكأنه يدفعُه عن الخمسين الأخرى التي أراد البائع أخذَها، ونحو ذلك، وكذلك إذا وقف أحدهما على ما يكره، تدافعا، فحرصَ على فسخ البيع، وحرص (¬2) الآخَرُ على إمضائه، وقد شُبه هذا بتسميتهم ما يؤخذ عن العيب: أَرْشًا؛ لما فيه من التنازع والخصومة، قال (¬3): يُقال: أَرَّشْتُ (¬4) بينَ القومِ تأريشًا (¬5): إذا أفسدْتُ، وألقيتُ بينهم الشرَّ، والأَرْشُ مأخوذ من التأريش. وإذا ثبت أن هذا أصلُه (¬6)، فإذا (¬7) كانت الأشياء متجانسةً، تعلقت الأغراضُ بالقِلَّة (¬8) والكثرة، فيقول كلُّ واحد منهما (¬9): لعل ما آخذُه أكثرُ، فأغبن صاحبي، وهذا لا يرتفع حتى يكونا جميعًا معلومَيْن، وأما ¬
إن (¬1) كانا مجهولين، أو أحدُهما، فهذا التدافُع حاصل، فمُنع لذلك، وإن لم يكن ما وقع عليه التبايُع فيه الربا (¬2)، فإن تبين الفضلُ في أحدِ الجانبين، جاز ذلك فيما يجوزُ فيه التفاضل، ويقدَّرُ (¬3) المغبونُ واهبًا (¬4) للفضل؛ لظهوره (¬5) له. قال الإمام: وإذا كانت الأشياء مختلفةً، ولا مانعَ يمنعُ من العقد عليها، لم يدخلْها التزابُنُ؛ لصحة انصرافِ الأغراض لاختلاف (¬6) المعاني من الأعواض (¬7) (¬8). وقوله: "أن يبيعَ ثمر حائطه (¬9) " في موضعِ خَفْض، بدلٌ من المزابنةِ بدلَ المصدرِ من الاسم، وبدلَ الشيء عن (¬10) الشيء، وهما بعين (¬11) واحدة. ¬
وقوله: "إن كان نخلًا بِتَمْرٍ كيْلًا" إلى آخره: ع: والظاهر: أن الكيلَ إنما هو في أحدِهما، وهو الذي "يَتَأتَّى فيه الكيلُ مما يَبِس، ويقع التخاطرُ في الآخَر، ولذلك نهى عنه؛ إذ لا يدري مقدار ما يدفع منه (¬1)، ولهذا (¬2) قلنا في غير الطعام الذي لا يجوز فيه التفاضُل: لو حقق (¬3) أنما دفعَ إليه أكثرَ أو أقلَّ (¬4)، لجاز إذ قد ارتفع. وأجمع العلماء: على أنه لا يجوز بيعُ الزرع قبلَ حصدِه بالطعام، ولا بيعُ العنب والنخل قبلَ جَذِّه بالتمر (¬5) والزبيب. واختلفوا في بيع رَطْبِ ذلك بيابسه مجذوذَيْن؛ فجمهورُهم: على منعه، ولا يجوز متفاضِلًا، ولا متماثِلًا، وأجازه أبو حنيفةَ متماثِلًا، وخالفه صاحباه، ومنعه أصحابُنا في كل رَطْبٍ ويابس من الثمار، وأجازَ بعضُهم ذلك فيما يجوز فيه التفاضلُ إذا تبينَ الفضلُ، وهو الصحيح، وعليه حُمل مجملُ قولِ الآخرين (¬6). * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 257 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: نهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ المُخَابَرَةِ، والمُحَاقَلَةِ، وعَنِ المُزَابَنَةِ، وَعَنْ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَأَنْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بِالدِّينار وَالدِّرْهَمِ (¬1)، إِلَّا العَرَايَا (¬2). ¬
المُحَاقَلَةُ: بَيع الحِنْطَةِ في سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ. * * * * الشرح: المخابرة: المزارَعَةُ ببعضِ ما يخرج من الأرض، قاله الجوهري، قال: وهو الخِبْر أيضًا، يريد: بالكسر (¬1). ع: ورويناه من طريق الطبري: الخَبر -بالفتح-، وفي "كتاب التميمي": الخُبر -بالضم-، كلُّه بمعنى المخابرة (¬2). قالوا: وهي مشتقةٌ من الخبير، وهو الأَكَّار؛ أي: الفلاح، هذا قول الجمهور. وقيل: مشتقةٌ من الخبار، وهي الأرضُ اللينة، وقيل: من الخُبْرَة، وهي النصيب، وهي بضم الخاء. (¬3) قال أبو عُبيد (¬4): هو النصيبُ من سمكٍ أو لحمٍ، يقال: تخبَّروا ¬
خُبَرة: إذا (¬1) اشتروا شاة، فذبحوها، واقتسموا لحمها. وقال ابن الأعرابي: من خَيْبَر (¬2)؛ لأن أولَ هذه المعاملة كان فيها، وهذا (¬3) ضعيف، واللَّه أعلم (¬4). وأما المحاقلة: فقد فسرها المصنفُ، وزاد غيرُه: واستكراءُ الأرضِ بالقمحِ (¬5). قال الإمام أبو عبد اللَّه: وبعضُ أهل اللغة يقول: الحقلُ اسمٌ للزرع الأخضر، والحقلُ اسمٌ للأرض نفسها التي يُزرع (¬6) فيها، وفي الحديث: "مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ" (¬7)؛ أي: بمزارعكم، يقول للرجل: احْقِلْ؛ أي: ازرعْ. وقال الليث: الحقل: الزرعُ إذا تشعَّب من قبل أن يغلُظَ سُوقُه، فإن كانت المحاقلةُ مأخوذةً من هذا، فهو من بيع الزرع قبل إدراكِه. ¬
وقال أبو عبيد (¬1): هي بيعُ الطعام وهو في سُنبله بالبُرِّ، مأخوذ من الحقل، وهو الذي تسميه النَّاس بالعراق: القراح. وقال قوم: هي المزارعَةُ بالجزء (¬2) مما تنبت الأرض. قال الإمام: الذي وقع في الحديث من التفسير يجمع هذا كلَّه؛ لأنَّا إن قلنا: إن ذلك تسمية للزرع الأخضر؛ فكأنه نَهَى عن بيعه بالبُرِّ؛ إذ بيعُه بالعروض والعين يجوز إذا كان معلومًا، وكانَ المحاقلة تدلُّ على ذلك؛ لأنها مفاعَلَة، ولذلك قال أبو عبيد في تفسيرها (¬3): إنها بيعُ الطعامِ في سُنْبُلِهِ بالبرِ، وظنَّ (¬4) الآخرون أنها بيعُه قبلَ زَهْوِه، فكأنه قال: نَهَى عن بيع الزرع الأخضر، وهذا يطابق قولَه: "نهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تُزْهِيَ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ" (¬5)، فهذه طريقةُ مَنْ صرفَ التسمية إلى الزرع الأخضر. ووقع الاختلافُ بينهم هل المراد: بيعُه وهو أخضرُ قبلَ زهوه، أم المراد: بيعُه في سنبله بقمح آخر لا يُعلم حصولُ التماثُلِ بينهما؟ والوجهانِ ممنوعان، إذا بيع في الوجه الأول على التبقية (¬6)، وطريقةُ ¬
مَنْ صرفَها إلى الأرضِ نفسِها، اختلف -أيضًا- هل المراد: اكتراؤها بالحنطة، أو اكتراؤها بالجُزْءِ مما تنبت (¬1)؛ والوجهان ممنوعان عندنا، وخالفَنا في جواز ذلك غيرُنا من العلماء (¬2). ع: اختلف العلماء في اكتراء الأرض بالحنطة والطعام (¬3)، وبما تنبته الأرض، وبالجزء (¬4) مما يخرج منها. فقال الإمام: اختلف في منعِ كراءِ الأرضِ على الإِطلَاقِ، فقال به طاووس والحسن؛ أخذًا (¬5) بظاهر هذا الحديث؛ يعني: حديث (¬6): أَنَّه نَهَى عن كِرَاءِ الأرضِ فعمَّ (¬7)، وأنه نَهَى عنِ المحاقَلَة، وفسَّرها الراوي بكراء الأرض (¬8)، فأطلق أيضًا. وقال (¬9) جمهور العلماء: إنما يمنع على التقييد دون (¬10) الإطلاق، واختلفوا في ذلك، فعندنا كراؤها بالجزء (¬11) لا يجوز، من غير خلاف، ¬
وهو مذهبُ أبي حنيفة، والشافعي، وقال بعضُ الصحابة وبعضُ الفقهاء بجوازه؛ تشبيهًا (¬1) بالقِراض. وأما (¬2) اكتراؤها بالطعام مضمونًا في الذمة؛ فأجازه أبو حنيفة؛ لقول رافعٍ في آخر حديثه: فأمّا شيءٌ معلومٌ مضمونٌ، فلا بأسَ بِهِ، وحملَ ذلك أصحابُنا على تفسيرِ الراوي واجتهاده، فلا يلزم الرجوعُ إليه. وقال ابنُ نافعٍ من أصحابِ مالكٍ: يجوز كراؤها بالطعام أو غيره؛ كأن ينبت فيها أوَّلًا، إِلَّا الحنطةَ وأخواتها، إذا كان ما تُكرى (¬3) به خلافَ ما يُزرع فيها. قال ابن كنانة من أصحاب مالك: لا تُكرى بشيء (¬4) إذا أُعيد فيها نبتٌ، ولا بأس بغيره، كان طعامًا أو غيره، وقد أضيف هذا القول إلى مالك، وقد تعلق أصحابُنا بما رُوي: "أَنَّه نَهَى عن كراءِ الأرضِ بالطعامِ"، فعَمَّ، ولأنَّ الناهيَ (¬5) عنها يقدر أنه على ملك ربِّ الأرض، وكأنه باعه بطعام، فصار كبيع الطعامِ بالطعام إلى أَجَلٍ، وكذلك المشهورُ من مذهبنا النهيُ عن كِرَائِهَا بما تنبته، وإن لمْ يكنْ طَعَامًا؛ لما رُوِيَ: ¬
أَنَّه نَهَى عن كراءِ الأرضِ بما يخرجُ منها. وقد قال ابنُ حنبلٍ: حديثُ رافعٍ فيه ألوان؛ لأنه (¬1) مرةً حَدَّثَ به (¬2) عن عُمومته، ومرةً عن نفسِه، وهذا الاضطرابُ يوهنه عنده. وقد خرج مسلم: أَنَّ رافعًا (¬3) سُئل عن كراءِ الأرضِ بالذهبِ والوَرِقِ، فقال: لا بأسَ به، إنما كان الناسُ يُؤاجرون على عهد النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بما على المَاذِيَانَات، وأَقْبال الجداولِ، وأشياءَ من الزرع، فيهلِكُ هذا، ويَسْلَمُ هذا، ويَسْلَمُ هذا، ويَهْلِكُ هذا (¬4)، ولم يكن للناس كراءٌ إِلَّا هَذا، فلذلك زَجَرَ عنه، فأمّا شيءٌ معلومٌ مضمونٌ، فلا بأسَ به (¬5). وهذه إشارة منه إلى أن النهي يتعلق بهذا الغرر (¬6)، وما يقع في هذا من الخطر، ولهذا اضطربَ أصحابُ مالك فيه، وقالوا فيه ما ذكرناه عنهم من الاختلاف. وفي بعض طرق مسلمٍ: كُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ على أَنَّ لنا هذهِ، ولهم هَذِه، فربما أَخْرَجَتْ هَذ، ولم تُخْرِجْ هذه، فنهانا عن ذلكَ، وأما ¬
الوَرِقُ، فلم يَنْهَنا (¬1)، انتهى كلامُ الإمام (¬2). وأما المزابنةُ وبيعُ الثمارِ قبلَ بدوِّ صلاحِها، فقد تقدَّم الكلامُ عليها. وقوله: "إِلا العرايا": استثناءٌ من المزابنة؛ للرُّخصة في ذلك، على ما سيأتي في باب: العرايا إن شاء اللَّه تعالى. * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع (¬1) 258 - عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ (¬2). ¬
أما ثمنُ الكلب، فقد تقدم من كلام الإمام في مقدمة هذا الكتاب -أعني: كتابَ البيوع- ما يرشد إلى حكمِه مستوعَبًا، فليراجِعْه (¬1) هناك مَنْ أراده، لكن سمعتُ بعضَ شيوخنا يحكي عن القنازعي (¬2): أنه نقل عن مالك: أنه أجاز بيعَ الكلبِ في ثلاثة مواضعَ: في التَّرِكَة، وفي التَّفْليس، وفي المغنم. وأما مهر البغي، فهو ما تأخذه الزانية على الزنا، وسماه مهرًا؛ لكونه على صورته (¬3) على سبيل المجاز، واستعمالًا للوضع اللغوي، ويجوز أن يكون مجازُه من مجاز التشبيه إن لم يكن المهرُ في الوضع ما يقابل به النكاحَ (¬4). وهو حرام بإجماع المسلمين. ¬
فائدة تصريفية: بَغِيٌّ، وزنُه فَعُولٌ، والأصل: بَغُوْيٌ، فلما اجتمعت الياء والواو (¬1)، وسُبقت إحداهما (¬2) بالسكون، قلبت الواوُ ياء (¬3)، وأُدغمت الياءُ في الياء، وكسرت الغينُ إِتباعًا لكسرة الياء قبلَها (¬4) لتصحَّ الياءُ الساكنة، وفَعولٌ هنا بمعنى فاعِلَة (¬5)، ولذلك أتَى بغير هاء التأنيث، وهي صفةٌ لمؤنث؛ كما يأتي فَعِيلٌ للمؤنث بغير هاء إذا كان بمعنى مَفْعولٍ (¬6)، نحو: امرأةٌ قتيلٌ، ونحو قوله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} [يس: 72]، وقيل: وزنه فَعيل بمعنى فاعِل، ورُدَّ بأنه لو كان فَعيلًا، للزمته التاءُ؛ لأن فَعيلًا بمعنى فاعِل إذا كان للمؤنث لزمته التاءُ؛ نحو: امرأة رحيمةٌ؛ بمعنى راحمة، وعليمةٌ؛ بمعنى عالمة، ولمَّا أتى بغير تاء، عُلم أن وزنه فَعول، لا فَعيلٌ. وأجيب: بأنه لم تلحقها التاء؛ لأنه للمبالغة. وقيل: لم تلحقه (¬7)؛ لأنه على النسب كظالف (¬8)، وطامِث (¬9)، ¬
والأولُ أظهر وأقربُ للقواعد، واللَّه أعلم. ع (¬1): والبغاء -بكسر الباء، ممدود (¬2) -: الزِّنا والفُجور، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33]، يقال: بَغَتِ المرأةُ تَبْغي بِغاءً -بكسر الباء والمد-، وامرأة بَغِيٌّ، ومنه قولُه تعالى: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (¬3) [مريم: 25]، وجُمع بَغِي: بَغَايَا. وأما حُلوان الكاهن، فهو ما يُعطى على كهانته، يقال منه: حَلَوْتُه (¬4) حُلْوانًا: إذا أعطيته. قال الهرويُّ وغيرُه: أصلُه من الحلاوة، شبه بالشيء الحلو؛ من حيث إنّه يأخذه سهلًا بلا كلف (¬5)، ولا في مقابلته (¬6) مشقة، يقال: حَلَوْتُه: إذا أطعمتُه الحُلْوَ (¬7)؛ كما يقال: عَسَلْتُه: إذا أطعمتُه العسلَ. قال أبو عبيد: ويطلق الحلوان -أيضًا- على غيرِ هذا، وهو أن يأخذ الرجل مهرَ ابنتِه لنفسِهِ، وذلك عيبٌ عند النساءِ، قالت امرأة تمدحُ زوجَها: [الرجز] ¬
وَلَا يَأخُذُ الحُلْوَانَ عَنْ بَنَاتِنَا (¬1) قلت: والحلوانُ -أيضًا-: الرشوة. قال البغوي، وع (¬2): أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن؛ لأنه عوضٌ عن محرَّمٍ، ولأنه أكلُ المال بالباطلِ. قال: وكذلك أجمعوا على تحريم أجرة المغنية للغناء، والنائحةِ للنَّوْح. ع: وما جاء في غير مسلمٍ من النهي عن كسب الإماء راجعٌ إلى ما تقدَّمَ (¬3) من كسبهنَّ بالبغاء؛ بدليل قولهِ في بقية الحديث: "إِلَّا مَا كَانَ مِنْ كَسْبِ يَدِهَا". قال الخطابي: وحلوانُ العَرَّافِ حرامٌ كذلك، والفرقُ بين الكاهنِ والعَرَّاف: أن الكاهنَ إنما يتعاطى الخبرَ عن الكوائنِ في مستقبلِ الزمانِ، ويَدَّعي معرفةَ الأسرار. والعراف: هو الذي يتعاطى معرفةَ الشيءِ المسروقِ، ومكان الضالَّة، ونحوهما من الأمورِ. ذكر هذا في كتاب: البيوع من "معالم السنن"، ثم قال في باب: النهيِ عن إتيانِ الكهان: الكاهن: هو الذي يدَّعي مطالعةَ علمِ الغيب، ¬
ويخبرُ الناسَ عن الكوائن، وكان في العرب كَهَنّةٌ يَدَّعون أنهم يعرفون كثيرًا من الأمورِ. فمنهم: مَنْ كان يزعم أن له رؤساءَ (¬1) من الجن، وتابعةً تُلقي إليه الأخبار. ومنهم: مَنْ كان يدَّعي أنه يستدرك الأمورَ بفَهْم أُعْطِيَهُ. وكان (¬2) منهم: من يسمَّى عَرَّافًا، وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمورَ بمقدِّماتِ أسبالب يستدلُّ بها على مواقعِهَا؛ كالشيء يُسرق، فيعرف المظنون به السرقة، وتتهم المرأة بالزنية، فيعرف مَنْ صاحبُها، ونحو ذلك من الأمور. ومنهم مَنْ كان يسمِّي المنجِّمَ كاهنًا. قال: وحديثُ إتيان الكاهن (¬3) يشتملُ على النهي (¬4) عن (¬5) إتيان (¬6) هؤلاءِ كلِّهم، والرجوعِ (¬7) إلى قولهم، وتصديقِهم فيما يدَّعونه من هذه الأمور (¬8). ¬
ومنهم: مَنْ كان يدعو الطبيبَ (¬1) كاهنًا، وربما دَعَوْه (¬2) -أيضًا- عَرَّافًا، فهذا غيرُ داخل في جملة النهي (¬3)، وإنما هو مغالطةٌ في (¬4) الأسماء، وقد ثبتَ عن رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الطِّبُّ، وأباحَ العلاجَ والتداويَ، انتهى كلام الخطابي (¬5). ح (¬6): (¬7) قال الإمام أبو الحسن الماورديُّ في آخر (¬8) كتابه (¬9) "الأحكام السلطانية": ويَمْنعُ المحتسبُ مَنْ يَكْتَسِبُ (¬10) بالكهانةِ واللهو، ويؤدِّبُ (¬11) عليه الآخذَ والمعطيَ (¬12). ق: وقد قام الإجماعُ على تحريم هَذَين؛ لما في ذلك من بذلِ ¬
الأعواض فيما لا يجوزُ مقابلَتُه بالعِوَض، أما الزِّنا، فظاهرٌ، وأما الكهانة، فبطلانها، وأخذُ العوضِ عنها من باب أكلِ المالِ بالباطل، وفي معناها (¬1) كلُّ ما يمنع منه الشرعُ من الرَّجْمِ بالغيب (¬2) (¬3). * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العَاشِرُ 259 - عَنْ رَافِعٍ بْنِ خَدِيجٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "ثَمَنُ الكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ البَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ" (¬1). ¬
* التعريف: رافِعُ بنُ خَدِيجِ: بنِ عديِّ بنِ زيدِ بنِ جُشَمَ بنِ حارثةَ بنِ الحارثِ ابنِ الخزرجِ، الأَنْصاريُّ، الحارثيُّ المدنيُّ. كنيته: أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو رافع. كان يخضِبُ بالصُّفْرة، ويحفي شاربه، وكان يُعد من الرُّمَاةِ، أُصيب بسهمٍ يومَ أُحد في تُرقُوَته، فبقيت الحديدةُ في ترقوته (¬1)، فقال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ شِئْتَ نزَعْتُ السَّهْمَ وَتَرَكْتُ القُطْنَةَ (¬2)، وَشَهِدْتُ لَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَّكَ شَهِيدٌ"، فتركَها، وكان إذا ضحكَ فاستغرق (¬3)، بدا ذلك السهمُ. استُصغر يومَ بدر، وأُجيز يومَ أحد، وتوفي سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة ثلاث وسبعين بالمدينة، وله ستٌ وثمانون سنة. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمانية وسبعون (¬4) حديثًا، اتفقا منها على خمسة أحاديث، وانفرد مسلم بثلاثة. ¬
روى عنه: عبدُ اللَّه بنُ عمرَ بنِ الخطابِ، والسائبُ بنُ يزيدَ، وحنظلةُ بنُ قيسٍ، وعبدُ اللَّه بن رفاعةَ، وعطاءُ بنُ صُهَيْب مولاه، وسليمانُ بنُ يَسارٍ، وغيُرهم. روى له الجماعة -رضي اللَّه عنه- (¬1). * الشرح (¬2): (¬3) أما ثمن الكلب، فقد تقدم في أول كتاب: البيوع ما تعرف (¬4) منه علَّة النهي، وعلَّة الجواز حين أجاز بَيعه مَنْ أجازَه. ولنذكر هاهنا قاعدةً كلية، فنقول: كلُّ حيوانٍ طاهر ليس بذي حرمةٍ، منتفعٍ به في الحال، أو (¬5) المآل، لم يتعلّق (¬6) به حقٌّ لغير ¬
المالك، فبيعُه جائز (¬1). فقولنا: طاهر؛ لأن الشافعي يرى الكلبَ نجسًا، وهو قولُ عبدِ الملك، وسحنون من أصحابنا، والنجاسةُ عنده علَّة في منع البيع. وقولنا: ولا ذي حرمة: احترازٌ مما فيه شائبةُ حُرِّيَّة؛ كأم الولد، والمعتَقِ بعضُه، والمعتَقِ إلى أجلٍ، والمكاتَبِ، والمُدَبَّر (¬2)، وأجاز الشّافعيُّ بيعَ المدبَّرِ. وقولنا: منتفَعٍ به في الحال: لتخرجَ الحشراتُ وغيرُها مما لا منفعةَ فيه البتةَ. وقولنا: أو (¬3) المآل: ليدخُلَ العبدُ الصغيرُ المرجُوَّةُ (¬4) منفعتُه فيما يُستقبل. وقولنا: لم يتعلَّق بهِ حقٌّ لغير المالك: ليخرجُ بيعُ العبدِ المستأجرَ، والمخدَم، وإن كان منتفَعًا به في المآل. وإذا علمتَ هذا، علمتَ أن الكلب الذي لا يجوز كسبُه ولا اقتناؤه، لا يجوز بيعُه؛ لأن ذلك معاوضة على (¬5) ما لا منفعةَ فيه، فهو من باب أكلِ المالِ بالباطلِ. ¬
وإن كان مما يحلُّ اقتناؤه لزرعٍ، أو ضَرْعٍ (¬1)، أو صيدٍ، فقال الإمامُ أبو عبدِ اللَّه من أصحابنا (¬2): من كره بيعَه؛ لهذا الحديث، وقال: ليس إباحةُ المنفعةِ تجيز المبايعةَ؛ كأم الولد يُنتفَع بها ولا تُباع، ومن أجازَ بيعَه منهم، حملَ هذا الحديثَ على ما لا يحلُّ اقتناؤه واتخاذُه، وقد قدمنا أنه لا يجوز بيعُه، أو حَمَلَهُ على أنهُ كانَ حين أمر بقتلِ الكلابِ، فلما وقعت الرخصةُ في كلب الضَّرْعِ وما ذُكر معه، وأجيز اقتناؤه، وقعتِ الرُّخصَةُ (¬3). قلت: واختلف -أيضًا- قولُ مالك فيما أُبيح منها، فرويَ عنهُ الإجازة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وروي (¬4) المنعُ، وهو قوله في "الموطأ". ع: واختُلف في التأويل على مالكٍ، هل هو على الكراهةِ، ويمضي إذا وقعَ؛ لقوله في "الموطأ": يكرهُ (¬5) ثمنُ الكلبِ، وروى عنه ابن نافع: لا بأسَ ببيعِه في الميراثِ والغنائم. ويُكره للرجل ابتداءً، وهو عنده على التحريم، فيردُّ، وهو قولُ ¬
الشافعيُّ، والأوزاعيُّ، وأحمدُ. واختلف أصحابُ مالك على القولين، وابنُ القاسم يكرهه للبائعِ دونَ المشتري للضرورةِ إليهِ. ثم اختلفوا على القول بمنع بيعِه فيمن قتلَه، هل عليه قيمتُه؟ واختلف (¬1) قولُ مالك في التزامِ (¬2) القيمة لما (¬3) يجوز اتخاذُه، وإسقاطِه في غيره. وقال أبو حنيفة وأصحابه: في الجميع القيمةُ. وقال الشافعيُّ، وأحمدُ: لا قيمةَ له في الجميعِ. تكميل: وقد جاء- أيضًا (¬4) - النهيُ عن ثمن السِّنَّوْر، وحُمل على ما لا يُنتفع به، أو على أنه نهيُ تنزيه؛ ليعتادَ النّاسُ هبتَه وإعارتَه، والسماحةَ فيه؛ كما هو الغالب، فإن كان مما يُنتفع به، صحَّ البيع فيه إن وقعَ، وكان (¬5) ثمنُه حلالًا؛ هذا مذهبنا، ومذهبُ عامة العلماء، إِلَّا ما حكى ابنُ المنذر عن أبي هريرةَ، وطاوسٍ، ومجاهدٍ، وجابرِ بنِ يزيد: أنه لا يجوزُ بيعُه، واحتجوا بالحديث الواردِ فيه، وأُجيب عنه بما تقدم. ح: وأما ما حكاه الخطابي، وأبو عمرَ بنُ عبدِ البر: من أن الحديث ¬
في النهي (¬1) ضعيفٌ، فليس (¬2) كما قالا، بل الحديثُ صحيح، رواه مسلمٌ، وغيرُه، وقولُ ابنِ عبدِ البر: لم يروِه عن أبي الزُّبير غيرُ حماد ابنِ سلمةَ، غَلَطٌ منه أيضًا؛ لأن مسلمًا قد رواه في "صحيحه" كما ترى من رواية معقلِ بنِ عبد اللَّهِ، عن أبي الزُّبير، فهذان ثقتان روياه عن أبي الزُّبير، وهو ثقة أيضًا (¬3). قلت: وهذا معنى قول ع (¬4) في "الإكمال"، واللَّه أعلم (¬5). وقوله: "وكسبُ الحجامِ خبيثٌ": اختُلف في المراد بخبيثٍ هنا، هل على (¬6) التحريم، أو الكراهة؟ فقال (¬7) الإمام (¬8): المرادُ به (¬9): التنزُّهُ (¬10) عن كسبه (¬11)؛ لأنها من ¬
الصنائع الذميمة المستقذَرَة، والشرعُ يحضُّ على مكارم الأخلاق، والتنزُّهِ (¬1) عن الدناءة، والدليلُ على ذلك قولُ ابنِ عباسٍ في كتاب "مسلم": حَجَمَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عبدٌ لبني بَيَاضَةَ، فأعطاهُ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أجرَه، وكَلَّمَ سيدَه، فخفَّفَ عنه ضَريبتَهُ، ولو (¬2) كان سُحْتًا، لم يُعْطِه (¬3). وذهب بعضُ النَّاس إلى منع ذلك في الأحرار، واستعمل الحديث فيمن وقع (¬4) على صفة ما وقع عليه، وأظنهم يجيزونه في العبد ليعلفَ به نواضِحَه ورقيقَه. وفي "التّرمذي": أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- استؤذِنَ في إجارةِ الحجَّامِ، فنهى الذي استأذَنَه عنها (¬5)، فلم يزلْ يستأذنُهُ ويسألُه، حتى قال (¬6): "اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ (¬7) وَرَقِيقَكَ" (¬8). ¬
قلت: الناضحُ البعيرُ يُستقى (¬1) عليه، والأنثى ناضِحَةٌ، قاله الجوهري (¬2). وممن خصَّه بالعبيدِ: أحمدُ بن حنبل، وفقهاءُ أصحاب الحديثِ؛ أخذًا بظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ وَرَقِيقَكَ"، وهو في "الموطأ" هكذا من رواية مالك رحمه اللَّه (¬3). ع: وعامة الفقهاءِ على خلافِ (¬4) قولهم، وأنه جائز أكلُه، وحملوا الحديثَ على التنزُّهِ (¬5)، والحضِّ على مكارم الأخلاق؛ إذ لا يجوز للرجلِ أن يُطعَم عبيدَه ما لا يحلُّ لهُ أكلُه، وجعلوا إباحتَه هذه ناسخةً لقوله: "خَبِيثُ"، والخبيثُ الحرامُ (¬6)، وأنه (¬7) آخرُ الأمرين من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ح (¬8): وقيل (¬9): إن النهي عن كسب الحجام قد يحتمل أن يكون ¬
ببيع (¬1) (¬2) ما يفصِدُه من الحيوانات لمن يستجيز أكلَهَا من الكَفَرَة، أو لاستعمالها في بعض الأشياء، واحتجَّ على ذلك بقوله: "نَهى عنْ ثَمَنِ الدَمِ (¬3) " (¬4). وقيل: إنما كره؛ لأنه لم يشترط أجرةً معلومةً قبلَ العمل، وإنما يعمل غالبًا بأجر مجهول، وهذا لا تعلُّقَ فيه، وقد أجازَ العلماءُ مثلَ هذا على ما استمرَّتْ فيه العادة في المكارَمَة (¬5)، وإن كان لابن حبيبٍ من أصحابنا ما ظاهرُه المنعُ في كلِّ إجارة حتى يُسَمَّى الأجرُ. وحكى الداودي في هذا الباب جوازَ ما جرتْ به العادة -أيضًا- في معاملة الجزار، وبياع الفاكهة، ودفع الثّمن (¬6) ليعطيك مما يبيعُه دونَ أن تُساومه (¬7)، أو تعرفَ كيفيةَ (¬8) بيعِه، واللَّه أعلم (¬9). ¬
(¬1) قلت: وهو الذي يعبر عنه أصحابنا ببيعِ المعاطاة، والشافعيةُ يشترطون الإيجابَ والقبول، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب العرايا وغير ذلك
باب العرايا وغير ذلك الحديث الأول (¬1) 260 - عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرَخَصَ لِصَاحِبِ العَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا (¬2) وَلِمُسْلِمٍ: بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا (¬3). ¬
* التعريف: زَيْدُ بنُ ثابِتِ بنِ الضحَّاكِ بنِ زيدِ بنِ لوذَانَ -بضم اللام (¬1) وبالذال المعجمة- ابنِ عَمرِو بنِ عبدِ عوفِ بنِ غنمِ بنِ مالكِ بنِ النجَّار (¬2). وقيل: زيدُ بنُ ثابتِ بنِ الضَّحَّاكِ بنِ حارثةَ بنِ زيدِ بنِ ثعلبةَ، الأنصاريُّ، النجاريُّ، المدنيُّ. يكنى: أبا سعيد، وقيل: أبو خارجة، كان أحدَ الأحدَ عشرَ الذين كانوا يكتبون الوحيَ لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وأبيُّ بنُ كعب، وزيدُ بن ثابت، ومعاويةُ، وحنظلةُ بنُ الرَّبيع، وخالدُ بن سعيدِ بنِ العاص، وأبانُ بن سعيد، والعلاءُ بن الحضرميِّ. وقال ابن الجوزي: وكان المداومُ له على الكتابة زيدًا، ومعاويةَ، رضي اللَّه عنهم أجمعين. ¬
قتل أبوه يوم بُعاث قبل هجرة النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان أحدَ الفقهاء الذين يُفتون على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان من خيرِ الأئمَة (¬1) عِلْمًا وفِقْهًا وفَرائِضَ، من الراسخين، وكان يكتب الكتابين (¬2) العربيَّ والسريانيَّ. روي عنه: أنه قال: قال لي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا زيدُ؟ أَتُحْسِنُ (¬3) السُّرْيانيَّةَ؟ "، فقلت: لا، قال: "فَتَعَلَّمْها (¬4)؛ فَإِنَّهُ يَأْتِينَا كُتُبٌ"، قال: فتعلمتُها في سبعةَ عشرَ يومًا (¬5). وفي رواية عنه قال: لما قَدِمَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، انطُلِق بي إليه، فقيل: يا رسولَ اللَّه! هذا غلامٌ (¬6) من بني النجار، قد قرأ مما أُنزل عليك بضعةَ عشرَ سورةً، فاستقرأني، فقرأتُه، فأعجبه، فقال لي: "تَعَلَّمْ كِتَابَ يَهُودَ؛ فَإِنِّي لا آمَنُهُمْ عَلَى كِتَابِي"، فتعلمتُه في بضعةَ عشرَ (¬7) ليلة، قال: فكنتُ أكتبُ إليهم، وأقرأ كتابهم إذا كتبوا إليه (¬8). ¬
(¬1) روى عنه من الصحابة: عبدُ اللَّه بن عمر، وأبو الدرداء، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وأنسُ بنُ مالك، وأبو هريرة، وسهلُ بنُ أبي حَثْمَةَ (¬2)، وغيُرهم. ومن التابعين: سعيدُ بنُ المسيب، والقاسمُ بنُ محمد، وسليمانُ ابنُ يسار (¬3)، وعطاءُ بنُ يسار، وأبانُ بنُ عثمانَ، وبِشْرُ بنُ سعيد، وخارجةُ وسليمانُ ابناه، وقَبيصةُ بنُ ذُؤيب، وغيُرهم. وكان ممن حَفِظَ القرآنَ على عهدِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. واختُلف في وفاته، فقيل: سنة خمس وخمسين، وقيل: سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة خمس وأربعين، قيل: والصحيح الأول (¬4)، واللَّه أعلم (¬5). ¬
* الشرح: العَرِيَّة -مشددة الياء-، وهي النخلة يُعريها صاحبُها رجلًا محتاجًا، فيجعل له ثمرَها عامَها، فيعروها؛ أي: يأتيها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، وإنما زِيدَتْ (¬1) فيها الهاء؛ لأنها أُفردت فصارت في عداد (¬2) الأسماءِ؛ مثل النطيحةِ والأكيلةِ، ولو جئت بها مع النخلة، لقلتَ: نخلة عَرِيٌّ، قاله الجوهري (¬3). قلت: وهذا قريبٌ مما فَسَّرَ به مالك العرية، فإنه قال: هي أن يُعري الرَّجلُ؛ أي: يهبُ ثمرةَ نخلةٍ أو نخلات، ثم يتضرر بمداخلة الموهوب له، فيشتريها منه بخُرْصها تمرًا، هذا أو نحوه، على شروط يأتي ذكرها إن شاء اللَّه تعالى. ع قيل: سميت عريّة؛ لأنها عَرِيَتْ من السَّوم عندَ البيع للتمر، فيكون اسمًا للنخلة. وقيل: سميت بذلك؛ لتخلِّي مالِكِها عنها من بين نخلِه؛ أي: عريتْ من جملتها، فيكون على هذا فَعيلة، بمعنى فاعلة. وقيل: لأنها عريتْ من جملة التحريم، وعلة المزابنة. وقيل: بل هي النخلة للرجل في نخل غيره، فيتأذى به (¬4) صاحبُ ¬
النخل، فرخص له في شرائها بخرصها. ومعناها هنا الانفراد، يقال: أعريتُ هذه النخلةَ: إذا أفردتها بالبيع أو الهِبَة. وقيل: العريّة: الثمرةُ إذا أرطبتْ سُميت بذلك؛ لأن النَّاس يعرونها، أي: يأتونها (¬1) للالتقاط لثمرها. وقال الشافعي رحمه اللَّه: العرية: بيعُ الرطب على رؤوس النخل بقدر كيلِه من التمر (¬2) خرصًا فيما دون خمسة أوسق (¬3). ق: ويشهد لتفسير مالك أمران: أحدهما: أن العريةَ مشهورةٌ بين أهل المدينة، متداوَلَةٌ بينهم، وقد نقلها مالكٌ هكذا. والثاني: قوله: "لصاحبِ العريَّة"؛ فإنه يشعر (¬4) باختصاصه بصفة يتميز (¬5) بها عن غيره، وهي الهِبَة (¬6) الواقعة، وأنشد في تفسير العرايا بالهِبَة قول الشاعر: [الطويل] ¬
لَيْسَتْ بَسنْهَاءَ وَلَا رَجبية ... وَلَكنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ المَوَاحِلِ (¬1) (¬2) ع: وقد ذهب أحمدُ بنُ حنبل في تأويل العرايا إلى ما ذهب إليه مالكٌ، إِلا أنه خالفه في جواز بيعِها من ربِّها وغيرِه، وهو قولُ الأوزاعيُّ؛ لظاهرِ إطلاقِ الحديثِ، وعموم بيعها. ومشهورُ مذهب مالك: قصرُ جوازِ بيعِها على ربِّها بخرصها تمرًا (¬3) إلى الجدادِ، وذلك بعد بدوِّ صلاحِ العريَّة (¬4). وروي عنه: أنه لا يجوز بخرصها، ويجوز بغيره. وروي عنه: أنه يجوز بخرصها وبغيره، وبالعروض؛ يريد: على الجدِ. وروي أنه لا يجوز شراؤها إِلَّا بخرصها، ولا يجوزُ بغيره من دنانير أو دراهم، أو غير ذلك؛ لأنه من باب العَوْد في الهِبَةِ، وبالخرصِ رخصةٌ لا تتعدَّى، فقيل: اختلافُ قولهِ في ذلك على اختلافِ الأصلِ في تقديمِ خبرِ الواحدِ على القياسِ على الأصولِ، أو تقديمها عليه وعلى الأصل في أن الرّخَصَ لا يُتعدى بها مواضعُها، فإذا منع ¬
بالخرص، قدم القياس على الأصل في النهي عن بيع ثمر (¬1) النخل بالتمر (¬2) كيلًا مع اختلاف النَّاس في معنى الحديث، لكن هذا القول ضعيف وشاذ من قوله؛ لأن في تفسير هذا الحديث هذا الاستثناء، فليس الأخذُ ببعضه أولى من الأخذ بباقيه. وأما مشهور قوله: بأنه لا يجوز إِلَّا بخرصها إلى الجداد، فلم يَرَ تعدِّيَ الرُّخصة عن وجهها، وهو أظهرُ، ورأى في قوله: عموم شرائها بكل شيء، القياسَ على الرُّخصة بالخرص، وأنه إذا جاز به، كان بغيره أولى (¬3)، مع أنها هبةُ منافع، والحديثُ في منع الرجوع في الهِبَة إنما جاء في الرِّقاب، وما لم يبقَ للواهب فيه تعلُّق، وشراءُ العرية هنا زيادة معروف لكفايته المؤنة، وضمانه له المنفعةَ، ولدفع المضرة عن نفسه. ع وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، في تفسير العرية إلى أنها: النخلة يهبُ صاحبُها ثمرَها للرجل، فلا يقبلُها، ثم يبدو لصاحبها أن يُمسكها، ويُعوضه من ثمرها خرصَها تمرًا. قلت: وهذا في البعد كما ترى. وبالجملة: فالعريةُ رخصة مستثناة عندنا من أربعة أصول: من التفاضل بين الطعامين، وبيع الطعام بالطعامِ نسيئة، ومن العَوْد في الهِبَة، ومن المزابنة والغَرَر، وهو شراءُ الجزاف بالمكيل، والرَّطْبِ باليابس. ¬
قيل: وإنما أرخص فيها؛ لأنها أنزلت منزلة الإقالةِ، والتولية، والشركة، واللَّه أعلم. ع: وجوازها عندنا بشروط عشرة: ستة متفق عليها: أن يكون مشتريها هو مُعْريها. قلت: (¬1) أو مَنْ صار الحائطُ إليه ببيع، أو هبة أو ميراث من مُعْريها (¬2)، و (¬3) مَنْ تَنَزَّلَ منزلتَه (¬4)، وأن تكون (¬5) قد طابت، وألا تُشترى إِلَّا بخرصها، وألا يكونَ إِلَّا بنوعها، ولا يكون (¬6) إِلَّا باليابس منه، لا برطبه، وأن يكون مؤخرًّا إلى الجداد، لا نقدًا (¬7)؛ خلافًا للشافعي في قوله: لا يكون التمر (¬8) إِلَّا حالًّا. وبقولنا: قال أحمد، وإسحاق، والأوزاعي. وأربعةٌ مختلَف فيها (¬9): أن يكون بلفظ العَرِيَّة، وأن يكون خمسةَ ¬
أَوْسُقٍ فأدنى من جملة ماله، وأن يكون المشترَى (¬1) جملتَها لا بعضَها، وأن يكون مما يُخْرَصُ، أو مما يبسَ (¬2) ويُدَّخَر. هذا جملةُ تحصيل المذهب في العريَّة، وخصوصها بذلك كلِّه عندنا من غيرها، أو بما تختص به من ذلك عندنا. وقاس يحيى بنُ عمرَ من أصحابنا سائرَ بيع الثمار على العريَّة، فأجاز بيعَ الثمار كلِّها بخرصِها إذا طابت إلى الجداد، وشذَّ في ذلك شذوذًا منكرًا، ولم يقل بهذا أحدٌ من أهلِ العلمِ، وهو مخالفٌ للحديثِ في النهيِ عن المزابَنَةِ (¬3). انتهى. وقوله: "لصاحبِ العريَّة"؛ أي: الموهوب، وقد تقدم أنه مما يقوي تأويلَ مالك رحمه اللَّه في تفسير العريَّة. وقوله بخرصها؛ أي: حزرها. قال الجوهري: الخرص: حَزْرُ ما على النخل من الرُّطَب تمرًا، والاسمُ (¬4): الخِرْص -بالكسر-، تقول: كم خِرْصُ أرضِك (¬5)؟ وتمرًا: منصوب على التمييز، ورطبًا على الحال، واللَّه أعلم. ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 261 - عَنْ أَبِي هُرَيرةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (¬1). ¬
* الشرح: زاد في هذا الحديث المقدارَ المرخَّصَ فيه. وقوله: "في (¬1) خمسة أَوْسُق، أو دون خمسةِ أَوْسق": الكلام فيه من وجهين: أحدهما: لما شَكَّ الراوي، اختلف أصحابُنا في جواز البلوغ إلى الخمسة (¬2). قال الإمام: وقد قال بعض المخالفين: إذا شكَّ الراوي بين خمسةِ أوسقٍ فما دون، فلا وجهَ للتعلُّق بروايته في تحديد مقدار ما دون الخمسة الأوسق، ولكن وقع في بعض الروايات: "أربعة أَوْسُق" (¬3)، فوجب الانتهاءُ إلى هذا المتيقَّن، وإسقاطُ ما زاد عليه، وإلى هذا المذهب مالَ ابنُ المنذر، وألزم المزنيُّ الشافعيَّ أن يقول به، انتهى (¬4). والمشهورُ من مذهبنا: البلوغُ إلى خمسةِ (¬5) الأوسق. قال عبد الحق في "نكته": لأن الراوي لما لم يحدَّ (¬6) ما دونها، ¬
فكنا إن أجزنا أربعة أو أقل، يلزم أن يكون دونَ ذلك (¬1)، فمراعاةُ ذلك يؤدِّي إلى طرح القولِ بالعريَّة؛ إذ ليس هنا يقين (¬2) يُرجع إليه، فوجبَ إذ (¬3) حصل ذلك غيرَ معلوم الاقتصارُ على خمسة أوسق، التي (¬4) هي حدٌّ في أن الزَّكاة لا تكون في أقلَّ منها. قلت: الذي أفهمهُ من لفظة (¬5) "فما دونَ": وجودُ مطلقَ الدونيَّة، فحيثُ وُجدت، فقد صدق (¬6) ذلك على المعنى المفهوم من قول الشارع: "فيما دون"، فيصدق هذا على النقص عن خمسة الأوسق (¬7)؛ قليلًا كان النقصُ أو كثيرًا، فإذًا لا يؤدِّي ذلك إلى طرح القول بالعريَّة على هذا التقدير؛ إذ لا يحتاج في ذلك إلى تيقُّن شيء معلوم ولا بُدَّ، بل كلُّ قدرٍ ناقصٍ عن خمسة أوسق جازتْ فيه العريَّةُ، واللَّه أعلم. وهذا عندي نظير قول أصحابنا: إنه (¬8) لا يجوزُ بيعُ سلعةٍ وذهبٍ بدراهمَ، إِلَّا أن يكون الذهبُ المقرونُ بالسلعة أقلَّ من دينار، أتراهم حَدَّدوه بقدر معلوم؟ فقولهم هنا: أقلَّ من دينار؛ كقوله في الحديث: ¬
"فيما دونَ خمسةِ أَوْسُق"، فلتعلم ذلك، وباللَّه التوفيق. وأما قياسُه العريَّةَ على الزَّكاة، فلم يظهر لي (¬1) وجهُ المناسبة في ذلك. الوجه الثاني: ع: وقوله: "في خمسة أوسق" مما يدلُّ على أنه يختصُّ بما يُوسَق ويُكال، ويحتجُّ به لأحد القولين؛ لاختصاص ذلك بالتمر والزبيب، وما في معناه (¬2) مما ييبس ويُدخر ويأخذه الكيل. قال: وقد ذكر أبو داود الحديثَ عن أبي هريرة (¬3)، وفيه "فيما (¬4) دونَ خمسةِ أوسُق"، فقد قصر -عليه الصلاة والسلام- الرُّخصة والحكمَ في العريَّة على هذا القدر المذكورِ في الحديث، فلا يُزاد عليه، وكأن خمسةَ (¬5) الأوسق هي أولُ (¬6) مقادير المال الكثير الذي تجب فيه الزَّكاة من هذا الجنس، فقصد الرفق بمن (¬7) لا مالَ له، وأُجيز له شراءُ العريَّة على التّأويل الواحد، أو بيعها على التّأويل الآخر على هذا القدر، فاستخف في هذا القدر للرفق (¬8) والتفكُّه، فإذا زاد على ¬
هذا القدر، وأخرجه عن القليل إلى حيِّز المال الكثير، وما يطلب فيه التَّجْرُ وتنميةُ المال، منع منه؛ لكثرةِ الغررِ والمزابنةِ فيه؛ لكثرتهِ وخروجه عن قصدِ الرفقِ لقصد التنمية، أو يمكن أن يكون هذا القدر هو الذي جرى عندهم العرفُ بغاية الإعراء فيه غالبًا. وقد اختلف قولُ مالك في إجراء حكم العريَّة في خمسة أوسقٍ، فقال به في مشهور قوله اتباعًا لما وجد عليه العمل عندهم بالمدينة. وقال -أيضًا-: لا يجوز في الخمسة، ويجوز فيما دونها؛ لأنه المتحقَّق في الحديث، والخمسةُ مشكوكٌ فيها، وبهذا قال الشافعيُّ، إِلَّا أنه قال: لا أفسخ البيع في مقدار خمسةِ أوسق، وأفسخُه فيما وراءه. وحكى ابنُ القصَّار عنه اختلافَ قوله؛ كاختلافِ قول مالك، وهذا بشرائها بخرصها تمرًا، وأما شراؤها بالدنانير والدارهم والعروض على مشهور قول مالك (¬1)، فجائز من ربها وغيره (¬2)، وإن جاوزت خمسةَ أوسق، انتهى (¬3). وفروعُ العريَّة مبسوطةٌ في كتبِ الفقهِ. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 262 - عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا (¬1) قَدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرُهَا (¬2) لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ" (¬3). وَلِمُسْلِمٍ: "وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا، فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ (¬4) المُبْتَاعُ" (¬5). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: النخل: اسمُ جنس، والنخيلُ جمعٌ وليس بجنس، والنخلُ يذكَّرُ ويؤنَّثُ، فمن التذكير قولُه تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، ومن التأنيث قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، وقد تسمى النخلةُ شجرة، وفي الحديث: "مَا شَجَرَةٌ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا؟ "، ثم فُسرت بالنخلة (¬1)، ¬
وأما النخلة (¬1) في قول الشاعر: رَأَيْتُ بِهَا قَضِيبًا فَوْقَ دِعْصٍ ... عَليهِ النَّخْلُ أَيْنَعَ والْكُرُومُ فقالوا: ضربٌ (¬2) من الحلي، والكرومُ: القلائدُ (¬3). الثاني: التأبير: تلقيحُ النخل (¬4)، وهو تشقيقُ أَكِمَّةِ إناثِ النخل، ويُذَرُّ طَلْعُ الذَّكَر فيها، أو (¬5) يعلَّق عليه لئلا يسقطَ. ع: وقال ابن حبيب: الإبارُ: شقُّ الطلعِ عن الثمرةِ، وإنما يلقح بعضُ النخل لا كلُّه، ويُشق الباقي بانبثاثِ ريحِ الفحولِ إليه؛ الذي يحصل به تشقيقُ الطلع، يقال منه: أَبَرْتُ النخلَ -مخفف (¬6) الباء (¬7) -، وقد تشدد، وعليه التأبير، وأما الإِبار -مثل الإزار-: فاسمُ التأبير، فيقال من المخفف: نَخلةٌ مأَبُورة، ومن المشدد: مُؤَبَّرَة، والإبارُ في غير النخل: عقدُ ثمره، وثباتُ ما يثبت (¬8)، و (¬9) سقوط ما يسقط من نوره إِلَّا ما يذكر منه، فحكمُه حكمُ النخل، واختُلف في الزرع هل ¬
إبارهُ الظهورُ، من الأرض، أو الإفراك؟ واللَّه أعلم (¬1). الثالث: نصَّ في الحديث على كون الثمرة مع الإطلاق للبائع بعدَ الإبار، إِلَّا أن يشترط، ودليلُ هذا الخطاب: أنها قبلَ الإبار للمشتري، وهذا مذهبُنا، وخالف في ذلك أبو حنيفة، ورأى أنها قبلَ الإبار للبائع كما هي بعدَ الإبار. قال الإمام: وسببُ الاختلاف بين الفَقيهَيْنِ (¬2): أن مالكًا يرى: أن ذِكْرَ الإبارِ هاهنا القصدُ به تعليقُ الحكم عليه؛ ليدلُّ أن ما عداه بخلافه، ويرى أبو حنيفة: أن تعلّق الحكم به، إما (¬3) للتنبيهِ به على ما لا يُؤبر، أو (¬4) لغير ذلك، ولم يُقصد به نفيُ الحكم عما سوى المذكور. قال: وقال بعض أصحابنا: هذا منه دعوى؛ إذ لا يمكن التنبيه بالمؤبر على ما لا يؤبر، وإنما ينبه بالأدنى على الأعلى، أو بالمشكِل على (¬5) الواضح، وهذا خارجٌ عن هذين القسمين، مع أن الذي قاله مالك له فيه شبهٌ في الشرعِ، وذلك أن الثمرةَ قبل الإبار تُشبه الجنينَ قبل الوضع، وبعدَ الإبار تشبه الجنينَ بعد (¬6) الوضع، فلما كانت الأجنَّةُ ¬
قبل وضعِها للمشتري، وبعدَ وضعها للبائعِ، وجب أن يجري الثمرُ هذا المجرى. وأما إذا لم تؤبر (¬1)، و (¬2) ثبت أنها للمشتري؛ كما بيناه، (¬3) فهل (¬4) يجوز للبائع أن يشترطها؟ المشهور في المذهب عندنا (¬5): أن ذلك لا يجوز على إحدى الطريقين عندنا أن المستثنى منها (¬6): يجوز ذلك، هكذا بنى بعضُ شيوخنا، وبالإجازة قال الشافعي (¬7). وتلخيصُ مأخذِ اختلافهم من الحديث: أن أبا حنيفة استعملَ الحديث لفظًا ومعقولًا، واستعمله الشافعي لفظًا ودليلًا، ولكن (¬8) الشافعيَّ استعمل (¬9) دلالته من غيرِ تخصيص، ويستعملها [مالك] مخصصة. وبيان ذلك: أن أبا حنيفةَ جعلَ الثمرةَ للبائع في الحالين؛ وكأنه ¬
رأى أن ذِكْرَ الإبار تنبيهٌ على [ما] قبلَ الإبار، على إحدى الطرق التي ذكرنا عنه، وهذا يسمى في الأصول: معقولَ الخطاب. واستعمله مالكٌ والشافعيُّ على أن المسكوتَ (¬1) عنه حكمُه حكمُ غيرِ المنطوقِ به، وهذا يسمِّيه أهلُ الأصول (¬2): دليلَ الخطاب، فإذا كان النطقُ: من باعَ ثمرًا بعدَ الإبار، فهي (¬3) للبائع، إِلَّا أن يشترطها المبتاعُ، كان دليلهُ: أنها قبلَ الإبار للمبتاع، إِلَّا أن يشترطها البائع. وخَصَّ مالكٌ بعضَ هذا الدليل بأنها قبلَ الإبار تُشبه الأَجِنَّةَ (¬4)، فلا يجوزُ اشتراطُها، ويقوي هذه الطريقةَ مع القول بأن المستثنى مشترى وإن أبر (¬5) بعضها، ولم يؤبر بعض، فإن كانا متساويين، فلكل واحد منهما حكمُ نفسه، وإن كان أحدهما أكثرَ من الآخر، فقيل (¬6): الحكمُ كذلك أيضًا، وقيل: الأقل تبع للأكثر. ولو كان المبيع (¬7) أرضًا بزرعها، وهو لم يظهر، ففيه قولان: قيل: للمشتري؛ كالثمر إذا لم يؤبر. ¬
وقيل: بل هو للبائع؛ لأنه من الجنس الذي لا يتأَبَّر، ولا يتكَرَّر (¬1)، فأشبهَ ما دُفن في الأرضِ وخالفَ الثمر، انتهى (¬2). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومن باع عبدًا" إلى آخره: هذا مذهب الجمهور، خلافًا للحسن البصريِّ، والزهريِّ في قولهما: إن المال (¬3) يتبعُ العبدَ في البيع، وهذا الحديث يردُّ عليهما، وهذا بخلاف العِتْق؛ فإن المال فيه يكون للعتيق (¬4)، إِلَّا أن يشترطه السيدُ، وكذلك ما في معنى العتق؛ كالكتابة؛ خلافًا لأبي حنيفة، والشافعي، في قولهما: إن المال للسيد في العتق، ودليلُنا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ السَّيِّدُ" (¬5)، فنحنُ نعيد الضمير في (¬6) قوله: "له" (¬7) على العبدِ، لوجوه (¬8): أحدها: أن العبد ملفوظٌ به، والسيد غيرُ ملفوظ به، بل هو مستتر ¬
في "أعتق"، يعود على (مَنْ)، وعَوْدُ الضمير في صناعة العربية على المنطوقِ به أَوْلى من عودِه على المستتر. الثاني: أن الضمير في (له) أقربُ إلى العبد من الضمير المستتر في (أعتق)، والعودُ إلى الأقرب عند التعارض أَوْلى. الثالث: لو أعدنا الضمير في (له) على ضمير السَّيِّد المشتري في (أعتق)، لفسد المعنى، إذ يبقى التقديرُ: فمالُه للسيد إِلَّا أن يشترطه السيدُ، فيكون للسيد، وهذا لا شكَّ في فساده؛ كما ترى، ولأن الكتابة يملك بها مالَه، وهي سببُ العتق، فنفسُ العتق أولى، ولأن العبدَ إذا بيع غنيٌّ بسيده، فلا تُعوزه النفقةُ طعامًا وكسوة، فهذا لا ضررَ عليه في انتزاع السيدِ لمالِه، وإذا أُعتق، افتقرَ إلى الكسب لقيام أَوَدِه وسائرِ ضروراته، فنالسبَ أن لا يُنتزع مالُه من يده؛ إذ يؤدِّي ذلك إلى الضرر به غالبًا، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" (¬1). واختلف أصحابُنا في الصَّدقة والهِبَة، أعني: إذا تصدَّقَ بعبده، أو وَهَبَه. قيل: وإنما اختُلف فيهما؛ لأخذهما شبهًا من العتق الذي يتبع العبدَ فيه المالُ، وشبهًا من البيع (¬2) الذي لا يتبعُه فيه، فالبيعُ: خروجٌ ملكٍ إلى ملكٍ بعوضٍ على جهة الاختيار، والعتقُ: خروجٌ من ملك ¬
إلى غير ملك بغير عِوَض، والهبةُ خرجت لغير (¬1) عوض، فأشبهت العتقَ، ومن ملك إلى ملك، فأشبهت البيعَ. واختلف قولُ مالك في الوصيَّة. قال أصحابنا: ويجوز أن يشترط المشتري مالَ العبد، وإن كان عَيْنًا (¬2)، والثمنُ عينٌ؛ وكأنه لا حصةَ له من الثمن، فلا يدخله الربا، وهذا على أنه اشترطه للعبد، وأبقاه على ملكه، فكأنه لم يملك هو عينًا دفعَ عوضَها عينًا أخرى، ولو اشترطه لنفسه، ما جاز؛ لتحقق (¬3) الربا، وصار كمن اشترى سلعةً وذهبًا بذهب، وذلك لا يجوز. وأما الجناية، فالمالُ فيها يتبع الرقبةَ، وينتقل بانتقالها. فقد اشتمل هذا الفصلُ على كل ملك يزول عن سيده؛ لأن ذلك لا يعد في (¬4) أربعة أنواع: زواله بعقد معاوضة (¬5)؛ كالبيع، والنِّكاح، أو العتق، وما في معناه من العقود التي تُفضي إلى العتق، أو الهِبَة، و (¬6) الصَّدقة، أو الجناية، فليعلمْ ذلك. وقد استدلَّ أصحابنا على أن العبدَ يملكُ بهذا الحديث؛ لأنه ¬
-عليه الصلاة والسلام- أضاف المالَ إلى العبد بلام الملك (¬1). فائدة نحوية: اللام لها عشرةُ معانٍ: الملكُ حقيقةً؛ نحو: الدارُ لزيد. ومجازًا؛ نحو: أنا لكَ. والاستحقاقُ؛ نحو: البابُ للدار، والسرجُ للدابة. والتخصيصُ؛ نحو: هذا ابنٌ لزيد. والتعليلُ؛ نحو: شربتُ لأَرْوى. والتوكيدُ؛ نحو: لزيدٌ قائمٌ. والصيرورةُ (¬2)، وتسمى أيضًا: لامَ العاقبة؛ نحو قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، ومنه قول الشاعر: [الوافر] لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ والقسمُ؛ نحو قولك: للَّهِ! لا يبقى أحد. ومقويةٌ للعامل عند تقدُّم معموله عليه؛ نحو: لَزَيْدًا ضربتُ، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]، والأصلُ: تعبرون الرؤيا. ¬
والعاشر: أن تكون زائدةً للتوكيد؛ نحو قوله -تعالى-: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، {بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]، والأصل رَدِفَكُم، وإذ بَوَّأْنا إبراهيمَ. قالوا (¬1): وتكون بمعنى (عن)؛ نحو قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا} [الأحقاف: 11] الآية؛ أي: عن الذين آمنوا، ولو كانت على بابها: كان (¬2) ما سبقتمونا إليه، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 263 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ ابتَاعَ طَعَامًا، فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفيَهُ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ: "حَتَّى يَقْبِضَهُ" (¬2) (¬3). ¬
264 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ (¬1). * * * * الشرح: هذا الحديث أصلٌ في منع بيعِ الطعام قبل قَبْضِه. ¬
والطعام في (¬1) اللغة: ما يؤكل، قاله الجوهري، قال (¬2): وربما خُصَّ الطعامُ بالبُرِّ. وفي الحديث: عن أبي سعيد (¬3)، قال: كنا نُخرج صدقةَ الفطر على عهدِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير (¬4). وقد اختلفت الطرقُ في هذا الحديث، ففي بعضها: "حَتَّى يَقْبِضَهُ"، وفي بعضها: "حَتَّى يَسْتَوْفيه"، وفي بعضها: "حَتَّى يَسْتَوْفيَهُ وَيَقْبِضَهُ" (¬5)، وهما بمعنى واحد (¬6)، وفي بعضها: "حَتَّى يَسْتَوْفيَهُ يَقْبِضَهُ" -بغير واو- على التفسير، وفي بعضها: "حَتَّى يَكْتَالَهُ" (¬7)، ومجموعُها يقتضي منعَ بيعِ الطعام قبل أن يقبضه المشتري؛ كما تقدم. وهل يختصُّ ذلك بالطعام، أو يُقاس ما عداه عليه؟ اختلف (¬8) في ذلك: فمنعه الشافعيُّ في كل شيء. ¬
قال الإمام: وانفرد عثمانُ البَتِّيُّ، فأجازه في كل شيء. ومنعه أبو حنيفة في كلِّ شيء، إلا العقارَ، وما لا يُنقل (¬1). ومنعه آخرون في سائر المكيلات والموزونات. ومنعه مالكٌ في سائر المكيلات والموزونات، إذا كانت طعامًا، وروي ذلك عن عثمان -رضي اللَّه عنه-؛ وبه قال ابنُ المسيب، وربيعةُ، ويحيى بن سعيد. التوجيه: تعلَّقَ مَنْ منعَ على الإطلاق بقوله: نهَى عَنْ ربحِ ما لم يضمَنْ (¬2)، ولم يفرق، وعضدَ ما قاله -أيضًا- بما ذكره ابنُ عمر من منع بيعِ الطعام الجزافِ حتى يؤووه إلى رحالهم، واستثنى أبو حنيفة ما لا يُنقل؛ لتعذُّرِ الاستيفاءِ فيه المشارِ إليه في قوله: نهى عن بيعِ الطعامِ حَتَّى يُسْتَوْفى، فيقول مَنْ منع سائرَ المكيلات: يقتضب (¬3) من هذا علة (¬4)، ولا يصحُّ التعليلُ إلا بالكيل، وقد نبه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "حَتَّى يَكْتَالَهُ"، فأجرى سائرَ المكيلات مجرى واحد. ¬
ويقول مالك: فإن دليلَ خطاب الحديث يقتضي جوازَ غيرِ الطعام، ولو كان سائرُ المكيلات (¬1) ممنوعًا بيعُها قبلَ قبضِها، لما خُصَّ الطعامُ بالذكر، فلما خَصَّه، دل على أن ما عداه بخلافه. ويمنع من تعليل هذا الحديث بالكيل؛ لأنه تعليلٌ ينافيه دليل (¬2) الخطاب المعلل، والدليلُ كالنطق عن بعض أهل الأصول (¬3). وقد أشار بعض أصحاب مالك إلى أن العلةَ العِينَةُ، واستدلَّ بقول ابن عباس الذي ذكرناه؛ لما سئل فقال: أَلا تراهم يَتبايعونَ بالذَّهَبِ والطعامِ (¬4) مُرْجَأً (¬5)؛ أي: مؤخرًا، وكأنهم قصدوا أن يدفعوا (¬6) ذهبًا في أكثرَ منه، والطعامُ محلل. وفي "البخاري" عنه: دَرَاهِمَ بِدَراهِمَ، والطعامَ مُرْجَأً (¬7). قال الإمام: وقد تردد (¬8) بعضُ أصحابنا في الطعام إذا أمن فيه من العِينَة، التي هي سببٌ للمنع على ما قال (¬9) ابن عباس؛ هل يُمنع بيعهُ ¬
قبلَ قبضه؛ لظاهر الخبر (¬1)، أو يُسَهَّل فيه؟ قال (¬2): ورأيتُه يميل للتسهيل -في مقتضى كلامه- إذا وقع البيعُ فيه بالنقد، وما أظن عثمانَ البتيَّ سلكَ في إجازته بيعَ كل شيء قبلَ قبضه إلا هذه الطريقةَ، وإن كان مذهبًا انفردَ به، وهو شاذٌّ عند العلماء، أضربَ عن ذكره كثير منهم. وإذا وَضَحَ مأخذُ كلّ مذهب من هذه المذاهب، فينفصل أصحابُنا عن تعلُّق الشافعي بقوله: نهى عن ربحِ ما لم يُضْمَنْ، بجوابين: أحدهما: أن يُحمل (¬3) على بيع الخيار، وأن يبيع (¬4) المشتري قبل أن يختار. والثاني: أن يُحمل ذلك على الطعام، ويُخص عمومُ هذا إذا حملناه على الطعام بإحدى طريقين: إما دليلُ الخطاب من قوله: نهى عن بيعِ الطعامِ حتى يُستوفى، فدلَّ على أن ما عداه بخلافه، ويُخص بما ذكره ابنُ عمر من أنهم كانوا يبيعون الإبلَ بالدراهم، ويأخذون عنها ذهبًا، أو بالذهب، ويأخذون عنها دراهمَ، وأضاف إجازةَ ذلك إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا إجازةُ ربحِ ما لم يضمَنْ في العين، ويقيس عليه ما سوى الطعام، ويخص به النهي عن (¬5) ربح ما لم ¬
يضمن، واللَّه أعلم (¬1). قلت: وظاهرُ هذا الحديث أو نصُّه يقتضي اختصاصَ المنع بأن يكون الطعام مملوكًا بالبيع دونَ الهبة، والصدقةِ، والقرضِ، و (¬2) نحو ذلك، ويقتضي -أيضًا- أن يكون الممنوع هو البيع قبلَ القبض، أما لو وهبه، أو تصدق به، أو رهنه، فلا يدل عليه لفظُ الحديث، فأما الإجارةُ فحكمُها حكمُ البيع؛ لأنها بيعُ منافعَ في الحقيقة، وكذلك النكاحُ؛ لأن المرأة مبتاعَة له بمنافع بُضعِها، وكذلك مَنْ ملك طعامًا بأَرْشِ جناية، أو مصالحة عن دم، أَو قضاء عن دين، فإنه لا يجوز له بيعُه قبل قبضه؛ لأن حقيقة البيع: انتقالُ الملكِ بعِوَضٍ، وقد وُجدت. فأما القرض، فيجوز بيعُه قبلَ قبضه عندنا؛ لأن القرضَ ليسَ ببيعٍ، وكذلك مَنْ وُهِبَ له طعامٌ، أو تُصُدِّق به عليه؛ فإنه يجوز لهُ بيعُه قبلَ قبضه. واختلفَ أصحابُ الشافعيِّ في الرهن والهبة قبلَ القبض، والأصحُّ عندهم: المنعُ، وكذلك اختلفوا في التزويج، وخالفونا -أيضًا- في جواز الشركة والتولية، فلم يجيزوهما (¬3) قبلَ القبض، وحديث: "وأَرْخَصَ في التولية، والشَّرِكةِ، والإقالَةِ" (¬4) دليلٌ لنا عليهم، واللَّه أعلم (¬5). ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 265 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ، وَالمَيْتَةِ، وَالخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَام"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ؛ فإنَّهُ (¬1) يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: "لَا، هُوَ حَرَامٌ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ! إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا، جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ فأكلُوا ثَمَنَهُ" (¬2). ¬
قَالَ: جَمَلُوهُ: أَذَابُوهُ. * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: "عامَ الفتح": العام: اسم السنة، وكذلك الحَوْل، سُميت عامًا؛ لأن الشمس والقمر، والليلَ والنهارَ تعومُ فيها في الفلك، قاله الأَعْلَمُ، ومنه قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، وهو مصدرُ عامَ يعومُ عَوْمًا وعامًا، وسُميت حَوْلًا؛ لأن الأشياء تحول فيها وتتغير من حالٍ إلى حال، يقال: سِنونَ عمومٌ (¬1)، وهو توكيد للأول؛ كما يقول: بينهم شُغْل شاغِلٌ، وعامَلَه مُعاوَمَةً (¬2)؛ كما تقول (¬3): مُشاهَرَةً، ¬
ومُجامعة، ومُياوَمَةً، وعاومَتِ النخلةُ: إذا حملت سنةً، ولم تحمل سنة، وقولهم: لَقِيتُهُ ذاتَ العويم؛ أي: بين الأعوام؛ كما تقول: لقيتُه (¬1) ذاتَ الزمَيْن (¬2)، وذاتَ (¬3) مرةٍ (¬4). والفتحُ: فتحُ مكةَ، شرفها اللَّه تعالى. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ اللَّه ورسولَه (¬5) حَرَّم بيعَ الخمر": تتعلَّق (¬6) به مسألةٌ إعرابية، وهو أن يقال: لم أفردَ الضمير في (حرَّم)، وقد تقدَّم اسمان، وكان القياس: حَرَّما؛ كما يقال: إن زيدًا وعَمْرًا (¬7) خرجا، ولا نقول: خرج، في الأمر العام؟ والجوابُ: أن هذا من وادي قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، ومذهب سيبويه فيه: أن الجملة الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها، بتقديره عنده: واللَّهُ أحقُّ أن يُرضوه، ورسولُه أحقُّ أن يرضوه (¬8)، فـ (الهاء) في (يرضوه) (¬9) تعود على ¬
الرسول عليه الصلاة والسلام. وقال المبرِّدُ: لا حذف (¬1) في الكلام؛ ولكن فيه تقديمٌ وتأخير، تقديره: واللَّهُ أحقُّ أن يُرضوه (¬2) ورسوله، فالهاء على هذا تعود على (اللَّه) -جلَّ ذكره-. وقال الفراء: المعنى: ورسولُه أحقُّ أن يُرضوه (¬3)، و (اللَّه) افتتاحُ كلام. وهذا بعيدٌ، أو باطل، وألزم المبرد أن يجيز: ما شاءَ (¬4) اللَّهُ وشئتَ -بالواو-؛ لأنه (¬5) يجعل الكلام جملةً واحدة، وقد نُهي عن ذلك إلا بـ (ثم)، ولا يلزم ذلك سيبويه؛ لجعله الكلامَ جملتين. وقول سيبويه: هو المختارُ في الآية. وقيل: أحق أن يرضوه (¬6) خبر الاسمين؛ لأن الرسولَ تابعٌ لأمر اللَّه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. ¬
وقيل: أُفرد الضمير، وهو في موضع التثنية (¬1). ولا يخفى تنزيلُ الحديث على الآية على متأمل. والخمرُ: مؤنثة، ويقال: خمرة، وخمور؛ كتمرة، وتُمور، وتَمْر. قال ابنُ الأعرابي: سميت خمرًا؛ لأنها تُرِكَتْ، فاختمرتْ، واختمارُها تغيرُ ريحها. وقيل: سميت بذلك؛ لمخامرتها العقلَ؛ أي: مخالطتِه وتغطيتِه، ومنه الخِمار؛ لتغطيته الرأسَ (¬2). الثالث: الميتة -بفتح الميم-: ما لم تلحقه الذَّكاة، و-بالكسر-: الهيئة (¬3)، تقول: مات فلان مِيتةً حسنةً (¬4)، والأصلُ في مَيتة -المفتوحة الميم- مَيْوِتةَ، فلما اجتمعت الياء والواو، فسُبقت إحداهما بالسكون، قُلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، فبقيت مَيِّتة -بالتشديد-، ثم خُففت بحذف إحدى الياءين؛ كما فعلوا ذلك في هَيِّن ولَيِّن، وما أشبَهَ ذلك، فهي كميت سواء. وأما الأصنام: فجمعُ صَنَم، وهو الوثنُ أيضًا، والجمعُ: وُثْنٌ وأَوْثانٌ؛ مثل قُرْطٍ وأَقْراطٍ، وكما حرَّم بيعها، حرَّم نحتها (¬5) وتصويرها (¬6) إجماعًا، ¬
وكذلك جميع ما كان على صور الحيوانات، وأما ما كان رسمًا في حائط، أو رقمًا في ستر (¬1) ينشر أو يبسط، أو وسائد يُرتَفَقُ عليها، ويُتَّكأ عليها، فهي مكروهة، وقيل: حرام. قال القاضي أبو بكر: وقد قيل: إن الذي يُمتَهَن من الصور يجوز، وما لا يُمتهن مما يُعَلَّق، يُمنع؛ لأن الجاهلية كانت تُعَظِّمُ الصورَ، فما يبقى فيه جزءٌ من التعظيمِ والارتفاعِ، يُمنع، وما كان مما يُمتهن، فهو مباح؛ لأنه ليس مما كانوا فيه. قلت: وقول القاضي أبي بكر هذا هو المذهبُ، بل لا أعلم فيه خلافًا، ونصُّ "الكتاب" فيه: وتُكره (¬2) التماثيلُ التي في الأَسِرَّة والقِبَابِ والمنابرِ، وليست كالثيابِ والبُسطِ التي تُمتهن، وكان أبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن يقول: ما كان يُمتهن، فلا بأسَ به، وأرجو أن يكون خفيفًا، ومن تركَه غيرَ محرِّمٍ له، فهو أحبُّ إِليَّ. ولا يلبس خاتمًا فيه تماثيل (¬3)، وأما ما كان على صورةِ غيرِ الحيوان؛ كالشجرةِ (¬4)، والسفنِ، والثمار، ونحو ذلك، فلا أعلم خلافًا في إباحته، إلا ما ذُكر (¬5) عن مجاهد، واللَّه أعلم. ¬
الرابع: استُدِلَّ بتحريم بيع الخمر والميتة على نجاستهما؛ إذ يمكن الانتفاع بهما، أما الخمرُ ففي غير شيء، وأما الميتة، فيمكن أن يُنتفع بها في إطعام الجوارح، وأما بيعُ الأصنام، فلعدم الانتفاع (¬1) بها على هيئتها، وعدمُ الانتفاع يمنع صحةَ البيع -كما تقدم-، ويجوز أن تكون العلَّة في تحريم بيعِها: المبالغةُ في التنفير عنها وإبعادها (¬2). الخامس: قولهم: "أرأيتَ شحومَ الميتة؟ ": كأنه جُمع لاختلافِ أنواعه؛ إذ الشحمُ جمعُ جنس، وحقُّه الإفراد. ق: استُدِلَّ به على منع الاستصباحِ بها، وإطلاءِ السفن؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- لما سُئِل عن ذلك: "لَا، هُوَ حَرَامٌ". قال: وفي هذا الاستدلال احتمالٌ؛ لأنَّ لفظَ الحديث ليس فيه تصريح؛ فإنه يحتمل أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لما ذكرَ تحريمَ بيعِ الميتة، قالوا له (¬3): "أرأيتَ شحومَ الميتة؛ فإنه يُطلى بها السفنُ" إلى آخره، قصدًا منهم إلى أن هذه المنافع تقتضي جوازَ البيع، فقال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا، هو حرامٌ"، ويعود الضمير في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "هو حرامٌ" على البيع؛ كأنه أعادَ تحريمَ البيعِ بعدَ ما تبينَ له أَنَّ فيه منفعةً، وإهدارًا (¬4) لتلك المصالحِ والمنافعِ التي ذُكرت (¬5). ¬
قلت: وهذا التفسيرُ هو المعوَّلُ عليه عندنا، وعند الجمهور؛ فإنا نُجيز الاستصباحَ بالدُّهْنِ النجسِ في غير المساجدِ، وعملَه في الصابون، وإن أوجبنا تطهيرَ الثوب منه بعدَ غسله. ومنع ابنُ الماجشون من أصحابنا من الانتفاعَ به مطلقًا. وكذا (¬1) اختُلف في بيعه، والمشهورُ: المنع. وكذلك (¬2) اختُلف هل يَطْهُرُ إذا غُسل؟ والمشهور: لا يطهر. قال: فإن قيل: إن في بعضَ الأحاديث لمَّا قيل له -صلى اللَّه عليه وسلم- في شحوم الميتة: "إنها يُدهن بها السفنُ"، فقال -عليه الصلاة والسلام- "لا تنتفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِشَيْءٍ" (¬3)، قيل (¬4): هذا على الكراهةِ، وتحرز من النجاسة أن تمسَّه؛ بدليل ما وقع في حديث آخر: أنه أباحَ الانتفاعَ بالسَّمْنِ الذائبِ إذا وقعتْ فيه الفأرةُ (¬5)، وإن طعنوا في بعضِ رواة هذا الحديث، كذلك حديثهم الذي عارضوه به -أيضًا- يُطعن في بعض رواته (¬6). ¬
قلت: وفي تحريم (¬1) بيع الميتة حجةٌ (¬2) على [منع] بيع جثةِ (¬3) الكافر، إذا قتلناه من الكفار، وافتدائهم منا (¬4) له، وقد امتنعَ من ذلك النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوةِ الخندقِ، وقد بذلوا لَهُ في جسدِ نوفلِ بنِ عبدِ اللَّه المخزوميِّ عشرةَ آلاف درهم (¬5)، فيما ذكر (¬6) ابنُ هشام، فدفعه إليهم، ولم يقبلْ ذلكَ منهم، وقال -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "لَا حَاجَةَ لَنَا بِجَسَدهِ، وَلَا بِثَمَنِهِ". وقد خرج الترمذيُّ في هذا حديثًا نحوه (¬7). ع: كثيرًا ما يعترض بعضُ اليهود وأهلُ الزيغ على هذا الحديث بتحريم وطء سُرِّيَّةِ الأب على الابن، وجوازِ بيعها، وأكلِ ثمنها، وهذا مما يُمَوَّهُ به على مَنْ لا محصولَ عنده من العلم، فجاريةُ الأب لم يحرم منها إلا الاستمتاعُ على هذا الولد وحدَه من سائر الناس، وسائرُ منتفعاتها حلالٌ، والجميعُ حلالٌ لغيره، فلم يحرمْ عليه جميعُها، ¬
ولا على غيره، والشحومُ محرمةُ المقصودِ منها، وهو الأكلُ على جميع اليهود، فكان ما عداه تبعًا له، فلا تشاكُلَ بينها وبين سُرِّيَّة الأب. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "قاتلَ اللَّهُ اليهودَ" إلى آخره: فيه: دليل على إبطال الحيل، والحجة على مَنْ قال بها في إسقاط حدود الشرع من الكوفيين. وفيه: حجة لمالك في مراعاة الذرائع، وسدّ بابها (¬1)؛ لأن اليهود إنما لِيموا على أكل الثمن لتحريم أكل المثمَّن الذي هو الشحم، وأكلُ الثمن ليس هو أكلَ الشحمِ بعينه؛ لكنه لما كان سببًا إلى أكل الشحم من حيث المعنى، استحقوا اللومَ على ذلك، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
باب السلم
باب السلم 266 - عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ في الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيءٍ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" (¬1). ¬
* الشرح: قال اللغويون: يقال: السَّلَم والسَّلَف، وأَسْلَمَ وسَلَّمَ، وأَسْلَفَ وسَلَّفَ (¬1)، وإنما سُمي سلمًا؛ لتسليمه فيه رأسَ المال دونَ عِوَضٍ في الحال، ومنه سُميَ سَلَفًا أيضًا (¬2)، والسلفُ: ما تقدَّمَ (¬3)، ومنه سَلَفُ الرَّجُل: متقدِّمُ آبائِه. ع: وفي رواية عن ابن عمر: أنه كان يكره أن يُسَمِّي السلفَ سَلَمًا، يقول: الاسم إلى اللَّه، كأنه ظنَّ بالاسم أن يُمتهن في غير طاعة (¬4). ويشترك السَّلَمُ والقرضُ في أن كلًّا منهما (¬5) إثباتُ مال في الذمَّة بمبذولٍ في الحال، وأمثلُ ما قيل في حَدِّه: عَقْدٌ على موصوفٍ في الذمَّة ببذلٍ يُعطى عاجلًا (¬6). ولا خلافَ في جواز السَّلَم بين المسلمين من حيث (¬7) الجملة، وإن كانوا قد اختلفوا في بعض شروطه. ¬
وشروطه (¬1) عندنا (¬2) ستة: الأول: تسليمُ جميعِ الثمنِ خوفَ الدَّيْن بالدَّيْن. الثافي: أن يكون (¬3) الثمنُ من غير جنسِ المسلمَ فيه، فلا يكونان طعامين، ولا نقْدَين؛ للنَّساء (¬4)، والتفاضل، ولا شيئًا في أكثرَ منه؛ لأنه سلفٌ جَرَّ منفعةً. الثالث: أن يكون في الذمة؛ لئلا يكونَ (¬5) بيعَ معينٍ إلى أَجَل. الرابع: أن يكون مقدورًا على تحصيله -غالبًا- وقتَ حلوله؛ لئلا يكون تارةً سلفًا، وتارةً ثمنًا (¬6). الخامس: أن يكون مؤجَّلًا إلى مدة تختلف فيها الأسواقُ عرفًا؛ لئلا يكون بيعَ ما ليس عندَك، ودليلُ هذا -أعني: الأجل-: قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "إِلى أجل معلومٍ"، وبه قال أبو حنيفة، ومنع (¬7) السلمَ الحالِّ؛ كما منعه مالك (¬8)، وتأول الشافعيةُ (¬9) الحديث بأن وجهوا (¬10) الأمر ¬
إلى العلم فقط، وقدروه (¬1): وإن (¬2) أسلمَ إلى أَجَل، فليكن الأجلُ غيرَ مجهول، ولا حاجةَ بنا إلى التأويل ما لم تدعُ إليه ضرورةٌ (¬3) من معارضةِ حديثٍ آخر، ونحو ذلك. فإذا ثبت أنه لا بدَّ من الأجل، فما قدره؟ لا خلاف عندنا في خمسةَ عشرَ يومًا، ولا بدَّ منها على المشهور، أو اليومين والثلاث إن كان في بلدين، وقيل: ثلاثة (¬4) أيام وإن لم ينتقل (¬5). وروى ابنُ وهب، وابنُ عبد الحكم، جوازَ السَّلَم إلى يومين أو ثلاثة، وزاد ابن عبد الحكم عن مالك: الإجازة إلى يوم، فقيل: هذه رواية في جواز السلم الحالّ، وقيل: لا تختلفُ (¬6) في اشتراط الأجل، وإنما هذا الخلاف في مقداره، واللَّه أعلم. السادس: أن يكون المسلَم فيه معلومَ القدر بكيلٍ أو وزنٍ أو ذَرْعٍ (¬7)، مع معرفة الأوصاف التي يختلف الثمنُ باختلاف أحوالها عادةً وقصدًا. ¬
ويشترط -أيضًا- في صحة السلم ذِكْرُه (¬1). وهذا (¬2) على الجملة، وتفصيلُه وبسطُه (¬3) في كتب الفقه، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب الشروط في البيع
باب الشروط في البيع الحديث الأول (¬1) 267 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ، فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، في كُلِّ عَامٍ أُوْقِيَّةً، فأَعِينِينِي، فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّها لَهُمْ، وَيَكُونُ وَلَاؤُكِ لِي، فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ (¬2)، فَأبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي (¬3) عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ (¬4)، فَأبوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الوَلَاءُ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "خُذِيهَا، وَاشتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاء (¬5)، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّه وأثنَى عَلَيهِ، ¬
ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: مَا بَالُ رِجَالٍ (¬1) يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ في كِتَابِ اللَّهِ؟! مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطلٌ، وإنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: هذا حديث عظيم، قد اشتمل على قواعدَ وأحكامٍ عديدة، وفوائدَ وآدابٍ مفيدة، وقد أكثر الناسُ الكلامَ عليه، وأفردوا له تصانيفَ شتى؛ منها: ما جمعه أبو جعفر الطبري في كتابه (¬1)، وذلك ستة أجزاء، ولابن خزيمة فيه تصنيف كبير، ولغيرهما، ونحن نذكر من ذلك عيونًا مُخَلَّصة (¬2)، وفوائدَ مُلَخَّصة (¬3) إن شاء اللَّه تعالى: أولها: أن يقال: -وهو سؤالٌ مبتكَرٌ (¬4)، لم أعلم أحدًا تقدَّمني فيه-: قد ثبت في "الصحيح": أن جُوَيريةَ زوجَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان اسمُها بَرَّةَ، فغيَّر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسمها إلى جُويرية (¬5)، وكذلك -أيضًا (¬6) - غيَّر -عليه الصلاة والسلام- اسمَ بَرَّةَ بنتَ (¬7) أبي سلمةَ، وبرةَ بنتَ جحش، فسمَّى كلَّ واحدة منهما زينبَ، وقال: "لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، اللَّهُ أَعْلَمُ ¬
بِأَهْلِ البِرِّ مِنْكُمْ" (¬1)، ولم يغير -عليه الصلاة والسلام- اسمَ بَريرةَ، مع أنها على بنيةٍ من أبنيةِ المبالغة، وهي فَعيلة، بخلاف بَرَّة، فكانت (¬2) على هذا المعنى بالتغيير أولى؟ (¬3) جوابه أن يقال: هذا السؤالُ مغالطة، وغائلة يُخدع بها من ليس عندَه (¬4) اعتناءٌ باللغة؛ فإنَّ لفظ بَريرةَ ليس مما نحنُ بصدده؛ لأنه اسم جامد في الأصل، غير صفة، وهي واحدةُ البرير، والبريرُ ثمرُ الأراك، فليس من الصفة في شيء، فلذلك لم يُغيره -عليه الصلاة والسلام- فاعرفه (¬5). وثانيها: كاتبتُ: فاعَلْتُ من الكِتابة (¬6) التي هي العَقْد المشهورُ بين السيدِ وعبدِه، فإما أن يكون مأخوذًا من كتابة الخط؛ لوجودها عند العقد، وإما من معنى الإلزام؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]؛ لإلزامِ كلِّ واحدٍ من السيد والعبد (¬7) ما شرطَ من العتق والأداء اللذين تكاتبَا عليهما (¬8) (¬9). ¬
وثالثها: يقال: أَهْلٌ، وأَهْلَةٌ (¬1)، وجمع أَهْلَةٍ: أهْلات، وأَهَلات، قال الشاعر: [الطويل] فَهُمْ أَهَلَاتٌ حَوْلَ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ (¬2) وأَهالٍ أيضًا، زادوا فيه الياء (¬3) على غير قياس؛ كما جمعوا (¬4) ليلةً على ليالٍ، وقد جاء في الشعر أهَالٌ؛ مثل: فَرْخٍ وأَفْراخ، أنشد الأخفش: [الرجز] وَبَلْدَةٍ مَا الإِنْسُ منْ آهَالِها ويجمع أيضًا بالواو والنون، ومنه قوله تعالى: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11]، وكأن فيه رائحةَ الاشتقاق، كأنهم المناسِبُون، فلذلك ساغَ (¬5) فيه الواو والنون، وقالوا: منزلٌ أَهِلٌ، فبنوا منه الصفةَ، وصَرَّفوا من لفظه للفعل (¬6)، فقالوا: أَهَلَ فلانٌ، يَأْهُل ويَأْهِل أُهولًا: إذا تزوَّجَ، وكذلك تأَهَّل (¬7). ورابعها: روايتُنا في هذا الكتاب أوقية: -بإثبات الألف-، ووقع ¬
في بعض نسخ "مسلم": وُقِيَّة -بغير ألف-، وهما لغتان، وإثباتُ الألف أفصح، وقد تقدم أن الأُوقية الحجازية أربعون درهمًا، فعلى وُقِيَّة يقال في الجمع: أَوَاقٍ، وعلى أُوقية: أَوَاقِيُّ -بتشديد الياء- (¬1). وخامسها: اختلفت أقوالُ العلماء في بيع المكاتَب على الجملة، فأجازه بعضُهم، ومنعَه بعضُهم، والجواز على أنه يتأدى (¬2) منه (¬3) المشترى، لا على إبطال الكتابة، فإن هذا لم نعلم مَنْ ذهب (¬4) إليه. وكذلك -أيضًا- أجازَ مالكٌ بيعَ كتابته (¬5) خاصَّة، ويؤدِّي للمشتري، فإن عجز، رَقَّ له (¬6). ومنع ذلك ابنُ أبي سلمة، وربيعةُ، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ورأوا ذلك غررًا (¬7) وجَهْلًا بالمشترى؛ لأنه لا يدري ما يحصلُ لَهُ، هل نُجومٌ، أم (¬8) رقبةٌ؟ وأجاز بعضُ أهلِ العلمِ بيعَ المكاتَب للعتق، لا للاستخدام، وإن ¬
رضيَ بالبيع، وقد عجز عن الأداء؛ لفقره وضعفه عن التكسُّب (¬1)، جاز بيعُه. وإن كان ظاهرَ المال، ففي رضاه بالعجز قولان: فمَنْ مَكَّنَه منه، أجاز بيعَه إذا رضي بالعجز والبيع (¬2). ومَنْ منعَه من ذلك، لم يُجز بيعه. والقولان في المذهب عندنا، وكذلك إن لم يكن له مالٌ ظاهرٌ، لكنه قادرٌ على التكسُّب وتحصيل النجومِ، يعتق بها -أيضًا-، في رضاه بالعجز اختلافٌ في المذهب. وفي بيعِ العبدِ القِنِّ (¬3)، بشرطِ العتقِ من مشتريه، اختلافٌ بينَ الناسِ، أجازه مالكٌ، والشافعيُّ، ومنعَهُ أبو حنيفة، ولكنه قال: إن وقع البيعُ، مضى بالثمن، وخالفه صاحباه، فقالا: يمضي بالقيمة. فإذا (¬4) تقرر هذا كلُّه، قلنا بعده: لا بدَّ من تطلُّبِ تأويلِ بيعِ بريرةَ وهي مكاتَبَةٌ، عند من منع بيعَ المكاتَب. قال الإمام: من حكينا عنه أن بيعَه جائز للعتقِ لا للخدمة، يقول: إنما جاز هاهنا؛ لأن عائشة (¬5) اشترتها للعتق، وأنا أجيزه، ومن يجيز بيعَ كتابةِ المكاتَب، يقول: لعلها اشترتْ كتابتَها، ويحتج بقوله في ¬
كتاب "مسلم": "فإنْ أَحَبُّوا أَن أَقْضِيَ عنكِ كتابَتَكِ" (¬1)، وهذا ظاهرٌ أنها لم تشتر الرقبةَ، ومن يمنع (¬2) بيعَ المكاتَبِ وكتابَتَهَ، يقول: عجزتْ، ورضيتْ بالبيع، فلهذا اشترتها عائشةُ. وأما شراءُ العبد القِنِّ بشرطِ الإعتاق، فيتعلق (¬3) بهذا الحديث مَنْ يُجيزه، ويقول: قد اشترتها عائشةُ، وقد قال (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ابْتَاعِي وَأَعْتِقِي" (¬5) , وهذا يصحِّحُ (¬6) ما ذهبَ إليه. ومَنْ منعَ (¬7) بيعَ العبد القِنِّ (¬8) بشرطِ العتق، قد ينازِع في هذا، ويمنع من كونِ عائشةَ مشتريةً، وقد يحمله على قضاءِ الكتابة عن بَريرةَ، أو على شراء الكتابةِ خاصةً، إن كان أحدٌ يجمع بين هذين المذهبين، منع البيع للعتق، وجواز بيع الكتابة، هذا وجهٌ من الكلام على هذا الحديث، انتهى (¬9) (¬10). ¬
وسادسها: هو أشكلُ (¬1) ما في هذا (¬2) الحديث وأصعبُه عندَ بعضهم، وذلك ما وقع في رواية هشامٍ ها هنا، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اشْتَرِيْهَا وَأَعْتِقِيْهَا، وَاشْتَرِطِي (¬3) لَهُمُ الوَلَاءَ". وبيانُ الإشكالِ أن يقال: كيف أمرَها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذا، وفيه عقدُ بيعٍ على شرطٍ لا يجوز، وتغريرٌ بالبائعين؛ إذ شرطت لهم ما لا يصحُّ، وخدعَتْهم فيه؟ قال الإمام: ولما صعُبَ الانفصالُ عن هذا على بعض الناس (¬4)، أنكر هذا الحديثَ أصلًا، فحكي ذلك عن يحيى بنِ أكثمَ، وقد وقع في كثير من الروايات سقوطُ هذه اللفظة، وهذا ما شجَّع يحيى على إنكارها (¬5). ق: وبلغني عن الشافعي قريبٌ منه، وأنه قال: اشتراطُ الولاء رواه هشامُ بنُ عروةَ عن أبيه، وانفردَ به دونَ غيره من رواة الحديث، وغيرُه من رواته أثبتُ من هشام، والأكثرون على إثبات اللفظة؛ للثقة براويها. قلت: وعلى تقدير ثبوتها أُجيب عن ذلك بوجوه (¬6): الأول: قيل: إن (لهم) هنا بمعنى: عليهم، فيكون معناه: اشترطي ¬
عليهم الولاءَ، وعبر (¬1) عن (عليهم) بلفظ (لهم)؛ كما قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] بمعنى: عليهم، {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا (¬2)} [الإسراء: 7]؛ أي (¬3): عليها؛ كذا نقله الإمام عن بعضهم. ق: وفي هذا ضعف. أما الأول: فلأن سياقَ الحديث وكثيرًا من ألفاظه يَنفيه. وأما ثانيًا: فلأن اللام لا تدلُّ بوضعها على الاختصاص النافع، بل تدل على مطلق الاختصاص، فقد يكون في اللفظ ما يدلُّ على الاختصاص النافع، وقد لا يكون (¬4). قلت: بل هو عندي ضعيفٌ جدًا، والعجبُ من الشيخ في تعبيره هنا بقوله: فيه ضعف. الثاني: قال الإمام المازري، وقال آخرون: معنى اشترطي هنا: أَظْهري حكمَ الولاء. وقال آخرون (¬5): إنما المراد بهذا: الزجرُ والتوبيخُ (¬6)؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان بَيَّنَ لهم أنَّ هذا الشرطَ لا يحلُّ، فلما أخذوا يتقاحمون على مخالفته، ¬
قال لعائشةَ هذا اللفظَ، بمعنى: لا تُبالي بشرطهم؛ لأنه باطلٌ مردود، وقد سبق بياني لهم ذلك، لا على معنى الإباحةِ لها، والأمرِ لها بذلك، وقد تردُ (¬1) لفظةُ: افعل، وليس (¬2) المراد بها اقتضاءَ الفعل، ولا الإذنَ فيه؛ كما قال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، و {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] (¬3). ع: قال ذلك؛ لأن البيانَ بالفعل أقوى منه بالقول، ولذلك أمر -عليه الصلاة والسلام- عائشةَ باشتراط الولاء لهم؛ ليبين لهم ذلك بالقول، والتوبيخ على رأي بعضهم؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لأِسُنَّ" (¬4)، لا سيما على رأي من رأى أنه ينسى عامدًا، ليبين صورةَ السهوِ. قال: وهذا الوجهُ أظهرُ التأويلات في الحديث، وظاهرُ لفظه، وقد جاء من رواية أيمن عن عائشة: "اشْتَرِيهَا، وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُونَ مَا شَاؤُوا"، فاشترتْها، وأعتقَتْها، وشرطَ أهلُها الولاءَ (¬5) (¬6). قال محمد بن داود الأصبهاني في قول النبي (¬7) -صلى اللَّه عليه وسلم- لها: "اشْتَرِطي ¬
لَهُمُ الوَلَاءَ": إنما معناه: أن (¬1) ذلكَ -بعدَ علمِهم بما نهى عنه- غيرُ صائرٍ (¬2) لكِ، ولا نافعٍ لهم، ولم يأمرها -عليه الصلاة والسلام- باشتراطِه، ثم يبطل الشرط، ويصحح (¬3) البيع، وهم غيرُ عالمين ببطلانه، وإنما كان هذا (¬4) منه -عليه الصلاة والسلام- تهديدًا لمن رغب عن حكمه، وخالفَ أمرَه، وإليه مال الأَصيليُّ، وأبى أنه على ظاهره، وأنه أمرَها بذلك؛ ليقعَ البيعُ ويصحَّ، ويبطلَ الشرط، ويكون ما قابل الشرطَ من الثمن، وحَطّ له عقوبةً في المال لمَّا خالفوا أمره؛ كما مُنع القاتلُ من الميراث عقوبةً له. وقال الطحاوي: رواية الشافعي عن مالك في هذا الحديث: "اشْرُطِي (¬5) لَهُمُ الوَلَاءَ" (¬6) -بغير تاء-؛ أي: أظهري (¬7) لهم (¬8) حكمه، وعلميهم سُنَّته (¬9)؛ كما تقدَّم، وليس من الاشتراط، وما تقدم أظهرُ لفظًا ومعنًى (¬10). ¬
قلت: وقال بعض أصحاب الشافعي: إن ذلك خاصٌّ بهذه القضية، ويكون سببُ التخصيص بإبطال هذا الشرط المبالغةَ في رجوعهم عن هذا الاشتراطِ المخالفِ للشرع؛ كما أن فسخَ الحجِّ إلى العمرة كان خاصًا بتلك الواقعة؛ مبالغةً في إزالة ما كانوا عليه من منعِ العُمرة في أشهر الحج (¬1). قلت: وكذلك إدخالُه -عليه الصلاة والسلام- العمرةَ على الحج كان خاصًّا لهذا المعنى أيضًا (¬2). وسابعها: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما الوَلاءُ لمن أعتقَ" يدل على أن معنى كلمة (¬3) (إنما) يقتضي الحصرَ -كما تقدم-؛ لأنها لو لم تقتضِ الحصرَ، لما انحصرَ ثبوتُ الولاء في المعتِق، ونفيُه عن غيرهِ، وسياقُ الحديثِ يدلُّ على نفيه عن غير المعتِق (¬4)، فدلَّ على أن مقتضاها الحصرُ. ع: وهي لفظةٌ جليلةٌ (¬5) عند أهل الأصول في الحصر بالحكم لمن ذُكر، ونفيِه عمَّنْ عداه، ويعبر عنها بعضهم بتحقيق المتصل، وتمحيق (¬6) المنفصل. ¬
وإذا ثبت أنها للحصر، اقتضى ذلك أمرين (¬1): أحدهما: ما قيل من أن ذلك يدلُّ على ثبوت الولاء في سائر وجوه العتق؛ كالكتابة، والقطاعة، والتعليق بالصفة، وغير ذلك. الأمر الثاني: بطلانُ الولاءِ بالحِلْف، والموالاة، وبإسلام الرجل على يدِ الرجل، والتقاطِ اللقيط، وقد اختلف العلماء في ذلك كله (¬2)، ومذهبُنا ومذهبُ الشافعي: أنه لا ولاءَ في شيء من ذلك؛ لما تقدَّم من اقتضاءِ الحديثِ الحصرَ في العتق، واللَّه أعلم (¬3) (¬4). والولاء (¬5): -بفتح الواو والمد- وأصلُه من الوَلْي، وهو القُرْبُ، وهو سببٌ يورَثُ به، ولا يُوَرَّثُ، وقد نهى -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الولاء، وعن هبته (¬6)، فهو لا ينتقل عن مستحقِّه؛ لأنه لُحْمَةٌ كلُحْمَة النسب، وبهذا قالَ جماهيرُ العلماء من السلف والخلف. ح: ونُقل عن بعض السلف نقلُه، ولعلهم لم يبلُغْهم الحديثُ (¬7)، وسيأتي الكلامُ عليه بأبسط من هذا في الفرائض إن شاء اللَّه تعالى. ¬
وأما العتق: فهو الحرية، والإعتاقُ: التحرير (¬1)، والعَتاق والعَتاقة -بالفتح فيهما- بمعنى: العتق، تقول منه: عَتَقَ العبدُ يَعْتِق، مثل ضربَ يضرِب، عَتْقًا وعَتاقًا وعَتاقة، فهو عتيقٌ وعاتقٌ، وأعتقتُه أنا، فهو مُعْتَق (¬2). إذا ثبت هذا، فمن أعتقَ عبدًا تطوُّعًا، أو نذرًا نذَره، أو حلفَ بعتقِه، أو أعتقَه في كفارةٍ وجبتْ عليه، أو كاتَبَه، أو قاطَعَه، فأَدَّى، أو أُعتق عليه بحكم لزمَه، أو على جُعْل جعلَه له، أو باعه نفسَه، أو أعتقَه عنه غيرُه، أو أعتقَ عبدُه عبدًا بإذنه، أو أُعتقَ عليه لقرابةٍ بينه وبينه؛ فالولاءُ في ذلك كلِّه له (¬3). (¬4) والخلافُ بيننا وبين الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، فيما إذا أعتق عبدًا عن رجل بعينه، أو عن جماعة المسلمين، فمذهبُنا: أن الولاءَ للمعتَقِ عنه؛ كان (¬5) رجلًا بعينه (¬6)، أو جماعةَ المسلمين. وقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد فيما حكاه ابنُ هبيرة: إن الولاء للمعتِق، قال: وزاد أبو حنيفة فقال: إن الولاء للمعتِق (¬7)، ولو كان ¬
المعتَقُ عنه أَذِنَ في أن يعتقَ عنه (¬1). وقال ابن (¬2) نافعِ من أصحاب مالك: في المعتَقِ عن جماعة المسلمين: إن الولاءَ له دونَهم. قال بعض (¬3) أصحابنا: ويلزمه على ما قال، أن يقولَ بمذهب المخالف: إن الولاء للمعتِق، وإن أعَتَقَ (¬4) عن رجل بعينه. واحتج من قال: إن الولاء للمعتِق، وإن أعتقَ عن غيره: بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "الولاءُ لمن أَعْتَقَ"، فعمَّ (¬5)، وحملَه مالكٌ على أن المرادَ به: من أعتقَ عن نفسه؛ بدليل أن الوكيل إذا أعتقَ بإذن موكله على العتق، كان الولاءُ لمن وَكَّلَه، وإن كان هو المعتِقَ. ع: وقال جماعة من السلفِ: يوالي مَنْ شاءَ، فإن ماتَ قبلَ ذلك، فولاؤه للمسلمين. وقيل: يُشترى بتركته رقابٌ، فتعتقْ (¬6). واختُلف في وَلاء المكاتَب والعبدِ يشتري نفسَه من سيده، فقيل: ولاؤه لسيدِه، وهو قول مالكٍ، وأكثرِ العلماء، وقيل: لا ولَاء عليه. ¬
مسألة: لو قال: أنتَ حُرٌّ، ولا ولاءَ لي (¬1) عليكَ، فقال ابنُ القصار: الولاءُ للمسلمين، ونزَّله منزلةَ القائل: أنت حرٌّ عن المسلمين (¬2). قال الإمام: وكان بعضُ شيوخنا يخالفه في هذا، و (¬3) رأى أن بقوله: أنت حُرٌّ استقرَّ الولاءُ له (¬4)، واستئنافُه بعد ذلك جملةً ثانية، هي: لا ولاءَ لي (¬5) عليك، لا يغير حكمَ الجملة الأولى؛ لأنه إخبار على (¬6) أن حكمَ الجملة الأولى المستقرة بالشرع على خلافِ ما حكمَ اللَّهُ به، فيكونُ إخبارُه كذبًا، وفتواه باطلًا، والباطلُ والكذبُ لا يُلتَفَتُ إِليهِ، ولا يُعوَّلُ في مثلِ هذهِ الأحكامِ علَيهِ (¬7) (¬8). وثامنها: قوله -عليه الصلاة السلام-: "ما بالُ أقوامٍ يشترطون شروطًا ليستْ فى كتاب اللَّه؟ ": قد تقدم أن البال (¬9) في مثل هذا بمعنى: الحال، وأنه من الألفاظ المشتركة، وكتاب اللَّه هنا: قيل: المرادُ به ¬
حكمُ اللَّه، وقيل، يحتمل أن يرادَ به: القرآن. ع: وكأنه إشارة إلى قوله -تعالى- {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] , وقوله: {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] الآية. قال: وعندي: أن الأظهرَ هو ما أعلمَ به -عليه الصلاة والسلام- من قوله: "إِنَّما الولاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، وَ"مَوْلَى القَوْمِ مِنْهُمْ"، و"الوَلَاءُ لُحْمَة كَلُحْمَةِ النَّسَبِ" (¬1). فيه: من حسن الأدب والعشرة قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "ما بالُ رجالٍ (¬2)، أو "ما بالُ أقوام (¬3)؟ "، ولم يواجههم بالخطابِ، ولا صرَّحَ بأسمائهم (¬4)، ولا أبعد (¬5) أن يكون هذا المعنى أصلُه في كتاب اللَّه تعالى، وذلك قوله -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] الآية، وما كان مثله، وكذا قوله تعالى في سورة التوبة: {مِنْهُمْ}، {مِنْهُمْ}، فاعرفه. ¬
وتاسعها: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإن كان مئةَ شرطٍ": كأنه من باب قوله -تعالى-: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80]، ومعناه -واللَّه أعلم-: لو شرط مئة مرة توكيدًا، فهو باطل؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام- في بعض روايات "مسلم": "مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِئَةَ مَرَّةٍ". إذا ثبت هذا، فلتعلمْ: أن الشروط المشترَطَة في البيوع على مذهب مالك رحمه اللَّه تعالي تنقسم (¬1) أربعة أقسام: أحدها: ما يُفسخ به البيعُ على كلِّ حالٍ، ولا خيارَ في إمضائه لأحدِ المتبايِعَيْن، فإن كانت السلعةُ قائمةً، رُدَّتْ بعينها، وإن كانت فائتةً، صحَّ البيعُ فيها بالقيمة، بالغةً ما بلغَتْ، كانتْ أكثر من الثمن، أو أقلَّ، وهو ما آلَ البيعُ به إلى الإِخلَالِ بشرطٍ من الشروطِ المشترَطَة في صحةِ العَقْد، لعدم (¬2) الرِّبا، والغرر في الثمن والمثمون، وما أشبَه ذلك. والثاني: يُفسخُ فيه البيعُ ما دام مُشترِطُ الشرطِ مُتمسكًا بشرطه، فإن رضي بتركِ الشرط، صحَّ البيعُ، إن كان لم يَفُتْ، وإن كان قد فاتَ، كانَ فيه الأقلُّ من الثمنِ، أو القيمةِ إن كان المشتري هو مشترطَ السلَف؛ كالحكم في بيوع الثُّنْيا. قال القاضي أبو الوليد بنُ رُشْد: هذا قول ابنِ القاسم في "المدونة". ¬
الثالث: يجوز فيه البيعُ والشرطُ، وذلك إن كان الشرط صحيحًا، ولم يَؤُلِ البيعُ به إلى غَرَر، ولا فسادٍ في ثمنٍ ولا مثمونٍ، ولا إلى ما أشبهَ ذلكَ من الإخلال بشرط من الشرائط المشترطة في صحة البيع، وذلك مثلُ أن يبيع الرجلُ الدارَ، ويشترطَ سُكناها أشهرًا معلومة، أو يبيعَ الدابةَ، ويشترطَ ركوبَها أيامًا يسيرةً إلى مكانٍ قريب، أو يشترط شرطًا يوجبُه الحكم، وما أشبهَ ذلك. و (¬1) الرابع: يجوزُ فيه البيع، ويُفسخ الشرطُ، وذلك ما كان الشرطُ فيه غيرَ صحيح، إلا أنه خفيف، فلم تقع (¬2) حصةٌ من الثمن، وذلك مثلَ (¬3) أن يبيع السلعةَ، ويشترط إن لم يأت بالثمن إلى ثلاثة أيام أو نحوِها، فلا يقع البيعُ بينهما، ومثل الذي يبتاع الحائطَ (¬4) بشرط البراءة من الجائحة؛ لأن الجائحة لو أسقطها قبلَ وجوبِ البيع، لم يلزمْه ذلك (¬5)؛ لأنه أسقط حقًا قبلَ وجوبه، فلما اشترط إسقاطَها في عقد البيع، لم يؤثر ذلك عندَه في صحته؛ لأن الجائحة أمرٌ نادر، فلم يقع لذلك حصةٌ من الثمن، ولم يلزم الشرطُ، إذ حكمُه أن يكون غيرَ لازم إلا بعدَ وجوب الرجوع بالجائحة (¬6)، وما أشبهَ ذلك. ¬
فهذا مذهب مالك رحمه اللَّه في الشروط المقترنة بالبيع، وعلى هذا الترتيب لا يتعارض ما رُوي عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في خلاف ما ذهب إليه أهلُ العراق، فعرفَ مالكٌ رحمه اللَّه تعالى الأحاديثَ كلَّها، واستعملَها في مواضعِها، وتأَوَّلها على وجوهِها. قال القاضي أبو الوليد: وأما أبو حنيفة، وابنُ أبي ليلى، وابنُ شُبْرُمَةَ، فلم يُمْعِنوا (¬1) النظرَ، ولا أحسنوا تأويل الأثر، واللَّه يوفقُ مَنْ يشاء ويرشدُه، هو (¬2) يشرحُ صدرَه ويؤيِّدُه (¬3)، لا ربَّ غيرُه (¬4). قلت: وقد رأيتُ في كتابِ "التنبيه" (¬5) للبَطْلَيَوْسِيِّ رحمه اللَّه، قال: رُوي عن عبد الوارث بنِ سعيدٍ: أنه قال: قدمتُ مكةَ، فألفيتُ بها (¬6) أبا حنيفةَ، فقلت له: ما تقولُ في رجلٍ باعَ بيعًا (¬7)، وشرط شرطًا؟ فقال: البيعُ باطل، والشرطُ باطل، (¬8) فأتيتُ ابنَ أبي ليلى، فسألته عن ذلك، فقال: البيعُ جائز، والشرطُ باطل، فأتيت ابنَ شُبرمة، فسألته عن ذلك، فقال: البيعُ جائز، والشرطُ جائز، فقلت في نفسي: يا سبحانَ اللَّه! ثلاثةٌ ¬
من فقهاء العراقِ لا يتفقونَ على مسأَلَةٍ! (¬1) فعدت إلى أبي حنيفة، فأخبرته بما قال (¬2) صاحباه، فقال: (¬3) ما أدري ما قالا لك، حدئني عَمْرُو ابنُ شعيب، عن أبيه، عن جده قال: نهى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بَيعْ وشَرْطٍ، فالبيعُ باطل، والشرطُ باطل، فعدت إلى ابن أبي ليلى، فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما (¬4) أدري ما قالا لك (¬5)، حدثني هشامُ بنُ عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ قالت: أمرني رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن أشتريَ بَريرة، فأُعْتِقَها، البيعُ جائز، والشرطُ باطل، قال: فعدت إلى ابنِ شُبرمة، فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني مِسْعَرُ بنُ كِدامٍ، عن مُحاربِ بنِ دِثارٍ، عن جابر، قال: بعتُ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعيرًا، وشرطَ لي حملانَه إلى المدينة، البيعُ جائز (¬6)، والشرطُ جائز، وفي رواية: ناقة، واستثنيتُ حلابَها وظهرَها إلى المدينة (¬7). قلت: فسببُ اختلاف هؤلاءِ الفقهاءِ الثلاثة أخذُ كلِّ واحدٍ منهم بحديث مفرد اتصل به، ولم يتصل به غيره (¬8). ¬
وأما مالك رحمه اللَّه، فعرف الأحاديثَ كلَّها، واستعملَها في مواضعها، كما تقدم من قول القاضي أبي الوليد. وعاشرها: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "قضاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وشرطُ اللَّهِ أوثقُ" أي (¬1): أحقُّ بالاتباعِ من الشروطِ المخالِفَةِ لحكمِ الشرع، وشرطُه أوثق باتباعِ حدودِه التي حَدَّها، وظاهرُ هذا: عدم اشتراطِ المشاركةِ بين المفضَّلِ والمفضَّل عليه؛ إذ ما شرطوه من ثبوت (¬2) الولاء لهم باطلٌ؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-، ولا مشاركةَ بين الحقِّ والباطل، إلا أن يقال: إن ذلك جاء على ما اعتقدوه أولًا من الجواز، أو على أن صيغة (أفعل) (¬3) ليست على بابها، ويكون كقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]؛ أي: هين، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الآخر: "أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَهُوَ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ" (¬4)، وإن أعظمَ بمعنى: عظيم -على ما تقرر فيه-، واللَّه أعلم. الحادية عشرة: في الحديث: دليل على جواز كتابة الأنثى، وذاتِ الزوج من الإماء، ودخولهنَّ (¬5) في عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33] الآيةَ؛ فإن الزوج لا يدخل في كتابتها، وإنه ¬
لاحقَّ للزوج في منعها من الكتابة، وإن أَدَّى ذلك إلى فراقها باختيارها إن كان عبدًا على قول الجمهور، أو كيفَ كانَ على القول الآخر، وإنه ليس له منعُها من السعي، وقد يُستدل به على أنه لاحقَّ له قي خدمتها، إذ لو كان (¬1) كذلك، لكان له متَكلم في منعها، وجوازِ كتابةِ العبدِ الذي لا مالَ له، وجوازِ كتابة الأَمَة غيرِ ذاتِ الصنعة، ومَنْ لا حرفةَ له من العبيد؛ إذلم يستفهم النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شيء من ذلك، ولو كان مشتَرَطًا، لسألَ (¬2) عنه، وهذا كلُّه (¬3) مذهب مالكٍ، والشافعيِّ، والثوريِّ، وجماعةٍ غيرهم. واختُلف عن مالك في كتابة مَنْ لا حرفةَ له، وكرهها الأوزاعيُّ، وأحمد، وإسحاق، ورُوي مثلُه عن عمر -رضي اللَّه عنه-؛ خلافًا لمن تأوَّلَ من السلف أن الخيرَ المرادُ به في الآية: المالُ، وهو عندَ أكثرهم: الدِّين، والأمانةُ، والقوةُ على الكَسْب عندَ بعضهم. وفيه: أن المكاتب غيرُ عتيقٍ بنفسِ الكتابة، وأنه عبدٌ ما بقيَ عليه درهمٌ، وهو قول عامة العلماء وفقهاءِ الأمصار. وحُكي عن بعض السلف: أنه حُرٌّ بنفس الكتابة، وهو غريمٌ بالكتابة، ولا يرجع إلى الرِّقِّ أبدًا. وحُكي عن بعضهم: أنه إذا عجزَ، يعتق منه بقدر ما أَدَّى، ورُوي ¬
هذا عن عليّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-. وحُكِيَ عن بعضِهم: أنه إذا أدَّى الشطرَ من كتابته، فهو حُرٌّ، وهو غريمٌ بالباقي، وحُكِيَ (¬1) عن عمرَ بنِ الخطابِ (¬2)، وعن أبي مسعود، وشريحٍ مثلُ (¬3) هذا: إذا أَدى قيمته. وفيه: جوازُ الكتابة على النُّجوم (¬4)، لقولها: "أُوقيةً في كلِّ سنةٍ"، ولا خلاف في هذا، ويجوز عند عامتهم على نجم واحد، لكنَّ شأنها عند مالك التنجيمُ، لأنَّه إذا لم يُسَم أجلًا ولا نقدًا، نجم عنده عليه بقدر سعايته وقوته، وإن كره (¬5) السيد، ومنعها الشافعيُّ جملةً، وقال: ليست بكتابة. وفيه: من حسن الأدب والعشرة قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "ما بالُ رجالٍ"، وقد تقدم. وفيه: جوازُ الصدقةِ على العبد، لاستسعائها عائشة، ولم ينكر ذلك النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذلك في التطوُّع، وكذلك معونةُ المكاتَب من التطوُّع، واختلف في معونته من الفرض (¬6). ¬
وفيه: جوازُ بيعِ المرأةِ وشرائِها بغير إذنِ زوجِها، وجوازُ عتقِها لعبدِها. وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "قضاءُ اللَّه أحقُّ، وشرطُ اللَّه أوثقُ" جوازُ المجمع غير المتكلَّفِ، وإنما نهى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن سجعِ الكُهَّان وما أشبَهَهُ؛ ممَّا فيه تكلُّفٌ وإقسام على مطويِّ الغيب. وفيه: جوازُ إعطاء الصدقاتِ لموالي قريشٍ، وإن كانت هذه الصدقةُ تطوُّعًا، فقد يحتجُّ به مَنْ يرى صدقةَ التطوع جائزةً لمواليهم، أو (¬1) لجميعهم، وإن قلنا: إنها زكاة واجبة، فيحتج بذلك (¬2) من لا يرى تحريم ذلك على الموالي منهم، أو يرى اختصاصَ ذلك ببني هاشم، وبني عبد المطلب، ومواليهم. قال بعضهم: وفيه: دليل على جواز تعجيز المكاتَبِ نفسِهِ بغير إذن السلطان، وقد اختلف قولُ مالك في ذلك، ودليل على رضاه بالعجز من حيث الجملة؛ إذ لم يأت في الحديث ذكرُ عجزها، ولا استفهمَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك من حالها. وقد اختلف أئمتُنا في رضاه بتعجيزِ نفسِه، وإن كان له مالٌ، فقال ابن شهاب، وربيعة، وأبو الزناد: إذا رضيَ بالبيع (¬3)، فهو عجزٌ، وجاز بيعُه. ¬
وقال مالك: لا يجوز ذلك إلَّا لعجزه (¬1) عن الأداء، ولا يكون له مال، وقد تأول بعضهم عجز بريرة، ولذلك استعانت (¬2) عائشةَ، هذا معنى كلام ع، وأكثرُ لفظه (¬3). وفي حديث بريرة هذا فوائد كثيرة، منعَنا من ذكرها كراهةُ التطويل والإملال، ولأن فيها تصانيفَ مشهورة -كما تقدم-، فليقف عليها هناك مَنْ أرادها، واللَّه الموفق. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 268 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّه كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ، فَأعْيَا، فَأرادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، قَالَ: "بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ"، قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: "بِعْنِيهِ"، فَبِعْتُه (¬1) بِأُوقِيَّةٍ، وَاسْتَثْنيتُ حُمْلَانه إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ، أتَيْتُهُ بِالجَمَلِ، فَنَقَدَني ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَأرْسَلَ في إِثْرِي، فَقَالَ: "أَتَراني مَاكسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَراهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ (¬2) " (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: يقال: أَعْيَا الرَّجُلُ في المشي، فهو مُعْيٍ (¬1)، ولا يقال: عَيَّانُ، وأَعْيَاهُ اللَّه؛ كلاهما بالألف، وأَعْيَا عليه الأمرُ، وتَعَايا (¬2)، وتَعَيَّا، بمعنى، ومنهُ المعاياة، وهو أن يأتيَ بشيء لا يُهتدَى له غالبًا، وجَمَلٌ عَيَايَاءُ (¬3): إذا لم يَهْتَدِ للضِّراب، ورجلٌ عَيَايَاء (¬4): إذا عَيَّ بالأمرِ والمَنْطِق (¬5). وقوله: "فأرادَ أن يُسَيِّبه"؛ أي: يُطْلِقه ضجرًا منه، لا [أنه] أراد ¬
أن يجعلَه سائبةً لا يركبه أحد؛ كما كانت الجاهليةُ تفعل. الثاني: في الحديث: عَلَمٌ من أعلام النبوة، ومعجزةٌ من معجزاتِ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وانظرْ: هل فيه رواية الحديث بالمعنى؛ لقوله: "فدعا لي"، ولم يصرِّحْ باللفظ المدعو به؟ وفيه: جوازُ ضربِ الدابة حثًّا لها (¬1) على السير إذا أعْيَتْ. وفيه: جوازُ طلبِ بيعِ السلعةِ من مالكِها، وإن لم يعرضْها للبيع. وفيه: أنه لا بأس بمجاوبة الأكابر بكلمةِ: لا. وفيه: التعبيرُ بصيغة الأمر عن غير الأمر، وهو قولُه (¬2): بِعْنيه. الثالث: قد تقدم الكلامُ على اقتران البيع في الشرط آنفًا مستوعَبًا. وقوله: "بأُوقِيَّة": هكذا هو في روايتنا في هذا الكتاب، وفي نُسخ "مسلم": "بِوُقِيَّةٍ" وقد تقدم أنهما لغتان، وأُوقِيَّةُ أفصحُ وأشهرُ. وقوله: "واستثنيتُ حُمْلانَه إلى أهلي": هو بضم الحاء وسكون الميم؛ أي: الحملَ عليه، والمفعولُ (¬3) محذوف؛ أي: و (¬4) حملانَه إياي، أو متاعي، ونحو ذلك، فالمصدرُ فيه مضافٌ إلى الفاعل. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَتُراني ما كسْتُكَ؟ ": قيل (¬5): ¬
المماكسَة: هي المكالمة في النَّقْص من الثمن، وأصلُها النقصُ، ومنه: مكسُ الظالمِ: وهو ما ينقصُه ويأخذه من أموال النَّاس (¬1). فيه: جوازُ عقدِ الهبةِ بغير لفظها، وهو قوله: وهبتُكَ، وصحَّتُها بغير قبولِ الواهب (¬2)؛ إذ لم يذكر ذلك في الحديث، وهذا مذهبنا أعني: عدمَ اشتراطِ صيغة الإيجاب والقبول، بل تصحُّ الهبة عندنا بذلك، وبما يقوم مقامَه من قولٍ أو فعلٍ؛ كما هو ظاهر الحديث، أو نصُّه. وللهبة ثلاثةُ أركان: أحدها: الصيغةُ، أو ما يقوم مقامَها؛ كما تقدم. والثاني: الموهوبُ، وهو كلُّ مملوك يقبلُ النقلَ، ولا يمتنعُ بالشيوع (¬3)، وإن قَبِلَ القسمة، ويصح عندنا هبةُ المجهولِ، والآبقِ، والكلبِ، ونحوِ ذلك. الثالث: الواهبُ، وهو كلُّ من له أهليةُ التبرُّع، فلا هبةَ لمحجورٍ، وتصحُّ هبةُ المريض من ثلثه؛ إذ لا حجرَ (¬4) عليه فيه. ولها شرطٌ واحد، وهو الحَوْزُ. ¬
وقد روى ابنُ وهب: أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وابنَ عمر، وابنَ عباس -رضي اللَّه عنهم- قالوا: لا تجوزُ صدقةٌ ولا عطيةٌ إلَّا بحوزِ قبضٍ، إلَّا الصغيرَ من ولدِ المتصدِّقِ؛ فإن أباه يجوز له. وهو شرط -أعني: الحوز- في التمام والاستقرار، لا في الصحة واللزوم، إذ ثبتا بوجود السبب، ولذلك يُجبر الواهبُ عليه، ويحصل من غير تحويزه (¬1)، بل لا يعتبر علمُه به، فضلًا عن إذنه (¬2) فيه، ولو علم، لم يشترط رضاه؛ لأنَّه لو منعه، قضي عليه فيه، وكذلك لو قهره عليه، لصحَّ له بذلك، نعم، يشترط دخولُ الحوزِ مقارنًا لصحةِ جسمه وعقلِه وقيامِ وجهه (¬3)؛ كما (¬4) هو مفصَّل في كتب الفقه، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 269 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تناجَشُوا، وَلَا يبعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتكْفَأَ مَا فِي إِناَئِهَا (¬1). ¬
* الشرح: قد تقدم القولُ على بيعِ الحاضرِ للبادي، والنَّجْشِ، وبيعِ الرجل على بيع أخيه، في باب: ما يُنهى عنه من البُيوع. وقوله: "ولا تَناجشوا"، كأنه على تقدير القول؛ أي: وقال: و (¬1) لا تناجشوا (¬2). وأما النهيُ عن خِطبة الرجل على خِطبة أخيه، فالنهيُ عندنا على الوجوب، فتحرُم الخِطبةُ على خِطبةِ الرجلِ غيرِ الفاسِقِ بعدَ التراكُن؛ بلا (¬3) خلافٍ عندنا. واختُلِفَ في حقيقةِ التراكُن؛ هل هو تسميةُ الصّداق، أو الرِّضا بالزوج؟ و (¬4) قال الشافعي: إنما هو فيمَنْ أذنتِ المرأةُ لوليها أن يزوِّجَها من رجلٍ معين. قال الخطابي: وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "على خِطبة ¬
أخيه" دليلٌ على أن ذلك إذا كان الخاطب الأولُ مسلمًا، ولا نُضَيِّقُ عليه (¬1) إذا كان يهوديًا أو نصرانيًا (¬2)، وهو مذهب الأوزاعيِّ، والجمهورُ على خلافه، ولهم أن يجيبوا عن الحديث بأن التقييدَ بأخيه (¬3) خرجَ مخرج الغالب، فلا يكونُ له (¬4) مفهومٌ. وقال ابن القاسم: هذا في غير الفاسق، وأما الفاسقُ، فيُخْطَبُ على خِطبته. ع: وقيل: معنى النهي: إذا أذنتِ المخطوبة في إنكاحِ رجلٍ بعينِه (¬5)، فلا يحلُّ لأحد أن يخطُبَها حتَّى يأذن الخاطب. قلت: وهذا هو قولُ الشافعيِّ المتقدمُ آنِفًا (¬6). وقد اختُلف (¬7) عندَنا إذا وقعت الخِطبةُ على الخِطبة بعد التراكُن، هل يُفسخ العقدُ، أم لا؟ فعن مالك فيها (¬8) قولان. ¬
وفي المذهب قولٌ ثالث: بأنه يثبتُ بعدَ البناء، ويُفسخ قبلَه، ولا خلافَ أن فاعلَ ذلك عاصٍ. وذهب الشافعي، والكوفيون، وجماعةٌ من العلماء إلى إمضاء العَقْد، وأن النهيَ ليس على الوجوب، وعلل ذلك بأمرٍ آخرَ؛ وهو أن النهي (¬1) مجانبٌ لأجل وقوعِ العداوة والبغضاء، وذلك لا يعود على أركانِ العقد وشروطِه بالاختلال (¬2)، ومثلُ هذا لا يقتضي فسادَ العقد، قاله ق (¬3). ولم يختلف قولُ داود: إن العقد يُفسخ والحالةُ هذه، وإن النهي على الوجوب (¬4)، والخِطْبَةُ في هذا كله بكسر الخاء، بخلاف خُطْبَة الجمعة، والعيدين، ونحو ذلك؛ فإنها بالضم ليس إلَّا. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لتكفأ ما في صَحْفَتها (¬5) "؛ أي: لتنفردَ بزوجِها وأكلِ ماله، وتفريغ صحفةِ أختِها من نفقته ومعروفه، فكأنها تُميلها وتقلبها (¬6) لأخذِ ما فيها، أو تفرغها، وتقلبها لفراغها؛ إذ ¬
عادةُ النَّاس قلبُ الصحاف إذا كانت فارغةً، قاله (¬1) ع. وقال أبو عبيد: لم يرد الصحفةَ خاصةً، إنما جعلَها -عليه الصلاة والسلام- مثلًا لحَظِّها منه (¬2)؛ كأنها (¬3) إذا طَلَّقَها، أمالتْ نصيبَها منهُ إلى نفسها. قلت: وهذا كأنه المعتمَدُ في تفسيرِ هذه اللفظةِ، وقريبٌ منه يُسمَّى عند علماء البيان: التمثيلَ والتخييل عندَ التعبيرِ (¬4) بالذواتِ (¬5) عن المعاني، ومنه قولهم: ما زالَ يَفْتِلُ في الذِّرْوَةِ والغارِبِ (¬6) حتَّى بلغَ منه مُرادَهُ، والمعنى: أنه لم يزلْ يرفقُ بصاحبِهِ رِفقًا يُشبه حالُه فيه (¬7) حالَ الرجلِ يجيْءُ إلى البعيرِ (¬8)، فيحكُّه، ويفتل الشعرَ في ذروته وغاربه حتَّى يستأنسَ، فالصحفةُ هنا كالذروةِ والغارِب، واللَّه أعلم. قال الهروي: "تَكْتَفِىء ما في إنائها"، هو تَفْتَعِلُ (¬9)؛ من كَفَأْتُ ¬
القدر: إذا كببتها لتفرغ ما فيها، وهذا مثالٌ لإمالة الضَّرَّةِ حقَّ صاحبتِها من زوجِها إلى نفسها. قال الكسائي: أكفأتُ الإناءَ: كَبَبْتُهُ إِكْبَابَةً، وكِبَابَةَّ: إذا أمَلْتُه. وقيل: هو كنايةٌ عن الجماع والرغبةِ في كثرة الولد، والأولُ أظهر (¬1)، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
باب الربا والصرف
باب الربا والصرف الحديث الأول 270 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الذَّهَبُ بِالوَرِقِ (¬1) رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، والشَّعِيرُ بِالشَّعِيرُ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ" (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قال الجوهريُّ: الذهب معروفٌ، وربما أُنِّثَ، والقطعةُ منه ذَهَبَةٌ (¬1)، ويجمع على: الأَذْهاب، والذُّهُوب (¬2). والوَرِق: الدراهمُ المضروبة، وكذلك الرِّقَةُ -بتخفيف القاف والهاء بدل من الواو- كما هي في عِدَة، وزِنَة، ويجمعُ على رِقِينَ، وفي المثل: إِنَّ الرّقينَ تُغَطِّي أَفْنَ الأَفِينِ (¬3)، كأنهم يعنون: تغطِّي نقصَ الناقص -واللَّه أعلم-؛ لأنَّ الأفنَ (¬4): النقصُ. وفي الوَرِق ثلاثُ لغات حكاهنَّ الفراء: وَرِق، ووِرْق (¬5)، ووَرْق (¬6)؛ مثل: كَبِد، وكِبْد، وكَبْد، وكَلِمة، وكِلْمَة، وكَلْمَة؛ لأنَّ منهم من ينقل كسرة الراء إلى الواو بعدَ التخفيف، ومنهم من يترُكُها على حالها (¬7). ¬
الثاني: [رِبًا] مقصورٌ، وقد يُمد، ومثلُه الزِّنا والشِّرا، وفيضوضا (¬1)، كلُّها تُقصر وتُمد، وهو من رَبَا يَرْبُو، فيكتب بالألف، ويثنى بالواو، وأجاز الكوفيون كتبه وتثنيته بالياء؛ للكسرةِ في أوله، وغلَّطَهم البصريون، وأجاز الفراءُ كتابته (¬2) بالألف والياء والواو، والرِّماء -بالميم والمد-: هو الربا، وكذلك الرُّبْيَةُ -بضم الراء والتخفيف- لغةٌ في الربا، وأصلُه: الزيادة، رَبَا الشيء، يَرْبُو: إذا زادَ، وأَرْبى الرجلُ، وأَرْمَى: عامَلَ بالربا (¬3). الثالث: أجمعَ المسلمونَ على تحريمِ الربا من حيثُ الجملة، وإن (¬4) اختلفوا في ضَابِطهِ وتفارِيعه (¬5)، قال اللَّه تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والأحاديثَ فيه كثيرة مشهورة، حتَّى يقال: إن ما في المعاصي معصية أعظم من أكل الربا. وقد ذكر ابنُ بكير: أن رجلًا جاء إلى مالكِ بنِ أنسٍ (¬6)، فقال: يا أبا عبد اللَّه! (¬7) رأيت رجلًا سكرانًا يتعافر يريد أن يأخذَ القمرَ، ¬
فقلت (¬1): امرأتي طالق إن كان يدخلُ جوفَ ابنِ آدم أشرُّ من الخمر، فقال مالك: ارجعْ حتَّى أنظرَ في مسألتك، فأتاه من الغد، [فقال: ارجعْ حتى أنظرَ في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال: ارجعْ حتى أنظرَ في مسألتك، فأتاه من الغد] (¬2)، فقال له: امرأتُك طالق؛ إنِّي (¬3) تصفَّحْتُ كتابَ اللَّه، وسنةَ نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم أر شيئًا أشدَّ من الربا؛ لأنَّ اللَّه تعالى أَذِنَ فيه بالحرب (¬4). قلت: يريد: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279]، فليعلم الفقيهُ قدرَ ما أنعمَ اللَّه عليه، وَفَّقنا اللَّهُ للعملِ بما عَلِمنا، وسامحَنَا فيما أهملْنا (¬5) من ذلك (¬6)، إنه وليُّ ذلك، والقادرُ عليه، لا ربَّ سواه. الرابع: نصَّ في هذا الحديث على تحريم الربا في أربعة أشياء: الذهب، والورق، والبر، والشعير. وفي بعض أحاديث "مسلم" زيادة: التمر، والملح. ¬
فقال أهل الظاهر: باختصاص هذه الستة؛ بناء على أصلهم الفاسد في نفي القياس، وقال جماعة العلماء سواهم: لا يختص بالستة (¬1)، بل يتعدَّى إلى ما في معناها، وهو ما شاركها في العلَّة، التي هي سبب تحريم الربا في الستة (¬2). ثم اختلفوا في العلة التي هي سببُ تحريم الربا في الستة (¬3): فذهب مالك إلى أن علَّة التحريم في النقدين كونُهما جوهَرَي الأثمان، وأما الأربعةُ، فلكونها تُدَّخر للقوت، أو تصلُحُ للقوت، فعلى هذا لا يجري الربا عنده في الحديد والرصاص وما أشبهَهُما، ولا في الرمان، والبطيخ، والتفاح، ونحو ذلك. وبذلك قال الشافعي -أيضًا- في النقدين، وأما في الأربعة، فقال في القديم، تبعًا لسعيد بن المسيب: إن العلَّة كونُه مطعومًا يُكال أو يوزن، فحرم الربا في كل مطعوم يُكال أو يوزن، ونفاه عما سواه (¬4)؛ كالسفرجل، والبطيخ، وقال في الجديد: العلَّة كونُه مطعومًا فقط، سواءٌ كان مكيلًا، أو موزونًا، أم لا، ولا ربا فيما سوى المطعوم غيرِ الذهبِ والفضة، هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي على ما نقله ح ¬
في "شرح المهذب" (¬1). ع: وخالفهما أبو حنيفة -يعني: مالكًا، والشافعي- في الجميع، فقال: إن العلَّة في الذهب الوزنُ، وفي الأربعة الكيلُ (¬2). قلت: وقال ابنُ هبيرة: قال أبو حنيفة، وأحمد، في أظهر الروايات عنه، وهي اختيار الخرقي وشيوخِ أصحابِه: العلَّةُ في الأعيان الأربعة الباقيةِ زيادةُ كيل في جنسِ المَكيلات، فكلُّ ما جمعه الجنسُ والكيلُ، فالتحريم فيه ثابتٌ إذا بِيعَ متفاضِلًا؛ كالحنطة، والشعير، والنورة، والجِصِّ، والأُشنان، وما أشبَهَهُ. وعن أحمد رواية ثانية في علَّة الأعيان الأربعة: أنها مأكولٌ مكيلٌ، أو مأكولٌ موزونٌ، فعلى هذه الرواية لا ربا فيما (¬3) يؤكل وليسَ بمكيل ولا موزونٍ؛ مثل: الرمان، والسفرجل، والبطيخ، والخيار، ولا في غير المأكول ممَّا يُكال ويوزن؛ كالنورة، والجص. وعنه رواية ثالثة في علة الأعيان الأربعة: أنه مأكولُ جنس، فعلى هذه الرواية يحرُم ما كان مأكولًا خاصةً، ويدخل في (¬4) التحريم سائرُ المأكولات (¬5)، ويخرجُ منه ما ليس بمأكول (¬6). ¬
ع: فخرج من ذلك أن مالكًا تطلَّبَ علَّته، فحرَّم التفاضلَ في الزبيب؛ لأنَّه كالتمر (¬1) في الاقتيات، وحَرَّمَ التفاضُلَ في القطنية؛ لأنها في معنى القمح والشعير، ويرى أن علَّة الثمنية لم يتفق وجودُها إلَّا في الذهب والفضة (¬2)، ولو اتفق أن يجيز (¬3) النَّاس بينهم الجلود، لنهى عن التفاضل فيها. وأما الشافعي، فتطلَّب علَّته، فحرمَ التفاضُلَ في كل مطعوم. وأبو حنيفة يحرِّمه في كل مَكيل أو موزونٍ. فأما مالك، فإنه استلوحَ ما قال؛ لأجل أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لو أراد الكيلَ أو الوزنَ، لاكتفى بأحدِ هذه الأربعة، ولا يظهرُ للزيادة على الواحدة (¬4) فائدةٌ، وكلامُه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلُّه فوائدُ، لا سيما في تعليم الشرائع، وبيانِ الأحكام، ولذا (¬5) كان يقتصرُ على واحدٍ منها لو كانت العلَّة كونَها مطعومةً؛ لأن الواحدَ منها كما سواه ممَّا ذُكر معه في الحديث، ويقول: لما علم النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن المرادَ: الاقتياتُ، أرادَ أن يُبينه بالتنبيه عليه؛ ليبقي للعلماء مجالًا في الاجتهاد، ويكونَ داعيًا لبحثهم الذي هو من أعظم القُرَب إلى اللَّه عز وجل، وليوسِّعَ لأمته في التعبُّد على حسب ¬
تتبُّعِ أقوالِ علمائهم، ولربما (¬1) كانت التوسعةُ أصلحَ للخلق أحيانًا، فنصَّ على البُرِّ الذي هو أعلى المقتاتات، ثم نصَّ على الشعيرِ الذي هو أدناها؛ لينبِّهَ بالطرفين على الوسط، وتُنظمَ الحاشيتان ما بينهما، وإذا أراد إنسانٌ ذكرَ جملةِ الشيء، فربما كان ذكر طرفيه ونهايته أدلَّ على استيفائه من اللفظِ الشامِل له. ولما عهدَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عادةَ النَّاس في زمنه أكلَ البُرِّ مع السَّعَة والاختيار، والشعير مع الضرورة والإقتار، كان ذكرُه لهما تنبيهًا على السلْت، والأرز، والذرة، والدخن، لأ [ن] مَن اعتادَ أكلَها في بعض البلاد، إما (¬2) أن يأكلَها في حال سَعَته، فيكون ذكرُ القمحِ منبهًا له على حكمها، أو في حال ضيقته، فيكون ذكرُ الشعير منبهًا له، و (¬3) لو اتفق أن يكون الدخنُ أو غيرهُ هو المقتاتَ في زمنه في قوت أهل الإقتار، لأمكنَ (¬4) أن ينبه به بدلًا من الشعير، وأما التمرُ، فإنه، وإن كان يُقتات (¬5)، ففيه ضربٌ من التفكُّه، والطبعُ يستحليه (¬6)، حتَّى إنه يؤكل على غير جهة (¬7) الاقتيات، فأراد -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يرفعَ اللَّبْس لأجل هذا المعنى الذي انفرد، وينصُّ ¬
عليه مُشيرًا إلى كل مُقتات، وإن كان فيه زيادةُ معنى، فإن ذلك لا يُخرجه عن بابه. ولما علم -صلى اللَّه عليه وسلم- أن هذه الأقواتَ، لا يصحُّ اقتياتُها (¬1) إلَّا بعدَ إصلاحها، وإذا لم تكن (¬2) مصلحة تكاد تلحق بالعدم الذي لا ينتفع به في القوت، أعطى ما لا قوام (¬3) لها إلَّا بها (¬4) حكمَها، ونبَّهَ بالملح على ما سواه ممَّا يحلّ محلَّه في (¬5) إصلاحها، أنه لا يُقتات منفردًا؛ ولكنه يَجعل ما ليس بقوت قوتًا. قال: وأما الشافعيُّ، فإنه استلوحَ ما ذهبَ إليه من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديثٍ آخر: "الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ، مِثْلًا بِمِثْل"، فيقول: إني وإن (¬6) لم أزاحمكم في تطلُّب التعليل، فإن عمومَ هذا نصُّ مذهبي، وإن زاحمتكم فيه، فإنه يشير إلى ما قلت؛ لأنَّه علَّق الحكمَ بالطعام، وهو مشتقٌّ من الطُّعْم، ومعنى الاشتقاق هو علَّةُ الأحكام. وأما أبو حنيفة، فإنه سلك -أيضًا- قريبًا من هذا المسلك، فقال: فإن عاملَ خيبرَ لما باع الصاعَ بالصاعين، أنكرَ ذلك -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: ¬
"لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلِ، وَبِيعُوا (¬1) هَذَا، وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا"، فكذلك الميزان، ومعلومٌ أنه لم يرد نفسَ الميزان، وإنما أرادَ نفسَ الموزون، فكأنه قال: وكذا (¬2) الموزونُ، وإن زاحمتكم فيه، كان ذكرُ (¬3) الوزنِ مشيرًا إلى العلَّة. وقال أصحابنا في الردِّ عليه: إن علَّته تُجيز الربا في القليل الذي لا يتأتى فيه الكيل، وعموم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "البر بالبر"، الحديث، يوجب منع (¬4) الربا فيه، فقد صارت العلَّة أُخذت من أصل ينقُضُها عمومُه، وذلك ممَّا يُبطل التعليل. انتهى كلامه رحمه اللَّه تعالى (¬5). وقد نقلوا الإجماع على جواز بيعِ الربويِّ (¬6) بربويٍّ لا يُشاركه في العلَّة، متفاضِلًا، ومؤجَّلًا؛ كبيع الحنطةِ وما في معناه (¬7) بالذهب أو (¬8) الوَرِق، وبيعِ الشعير وغيرِه من المكيل بالفضة. ¬
(¬1) على أنه لا يجوزُ بيعُ الربويِّ بجنسِه وأحدُهما مؤجَّل. وعلى أنه لا يجوزُ التفاضلُ (¬2) إذا بيعَ بجنسِه حالًا؛ كالذهبِ بالذهب. وعلى أنه لا يجوزُ التفرُّقُ قبلَ التقابض إذا باعَه بجنسِه، أو بغيرِ جنسه ممَّا يشاركه في العلَّة؛ كالذهب بالفضة، والحنطةِ بالشعير. وعلى أنه يجوزُ التفاضلُ عند اختلافِ الجنس إذا كان يَدًا بيد؛ كصاعِ حنطةٍ بصاعِ أَرُزٍّ، لا خلافَ بين العلماء في هذا كلِّه، إلَّا ما حُكي عن ابن عباس من تخصيصِ الربا (¬3) بالنَّسيئة، وقد قيل: إنه رجعَ عن ذلك، والحمدُ للَّه. ولتعلمْ: أن التبايُع يقع في ثلاثة أوجه: عرضٌ بعرضُ وعينٌ بعين، وعرضٌ بعين. ويقع التبايُع (¬4) بهذه الأجناس على ثلاثة أوجه أيضًا: يؤخران جميعًا، وينقدان جميعًا، وينقد أحدهما ويؤخر الآخر (¬5). فإن نقدا جميعًا، كان ذلك بيعًا بنقد. ¬
فإن بيع العينُ بعينٍ مثلهِ (¬1)؛ كالذهب بالذهب، سُمي: مُرَاطلة. وإن بيع بعين خلافه؛ كالذهب بالورق، سمي: صرفًا؛ لصرفِهِ عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل، وقيل: لصريفِهما (¬2) وتصويتِهما في الميزان، وهذا تردُّه المراطلة. وإن بيع العرض بعين، سمي العين ثمنًا، والعرضُ مثمونًا. وإن كانا مؤخرين جميعًا، فذلك الدَّينُ بالدَّين، وليس ببيع شرعي؛ لأنَّه منهيٌّ عنه على الجملة. وإن نقد أَحدُهما، وأُخِّرَ الآخرُ، كان المؤخَّرُ هو العين، والمتقدمُ هو العرض (¬3)، سمي ذلك بيعًا إلى أجل، وإن كان العكس (¬4)، سُمي سَلَمًا وسَلَفًا. ولو كانا عرضين مختلفين، سمي ذلك: سَلَمًا، وسَلَفًا، ولا نبالي ما تقدم منهما و (¬5) تأخر (¬6). هذا من حيث الجملة، وتفصيلُه وتفريعه في كتب الفقه (¬7). ¬
الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "البرُّ بالبرِّ، والشعيرُ بالشعير": ظاهره: أنهما صنفان، وهو مذهبُ الثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وفقهاء المحدثين، وآخرين. وقال مالك، والليث (¬1)، والأوزاعي، ومعظمُ علماء المدينة والشام من المتقدمين (¬2): إنهما صنفٌ واحد، وهو محكيٌّ عن عمرَ، وسعدٍ، وغيرِهما من السلف -رضي اللَّه عنهم- (¬3). واتفقوا على أن الدُّخْنَ (¬4) صنفٌ، والذرةَ صنفٌ، والأرزَّ صنفٌ، إلَّا الليثَ بنَ سعد، وابنَ وهب من أصحابنا، فقالا: هذه الثلاثة صنفٌ واحد (¬5). السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "هاء وهاء". قال الإمام: بعض المحدثين يقولون: (ها) بالقصر، وحُذَّاقُ أهل اللغة يمدُّونها (¬6)، ويجعلون ذلك بدلًا من الكاف؛ لأنَّ أصلها (¬7): هاكَ، يقولون: هاكَ السيفَ، بمعنى: خذه، ويقال (¬8) للاثنين: هاؤُما، ¬
وللجمع هاؤُم، قال اللَّه تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَ} [الحاقة: 19] (¬1). قلت: قولُ الإمام: لأن أصلَها (¬2) هاكَ يوهمُ أن الكافَ من نفس الكلمة في الأصل؛ كالدال من زيد، وليس ذلك مرادَه (¬3)؛ إنما يريد: أن ذلك أصلُها استعمالًا، لا بناءً، وهو حرفُ خطاب؛ كالكاف في ذلك، وأولئك، لا حظَّ لها في الاسمية، ويدل على ذلك استعمالُ الهمزة في موضعها؛ كما في الحديث، فيقولون هاءَ للمذكر -بفتح الهمزة-، وهاءِ -بكسرها- للمؤنث، فلما وقعَ موقعَ الكاف ما لا يكون إلَّا حرفًا، عُلم أنها حرف، وربما قالوا: هَاءَكَ -بفتح الهمزة والكاف-، وهاكِ -بكسر الكاف-؛ كأنهم جمعوا بينهما توكيدًا للخطاب، فالكاف (¬4) هنا -أيضًا- حرف، لأن (ها) من أسماء الأفعال -كما تقدم-، وأسماءُ الأفعال لا تُضاف. وقد حكى ثابتٌ وغيرُه من أهل اللغة هَأْ -بالقصر-؛ مثل: خَفْ، وللاثنين هاءا؛ مثل: خافا، وللجميع هاؤوا؛ مثل: خافوا، وللمؤنث هاكِ، ومنهم من لا يثنيها ولا يجمعها على هذه اللغة، ولا يغيرها في التأنيث، ويقول في الجميع: (ها) بلفظ واحد. قال السيرافي: كأنهم جعلوها (¬5) صوتًا مثل صَهْ، ومَنْ ثنى وجمع، ¬
قال للمؤنث: هائي، وبعضهم يقول هاكِ، وفيها لغة أخرى: "هاء" بالكسر مهموزة، الذكر والأنثى سواء، لكن يزيد في المؤنث "ياء"، ويقول: هاءي (¬1)، وفيها لغة أُخرى حكاها بعضهم: (ها) (¬2) -بالقصر-؛ كما يقول بعضُ المحدثين، وأكثرُ أهل اللغة ينكرونها، فرواية المحدثين (هَا وهَا) -بالقصر- على هذا، أو على اللغة الثانية سُهلت فيه الهمزة. قال الهروي: ومعناها: أن يقول كلُّ واحد منهما لصاحبه: ها، فيعطيه ما (¬3) بيده. ع: وهذا يُصَحِّح (¬4) روايةَ المحدثين. وقال الخطابي: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "هَا وهَا" معناه: التقابض. و (¬5) قال هو وغيره: إن الصوابَ المدُّ والفتحُ (¬6). وقد أنشد بعضُ أهل اللغة في ذلك: ¬
لَمَّا رَأَتْ فِي قَامَتِي انْحِنَاءَ ... وَالمَشْيَ بَعْدَ قَعسٍ إِحْنَاءَ أَجْلَتْ وَكَانَ حُبُّهَا إِجْلَاءَ ... وَجَعَلَتْ نِصْفَ غَبُوقي مَاءَ تَمْزُجُ لِي مِنْ بُغْضِهَا السِّقَاءَ ... ثُمَّ تَقُولُ مِنْ بَعِيدٍ هَاءَ دَحْرَجَةً إِنْ شِئْتَ أَوْ إِلْقَاءَ ... ثُمَّ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ دَاءَ لَا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ شِفَاءَ (¬1) فهذا شاهدٌ على اللغة الفصحى، وهي (¬2) المدُّ؛ كما في الحديث، ولا يجوز أن يكونَ ضرورةً؛ إذ لا يجوزُ في الشعر مَدُّ المقصور، وإنما يجوز قصرُ الممدود؛ رجوعًا إلي الأصل؛ إذ الأصلُ (¬3) القصرُ، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 271 - عَنْ أبَي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- (¬1): أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لا تَبيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، ولا تَبِيعُوا الوَرِقَ بالوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمثْلٍ، ولا تُشِفُّوا بَعْضَها عَلَى بَعْضٍ (¬2)، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ" (¬3). وَفِي لَفْظٍ: "إِلَّا يَدًا بِيَدٍ" (¬4). وَفِي لَفْظٍ: "إلَّا (¬5) وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءً" (¬6). ¬
* الشرح: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تُشِفُّوا" (¬1): هو بضم التاء، رباعي؛ من أَشَفَّ؛ كَأَمَلَّ يُمِلُّ، ومعناه: لا تُفَضِّلوا، يقال: أَشْفَفْتُ بعضَ ولدي؛ أي: فضلتهم، والشِّفُّ -بالكسر-: الفضلُ والربح، تقول (¬2) منه: شَفَّ يَشِف (¬3) شَفًّا؛ مثل حَمَلَ يَحْمِل (¬4) حَمْلًا. وقال ابن السِّكِّيت: الشف -أيضًا-: النقصان، وهو من الأضداد. ¬
وأما قولهم (¬1): شَفَّهُ الهمُّ (¬2) يَشُفُّه شَفًّا، فبالضمِّ في المضارع، والفتحِ في المصدر (¬3). ع: فيه: دليل على أن الزيادة، وإن قَلَّتْ، منهيٌّ عنها، حرامٌ؛ لأن لفظ الشفوف يقتضي الزيادةَ غيرَ الكثيرة، ومنه شُفَافَةُ الإناء، وهي البقيةُ القليلة فيه من الماء (¬4). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تبَيعوا منها غائِبًا بناجزٍ": الناجز: الحاضر، والغائب: المؤجَّل، أو الغائبُ عن المجلس. ع: ولم يختلف العلماء في منع المبالغة (¬5) في الذهب والفضة على هذا. قلت: أما المؤجَّل، فلا خلاف فيه كما ذُكر، وأما الغائبُ عن المجلس، فمختلف فيه: أجاز الشافعي وأصحابهُ، وآخرون أن يبيعَ دينارًا بدينار، كلاهما في الذمَّة، ثم يُخرج كلُّ واحدٍ منهما الدينارَ، أو يبعث من يُحضره له من بيته -مثلًا-، ويحصل التقابضُ في المجلس، لا خلاف عندهم (¬6) في ذلك، ويرون أن (¬7) الشرط أن لا يتفرقا بلا قبضٍ، ¬
وقد حصلَ القبضُ، فلا مانع من الجواز عندهم، فليعلمْ ذلك. قيل: ومذهبُ مالك أقربُ إلى حقيقة لفظِ الحديث، واللَّه الموفق. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وزنًا بوزنٍ" إلى آخره، يحتمل أن يكون مبالغةً في التوكيد. ع: وقد يكونُ (¬1) اشتراطُ السواء في المثلية في العين، وهو غيرُ (¬2) السواء في الوزن، ويكون قوله: "سواءً بسواءً" عائدًا على الوجهين، وقد اختلف في ذلك في المراطَلَة (¬3)، هل يشترط مع استواء الوزن مماثلة العين، أم لا (¬4)؟ * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث (¬1) 272 - (¬2) عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: جَاءَ بِلَالٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ "، قَالَ بِلَالٌ: كَانَ عِنْدَناَ تَمْرٌ رَدِيءٌ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِيَطْعَم (¬3) النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: "أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبا! (¬4) لا تَفْعَلْ، لَكِنْ إِذَا أردْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ، فَبعِ التَّمْرَ بِبَيعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ" (¬5). ¬
* الشرح: في الحديث: دليل على الاستخبار (¬1) عن الطعام الذي لا يُعلم أصلُه، وإن كان ظاهرُ الآتي به حسنًا، ليس في زِيِّ ظالمٍ ونحوِه، أو الآتي به معروفًا عندَ الذي أُتي به إليه، وهو خلافُ ما ذكره الغزالي في بعضِ كتبه. والبَرْنِيُّ: -بفتح الباء- كذا هو في النسخ المعتمدة من "الصحاح"؛ كأنه منسوب إلى البَرْنيَّة: وهي (¬2) إناءٌ من خزف، وقد يبدل من يائه جيم، قال الراجز: المُطْعِمَانِ اللَّحْمَ بِالعَشِجِّ وَبِالغَدَاة فِلَقَ البَرْنِجِّ يريد: بالعَشِيِّ، وفلق البَرْنيِّ (¬3). وقوله: "ليَطْعَم النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-": هو بفتح الياء والعين، ماضيه طَعِمَ -بكسر العين-؛ أي: ليأكله النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَوَّه"، قيل: هي كلمةُ تَحَزُّن وتوجُّع، وهي مشدَّدة الواو، يقال: بالمد والقصر. ع: وقد قيل أيضًا: (أُووه) -بضم الواو ومدِّها-، وقد قيل في قوله تعالى: {أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]؛ أي: كثيرُ التأؤُه خوفًا وشفقة، وهو من هذا. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "عينُ الربا"؛ أي: هو الربا المحرمُ نفسُه من الزيادة، لا ما يُشبهه ويُقاس عليه. وقد تعلق بعموم الحديث مَنْ لا يحمي الذريعة، ويقول: قد أجاز هاهنا أن يبيعَ التمرَ ببيع آخر، ثم يشتري به، فقد أجاز البيعَ والشراءَ على الإطلاق، ولم يفصل بين أن يبيعه ممن باعه، أو من غيره، أو بين أن يقصد إلى شراء الأكثر، أو لا، ولم يتهم على كون الدراهم لغوًا. قال الإمام: ومن يحمي الذريعة يخصُّه بأدلةٍ أُخَرَ. ع: وقد (¬1) قال الشافعي، وأبو حنيفة، وغيرهما: بجواز ذلك من البائع أولًا، ولم يراع الذريعة في ذلك غيرُ مالك رحمه اللَّه تعالى. قال: وظاهرُ (¬2) فعلِ هذا: أن تحريمَ التفاضُل في مثل هذا بعد لم يكن فاشيًا، وإلا، فليس كان يَخْفى على (¬3) فاعله، وهو عاملُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
بخيبرَ، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والأئمةُ بعده لا يقدِّمون على النَّاس في أمرٍ إلَّا مَنْ فَقُه فيه، وعَلِمَه، وعلمَ صلاح حاله، ولهذا لم يوبخه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أَدَّبَه على مخالفة ما نَهى عنه، ولا أنكرَ ذلك عليه أحدٌ من أصحابه، لا سيما على رواية مالك في "الموطأ": أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لما نهاهم عن بيع التمر بالتمر: قالوا له: إن عامِلَكَ على خيبرَ يأخذ الصاعَ بالصاعين (¬1)، وذكرَ (¬2) الحديث (¬3). فهذا يدلُّ على أن الأمر كانَ أولَ التحريم، واللَّه أعلم (¬4). ق: والمانعون من الذرائع يجيبون بأنه مطلقٌ لا عامٌّ، فيُحمل على بيعه من غيرِ البائع، أو على غير الصورة التي يمنعونها (¬5)؛ فإن المطلقَ يكتفى في العمل به بصورة واحدة (¬6). قلت: وليس هذا الجواب عندي بالقوي كما ترى. وفي الحديث: دليل على أن التفاضل في (¬7) الصفات، لا اعتبار به في تجويز الزيادة. ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ببيعٍ آخَرَ": يحتمل أن يريد: بمبيع آخر، فأقام المصدرَ مقامَ المفعول، كما قالوا: أنتَ رجائي (¬1) بمعنى مَرْجُوِّي (¬2)، ويراد به: الثمن، ويحتمل أن يريد: ببيع آخرَ على صفة أخرى غيرِ الأولى، على أن تكون الباء زائدة، ويقوى الأول من وجهين: أحدهما: أن زيادة الباء في مثل هذا ليس بقياس. والثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ثم اشْتَرِ بِهِ"؛ أي: بالمبيع، فاعرفْه (¬3). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 273 - عَنْ أَبي المِنْهَالِ، قَالَ: سَأَلْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنِ الصَّرْفِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ (¬1) مِنْهُمَا يَقُولُ: هَذَا خَيْر مِنِّي، وَكِلَاهُمَا يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالوَرِقِ دَيْنًا (¬2). ¬
* الشرح: فيه: دليلٌ على التواضع، والاعترافِ بحقِّ الأفاضلِ من أهل الدين والعلم -رضي اللَّه عنهم-. ولقد أحسنَ مَنْ قالَ: وَمَا عَبَّرَ الإِنْسَانُ عَنْ فَضْلِ نَفْسِهِ ... بِمِثْلِ اعْتِرَافِ الفَضْلِ مِنْ كُلِّ فَاضِلِ وَإِنَ أَخَسَّ النَّقْصِ أَنْ يَنْفِي الفَتَى ... قَذَى النَّقْصِ عَنْهُ بِانْتِقَاصِ الأَفَاضِلِ ولقد شاهدْنا مَنْ لا يرتابُ في فضيلته وتحصيله من العلماء، فما هو إلَّا أن يُثني على نفسه بما فيه، فيسقطُ (¬1) من الأعين، أو يَقِلُّ تعظيمُه عند النَّاس، وما رأينا مَنْ تواضعَ إلَّا عَظُم في الأعين، وكَثُرَت الرغبةُ في علمه، وإن كان يسيرًا، ومصداقُ هذا ما في الحديث من مدحِ التواضع؛ كحديث السلسلة، وما في معناه. ويقال: إن التواضع نعمةٌ لا يُحسد عليها، ويكفي في التواضع أنه ضدُّ الكِبْر، وقد جاء: "الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ ناَزَعَنِي فِيهِمَا، قَصَمْتُهُ" (¬2)، أو نحو ذلك، فنسأل اللَّه التوفيقَ والعصمةَ. ¬
وهذا الحديثُ نصُّ (¬1) في تحريم ربا النَّسَاءِ في النَّقْدَين؛ لاجتماعهما في علَّة واحدة، وهي التفرقة، فلا بدَّ من التناجُزِ في الحال -على ما تقدم-، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 274 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ (¬1)، قَالَ: نهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الفِضَّةِ بِالفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إِلّا سَوَاءٍ بِسَوَاءٍ، وَأَمَرنَا أَنْ نشتَرِيَ الفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كيْفَ شِئْنَا، وَنشتَرِيَ الذَّهَبَ بِالفِضَّةِ كيْفَ شِئْنَا. قَالَ: فَسَألَهُ (¬2) رَجُلٌ، فَقَالَ: يَدًا بِيَدٍ، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ (¬3). ¬
* الشرح: المرادُ بالأمر هنا: الإباحةُ والإذنُ قطعًا. وقوله: "كيف شئنا"؛ أي: بالنسبة إلى التفاضل والتساوي، لا بالنسبة إلى الحلول والتأجيل، وقد جاء ذلك مبينًا في حديث آخر، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يدًا بيد" (¬1)، وهذا (¬2) لا خلاف فيه، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب الرهن وغيره
باب الرهن وغيره الحديث الأول 275 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- (¬1): أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اشترى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قال الهروي: قال ابنُ عرفةَ: الرهن في كلام العرب هو الشيءُ الملزومُ، يقال هذا رَاهنٌ (¬1) لك؛ أي: دائمٌ محبوسٌ عليك، قال: وقوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]؛ أي: محبوسٌ بعمله (¬2)، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]؛ أي: محبوسة بكسبها، وكل شيء ثبتَ ودامَ (¬3)، فقد رَهَنَ (¬4). (¬5) قال الجوهري: والجمعُ رِهان، مثل: حَبْل، وحِبَال، وقولُ أبي (¬6) عمرِو بن العلاء: رُهُن -بضم الهاء-، قال الأخفش، وهي قبيحة لا يجمع فَعْلٌ على فُعُلٍ، إلَّا قليلًا شاذًا؛ كسَقْفٍ وسُقُفٍ، قال: ويكون ¬
رُهُنٌ جمعًا لِرهان (¬1)؛ فإنه يجمع رَهْنٌ على رِهان، ثم يجمع رهان على رُهُن؛ مثل: فِراش وفُرُش، تقول منه: رَهَنْتُ الشيءَ عندَ فلانٍ، ورَهَنْتُهُ الشيءَ، وأَرْهَنْتُهُ الشيءَ، بمعنًى (¬2). الثاني: هذا الحديث أصلٌ في مشروعية الرهن في الحَضَر، وأما في السَّفر، فهو ثابت بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، حتَّى قال مجاهدٌ، وداودُ: لا يجوز الرهنُ إلَّا في السفر، وخالفهما الجمهورُ، والحديث يردُّ عليهما، وهو مقدَّم على دليل خطاب الآية (¬3). الثالث: قيل: إنما اشترى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الطعامَ من اليهودي، ورَهَنه درعَه (¬4) دونَ أصحابه؛ بيانًا (¬5) للجواز. وقيل: لأنَّه (¬6) لم يكن هناك طعامٌ فاضلٌ عن حاجة أصحابه (¬7) إلَّا عندَه. وقيل: لأنَّ أصحابه (¬8) -رضي اللَّه عنهم- لا يأخذون رَهْنَه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يقبضون منه ¬
الثمنَ، فعدلَ إلى معاملة اليهودي؛ لئلا يضيِّقَ على أحد من أصحابه. الرابع: أجمعَ المسلمون على معاملة أهلِ الذمة وغيرِهم من الكفارِ إذا لم يُتحقق تحريمُ ما معهم، إلَّا ما استُثني من بيع المسلم منهم السلاحَ، والمصحفَ، والعبدَ المسلم، ونحو ذلك (¬1)، ومنع (¬2) ابنُ حبيب بيعَ الحريرِ والكتانِ والبُسطِ والطعامِ من أهل الحرب، وتأوَّلَ ذلك، أما عندَ الشدائد، فيطمع أن يتمكن منهم لضعف الجوع، وما عداه ممَّا (¬3) يتجملون (¬4) به في حروبهم وأعيادهم. ورهن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الدرعَ عند اليهودي (¬5)؛ لأنَّه لم يكن من أهل حرب، وإلا، فرهنُهما ممن يُخشى منه التقوا بها كبيعِها، واللَّه أعلم. الخامس: فيه: الحكمُ بثبوت أملاك أهل الذمة على ما في أيديهم. وفيه: ما كان عليه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من التقلُّل من الدنيا، وملازمة الفقر، وإن كان ذلك أشرفَ من حالة الغني. وقد قيل: إنه -عليه الصلاة والسلام- لم يمتْ إلَّا غنيًا؛ لتركه أرضَ فَدَك وبغلَتَه البيضاءَ، وغيرَ ذلك. والخلافُ في مسألة الغني والفقر، وتفضيلِ أحدِهما على الآخر ¬
مشهورٌ، والكلام عليه موضع غير هذا. وفيه: اتخاذُ الدرعِ والعُدَدِ للأعداء، والتحصُّنُ منهم، وإن كان غيرَ قادحِ في التوكُّل، وإليه الإشارةُ بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] الآيةَ] (¬1) (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 276 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أتبعَ أَحَدكمْ عَلَى مَلِي، فَلْيتبَعْ" (¬1). ¬
* الشرح: أصلُ المَطْل في اللغة: المَدُّ، تقول العرب: مَطَلْتُ الحديدةَ: إذا ضربتُها ومَدَدْتُها (¬1)، فمعنى مَطَلَهُ بحقِّه: مَدَّ له في الأَجَل زيادةً على ما اتفقا عليه بشرطٍ أو عادة، وهو -أيضًا-: اللِّيَانُ، قال الشاعر: [الرجز] قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانًا ... مَخَافَةَ الإِفْلَاسِ واللِّيَانَا (¬2) والمرادُ بالغني هنا: القادرُ على وفاء الدين، والظلم: وضعُ الشيء في غير موضعه. ع (¬3): وقول -عليه الصلاة والسلام-: "مطلُ الغنيِّ ظلمٌ" فيه فوائد: أحدها: أنه لا تجوزُ (¬4) الإحالةُ إلا مِنْ دينٍ حَلَّ؛ لأن المطلَ والظلَم إنما يصحُّ فيما حلَّ، لا فيما لم يحلَّ. وفيه: حجةٌ على أنه لا يكون ظالمًا إلا إذا كان غنيًا، وأن تسميته ¬
ظالمًا يوجب إسقاط شهادته، على ما ذهب إليه سحنون وغيرُه من أصحابنا، وقال غيره: لا تُردُ شهادته إلا أن يكون (¬1) المطلُ له (¬2) عادةً (¬3). قلت: واختلف الشافعية، هل يجب الأداءُ مع القدرة من غير طلبِ صاحبِ الحقِّ؟ على وجهين (¬4)، وأما مع القدرة والطلب، فلا خلاف فيه، واللَّه أعلم. والحوالةُ محمولةٌ على الندب عند أكثرِ شيوخنا، وحملَها بعضُهم على الإباحة لما أشبهت الدَّيْنَ بالدَّيْنِ، فرخص (¬5) -عليه الصلاة والسلام- في الحوالة، وأباحَها (¬6)، وهي عند أكثر مشايخنا: عقدُ مبايعةٍ مستثناةٍ بالرخصةِ من الدَّين بالدَّين، ومن بيعِ العين غير يدٍ بيد، فخصَّها الشرعُ (¬7) من هذين الأصلين، كما خصَّ الشركةَ والتوليةَ والأقالةَ من بيعِ الطعامِ قبل استيفائه، وخَصَّ العَرِيَّةَ من بيعِ المزابنةِ، وبيعِ الطعامِ بالطعام نسيئةً ومتفاضلًا، لما كان سبيلُ هذه التخصيصات سبيلَ ¬
المعروف والرفق. وقد أشار الباجي إلى أن حكمَها ليس حكمَ البيعِ، ولا يكون من هذا الباب، بل هي عندنا من باب النقد (¬1) (¬2). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإذا (¬3) أتبعَ أحدُكم على مليءٍ فَلْيَتْبَعْ": صوابُه في التاءين السكونُ، وبعضُ المحدثين والرواة يقولونه بتشديدِهما، يقال: تَبِعْتُ فلانا بحقّي، فأنا أَتْبَعُه -ساكنة التاء-، ولا يقال: أتَّبِعُه -بفتحها، وتشديدها-، إلا من المشي خلفَه، واتباعِ أثرهِ في أمر (¬4) (¬5). وهذا الحديث أصلٌ في الحوالة. قال الفقهاء: وحقيقتُها: نقلُ الدَّين من ذمةٍ إلى ذمةٍ أخرى (¬6) تبرأُ بها الأولى (¬7)، ولها شروطٌ أربعة: أحدها: رضا المحيلِ والمحالَ دونَ المحالِ عليه؛ لأنه محلُّ (¬8) ¬
التصرُّف، لكن بشرط أن يكون على المحال عليه دينٌ، خلافًا لابنِ الماجشون من أصحابنا، فيكون معنى الحوالة عنده: تجويزَ الضمان بشرط براءةِ الأصيل، وألزم رضا المحال عليه في هذه الحوالة، بل لا يتصور إلا كذلك. وفائدةُ هذا الخلاف تظهر فيما إذا أحاله على مَنْ ليس له عليه دينٌ، فأعدم المحالُ عليه، فإنه يرجعُ على المحيل على قول ابن القاسم، ولا يرجع عليه على قول ابن الماجشون؛ إلا أن يعلم أنه لا شيء له عليه، ويشترط عليه براءته من الدَّين، فيلزمه، ولا رجوعَ له عليه على القولين جميعًا. الشرط الثاني: أن يكون الدينُ (¬1) المحالُ به حالًّا، ولا يُشترط حلولُ الدينِ المحالِ عليه، إلا أن ابن القاسم اشترطه في نجوم الكتابة. (¬2) الشرط الثالث: كونُ الدَّينِ المحالِ عليه من نوعِ المحالِ به صفةً وقدرًا، ولا (¬3) يصحُّ متى اختلفا (¬4) في صفتِه أو قدرِه، ويدخلُها في ذلك الدَّينُ بالدَّين، والنسيئةُ في الصَّرْف، وبيعُ العينِ بالعين، وفي بيع الطعامِ بالطعامِ التفاضلُ بين (¬5) الجنسين، والربا فيما لا يجوز، وبيعُ الطعام قبل ¬
قبضه، وغيرُ (¬1) علة؛ بحسب اختلافه، وتصويرِ مسائله. الشرط الرابع: أن لا يكون الدَّينان (¬2) طعامًا من سَلَمٍ، أو أحدُهما، ولم يحلَّا معًا، على خلاف في هذا الأصل عندنا، فأصلُ ابنِ القاسم ما تقدَّمَ، وغيرُه يجيزها لحول (¬3) المحالِ عليه (¬4). فإن قلت: ما وجهُ جعلِه -عليه الصلاة والسلام- الأمرَ بقبولِ الحوالة على المليء معللًا بكون مطل الغني ظلم؟ قلت: قال ق: لعلَّ السبب فيه: أنه إذا تقرر كونُه ظلمًا، والظاهرُ من حال المسلم الاحترازُ عنه، فيكون ذلك سببًا للأمر بقبول الحوالةِ عليه، لحصول (¬5) المقصودِ من غير ضررِ المطلِ (¬6)، ويحتمل أن يكون ذلك؛ لأن المليء لا يتعذَّرُ استيفاءُ الحقِّ معه عندَ الامتناع، بل يأخذه الحاكم قهرًا ويوفيه، ففي قبولِ الحوالةِ عليه يحصل الغرضُ من غير مفسدة بقاءِ الحق. قال: والمعنى الأولُ أرجحُ، لما فيه من بقاء معنى التعليل بكون ¬
المطلِ ظلمًا، وعلى هذا المعنى الثاني، تكونُ العلةُ عدمَ (¬1) تركِ الحق، لا الظلم (¬2) (¬3). قلت: وهذا كلام بَيِّنٌ، واللَّه أعلم (¬4). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 277 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَوْ قَالَ -: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) يَقُولُ-: "مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ -أَوْ إنْسَانٍ- قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ" (¬2). ¬
* الشرح: الحديث يشتمل على مسائل: الأولى: يقال أَفْلَسَ الرجلُ، أي: صار مُفْلِسًا. قال الجوهريُّ: كأنما صارت دراهمُه فُلوسًا وزُيوفًا، كما يقال: أَخْبَثَ الرجلُ: إذا صارَ أصحابُه خُبثاء، وأَقْطَفَ: صارت دابته قَطُوفًا. قال: ويجوز أن يراد به: أنه صار إلى حال يُقال فيها: ليس معه فَلْس؛ كما يُقال: أَقْبَرَ الرجلُ (¬1): صار إلى حالةٍ يُقبر عليها (¬2). قلت: وفي نسخة: مكان أقبر: أقهر، إذا صار إلى حالٍ (¬3) يذلُّ فيها. الثانيةُ] (¬4): اختلف العلماء فيما إذا وجد السلعةَ صاحبُها عند المفلس قبل أن يقبض ثمنَها، هل يرجعُ في عَيْنها، ويكون أحقَّ بها من ¬
سائرِ الغُرماء؛ كما هو نص الحديث، أو يكون أُسْوَةَ الغرماء؟ على ثلاثة مذاهب: فقال الشافعي: يرجع إلى عين سلعته في الفَلَس والموت. وقال أبو حنيفة: يكون أُسوةَ الغرماء فيهما، أعني: الموتَ والفلسَ. وفَصَّل مالك، وأحمدُ بنُ حنبل، فقالا: هو أحقُّ بها في الفلَس (¬1) دونَ الموت، وهو أسعدُ بظاهر الحديث. ق: ودلالته قويّة جدًّا، حتى قيل: إنه لا تأويلَ له. وقال الإِصطخريُّ من أصحاب الشافعي: لو قضى القاضي بخلافه، نُقض حكمُه، ورأيتُ (¬2) في تأويله وجهين ضعيفين: أحدهما: أن يُحمل على الغَصْب والوديعة، لما فيه من اعتبار حقيقة المالية، وهو ضعيف جدًا؛ لأنه يبطل فائدةَ تعلُّق الحكمِ بالفلس (¬3). قلت: قولُ ق: لما (¬4) فيه من اعتبار حقيقة المالية، كأنه نقل بالمعنى، والذي صرّح به المازري في "المعلم" أن قال: وحَمَل أبو حنيفةَ هذا الحديثَ على أن المتاع وديعةٌ، أو غصبٌ؛ لأنه لم يذكر البيعَ فيه. ¬
قال الإمام: وتأويلُه هذا يردُّه ما خرجَّه أبو داودَ: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا، فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، ولَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَإِنْ مَاتَ المُشْتَرِي، فَصَاحِبُ المَتَاعِ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ" (¬1). وقال أيضًا: "فَإِنْ قَضَاهُ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ، وَأَيُّمَا امْرِىءٍ هَلَكَ وَعِنْدَهُ مَتَاعُ امْرِىءٍ بِعَيْنِهِ، اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا، فَمَا بَقِيَ، فَهُوَ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ (¬2) " (¬3)، فقد نَصَّ بها هنا على البيع، انتهى كلام الإمام (¬4). ق: الثاني: أن يُحمل على ما قبلَ القبض، وقد استُضعف، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَدْرَكَ مَالَهُ"، أَوْ "وَجَدَ مَتَاعَهُ (¬5) "، فإن ¬
ذلك يقتضي إمكانَ العَقْد، وذلك بعد خروج السلعة من يده (¬1). قلت: وهو ضعفٌ ظاهر، أو باطلٌ، إذ لا حاجةَ بنا إلى إخراج اللفظ عن ظاهره والحالةُ هذه. قال الإمامُ: وإذا وضحَ الردُّ على أبي حنيفةَ، عُدْنا بعدَ ذلك إلى مالكٍ، والشافعيِّ، فنقول: [مالك] قد فصَّل في هذا الحديث بين الموتِ والفَلَس، والشافعيُّ ساوى بينَهما، فيقول الشافعي: إنه قد خَرَّجَ أبو داود، قال: أَتينا أبا هريرة في صاحب لنا فُلِّس، فقال (¬2): لأَقضينَّ لكم (¬3) بقضاءِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنْ فُلِّسَ، أو ماتَ، فوجدَ رجل متاعَه بعينه، فهو أحقُّ بِهِ" (¬4)، فقد ساوى ها هنا بينَ الموتِ والفَلَس، وأنتم تفرقون بينهما، فلا بدَّ من طلب الترجيح. فنقول: قد يُحمل ما تعلَّق به الشافعيُّ على أنه في الودائع، لا في البيع؛ لأنه إنما ذكر "فَوَجَدَ رَجُل مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ"، وقد يكون ذلك غَصْبًا و (¬5) تعدِّيًا. ¬
وقال بعضُ أصحابنا: لعلَّه مات، وقد تبين (¬1) فلسُه، ويمكن أن يكون لو نقله لنا، لتأولناه على غير ما حَمَلَه عليه، هذا طريقُ (¬2) الترجيح لنا على الشافعي، انتهى كلام الإمام (¬3). فإن قلت: وما وجهُ التفرقةِ عندَ مالكٍ بين الموتِ والفَلَس، وقد انعابَتِ الذمةُ التي دخل على صحتها فيهما؟ قلت: لما تقدم من حديث أبي داود آنفًا، وتفرقته -عليه الصلاة والسلام- بين الموت والفَلَس، وإن سلكنا مسلكَ النظر، قلنا: إنما قلنا: إنه (¬4) ارتجاع السلعة في الفلس لعيب الذمَّةِ التي دخل عليها، فصار كمَنِ اشترى سلعةً، فوجدَ بها عيبًا، فله ردُّها، وإنما لم تردَّ في الموت، وإن انعابت الذمة، لانقطاعها رأسًا، فيعظم ضررُ بقية الغرماء، وفي الفَلَس لا يعظمُ (¬5) ضررُهم إذا قدِّم عليهم، لبقاء ذمة غريمهم، وإذا ثبت هذا، كان له ردُّ ما قبض، إنْ كان قبضَ (¬6) الثمن، وارتجاعُ السلعة، كما يقتضيه إطلاقُ الحديث، فإن أراد الغرماء دفعَ الثمن إليه، ليمنعوه من أخذ السلعة، كان ذلك لهم؛ لأنه إنما كان له ارتجاعُ السلعة لعلَّةِ فقدِ الثمن، فإذا زالت العلَّةُ، زال حكمُها، وأبى ¬
ذلك الشافعيُّ، ولم يُسقط حقَّه في الارتجاع بدفعهم الثمنَ إليه، واعتلَّ له: بأنه (¬1) قد يطرأ غريمٌ آخرُ، فلا يرضى بما صنعه الغرماءُ من تسليمِ بعضِ مال الغريم في هذه السلعة، وتفويتِ (¬2) سلعته، فيلحقه الضررُ في ذلك (¬3)، وأظنُّ أن (¬4) هذا القديمُ من قوليه، وأن الجديدَ كما يقول أصحابه، واللَّه أعلم. الثالثة: لو قَبَضَ بعضَ الثمن، ثم وجدَ من السلعة بعضَها، قال أصحابنا: إما أن يضرب ببقية الثمن، وإما أن يردَّ ما قبضَ ما يخصُّ ما وجد، ويأخذَ ما وجد، ويضربَ (¬5) ببقية الثمن بما فات بعدَ ما أخذ، وإطلاقُ الحديث يقتضيه -أيضًا-، إذ يصدُق عليه أنه وجدَ مالَه أو متاعَهُ، إذ لا تفصيل في الحديث بين كل وبعض. الرابعة: إطلاقُ الحديث يتناول كونَ المدرِكِ لماله بائعًا، أو غيرَه، فيدخل تحته المقرِضُ -أعني: إذا أقرضه مالًا، ثم فلّس المستقرِضُ، ثم وجد المقرِضُ مالَه (¬6) بعينه- وقد اختلف فيه (¬7): ¬
فقال الشافعي: حكمُه حكمُ البائع، وهل ذلك بمقتضى لفظ الحديث، أو بالقياس عليه؟ نظرٌ آخَرُ عندهم. وعندنا: لا يكون المقرِضُ كالبائع، وإن كانَ أبو محمدٍ الأصيليُّ من أصحابنا يُسَوّي بينهما، كما يقول الشافعي، وهو الذي يتبادَرُ إليه الفَهْم من الحديث -أعني: أن المدرِك هو البائعُ-، وإن كان اللفظُ أعمَّ من ذلك (¬1). وأما المؤجِرُ، فكالبائع عندنا، وهو الصحيحُ من مذهب الشافعي، فيرجع مكتري الدابةِ والدارِ إلى غيرِ دابته وداره، وإن كانت أرضًا، فصاحبُها أحقُّ عندنا بالزرع من الغرماء، في الفَلَس دونَ الموت، وقال ابن القاسم: فيهما، أعني: الموتَ والفَلَس. وإنما تندرج الإجارةُ تحت لفظ الحديث حتى تكون كالبيع إذا قلنا: إنه يطلق على المنافع اسمُ المال، أو المتاع، وهو الأقوى، أعني: إطلاقَ اسم المال على المنافع. فإن قيل: إن المنافع لا تنزل (¬2) منزلةَ الأعيان؛ إذ ليس لها وجودٌ مستقر، قيل: الحديثُ يقتضي أن تكون أحقَّ بالعين، ومن لوازم ذلك الرجوعُ في المنافع، فيثبت بطريق اللازم، لا بطريق الأصالة. الخامسةُ: لو وهبه للثَّواب، لكان له عندنا الرجوعُ في هبته حالَ ¬
الفَلَس، وإن تغيرت؛ لأنها بيعٌ من البيوع، فهي مندرجةٌ تحت لفظ الحديث، إلا أن يبذل الغرماءُ (¬1) له القيمةَ، على ما تقدم. وهذا بخلاف من استُؤْجر على رحيلِ إبلٍ، أو رعايتِها، أو عَلْفِها، أو على رحا الماء (¬2)، إذ ليس ثَمَّ عينٌ قائمة. وأما الصبَّاغُ، فشريكٌ بقيمةِ الصبغ، وكذا النسَّاجُ، والبنَّاءُ. وأمَّا الأجيرُ على سقيِ زرعٍ أو نخلى، ونحوِ ذلك، فهو أحقُّ به في الفَلَس حتى يستوفيَ حقَّهُ، وهو في الموت أُسوةُ الغُرماء. وأما أربابُ الحوانيتِ، والدورِ، فأسوةُ غرماءِ مكتريها في الموتِ والفَلَس. وكذلك المكترَى (¬3) على حمل متاع إلى بلد، هو أحقُّ بما حملَ على دابته في الموتِ والفلس، كان قد أسْلَم دوابَّه إلى المكتري، أو كان معها، ورَبُّ المتاعِ معه، أم لا، وهو كالرهن؛ لأنه على دوابه وصلَ إلى البلد، هذا كلُّه نقلُ مذهبنا. السادسةُ: ق (¬4): قد يُستدل بالحديث على أن الديون المؤجَّلَة تحلُّ بالَحجْرِ، ووجهُه: أنه يندرج تحت كونه أدركَ متاعَه، فيكون ¬
أحقَّ به، ومن لوازم ذلك أن يَحُلَّ، إذ لا مطالبةَ بالمؤجَّل قبلَ الحلول (¬1). قلت: وبذلك يقول أصحابنا -أعني: بحلول الدَّين المؤجَّل على المفلِس والميت-، لخراب ذمتهما، ولا يحل مالهما من دَيْن، واللَّه أعلم. السابعة: حيث يكون البائعُ أحقَّ بأخذِ سلعته، هل يفتقر أخذُها لحكمِ حاكمٍ، أو يستبدُّ هو بأخذها؟ فيه خلافٌ للعلماء، ولا أعلم لأصحابنا فيه نصًّا صريحًا، وكأَنَّ ظاهرَ الحديثِ يدلُّ على الاستبداد، واللَّه أعلم. الثامنة: لا خلافَ أن شرطَ رجوع البائع في عينِ سلعتِه حالَ فَلَسِ المشتري بقاؤها في ملكِ المشتري، والحالةُ هذه، فلو (¬2) هلكت، استحالَ رجوعُه في عينها. لكن الهلاك على قسمين: حسيٌّ، وهو ظاهر، ومعنوي يُنزله (¬3) الفقهاءُ منزلةَ الحسيِّ، وهو ما إذا باع السلعة، أو رهنها، أو أعتقَ العبدَ، أو وقفَ الدار، ونحو ذلك. قال أصحابنا: فلو انتقل، كالحنطة تُزرع أو تُطحن، أو يُخلط (¬4) ¬
جيدُها برديءٍ، أو مُسَوِّسٍ، أو مغلوثٍ، أو يُعمل الزبدُ سمنًا، أو بقطع (¬1) الثوبِ قميصًا، أو الخشبةِ بابًا، أو يُذبح الكبشُ، فقد فات الرجوع. قالوا: ولو لم ينتقل، ولكن أضيفت إليه صناعةٌ، أو عينٌ أخرى، كالعَرْصة يبني (¬2) فيها بيتًا، أو الغزلُ ينسج، فلا يُمنع الرجوع، ثم يكون له أن يشارك الغرماءَ بقدر قيمتها من قيمةِ البنيان، وكذا الغزلُ وغيره، وكذا لو خَلَطَ السِّلْعَةَ بجنسها المماثلِ لها؛ كالزبيبِ على مثله، والحنطةِ على مثلها، أو غير ذلك، فله من ذلك قدرُ كَيْلَته (¬3)، ولو ولدت الماشيةُ، فله أخذُ الولدِ معها، بخلاف الثمرة والغلة، إلا أن يكون الصوفُ على ظهورها، واللبنُ في ضروعها، أو الثمرةُ قد أُبرتْ، واشترطها المبتاعُ، فإنه يردُّ ما كان قائمًا (¬4) من ذلك، (¬5) ويضربُ بمثل مَا لَهُ مال (¬6)، وقيمةِ ما لا مثلَ له. وقيل: إن جدَّ الثمرةَ، وجَزَّ ذلك الصوفَ، فهما كالغلَّة في الرجوعِ. قالوا: وإذا يبست الثمرةُ على رؤوسِ النَخْلِ، وهي في يدِ ¬
المفلسِ، ففي رجوعها روايتان: بالمنعِ، والإجازةِ، وبالمنعِ أخذَ أَشهبُ، وبالإجازة أَخذَ أصبغ، وهُما مبنيان على أصلين: أحدهما: أن البائع إذا أخذ السلعة في الفلس، هل هو ناقضٌ للبيعِ الأولِ، أو (¬1) مبتدىءٌ لبيعٍ ثانٍ؟ فعلى الأول: يصح أخذُه، وعلى الثاني: يختلف فيه؛ بناءً على الأصلِ الآخرِ (¬2)، وهو ما كان من الذرائع إذا ألجىء إليه، هل يعتبر في المنع، أم لا؟ التاسعة: إذا جمع الحاكمُ مالَ المفلِس ليبيعَه، فتلفَ قبلَ بيعِه، قال أصحابنا: تلفُه من المفلس، فإن باعَه، فتلف ثمنُه، فالتلَفُ من الغرماء، وقيل: من المفلِس. العاشرة: إذا ادَّعى المِدْيانُ الفَلَس، ولم يُعلم صدقُه، ولا ظهرت أَمارةٌ بصدقِه، لم يُقبل منه، وحُبس إلى أن ينكشف أمرُه، ومدةُ الحبسِ موكولةٌ إلى اجتهادِ الحاكمِ، فإذا ثبتتْ (¬3) عسرتُه، خُلِّي سبيلُه، ولم يكن للغرماء مطالبتُه، ولا إجارتُه، ولا أخذُه بعمل (¬4) صنعة يكسب (¬5) منها (¬6)، ولا لهم أن يُجبروه (¬7) على انتزاعِ مالٍ أُمِّ ولدِه، أو ¬
مُدَبَّرَتِه، وله هو انتزاعُه إن شاء لقضاءِ دَينه، أو ينتزعُه على غير هذا الوجه إن شاءَ لنفسِه. قال في "الكتاب": وأمّا إن مرض، ولا دينَ عليه، فليس له انتزاعُه؛ لأنه إنما ينتزع لورثته، وفي التفليس ينتزعُ لنفسه، وإن (¬1) فلس المريض، فليس له أخذُ مال مُدَبَّره للغرماء، فإن مات، بِيعَ المدبرُ بماله إن أحاط الدَّينُ به، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 278 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: جَعَلَ (¬1) -وَفِي لَفْظٍ: قَضَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ (¬2) يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ, وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ: فَلا شُفْعَةَ" (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: على رواية: "جَعَلَ" يكون الأصل: جعلَ الشفعةَ في كل ما لم يقسم، وعلى رواية: "قضى"، لا بدَّ من الباء، كما هو (¬1) لفظ الحديث. الثاني: ع: في تنبيهاته: هذه اللفظةُ بسكونِ الفاءِ، ولأصل (¬2) تسميتها بذلك وجوهٌ: فقيل: هو من الشفعِ، وهو ضدُّ الوتر؛ لأنه يضمُّ هذا المشفوعَ فيه إلى ماله، فتصير الحصةُ حِصَّتين (¬3)، والمالُ مالين. وقيل: هو من الزيادةِ؛ لأنه يجمعُ مالَ (¬4) هذا إلى ماله، ويُضيفه ¬
إليه، ويزيدُهُ لَهُ (¬1). والشفعة: الزيادة (¬2)، قال اللَّه تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [النساء: 85]، قيل: يزيدُ عملًا صالحًا إلى عملِه، وهو قريبٌ من المعنى (¬3) الأول. وقيل: هو من الشفاعة؛ لأنه يشفعُ بنصيبه إلى نصيبِ صَاحِبِهِ. وقيل: بل كانوا في الجاهلية إذا باعَ الرجلُ حصَّتَهُ أو أصلَه، أتى المجاورُ شافعًا إلى المشتري ليوليه إياه، ليصله بملكه، ويخلصه، فيسأله فيه (¬4). قلت: هذا الذي يتعين أن يكون من (¬5) معنى الشفاعة، وأما القول الذي قبلَه، ويليه، فمن الشَّفْع، لا من الشفاعة، واللَّه أعلم. هذا أصلها في اللغة. وأما في الشرع: وهو (¬6) أخذُ الشريكِ حصتَه (¬7) جَبْرًا بشراء (¬8). ¬
فقولنا: جبرًا، احترازٌ من المبايعةِ الاختيارية. وقولنا: بشراء، احترازٌ من الغَصْب. فائدة: لنا مسائلٌ يؤخذُ فيها من المشتري ما اشتراه بالثمن (¬1) جبرًا غير الشُّفْعة: منها: ما قُسم في المْغنم لمسْلمٍ، ثم جاء ربُّه. ومنها: المسلمُ يدخل دارَ الحرب، فيشتري عبدًا لمُسْلم، فربُّه بالخيار في أخذِه بما اشتراه، وتركِه. ومنها: من شُهد بموته، ثم قدمَ حيًّا بعد قَسْمِ (¬2) تركتِه. ومنها: العبدُ إذا قسمتْ تركتُه، ثم استُحقَّ. ومنها: المكاتَب إذا بيعتْ كتابتُه، على خلاف فيه. وانظر: إذا باع السيدُ أَمَتَهُ المتزوجةَ وأولادَها، هل يكون الزوجُ أحقَّ بها، أم لا؟ وكذلك الدَّين إذا بِيع، هل يكون المِدْيانُ أحقَّ به، أم لا؟ فإني (¬3) لم أبي في ذلك نقلًا لأصحابنا. الثالث: هذا الحديثُ أصلٌ في ثبوتِ الشُّفعة، وقد تضمن هذا الحديثُ ثلاثة أحكام: وجوب الشفعة بالشركة، وسقوطها بالجواز؛ لأنه بعد القسمة جار، وإن الشفعة في الرباع دون العروضُ والحيوان. ¬
وقد أجمع المسلمون على ثبوت الشفعة للشريك في العقار، وما لم يُقسم، ونعني بالعقار: الأرضَ، والضِّياع، والنخلَ، على ما فسَّره أهل اللغة. قال العلماء: الحكمةُ في ثبوت الشفعة: إزالةُ الضرر عن الشريك، وخُصَّتْ بالعقار؛ لأنه أكثرُ الأنواع ضررًا. واتفقوا على أنه لا شفعةَ في الحيوانِ، والثيابِ، والأمتعةِ (¬1)، وسائرِ المنقولات. ع: وشذّ بعضُ الناسِ، فأثبت الشفْعَة في العُروض، وهي روايةٌ عن عطاءٍ، قال: تثبت (¬2) في كل شيء، حتى في الثوبِ، وكذا حكاهُ ابنُ المنذر، وعن أحمدَ (¬3) رواية: أنها تثبتُ في الحيوان، والبناءِ المفرد. وأما المقسوم، فهل تثبت الشفعةُ فيه بالجوار؟ (¬4) فيه خلاف؛ فمذهب مالك، والشافعي، وأحمد (¬5)، وجماهير العلماء، وحكاه ابنُ المنذر عن عمرَ بنِ الخطاب، وعثمانَ بنِ عفان، وسعيدِ بنِ المسيب، وجماعةٍ من التابعين، فمَنْ بعدَهم: أنها لا تثبتُ بالجوار. ¬
وقال أبو حنيفة، والثوري: تثبتُ بالجوارِ، لكنه يقدَّم الشريكُ على الجارِ. فإذا ثبت هذا، فالشفعةُ تجبُ بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون المبيعُ عقارًا، أو ما يتصلُ بهِ. والثاني: أن يكون المبيعُ قبلَ القسمة. والثالث: أن يكون مما يحتمل القسمةَ من غير ضرر. ع: وقوله: -عليه الصلاة والسلام-: "فيما لم (¬1) يُقْسَم" يدل على أن الشفْعة فيما تصح فيه القسمة، وما لا تصح فيه، يقال فيه: ما لا يقْسمُ (¬2). قلت: قولُهم: إن المستحيل لا يُنفى بـ"لم"، وإنما ينفى بـ"لا"، وإنما ينفى بـ "لم" الممكنُ دونَ المستحيل، فيه عندي نظر، والذي يظهر لي: أن ذلك غير مُطَّرِد، فإنه قد جاء نفيُ المستحيل عقلًا وشرعًا بـ "لم" في أفصح كلام، قال اللَّه تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 3 - 4]. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإذا وقعتِ الحدودُ، وصُرِّفَتِ الطرقُ، فلا شفعةَ". ¬
ع: لو اقتصر -عليه الصلاة والسلام- على قوله: "فإذا وقعت الحدود"، ولم يضف إليه قولَه: "وصرفت الطرق"، لكان ذلك حجة لأصحاب مالك في الردّ على أبي حنيفة؛ لأن الجار بينه وبين جاره حدود، ولكنه لما أضاف إليه قولَه: "وصرفت الطرق"، تضمن أنها تنتفي بشرطين: ضرب الحدود، وصرف الطرق، فيقول أصحابنا: صرفُ الطرق يُرَادُ بِهِ: صرفُ الطرق (¬1) التي كانت قبل القسمة، ويقول أصحابُ أبي حنيفة: المراد به (¬2): صرفُ الطرق التي يشترك فيها: الجدْران (¬3)، فيبقى النظر في أي التأويلين أظهر، وقَدْ روي -أيضًا (¬4) - عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ" (¬5). قلت: بفتح الصاد و (¬6) القاف: القُرْب، ويقال: بالسين (¬7) أيضًا. قال: احتج أبو حنيفة بظاهرِ هذا (¬8) الحديثِ، ونقول نحنُ: لم ¬
نتبينْ بماذا يكونُ أحقَّ، هل بالشفعة، أو بغيرها من وجوه الرفق، والمعروف؟ ونقول -أيضًا-: يحتمل أن يُحمل (¬1) الجارُ على الشريكِ والمخالِط، قال الأعشى: أَجَارَتنَا بِيْنِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ فسمَّى الزوجةَ جارةً؛ لمخالطتها له. وقد خرج أبو داود، والترمذي: قال (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا" (¬3)، وهذا أظهرُ ما يَسْتَدِلونَ بِهِ؛ لأنه بَيَّنَ بِمَ (¬4) ذا يكون أحق، ونَبَّهَ على الاشتراك في الطريق، ولكن هذا الحديث لم يثبتْ عندَ أصحابنا، ورأيتُ بعض المحدثين طَعَنَ فيه، وقال: راويه لو روى حديثًا آخر مثلَه، لتركْتُ (¬5) حديثه، انتهى (¬6). ¬
تذنيب: اعلمْ: أن الذي يُبطل الشفعةَ سَبْعةُ أشياء: أحدها: إسقاطُ الشفيعِ حَقَّه. والثاني: أن يُقسم ما فيه الشفعةُ، فتسقط الشفعةُ، ولا خلاف في هذيْن إلا من يقول بشفعة الجار. الثالث: أن يمضي من طول الأمد ما يُري أنه معرِضٌ (¬1) عنها، وتاركٌ لها. والرابعُ: ما يُحدثه المشتري من هدم، أو بناءٍ (¬2)، أو غِراس، والشفيعُ عالمٌ بذلك. والخامس: خروجُه عن يد المشتري ببيعٍ، أو هبةٍ، أو [صدقةٍ، أو رهنٍ، مع معرفة الشفيع بذلك. والسادس: ما يكونُ من الشفيع من مساومة] (¬3)، أو مساقاةٍ، أو كراءٍ. والسابع: أن يبيع النصيبَ الذي يستشفع به (¬4). وقد اختُلف في هذه الخمسة الأوجه، واللَّه الموفق. ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 279 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما- قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ (¬1) فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ , لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي (¬2) مِنْهُ؛ فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: "إنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا , وَتَصَدَّقْتَ بِهَا"، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُهَا, وَلا يُورَثُ، وَلا يُوهَبُ, قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ, وَفِي الْقُرْبَى, وَفِي الرِّقَابِ, وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَابْنِ السَّبِيلِ, وَالضَّيْفِ، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ, أَوْ (¬3) يُطْعِمَ صَدِيقًا, غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ، وَفِي لَفْظٍ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ (¬4) (¬5). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الحديثُ أصلٌ في مشروعية الحبس على جهات القُرَب، وإنه مخالفٌ لسوائب الجاهلية، وهذا مذهبنا، ومذهبُ الجمهور (¬1)، ويدل عليه -أيضًا- إجماعُ المسلمين على صحةِ وقفِ المساجدِ، والسقاياتِ. قال ابنُ هبيرة: (¬2) اتفق الأئمةُ الأربعةُ (¬3) على جواز الوقف، ثم ¬
اختلفوا هل يلزمُ من غير أن يتصل به حكمُ حاكم (¬1)، أو يخرج مخرجَ الوصايا؟ فقال (¬2) مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ (¬3): يصح بغير هذين الوَصْفين (¬4)، ويَلْزم. وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ إلا بأحدهما (¬5)، واللَّه أعلم (¬6). الثاني: فيه: جوازُ ذكرِ الولدِ أباه من غير كُنية، وفي هذا عندي سرٌّ لطيف، وذلك أن الاسم العَلم إذا جيء به على أصل وضعِه، فكأنك ذكرتَ معه ما اشتملَ عليه من جميع صفاته المعروفةِ منه، وإلى ذلك أشار سيبويه رحمه اللَّه بقوله: الأعلامُ مختصراتُ الصفات، فتعرَّفْ هذا الأصلَ، وتنبَّهْ له. الثالث: ظاهرُ الحديثِ أن خَيْبَر فُتحتْ عَنْوَةً، وأن الغانمين ملكوها، واقتسموها، وإن كان قد اختُلف في ذلك على ما سنذكره إن شاء اللَّه تعالى. وفيه: استشارةُ الأكابر، وأخذُ رأيهم، والائتمارُ بأمرهم. ¬
نفيسة: قال الأصمعي: سمعتُ أعرابيًّا يقولُ: إذا استخار العبد ربَّهُ، واستشارَ نَصيحَهُ، واجتهدَ رأيَه، فقد قَضَى لنفسِهِ ما عليها، ويفعلُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِه ما أحبَّ. وقوله: "هو أنفسُ": معناه: أجودُ، والنفيسُ: الجيد، وقد نَفُس -بفتح النون وضم (¬1) الفاء- نَفاسةً. قيل: واسمُ هذا المال الَّذي (¬2) وقفَهُ عمر -رضي اللَّه عنه- ثَمْغٌ، بثاء مثلّثة مفتوحة ثم ميم ساكنة ثم غين معجمة (¬3). وفيه: دليلٌ على ما كان عليه أكابرُ السلف والصالحين من إخراج أَنْفَسِ الأموالِ عندَهم للَّه تعالى، كأنهم نظروا (¬4) إلى قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وَفَّقَنا اللَّه لما يُحِبُّه ويرضاه. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وتصدَّقْتَ بها": ظاهرُه: الرجوعُ إلى أصل المحبَّس، ويتعلق بذلك اختلافُ الفقهاءِ في اشتراطِ لفظِ الوقف، أو الحبسِ، والصدقةِ، وعدم اشتراطه، والمعوَّلُ (¬5) عليه (¬6) ¬
عند أصحابنا في ذلك: الصيغةُ (¬1)، أو ما يقوم مَقامَها في الدلالة على الوقفيّة؛ إذ ليست بمتعينة، بل يقوم مقامَها ما يدل عرفًا على مقتضاها، كالإذن المطلَقِ في الانتفاع على الإطلاق، كما لو أذنَ في الصلاةِ في المكانِ الذي بناه للصلاةِ إِذنًا مُطْلَقًا، لا يتخصَّصُ بشخصٍ، ولا زمانٍ (¬2)، لكان كاللفظِ في الدلالة على الوقفية. فأما الألفاظُ التي يطلقها الواقفُ فضربان: أحدهما: ألفاظٌ متحددة (¬3)، وهي قوله: وَقَفْتُ، وحَبَّسْتُ، وتَصَدَّقْتُ. والآخرُ: ألفاظٌ يعنون بها ما يقتضي التأبيدَ (¬4)؛ كقوله: مُحَرَّمٌ لا يبُاع، ولا يوهَب، أو (¬5) أن تكون (¬6) على مجهولِينَ أو موصوفِينَ؛ كالعلماء، والفقراءِ، فيجري مجرى المحرَّمِ باللفظ، ولفظُ الواقفِ (¬7) يفيد بمجرده (¬8) التحريمَ. وأَمَّا الحبسُ، أو الصدقةُ، بمعناه، ففيهما روايتان. ¬
وكذلك في ضَمِّ أحدِهما إلى الآخَرِ خلافٌ -أيضًا-، إلا أن يريدَ بالصدقةِ هبةَ رقبةِ العَيْنِ (¬1)، فيخرج عن هذا، واللَّه أعلم. ق: ويحتمل أن يكون قوله: "وتصدَّقْتَ بها" راجعًا إلى الثَّمَرَة على حذفِ المضاف، ويبقى لفظُ الصدقةِ على إطلاقه. وقوله: "فتصدَّقَ بها، غيرَ أنه لا يُباع" إلى آخره، محمولٌ عند جماعة، منهم: الشافعيُّ رحمه اللَّه على أن ذلك حكمٌ شرعيٌّ ثابتٌ للوقف من حيث هو وقفٌ، ويحتمل من حيث اللفظ أن يكونَ ذلك إرشادًا إلى شرطِ هذا الأمرِ في هذا الوقف، فيكون ثبوتُه بالشرطِ، لا بالشرع (¬2). وفيه: فضيلةُ صلةِ الأرحام، والوقف عليهم، فإن القُربى (¬3) هنا المراد بها: قُرْبى (¬4) عمر -رضي اللَّه عنه- ظاهرًا. الخامس: قوله: "وفي الرقاب" إلى آخره: اختَلف تفسيرُ الرقاب في باب: الزكاة: فقال ابنُ عباس، والحسنُ، ومالكٌ، وغيرهم: هو ابتداءُ العتق، وعونُ المكاتَب بما يأتي على حريته. وقال الشافعي: معنى {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]: في المكاتَبِين ¬
خاصةً، ولا يُبتدأ منها (¬1) بعتق، وقاله الليثُ: وإبراهيمُ النخعيُّ، وابنُ جُبير. وقال الزهري منهم: الرقابُ: نصفان: نصفٌ للمكاتَبين، ونصفٌ يُعتق منه رقابٌ مسلمون (¬2) ممن صلَّى. قال ابنُ حبيب من أصحابنا: ويُفدى منها أُسارى (¬3) المسلمين، ومنعَ ذلكَ غيرُه. وقوله: "وفي سبيل اللَّه" يعني: المجاهدين (¬4)، واللَّه أعلم، ومنهم مَنْ عَدَّاه إلى الحج. وأمّا "ابنُ السبيل"، فهو الرجلُ في السفر والغُربة يعدمُ، قالوا: سُمي المسافر: ابنَ السبيل، لملازمته السَّبيلَ، كما يقال: للطائرِ: ابنُ ماءٍ، لملازمته له، ومنه قولهم: بَنُو الحرب، وبَنُو المجدِ، وقد قيل فيه غيرُ ذلك (¬5). وفي الحديث: دليلٌ على جوازِ الشروطِ في الوقف، واتباعِها. وفيه: دليلٌ على المسامحة في بعضها، حيث عُلِّقَ الأكلُ على المعروفِ، وهو غيرُ منضبط. ¬
ومعنى متأثِّل، أي: متخذٍ (¬1) أصلًا، يقال: تَأثَّلْتُ (¬2) المالَ: اتخذتُه أصلًا، قاله ق (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 280 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ, فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ, فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "لا تَشْتَرِهِ (¬1)، وَلا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ, وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ" (¬2). وَفِي لَفْظٍ: "فَإنَّ الَّذِي يَعُودُ فِي صَدَقَتِهِ كَاْلكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ" (¬3). ¬
* الشرح: الأظهرُ من الحديث: أن هذا الحملَ هبةٌ وتمليكٌ له، ليجاهد عليه، لا يحبسه عليه، وإن كان محتملًا كما قيل، لكنه احتمالٌ مرجوح، والذي يدلُّ على الأول: أن الذي أُعطيهُ أرادَ بيعَه، فلم يُنكر عليه ذلك، ولو كان حُبْسًا، لم يبع إلا أن يُحمل على أنه انتهى إلى حاله عدمُ الانتفاعِ به فيما حُبس عليه، لكن ليسَ في اللفظ ما يُشعر به. ع: وتعليلُه في الرجوع بالهبة، دليلٌ على أنه لم يكن حُبسًا؛ إذ لو كان حبسًا، لم يُخص منعُ شرائه بعلّة (¬1) الهبة، ولعُلِّلَ بالحبسِ. قلت: وهو ظاهرُ مكشوف. وقوله: "فأضاعَه الذي كان عندَه"، أي: لم يُحْسِنِ القيامَ عليه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تَشْتَرِه"، إلى آخره (¬2)، اختُلف في هذا النهي، هل هو على العموم، أو الخصوص؟ ¬
فقال الطبري: هو (¬1) خاصٌّ، فإن الهبةَ للثواب باشتراط ذلك، أو يعرفه له فيها الرجوع (¬2)، وكذلك الأبُ فيما وهبَه (¬3) لابنِه، وإنما ذلك فيما وُهِبَ للَّه تعالى، وطلبِ الأجر، أو لصلةِ رحمه (¬4)، فهذا لا رجوع (¬5) له فيه. قال غيره: وعلى هذا يكون قولُه -عليه الصلاة والسلام- "في صدقته" مفسِّرًا لقوله: "في هبته". ع: وهذا (¬6) قول مالك، ونحوُه قولُ أبي ثور، والشافعي، والأوزاعي. قال: واختلف قول مالكٍ في اعتصار (¬7) الأم، والأب (¬8)، والجدّ، والجدَّة (¬9)، ووافقهُ الشافعي، وأبو ثور في الجدّ: أنه يعتصر (¬10)، وحجةُ ¬
هؤلاءِ حديثُ ابنِ عمر: "لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ عَطيَّةً وَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلَّا الوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ" (¬1)، وتخصيصُ الوالد بذلك، إذ جعل له النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حقًا في (¬2) مالِ الابن، وأنه لا يقطع فيه، ولا يُحَدُّ؛ لأنه من كَسبه؛ كما جاء في الحديث: "وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ" (¬3)، وقاسَ هؤلاءِ الأم والجدَّتين (¬4) عليه، إذ هما (¬5) بمعناه، وينطلق عليهم اسمُ الأُبوة (¬6). قلت: وتحصيلُ مذهبنا في مسألة الاعتصار، وهو الرجوعُ فيما وهبَ الأبُ أو الأمُّ لبنيهما: أن للأب أن يعتصرَ ما وهبَ (¬7)، أو نَحَلَ ¬
لبنيه الصغارِ والكبارِ، وكذلك إن بلغَ الصغارُ، ما لم يَنْكِحوا، أو يُحدثوا دَيْنًا (¬1) في الهبة حدَثًا، أو بتغير (¬2) الهبة عن حالها؛ فإنه لا رجوعَ له حينئذ. وله أن يعتصرَ من ولدِه الصغار، وإن لم تكن (¬3) لهم أم، ولا تعتصر الأمُّ من ولدها الصغار إن لم يكن لهم أبٌ؛ لأن اليتمَ من بني آدم من قِبَلِ الأب، لا من قِبَلِ الأم، واليتيمُ لَا يعتصر، ولا يُعتصر منه، بل تعدُّ كالصدقة عليه، فإن لم يكونوا يتامى، كان لها أن تعتصر بالشروط المتقدمة، ولو وهبتهم وهم صغارٌ، والأبُ مجنون جنونًا مطبِقًا، فهو كالصحيح في وجوب الاعتصار لها، واللَّه أعلم (¬4). وأما الصدقةُ، فلا اعتصار فيها البتةَ، بخلاف الهبة، ولا فرق بينهما، واللَّه أعلم، إلا النهي عن الرجوع في الصدقة، وعلى هذا لا يكون قولُه -عليه الصلاة والسلام- في إحدى الروايتين: "فَإِنَّ العائِدَ في صَدَقَتِهِ" مفسِّرًا للرواية الأخرى: "في هبته"، كما تقدم، بل يكون على بابه، واللَّه أعلم، هكذا يلزم من فرق بينهما في الحكم، فاطردَ (¬5) إذن، واللَّه الموفق. وقالت طائفةٌ: الحديثُ على عمومه، وليس لأحد أن يهبَ هبةً ¬
ويرجعَ فيها و (¬1) رُوي عن بعض السلف، و (¬2) هو قولُ أحمدَ وطاوسٍ. وقيل: ذلك على الخصوص فيمن وَهَبَ لذي رحم، أو زوج، وأما لغيرهم، فله الرجوعُ، وهو قول الثوري، والنخعي، وبه قال إسحاق، ورُوي عن عمر. وقال الكوفيون: هو خصوصٌ في ذي الرحم المحرَّمِ، ولا رجوعَ فيه، كان والدًا، أو غيرَه، صغيرًا أو كبيرًا، فأما غيرُهم من ذوي الأرحام والأجانب، فله الرجوعُ. ثم اختلفوا، هل ذلك على الإيجابِ، أو الندبِ، والتنزه؟ فقال مَنْ جعلها عامةً: هي واجبةٌ، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "العائِدُ في هبتِهِ كالعائدِ في قيئِه"، والمرادُ بهذا: الواهبُ، والهاء عائدة عندَهم عليه (¬3)، قال: فلما حَرُمَ عليه العودُ في قيئه، كذلك يَحْرُمُ عليه العَوْدُ في هبته. ع: وهذا كلامٌ غيرُ سديد، وتأويلٌ بعيد؛ لأن القيء لا يحرُمُ العودُ إليه، وإنما يُنزه عنه، ويُستقبح فعلُه (¬4)، ويُستقذر، إلا أن يتغيرَ بأحدِ أوصافِ النجاسة؛ من لونٍ، أو رائحةٍ، أو صفةٍ، وإنما هو تمثيلٌ؛ كما قال في الحديث الآخر: "كالكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئهِ"، وهو وجْهُ الكلامِ، ¬
وهو الذي يقتضيه تشبيهُ قولِه في الرواية الأخرى: "كمثلِ الكلب". قلت: قوله: لأن القيء لا يحرُم العودُ إليه، إلى آخره، غيرُ (¬1) متفق عليه، وما أظنُّ أن عند الشافعي (¬2) خلافًا في نجاسته، واللَّه أعلم. واحتجوا -أيضًا- بقوله في حديث ابن عمر، وابن عباس: "لا يحلُّ لواهب أن يرجعَ في هِبته" (¬3)، والآخرون يتأولونَهُ على الخصوصِ؛ كما تقدم. وكذلك اختلفوا في النهي عن الشراءِ (¬4)، هل هو على التحريمِ، أو الندب على ما سيأتي. وحكى ابنُ المواز: أن من العلماء مَنْ أجازه. قالوا: وإنما نهاه عن شرائه، لِئَلَّا يكون كالراغبِ فيما أخرجَهُ للَّهِ تعالى، والنادِم عليه، وأشفقَ -عليه الصلاة والسلام- من فسادِ النية؛ كما حَرُمَ على المهاجر (¬5) الرجوعُ بعدَ الفتح (¬6). وقال الإمام: يحتمل أن يعلِّل هذا: بأن المتصدَّقَ (¬7) عليه، أو ¬
الموهوبَ له قد يَسْتحييان (¬1) منه، فيسامحانه (¬2) في الثمن، فيكون رجوعًا في ذلك [القدر الذي حطَّ، وبهذا علل عبد الوهاب كراهة اشتراء الهبة والصدقة] (¬3) جميعًا، وإن كان قد وقع في "الموازيَّة" فيمن حملَ على فرس، قال: إن لم يكن للسبيلِ، ولا للمسكنة، فلا بأس أن يشتريَه؛ وكأنه رأى أنه إذا لم يكن كذلك، فهو هبة، والهبةُ تخالفُ الصدقةَ عنده، ولا يكون عليه في الحديث حجةٌ لقوله: "على فَرَسٍ عَتِيقٍ (¬4) في سبيلِ اللَّهِ" (¬5)، فإنما وقع النهي عندَه؛ لأنه على جهةِ الصدِقةِ، ومن جهة المعنى: إن الصدقة (¬6) قربة إلى اللَّه (¬7) تعالى، ولا يحسُنُ الرجوعُ فيما تقرب به إِليهِ (¬8) تعالى، والهبةُ ليست (¬9) كذلك، فاستُخِفَّ شِرَاْؤُهَا (¬10)، انتهى (¬11). ¬
وقد اختلفَ قولُ مالكٍ بالكراهةِ والمنعِ، فعلى القول بالكراهةِ: لا يُفسخ العقدُ إن وقعَ، وعلى التحريم: قال بعض المتأخرين: يُفسخ. قال الإمام: وفيه نظرٌ، لأجل الاختلاف فيه، ولأنه ليس كلُّ نهيٍ يدل على فساد المنهيِّ عنه. واختلف المذهب في المنافع، هل هي كالرقاب، أم لا؟ فقال ابنُ المواز: كلُّ مَنْ تصدَّق بغلَّةٍ سنينَ، ولم يسألِ (¬1) الأجلَ، فلا بأس أن يشتريَ المتصدقُ (¬2) ذلك، وأباه عبدُ الملك، واحتجَّ بحديثِ النهيِ عن الرجوعِ في الصدقةِ، وأجازَ لورثتِهِ أن يشتروا المرجعَ، واحتج لمالكٍ (¬3) بحديثِ العَرِيَّة، وقال بعضُ المتأخرين: العريةُ أصلٌ قائِم بنفسِهِ، أُجيز للمرفقِ ورفعِ الضرر، فلا يُقَاسُ عليه غيرُه (¬4). ع: واختُلف في الهبةِ للثوابِ، فأجازها مالك، وهو قول الطبري، وإسحاق، ومنعها الشافعيُّ، ورآها من البيع المجهول الثمنِ و (¬5) الأَجَل، وهو قولُ أبي ثور، وأبي حنيفة (¬6)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع (¬1) 281 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي -عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ-: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ (¬2) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَانْطَلَقَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيُشْهِدَ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلادِكُمْ"، فَرَجَعَ أَبِي, فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ (¬3). ¬
وَفِي لَفْظٍ: قال: "فَلا تُشْهِدْنِي إذَنْ، فَإِنِّي لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ: "فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي" (¬2). * * * * الشرح: الحديث يقتضي التسويةَ بين الأولاد في الصدقة والهبة؛ تأليفًا ¬
لهم، وحَضًّا على برِّ أبيهم. وهل ذلك على الإيجاب، أو الندب؟ خلاف. والمعتمد من مذهبنا، ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة: كراهةُ التفضيل، لا تحريمُه، فإن وقع، مضى، ولم يُرَدَّ، وقال طاوس وعروة ومجاهد والثوري وأحمد وإسحاق وداود: هو حرام ويردّ (¬1)، واحتجوا برواية (¬2): "لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرِ" (¬3)، وبغيرِها من ألفاظ الحديث. ودليلُ المجيزين مع الكراهة: قوله: -عليه الصلاة والسلام-: "فأَشْهِدُ (¬4) عَلَى هَذَا (¬5) غَيْرِي"، قالوا: ولو كان حرامًا، أو باطلًا، لما قالَ هذا الكلامَ، وأجابوا عن رواية: "لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ": بأن الجَوْرَ في اللغةِ هو: الميلُ عن الاستواءِ والاعتدال، فكلُّ ما خرجَ عن الاعتدالِ، فهو جَوْرٌ، وسواءٌ كانَ حرامًا، أو مكروهًا، فيجب تأويلُ الجَوْرِ هنا بكراهةِ التنزيه؛ جمعًا بين الروايتين، أعني: رواية: "أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي"، ورواية: "لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ" (¬6). ¬
وللقائلين بالتحريم أن يقولوا: قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "فأشهدْ على هذا (¬1) غيري" جاءَ على طريق التهديدِ والتنفيرِ (¬2) الشديد، مع ما انضاف إلى ذلك من امتناعه -عليه الصلاة والسلام- من المباشرة لهذه الشهادة، معلِّلًا بأنها جَوْرٌ، والمتبادَرُ إلى الذهن عندَ إطلاق (¬3) الجورِ التحريمُ، لا الكراهةُ، فتخرج الصيغةُ عن ظاهر الإذن بهذه القرائن (¬4)، ويقوي ذلك -أيضًا- روايةُ: "فَاتَّقُوا اللَّه"، فإن ذلك يؤذِنُ بأن التقوى هنا التسويةُ، وأن التفضيلَ ليس بتقوى، واللَّه أعلم. و (¬5) اختلف أصحابنا -أيضًا- فيمن أخرجَ الإناثَ (¬6) من تحبيسه، هل ينفذ الحبسُ، أم لا؟ فقيل: يُفسخ مطلقًا. وقيل: يُفسخ ما لم يَمُتْ. وقيل: ما لم يَمُتْ (¬7)، ولم يُحَزْ (¬8) عنه. ¬
قال الإمام: قال بعضُ الشيوخ: إن هذه الأقوالَ تجري في هبة بعضِ البنينَ دونَ بعض. واختلف المذهبُ -أيضًا- هل يُسوِّي بين الذكورِ والإناثِ، أو يكونُ ذلك على حكم الميراث؟ وبالأول: قال ابنُ القصار (¬1) من أصحابنا، وهو الصحيحُ المشهور من مذهب الشافعي. وبالثاني: قال ابنُ شعبان. واختلف في ذلك -أيضًا- مَنْ تقدَّمَ من غير أصحابنا (¬2)، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 282 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ (¬1). ¬
"الشرح: الشَّطْرُ هنا: النصف، والشَّطرُ -أيضًا- النَّحْوُ، والقَصْدُ، ومنه قولُه تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]؛ أي: نحوه (¬1). وقد (¬2) ذهب مالك، والشافعيُّ: إلى جواز المساقاة لأجلِ هذا الحديث، وأنكرَها أبو حنيفة؛ لأجل ما فيها من الغَرَر، وبيع الثمرِ قبلَ الزَّهْو، وحملَ حديثَ خيبرَ هذا على أنهم كانوا عَبيدًا له -عليه الصلاة والسلام-، فما أَخَذَ، فله، وما أَبْقَى، فَلَهُ. والحجَّةُ عليه أن نقول: أولًا: هذا لا نُسلِّمُه، ولو سلَّمناه على طريق التنزُّل أنه افتتَحها عَنْوةً، وأقرَّهم فيها على نحو ما قال، لم يجز الرّبا بَيْنَ العبدِ وسيده، فلا يُغنيه ما قال، قاله (¬3) الإمام المارزي. وأيضًا: فإنه ليس بمجرد الاستيلاء يحصُل الاسترقاقُ للبالغين (¬4)، واللَّه أعلم. والقائلون بجواز المساقاة اختلفوا، فمنعها داودُ إلَّا في النخل، ومنعها الشافعي إلَّا في النخل والكَرْم، وأجازها مالكٌ في جميع الثمر ¬
إذا احتيجَ فيها للمساقاة (¬1)، والمشهورُ عندنا: منعُها في الزرع، إلا إذا عجز عنه (¬2) صاحبُه. فأما (¬3) داودُ، والشافعيُّ، فرأياها (¬4) رُخصةً، فقَصَراها على ما وقعت عليه، فلم يتحقق داودُ إلا النخلَ خاصَّة، ولم يتحقق الشافعيُّ إلا النخلَ والكرمَ، ونحن قِسْنا بقيةَ الشجر عليهما؛ لكونها (¬5) في معناهما، ولا مانعَ من القياس إذا عُقل المعنى. وللشافعيِّ -أيضًا- قولٌ نحو (¬6) ذلك؛ كما نقول؛ كما (¬7) نقله ابنُ هبيرة، واللَّه أعلم، وبذلك (¬8) -أيضًا- (¬9) قال أحمدُ (¬10) (¬11). ومتى تجوز المساقاة؟ فمذهبُنا: جوازُها ما لم تَطِبِ الثمرةُ، وفي جوازها بعدَ الطيب قولان: ¬
قال الإمام: وعند الشافعيِّ لا تجوز المساقاةُ (¬1) وقد ظهرت الثمرةُ، وقَدَّرَ الظاهرَ منها مملوكًا جميعُه لربِّ النخل، وهو عينٌ قائمة، فكأنه باعَ نصفَه قبلَ الزَّهْوِ بخدمة العامل. وعندنا: أن المعاملة إنما وقعتْ على التنمية (¬2) بنصف النامي (¬3)، وذلك غيرُ موجود، والموجودُ قبلَ هذا غيرُ مقصود، فلم يؤثر في جواز المساقاة (¬4). قلت: ولأحمدَ (¬5) روايتان، أظهرُهما: الجوازُ؛ كما نقول (¬6). فإذا ثبت هذا، فلتعلمْ (¬7): أن للمساقاة عندنا -على قول ابن القاسم- شروطًا لا تصحُّ إلا بها: أن تكونَ (¬8) في كلِّ (¬9) أصلٍ من الشجر، أو ما يقومُ مقامه؛ كالورد، والياسمين. ¬
الثاني: قبل طيبها، أو قيل وجودها. الثالث: أن يكون للعامل جزءٌ شائع، أو الجميعُ. الرابع: أن لا ينفرد أحدُهما بزيادة على الآخر. الخامس: أن يكون بلفظ المساقاة. السادس: أن لا يَشترطَ على العامل غيرَ عملِ المساقاة. السابع: أن لا يشترط عليه (¬1) شيئًا (¬2) يبقى بعد انقضائها (¬3). الثامن: أن لا يكون سنةً محدودة (¬4). قال في "الكتاب": والشاذُّ (¬5) في المساقاةِ إلى الجذادِ، ولا يجوز شهرًا، ولا سنةً محدودة، وهي (¬6) إلى الجذاد إذا لم يؤجِّلا، وإن كانت تُطْعِمُ في العام مرتين، وهي إلى الجذاد الأول حتى يُشترط الثاني، ويجوز أن يساقيه بسنينَ (¬7) ما لم يكثرْ جدًا (¬8) (¬9). ¬
ولتَعْلَمْ: أن المساقاةَ عندنا من العقود اللَّازمة، تنعقدُ (¬1) باللفظ، وتلزمُ به، بخلاف القِراض الذي لا ينعقدُ ولا يلزم إلا بالعمل دونَ اللفظ. واختُلف في المزارعة، فقيل: إنها تنعقد وتلزمُ باللفظ، وقيل: لا تنعقدُ ولا تلزم إلا بالعمل، وقيل: إنها (¬2) تنعقد وتلزمُ بالشروع في العمل. وأما الشركة، فلا تلْزم باللفظ ولا بالعمل. واختُلف بم (¬3) تنعقدُ؟ فقيل (¬4): (¬5) باللفظ، وقيل: بالعمل، والقولان قائمان من "المدونة"، قاله القاضي أبو الوليد بن رشد رحمه اللَّه تعالى. تذنيب: إذا وقعت المساقاة فاسدةً؛ لفقدانِ شرطٍ من الشروط المذكورة، أو غيرها، فالثمرةُ لربّ الحائط، وللعاملِ أجْرُ مثلِه، إلا في أربع مسائل، فله مساقاةُ مثلِه عندَ ابن القاسم: أحدُها: إذا عُقدت (¬6) المساقاةُ بعد طيبِ الثمرة. والثانية: إذا شرط العاملُ أن يعينه ربُّ المال بنفسه. ¬
والثالثة: إذا اجتمعت المساقاةُ مع البيع. والرابع: إذا عقدَ معه المساقاةَ سنين، على أن يكونَ له في سَنة نصفُ الثمرة (¬1)، وفي سنة أخرى ثلثُ الثمرة (¬2)، قاله الشيخُ أبو عمران الفاسي (¬3) رحمه اللَّه. قال: ولا يجوز للعامل أن يشترط على ربِّ الحائط سَلَفًا يُسلفه إياه في عَقْد المساقاة، ولا يُفرد ما (¬4) يعملُه معه، فإن ترك ذلك، فله أجرُ مثله، واللَّه أعلم (¬5). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من تمر (¬6) أو زرع"، يحتج به الليثُ، والشافعي، ومَنْ قال بقولهما في: كراءِ الأرض بالجزء منها، وفي جواز المساقاة والمزارعة معًا. (¬7) ومالكٌ -في آخرين- يمنعون من اجتماعهما، ويمنعون المزارعةَ بالجزء، ويجيزون المساقاةَ (¬8)، إلا ما كان تبعًا من الأرض بين الثمار، فيجوز عند مالك دخولُه في الشرط، وإلغاؤه للعامل. ¬
وأبو حنيفةَ، وزفرُ يمنعانهما مجتمعين، ومفترقين. ونحن نتأول هذا الحديث تأويلات: إمّا أن يكون الزرعُ هنا تبعًا للنخل، أو يكون كلَّ عقدٍ منفردٍ، فزارعَ قومًا بالشروط الجائزة في المزارعة، وساقَى آخرين، واللَّه أعلم، قاله ع (¬1) (¬2). * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع 283 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ الأَنْصَارِ حَقْلًا؛ وَكُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ، وَلَهُمْ هَذِهِ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ، وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، فَأَمَّا الوَرِقُ، فَلَمْ يَنْهَنَا عنه (¬2). ولِمُسْلِمٍ: عَنْ حَنْظَلَة بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالوَرِقِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا كانَ النَّاسُ يُؤاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَا عَلَى المَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الجَدَاوِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَهْلِكُ هَذَا (¬3)، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ (¬4) عَنْهُ، فَأَمَّا شَيءٌ ¬
مَعْلُومٌ (¬1) مَضْمُونٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ (¬2). المَاذِيَانَاتُ: الأَنْهَارُ الْكِبَارُ، وَالجَدْوَلُ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ. * * * * الشرح: الحَقْل: بفتح الحاء، والمُحَاقَلَةُ: كِراءُ الأرض. والماذِيانَات -بذال معجمة مكسورة، وروي فتحها، ثم المثناة تحت، ثم ألف (¬3) ثم نون، ثم ألف (¬4)، ثم المثناة فوق-، وهي مسايلُ ¬
المياه، وقيل: ما ينبت على حافَتَي مسيلِ الماء، وقيل: ما ينبت حولَ السواقي، وهي لفظةٌ مُعَرَّبة لا عربيةٌ. وأَقبالُ الجداوِل: -بفتح الهمزة-؛ أي (¬1): أوائلُها، ورؤُوسها، جمع جَدْوَل، وهو النهرُ الصغير؛ كالساقية. ومعنى هذه الألفاظ: أنهم كانوا يدفعون الأرض لمن يزرعها ببَذْرٍ من عنده (¬2)، على أن يكون لمالكِ الأرضِ ما ينبت على الماذِيانات، وأَقبالِ الجداول، أو (¬3) هذهِ القطعة، والباقي للعامل، فنُهوا عن ذلك؛ لما فيه من الغَرَر، فربما هَلَكَ هذا دُون ذلك، وعكسُه. وقد اختلف الناس في كراءِ الأرضِ على الإِطلاقِ، فمنع ذلك طاوسٌ، والحسنُ بكلِّ حالٍ، سَوَاءٌ أَكْراها بطعام، أو ذهبٍ، أو وَرِق، أو بجزءٍ من زرعها؛ لإطلاق (¬4) أحاديثِ النهيِ عن كراء الأرض. وأجاز بعضُ الصحابة، وبعضُ الفقهاءِ كراءَهَا بالجزْءِ؛ تشبيهًا بالقِراض، وهذا عندَنا لا يجوز، من غير خلاف، وهو (¬5) مذهبُ أبي حنيفة، والشافعيِّ، أعني: عدمَ الجواز والحالةُ هذه. وأمَّا كراؤها بالطعام مضمونًا في الذمَّة، فأجازهُ أبو حنيفةَ؛ لقولِ ¬
رافعٍ في آخرِ حديثه: فأَمّا (¬1) شيء معلومٌ مضمونٌ، فلا بأس به. وحمل ذلك أصحابُنا على تفسير الراوي واجتهادِه، فلا يلزم الرجوعُ إليه، وقد قال أحمدُ بنُ حنبلٍ: حديثُ رافعٍ فيه ألوان؛ لأنه مرةً حَدَّثَ عن عمومته (¬2)، ومرة حَدَّثَ (¬3) عن نفسِهِ، وهذا الاضطرابُ يوهنه عنده، واللَّه أعلم. وقال ابنُ نافع من أصحاب مالكٍ: يجوز كراؤها بالطعامِ، أو غيره؛ كان (¬4) ينبت فيها أولًا، إلا الحنطةَ وأخواتها، إذا كان ما يُكرى (¬5) به خلافَ ما يُزرع فيها. وقال ابنُ كنانة من أصحاب مالكِ: لا يُكرى (¬6) بشيء إذا (¬7) أُعيد فيها نبتُ (¬8)، ولا بأس بغيره، كان طعامًا، أو غيرَه. قال الإمام: وقد أُضيف هذا القولُ إلى مالك (¬9). ¬
وقال ربيعةُ: يجوزُ بالذهب والوَرِق فقط. وقال مالك: يجوزُ بالذهب، والوَرِق، وغيرِهما (¬1)، إلا الطعامَ، كان مما (¬2) تُنبته الأرضُ، أو مما لا تُنبته؛ كالعسل، واللحم، واللبن، وغيرِ ذلك، ولا يجوز (¬3) كراؤها ببعض ما تُنبته (¬4) من غير الطعام؛ كالقطنِ، والكتانِ، والعصفرِ، والزعفرانِ؛ بخلاف القصبِ، والخشبِ، ونحوِ ذلك؛ فإنه يجوز كراؤها به. ع: وقال المغيرةُ صاحبُ مالك: لا بأس بكراء الأرض بطعام (¬5) لا يخرج منها، حكاه عنه ابنُ سحنون، وحكى غيرُه مثلَ ما قالَ أصحابُه: لا يجوزُ بالطعام (¬6). وتعلَّق أصحابنا بما روي: أنه -عليه الصلاة والسلام- نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالطَّعَامِ، فَعَمّ، ولأن الناهي (¬7) عنها يقدر أنه على (¬8) ملك ¬
ربِّ (¬1) الأرض، وكأنه باعَه بطعامٍ، وصار (¬2) كبيع الطعام بالطعام إلى أَجَلٍ، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العاشر 284 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ (¬1). وَفِي لَفْظٍ: "مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا، لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ المَوَارِيثُ" (¬2). وَقَالَ جَابِرٌ: إِنَّمَا العُمْرَى الَّتِي أَجَازَ (¬3) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ ¬
يَقُولَ (¬1): هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِنَّها تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا (¬2). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: "أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا؛ فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا (¬3) حَيًّا ومَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ" (¬4). * * * * الشرح: العُمْرى: فُعْلَى منَ العُمْر، وهي هبةُ المنافعِ مدةَ العمرِ؛ مثل أن يقول: ¬
أَعْمَرْتُكَ داري، أو ضَيْعَتي، فإنه قد وَهَبَهُ (¬1) الانتفاعَ بذلك مدةَ حياتِه. وحكمُها عندنا: الجوازُ، والصحَّةُ، والنفوذُ، فإذا مات، رجعتِ الرقبةُ إلى المالك الذي هو المُعْمِرُ، وإن قال: أعمرتُكَ وعَقِبَكَ، فإنه قد وهبَ له (¬2) ولعقبه الانتفاعَ ما بقي منهم إنسانٌ، فإن (¬3) لم يبقَ منهم أحدٌ، رجعت الرقبةُ إلى المالك الذي هو المعمِرُ؛ لأنه وهبَ المنفعة، ولم يهب الرقبةَ، وكذلك لو قال: أسكنتُكَ هذه الدارَ عُمْرَكَ، أو وهبتُكَ سُكناها عمركَ، أو قال: هي لكَ سُكنى، أو لكَ ولعقبِك سُكنى (¬4)، فإذا مات المعمَرُ، وانقرض العقبُ المعمَرُ بعد وفاة المعمِرِ الواهب، رجعت الرقبةُ إلى وارثِ المعمِرِ يومَ مات؛ هذا مذهبنا، وهو قولُ القاسمِ بنِ محمد، ويزيدَ بنِ قسيط (¬5)، والليثِ بنِ سعد، وأحدُ قولي الشافعيِّ. وقد رُوي عن مالكٍ: أنه قالَ: إذا قال: لكَ ولعقبِكَ: أنها لا ترجعُ إلى المعمِرِ الواهِبِ، وتُؤُوِّل على أن معناه: إذا قال: لكَ ولعقبِكَ، فلا ترجعُ إلا بعدَ انقراضهم، على مشهور مذهبه، واللَّه أعلم (¬6). ¬
والعقبُ: أولادُ الرجل ما تَناسلوا، وهو بفتح العين وكسر القاف، قالوا: ويجوز إسكانها مع فتح العين وكسرها (¬1)، كما في نظائره. وقال أبو حنيفة، والشافعيُّ في المشهور عنه، وأحمدُ: العُمرى تمليكُ (¬2) الرقبة، فإذا أعمرَ الرجلُ (¬3) رجلًا دارًا، فقال: أعمرتُكَ داري هذه، أو جعلْتُها لكَ عُمري، أو عمركَ (¬4)، أو (¬5) ما عشْتَ، فهي للمعمَر ولورثته من بعدِه إن كان له ورثةٌ، سواء قالَ المعمِرُ للمُعْمَرِ (¬6): هي لكَ، أو لعقبِك، أو أطلقَ، فإن لم يكن له وارثٌ، فلبيتِ المالِ، ولا يعودُ ذلكَ إلى المعمِر؛ هكذا نقله ابنُ هبيرة في "إجماع الأئمة الأربعة" (¬7). ولتعلمْ (¬8): أن الجمهورَ على أن التفرقةَ بين الإسكانِ والعمرى، فيقولون في الإسكان: إن (¬9) الرقبةَ على ملكِ ربها، كما نقول نحنُ في العُمْرى. تذنيب: جرتْ عادةُ الفقهاء يشفعون العُمرى بالرُّقْبى، ويُفرقون بينهما، وصُورتها: أن يقول إنسانٌ لآخَر: إنْ مُتُّ قبلَكَ، فداري لك، ¬
وإن مُتَّ قبلي، فدارُكَ لي، وحكمُها عدمُ الجواز؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما يقصد إلى عِوَضٍ لا يدري هل يحصُل له، أو يحصُل عليه، ويتمنى كلُّ واحد منهما موتَ صاحبه، وليس كذلك العُمرى؛ لأن المعمِرَ لا يقصدُ عوضًا عن الَّذي أخرجَ عن (¬1) يده، أما لو قال: إن مُتُّ قبلَكَ فداري لك، وإن مُتَّ قبلي فهي لي، فقال القاضي أبو الحسن: حكمُ هذه حكم الوصايا، فيجوز (¬2)، واللَّه أعلم (¬3). وقوله في الحديث: "قَضَى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعُمْرى": ظاهرهُ الإطلاقُ في جميع الصور؛ إذ ليس في اللفظ تقييد، وإن (¬4) كان قد اختلف أهلُ الأصول في أن مثل هذه الصيغةِ من الراوي هل تقتضي العمومَ، أم لا؟ ق: وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لأنه (¬5) أعطى عطاءً وقعتْ فيه المواريثُ" يريدُ (¬6) أنها التي شرط فيها: له (¬7) ولعقبِه، ويحتمل أن ¬
يكون المرادُ: صورةَ الإطلاق (¬1)، ويؤخذ كونُه وقعتْ فيه المواريثُ من دليل آخر؛ وهذا الذي قاله جابر -رضي اللَّه عنه- نصيصٌ على أن المراد بالحديث: صورةُ التقييد بكونها له ولعقبِه (¬2). وقوله: "إنما العُمْرى التي أجازَها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"؛ أي: أمضاها، وجعلَها للعقِبِ لا تعود، وقد نَصَّ على أنه إذا أطلق هذه العمرى: أنها ترجع، وهو تأويلٌ منه، ويجوز من حيث اللفظ أن يكون رواه؛ أعني: بقوله (¬3): "إنما العُمرى التي أجازَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أن تقولَ (¬4) هي لكَ ولعقبِكَ"، فإن كان مرويًا، فلا إشكال في العمل به، وإن لم يكن مرويًا، فهذا يرجع إلى تأويل الصحابي الراوي، هل يكون مقدَّمًا من حيث إنه قد تقع له قرائنُ تورثه العلمَ بالمراد (¬5)، ولا يتفق تعبيرهُ عنها، انتهى (¬6). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَمْسِكُوا عليكُم أموالَكم ولا تُفْسِدوها" إلى آخره، تنبيهٌ للإنسان، وتحريضٌ على التثبُّتِ فيما يُخرج من ماله حتى يتروَّى ويتدبَّرَ العاقبةَ؛ خوفًا من الندم على ما فعل، فيبطل أجرُه، أو يقِلُّ، واللَّه أعلم. ¬
الحديث الحادي عشر
الحديث الحادي عشر 285 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ"، ثُمَّ يَقُولُ (¬1) أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! وَاللَّهِ! لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: اختُلف في حَدِّ الجيرة، فقال الأوزاعي: أربعونَ دارًا من كلِّ ناحيةٍ جيرةٌ. وقالت فرقةٌ: من سمعَ إقامةَ الصلاة، فهو جارُ ذلك المسجد، ويقدر (¬1) ذلك في الدور. وقالت فرقة: من سمع الأذانَ. وقالت فرقة: مَنْ ساكنَ رجُلًا في محلَّة أو مدينةٍ، فهو جارُهُ. والمجاوَرَةُ مراتبُ، بعضُها ألصقُ من بعض؛ فأدناها (¬2): الزوجةُ، قال الأعشَى: أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ وبعدَ ذلك الجيرة الخلط (¬3). واختلف أهلُ التفسير في قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. ¬
فقال ابنُ عباس، ومجاهدٌ، وعكرمةُ، وغيُرهم: الجار ذو القربى: هو الجارُ القريبُ النسبُ (¬1)، والجارُ الجنبُ: الجارُ الذي لا قرابةَ بينَك وبينَه. وقال نوفٌ الشامي: الجار ذو القربى هو: الجارُ المسلم، والجار الجنب هو: اليهودي، والنصراني (¬2). وقالت فرقة: الجارُ ذو القربى هو: الجارُ القريبُ المسكَنِ (¬3) منكَ، والجارُ الجنب هو: البعيدُ المسكَنِ منكَ. قال ابنُ عطية: وكأن هذا القول منتزعٌ من الحديث، قالت عائشة (¬4): يا رسولَ اللَّه! إن لي جارَين، فإلى أيهما (¬5) أُهْدي؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ (¬6) بَابًا" (¬7). وقيل: الجار الجنب: الزوجة. وسُئل أعرابي عن الجار الجنب، فقال: هو الذي يجيء فيحلُّ حيثُ ¬
تقعُ (¬1) عينُكَ عليه (¬2). قلت: والذي يقع لي: أن الجيرةَ على مراتب ثلاث: أدناها وآكدُها: الجار المسلم ذو القرابة، ثم الجار المسلمُ (¬3) غيرُ ذي القرابة، ثم الجارُ الذميُّ، ومَنْ كان من هؤلاء أقربَ من حيثُ المسكن، زادَ تأكُّده، (¬4) واللَّه أعلم. الثاني: روي: "خَشَبَةً" -بفتح الخاء والشين والتنوين على الإفراد-، وروي: بضم الخاء والهاء، على الجمع (¬5). الثالث: قال الجوهري: الجَدْرُ والجدارُ: الحائطُ، وجمعُ الجدار جُدُرٌ، وجمع الجَدْرِ (¬6) جُدْران؛ مثل بَطْن وبُطْنان (¬7). الرابع: اختلف المذهبُ عندنا هل هذا النهيُ على الإلزام، أو الندب؟ والمشهور: أنه على الندب، والحثِّ على محاسن الأخلاق، وحُسْنِ الجوار (¬8). ¬
وللشافعي (¬1) -أيضًا (¬2) - قولان: والجديدُ: عدمُ الوجوب؛ كما يقول، وبه قال أبو حنيفة، والكوفيون. وبالإيجاب قال أحمدُ، وأبو ثور، وأصحابُ الحديث، وهو ظاهرُ الحديث. ومَنْ قال بالندب، قال: ظاهرُ الحديث: أنهم توقفوا عن العمل، ولهذا قال: "مالي أراكُمْ عنها مُعرضين؟ "، وهذا يدلُّ على أنهم فهموا منه الندبَ لا الإيجابَ؛ إذ لو كان واجبًا، ما اتفقوا كلُّهم أو أكثرُهم على الإعراض عنه، وهذا خلافُ ما فهمه ق من الحديث؛ فإنه قال: وفي قوله: "مالي أراكُمْ عنها معرضينَ؟ " إلى آخره، ما يُشعر بالوجوب (¬3)؛ لقوله: "واللَّه! لأرمينَّ بها بين أكتافِكم"، قال: وهذا يقتضي التشديدَ والخوفَ والكراهةَ لهم (¬4). الخامس: قوله: "بينَ أكتافِكم": هو بالتاء المثناة فوق. ع: ومعنى ذلك: إني أقولها، وأصرِّح بها بينكم، وأوجعُكم بالتوبيخ على تركِ ما رُغِّبَ فيه من ذلك، كما يُرمى بالشيء، فيضرب به بين الكتفين، أو قد يقول هذا لما جاء في رواية الترمذي وغيره: "فَطَأْطؤوا ¬
رُؤوسَهم" (¬1)، ولم يُجيبوهُ (¬2)، (¬3) ويعضِدُه في رواية أبي داود: "فنكسوا رؤوسَهُم"، فقال: "مالي أراكُمْ أعرضْتُم؟ " (¬4). وقد قرأه بعضُ رواة "الموطأ": أَكْنافِكُم -بالنون-، ومعناه: بينكم وفيما بينَ جوانبكم، والكَنَفُ: الجانب، قالوا: وهي روايةُ يحيى، وقد اختلف الرواة عنه في ذلك (¬5)، واللَّه أعلم (¬6). * * * ¬
الحديث الثاني عشر
الحديث الثاني عشر 286 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" (¬2). * * * ¬
وقد تقدم أن الظلمَ في اللغة: وضعُ الشيء في غير موضعه، والقِيدُ -بكسر القاف-، والقَادُ -أيضًا- بمعنى: القَدْر؛ أي: من ظَلَمَ قَدْرَ شبْر، وفي تقييده بالشِّبر مبالغةٌ وبيانُ أن ما زادَ على ذلك أَوْلى منه (¬1)، ونظيرُه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ" (¬2). والأَرَضون -بفتح الراء والإسكان- قليلٌ (¬3) شاذٌّ، حكاهُ (¬4) الجوهريُّ وغيره (¬5)، وإنما جُمعت بالواو والنون مع فقدان الشروط؛ جبرًا لها لما نقصها من ظهور علامة التأنيث؛ إذ لم يقولوا: أرضَةٌ؛ كما جمعوا سِنينَ بالواو والنون عوضًا من حذف لامها (¬6)، على ما هو معروف (¬7) في كتب النحو. قال العلماء: هذا تصريحٌ بأن الأرضينَ (¬8) سبعُ طبقات، وهو موافق لقوله تعالى {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]. ¬
وأما تأويلُ المماثلةِ على الهيئة والشكل، فخلافُ الظاهر، وكذا قولُ من قال: (¬1) المرادُ بالحديث: سبعُ أرضين من سبعةِ أقاليم؛ لأن الأرضين سبعُ طبقات، وقد أبطله العلماءُ بأنه لو كان كذلك، لم يطوق الظالمُ الشبرَ من هذه الأقاليم (¬2). وهو رَدٌّ صحيح لا شكَّ فيه؛ إذ الأصل في العقوبات المساواةُ، قال اللَّه تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، واللَّه أعلم. فمن ملكَ شيئًا من الأرض، مَلَكَه وما تَحْتَه من الطِّباق (¬3)، وإن كان عندنا فيه خلافٌ، حتى لو وجد كنزًا في أرضٍ اشتراها، أو مَعْدِنًا، هل يكونُ له، أو للمسلمين؟ فمن (¬4) قال: يملكُ الباطنُ، استدل بهذا الحديث. ع: وقد جاء في غِلَظِ الأَرضَين وطباقِهِنَّ وما بينهنَّ حديثٌ ليس بثابت. وأما التطويقُ المذكور في الحديث، فقالوا: يحتمل (¬5) أن يكون معناه: أنه يحمل مثلَه من سبعِ أرضين، ويُكَلَّفُ إطاقةَ ذلك، ويحتمل ¬
أن يُجْعَلَ له كالطَّوْق في عنقه. قلت: وهذا المتبادَرُ إلى الذهن؛ كما قال اللَّه تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]. وقيل: معناه: أنه يُطَوَّقُ إثمَ ذلك، ويلزمُه كلزومِ الطَّوْقِ لعنقِه، وعلى تقدير التطويق في عنقه، يُطَوِّلُ اللَّه تعالى عنقَه؛ كما جاءَ في غِلَظِ جلدِ الكافر، وعِظَمِ ضِرْسه (¬1). وفي هذا الحديث: تحريمُ الظلمِ، والغَصْب، وتغليظُ عقوبته. قيل: وفيه: إمكانُ غصبِ الأرض، وهو مذهبُنا، ومذهبُ الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يُتصور غصبُ الأرض (¬2). واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب (¬3). * * * ¬
باب اللقطة
باب اللقطة 287 - عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ اللُّقَطَةِ؛ الذَّهَبِ أَوِ (¬1) الوَرِقِ؟ فَقَالَ: "اعْرِفْ وِكَاءَها وَعِفَاصَهَا (¬2)، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ، فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَأَدِّهَا إِلَيْهِ"، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإبِلِ، فَقَالَ: "مَالَكَ وَلَهَا! دَعْهَا؛ فَإِنَّ مَعَهَا حِذاءَهَا وَسِقَاءَها، تَرِدُ المَاءَ (¬3)، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حتَّى يَجِدَهَا رَبُّها"، وَسَأَلَهُ عَنِ الشَّاةِ، فَقَالَ: "خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ" (¬4). ¬
* التعريف: زيد بن خالد الجهني: يكنى أبا عبد الرحمن، وقيل: أبو طلحة، وقيل: أبو محمد، من جهينة، وهو (¬1) زَيْدُ بنُ خالدِ بنِ زيدِ بنِ ليثِ بنِ ¬
سُود (¬1) بنِ أسلمَ بنِ الحافِ -بتخفيف الفاء- بنِ قُضاعةَ. رُوي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحدٌ وثمانون حديثًا، اتفقا على خمسة أحاديث، وانفرد مسلم بثلاثة. رَوَى عنه: بُسْرُ (¬2) بنَ سعيدٍ، وعُبيدُ اللَّهِ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عتبةَ بنِ مسعودٍ، ويزيدُ مولى المنبعِثِ، وعبدُ الرحمن بنُ أبي عَمْرَةَ. وروى عنه من وَلَدِهِ جماعةٌ: أبو حرب، و (¬3) عبدِ الرحمن، وخالدٌ، ومنظورٌ بنو زيد بن خالدٍ، ومن التابعين: عطاءُ بنُ يسار، وعطاءُ بنُ أبي رباح، وعروةُ بنُ الزبير. وروى الحافظُ أبو عليِّ بنُ السَّكَن في كتاب "الصحابة" له، عن محمدِ بنِ عمرو، قال (¬4) لرجل من الجهنيين: ما بالُ زيدِ بنِ خالدٍ أَبَنَهُ أصحابُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وغيرُه أقدمُ سابقةً؟ قال: إنه كان لا يقرُّ (¬5) بجواره سخط للَّه إلا غيَّره (¬6). ماتَ بالمدينة، وقيل: بالكوفة سنةَ ثمان وتسعين، وقيل: سنة ثمان وستين، وله خمسٌ وثمانون سنة -رضي اللَّه عنه- (¬7). ¬
* الشرح: اللُّقَطَةُ: -بضم اللام وفتح القاف- في اللغة المشهورة، وجاء فيها: إسكانُ القاف، لغة ثانية، وهي القياس؛ لأن الأولى حَقُّها أن تكون لمن (¬1) يكثر التقاطه؛ كالهُزَأَة (¬2) والضُّحَكَة، ونحوِ ذلك. وقد روى الليثُ بنُ المظفر عن الخليل فيما حكى الأزهري: أنه قال: اللُّقَطة: الذي يلتقط الشيء، بتحريك القاف، واللُّقْطَة: ما يُلتقط. قال الأزهري: وهذا (¬3) الذي قاله قياس؛ لأن فُعْلَة في أكثر كلامهم جاء فاعلًا، وفُعَلَة جاء مفعولًا، غير أن كلامَ العرب جاء في اللُّقَطة على غير القياس. قال: وأجمع أهلُ اللغة ورواةُ الأخبار أن اللقطة: هي الشيء الملتَقَطُ (¬4). ¬
وفيها لغةٌ ثالثة: لُقاطَة: بضم اللام، ورابعة: لَقَطة: بفتح اللام والقاف (¬1). وحقيقتها: كلُّ مالِ معصومٍ معرضٍ للضياعٍ في عامرِ البلادِ وغامِرِها (¬2)، وأصلُ الالتقاط: وجود الشيء عن غير طلب وَتَحَرٍّ (¬3). وأمَّا الضّالَّةُ: فقال الأزهريُّ وغيره: لا تقع (¬4) إلا على الحيوانِ، وأما الأمتعةُ، وما سوى الحيوانِ، فيقال فيه: لُقَطَة، ولا يقال: ضَالٌّ. قالوا: ويقال للضّوالِّ الهَوامي، والهَوافي، واحدتُها هَامِيَةٌ وهَافِيَةٌ، وهَمَتْ، وهَفَتْ، وهَمَلَتْ: إذا ذهبتْ على وجهها بلا راعٍ (¬5). وقوله: "سُئل عن اللقطةِ؛ الذهَبِ والوَرِق"، هو بالألف واللام في اللقطة غيرَ مضافة، والذهبُ والورقُ بدلٌ منهما (¬6). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اعرفْ عِفاصَها (¬7) ووِكاءَها"؛ أي: تَعَرَّفْ ذلك؛ لتعلمَ ¬
صِدْقَ واصفِها من كَذِبه؛ لئلا يختلط بماله، ويشتبه. والعِفاصُ (¬1) -بكسر العين وبالفاء والصاد المهملة-، وهو الوعاء الذي يكون فيه النفقة، جلدًا كان، أو غيرَه. قال الخطابي: وأصلُ العفاص (¬2): الجلد الذي يلبس رأسَ القارورة؛ لأنه كالوعاء له، فأما الذي يدخل في فم القارورة؛ من خشبةٍ، أو جلدةٍ، أو خرقةٍ مجموعة، ونحوِ ذلك، فهو الصِّمام (¬3) -بكسر الصاد-، يقال: عَفَصْتُها عَفْصًا (¬4): إذا شددتُ العِفاص عليها، أو (¬5) أَعْفَصْتُها إِعْفاصًا (¬6): إذا جعلتُ لها عفاصًا (¬7). وأما الوكاء: فهو الخيطُ الذي يُشَدُّ به الوعاء، يقال: أَوْكَيْتُه إِيكاءً، فهو موكًى، بغير همز. ع: وقاله بعضُهم بالقصر، يعني: الوِكَا، قال: وهو وهمٌ، والصوابُ الأولُ عند أهل اللغة (¬8). ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ثُمَّ عَرِّفْها سَنَةً": إتيان (ثم) هنا يدل على المبالغة وشدةِ التثبُّتِ في معرفة العِفاص (¬1) والوِكاء؛ إذ كان وضعها (¬2) للتراخي والمُهْلَة، فكأنه عبارةٌ عن قوله: لا تعجَلْ، وتَثَبَّتْ في عرفان ذلك، واللَّه أعلم. وفيه: دليلٌ على وجوب التعريف سنةً، والمعنى: إذا أخذْتَها، فعرِّفْها سنةً. وأما الأخذُ، فهل هو واجبٌ، أو لا؟ فيه تفصيلٌ عندنا، وهو: أنه إن علم الخيانةَ من نفسه، حرمَ عليه أخذُها (¬3)، وإن خافها، كُره له الأخذُ، وإن أَمِنَها، فقولان: بالاستحباب، والكراهة. وروى أشهبُ: أما الدنانير، وشيءٌ له بالٌ، فأحبُّ إليَّ أن يأخذَها، وليسَ كالدراهم (¬4)، وما لا بالَ له، ولا أُحِبُّ له أن يأخذَ الدراهمَ. وحكى القاضي أبو بكر عن مالك، الكراهةَ مطلقًا، وهو اختيارُ الشيخ أبي إسحاق. فإن كانت اللقطةُ بين قومٍ غيرِ مأمونين، والإمامُ عدلٌ، وجبَ عليه أخذُها، وكذلك إذا عرفَ صاحبَها، وخشيَ تلافَها إن لم يأخذها، وجبَ عليه أخذُها، واللَّه أعلم. ¬
والتعريف: أن يَنْشُدَها في المواضع التي يجتمعُ (¬1) الناسُ إليها، ودُبُرَ الصلواتِ على أبوابِ المساجدِ (¬2) والجوامعِ (¬3)، وحيث يظنُّ أن ربَّها هناكَ، ويُعَرِّفها في كل يومين أو ثلاثة، ولا يجبُ عليه أن يدع التصرُّفَ في حوائجه ويعرِّفَها. وفي ذكر الجنسِ في التعريفِ خلافٌ. ثم له أن يعرفها بنفسه، ويدفعها للإمام يعرِّفُها إذا كان عدلًا، أو يدفعُها لمن يثقُ به ممن يقوم مقامَه في تعريفها، ويستأجر عليها منها مَنْ يعرّفها إن كان ممن لا يعرِّفُ مثلُه. ولا يجوز له أن يسافر بها إلى بلدٍ آخرَ ليعرِّفَها به، ولو وجدَها (¬4) في الصحراءِ بينَ مدينتين، لعرَّفَها بينهما. ثم وجوبُ التعريف سنةً يختصُّ بالمال الكثير (¬5) الذي لا يفسُدُ. فأما القليلُ الذي لا (¬6) يفسُد؛ فإن كان تافهًا؛ بحيث يعلم أن صاحبه في العادة لا يتبعه؛ لقلته، فهذا لا يعرَّف أصلًا، وإن كان -على ¬
قلَّته- له قدرٌ ومنفعة، وقد شحَّ (¬1) به صاحبُه، وتتبعه (¬2)، فهذا يُعَرَّف أيامًا مظنةَ طلبِه على المشهور، وقيل: سَنةً كالكثير (¬3)، وهذا كالمِخْلاة، والدَّلْو، والحَبْل. وأما ما (¬4) يفسُد؛ كالطعام، فإن كان في قرية، أو رُفقة (¬5) له فيهم قيمة، فقيل: إن تصدَّقَ به (¬6)، فلا غُرْمَ عليه لصاحبه، وإن أكلَه، غُرِمَه؛ لانتفاعه به، وقيل: يَغْرَمُه مطلقًا، وظاهرُ "الكتاب": لا غُرْمَ عليه مطلَقًا، أكلَه، أو (¬7) تصدَّقَ به. وفي معنى الطعام الشاةُ يجدُها بالبعد في العمران، حيث يَعْسُر جَلْبُها (¬8)، ويخشى عليها إن تركَها، وأما إن لم تكن رفقة وجماعةٌ، فلا شيء عليه فيما أكلَ من طعامٍ التقطه (¬9) (¬10). وفروعُ اللقطة مستوفاةٌ في كتبِ الفقهِ، واللَّه أعلم. ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإن لم تُعْرَفْ (¬1)، فاسْتَنْفِقْها": هو على الإباحة دون الوجوب. وقوله: "ولتكُنْ وديعةً عندَك". ق: يحتمل أن يراد بذلك بعد الاستنفاق، ويكون قوله: "وديعةً عندك" فيه (¬2) مجازٌ في لفظة الوديعة فإنها تدل على الأعيان، وإذا استنفق اللقطة لم تكن عينًا، فيجوز بلفظ الوديعة (¬3) عن كون الشيء بحيث يُرَدُّ إذا جاء رَبُّهُ. قال (¬4): ويحتمل أن يكون (¬5) قوله: "ولتكن" الواو فيه بمعنى: أو، فيكون حكمُها حكمَ الأماناتِ والودائع؛ فإنه إذا لم يتملكها، بقيت عنده على حكمِ الأمانة، فهي كالوديعة. وقوله: "فإن جاءَ صاحبُها يومًا من الدهر، فَأدِّها إليه": فيه: دليلٌ على وجوب الردِّ على المالك إذا تبين كونُه (¬6) صاحبَها (¬7)، ¬
لكن بشرطِ أن يصفَ العِفاصَ (¬1)، والوِكاءَ، أو تقومَ (¬2) بينةٌ على دعواه. واختُلف عندنا في معرفة عددها إن كانت دنانيرَ، أو دراهمَ، والمشهور: اعتبارُه، ومنشأ الخلاف: ذكرُه في حديث أُبَيٍّ (¬3)، والإعراضُ عنه في حديث زيدِ بنِ خالدٍ. وكذلك (¬4) اختُلف إذا وصفَها، هل يلزمُه مع ذلك يمينٌ، أم لا؟ والمشهور عندنا: لا يلزمه، وكذلك لو أتى ببعض العلامات المغلبة على الظن صدقه، هل يُعطى بها (¬5)، أو لابدَّ من جميع العلامات؟ خلافٌ عندنا -أيضًا-، فلو عرف العفاصَ (¬6) دون الوِكاء، أو العكس (¬7)، استؤني بها، ثم دُفعت إليه، ولو عرف رجلٌ عفاصها (¬8) أو وكاءها (¬9) وحده، وعرف آخرُ عددَ الدنانير ووزنَها، كانت لمن عَرَفَ (¬10) العِفاص (¬11) أو الوِكاء، ¬
وقيل: تُقسم (¬1) بينهما بعدَ التحالُف (¬2). وقوله: "وسأله عن ضالَّةِ الإبل" إلى آخره. فيه: دليلٌ على منع التقاطِها، والتعرُّضِ لها؛ لأنها تَرِدُ الماء، وترعى الشجرَ، وتعيش بلا راعٍ، وتمتنع عن أكثر السباع. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "معها حِذاؤها وسِقاؤها": من بليغ المجاز، وحُسْن الاستعارة؛ فإنه يريد بالحِذاء: أخفافَها (¬3)، يقول: إِنها تقوى على السير، وقطعِ البلاد. وقد قال بعض الأَعراب لأَمَةٍ له غليظةِ القدمين: أَطِرِّي؛ فإنَّك ناعِلَةٌ (¬4)، جعلها؛ لغلظ قدميها، وقوتها على المشي، كأَنَّ لها نعلين. وأراد-عليه الصلاة والسلام- بالسِّقاء: قُوَّتَها على وردِ (¬5) الماء، فتحملُ رِيَّها في أكراشِها (¬6). قال الخطابي: فإن كانت الإبل مهازيلَ لا تنبعثُ، فإنها بمنزلة الغنم التي قيل فيها: هي لكَ، أو لأخيكَ، أو للذئبِ. واختُلف عندَنا في إِلحاق البقر، والخيل، والحمير، بالإبل على ¬
ثلاثة أقوال: ثالثها لابن القاسم (¬1): تُلحق البقرُ دونَ غيرها إذا كانت بمكانٍ لا يُخاف عليها فيه من السباع (¬2). وقوله: "وسأَلَه عن الشاةِ" إلى آخر الحديث، دليلٌ على جواز التقاطِها، ونَبَّهَ -عليه الصلاة والسلام- على علَّةِ الجوازِ بخوفِ ضياعِها إن لم تُلتقط، فتتلف على مالكها من غير أن ينتفعَ بها غيرُه، وهو أن ياكلَها الذئبُ، ونحوُ ذلك، وفرق -عليه الصلاة والسلام- بينها وبين ضالَّة الإِبلِ بما تقدمَ، وكَأَنَّهُ (¬3) -عليه الصلاة والسلام- يقولُ: لَكَ أن تأخذَها؛ لأنها معرَّضةٌ للذئبِ، وضعيفةٌ عن الاستقلالِ، وهي مترددة بين أن تأخذَها أنتَ، أو صاحبُها، أو أخوكَ المسلمُ الذي يمرُّ بها، أو الذئبُ، فلهذا جازَ التقاطُها دونَ ضالَّة الإبلِ (¬4)، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب الوصايا
باب الوصايا الحديث الأول 288 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَا حَقُّ امْرىءٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فيهِ، يَبيِتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ" (¬1) (¬2). زاد مسلم (¬3): قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ ¬
رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ ذَلِكَ، إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي (¬1). * * * * الشرح: الوصايا: جمعُ وَصِيَّة، كرَكِيَّة ورَكايا، وقَضِيَّة وقَضَايا، وهي فَعِيلَةٌ من وَصَى يَصِي، يقال: فلانٌ (¬2) وَصَى يَصِي (¬3): إذا وصل، وأَوْصَى يُوصِي: إذا أَوْصَلَ (¬4)؛ لأن أصلَ (¬5) الإيصاء في اللغة: الإيصال، ¬
ويقال: أَوْصَيْتُ له بشيء، ووَصَّيْتُ إليه: إذا جعلته وَصِيَّكَ (¬1)، والاسمُ: الوَصَايَةُ، والوِصايَةُ (¬2)، (¬3) وتَوَاصَى القومُ: أي: أَوْصَى بعضُهم بعضًا (¬4). وقد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ} [النساء: 11]، فقيل: معناه (¬5): يوصل؛ أي (¬6): يقولُ لكم قولًا يوصلكم إلى إيفاء (¬7) حقوقِ أولادكم بعدَ موتكم. وقال الزجَّاج: معناه: يفرضُ عليكم؛ لأن الوصيةَ من اللَّه -تعالى- فرضٌ؛ بدليل قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 151]، فهذا من الفرض المحتَّم علينا (¬8). وقال غيره: يَعْهَدُ إليكم (¬9)، ويَأْمُركم (¬10). وكأن هذا راجعٌ إلى قول الزجَّاج، واللَّه أعلم. ¬
وهذا الحديثُ محمولٌ عند عامّة العلماء (¬1) على الندب (¬2) والتخصيص. وقال أهل الظاهر: هو على الوجوب؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما حَقُّ امرىءٍ مسلمٍ"، ومعناه عند الجمهور: لا ينبغي، لا أنه حَقٌّ عليه، وإنما هو حق (¬3)، لا سيما على رواية: "يُريدُ أَنْ يُوصِيَ"، فصرفُ ذلك إلى إرادته دليلٌ على عدم الإيجاب، إلا لمن عليه تباعات (¬4) من حقوق اللَّه تعالى، أو حقوق الآدميين، فهذا يجبُ عليه الإِشهادُ. وقال بعضهم: إنما تجبُ الوصية فيما له بالٌ، وجرتِ العادةُ فيه بالإشهاد من حقوق الناس، وأما (¬5) اليسير من ذلك، وما يجري بين الناس من المعاملات، فلو تكلف الإنسانُ الوصيةَ به كلَّ يوم وكلِّ ليلة، مع تجدده، لكُلِّفَ (¬6) شَطَطًا. وقال (¬7): الحديثُ على العموم في المريض، والصحيح، وخصَّهُ بعضُهم بالمريض. ¬
ومعنى قوله -عليه الصلاة والسلام- عند العلماء: "مكتوبة"؛ أي: مشهودٌ عليه فيها، وأما لو (¬1) لم يكن إشهادٌ، لم يمضِ (¬2). ع (¬3): ومعناه: إذا كتبها (¬4)، ليشهدْ فيها، وأما لو كتبها بخطِّه، وقال: إذا متُّ، فلينفذْ ما كتبتهُ بخطِّي، فلينفذْ ذلك إذا عُلِمَ أنه خَطُّهُ، كما لو أشهدَ (¬5). فائدة: قال مالكٌ رحمه اللَّه: ومن كتبَ وصيتَه، فليقدِّمْ ذِكْرَ التشُّهِد قبلَ الوصية، وكذلك فعل -أيضًا-، قال: وما زال ذلك (¬6) من عملِ الناسِ بالمدينة، وإنه ليعجبني، وأراه حسَنًا. قال أشهب: وقال -أيضًا- (¬7): كلُّ ذلك حسن، تشهَّدُ (¬8)، أو لم يتشهَّدْ، قد (¬9) شهدنا بذلك (¬10) رجالًا (¬11) صالحين، وقد ترك ذلك بعضُ الناس، وذلك قليل. ¬
قال ابن القاسم: ولم يذكر لنا مالكٌ كيف هو مروي. وقال ابن وهب: إن أنسَ بنَ مالكٍ قال (¬1): كانوا (¬2) يوصون أن يشهَدَ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ، وأن محمَّدًا عبدُه ورسوله، وأوصى مَنْ تركَ من أهله أن يتقوا اللَّه ربَّهم، ويُصلحوا ذاتَ بَيْنِهم، إن كانوا مسلمين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وأوصى إن ماتَ من مرضِه ذلك؛ كذا (¬3) روى أشهبُ عن مالك رحمه اللَّه في "العتبية" (¬4)، و"المجموعة"، و"كتاب محمد" (¬5). وظاهرُ الحديث دليلٌ للمالكيةِ في العملِ بالخَطِّ، وهو قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "ووَصِيَّتُه مكتوبةٌ عندَه"، ولم يذكرْ أمرًا زائدًا (¬6) عليهِ، والمخالفون يقولون: إن المراد: وصيته (¬7) بشروطها، ويأخذون الشرطَ (¬8) من خارج. ¬
وقد قال بالعمل بالخط الإمامُ محمدُ بنُ نصرٍ المروزيُّ من الشافعية من غيرِ إشهادٍ؛ لظاهرِ الحديث، على ما نقله ح (¬1) (¬2). وفي الحديث: دليل على فضلِ ابنِ عمرَ -رضي اللَّه عنهما-، وعِظَمِ امتثالِه بأوامرِ الشرع، ومبادرته إليها (¬3)، ومواظبتِهِ عليها، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 289 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعُودُنِي عَامَ (¬1) حَجَّةِ الوَداع، مِنْ وَجَع اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ مَاَ تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُني إِلَّا ابْنَةٌ، أفأتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: "لا"، قُلتُ: فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لا"، قُلْتُ: فالثُّلُثُ؟ قَالَ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثير، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرثَتَكَ أَغْنِياءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهم عَالَةً تتكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا أُجرتَ عَلَيْها (¬2)، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي (¬3) امْرَأَتِك"، قَالَ: فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ فَقَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فتغمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حتَّى يَنْتفِعَ بِكَ أَقْوامٌ، ويُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأِصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِم، لَكِنِ (¬4) ¬
البَائِسُ سعدُ بْنُ خَوْلَة" يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: "جاءني رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعودُني"، وفي رواية: "عادَني من وجعٍ أَشْفَيْتُ (¬1) منهُ على الموتِ" (¬2): فيه: استحبابُ عيادةِ الإمامِ أصحابَه، وتفقدِ أحوالِهم؛ كما هو مستحبٌّ لآحاد الناس (¬3). الثاني: في "كتاب ابن الحربي": الوَجَعُ: اسمٌ لكل مرض. ومعنى أَشْفَيْتُ: قارَبْتُ، يقال: أَشْفَى على كذا، وأَشافَ عليه، قالوا: ولا يُقال أشفى إِلَّا في الشَّرِّ، بخلاف أَشْرَفَ، وقارَبَ، ونحوِ ذلك. فيه: جوازُ ذكرِ المريضِ شدةَ الوجعِ (¬4) لا على سبيلِ السُّخْط، بل لمداواةٍ، أو دُعَاءٍ صالحٍ، أو وصيةٍ، أو استفتاءٍ عن حاله. الثالث: قوله: "وأنا ذو مال" دليلٌ على (¬5) إِباحةِ جمعِ المال؛ إذ هذه (¬6) الصيغة لا تُطلق عرفًا (¬7) إلا على المال الكثير، ومثله؛ ذو علم، ¬
وذو شجاعة، وما أشبَه ذلك، وقد جاء ذلك مبينًا في رواية أخرى: إِن لي مالًا كثيرًا. الرابع: قوله: "ولا يرثُني إلا ابنةٌ": ع: أي: لا يرثُني من الولد مَنْ (¬1) يعزُّ عليَّ تركُه عَالةً، وإلا، فقد كان له ورثةٌ وعَصَبَة. وقيل: يحتمل أنه أراد: لا يرثني ممن له نصيبٌ معلوم. وقد يحتمل أنه لا يرثُني من النساء إلا ابنةٌ (¬2) لي. وقيل: يحتمل أنه استكثر لها نصفَ تركته، أو ظنَّ أنها تنفردُ بجميع المال، أو على عادة العرب من أنها لا تعدّ المالَ للنساء، إنما كانت تَعُدُّه للرجال (¬3). قلت: وفي هذه الأقوال كلِّها عندي نظر، بل (¬4) ضعفٌ، والذي يتوجَّه، بل يتعيَّنُ (¬5): أَنَّ هذا الحديث فيه عَلَمٌ من أعلام النبوة، ومعجزةٌ من معجزاته -صلى اللَّه عليه وسلم-، كان سعدًا -رضي اللَّه عنه- حين محاورته (¬6) للنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن له حينئذ إلا ابنةٌ واحدة، وإنما قال له النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرثَتَكَ أَغْنِيَاءَ" ¬
بلفظ الجمع؛ اطلاعًا منه -عليه الصلاة والسلام- على أنه سيكون لى في المستقبل أولادٌ، غير هذه الابنة، وكان كما قيل (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-، قيل: إنه وُلد له بعد ذلك أربعةُ بنين، (¬2) لم يحضرني الآن أسماؤهم (¬3)، ولعل اللَّه يفتَحُ بمعرفتهم، فأَلحقهم في هذا الموضع (¬4)، وهذا كقوله (¬5) -عليه الصلاة والسلام- له (¬6): "حتى ينتفعَ بكَ أقوامٌ، ويُضَرّ بك آخرون"، فكان (¬7) كما قال على ما سيأتي. الخامس: قوله: أفأَتَصَدَّقُ (¬8) بثلثي مالي إلى قوله: "والثلث (¬9) كثير": الرواية المشهورة: كثير -بالمثلثة- ووقع في رواية: بالموحَّدة، ¬
وكلاهما صحيح، ويجوز في (الثلث) الأول الرفعُ، على أنه فاعل (¬1) لفعل مقدر، أي: يكفيك الثلث، أو على أنه مبتدأ محذوفُ الخبر، أي: الثلثُ كاف، أو خبر، والمبتدأ محذوفٌ؛ أي: المشروعُ الثلثُ، ونحو ذلك من التقديرات، ويجوز النصبُ على الإغراء، أي: دونَك (¬2) الثُّلُثَ، أو على تقديرِ فعلٍ؛ أي: أخرجِ الثلثَ، أو أعطِ الثلثَ، ونحو ذلك. ع: وبالوجهين ضبطنا هذا الحرفَ. قال الإمام: جمهورُ العلماءِ على أن للمريضِ أن يوصي بثلثه، تعلُّقًا بهذا الحديث، وذكرَ مسلمٌ عن ابنِ عباسٍ، قال: "لو أَنَّ الناسَ غَضُّوا من الثلُث إلى الربع؛ فإن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الثلثُ، والثلثُ كثيرٌ" (¬3). قال الخطابي: وقد زعم بعضُ أهل العلم (¬4) أن الثلثَ إنما هو لمن ليس له وارثٌ يستوفي (¬5) تركتَه، وفي قوله: "والثلثُ كثيرٌ" دليلٌ على أنه لا يجوزُ له مجاوزتُه، ولا يوصي بأكثرَ من الثلث، سواء كان له ورثةٌ، أو لم يكن، وقد زعم قوم أنه إذا لم يكن له ورثةٌ، وضع جميعَ ¬
ماله حيثُ (¬1) شاء، وإليه ذهب إسحاقُ بنُ راهويْه، وقد روي ذلك عن ابن مسعود. وقد اختلف أهلُ العلم في جواز الوصية بالثلث، فذهب بعضُهم إلى أن في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "والثلثُ كثير" منعًا من الوصية بالثلث (¬2)، فإن الواجبَ أن يقتصر عليه (¬3)، وأن لا يبلغَ بوصيته تمامَ الثلث، وروي عن ابن عباس أنه قال: الثلثُ حَيْف، والربعُ جَيْف" (¬4). وعن الحسنِ البصري: أنه قال: يوصي بالسُّدُسِ، أو بالخُمُسِ، أو بالرُّبُعِ. وقال إسحاق: السُّنَّة في الربع، لما قال (¬5) النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والثلثُ كثيرٌ"، إلا أن يكون رجلٌ يعرف في ماله شُبُهات، فله استغراقُ الثلث. وقال الشافعي: إذا ترك ورَثَتَه أغنياءَ، أَسْتَحِبُّ له أن يستوعبَ الثلُثَ، وإذا لم يَدَعهم أغنياءَ، اخترتُ له أن لا يستوعبه (¬6). ورأيتُ في بعضِ الحواشي ما نصُّهُ: وفي "بغية الحكام": قال القاضي ¬
أبو الحسنُ (¬1) بنُ عبدِ اللَّه: وصيةُ المريضِ (¬2) على خمسةِ أقسام: واجبة، ومستحبة، ومباحة، ومكروهة، وممنوعة. فإن (¬3) كانت تباعات للَّه تعالى؛ من زكاة، أو كفارةِ يمينٍ، وما أشبة ذلك، مما فَرَّطَ فيه، أو لم يُفَرِّطْ، أو لآدميٍّ، من بيع، أو (¬4) قرضٍ، أو وَدِيعةٍ، لم يقدم فيها الإشهاد بها (¬5)، كانت واجبةً؛ لأن تركَ الإشهاد (¬6) يؤدِّي إلى تلفِ ذلك على أربابه. وإنما رَضُوا بتركِ الإشهادِ مع صِحَّةِ رجاءِ السَّلامة، وما سوى هذا القِسْم، فهو راجعٌ إلى ما يتطوع به الموصي. وإن كانت الوصيةُ تتعلق بها قربةٌ (¬7) للَّه تعالى، ولا تُضِرُّ (¬8) بالورثة؛ إذ (¬9) يضر (¬10) بهم لقلة المال، وكان ما يُرجى فيها (¬11) من الأجر أعظمَ من التركِ للورثة، كانت مستحبةً. ¬
وإن (¬1) كان ما يرجى من الترك أعظمَ أجرًا، كانت مكروهةً. وإن تقاربا، كانت مباحةً. وإن كان يتعلق بها معصية (¬2)، كانت ممنوعةً. ع (¬3): أجمع العلماء على أن مَنْ مات وله ورثةٌ، فليس له أن يوصيَ بجميع مالِه، إلا شيئًا روي عن بعض السلف أجمعَ الناسُ بعدُ على خلافه، وجمهورُهم: على أنه لا يوصي بجميع ماله، كان لم يكن له (¬4) وارثٌ. وذهب أبو حنيفة، وإسحاقُ، وأحمدُ في أحد قوليه: لإجازة ذلك، وروي عن بعض سلف (¬5) الكوفيين، وعن علي، وابن مسعود. قال: وظاهر قوله: "أفأتصدقُ بثلثَي مالي" يحتمل (¬6) تثليثه في مرضه (¬7)، أو الوصية به بعد موته، وهما (¬8) عند عامة فقهاء الأمصار سواء، لا يجوز من ذلك إلا الثلث، قبض، أم لا. وشذَّ أهلُ الظاهر، فأجازوا فعلَ المريض كلَّه في ماله، وجعلوه ¬
كالصحيح (¬1)، وحديث مبتل ستة الأَعْبُد في مرضه (¬2)، وردّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرَهم إلى الثلث حجةٌ للكافة (¬3)، مع عموم ظاهر حديث سعد، واحتماله الوجهين. وأجمعوا على جواز الوصية بأكثرَ من الثلث إذا أجازَ ذلكَ الورثةُ، ومنعَ ذلك أهلُ الظاهر، وإن أجازوها. وفي الحديث (¬4): أن صِلَةَ مَنْ قَرُبَ، أفضلُ من [صِلَةِ] من (¬5) بَعُد. واستدلَّ بهذا الحديث مَنْ يُفَضّلُ الغِنَى؛ إذ جعلَ فيه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خيرًا للورثة، أو للموصي، ولو كان بخلافِ ذلك، لكان شَرًّا لهم (¬6). قلت: هذا غيرُ مُسَلَّم؛ لأن (خيرًا) هنا أفعلُ مِنْ (¬7)، وهي (¬8) تقتضي المشاركَة والتفضيلَ في الأمر العامِّ، فلا يلزمُ من نفي الأخيرية نفيُ الخيريّة، فلا يقال: ولو كان بخلاف (¬9) ذلك، لكان شرًا لهم؛ لما تقرر. السادسُ: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنك أَنْ تذرَ وَرَثَتَكَ أغنياءَ خيرٌ مِنْ أَنْ تذَرَهُم عالةً يتكَفَّفون النَّاسَ". ¬
ع (¬1): رويناه بفتح الهمزة، وكسرها، وكلاهما صحيح، فالفتحُ (¬2) على تقدير: إنك وتركَكَ (¬3) ورثتكَ أغنياء، والكسرُ على الشرط (¬4). قلت: الكسْرُ هنا ضعيفٌ، أو باطل؛ إذ لا جوابَ له في الحديث؛ لأن (خير) لا يصحُّ أن يكون جوابًا للشرط؛ لأن جوابَ الشرط حَصَرَه النحاةُ في ثلاثة أشياء، وهي: الفعل، والفاء، وإذا، و (خيرٌ) ليس واحدًا منها، إلا أن يُحمل على وجه بعد مستنكر (¬5) يتحاشى عنه الحديثُ، وهو أن يكون قدر حذف الفاء الجوابية مع المبتدأ، أو جعل (خير) خبرًا للمبتدأ المحذوف، ويكون التقدير: إنك إِن تذز ورثتك أغنياءَ، فهو خيرٌ من أن تذرَهم عالةً، وعلى هذا قول (¬6) الشاعر: [الكامل] أأُبَيُّ لَا تَبْعَد وَلَيْسَ (¬7) بِخَالِدٍ ... حَيٌّ وَمَنْ تُصِبِ الْمَنُونُ بَعِيدُ أي: فهو بعيدٌ، وهذا بابُه الشعر دون الكلام، فلا يليق حملُ الحديث عليه، واللَّه الموفق. و"العالةُ": الفقراء، والفعلُ منه عَالَ يَعِيلُ: إذا افتقرَ (¬8). ¬
ومعنى "يتكففون الناس": يسألون الصدقةَ بأكُفِّهم، وهو من الألفاظ الوَجيزةِ الجزلةِ (¬1). السَّابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنكَ لَنْ تنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ اللَّه، إلَّا أُجرتَ عليها، حتى ما تجعلُ في في (¬2) امرأتِك". فيه: دليلٌ على توقُّف ثواب (¬3) الإنفاق على صحة القصد، وأن الأعمال بالنيات، فحديثه -عليه الصلاة والسلام- يصدِّقُ بعضُه بعضًا. وفيه: أن المباحَ إذا قُصد به الخيرُ، أُثيب عليه، وانتقلَ عن كونه مباحًا؛ فإن زوجة الإنسان هي من أخصِّ حظوظِه الدنيوية، وشهواتِه، وملاذِّه المباحة، وإذا وضعَ اللقمة في فيها، فإنما يكون ذلك في العادة عندَ الملاعبة، والملاطفة، والتلذُّذِ بالمباح، فهذه الحالةُ أبعدُ الأشياء عن الطاعة، وأمورِ الآخرة، ومع هذا أخبرَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه إذا قصدَ بهذه اللقمة وجهَ اللَّه تعالى، حصلَ له الأجرُ بذلك، فغيرُ هذه الحالة أولى بحصولِ الأجر إذا أراد (¬4) به وجهَ اللَّه تعالى، كالأكلِ بِنِيَّةِ التَّقوِّي على العبادة، والنومِ للاستراحة ليقومَ نشيطًا للتهجُّد ودَرْسِ العلم، ونحوِ ذلك، والاستمتاعِ بزوجتِه، أو جاريته ليكفَّ نفسَه وبصرَه عن المحرَّمات، ¬
وليقضيَ حقَّها، أو ليحصِّلَ ولدًا صالحًا، وهذا معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" (¬1). الثامن: قوله: "قلتُ: يا رسولَ اللَّه! أُخَلَّف عن أصحابي؟ " إلى قوله: "ورفعةً"؛ أي: أُخلف بمكةَ بعدَ أصحابي؟ كأنه أشفقَ من موته بمكةَ بعدَ أن هاجرَ منها وتركَها للَّه تعالى، فخشي أن يقدحَ ذلك في هجرته. ويحتمل أن يكون خشيَ بقاءه بمكة بعدَ انصراف النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابهِ إلى المدينة، وتخلفه عنهم (¬2) لأجل مرضِه، وكانوا يكرهون الرجوعَ فيما تركوه للَّه تعالى. ويحتمل أن يكون سألَ عن طولِ عمره وبقائِه بعد أصحابه، وهو (¬3) الظاهرُ، وقد جاء في رواية مُبسنًا: "إِنَّكَ [لن] تُخَلَّفَ بعدِي" (¬4)، واللَّه أعلم. وقوله: "إِنَّكَ لن (¬5) تخلَّفْ، فتعمَلَ عملًا" إلى آخره. فيه: ما تقدَّم من اعتبارِ النيات في الأعمال. ¬
التاسع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولَعَلَّكَ (¬1) أن تخلَّفَ" إلى قوله: "على أعقابهم": قيل: إن هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة، ومعجزةٌ من معجزاته -عليه الصلاة والسلام-، فإنه إخبارٌ وقعَ قطعًا، فإن سعدًا عاشَ بعد ذلك نيفًا على أربعين سَنةً، وفتح العراقَ (¬2) وغيرَهُ، وانتفع به أقوامٌ في دينهم ودنياهم، وتضرَّرَ به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قُتلوا إلى جهنم، وسُبِيَتْ نساؤهم وأولادُهم، وغُنِمَتْ أولادُهم وديارُهم وأموالُهم (¬3)، وانتفعَ به المسلمون، وولي العراقَ، فاهتدى على يديه خلائقُ، وتَضَرَّرَ به خلائقُ ممن استحقَّ الضرر. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "اللهمَّ أَمْضِ لأصحابي هجرتَهم، ولا تردَّهم على أعقابهم"؛ أي: أَتِمَّهَا لهم، ولا تُبْطِلْها، ولا تردَّهم على أعقابهم بتركِ هجرتهم، ورجوعِهم من مستقيمِ حالهم، فيخيبَ قصدُهم، ويسوءَ حالُهم. تقول العرب: رَجَعَ فلانٌ على عَقِبه: إذا رجعَ خائِبًا. العاشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لكنِ البائسُ سَعدُ بنُ خولة": قيل: البائسُ: الذي عليه أثرُ البؤس. واختلف في قوله: "يرثي له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، هل هو من كلامه ¬
-عليه الصلاة والسلام-، أو من كلامِ غيره؟ ع: قالَ أهل الحديث: انتهى كلامُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: "لكنِ البائسُ سعدُ بنُ خولة"، ثم ذكر الحاكي هذا علةً لقولِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه هذا وسببه (¬1)، وأن ذلك رثاء له، وتوجُّع عليه لموته بمكةَ (¬2)، فقائلُ هذا الكلام هو سعدُ بن أبي وقاصٍ، وكذا جاء في بعض الطرق، وأكثرُ ما جاء: أنه من قولِ الزهريِّ. ويحتمل أن يكون قولُه: "أن (¬3) ماتَ بمكةَ" من قولِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن قولِ غيرِه: يرثي له رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقط تفسيرٌ لمعنى (¬4) قوله: "البائسُ"؛ إذ قد روي في حديث آخر: "لَكِنَّ سعدَ بْنَ خَوْلَةَ البَائِسَ قَدْ مَاتَ في الأَرْضِ الَّتِي قَدْ هَاجَرَ مِنها" (¬5) (¬6). قال (¬7): واختُلف في قصة سعدِ بنِ خولةَ، فقيل: (¬8) لم يهاجرْ من ¬
مكة حتى ماتَ، ذكره ابنُ مزين (¬1) وقاله (¬2) عيسى بنُ دينار. وذكرَ البخاريُّ أنه هاجرَ، وشهدَ بدرًا، ثم انصرفَ إلى مكةَ، وماتَ بها. وقال ابنُ هشام: إنه هاجرَ إلى الحبشةِ الهجرةَ الثانيةَ، وشهدَ بدرًا وغيرَها، وتُوفي بمكة، في حجةِ الوداع سنةَ عشرٍ، وقيل: تُوفي بها سنةَ سبعٍ في الهُدْنة، خرجَ مختارًا من المدينة إلى مكةَ. فعلى هذا، وعلى قول عيسى: سببُ بؤسِه سقوطُ هجرته؛ لرجوعه مختارًا، وموتِه بها. وعلى قول الآخرين: سببُ بؤسِه موتُه بمكةَ، على أيِّ حالٍ كان (¬3) كان لم يكنْ باختياره؛ لما فاته من الأجر والثوابِ الكامل بالموتِ في دار هجرته والغربةِ عن وطنه الذي هجرَهُ للَّه تعالى. ع (¬4): وقد روي في هذا الحديث: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَلَّفَ مع سعدِ ابنِ أبي وقاصٍ رجلًا، وقال له: "إِنْ تُوُفِّيَ (¬5) بِمَكَّةَ، فَلَا تَدْفِنْهُ بها" (¬6). وقد ذكر مسلم في الرواية الأخرى: أنه كان يكره أن يموتَ في ¬
الأرضِ التي هاجرَ منها، وفي رواية أخرى لمسلم: قال سعد بن أبي وقاص: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها (¬1) كما مات سعدُ ابنُ خولة (¬2). وسعدُ بنُ خولةَ (¬3) هذا زوجُ سُبيعةَ الأسلميَّةِ. وفي حديث سَعْد: جوازُ تخصيصِ عمومِ الوصيةِ المذكورةِ في القرآن بالسُّنَّةِ، وهو قولُ جمهورِ أهلِ الأصول، وهو الصحيحُ، واللَّه أعلم (¬4) (¬5). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث (¬1) 290 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" (¬2). * * * كأنَّ ابنَ عباس -رضي اللَّه عنه- اعتبرَ قولَه -عليه الصلاة والسلام-: "كثيرٌ"، ¬
وإن كان -عليه الصلاة والسلام- قد أَقَرَّ على الثُّلث، وأشار لفظُه إلى الوصيةِ به، لا جرمَ أن ابنَ عباس -رضي اللَّه عنه- أتى بصيغة ضعيفةٍ بالنسبة إلى طلبِ الغضِّ من الثُّلث، وهو قوله: لو أَنَّ الناسَ غَضُّوا من الثلث، واللَّه أعلم (¬1) (¬2). * * * ¬
باب الفرائض
باب الفرائض الحديث الأول 291 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَباسٍ -رضي اللَّه عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "أَلْحِقُوا الفَرائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ، فَهُوَ لأِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬1). وَفي رِوَايَةٍ: "اقْسِمُوا المَالَ بَيْنَ أَهْلِ الفَرائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا تَرَكَتِ الفَرَائِضُ، فَلأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬2). ¬
* الشرح: قال ابنُ فارس: أصلُ الفرائض: الحدودُ، وهو من فَرَضْتُ الخشبةَ: إذا حززت فيها حَزًّا يؤثِّر فيها، وكذلك الفرائضُ (¬1): حدودٌ وأحكامٌ مبينةٌ، وهي عبارة عن تقدير الشيء، قال اللَّه تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1]؛ أي: قدرناها (¬2). والفرائضُ جمعُ فَرِيضةَ، وكأنها فَعِيلةَ (¬3)، بمعنى مفعولة؛ لأنَّ اللَّه -تعالى- فَرَضَها حكمًا، والفَرَضِيُّ يفرضُها عملًا، فهي كقَتِيلَة، وكَحِيلَة من حيث إنها فَعِيلةٌ بمعنى مفعولةَ. ومعنى "ألحقوا الفرائض بأهلها": أعطُوا كلَّ ذي فرضٍ فرضَهُ المسمَّى له (¬4) في (¬5) كتابِ اللَّهِ -تعالى-، أو سنةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو ¬
ما أجمع عليه، ونحو ذلك. (¬1) ع (¬2): ووقع عندَ ابنِ (¬3) الحذَّاءِ عن ابنِ ماهانَ: "فلأَدْنىَ رَجُلٍ ذَكَرٍ"، وهو تفسيرُ أَوْلى، أي: أقرب، وأقعد (¬4) بالميت (¬5). قلت: وقد اشتُهر استشكالُ قولِه -عليه الصلاة والسلام-: "فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ"؛ إذ الرجلُ لا يكونُ إلا ذكرًا، فما فائدةُ ذكرِه، والتوكيدُ إنما يحسُنُ إذا كان يفيدُ؟ وقد اختلفت (¬6) أجوبةُ الناسِ عن هذا الإشكالِ، فقالَ بعضُهُم: تحرز به عن الخنثى، واستُضْعف. وقال آخرون: لما علم أن الرجالَ هم أربابُ القيام بالأمور، وفيهم معنى التعصيب، وكانت العرب ترى لهم (¬7) القيامَ بأمور لا تراها للنساء، ذكر -عليه الصلاة والسلام- الذكوريةَ؛ ليجعلها كالعلَّة التي لأجلها خص بذلك، تنبيهًا على فضيلتها. ¬
قلت: وهذا كلُّه على أن (¬1) (ذَكَرٍ) نعتٌ لرجلٍ، وهو المتبادَرُ إلى الذهن، وأَبى (¬2) ذلك السُّهيليُّ رحمه اللَّه تعالى، وقال: لا يصحُّ ذلك لثلاثة أوجه: أحدها: عدمُ الفائدة، ويجلُّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أن يتكلَّمَ بما هو حشوٌ في الكلام، ليس فيه فائدةٌ، ولا تحته فقهٌ، ولا يتعلَّق به حُكمٌ. والوجه الثاني: أنه لو كان كما تأولوه، لنقصَ فقهُ الحديث، ولم يكن فيه بيان لحكم الطفلِ الرضيعِ الذي ليسَ برجُل، وقد (¬3) عُلم أن الميراثَ يجبُ (¬4) للأقعد (¬5)، كان كان ابنَ ساعةٍ، ولا يقال في عُرف (¬6) اللغة رجلٌ إلا للبالغ، فما فائدةُ تخصيصِه بالبالغِ دونَ الصغير؟ و (¬7) الوجْهُ الثالث: أن الحديث إنما ورد لبيان من (¬8) يجبُ له الميراثُ من القرابة بعدَ أصحاب السِّهام، فلو كان كما تأولوه، لم يكن فيه بيانٌ لقرابة الأم، والتفرقةُ بينهم وبين قرابة الأب، فبقي (¬9) الحديثُ ¬
مجمَلًا، لا يفيد (¬1) بيانًا، وإنما بعث عليه السلام ليبين للناس ما نزل إليهم. قال: فإذا ثبت هذا (¬2) فلنذكر معنى الحديث، ولنعطفْ على موضع الإشكال منه، ومنشأ الغلط فيه، بعون اللَّه تعالى، فنقول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَوْلى رجلٍ ذكرٍ" يريدُ: القريبَ الذي قرابتُه من قِبَلِ رجلٍ (¬3) وصُلبٍ، لا من قِبَل (¬4) بطنٍ ورحم، فـ (أولى) بها (¬5) هنا هو أولى الميت، فهو مضافٌ إليه في المعنى دونَ اللفظ؛ إضافةً النسَب (¬6)، وهو في اللفظ مضافٌ إلى النسب، وهو الصُّلب، وعبّر عن الصلب بقوله: "أَوْلَى رجلٍ ذكرٍ"؛ لأن الصُّلب لا يكون ولدًا (¬7)، ولا سببًا (¬8) حتى يكون رجلًا. وأفاد (¬9) قوله: "لأولى رجل" نفي الميراث عن الأولى الذي هو من قِبَلِ الأُم؛ كالخالِ ونحوِه؛ لأنَّ الخالَ أولى الميت، ولاية (¬10) بطن، ¬
لا ولايةُ صُلب، وأفاد بقوله: "ذكرٍ" نفيَ الميراث عن النساء، وإن كان من الأولَيْنَ بالميت من قِبَلِ صُلب؛ لأنهنَّ إناثٌ، فـ (ذكرٍ) نعتٌ لأوْلَى (¬1)، وإن كان مخفوضًا في اللفظ يحسب أنه نعتٌ لرجلٍ. ولو قلت: من يرثُ هذا الميتَ بعدَ ذوي السهام؟ لوجبَ أن يُقال لك (¬2): يرثُه أولى (¬3) رجلٍ ذكرٌ -بالرفع-، لأنه نعت لفاعل، ولو قلت: من يُعطى المالَ؟ لقيلَ لك: أعطِه أَوْلى رجلٍ ذَكَرًا -بالنصب-؛ لأنه نعت لأَوْلى، فمن هاهنا دخلَ الإشكال. ثم بسطَ الكلامَ بعدَ ذلك بعضَ بسْط (¬4)، أضربْنا عن ذكره خشيةَ الإطالة، وقد استوفيته في "الكوكب الوهّاج في شرح المنهاج" في علم الفرائض، واللَّه الموفق. والحديثُ نصٌّ في تبديةِ أهلِ السهامِ على العَصَبَة، والحكمةُ في ذلك (¬5): أنه لو ابتُدىءَ بالعصبةِ، لاستغرقوا المالَ، وسقطَ ذَوو الفروض (¬6). فإن قلتَ: الحديثُ يقتضي اشتراطَ الذكورةِ في العُصوبة ¬
المستحقة للباقي بعدَ ذوي الفروض، (¬1) وقد ثبت في حديث أبي موسى الأشعريِّ -رضي اللَّه عنه- ما يدلُّ على أن الأخواتِ عصبةُ البنات؛ حيث حكى عنه -عليه الصلاة والسلام-: أنه أعطى البنتَ النصفَ، وبنتَ الابنِ السدسَ، والأختَ (¬2) ما بقي (¬3). قلتُ: أُجيب عن ذلك بأن هذا من طريق المفهوم، وأقصى درجاته أن يكون له عمومٌ فيخصُّ (¬4) بالحديثِ الدالِّ على ذلك الحكم -أعني: حديثَ أبي موسى المتقدم-، قاله في (¬5)، واللَّه أعلم (¬6). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 292 - عَنْ أُسَامَةُ بْنِ زيدٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَنْزِلُ غَدًا فِي دارِكَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: "وَهلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ؟! "، ثم قَالَ: "لَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ، وَلَا المُسْلِمُ الكَافِرَ" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: في الحديث: دليلٌ على استخبارِ (¬1) الإمامِ بعضَ رعاياه ¬
عن أمر يقعُ (¬1) في المستقبل، و (هل) (¬2) هنا بمعنى النفي (¬3)؛ أي: ما تركَ لنا عقيلٌ من دار. قال أهل العربية: إن لها أقسامًا أربعة: استفهامية: وهو (¬4) أصلُ وضعها. وبمعنى قد: مثل قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1]. ويمعنى النهي (¬5): نحو قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؛ أي: انتهوا. وبمعنى النفي: كما هو في الحديث، كما تقدم. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "هل تركَ لنا عقيلٌ من رباع؟ "، سببه: أن أبا طالب لما تُوفي لم يرثه عليٌّ، ولا جعفرٌ، وورثه عقيلٌ، وطالبٌ؛ لأن عليًا وجعفرًا كانا مسلمين حينئذ، فلم يرثا أبا طالبٍ. وقد تعلق بهذا الحديث في مسألة دور مكة، هل يجوزُ بيعُها أم لا؟ ¬
الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يرثُ الكافرُ المسلمَ، ولا المسلمُ الكافرَ": اتفق المسلمون على أن معناه: لا يتوارثون ميراثَ أهلِ الإسلام بعضِهم من بعض (¬1)، وأما لو مات عبدُ المسلمِ الكافرُ، لكان مالُه لسيدِه المسلمِ، لا بالميراث، بل لأنه مالُه؛ لأن مالَ عبده مالُه، إن شاء تركَه بيدِ عبده (¬2)، وإن شاء انتزعَه، فإذا مات العبدُ، بقي المالُ للسيدِ، وكذا لو أعتقه، ثم مات على كفره، لم يرثْه؛ لأن ميراثَه لجماعةِ المسلمين. ولا خلافَ في هذه الجملة، إلا ما أجازه بعضُ السلفِ من ميراث المسلم الكافرَ، بخلاف العكس، وكأن هذا الحديث لم يبلغهم (¬3)، وجاء -أيضًا- في "الصحيح": "لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى" (¬4) (¬5). وممن قال بتوريث المسلمِ من الكافرِ: معاذٌ، ومعاويةُ، وابنُ المسيب، ومسروقٌ، وغيرُهم. ¬
وروي عن أبي الدرداء، والشعبي، والزهري، والنخعي، نحوُه، على اختلاف عنهم في ذلك. قال الإمام: والصحيحُ عن هؤلاء خلافُه. وحجةُ هؤلاء: أن أخوين اختصما إلى يحيى بن معمر؛ مسلمًا ويهوديًا في ميراث أخ لهما يهوديٍّ، فورَّث المسلمَ، وذكر أن معاذَ بنَ جبل قال: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الإسلام يزيد ولا ينقص" (¬1)، واحتجوا -أيضا- بقوله عليه السلام: (¬2) "الإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ" (¬3)، وهذا لا حجةَ فيه؛ لأن المراد به (¬4): فضلُ الإسلام على غيره، ولم يصرح في ¬
هذا (¬1) بإثبات التوريث، ولا يصح أن يُرَدَّ النصّ من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ" بمثل هذه الاحتمالات (¬2). قال السهيلي: ومن جهة المعنى: إنَّ الكافر قطعَ ما بينه وبينَ اللَّه -تعالى- بكفره، فقُطع ما بينه وبين أوليائه، وهم المؤمنون (¬3)، ولأن الميراث أصلُه المعاضدةُ والمناصرة، ولا مناصرةَ بين الكفار والمسلمين، بل هم أشدُّ الأعداء لهم (¬4). قلت: لا سيما اليهود (¬5)، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]، فاستحال من حيث المعنى توارثُهم بعضِهم من بعض. ولتعلمْ: أن مذهب مالك رحمه اللَّه: أن أهلَ الكفر أصحابُ مللٍ مختلفة، فلا يرث عنده اليهوديُّ من النصراني، ولا العكسُ، وكذلك المجوسيُّ لا يرثُ هذين، ولا يرثانه. وقال الشافعي، وأبو حنيفة، وداود: الكفرُ كلُّه ملةٌ واحدة، وإن الكفار يتوارثون، فالكافر يرثُ عندَهم الكافرَ (¬6)، على (¬7) أيِّ كفرٍ كان. ¬
وكأن منشأ الخلاف بين العلماء (¬1): قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى (¬2) " (¬3)، فلما اعتقدَ مالكٌ أن مللَ الكفر مختلفةٌ، منع التوارثَ من اليهودي والنصراني، وقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وقال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: لا نرثُ (¬4) أهلَ الملل، ولا يرثونا (¬5)، فسمّاهم مللًا. ولما اعتقد الشافعيُّ ومن ذُكر معه: أن أنواع الكفر ملةٌ واحدة، وَرَّثَ اليهوديَّ من النصراني، والعكس، وقد قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فوحّد الملةَ، وقال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، فوحَّد الدين، ولم يقل: أديانكم. وقالوا: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يتوارثُ أهلُ مِلَّتينِ شتَّى (¬6) " هو كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يرثُ الكافرُ المسلم، ولا المسلمُ الكافرَ". ع: وقد قال بعض مَنْ رأى أَنَّ الكفر مللٌ مختلفة: إن السامرة من اليهود أهلُ (¬7) ملة واحدة، والصابئين مع النصارى أهلُ ملة ثانية، ¬
والمجوس ومَنْ لا كتابَ لهم (¬1) ملةٌ ثالثة (¬2)، وتكون هذه عندهم ثلاث ملل، سوى ملة الإسلام، يُحكى هذا المذهب عن شريح، وشريك، وابن أبي ليلى (¬3). ع: وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يرثُ المسلمُ الكافرَ" عمومٌ يدخل تحته الكافرُ الأصلي، والمرتدُّ، وهو قول مالكٍ، وربيعةَ، وابنِ أبي ليلى. وقال الشافعي: إن ميراثَ المرتدِّ لجماعةِ المسلمين. وذهب الكوفيون، والأوزاعي، وإسحاقُ (¬4): إلى أن ورثته المسلمين يرثونه، وروي عن علي، وابنِ مسعود، وجماعة من السلف، إلا أن الثوري، وأبا حنيفة، قالا: ما اكتسبَ في رِدَّتِه، فهو فيءٌ للمسلمين، والآخرون يورثون الجميعَ لورثتِه المسلمين (¬5). قلت: قول ع عن الشافعي: إن ميراث المرتدِّ لجماعة المسلمين، وتسميته ذلك ميراثًا؛ إما توسُّع، وإما وهمٌ، بل (¬6) مذهبُ الشافعي في ¬
هذه المسألة موافقٌ لمذهبنا في أنَّ مالَ المرتد فيءٌ، وفي "الوسيط" للغزالي رحمه اللَّه: المرتدُّ لا يرثُ، ولا يرثُه (¬1) لا قريبُه الكافرُ، ولا قريبُه المسلمُ، ولا قريبُه المرتدُّ، بل مالُه فيء، ولا فرقَ بين ما اكتسبَ بعد الردَّة، وبين ما اكتسب قبلَها، هذا نصُّ كلامه في "الوسيط" (¬2). وقال ابنُ هبيرة في كتابه "إجماع الأئمة": الأئمةُ اختلفوا -يعني: الأربعة- في مال المرتد أين يُصرف، وهل يورث؟ بعد اتفاقهم على أنه لا يرثُ. فقال مالك، والشافعي، وأحمدُ في أظهر الروايات عنه: إذا قُتل المرتد، أو مات على رِدَّته، يُجعل ماله في بيت مال المسلمين (¬3)، ولا يرثه ورثتُه، وسواء في ذلك ما اكتسبه في حالةِ إباحةِ دمه، أو حقنِه. وعن أحمد رواية أخرى (¬4) ثانية: يكون مالُه لورثته من المسلمين. وعنه رواية أخرى: إن ميراثه يكون لورثته من أهل دينه (¬5) الذين اختارهم، إذا لم يكونوا مرتدين. وقال أبو حنيفة: ما كسبه المرتدُّ في حال إسلامه يكون لورثته ¬
المسلمين، وما كسبه (¬1) في حال ردته يكون فيئًا، واللَّه أعلم (¬2). فقد علمتَ من مجموع هذا؛ أنه لا خلافَ بيننا وبين الشافعي في مسألة المرتد، واللَّه الموفق. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث (¬1) 293 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ (¬2) عُمَر -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عَنِ بيع (¬3) الوَلَاءِ وَهِبَتِهِ (¬4). ¬
الولاء: -بالمد-، ليس [إلا]، وهو مشتق من الوَلْي، وهو القربُ، وهو سبب يورَثُ به، ولا يورَّثُ؛ لأنه كالنسب في أنه لا يقبل الانتقالَ -أعني: أنه حقٌّ ثبتَ بوصف-، وهو الإعتاق، ولا (¬1) يقبلُ النقلَ بوجه من الوجوه؛ لأن ما ثبتَ بوصف، يدوم بدوامه، ولا يستحقُّه إلا من قام به ذلك الوصفُ. قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الوَلَاءُ كَلَحمَةٌ كَلَحْمَةِ النَّسَبِ" (¬2) -بفتح اللام من لحمة-، فكما لا يقبل النسبُ النقلَ، فكذلك الولاءُ، فلا يصح فيه البيعُ، ولا الهبةُ، ولا الإرثُ، و (¬3) هذا قول الجمهور. ¬
وفي المسألة خلف بسطناه (¬1) في "الكوكب الوهاج في شرح المنهاج" في الفرائض. ولتعلمْ: أن الميراث بالولاء يستحقه أقربُ الناس إلى المعتِقِ يوم يموتُ المعتِقُ، بخلاف الميراث بالنسب؛ كمن أعتق عبدًا، ومات عن ابنين، فمات أحدُهما عن ابن، ثم مات العبدُ، فإن ماله للابن خاصةً، دونَ ابنِ الابن، ولا يرثُ ما كان لأبيه، وكذلك ما أشبة هذا، واللَّه سبحانه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 294 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، أَنَّها (¬1) قَالتْ: كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: خُيِّرَتْ عَلَى زَوْجِها حِينَ عُتِقَتْ (¬2)، وَأُهْدِيَ لَها لَحْمٌ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالبُرمَةُ عَلَى النَّارِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ، فَاُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدمٍ مِنْ أُدْمِ البَيْتِ، فَقَالَ: "أَلَمْ أَرَ البُرْمَةَ عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ؟ "، فَقَالُوا (¬3): بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ". وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها: "إِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬4). ¬
* الشرح: قد تقدم أن حديث بَريرةَ مشتمل على فوائدَ جمَّة (¬1)، وأن الناس صنفوا فيه كتبًا، وقد ذكرنا منها -فيما مضى (¬2) - ما تيسر ذكرُه (¬3)، وقد صرح هنا بثبوت الخيار لها، وهي أَمَةٌ عتقتْ تحت عَبْد، فثبت ذلك لكل من اتصف بحالها. وفي المسألة تفاصيل مذكورة في كتب الفقه. فإن قلت: قد قال ابن عباس -رضي اللَّه عنه-: أربع سنن (¬4)، وزاد: وأمرَها (¬5) أن تعتدَّ (¬6)، وقد زاد الناسُ على ذلك أشياءَ كثيرة على ما تقدم، فكيف ¬
يكون الجمعُ بين ذلك، وبين قول عائشة: ثلاث سنن (¬1)؟ قلت: قولُ عائشة -رضي اللَّه عنها- لا يقتضي حصرًا، وإنما معناه: أنه سُنَّ وشُرع بسبب قضيتها، أو عندَ وقوع (¬2) قضيتها كذا، فلا تنافيَ بين قولها، وقولِ من زاد على ذلك ممن صنف فيه (¬3)، واللَّه أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "هو لها صدقةٌ": فيه (¬4): جوازُ إعطاء الصدقات لموالي قريش. ع: فإن (¬5) كانت هذه الصدقةُ تطوعًا، فقد يحتجُّ به مَنْ يرى صدقةَ التطوع جائزةً لموالي قريش، أو لجميعهم، وإن قلنا: إنها (¬6) زكاةٌ واجبة، فيحتجُّ به مَنْ لا يرى تحريمَ ذلك على مواليهم، أو يرى اختصاصَ ذلك ببني هاشم، لقول عائشة: أهدته لنا بريرةُ، وأنتَ لا تأكلُ الصدقةَ، ولم يقل لها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: ولا أنتِ لا تأكليها، وإنما علَّل بكونها هديةً للجمع (¬7) (¬8). ¬
قلت: انظر: كيف يكون اللحمُ زكاةً واجبة؟ وهل يجوز (¬1) لمن وجبت عليه شاةٌ مثلًا (¬2) أن يذبحها ويفرِّقَها على الفقراء إذا تعذر مجيءُ الساعي إليه، أو لم يكن الإمام عدلًا، ونحو ذلك؟ فإني (¬3) لم أر فيه شيئًا. ق: فيه: دليل على تبسط الإنسان (¬4) في السؤال عن أحوال منزله، وما عهده فيه؛ لطلبه (¬5) من أهله مثلَ ذلك (¬6). قلت: النظرُ في كونه -عليه الصلاة والسلام- طلبَ ما عهدَه، ولعله إنما طلبَ مما (¬7) في البُرمة، وهو شيء لم يعهدْه، وهو (¬8) الذي يتوجّه عندي، حتى لا يكونَ مخالفًا لحديثِ أُمِّ زَرْع: "وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ" (¬9)، فلمَّا لم يُؤْتَ بشيء مما في البُرمة، سأل؛ ليبين لهم ¬
ما جهلوه من الحكم في ذلك؛ إذ قد علمَ -عليه الصلاة والسلام- أنهم لا يبخلون عليه بما يعتقدون جوازَه له، فأراد -عليه الصلاة والسلام- أن يبينَ لهم ما جهلوه من ذلك، واللَّه أعلم. وفيه: جوازُ الاكل مما أُهدي للفقيرِ، أو تُصُدِّقَ به عليه (¬1). وأمَّا قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإنما الولاءُ لمن أعتقَ"، فقد تقدم الكلامُ عليه مستوعَبًا، وباللَّه التوفيق والعصمة. * * * ¬
كتاب النكاح
كِتْابُ النِّكَاحِ
[باب]
كِتْابُ النكاح الحديث الأول 295 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ (¬1): قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (¬2). ¬
أصلُ النكاح في اللغة: الجمع و (¬1) الضَّمُّ، ودخولُ الشيءِ في الشيء، تقول العرب: نكحتُ البُرَّ في الأرض: إذا حرثته فيها، ونَكَحَتِ الحصى أخفافَ (¬2) الإبل، وهو يردُ في الشرع بمعنى: الوطءِ تارةً، وبمعنى: العَقْد أخرى. ع (¬3): وهو أكثرُ استعماله في الشرع، قال اللَّه (¬4) -تعالى-: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، قال: ويبعد أن يكون أُريد به: الوطءُ؛ إذ الوطء عمومًا منهيٌّ عنه بغير عَقْد. ¬
وقد ورد -أيضًا- بمعنى الوطء في قوله -تعالى- {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وقال (¬1) -تعالى-: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3]، على خلاف في تأويله بين العلماء. وكذلك قيل: إنه ورد بمعنى الصَّداق في قوله -تعالى-: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، والصحيح أن المراد هنا العقد، ومعنى {لَا يَجِدُونَ} [النور: 33] (¬2)، أي: لا يقدرون على النكاح لعسرهم. قال الفارسي: فَرقت العربُ بين الوطء والعقد فرقًا لطيفًا، فإذا قالوا: نكحَ فلانةَ، أو بنتَ (¬3) فلان، أو أختَه، أرادوا: عَقَدَ عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته، أو زوجته (¬4)، لم يريدوا إلا الوطءَ؛ لأن بذكر (¬5) امرأته أو زوجته يُستغنى عن ذكر العقد. وقال الفراء (¬6): العربُ تقول: نُكح المرأةِ -بضم النون-: بُضْعها (¬7)، وهو كنايةٌ عن الفرج، فإذا قالوا: نَكَحَها، أرادوا: أصابَ نُكْحَها، وهو فَرْجُها. ¬
وقد اختلف فقهاء الشافعية في حقيقة النكاح عندَهم على ثلاثة أوجه، حكاها القاضي أبو الطيب في تعليقه: أصحها عندهم: أنه حقيقةٌ في العقد، مجازٌ في الوطء. والثاني: عكسُه، وبه قال أبو حنيفة. والثالث: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك، واللَّه أعلم (¬1). إذا ثبت هذا، فالكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يا معشرَ الشباب! ": قال أهل اللغة: المعشر: الطائفة الذين يشملهم وصف، فالشبابُ معشر، والشيوخُ معشر، والأنبياء معشر، والنساء معشر (¬2)، وكذا (¬3) ما أشبهه، ويجمع الشاب (¬4) -أيضًا- على شبَبَة؛ مثل كاتِب وكَتَبَة. والشابُّ (¬5) عند الشافعية من بلغ، ولم يجاوز ثلاثين سنة (¬6)، وتسميه العرب -أيضًا-: قمدًا (¬7)، وقد تقدم أنه خمس عشرة سنةً (¬8) ¬
يصير قمدًا إلى خمس وعشرين سنة، ثم يصير كهلًا إلى خمسين سنة، وظاهر هذا أو نصه: أنه باستكمال (¬1) الخمس والعشرين (¬2) لا يُطلق عليه شابٌّ، بل كهلٌ، وهو خلاف ما قاله (¬3) الشافعية؛ إذ (¬4) لا واسطة بين الشاب (¬5) والكهل، واختصاصُ الشباب (¬6) في الحديث بناء على الغالب؛ لوجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح غالبًا، بخلاف الشيوخ، والمعنى معتبر إذا وجد في الكهول والشيوخ (¬7) أيضًا، واللَّه أعلم (¬8). الثاني: في الباءة أربعُ لغات (¬9) حكاها الإمامُ وغيره؛ أفصحها: الباءة -بالمد والهمز-، والثانية: الباة -قصرًا-، والثالثة: الباء -بالمد بلا هاء-، والرابعة: الباهة، بهاءَين بلا مد. قال الإمام: وأصل الباءَةِ في اللغة: المنزل، ثم قيل: لعقد (¬10) النكاح؛ لأن مَنْ تزوج امرأة، بَوَّأَها منزلًا، والباءةُ هنا: التزويج، وقد ¬
يسمَّى الجماعُ نفسُه باءَة، وليس المراد بالذي وقع في الحديث على ظاهره الجماع؛ لأنه قال: "ومَنْ لم يستطعْ، فعليه بالصَّومِ"، وإن كان غيرَ مستطيع، لم يكن له حاجةٌ إلى الصوم (¬1). ع: لا يبعد أن تكون الاستطاعتان (¬2) مختلفتين، فيكون المراد أولًا بقوله: "من استطاعَ منكم الباءة": الجماع؛ أي: من بلَغَهُ، وقدرَ عليه، فليتزوج، ويكون قوله بعدُ: "ومن لم يستطع"؛ يعني (¬3): على الزواج المذكور ممن هو بالصفة المتقدمة، "فعليه بالصوم" (¬4). قلت: (¬5) المتبادر إلى الذهن ما قاله الإمامُ، وهو الأصل، ولا حاجة بنا (¬6) إلى الخروج عنه. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فليتزوَّج" قد يتعلق به الظاهريةُ القائلون بوجوب النكاح مرةً في العمر، ولو بمجرَّدِ العقدِ دونَ الدخول؛ لمجرد الأمر، والمشهورُ من قول فقهاء الأمصار: استحبابُ النكاحِ على الجملة. وقال أصحابنا ما معناه: إنه (¬7) مع ذلك قد يختلف باختلاف حال ¬
الشخص؛ فيجب في حقِّ مَنْ لا يَنْكفُّ (¬1) عن الزنا إلا به، ويحرم إذا كان يُخِلُّ (¬2) بحق الزوجة في وطءٍ، أو إنفاقٍ، ويُكره في حق مَنْ لا يكون مشتهيًا له، وينقطع بسببه عن فعل الخير، وقد (¬3) يُكره إذا كان حاله (¬4) في العَزَبَة أجمعَ منه في التزويج، وكأنه راجعٌ إلى الأول، وأما مَنْ لا يشتهيه، ولا ينقطع بسببه عن فعل الخير، فقد يختلف فيه؛ فيقال: بالندب؛ للظواهر الواردة في الترغيب فيه، وقد يكون في حقه مباحًا (¬5). ع: أما في حق كلِّ مَنْ يُرجى منه النَّسْلُ ممن لا يخشى العَنَتَ، وإن لم يكن له في الوطء شهوة، فهو (¬6) في حقه مندوبٌ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام (¬7) -: "فَإِنِّي (¬8) مُكَاثِرٌ بِكُم الأمم (¬9) " (¬10)، ولظواهر ¬
الحضِّ على النكاح، والأمرِ به. قال: وكذلك في حقِّ مَنْ له رغبة في نوع من (¬1) الاستمتاع بالنساء، وإن كان ممنوعًا عن الوطء؛ لكن النكاح يغضُّ بصره، وأما زيادة: (سنة) في حقِّ منْ لا يَنْسُل، ولا أَرَبَ له في النساء جملةً، ولا مذهبَ له في الاستمتاع بشيء منهنَّ، فهذا الذي يقال في حقه: إنه مباح، إذا علمت المرأةُ بحاله، وقد يقال حتى الآن إنه مندوب؛ لعموم الأوامرِ بالتزويج، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا رَهْبَانِيَّةَ في الإِسْلَامِ" (¬2). قلت: وقد وَهِمَ ح في نقله (¬3) عن العلماء كافةً غير الظاهرية، ورواية عن أحمد: أنه لا يجب النكاحُ ولا التسرِّي، سواء خشيَ على نفسه العنتَ، أم لا، ذكر ذلك في "شرح مسلم" له، في أول كتاب: النكاح (¬4)، مع أنه لا خلافَ أعلمُه في مذهبنا: أنه إذا خشيَ على نفسه ¬
العنتَ، وقدرَ على التزوُّج (¬1) أو التسرِّي: أن ذلك واجب عليه، وكذا (¬2) نقل ابنُ هبيرة عن أحمد، وقال: رواية واحدة (¬3)، أي: لم يختلف قولُه في الوجوب عندَ اجتماع الشرطين، فقول ح -أيضًا (¬4) -: رواية عن أحمد (¬5)، يوهم اختلافَ قولِه في ذلك، وقد (¬6) قال ابن هبيرة: إن مذهبه على رواية واحدة، كما تقدم، فليُعْلَمْ ذلك. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإنه أَغَضُّ للبصر، وأَحصَنُ للفرج" يحتمل أن يكون (أفعل) هنا لغير المبالغة، إن نظرنا إلى (¬7) [أن] الغضَّ، والتحصين، لا يحصلان إلا بالنكاح (¬8)، وإن لمحنا أن المتقي يجاهدُ نفسَه في ذلك مع عدم النكاح، وقد تقع (¬9) منه النظرةُ (¬10) واللفتة (¬11)، وإذا (¬12) وجد النكاح، حصلت الأَغَضِّيَّة (¬13) ¬
والأحصنية، و (¬1) كانت (أفعل) على بابها، واللَّه أعلم (¬2). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فعليه بالصوم": هو وجه الكلام، ولا يجوز غيرُه، ولا يُلتفت إلى قول مَنْ قال من النحاة: إنه إغراءُ (¬3) غائبٍ؛ لأن الهاء في (عليه) لمن خصه (¬4) من الحاضرين بعدم الاستطاعة؛ لتعذُّرِ خطابه بكاف الخطاب، فهي لحاضرٍ قطعًا، لا لغائب، وإن كان وضعُ الهاء أن تكون لغائب، وهذا كما نقول للرجال (¬5): مَنْ قام الآن منكم، فله درهم، فهذه (¬6) الهاء لمن قام من الحاضرين، وليست لغائب قطعًا، فليعلمْ ذلك؛ فإنه من النفائس. نَعَمْ، إغراء الغائب وقعَ في قول مَنْ قال: عليه رجلا ليسني؛ إذ الهاءُ ليست لحاضر، بل لغائب، قال سيبويه فيه: و (¬7) هذا قليل، شبهوه بالفعل. وقال السّيرافي: وإنما أمر الغائب بهذا الحرف على شذوذه؛ لأنه قد جرى للمأمور ذكر، فصار كالحاضر، وأشبه أمرُه أمرَ الحاضر. قلت: معنى هذا الكلام -واللَّه أعلم-: أنه كأنه لما جرى ذكرُه عندَه بأن قيل -مثلًا-: فلانٌ يريد بكَ كذا، أو ينازعُكَ في كذا، فقال: ¬
عليهِ رجلًا غيري، وأما أنا، فلا مبالاة لي به، فنزل ذكره منزلة حضوره نفسه، ولا يمكن أن يؤول هذا الشاذ بأكثر من هذا، واللَّه أعلم. فلا نشتغل بكلام من تورك (¬1) على الحديث لحظة، فإنه لم يفهم كلامَ أفصحِ العرب -صلى اللَّه عليه وسلم-، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]. وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صحيحًا (¬2) ... وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ فإن قلت: وما السرُّ في اختصاص الإغراء بالحاضر؟ (¬3) قلت: الذي عَلَّلَ به سيبويهِ رحمه اللَّه، فمَنْ بعده من النحويين رحمهم اللَّه: أَنَّ الظروفَ المُغْرَى بها ليستْ بأفعال، ولا تصرفَتْ تصرفَ الأفعال، وإنما جاء في الحاضر؛ لما فيه من معنى الفعل، ودلالةِ الحال، ولأنك في الأمر للغائب تحتاج له فعلا آخر، كأنك قلت لحاضرٍ: قل له، أو أبلغْه ليلزم زيدًا، ونحو ذلك (¬4)، فضعف ذلك (¬5) عندَهم، مع ما يدخله من الالتباس في أمر واحد، أن تضم فيه فعلين لشيئين، وأنه ليس للمخاطب فعلٌ ظاهر، ولا مضمر عليه دلالة، فكأنك أمرته بتبليغ ذلك الغائب، هذا أو نحوه، فاعرفه (¬6). ¬
الخامس: الوِجاء: -بكسر (¬1) الواو والمد-، وأصلُه من الغمز، يقال وُجِىءَ في عنق فلان: إذا غُمز عنقُه، ودفع وجَاءهُ بالخنجر، وشبهه: إذا نخسه به، فطعنه، والوَجْءُ المصدر -ساكنُ (¬2) الجيم-، والوجيئةُ (¬3): تمرٌ ينبلّ باللبن أو السمن، ويُرَضُّ حتى يلتزقَ (¬4) بعضُه ببعضٍ. ع: ومنه أخذ الوجْء، وهو غمزُ الأُنثيين، أو رَضُّهما بحجرٍ ونحوه، والمراد هنا: أن الصوم يقطع الشهوةَ؛ كما يقطعُه الوجَاء. قال أبو عبيد: وقد قال بعض أهل العلم: وجَا -بفتح الواو، مقصور- من الحفَا، قال: والأول أجود. قال الخطابي: وفي الحديث: دليلٌ على جواز المعاناة لقطع الباءة بالأدوية، ودليلٌ على أن مقصودَ النكاح الوطءُ، ووجوب الخيار في العُنَّةِ (¬5)، واللَّه أعلم (¬6). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 296 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ عَمَلِهِ في السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَبَلغَ ذَلِكَ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، فَحَمِدَ اللَّه، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا: كَذَا؟! لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: النَّفَر: -بفتح الفاء-، والنَّفِيرُ، وَالنَّفْرُ وَالنَّفْرَةُ -بالإسكان فيهما-: عدةُ رجال من الثلاثة إلى العشرة، وأما يومُ النَّفْر، وليلة النفْر، لليوم الذي ينفِرُ الناسُ فيه من مِنىً، ففيه إسكان الفاء وفتحها (¬1). قال يعقوب: ويقال فيه -أيضًا-: النَّفَر، والنَّفير. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا؟! ": هو على عادته -عليه الصلاة والسلام- في خُطَبه في مثل هذا، إذا رأى شيئًا يكرهه، فخطبَ له، لم يُعَيِّنْ فاعليه (¬2) ولم يواجِههم بما يكرهون، ولم يُسَمِّهِمْ بأسمائهم على رؤوس الملأ؛ فإن المقصودَ من فاعل ذلك المكروه، وغيرِه من الحاضرين، ومن يبلغْه من غيرِهم، يحصُل من غير حصولِ توبيخِ صاحبِه في الملأ، وهذا من مكارم أخلاقه، وفصلِ خطابه، وحسنِ آدابه، وجميلِ عشرته، وعظيمِ جَنابه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) قال سبحانه وتعالى (¬4) {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقد تقدم نحو ¬
هذا في حديثِ بَريرة. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فمن رَغِبَ عن سُنّتي، فليسَ مِنِّي"؛ أي: من رغب عن سنتي إعراضًا عنها، وغيرَ معتقدٍ لها على ما هي عليه. وهذا قد يحتجُّ به مَنْ يقول بوجوب النكاح على الإطلاق؛ كما تقدم. ع: ولا حجَّةَ فيه، إذ (¬1) ذكر في أول الحديث أن بعضهم قال: لا آكل اللحمَ، وقال بعضهم: لا أنامُ على فراش، ثم قرن -عليه الصلاة والسلام- ذِكْرَ النكاح بالأكل والنوم، وعلى جميعه رَدَّ (¬2) قولَه: "فمن رغبَ عن سنتي"، لا على النكاح وحدَه، ولا قائلَ يقول بوجوب النوم على الفرشِ، وأكلِ اللحم، فردُّ (¬3) الكلام على النكاح وحدَه دونَ قرينة ولا دليل عليه، إلا (¬4) دعوى لا يُلتفت إليها، فلم يبقَ إلا أن معناه ما تقدَّم (¬5). قلت: وقد يستدل (¬6) به -أيضًا- (¬7) من رجَّحَ النكاحَ (¬8) على التخلِّي ¬
للعبادة؛ لرده -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك على هؤلاء، وجعل خلافه رغبةً عن السنّة، وهو قولُ أبي حنيفة؛ كما (¬1) تقدم. والأمثلُ عندي في هذه المسألة: أن ذلك يختلف فيه (¬2) بحسب اختلاف حالِ الشَّخص -على ما تقرر تمهيده-، واللَّه أعلم. قال الطبري: وفيه: ردُّ على مَنْ منعَ من استعمالِ الحلالِ والمباحاتِ من الأطعمةِ الطيبةِ، والملابسِ اللينة، وآثرَ عليها غليظَ الطعام، وخشنَ الثياب من الصوفِ وغيره، وإن كان صرف فضلها في وجوه البر؛ لأن حياطةَ جسم (¬3) الإنسان، وصيانةَ صحته (¬4) بذلك آكَدُ وأَوْلى، واحتج بقوله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]. ع: وهذا البابُ قد اختلفَ فيه السلف كثيرًا، منهم مَنْ آثر ما قال الطبري، ومنهم من آثر ما (¬5) أنكره، واحتجَّ هؤلاء بقوله -تعالى- في ذم أقوام: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]، ¬
وقد احتج عمرُ بنُ الخطاب -رضي اللَّه عنه- بذلك، وحجةُ الآخر (¬1) عليهم: أن الآيةَ نزلتْ في الكفار؛ بدليل أولِ الآية وآخرها، والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أخذ بالأمرين، وشارك في الوجهين، فلبس مرةً الصوفَ، والشملةَ الخشنةَ، ومرةً البردةَ والرداءَ الحضرميَّ، وتارةً أكل القثاء بالرُّطَب، وطيبَ الطعام إذا وجدَه، ومرة لزمَ أكلَ الحُوَّارَى، ومختلِفَ الطعام، كل ذلك ليدلَّ على الرخصة بالجواز مرةً، والفضل والزهد في الدنيا وملاذها أخرى، وكان يحبُّ الحلوى والعسلَ، ويقول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلَاةِ" (¬2). قلت: فلا عتبَ إذًا على من احتذى أحدَ الطريقين (¬3)؛ إذ كلاهما سنّة، والمعتبر في ذلك: القصدُ الصحيح، أعاننا اللَّه عليه بمنِّه وكرمه، آمين. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 297 - عَنْ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عُثْمَانَ بْنِ (¬1) مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ، لاخْتَصَيْنَا (¬2). ¬
* الشرح: معنى "ردَّ عليه التبتُّلَ": نهاه عنه. قال بعضُ العلماء: والتبتُّل هو: الانقطاعُ عن النساء، وتركُ النكاح؛ انقطاعًا إلى عبادة اللَّه تعالى، وأصلهُ القَطْعُ، ومنه صَدَقَةٌ بَتْلَةٌ؛ أي: منقطعة عن تصرُّفِ مالكها. وقال الطبري: التبتُّل هو: تركُ لذَّات الدنيا وشهواتِها، والانقطاعُ إلى اللَّه تعالى بالتفرُّغ لعبادته، ومنه قيل لمريمَ: البَتُول؛ لانقطاعها إلى اللَّه -تعالى- بالخدمة. وقال غيره: التبتُّلُ حرام. ع: يعني: عن النساء، ومن الناس مَنْ يكون النكاحُ أصلحَ (¬1) لدينه، وأما الاختصاءُ، فلا يحل (¬2) أصلًا (¬3). وقال أحمد (¬4) بنُ يحيى: سُميت فاطمةُ -رضي اللَّه عنها- بالبَتُول؛ لانقطاعها عن نساء زمانها دِينًا، وفَضْلًا، وحَسَبًا. وقال الليث: البتولُ: كلُّ امرأةٍ منقطعةٍ عن الرجال، لا شهوةَ لها فيهم، واللَّه أعلم (¬5). ¬
فإن قلت: نهى -عليه الصلاة والسلام- عن التبتل، وقد قال اللَّه تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، وبالإجماع إن ذلك ليس خاصًا به عليه الصلاة والسلام. قلت: التبتُّل المنهيُّ عنه في الحديث غيرُ التَّبَتُّل (¬1) المأمورِ به في الآية؛ لأن عثمان -رضي اللَّه عنه- ممن قصدَ التبتُّلَ والتخلِّيَ للعبادة، والانقطاعَ بالكلية، مما هو داخلٌ في باب التنطُّعِ والتشديدِ على النفس، والإجحافِ بها (¬2)، والتشبه (¬3) بالرهبانية. وأما التَّبتُّل المأمورُ به في الآية، فجاء في التفسير: أن معناه: انقطعْ إلى اللَّه في العبادة، وارفضِ الدنيا، والتمسْ ما عندَ اللَّه تعالى، ولم يقصد مع ذلك ترك النكاح، ولا أمر به، بل كان النكاح (¬4) موجودًا مع هذا الأمر كلِّه، وباللَّه التوفيق. ق: وقد يؤخذ من هذا الحديث: منعُ ما هو داخل في هذا الباب وشبهه؛ مما قد يفعلُه بعضُ المتزهِّدين (¬5). قلت: وهو كما قال ح، أما الإعراضُ عن الشهوات واللذات من ¬
غير إضرارٍ بنفسه، ولا تفويتِ حقٍّ لزوجتِه ولا غيرِها، ففضيلةٌ لا منعَ منها، بل مأمور بها. وأما قوله: "و (¬1) لو أَذِنَ له، لاخْتَصَيْنَا"، فقيل: معناه: لو أذنَ له في الانقطاع عن النساء وغيرِهنَّ من ملاذِّ الدنيا، لاختصينا؛ لدفع شهوة النساء؛ ليمكننا (¬2) التبتلُ. ح: وهذا محمول على أنهم كانوا يظنّون جوازَ الاختصاء [باجتهادهم، ولم يكن ظنهم هذا موافقًا؛ فإن الاختصاء] (¬3) في الآدمي (¬4) حرامٌ، صغيرًا كان أو كبيرًا. قال البغوي: وكذا يحرُمُ خِصاءُ (¬5) كلِّ حيوان لا يؤكل، وأما المأكول، فيجوز خصاؤه في صغره، ويحرُم في كبره (¬6). قلت: وأما مذهبُنا في الخصاء؛ فقال القاضي عبدُ الوهاب: ويكره خصاءُ الخيل، ويجوز خصاءُ البهائم سواها، ولم يفصِّل بين صغير و (¬7) كبير (¬8). ¬
والظاهر: أن الكراهة هنا كراهةُ التنزيه لا التحريم، واللَّه أعلم. وأما خصاءُ الآدمي: فقد سبق أنه لا يحلُّ أصلًا، واللَّه الموفق. * * *
الحديث الرابع
الحديث الرابع 298 - عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ: أَنَّها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! انْكِحْ أُخْتِي ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ (¬1): "أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِك؟ "، فَقُلْتُ (¬2): نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي"، قَالَتْ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبي سَلَمَةَ، قَالَ: "بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟! "، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبتَي في حَجْرِي، مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا لابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَة ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ". قَالَ عُروَةُ: (¬3) ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةٌ لأِبي لَهبٍ، كَانَ أَبو لَهَبٍ أَعْتَقَها، فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ، أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ (¬4)، ¬
قَال لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ (¬1)؟ قَالَ لَه (¬2) أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ خَيْرًا، غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هذِه بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ (¬3). الحِيْبَةُ: الحَالَةُ (¬4)، بِكَسْرِ الحَاءَ المُهْمَلَةِ. ¬
* الشرح: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَوَتحبينَ ذلك؟ ": قد يكون سببُ هذا الاستفهام التعجُّبَ؛ من حيثُ (¬1) كانت العادةُ تقتضي كراهةَ النساءِ لذلك، فلما فهمت ذلك عنه -عليه الصلاة والسلام-، ذكرتِ السبَبَ، وهو قولها: "لستُ بمُخْلِية"؛ أي: لستُ أُخْلِي لك بغير (¬2) ضَرَّةٍ (¬3)، وهو بضم الميم وإسكان الخاء (¬4) وكسر اللام، بعدها المثناة تحت المفتوحة الخفيفة. وقولها: "وأَحَبُّ مَنْ شاركني في خيرٍ أُختي"، ويروى: "مَنْ (¬5) شرِكَني" -بكسر الراء الخفيفة (¬6) -، أرادت بالخير: ما يحصلُ من صحبته -عليه الصلاة والسلام- من مصالحِ الدنيا والآخرة، واسمُ أختها عَزَّةُ، بفتح العين المهملة وتشديد الزاي المعجمة (¬7). ¬
وقولها: "إنا كنا نُحَدَّثُ" إلى آخره، هو بفتح الحاء المهملة (¬1) والدال على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، وبنتُ أُمِّ (¬2) سلمةَ هذه (¬3) اسمُها دُرّةُ، بضم الدال المهملة، وتشديد الراء المهملة. ق: ومن قال فيها: ذَرَّة -بالذال المعجمة (¬4) -، فقد صحفه (¬5). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "بنت أم سلمة" يحتمل أن يكون استثباتًا لرفعِ الاشتراك، ويحتمل أن يكون جاء على طريق الإنكار لما أرادت من نكاح أختها. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو لم تكن ربيبتي في حجري، ما حَلَّت لي"، إلى آخره: قال ابنُ عطية: الرَّبِيبَةُ: بنتُ امرأةِ الرجلِ من غيره، سُميت بذلك؛ لأنه يُرَبّيها في حجره، فهي مربوبةٌ، فربيبة فعيلة، بمعنى مفعولة (¬6). وقال الجوهري: رَبَّ فلانٌ [وَلَدَه] يَرُبُّهُ (¬7) رَبًّا، وربَّبَهُ وتربَّبَهُ، ¬
بمعنًى؛ أي: ربّاه، والمربوبُ: المرَبَّى، والتَّرَبُّبُ (¬1): الاجتماع، وربيبُ الرجلِ: ابنُ امرأتِه من غيره، وهي بمعنى مربوب، والأنثى رَبيبة (¬2). فإن قلت: تحريمُ الربيبةِ المدخولِ بأُمها لا يُشترط كونها في حَجْره عندَ جميع الفقهاء، خلافًا للظاهريِّ، وإن كان قد رُوي شرطُ ذلك عن عليٍّ -رضي اللَّه عنه- (¬3)، فما فائدةُ قوله -عليه الصلاة والسلام-: "في حجري"؟، وكذلك قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]. قلت: أما الآيةُ، فقال ابنُ عطية: ذكر الأغلب من هذه الأمور، إذ هي حالةُ الربيبة (¬4) في الأكثر، وهي محرّمةٌ، وإن كانت في غير الحَجْر؛ لأنها في حكم أنها في الحجر (¬5). وقال الزمخشري: فائدةُ التعليل للتحريم (¬6)، وأنهنَّ لاحتضانكم لهنَّ، أو لكونهنَّ بصدد احتضانِكم، وفي حكم التقلُّب (¬7) في حجوركم، ¬
إذ (¬1) دخلتُم بأمهاتهن، ولكن مدخولكم (¬2) حكم الزوج، وتبينت (¬3) الخلطةُ (¬4) والألفةُ، وجعل اللَّه بينكم المودةَ والرحمةَ، وكانت الحالُ خليقةً أن تُجروا أولادهنَّ مجرى أولادِكم، كأنكم في العقد على بناتهنَّ عاقدون على بناتِكم (¬5). وأما الحديث، فيحتمل عندي وجهين: أحدهما: أن يكون كالآية في كل ما ذكر. والثاني: أن يكون -عليه الصلاة والسلام- ذكر الحجرَ اقتداءً بالقرآن، ويكون ذلك من باب قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكم لَاحِقُونَ" (¬6) على أحد (¬7) ما قيل في ذلك، وهو أنه -عليه الصلاة والسلام- تأدَّبَ بآداب القرآن؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، واللَّه الموفق (¬8). ¬
والحَجْرُ -بالفتح- أفصحُ، ويجوز -الكسر (¬1) -، وهو مقدَّمُ ثوبِ الإنسان، وما بينَ يديه في حال اللبس، ثم استُعملت اللفظة في الحِفْظ والستر. قال ابن عطية: لأن الناس (¬2) إنما تحفظ طفلًا أو ما أشبهه، بذلك (¬3) الموضع من الثوب (¬4). وفي الحديث: نصٌّ على تحريم الجمع بين الأختين، كانتا في عَقْد واحد، أو عَقْدين. وفيه: دليلٌ على تحريم الرضاع في (¬5) النسب، وإن كان ذلك ثابتًا بَنصِّ القرآن، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 299 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا" (¬1). ¬
* الشرح: هذا الحديث قيل: إنه من المتواتر، وقد خُصَّ به عمومُ قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بعدَ حصرِ المحرَّمات الثلاثَ عشرةَ -أعني: في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]-؛ فإنّ هذه الآية اشتملت على تحريم سبع من النسب، وستٍّ من (¬1) رضاع (¬2) وصِهْر، ولا خلاف في تخصيص هذا العموم بهذا الحديث، وذلك دليلٌ على تخصيص عمومِ الكتابِ بالسنة. وظاهرُ الحديث يقتضي تحريمَ الجمع بينهما معًا، أو مرتبتين (¬3)، ويؤيد ذلك ما جاء في الراوية الأخرى لهذا (¬4) الحديث: "لا تُنْكَحُ الصُّغْرَى عَلَى الكُبْرَى، وَلَا الكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى" (¬5)، فهذا نصٌّ في ¬
تحريم الجمعِ بينَهما على صفة الترتيب، هذا على الجملة. وأما على التفصيل: فنقول: الفروجُ لا تُستباح في الشرع إلا بنكاح، أو ملكِ يمينٍ، ما لم يمنعْ من ذلك مانعٌ، والمانعُ قسمان: متأبدٌ، وغيرُ متأبدٍ (¬1)، فالمتأبدُ خمسة أقسام: أحدها: يرجع إلى تحريم العين، وقد تقدم ذكرُه، وباقي الأقسام يرجع التحريم فيها لعلَّةٍ تطرأ (¬2)؛ كالرضاع، والصهر، والنكاح، واللعان، والتزويج في العدة. فأمّا (¬3) الصهر، فتزويج الرجلِ امرأةَ أبيه، والعكسُ (¬4)، فهذان يحرمان بالعقد. والثالث: تزويجُ الربيبة، وهذا لا يحرمُ بالعَقْد، ولا خلافَ في كلِّ ما تقدم. والرابعُ: أُمُّ الزوجة، والجمهورُ على أنها تحرُم بالعَقْد على البنت، وسببُ الخلاف في هذا (¬5): قولُه تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} إلى ¬
قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، فمن جعل (اللاتي) نعتًا للنساء المقدَّمات (¬1) والمتأخرات، اشترطَ الدخولَ في البنت، ومن جعله خاصًّا بالمتأخرات، وهو قولُ الجمهور، حَرَّمَ البنتَ (¬2) بالعقد (¬3) على الأم (¬4) (¬5)، وحجتُهم أمران: أحدهما: أن الاستثناءاتِ والشروطَ عند الأصوليين تعود إلى أقربِ المذكورات، وإن كان قد اختُلف في ذلك، فليكنِ النعتُ كذلك، وكذلك (¬6) أصلُ النحاة في عود الضمائر. والثاني: أن القاعدة عند النحاة: أنه إذا اختلف العامل، لم يجز الجمعُ بين المنعوتات، والعامل هنا قد اختلف؛ لأن النساء الأُوَلَ مخفوضاتٌ بالإضافة، والأُخرَ مخفوضاتٌ بحرف الجر. وأما الملاعَنَة، فيتأبد تحريمها على مَنْ لاعَنَها عندَنا، وخالفَ فيه غيرُنا. وكذلك المتزوجةُ في العِدَّةِ مختلَفٌ في تأبيد تحريمها أيضًا. وأما غيرُ المتأبد، فمنه ما يرجعُ إلى العَدَد؛ كنكاح الخامسةِ، ¬
ومنه ما يرجع إلى الجَمْع؛ كالجمع بين الأُختين، والجمعِ بين المرأةِ وعمتها، ومنه ما يرجع إلى غير ذلك؛ كالمجوسيةِ، والمرتدَّةِ، وذاتِ الزوج، وشبهِ ذلك. قال الإمام: فأما من يحرم الجمعُ بينهن من النساء بالنكاح، فيعقد على وجهين: أحدهما: أن يقال: كل امرأتين بينهما نسبٌ، لو كانت إحداهما ذكرًا، حرمت على الأخرى، فإنه لا يُجمع بينَهما (¬1)، وإن شئت أسقطت ذِكْرَ (بينهما نسبٌ)، وقلتَ (¬2) بعد قولك (¬3): لو كانت إحداهما ذكرًا (¬4)، حرمت عليه الأخرى من الطرفين جميعًا، وفائدة هذا الاحتراز بزيادة: بينهما نسبٌ، أو (¬5) من الطرفين جميعًا، مسألةُ نكاحِ المرأةِ وربيبتِها؛ فإن الجمعَ بينهما جائز، ولو (¬6) قدرت امرأةَ الأب رجلًا، لحلَّتْ له الأخرى؛ لأنها أجنبية؛ لأن التحريم لا يدور من الطرفين جميعًا، وهذا حكم النكاح، ويدخل فيه عمةُ الأب، وخالتُه، وشبهُ ¬
ذلك من الأباعد؛ لأن العقد يشتمل على ذلك (¬1). وأما الجمعُ بملك اليمينِ بين مَنْ ذكرنا تحريمَ الجمع بينهما بالنكاح، ففيه اختلافٌ، فقيل: لا يُجمع بين الأختين في ملكِ (¬2) اليمين (¬3)، وهو جُلُّ أقوال الناس؛ لقول اللَّه (¬4) تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. وقيل: ذلك بخلاف النكاح؛ لقول اللَّه تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، فعمَّ، فصار سببُ الخلاف أيُّ العمومين أولى أن يقدم؟ وأيُّ الآيتين أولى أن تُخَصَّ به الأخرى؛ والأصح: تقديمُ آية النساء، والتخصيصُ بها؛ لأنها وردت في تعين المحرمات، وتفصيلهنَّ، فكانت أَوْلى من الآية التي وردتْ في مدح قوم حفظوا فروجَهم، إلا عَمَّا (¬5) أُبيح لهم، وأيضًا: فإن آيةَ ملكِ اليمين دخلَها التخصيصُ باتفاق؛ إذ لا يُباح له بملك (¬6) اليمين ذواتُ محارمه اللاتي (¬7) يصحُّ له (¬8) ملكُه ¬
لهنَّ، وما دخلَه التخصيصُ من العموم ضعيف (¬1)، واللَّه أعلم (¬2). سؤال: إن قلت: هل يجوز للرجل أن يتزوج خالةَ عمته، أو عمةَ خالته؟ قلتُ: أما الأولى: فإن كانت (¬3) العمةُ أختَ أبٍ لأم أو شقيقة، فلا تحل خالةُ العمة؛ لأنها أختُ الجدة، وإن كانت العمةُ إنما هي أختٌ (¬4) لأبٍ فقط، فخالتُها أجنبية من بني أخيها، فتحلُّ للرجال (¬5)، ويجمع بينها (¬6) وبين النساء. وأما الثانيةُ: وهي عمةُ الخالة، فإن كانت الخالة أختَ أم لأب (¬7)، فعمتها حرامٌ؛ لأنها أختُ جد، وإن كانت الخالةُ أختًا لأم فقط (¬8)، فعمتُها أجنبية من بني أخيها، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 300 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ (¬1): مَا اسْتَحْلَلْتم بِهِ الفُرُوجَ" (¬2). ¬
* الشرح: اختلفوا (¬1) في المراد بالشروط هنا، فحملَها الشافعيُّ وجماعةٌ على الشروط التي لا تنافي مقتضى النكاح (¬2)، بل تكون من مقتضياته؛ كاشتراط العِشْرَة بالمعروف (¬3)، والإنفاقِ عليها، وكسوتها، وسُكْناها بالمعروف، وأن (¬4) لا تخرج من بيتها إلابإذنه، ولا تتصرف (¬5) في ماله إلا برضاه، ونحو ذلك، واستضعفه بعضُ المتأخرين؛ لعدم تأثير الشرط في إيجاب ذلك. وذهب أحمدُ بنُ حنبلٍ، وجماعة: إلى إيجاب (¬6) الوفاء بالشروط مطلقًا؛ لظاهر هذا الحديث، وإن لم يكن من مقتضى العقد. وقال بعض أصحابنا: كلُّ شرطٍ بترك فعلٍ لو لم يُشترط، لكان في الحكم جائزًا، فإنه لا يُفسد النكاحَ؛ مثلَ: أن يشترط أن لا يتزوجَ ¬
عليها (¬1)، أو (¬2) لا يتسرَّى (¬3)، وأن لا يخرجَها من بلدها، وما أشبة ذلك من الأمور المباحة، وكلُّ شرط بتركِ فعلٍ لو لم يُشترط، كان واجبًا في الحكم، فإنه يُفسد النكاح (¬4)، مثل (¬5): أن يشترط (¬6) أن لا نفقةَ لها، وأن لا يطأها، أو غير ذلك من الأمور الواجبة (¬7). ق (¬8): ومقتضى الحديث: أن لفظة "أَحقُّ الشروطِ" تقتضي أن تكون بعضُ الشروط تقتضي (¬9) الوفاءَ، وبعضها أشدّ اقتضاءً له، والشروط التي تقتضيها العقودُ مستويةٌ في وجوب الوفاء، ويترجَّح (¬10) على ما عدا النكاح الشروطُ المتعلقةُ بالنكاح من جهة حرمة الأبضاع، وتأكيدِ استحلالها، واللَّه أعلم (¬11). ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 301 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَر -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عَنِ (¬1) الشِّغَار. وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، و (¬2) لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ (¬3). ¬
* الشرح: الشِّغار: -بكسر الشين وبالغين المعجمة-، وأصله في اللغة: الرَّفْعُ، يقال: شَغَرَ الكلبُ: إذا رفعَ رِجْلَهُ ليبولَ، وزعم بعضُهم (¬1) أنه إنما يقع ذلك من الكلب عند بلوغه؛ كأنه قال: لا ترفع رجلَ بنتي حتى أرفعَ رجلَ بنتك. وقيل: هو من شَغَرَ البلدُ: إذا خلا؛ لخلوه عن الصداق. والشَّغَرُ -أيضًا-: البُعد، ومنه قولهم: بلا شاغِر: إذا كان بعيدًا من الناصر والسلطان، وهو قول الفراء. وقال أبو زيد: يقال: اشتغر الأمر به؛ أي: اتسعَ وعَظُمَ (¬2). وقال غيره: شَغَرَتِ المرأةُ: إذا رفعت رجليها عندَ (¬3) الجماع. ¬
قال ابن قتيبة: كلُّ واحد منهما يَشْغَر عند الجماع. قالوا: وكان الشغارُ من نكاح الجاهلية، ثم أجمع العلماءُ على النهي عنه، وعلَّلَه بعضُهم بأنه يصير المعقودُ به معقودًا عليه؛ لأن الفرجين كلُّ واحد منهما معقودٌ به، ومعقودٌ عليه. قال بعضهم: وعلى هذه الطريقة يكون فسادُه راجعًا إلى عَقْده، ويُفسخ على هذا بعد الدخول وقبلَه. وزعم بعضهم أن ذلك [راجع] لفساد الصَّداق، ولأنه كمن (¬1) تزوج بغير صداق، وعلى هذا يُمضى بالدخول على أحد الطريقين عندنا في هذا الأصل. وقد روى (¬2) ابن زياد عن مالك: أنه يفوت بالدخول. قال الإمام: وتأوَّلَ بعضُ شيوخنا أن نخرج (¬3) من مذهبنا فيه قولًا ثالثًا: أنه بفيته (¬4) العقد بها على أحد الأقاويل (¬5) (¬6) فيما (¬7) فسد لصداقه ¬
أنه (¬1) (¬2) يفوت بالعقد (¬3)، وأن الفسخ (¬4) فيه قبلَ الدخول استحسانٌ (¬5) واحتياط (¬6)، وأبطلَه الشافعي مطلقًا، وحكاه الخطابي عن أحمد (¬7)، وإسحاق، وأبي عبيد (¬8). وقال جماعة: يصحُّ بمهر المِثْل، وهو مذهب أبي حنيفة، وحُكي عن عطاء، والزهري، والليث، وهو (¬9) رواية عن أحمد، وإسحاق، وبه قال أبو ثور، وابن جرير. وأجمعوا على أن غيرَ البنات من الأخوات، وبنات الأخ، والعمات، وبنات الأعمام، والإماء كالبنات في هذا (¬10)؛ لكنه عندنا على قسمين: صريح الشغار، ووجه الشغار. ¬
فالأولُ: كقوله: زَوِّجْني ابنتَكَ على أن أزوجك ابنتي ولا مهر بيننا. والثاني: أن يقول له: زوجني ابنتك بمئة على أن أزوجك ابنتي (¬1) بمئة، أو بخمسين، قال (¬2) في "الكتاب": ولا خيرَ فيه، وهو من وجه الشغار، ويُفسخ قبلَ البناء، ويثبتُ بعدَه، ويكون لكلِّ واحدة الأكثرُ من التسمية، أو صداقُ المثل، وليس هذا بصريح الشغار؛ لدخول الصداق فيه، إلا أن بعض الصداق لا يجوز، فصار كمن نكحَ بمئةِ دينار، بخمرٍ (¬3)، أو (¬4) بمئة نقدًا، أو بمئة إلى موت أو فراق، فإنه يُفسخ قبلَ البناء، ويثبتُ بعدَه، ويكون لها صداقُ المثل، إلا أن يكون أقلَّ من المئة النقد، فلا ينقص من المئة شيء (¬5). ع: واختلف إذا سَمَّى صداقًا، فكرهه مالكٌ، ورآه من باب الشغار، ووجهه، لا من صريحه، وبكراهته ومنعِهِ قال الشافعي وغيره، لكنهم فرقوا بينه وبين صريحه (¬6)، فقالوا: إذا فات بالبناء، مضى، وكان لها صداقُ المثل. ¬
وقال أحمد بن حنبل: إذا كان في الشغار صداقٌ، فليس بشغار، وهو قولُ الكوفيين، قالوا (¬1): ولها ما سمّى، وقاله ابن حازم من أصحابنا (¬2)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 302 - عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عِنْ نِكَاحِ المُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ (¬1). ¬
* الشرح: أصل المتعة في اللغة: الانتفاعُ، تَمَتَّعْتُ بكذا، واستمتعتُ به، بمعنى، والاسمُ المتعةُ. قال الجوهري: ومنه متعةُ النكاح، ومتعةُ الطلاق، ومتعةُ الحج؛ لأنه انتفاعٌ، وأَمْتَعَهُ اللَّهُ بكذا، ومَتَّعَهُ، بمعنى (¬1) (¬2). والمراد بالمتعة: تزوُّجُ (¬3) المرأةِ إلى أَجَل، وقد كان (¬4) مباحًا، ثم نُسخ. ق: والروايات تدل على أنه أُبيح بعدَ النهي عنه، ثم نُسخت الإباحة؛ فإن هذا الحديث عن علي -رضي اللَّه عنه- يدل على النهيَ عنها يومَ خيبر. ووردت (¬5) إباحتُها عامَ (¬6) الفتح، ثم نُهي عنها، وذلك بعدَ يوم خيبر. ¬
وقد قيل: إن ابن عباس رجعَ عن القول بإباحتها بعدما كان يقول به. وفقهاءُ الأمصار كلُّهم على المنعِ، وما حكاهُ بعضُ الحنفية عن مالكٍ من الجواز فهو خطأ قطعًا. وأكثرُ الفقهاء على الاقتصار في التحريم على العقد المؤقت، وعدَّاه مالكٌ رحمه اللَّه بالمعنى (¬1) إلى توقيت الحلّ، وإن (¬2) لم يكن في عقد، فقال: إذا (¬3) عَلَّقَ طلاقَ امرأته بوقت (¬4) لابدَّ من مجيئه، وقعَ عليه الطلاقُ (¬5). وعللهُ أصحابه: بأن ذلك تأقيت للحل، وجعلوه في معنى نكاح المتعة (¬6). ح: والصواب المختار: أن التحريمَ والإباحة (¬7) كانا مرتين، وكانت حلالًا قبل خيبر، ثم حُرِمت يوم خيبر (¬8)، ثم (¬9) أُبيحت يومَ فتح ¬
مكة، وهو يوم أوطاس؛ لاتصالهما، ثم حُرِمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، واستمرّ التحريم. ثم قال: ولا يجوز أن يقال: إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر، والتحريم يوم خيبر للتأييد، وإن الذي كان يوم الفتح مجردُ توكيد التحريم من غير تقدُّم إباحةٍ يومَ الفتح؛ كما اختاره المازريُّ، والقاضي عياض، لأن الروايات التي ذكرها مسلم في الإباحة يوم الفتح صريحةٌ في ذلك، فلا يجوز إسقاطها، ولا مانع يمنع تكرر الإباحة. ع: واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحًا إلى أجل [لا ميراث فيه، وفراقها يحصل بانقضاء الأجل (¬1)] من غير (¬2) طلاق، ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء، إلا الروافض. قال: وأجمعوا على أنه متى وقع نكاح المتعة الآن، حُكم ببطلانه، سواء كان قبلَ الدخول، أو بعده، إلا ما ذُكر عن زفر. واختلف أصحاب مالك هل يُحَدُّ الواطىء فيه، أم لا؟ ومذهب الشافعي: أنه لا يُحد؛ لشبهة العقد، وشبهةِ الخلاف. وأجمعوا على أن من نكح نكاحًا مطلقًا، ونيته أن لا يمكثَ (¬3) معها إلا مدةً نواها، فنكاحُه صحيحٌ حلالٌ، وليس نكاحَ متعة، وإنما ¬
نكاحُ المتعة ما وقع بالشرط المذكور. ولكن قال مالك: ليس هذا من أخلاق الناس. وشذ الأوزاعي، فقال: هو نكاح مُتعة، ولا خيرَ فيه (¬1). وأما لحمُ (¬2) الحمر الأهلية، فظاهرُ النهي فيها التحريمُ، وسيأتي الكلامُ عليها في باب: الأطعمة إن شاء اللَّه تعالى. * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع 303 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأذَنَ"، قَالُوا (¬1): يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: "أَنْ تَسْكُتَ" (¬2). ¬
* الشرح: المرادُ بالأيّم هنا: الثَّيِّبُ خاصَّة، وإن كان ذلك يُطلق على البِكْر (¬1)، هذا هو الصحيحُ المختار، وجمعُ الأيّم: أيامى (¬2)، وأصلُه (¬3) أَيائِمُ فقلبت، وهم الذين لا أزواجَ لهم من الرجال والنساء، يُقال: آمَتِ المرأةُ من زوجها تَئِيمُ أَيْمًا وأَيْمَةً وأُيومًا، وفي الحديث: "كانَ يتعوَّذُ من الأَيْمَةِ والعَيْمَةِ والغَيْمَةِ (¬4) "، فالأيمة: طولُ العزْبة، والعَيْمَة: شدةُ الشوقِ إلى اللبن، والغَيْمَة: شدةُ العطش، قال الشاعر: لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صَاحَبٍ ... رَجَاءَ (¬5) سُلَيْمَى أَنْ تَئِيمَ كَمَا إِمْتُ (¬6) ¬
وقد اختلف في معنى الأيم هنا، مع اتفاق أهل (¬1) اللغة على أنه ينطلق على كل امرأةٍ لا زوجَ لها، صغيرةً، أو كبيرة، أو بكرًا، أو ثيبًا. ثم اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث: فذهبَ علماءُ الحجاز والفقهاءُ كافَّةً: إلى أن المراد به (¬2) هاهنا: الثيبُ التي فارقها زوجُها، واستدلُّوا (¬3) بأنه أكثرُ استعمالًا فيمن فارقه زوجُه بموت أو طلاق، وبرواية الأثبات (¬4) -أيضًا- فيه (¬5) الثيب مفسرًا، وبمقابلته (¬6) بقوله: "والبِكْرُ حتى تُسْتَأْذَنَ (¬7) "، فثبتَ أن الأَوْلى (¬8): مَنْ عدا البكر، وهي الثيب، وإنه لو كان المرادُ بالأيم كلَّ مَنْ لا زوج لها من الأبكار وغيرِهن، وأن جميعهن أحقُّ بأنفسهن، لم يكن لتفصيل الأيم من البكر معنًى (¬9). وقوله: "كيفَ إذنهُا؟ " راجعٌ إلى البكرِ، واستئذانهُا عندَنا على ¬
طريق الاستحباب دونَ الوجوب، فحمل (¬1) أصحابُنا النهيَ على الكراهة دونَ التحريم، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن أبي ليلى، وغيرهم، وقد يُستلوح هذا من تفريقه -عليه الصلاة والسلام- بينَ الاستئذان الذي هو طلبُ الإذن، والاستئمار الذي هو طلبُ الأمر، فأسند (¬2) الاستئمار للثيب، حتى كانت مالكةً لأمرها اتفاقًا (¬3)، وأسند الاستئذان إلى البكر حيثُ (¬4) لم تكن كذلك؛ إذ كان الأمرُ أوكدَ (¬5) من الإذن؛ إذ يشترط في الأمر ما لا يشترط في الإذن. وقال الأوزاعي، وأبو حنيفة، وغيره من الكوفيين: يجب استئذانُ كلِّ بكرِ بالغِ. قال القاضي إسماعيلُ من أصحابنا: في الحديث معنيان: أحدُهما: أن الأيامي كلَّهن أحقُّ بأنفسهنَّ (¬6) من أوليائهنَّ، وهم مَنْ عدا الأب من الأولياء. والثاني: تعليمُ الناس كيف تُستأذَنُ البكر. ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أن تسكتَ": اختُلف في مذهبنا، هل من شرط ذلك إعلامُها بأن إذنها سكوتُها، أم لا؟ مع اتفاقهم على استحبابِ ذلك، وهو (¬1) حكمُ ذاتِ الأبِ عند مَنْ تقدَّم، واليتيمةِ عند الجمهور. واختلف قولُ الشافعي في اشتراط النطق في اليتيمة، بخلاف ذاتِ الأب (¬2). قال (¬3) الخطابي: وذاتُ الجدّ، وحكاه عن الشافعي أيضًا، واللَّه أعلم (¬4). * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العاشر 304 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّه عَنْهَا-، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأةُ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ (¬1) إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ (¬2): كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ، فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلَاقِي، فتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوبِ، فتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: "أترِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟! لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"، قَالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بنُ سعيدٍ (¬3) بِالبَابِ يَنتظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: يَا أَبَا بَكْرٍ! أَلَا تَسْمَعُ هَذِهِ مَا (¬4) تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)؟!. ¬
* الشرح: امرأةُ رفاعةَ هذه اسمها: تَميمةُ -بفتح المثناة فوق وكسر الميم- ¬
بنتُ وَهْبٍ (¬1)، ورِفاعة -بكسر الراء وبالفاء وبالعين (¬2) المهملة-، والقُرظِيُّ -بضم القاف وفتح الواو والظاء (¬3) المشالة- (¬4). والزَّبير -بفتح الزاي وكسر الباء (¬5) الموحدة بعدها المثناة تحت- بلا خلاف، وهو الزَّبِيرُ بنُ باطا، ويقال: باطيا، وكان عبدُ الرحمنِ صحابيًا، والزَّبير قُتِلَ يهوديًا في غزوة بني قريظة، هكذا ذكره ابنُ (¬6) عبدِ البر، والمحققون. ح: وقال ابن (¬7) منده، وأبو نعيم الأصبهاني، في كتابيهما في "معرفة الصحابة": إنما هو عبد الرحمن بنُ الزبيرِ بنِ زيدِ (¬8) بنِ أميّةَ ابنِ زيدِ بنِ مالكِ بن عوفِ (¬9) بنِ عمرِوِ (¬10) بنِ عوفِ بنِ مالكِ بنِ ¬
الأوس، والصوابُ الأولُ (¬1). وقولها: "فَبَتَّ طلاقي": البتات أَعَمُّ من أن يكون بإرسال الطلقاتِ الثلاثِ (¬2)، أو بآخر (¬3) طلقة بقيتْ، أو بكناية من الكنايات المشعِرَة بانقطاع العِصْمة، كَبَتَّة، وبَتْلَة (¬4)، أو بائِن، والحديثُ يحتمل ذلك كلَّه، فلا يكون في ذلك دليل لمن استدلَّ على أحد هذه الأنواع بهذا الحديث؛ لأنه إنما دلَّ على مطلَقِ البتِّ، والدالُّ على المطلق لا يدلّ على أحد (¬5) قيديه (¬6) بعينه، وليس في اللفظ عموم، ولا إشعارٌ بأحد هذه المعاني على التعيين، وإنما يؤخذ (¬7) ذلك من أحاديث أُخر تبينُ المرادَ منه (¬8). وقولها: "هُدْبَة الثوبِ": هو بضم الهاء وإسكان الدال المهملة بعدها الموحدة. ¬
قال الجوهري: وضمُّ الدال لغةٌ، وهي الخملة (¬1) (¬2)؛ أعني: حاشية الثوب التي لم تُنسج (¬3)، فيحتمل أن تكون شبهته به؛ لصغره، أو (¬4) لعدمِ انتشاره، وهو الظاهر؛ لأنه يبعد أن يبلغَ من الصغر إلى حدٍّ لا تغيبُ منه الحشفةُ أو مقدارُها الذي يحصُل به التحليل. ق (¬5): وقد يَستدل بذلك مَنْ يشترط الانتشارَ في التحليل (¬6). قال العلماء: وتبسُّمُه -عليه الصلاة والسلام- للتعجُّب من جهرِها (¬7) وتصريحها بهذا الذي تستحيي النساءُ منه في العادة، ولرغبتها في زوجِها الأول، وكراهةِ (¬8) الثاني. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا، حَتَّى تذوقي عُسيلَتَه، ويذوقَ عُسَيلَتَك": تصغير عَسَلَة، وهو كنايةٌ عن (¬9) الجماع، شَبَّهَ لذّتها بلذةِ العسل وحلاوته (¬10). ¬
وقيل: أنّث العسل؛ لأن فيه لغتين: التذكير والتأنيث. وقيل: أنثها (¬1) على إرادةِ النطفة، واستُضعف هذا؛ لأن الإنزال لا يُشترط؛ خلافًا للحسن البصري. والحديثُ نصٌّ أن المبتوتةَ لا تحلُّ لزوجها الأول، حتى تنكحَ زوجًا يطؤها، ثم يفارقها، وتنقضي (¬2) عدَّتُها، وبذلك قال العلماء كافة؛ من الصحابة، والتابعين، فمَنْ بعدهم. وانفرد سعيدُ بنُ المسيب -رضي اللَّه عنه- فقال: إذا عقد الثاني عليها، ثم فارقها، حلّت للأول، ولا يُشترط وطء الثاني؛ لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، والنكاحُ حقيقةٌ في العقد، على الصحيح. وأجاب الجمهور: بأن هذا الحديث مخصِّص لعمومِ الآية، ومبين (¬3) للمراد بها، قالوا: ولعل الحديث لم يبلغِ ابنَ المسيب، واللَّه أعلم (¬4). * * * ¬
الحديث الحادي عشر
الحديث الحادي عشر 305 - عَنْ أَنسَ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ على الثَّيِّبِ (¬1)، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا (¬2)، وَقَسَمَ (¬3)، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبِ عَلَى البِكْرِ (¬4)، أَقَامَ (¬5) عِنْدَهَا ثَلَاثًا (¬6)، ثُمَّ قَسَمَ. قَالَ أَبُو قِلَابةَ: وَلَوْ شِئْتُ، لَقُلْتُ (¬7): إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬8) ¬
* الشرح: قد (¬1) تقدم أن الصحابيّ إذا قال: السنةُ كذا: أنه محمولٌ عندنا على سُنَّته -عليه الصلاة والسلام-؛ خلافًا لقوم، والسُّنة أصلُها في اللغة: الطريقةُ، ومنه: سَنَنُ الطريقِ: الذي يُمشى فيه، غير (¬2) أنها في عُرف الاستعمال صارت موضوعةً لطريقه (¬3) -عليه الصلاة والسلام- في الشريعة، فمن رجَّحَ اللغةَ، توقَّف؛ لعدم تعيين (¬4) ذلك النوعِ من السنَّةِ التي تقتضيها اللغة، ومن لاحظ النقل، حملَه على الشريعة. ¬
قال الشيخ شهابُ الدين (¬1) القرافي رحمه اللَّه تعالى: وللعلماء خلافٌ في لفظ السّنة: فمنهم من يقول: السنّةُ: هي المندوبُ، ولذلك تُذكر قُبالةَ (¬2) الفَرْضِ، فقال: فرضُ الصلاة كذا، وسُنتها كذا. ومنهم من يقول: السّنَّة ما ثبت من قِبَلِهِ -عليه الصلاة والسلام- بقولٍ، أو فعل، غير القرآن، كان (¬3) واجبًا، أو سنَّةُ، فيقال (¬4): من السنَّةِ كذا، ويريد به (¬5): وجبَ بالسنَّة، ولذلك (¬6) يقول الشافعي: الخِتانُ من السُّنَّة، وهو عنده (¬7) واجب. ومنهم من يقول: السنَّةُ: ما فعله -عليه الصلاة والسلام-، وواظب عليه. قلت: وزاد بعضُهم: وأظهرَه في الجماعة، ولم يدلَّ دليل على وجوبه، فتحرز بالأول: عن (¬8) ركعتي الفجر، على القول بأنها من ¬
الرغائب، لا من السنن؛ إذ كان يصليها (¬1) -عليه الصلاة والسلام- في بيته، وتحرز (¬2) بالثاني: من الواجبات مطلقًا، واللَّه أعلم. ق: وقول أبي قلابة: "لو شئتُ، لقلت (¬3): إِنَّ أنسًا رفعَه للنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-" يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكونَ ظنَّ ذلك مرفوعًا لفظًا من أنس، فتحرَّزَ عن (¬4) ذلك تورُّعًا. والثاني: أن يكون رأى قولَ أنس: "من السنَّة" في حكم المرفوع، فلو (¬5) شاء، لعبر (¬6) عنه أنه مرفوع، على حسب ما اعتقده من أنه في حكم المرفوع. والأولُ أقرب؛ لأن قوله: "من السنَّة" يقتضي أن يكون مرفوعًا بطريق اجتهادي محتمل (¬7)، وقوله: "رفعه" نصٌّ في رفعه، وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهرٌ محتمل، إلى ما هو نصٌّ غيرُ (¬8) محتمل (¬9). ¬
قلت: والمرفوعُ في اصطلاح المحدثين: هو ما أُضيف إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصةً، لا يقع مطلقه على غيره، متصلًا كان، أو منقطعًا. وقيل: هو ما أخبر به الصحابيُّ عن فَعْل النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أو قوله. ولتعلمْ: أن هذه الإقامةَ محمولةٌ (¬1) على ما (¬2) إذا كانت البكرُ أو الثيبُ متجدِّدَةً على نكاح امرأةٍ قبلها؛ كما قد (¬3) يفهم من قوله: "ثم قَسَمَ (¬4) "؛ إذ القسمةُ لا تكون في زوجة واحدة، فإذا استجدَّ نكاح بكر، أقام عندها سَبْعًا، أو ثيبًا ثلاثًا، ثم لا يقضي الباقيات هذه المدة، بل يستأنف القَسْم بعدَ ذلك، هذا مذهبنا، ومذهب الجمهور. و (¬5) قال الخطابي: وقال أصحابُ الرأي: البكرُ والثيبُ في القسم سواءٌ، وهو قول الحكم، وحماد. وقال الأوزاعي: إذا تزوج البكرَ على الثيب، مكث ثلاثًا، وإذا عكس، أقام يومين، واللَّه أعلم (¬6). والحرَّةُ والأَمَةُ في ذلك سواء؛ لأن العلَّة: الأُلفةُ والإيناس، ¬
وإزالةُ الوحشة والحشمة، والطبعُ لا يتغاير (¬1) بالرق. وهل ذلك حق للجديدة، أو للزوج، أو لهما؟ خلافٌ عندنا. ثم في وجوبه واستحبابه خلاف -أيضًا- لأصحابنا. وإذا قلنا: إنه حقٌّ لها (¬2)، فهل يُقضى به، أو لا؟ خلاف أيضًا. وشذّ بعض أصحابنا، فقال: إن ذلك حقٌّ على الزوج، وإن لم يكن له امرأةٌ سواها. وأفرطَ بعضهم -أيضًا-، فجعل مقامه عندها عُذرًا (¬3) في إسقاط الجمعة. ق: وهذا ساقطٌ منافٍ للقواعد؛ فإن (¬4) مثلَ هذا من الآداب والسنن لا يُترك له الواجبُ، ولما شعر بهذا بعضُ المتأخرين، وأنه لا يصلح أن يكون عذرًا، توهم أن قائله يرى الجمعةَ فرضَ كفاية، وهو فاسدٌ جدًا؛ لأن قولَ هذا القائل متردِّدٌ، فيحتمل أن يكون جعلَه عذرًا، وأخطأ (¬5) في ذلك، وتخطئتُه في هذا أولى من تخطئتِه فيما دلَّتْ ¬
عليه النصوصُ وعملُ الأمة من وجوبِ الجمعةِ على الأعيان (¬1). قلت: وفي المسألة فروعٌ موضعُها كتبُ الفقه. * * * ¬
الحديث الثاني عشر
الحديث الثاني عشر (¬1) 306 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْم اللَّه، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ في ذَلِكَ الوَقْتِ (¬2)، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا" (¬3). ¬
* الشرح: الضميرُ في (أحدهم) مما يفسره سياقُ الكلام؛ كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، و {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، وهو كثير (¬1)، وقد تقدم نحوُ هذا. وفي الحديث: دليل على استحبابِ التسميةِ والدعاءِ المذكورِ في ابتداء الجماع. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لم يضرَّه الشيطانُ (¬2) ": ق (¬3): يحتمل أن يؤخذ عامًّا يدخل تحته الضررُ الديني، ويحتمل أن يؤخذ خاصًّا بالنسبة إلى الضرر البدني، بمعنى: أن الشيطانَ لا يتخبطه، ولا يُداخله بما يضرُّ عقلَه أو بدنه، وهذا أقربُ، وإن كان ¬
التخصيصُ على خلاف الأصل؛ لأنا إذا حملناه (¬1) على العموم، اقتضى ذلك أن يكون الولد معصومًا عن المعاصي كلِّها، وقد لا يتفق ذلك، ويعزُّ وجودُه، ولابدَّ من وقوع ما أخبر به -صلى اللَّه عليه وسلم-، أما إذا حملناه على أمر الضرر في العقل أو البدن، فلا يمتنع ذلك، ولا يدلُّ (¬2) دليلٌ على وجود خلافه (¬3) (¬4). ع (¬5): قيل: لا يطعن فيه (¬6) عند ولادته غيره (¬7). قلت: وهذا التأويل تبعده لفظة: "أبدًا". ع: ولم يحمله أحدٌ على العموم في جميع الضرر والوسوسة والإغراء (¬8). قلت: يؤيد ما اختاره ق من عدم العموم، واللَّه أعلم (¬9). * * * ¬
الحديث الثالث عشر
الحديث الثالث عشر (¬1) 307 - عَنْ عُقْبةَ بنِ عَامِرٍ (¬2) -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاء"، فَقَالَ رَجُلٌ (¬3): يَا رَسولَ اللَّه! أَرَأَيْتَ (¬4) الحَمْوَ؟ قال: "الحَمْوُ: المَوْتُ" (¬5). وَلِمُسْلِم عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنْ ابنِ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ اللَّيْثَ يَقُولُ: الحَمْوُ: أَخو الزَّوْجِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أقارِبِ الزَّوْجِ، كابنِ (¬6) العَمِّ وَنَحْوِه (¬7). ¬
* الشرح: "إياكم والدخولَ (¬1) ": منصوبان بإضمار فعلين، والتقدير: وإياكم (¬2)، باعدوا، واتقوا الدخولَ على النساء، وهذه مسألةُ: إياك والأسَدَ، عندَ النحاة، فكلُّ ما جاءك من هذا الباب، فهو على هذا التقدير. وأما الحمو، ففيه ستُّ لغات: إحداها: أن يكون في حال الرفع بالواو، وفي حال النصب بالألف، وفي الجر بالياء، فتقول: هذا حموكَ، ورأيت حماكَ، ومررت بحميكَ. والثانية: أن يكون من باب: دلْوٍ. والثالثة: أن يكون من باب: عَصا (¬3). ¬
والرابعة: أن يكون من باب: يد. والخامسة: أن يكون من باب: خَبْءٍ. والسادسة: أن يكون من باب: رشاء (¬1). وعُرفُ الناسِ فيه اليومَ أنه أبو الزوج، ولا خلافَ في جواز دخوله على زوجة ابنه؛ لأنه محرمٌ منها. وكأن تفسيرَ الليث له؛ لقصدِ إزالةِ هذا الإشكال، فحملَه على (¬2) المحارم بمنع الخلوة بالنساء، فهذا الحديث نصٌّ في تحريم (¬3) الخلوة بالأجنبياتِ وعمومِ النساء، يدخل تحته الشابَّاتُ، والعُجُز (¬4)، والمعنى يقتضيه أيضًا؛ فإن لكلّ ساقطةٍ لاقطةً، إلا أنه مخصوصٌ بغير المحارم، وعامٌّ بالنسبة إلى الأجنبيات، ويُخَصُّ (¬5) أيضًا الدخولُ بدخولٍ يفضي إلى الخلوة بهنَّ دونَ غيره (¬6). ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "الحَمْوُ (¬1) المَوْتِ": ق (¬2): إن كان المرادُ بالحمو: المحرم؛ كأبي الزوج، فكأَن المعنى: لابدَّ من إباحة دخولِه؛ كما أنه لابدَّ من الموت. قلت: وهذا بعيدٌ من سياق الحديث، واللَّه أعلم. وإن حُمل على من ليس بمحرم، فيكون هذا الكلام خرجَ مخرجَ التغليظ والدعاء؛ كأَنَّه -عليه الصلاة والسلام- فهمَ من السائلِ قصدَ الترخُّصِ بدخول ابنِ الأخ، وابنِ العم، ونحوِهما (¬3) ممن ليس بمحرمَ، فأغلظَ -عليه الصلاة والسلام- عليه؛ لقصده تحليلَ المحرم؛ بأن جعلَ دخولَ الموت عوضًا من دخوله؛ زَجْرًا عن هذا الترخُّص، على سبيل التفاؤل أو الدعاء؛ كأنه يقول: من قصدَ ذلك، فليكن الموتُ في دخوله عوضًا من دخول الحمو الذي قصد هذا دخوله. ويجوز أنْ يكون شَبَّه الحمْوَ بالموت؛ باعتبار كراهته لدخوله، وشَبَّه ذلك بكراهة دخول الموت، واللَّه أعلم (¬4) (¬5). ¬
باب الصداق
باب الصداق الحديث الأول (¬1) 308 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا (¬2). ¬
* الشرح: يقال: صَداقٌ، وصِداق -بفتح الصاد وكسرها-، وهو مَهْرُ المرأة، وكذلك الصَّدُقَة -بضم الدال-، ومنه قوله تعالى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، والصُّدْقَة مثلُه -بالضم وتسكين الدال-، وقد أَصْدَقْتُ المرأةَ، إذا سَمَّيْتُ لها صَداقًا (¬1). وقوله: "وجعلَ عتقَها صداقَها": هذا مما عَدَّهُ العلماءُ من خصائصه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن له -عليه الصلاة والسلام- خصائصَ في النكاح وغيرِه لم يَشْرَكْه فيها أحدٌ. أمّا النكاح، فمنها: هذا. ومنها -أيضًا-: جوازُ تزويجه من غير وليٍّ ولا صداقٍ، وأنه ينعقدُ نكاحه بلفظِ الهبة. ومنها: أنه ينعقد نكاحُه في حال الإحرام. ومنها: الزيادةُ على أربعِ نسوة، وأنه يحرم عليه نكاحُ الكتابية، والأَمَة، وإمساكُ مَنْ كرهتْ نكاحَه. ومنها: إذا وقع بصرُه على امرأة، ورغب فيها، وجب على زوجها أن يطلقها لينكحَها. ¬
وأمّا قصةُ زيدِ بنِ حارثةَ، فللمفسرين (¬1) فيها اختلافٌ وتطويل. ومنها: أنه لا يجب عليه القَسْمُ بين زوجاته. ومنها: تحريمُ نسائه بعد موته؛ لأنهنَّ أمهاتُ المؤمنين. وقد (¬2) اختُلِفَ في بقاء نكاحه عليهن وانقطاعه. ثم على (¬3) القولُ بانقطاعه في وجوب العِدَّة ونفيِها خلاف منشؤه النظرُ إلى كونهن زوجاتٍ توفي عنهنَّ زوجهنَّ، وهي عبادة (¬4)، أو (¬5) النظرُ إلى أنها مدةُ تربص لا ينتظر بها (¬6) الإباحة. واختُلف -أيضًا- في مطلقته -عليه الصلاة والسلام-، هل تبقى حرمته عليها، فلا تُنكح؟ ثم له -عليه الصلاة والسلام- خصائص في غير النكاح صنَّف فيها الناسُ كتبًا -صلى اللَّه عليه وسلم-. إذا ثبتَ هذا، فلتعلمْ: أن الناس اختلفوا في هذا، أعني: مَنْ أعتقَ أمته على أن يتزوجها، وجعلَ عتقَها صداقَها، فأجاز ذلك جماعةٌ، لظاهر ¬
الحديث، منهم: الثوريُّ، وإسحاقُ، وأحمدُ (¬1)، والأوزاعيُّ، وأبو يوسفَ، ويُروى عن ابن المسيبِ، والحسنِ، والنخعيِّ، والزهريِّ. ومنع ذلك جماعةٌ، منهم: مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحسن، وزُفَرُ، ورأوا ذلك من خصائصه -عليه الصلاة والسلام-؛ كما قدمنا، وإن كان التخصيص على خلاف الأصل، إلا أنه يتأنس (¬2) في ذلك بكثرة خصائصه -عليه الصلاة والسلام- في النكاح، لاسيما وقد قال اللَّه -تعالى- في الموهوبة: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، فلا يقاس غيره عليه فيما خُصّ به، وأيضًا (¬3): فإن قوله: "وجعلَ عتقَها صداقَها" إنما هو من قول أنس (¬4)، لم يُسنده، فلعله (¬5) تأويل منه؛ إذ لم يُسَمّ لها صداقٌ، واللَّه أعلم. وقال الشافعي: إذا أعتقَها على ذلك، كانت (¬6) بالخيار، فإن امتنعت، كان له عليها قيمتُها إذا لم ترضَ بالعتق مجانًا (¬7). ¬
قال الإمامُ: والاعتبارُ عند بعض أصحابنا يمنعُ من ذلك أيضًا؛ لأنه إن قُدِّرَ أنها عقدت على نفسها النكاحَ قبلَ عتقها، فذلك لا يصحّ؛ إذ لا ملكَ لها في نفسِها حينئذ، ولا يصحُّ -أيضًا- عقدُ الإنسان نكاحَه من أمته، وإن قُدِّرَ أنها عقدته بعدَ عتقِها، فلم يقع منها بعد ذلك رضا تطالبْ به، وإن كان يقدَّر (¬1) قبلَ (¬2) عتقها بشرط أن تعتق (¬3)، فقد عقدت الشيء قبل وجوبه، والتزامُها في هذا (¬4)، وجوبُ (¬5) الشيء قبل أن يجبَ لها، لا يلزمُها (¬6) على الطريقة المعروفة عندنا. وأما حجةُ الشافعي رحمه اللَّه، فإنه يقول: إنه أعتقَ بعِوَضٍ، فإذا بطل العوضُ في الشرع، رجع في سلعته، أو في قيمتها إن لم يمكن الرجوع فيها، وهذه (¬7) [لا] يمكن الرجوعُ فيها، وإن تزوجته (¬8) بالقيمة الواجبة له عليها، صح ذلك عنده (¬9). ¬
والحديثُ يحتمل احتمالًا جيدًا استحبابَ عتقِ الأمةِ وتزويجها، بل يقطع بذلك؛ لحديث الثلاثة الذين يؤتَوْنَ أجرَهم مرتين، واللَّه أعلم. * * *
الحديث الثاني
الحديث الثاني 309 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ (¬1) السَّاعِدِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جَاءَتْهُ امْرأةٌ، فَقَالَتْ: إِنيِّ وَهَبْتُ نفسِي لَكَ، فَقَامَتْ طَوِيلًا، فَقَالَ رَجُل: يَا رَسُولَ اللَّه! زَوِّجْنيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فَقَالَ (¬2): "هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟ "، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِزَارُكَ إِنْ أَعْطَيْتَهَا، جَلَسْتَ وَلَا إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا"، قَالَ: مَا أَجِدُ (¬3)، فَالَ: "فَالْتَمِسْ (¬4) (¬5) وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ"، فَالْتَمَسَ، فَلَمْ يجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زَوَّجْتكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ" (¬6). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قولها: "وهبتُكَ نفسي": لابد من تقدير مضاف محذوفٍ؛ أي: أمرَ نفسي، أو شأنَ نفسي، ونحو ذلك. فيه: دليل على عَرْض المرأةِ نفسَها على أهل الدين والصلاح، وسكوتُه -عليه الصلاة والسلام- تقرير لجواز هذه الهبة المختصّ بها -عليه الصلاة والسلام-؛ لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]؛ كما تقدم، ولذلك قال له الرجل: "زوّجنيها إن لم يكنْ لكَ بها حاجةٌ"، ولم يقل: هَبْنيها؛ لما علم من اختصاصه -عليه الصلاة والسلام- بذلك، وقد نقل عن (¬1) الشافعي -رضي اللَّه عنه-: أنه قال: في الحديث دليل على أن الهبة لا تدخل في ملك الموهوب إلا بالقبول؛ لأن الموهوبةَ كانت جائزةً للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد وهبتْ هذه له نفسَها، فلم تصر زوجةً له بذلك (¬2). قلت: الذي (¬3) يظهر لي: أنه لا دليل في ذلك على اشتراط لفظ القبول؛ لأنا نقول: الهبةُ تصح بأحد أمرين: إما لفظ (¬4) القبول، أو ¬
ما دلّ عليه من قرينة الحال؛ كالمعاطاة في البيع، وكلاهما (¬1) مفقود في الحديث، بل فهم منه -عليه الصلاة والسلام- ضدّ القبول، على ما سيأتي، فلذلك لم تَصِرْ له زوجةً (¬2) بلفظ الهبة، واللَّه أعلم. وقد اختلف قولُ مالك في الواهبة نفسَها باسم النكاح على غير صداق إذا فات بالدخول، هل (¬3) يُفسخ أم لا؟ ع: ولا يختلف أنه يُفسخ قبل، على المعروف دون الشاذ: أنه كنكاح التفويض. وقال ابن حبيب: إن عُني بالهبة غيرُ النكاح، ولم يُعْنَ بها هبة الصداق، فسخ قبلُ، وثبت بعد الدخول، ولها صداقُ المثل، وإن أراد به نكاحَها بغير صداق، فإن أصدَقَها ربعَ دينار فأكثرَ، لزم. ع: ووهمه (¬4) بعضُ شيوخنا فيما قال، وذلك أن الواهبة نفسها بغير معنى النكاح سفاح يثبت فيه الحدُّ، وإنما الخلافُ فيما أُريد به النكاح. قلت: وهذا الصوابُ إن شاء اللَّه تعالى. قيل: وفي الحديث: دليل على جواز الخِطبة على الخِطبة ما لم يتراكَنا. ¬
وقال الباجي: فيه: جوازُ ذلك إذا كان باستئذان الناكح؛ إذ هو حقُّه (¬1) (¬2). وهو -واللَّه أعلم- بَيِّنٌ عند التأمل؛ إذ لم يتقدم من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها خطبةٌ حتى يقال: خِطبة على خِطبةٍ، وليس في ذلك إلا مجردُ عرضِ المرأة نفسَها خاصّة، واللَّه أعلم، فليعلمْ ذلك. الثاني: قوله: "فقامَتْ طويلًا": يجوز أن يكون (طويلًا) نعتًا لمصدر محذوف؛ أي: قامت (¬3) قيامًا طويلًا، أو لظرفٍ محذوف؛ أي: زمانًا طويلًا، وفيه رواية أخرى: "قيامًا (¬4) طويلًا" (¬5) ملفوظًا (¬6) به (¬7). فيه: حُسنُ أخلاق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأدابُه؛ إذ سكت عن جوابها إذْ لم يردْها، فلم يُخجلها (¬8) بأن يقول: لا حاجةَ لي فيك، ونحو ذلك. وفيه -أيضًا-: من حُسن أدبها؛ إذْ لم تلحَّ عليه إذْ سكت عنها في الجواب، وتركه ونظره -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬
الثالث: إنما سأل الرجلُ (¬1) النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تزويجها (¬2) بعد أن قالتْ ما قالت؛ لما ظهر له من زهده -عليه الصلاة والسلام- فيها؛ بقرينة الحالِ الدالَّةِ (¬3) على ذلك، وهذا يؤيد (¬4) ما تقدم من كون الحديث ليس فيه دليلٌ على اشتراط لفظِ القبولِ في (¬5) الهبة؛ إذ لم يكن فيه ما يقوم مقامَ لفظِ القبول من القرائن الدالة عليه، على ما تقرر آنفًا. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "هل معكَ شيءٌ تُصدقها" دليلٌ على وجوب الصداق، وتسميتِه في النكاح، ولا خلاف في ذلك من حيث الجملة، وإن كان قد اختُلف في أقلِّه على ما سيأتي. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إزارُك هذا إن أَعطيتها" إلى آخره: هو بضم الراء، مرفوعٌ على الابتداء، والجملةُ الشرطيةُ بعدَه (¬6) خبرُه (¬7)، والمفعولُ الثاني لـ (أعطى) محذوف، تقديره: أعطيتَها إياه، ولا خلافَ في جواز حذف أحدِ مفعولي (¬8) أَعْطى، أو ¬
حذفِهما (¬1) جميعًا، قال اللَّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5]، فحذف مفعولي (¬2) أعطى، وقال -تعالى- في حذف (¬3) أحد المفعولين: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]؛ أي: الشفاعةَ والمقامَ المحمودَ ونحوَ ذلك، ولا يجوز نصبُ (إزارك) على هذه الرواية، ويكون مفعولًا ثانيا لأعطى (¬4)؛ لحيلولة حرف الشرط بينهما. وأما رواية: "إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِزَارَكَ"، فظاهرة. والإزار: يذكَّر ويؤنَّث، ويقال: إِزَارَةٌ (¬5)، وجمع القلة فيه آزِرَةٌ، والكثير (¬6): أُزُر وأُزْرٌ؛ كحمار، وأَحْمِرَةٍ، وحُمُر، وحُمْر، والمِئْزَر: الإزار؛ كمِقْرَم وقِرام، يقال: أَزَّرْتُه، وتأزَّرَ (¬7) تأزيرًا، وائتزرَ إِزْرَةً (¬8) حسنةً -بكسر الهمزة-، وهي الهيئة؛ كالجِلْسَة والرِّكْبَة (¬9) (¬10). ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "جلستَ ولا إزارَ لك": فيه: نظرُ الإمام في حالِ رعيته بالمصلحة، وإرشادُهم إلى المصالح، وهديُهم لما فيه الرفقُ بهم. ع: وفيه: دليلٌ على أن إصداق المال يُخرجه عن ملك مالكِه، فمن أصدقَ جاريةً، حرمت عليه. قال: وفيه: أن الأثمان المبيعات لا تصحُّ إلا بصحة تسليمِها وإمكانِه، فمتى (¬1) لم يكن كذلك، وامتنع، لم ينعقدْ فيه بيعٌ، وسواء كان امتناعُ ذلك حسيًا؛ كالطير في الهواء، والحوت في الماء، أو شرعيًا؛ كالمرهون (¬2)، ونحو ذلك، ومثلُ هذا لو زال (¬3) إزارُه انكشفَ (¬4) (¬5). السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام- "التمسْ شيئًا"، وقول السائل: لا أجد؛ دليلٌ على أنه لابد أن يكون الصداق مما له بالٌ، ويُسمَّى (¬6) مالًا، دون ما ينطلق عليه اسمُ شيء؛ إذ النواةُ، والخَزَفَةُ ¬
المكسورةُ، وشبهُ ذلك يقعُ عليه (¬1) اسمُ شيء، وهو مما لا يتعذَّرُ وجودُه، وهم مجمِعون على أن (¬2) مثلَه لا يكون صداقًا، ولا يصحُّ به النكاح، قاله ع (¬3) (¬4). السابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "التمسْ (¬5) ولو خاتمًا من حديد": يروى بالنصب، وهو الأكثرُ على أن يكون خبرَ (كان) المحذوفة؛ أي: ولو كان الملتمَسُ خاتمًا من حديد، ويروى: بالرفع على تقدير: ولو حضرَ خاتم من حديد، و (لو) هنا هي التقليلية (¬6)، وقد وهم فيها بعضُ المتأخرين ممن تكلم على الحديث وهمًا شنيعًا. والخاتمُ فيه أربعُ لغات: فتحُ التاء، وكسرُها، وخاتامٌ، وخَيْتامٌ، والجمعُ الخواتيم. وأما خاتمةُ الشيء، فآخرُه ومنتهى أمرِه، ومحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خَاتَمُ النبيين -بالفتح-: خَتَمَهم، فهو كالخاتَم والطابع لهم، وبالكسر: بمعنى أنه خَتْمُهم؛ أي: آخرُهم، وقد قرىء بهما في (¬7) قوله تعالى: ¬
{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] (¬1). فيه: دليلٌ على جواز اتخاذِ خواتيمِ الحديد. ع (¬2): وقد اختلف السلف والعلماء في ذلك، فأجازه بعضُهم؛ إذ لم يثبت النهيُ فيه، ومنعه آخرون، وقالوا (¬3): (¬4) كان هذا قبلَ النهي، وقولِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه: "حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ". قالوا: ومطالبتُه -عليه الصلاة والسلام- بذلك في الحال تدلُّ (¬5) أن من حكمه تعجيلَه، أو (¬6) تعجيلَ ما يصحُّ أن يكون صداقًا، ولو ساغَ تأخيرُ جميعِه، لسأله: هل يرجو (¬7) أن يكسبَ (¬8) شيئًا، أو يجد؟ فيزوجه على ذمته (¬9). وهو مذهبنا؛ أعني: استحبابَ تعجيلِ الجميع، أو ربع دينار قبل الدخول، وإنما استُحِبَّ أن يكون ما تقدَّمَ (¬10) أقلَّ ما يُستباح به الفرجُ ¬
عندنا؛ لأنه لو اقتصرَ في المهر على ذلك، لجاز. وقد خرَّج العقيليُّ عن ابن عباس: أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَلَا يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا" (¬1). قال ابن شهاب: وذلك مما عمل به المسلمون، ورأوه حسنًا. قال الأبهري: ولأن المهر نِحْلَةُ (¬2) البُضْع، فاستحبَّ أن يقدم ما يحلُّ به البضعُ، قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]. قال العُزَيرِي: هبةً (¬3)؛ يعني: أن المهر هبة من اللَّه -تعالى- للنساء، وفريضة عليكم، ويقال: نحلة: ديانة (¬4)، وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29]، فقدَّم الصداق قبلَ البناءِ بأهله، ولهذا استحبَّ تقديم (¬5) جميعِ الصداق (¬6)، أو ما يُستحلُّ به الفرجُ، واللَّه أعلم. فإن لم يفعل، جاز. وقد تعلق (¬7) بهذا الحديث مَنْ أجازَ النكاح بأقلَّ من ربع ¬
دينار، وهم الأكثرون (¬1)؛ لأنه خرج مخرج التقليل (¬2)، وقاسهُ مالكٌ رحمه اللَّه على القطع في السرقة، فلم يجز النكاحَ بأقلَّ من ربع دينار. ع: وهو مما انفرد به مالكٌ؛ التفاتًا إلى قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25]، فدلَّ (¬3) أن المراد: مالَهُ بالٌ من المال، وأقلُّه ما استُبيح به العضوُ (¬4) في السرقة، وهو ربعُ دينار. وخالف في ذلك ابنُ وهب من أصحابنا، وأجازَ النكاحَ بكلِّ ما تراضَيا عليه، وإن كان دونَ درهمٍ؛ كما يقوله الأكثرون. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقلُّه عشرةُ دراهم. وقال ابن شبرمة: أقلُّه خمسةُ دراهمَ؛ قياسًا -أيضًا- على القطع في السرقة عندهما. وكره النخعي أن يتزوج بأقلَّ من أربعين درهمًا، وقال مرة: عشرة. وقد اختلفت أجوبةُ أصحابِنا عن ظاهر هذا الحديث، فقال بعضُهم: قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "ولو خاتمًا من حديد" على ¬
طريق المبالغة، لا التحديد؛ لقوله أولًا: "ما أجدُ شيئًا"، وأن المراد بقوله: "التمسْ شيئًا": أكثرُ من قيمةِ خاتم (¬1) الحديد؛ إذ قد نفى الرجلُ أن يجد شيئًا، و (¬2) لا ما هو أقلُّ من خاتم الحديد، وهذا (¬3) عندي ضعيف، لا ينتظمُ منه دليل. وقال آخر (¬4): لعله إنما طلب (¬5) منه ما يقدمه، لا أن (¬6) يكون جميعُ الصداق خاتمَ حديد، قال: وهذا يضعفه أن مذهب مالك استحبابُ (¬7) تقديم ربع دينار لا أقلَّ (¬8). وقال (¬9) بعضُ المتأخرين: إن قيل: إن خاتم الحديد يحتمل أن يكون قيمته أقلَّ من ربع دينار، قيل: وقد يحتمل أن تكون قيمتُه ربعَ دينار، فليس احتمالُك أولى من احتمالنا، على أن الحديث عندنا مخصوص بذلك الرجلِ بعينه؛ كما أن طعام الكفارة مخصوصٌ بالرجل الذي أطعمه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬10) له ولعياله بعينه (¬11). ¬
قال: ومما يدل على أنه مخصوص بهذا الرجل قولُه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زَوَّجْتُكها بما معكَ من القرآن"، فهذه القصة لهذا الرجل (¬1) دونَ غيره؛ لأن مخالفنا (¬2) في هذه المسألة؛ وهو الشافعي (¬3)، في جملة (¬4) أهل العلم لا يجوِّزون (¬5) أن تتزوجَ (¬6) المرأةُ بالرجل (¬7) على ما معه من القرآن، والشافعيُّ يقول: يجوز أن يتزوجها على أن يعلِّمها، ويقول: معنى الحديث هذا، وليس ذلك في الحديث. قلت: أما قوله: يحتمل أن تكون قيمتُه ربعَ دينار، فاحتمالٌ مرجوحٌ جدًا، يخالفه العُرفُ والاستقراء (¬8)، وأما حملُه الحديثَ على أنه زوّجه المرأةَ لحفظه شيئًا من القرآن إكرامًا للقرآن، لا لأنه يعلِّمها، وتكون (¬9) أجرةُ التعليم صداقًا لها؛ كما يقوله (¬10) الشافعي، ¬
وإنكاره (¬1) ذاك، فخطأ من وجهين: أحدهما: أنه قد ورد عن مالك هذا التفسيرُ (¬2) بعينه، وقد ذكره مسلمٌ مفسِّرًا: "اذْهَبْ فَعَلِّمْهَا مِنَ القُرْآنِ" (¬3) [و] في رواية عطاء، فعلَّمها عشرين آية، وفي رواية: "مَا تَحْفَظُ مِنْ القُرْآنِ؟ "، فقال: سورةَ البقرةِ والتي تليها، فقال: (¬4) "قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً، وَهِيَ امْرَأتُكَ" (¬5). والثاني: أنا لو سلَّمنا أنه كما يقول، لكان النكاحُ خاليًا عن الصداق قَطْعًا، فيكون (¬6) كالموهوبة، وهذا شيءٌ لا يحلُّ إلا للنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإن كان الطحاويُّ قد نحا هذا المنحى، فقال: لما كانت الموهوبةُ للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جائزةً في النكاح، كان (¬7) له هو أن يهبها أيضًا في النكاح، ¬
قال: ويصحح (¬1) ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد مَلَّكَها له، ولم يُشاوِرْها. قلت: ولقائلٍ أن يقول: إن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- له التصرفُ المطلقُ الشرعيُّ، فهو (¬2) إنما مَلَّكها له (¬3) بلا مَشورة؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسِهم؛ كما قال تعالى، وقد أشارَ إلى نحو (¬4) هذا الداوديُّ (¬5) من أصحابنا. وفي (¬6) الحديث: إشارة إلى الحضِّ على تعليم القرآن، وعِظَمِ شأنِ حامليه، لا سيما العاملين به، جعلنا اللَّه منهم، آمين. وفيه: دليلٌ على جواز (¬7) النكاح بالإجارة، وعندنا (¬8) في ذلك ثلاثة أقوال (¬9): المنعُ لمالك، والكراهةُ لابن القاسم في "كتاب (¬10) محمد"، والإجازة لأصبغ، فإن وقع، مضى في قول الأكثر؛ وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم. ¬
قال الإمام: ومنعه أبو حنيفة في الحُرِّ، وأجازَه في العبد، إلا أن تكون الإجارةُ تعليم القرآن، وهذا الذي استثناه بالمنع هو الذي وقع في هذا الحديث إجازتُه، ولكنه طردُ أصلِه في أن القرآن لا يؤخذ عليه أجرٌ (¬1). ولم يُذكر هنا في الحديث اشتراطُ معرفةِ الزوجِ بفهمِ (¬2) المرأة وسرعةِ قبولها لما تتعلَّمُه (¬3)، وهذا محملُه على أن أفهام النساء متقاربة، ومبلغها معروف، أو (¬4) في حكم المعروف. وقد أخذ بعضهم من هذا الحديث: أن (¬5) مَنْ خطب إلى رجل، فقال له: زَوِّجْني، فقال له الآخر: زَوَّجتك: أن النكاحَ لازمٌ، وإن لم يقل الآخر: قبلتُ (¬6) (¬7). وقد ترجم البخاري بمعنى هذا على هذا الحديث، واللَّه أعلم. ¬
وقال المهلب: بساطُ الكلام أغنى عن ذلك، وكذلك في كلِّ راغب في النكاح، وإلا، فيسأل الزوج هل رضيَ بالصداق، أم لا (¬1)؟ قال الإمام: وفي الحديث: دلالة على انعقاد النكاح بغير لفظ النكاح والتزويج؛ خلافًا للشافعيِّ والمغيرة؛ لأنه ذكر هنا تمليكها، وفي البخاري: "قَدْ مُلِّكْتَهَا"، وفي بعض طرقه: "قَدْ أَمْكَنَّاكَهَا (¬2) "، وعند أبي داود: "مَا تَحْفَظُ مِنَ القُرْآنِ؟ "، قال: سورةَ البقرة والتي تليها، قال: "قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً، وَهِيَ امْرَأتك" (¬3). ع (¬4): روايتُنا في مسلم: "مُلِّكْتَهَا" -بضم الميم وكسر اللام- عن غير واحد، وروينا الحرف عن الخشني: "مَلَّكْتُكَهَا (¬5) "؛ كما ذكره البخاريُّ، وذكر في الرواية الأخرى (¬6): "زَوَّجْتُكَهَا"، وقد قال أبو الحسن الدارقطنيُّ: إن رواية مَنْ رواه (¬7): "مُلِّكْتَهَا" وهمٌ، ورواية (¬8) ¬
من قال: "زَوَّجْتُكَهَا" (¬1) الصواب، وهم أكثرُ حفظًا (¬2) (¬3). ق: وقال بعضُ المتأخرين: ويحتمل صحة اللفظين، ويكون أحرى (¬4) لفظ التزويج أولًا، فملكها (¬5)، قال له: اذهبْ فقد ملكتها بالتزويج السابق. واستبعده (¬6) ق من وجوه: من جملتها أنه قال: لخصمه أن يعكس (¬7) الأمر، ويقول: كان انعقادُ النكاح بلفظ التمليك، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "زَوَّجْتُكَهَا" إخبارٌ عمَّا مضى بمعناه، فإن (¬8) ذلك التمليك هو تمليكُ نكاح. ثم قال: وإنما الصواب في مثل هذا أن ينظر إلى الترجيح، واللَّه أعلم (¬9). قلت: وهو كما قال الشيخ رحمه اللَّه، ولا خيرَ في التعسُّفِ، وتحميلِ ¬
اللفظِ غيرَ ما يحتمل ظاهرُه (¬1) (¬2). وقد اختُلف في اسم هذه المرأة الواهبةِ نفسَها: فقيل: إنها أم شريك، واسمها: غُزِّيَّة (¬3)، أو غُزَيْلَة -بغين مضمومة معجمة (¬4) وزاي فيهما-، وقيل غير هذا (¬5)، واللَّه الموفق (¬6). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 310 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ عَوْفٍ، وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَهْيَمْ؟ "، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه! تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَقَالَ (¬1): "مَا (¬2) أَصْدَقْتَهَا؟ "، قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: "فَبَارَكَ (¬3) اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
* الشرح: الرَّدْعُ: -بفتح الراء وإسكان الدال وبالعين المهملات-، يقال: به رَدْعٌ من زعفرانٍ، أو دمٍ؛ أي: لَطْخٌ وأثَرٌ (¬1)، ورَدَعْتُهُ بالشيء، فارتَدَعَ؛ أي: لَطَّخْتُهُ فَتَلَطَّخَ؛ قاله الجوهري (¬2). والمراد هنا: ما تعلق به من طيبِ العروسِ وعَبيرِها (¬3)، ولطخَ بجلدِه وثوبه (¬4) من ذلك. ع: هذا أولى (¬5) ما قيل فيه، وقد جاء في حديث آخر: "وَبِهِ (¬6) رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَان" (¬7)، فلا يكون هذا داخلًا في النهي عن تَزَعْفُر الرجال؛ لأن ذلك ما قصدوه، وتشبهوا فيه بالنساء. وقيل: ذلك رخصةٌ (¬8) للعروس، وقد جاء في ذلك أثرٌ ذكره أبو عبيد (¬9): أنهم كانوا يرخِّصون في ذلك للشابِّ أيام عرسه (¬10) (¬11). ¬
وقيل: لعلَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم ينكره؛ لأنه كان يسيرًا. قلت: ويؤيده (¬1) تفسيرُه بالأثر. وقيل: كان مَنْ ينكح أولَ الإسلام يلبس ثوبًا مصبوغًا بصفرة علامةً للسرور. ع (¬2): وهذا غيرُ معروف، على أن بعضهم جعله (¬3) أولى ما قيل في هذا. وقيل: يحتمل أن يكون ذلك في ثيابه. ومذهبُ (¬4) مالكٍ وأصحابه: جوازُ لباسِ الثيابِ المزعفَرَة للرجال، وحكاه مالكٌ عن علماء المدينة؛ وهو مذهبُ ابنِ عمرَ، وغيرِه من المسلمين، وحجَّتُهم: قولُ ابنِ عباس (¬5): إِنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصبغ بالصُّفْرَة (¬6)، وحكى ابنُ شعبان عن أصحابنا كراهةَ ذلك في اللِّحْيَة (¬7). ¬
وكره الشافعيُّ، وأبو حنيفة ذلك في الثيابِ، واللِّحْيَةِ. وَ"مَهْيَمْ": كلمةٌ يُستفهم (¬1) بها، ومعناها (¬2): ماجاء بك؟ وما شأنك؟ وقيل: إنها لغة يمانية. وقال بعضهم: يشبه أن تكون مُرَكبة (¬3). قلت: وهو بعيد، إذ لا يكاد يوجد اسمٌ مركبٌ على أربعة أحرف. فيه: دليلٌ على استحباب سؤالِ الكبير عن حالِ أصحابه، إذا رأى تغيرَ حالٍ كانوا عليها، عن سبب ذلك. وقوله: -عليه الصلاة والسلام-: "ما أَصْدَقْتَها؟ " دليلٌ على أن الصداقَ مقرَّرٌ في أصل الشرع؛ إذ لم يقل -عليه الصلاة والسلام-: هل أصدقتها؟ وإنما سأل بـ (ما) (¬4) عن جنس الصداق (¬5)، والسؤال بـ (ما) بعدَ السؤال بـ (هل) (¬6)؛ كما أن السؤال بـ (أم) بعد السؤال بـ (أو) على ما تقرر عند علماء العربية من لغة العرب في ذلك. ¬
وقوله: "وزنَ نواة" (¬1): النواة: خمسةُ دراهم، والأُوقية: أربعون درهمًا (¬2)، والنَّشُّ: عشرون درهمًا (¬3). قال الخطابي، النواةُ اسمٌ معروفٌ لقدرٍ معروفٍ، فسرُها بخمسةِ دراهمَ من ذهب (¬4). ع (¬5): وقال أحمدُ بنُ حنبلٍ: النواةُ ثلاثةُ دراهم وثلثٌ. وقيل: المراد بها هنا: نوى التمر (¬6)؛ أي: وزنها من ذهب، والأولُ أظهرُ وأصحُّ (¬7). قلت: ويقويه أن نوى التمر تختلف (¬8)، فلا ينضبط به العَقْدُ. ع: وقال بعضُ أصحاب مالك: النواةُ ربعُ دينار، وظاهرُ كلام أبي عُبيد (¬9): أنه دفع خمسةَ دراهمَ، قال: ولم يكن ثَمَّ ذهبٌ، إنما هي ¬
خمسةُ دراهمَ تسمَّى: نواةً؛ كما تسمى الأربعون درهمًا (¬1): أوقيةً (¬2). قلت: هذا نصُّ كلام أبي عبيد، لا ظاهره. ع (¬3): وقد روي في حديث عبد الرحمن: "وزنَ نواةٍ من ذهب، ثلاثةُ دراهمَ وربعٌ"، وأراد أن يحتج هذا بأنه أقلُّ الصداق، وهذا لا يصحُّ له؛ لأنه قال: "من ذهب"، وذلك (¬4) أكثر من دينارين، وهذا ما لم يقله (¬5) أحدٌ، وإنما هي غفلةٌ من قائله، بل هي حجة على مَنْ يقول: إنه لا يكون أقلَّ من عشرةِ دراهمَ. وقد وهَّم الداودي روايةَ من روى: "وزنَ نواةٍ" (¬6)، وإن الصحيحَ عندَه: "نواة"، ولا وهم فيه على كل تفسير؛ لأنه إن كانت نواةَ تمرٍ (¬7) كما قال، وكان عندهم للنواة (¬8) مثقالٌ معلوم، فكلٌّ (¬9) يصح أن يقال فيه: وزن كذا (¬10). ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فباركَ اللَّهُ لكَ" هو فاعَلَ؛ من البركةِ وزيادةِ الخير. قال الجوهري: يقال: بارك اللَّه لكَ، وفيكَ، وعليكَ، وبارَكَكَ (¬1). فيه: استحبابُ الدعاء للمتزوج، وأن يقال له: باركَ اللَّه لك، ونحوه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَوْلِمْ ولو بشاةٍ"؛ أي: اصنعِ الوليمةَ، والوليمةُ طعامُ النكاح، على ما ذكره صاحب "العين". وقال الخطابي: هو طعام الإملاك. وقال غيره: الوليمةُ طعامُ العرسِ، والإملاكِ خاصةً (¬2). وقيل: كلُّ دعوة على إملاك، أو نفاسٍ، أو خِتانٍ، أو حادثِ سرور، دُعي إليها الناسُ، فاسمُ الوليمة يقع عليها. قيل (¬3): وهي مشتقةٌ من الوَلْمِ، وهو الجَمْعُ؛ لأن الزوجين يجتمعان؛ قاله الأزهري، وغيره. وقال ابن الأعرابي: أصلها (¬4): تمامُ الشيء واجتماعُه، والفعلُ ¬
منها أَوْلَمَ، [قال]: ويقال للقيد (¬1): وَلْمٌ (¬2). قلت: وقد تقدم أولَ الكتاب أن الضيافات ثمانٍ: الوليمةُ، والخُرْسُ وهو طعام الولادة، والعَذيرَةُ للخِتان، والوَكِيرَةُ للبناء، والنّقيعَةُ لقدومِ المسافر، والعَقيقَةُ يومَ سابعِ المولود، والوَضِيمَةُ الطعامُ عندَ المصيبة، والمأْدُبَة -بفتح الدال وضمها- الطعامُ المتخذ ضيافةً بلا (¬3) سبب. وقد اختلف في حكم الوليمة: فعندنا: أنها مستحبةٌ (¬4)، خلافًا لداود، وأحدِ قولَي الشافعي في إيجابها؛ أخذًا بهذا، حمله (¬5) على الوجوب، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللَّه"؛ لأنه إنما أطلق (¬6) ذلك عليه في ترك الإجابة، وهي لو كانت واجبة، ما دلَّ ذلك على وجوب الوليمة؛ كما أن الابتداء بالسلام ليس بواجبٌ، والرد واجب، فكذلك (¬7) غيرُ بعيد أن تكون (¬8) الدعوةُ غيرَ واجبة، والإجابةُ واجبةً. ¬
وقال بعضُ البغداديين من أصحابنا: لا يمنع أن يطلق على من أخلَّ بالمندوب تسميته عاصيًا؛ لأن المعصية مخالفةُ الأمر (¬1)، والمندوب مأمورٌ به (¬2). قلت: وهذا بعيدٌ من وجهين: أحدهما: أنه خلافُ عرفِ حملةِ الشريعة، وغير (¬3) مصطلحهم واستعمالهم. والثاني: أن المندوب قد اختلف فيه أهلُ الأصول؛ هل هو مأمورٌ به، أو (¬4) لا؟ واللَّه أعلم. وهل مشروعيتُها قبل الدخول، أو بعده؟ ظاهرُ (¬5) قولِ مالكٍ: استحبابُها بعدَ الدخول، وهو قولُ غيره. وحكى ابنُ حبيب استحبابَها عند العقد، وعندَ البناء. ع: واستحبَّها بعضُ شيوخنا قبلَ البناء؛ ليكون الدخولُ بها، وحكمتُها (¬6): اشتهارُ النكاح؛ ليخالفَ حالَ السفاح. ¬
وظاهرُ قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولو بشاةٍ" يعني (¬1): أن التوسعةَ فيها لمن قَدَرَ مستحبةٌ، وأن الشاةَ لأهلِ الجِدَةِ والقدرةِ (¬2) أقلُّ ما يكونُ، وليس على طريق التحديد، بل على طريق الحض والإرشاد، ولا خلاف أنه لا حدَّ لها ولا توقيت. وقد ذكر مسلم في وليمة صفية الوليمةَ بغيرِ اللحم (¬3)، وفي وليمةِ زينبَ: أَشْبَعَنا خُبزًا ولحمًا (¬4)، وكلٌّ جائز، وبقدر حال الرجل وما يجد. واختلف السلفُ (¬5) في كثرة (¬6) تكرارها أكثرَ من يومين بإجازته (¬7) وكراهته. واستحبَّ أصحابنا لأهل السعة كونهَا (¬8) أسبوعًا. ¬
قال (¬1) بعضهم: وذلك إذا دعا في كلِّ حال من لم يدع قبله، ولم يكرر عليهم. وكرهوا (¬2) فيها المباهاةَ والسمعةَ (¬3). وقد تقدم شروطُ وجوب الإجابة إلى الوليمة، وهو أن يدعي معينًا، ولا منكرَ هناك، ولا أراذلَ (¬4)، ولا زحامَ، ولا إغلاقَ بابٍ دونه على ما تقرر، واللَّه أعلم. * * * ¬
كتاب الطلاق
كِتْابُ الطَّلَاق
[باب]
كِتْابُ الطلاق الحديث الأول 311 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَر ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ: "لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا (¬1) حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضُ فتَطْهُر (¬2)، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ العِدَّةُ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل" (¬3). ¬
وَفي لَفْظٍ: "حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتي طَلَّقَهَا فِيهَا" (¬1). وَفي لَفْظٍ: فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ (¬2) كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الطلاقُ في اللغة هو (¬4): الإرسالُ والتسريح، ومنه قوله ¬
تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، والإطلاقُ ضدُّ التقييد (¬1)، قال الجوهري: طَلَقَتِ المرأةُ -بفتح اللام- تَطْلُقُ، فهي طالِقٌ، وطالِقَةٌ. قلت: وعلى إثبات التاء قولُ الشاعر: أَجارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ وقد تقدم. قال الأخفش: لا يقال: طَلُقَتْ، بالضم (¬2). وفي "مطالع الأنوار": الفتحُ والضم، وأما من الولادة، فطُلِقت -بضم الطاء (¬3) وكسر اللام- لا غيرُ. الثاني: لا خلافَ في تحريم طلاقِ الحائضِ الحائلِ المدخولِ بها بغيرِ رضاها، واختُلف في علة المنع، فقيل: لتطويل العدة؛ إذ بقيةُ الحيض لا يحتسب به. وقيل: هو غير معلل، وعليهما يتخرج طلاقُ الحاملِ، وغيرِ الممسوسة والمختَلعة في حال الحيض، وظاهرُ الحديث: عدمُ التعليل من حيث إنه -عليه الصلاة والسلام- لم يستفصلْ عن هذه المطلقة في الحيض، هل هي حائل، أو حامل، أو ممسوسة، أو ¬
مختلعة، أو (¬1) غير ذلك؟ وتركُ الاستفصالِ في مثل هذا يتنزل منزلةَ العُموم في المقال عند (¬2) جمعٍ من أرباب الأصول. واختَلف -أيضًا- قولُ مالك في جواز طلاق الحاكم على المؤْلي للضرورة، فعنه في ذلك روايتان. وعلى كل حال، فإن وقع الطلاق، لزم، وشذ بعضُ الظاهرية، فقال: لا يقعُ طلاقه، لأنه غيرُ مأذون له فيه، فأشبهَ طلاقَ الأجنبية. ودليلُ الجمهور: أمرُه -عليه الصلاة والسلام- بمراجعتها، والرجعةُ فرعُ ثبوت (¬3) الطلاق عقلًا وشرعًا، لا يقال: إن المراد هنا (¬4) بالرجعة: الرجعةُ (¬5) اللغوية، وهي الردُّ إلى حالتها الأولى، لا أنه (¬6) بحيث يكون عليه طلقة، لأنا نقول: ذلك باطل من وجهين: أحدهما: أَنَّ حملَ لفظِ الشارع على الحقيقة الشرعية مقدَّم على حمله على الحقيقة اللغوية؛ كما هو متقررٌ (¬7) في الأصول. والثاني: أن ابنَ عمرَ -رضي اللَّه عنهما- صرَّحَ في روايات مسلم وغيرِه: بأنه حسبها عليه طلقةً. ¬
إذا ثبت هذا: فالمطلِّقُ في الحيض (¬1) مأمورٌ بالرجعة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ليراجِعْها"، وهل ذلك على الوجوب أو الاستحباب؟ مذهبنا: أنه على الوجوب، وهو الأصل، في صيغة الأمر. وقال أبو حنيفة، والشافعي، وجماعة: هو على الاستحباب. الثالث (¬2): اختُلف في علة أمرِه -عليه الصلاة والسلام- له بتأخير الطلاق إلى طهرٍ آخرَ بعدَ هذا الطهرِ الذي يلي حيضةَ الطلاق: فقيل: إن الطهر الذي يلي الحيضَ والحيضةَ التي قبلَه الموقَعَ فيها الطلاقُ كالقَرْء الواحد، فلو طلق فيه، لصار كموقعِ طلقتين في قَرْءٍ واحد، وليس ذلك طريق السُّنَّة. وقيل: إنه -عليه الصلاة والسلام- عاقبه بذلك؛ تغليظًا لفعله المحرَّم. ع: وهذا معترض، لأن (¬3) ابنَ عمر -رضي اللَّه عنه- لم [يكن] يعلمِ الحكمَ، وإنما يُغَلَّظ على المتعمِّد (¬4) (¬5). ¬
قلت: وهذا غيرُ لازم؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- تَغَيَّظَ فيه؛ كما في الحديث، ولم يعذره (¬1) بعدم عرفانِ الحكم؛ إما لأن الأمر من (¬2) الظهور بحيث لا يكاد يخفى، فكانت (¬3) الحال تقتضي التثبتَ، أو مشاورتَهُ -عليه الصلاة والسلام- في ذلك، واستفتاءه فيها، فلم يفعل، واللَّه أعلم. وقيل (¬4): لئلا تصيرَ الرجعةُ لغرض الطلاق، فوجب أن يُمسكها زمانًا يحلُّ له فيه طلاقُها، وإنما أمسكها لتظهر فائدةُ الرجعة، وبهذا أجاب الشافعية أيضًا. وقيل: إنه نهى عن طلاقها؛ في الطهر ليطول مقامُه معها، فلعله يجامعها، فيذهب (¬5) ما في نفسه من سبب طلاقها، فيمسكها، واللَّه أعلم. واختلف (¬6) المذهب عندنا إذا لم يرتجعها حتى جاء (¬7) الطهر الذي أُبيح له الطلاق فيه، هل يُجبر على الرجعة فيه، لأنه حقٌّ عليه، فلا يزولُ بزوال (¬8) وقته؟ أم (¬9) لا يجبر؛ لأنه قادرٌ على الطلاق في ¬
الحال، فلا معنى للارتجاع؟ الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإنْ شاءَ، طَلَّقَ قبلَ أن يمسَّ"؛ أي: قبل أن يطأ، ففيه: كراهةُ الطلاق في الطهر الذي مسَّ فيه، وهو مذهبنا. وقالت الشافعية بتحريم الطلاق فيه، وهو الأظهرُ عندي؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- شرطَ في الإذن في الطلاق والحالةُ هذه عدمَ المسيس، والمتعلق بالشرط معدومٌ عند عدمه. ونقل (¬1) ع عن ابن حازم والمغيرة: أن المطلَّقَةَ في طهر مُسَّت فيه لا تعتدُّ (¬2) به، وتستأنفُ (¬3) ثلاثةَ أطهار. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فتلك العدَّةُ كما أمرَ اللَّه عز وجل": كأنَّ (أَمَرَ) هنا بمعنى: أَذِنَ وأَبَاحَ؛ إذ الطلاقُ غيرُ مأمورٍ به، بل قد جاء: "أَبْغَضُ المُبَاحِ إِلَىِ اللَّه الطَّلَاقُ" (¬4)، وتحريرُ المعنى فيه: فتلك العدةُ التي أمر اللَّه أن لا تُتعدَّى ولا تُتجاوَزَ، واللَّه أعلم. ¬
وقد اختلف العلماء في صفة طلاق السنَّة، فصفتُها (¬1) عندنا: أن تطلَّقَ (¬2) التي عادتُها أن تحيضَ واحدةً في حالِ طهرِها في طهرٍ لم يمسَّها فيه. وأن لا يكون ذلك الطهرُ تاليًا لحيضٍ طلق فيه. وأن تُترك (¬3) لا يُتبعها طلاقًا. ومتى انخرمَ بعضُ هذه الشروط الستة، خرجَ الطلاقُ عن السنَّة. فقولنا: التي عادتها أن تحيض، تحرزٌ من الصغيرة أو اليائسة؟ فإن طلاقهما لا يوصف بأنه للسنة، ولا للبدعة. وقولنا: واحدةً، تحرزٌ مما زاد عليها. وقولنا: في حالِ طهرِها، تحرزٌ من الحائض والنفساء. وقولنا: في طهر لم يمسَّها فيه، تحرزٌ من طهرٍ مسَّ فيه؛ لما تقدم من كراهية ذلك عندنا، وتحريمِه عند الشافعي (¬4). وقولنا: وأن لا يكون ذلك الطهر تاليًا لحيضٍ طَلَّقَ (¬5) فيه، تحرزٌ مما إذا طَلَّقَ في الحيض، ثم أُجبر على الرجعة؛ فإنه مأمور بإمساكها ¬
إلى الطهر من الحيضة الثانية؛ كما في الحديث. وقولنا: أن تُترك، فلا يُتبعها طلاقًا، تحرزٌ من أن يطلقها واحدة، ثم يُردفها (¬1) بأخرى، أو اثنتين، فكُره له عندنا أن يفرق عليها ثلاثَ طلقات (¬2) في ثلاثة أطهار، وأجاز ذلك أبو حنيفة في أحد قوليه، وقاله ابن مسعود. واختلف فيه قولُ أشهبَ؛ فقال مثلَه مرة، وأجاز -أيضًا- ارتجاعَها، ثم يطلق، ثم يرتجع (¬3)، ثم يطلق، فيتم الثلاث، والمذهبُ (¬4) كراهةُ ذلك. وقال الشافعي، وأحمدُ، وأبو ثور: ليس في عَدَدِ الطلاق سنةٌ ولا بدعة، وإنما ذلك في الوقت. ع: وما جاء في حديث ابن عمر يدلُّ على أن ما عدا (¬5) ما وصف فيه طلاقُ بدعة؛ لكن أجمعَ أئمةُ الفتوى على لزومه إذا وقعَ؛ إلا (¬6) مَنْ لا يُعتد به من الخوارج والروافض، وحكي عن ابن عُليَّة، واللَّه أعلم (¬7). ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 312 - عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَها البَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ، وَفي رِوَايةٍ: طَلَّقَهَا ثلاثًا (¬1)، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكيلُهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْه (¬2)، فَقَالَ: وَاللَّهِ! مَالَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَه (¬3)، فَقَالَ: "لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَة" (¬4). وَفي لَفْظٍ: "وَلَا سُكْنَى" (¬5)، فَأمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: "تِلْكَ ¬
امْرَأةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ، فَآذِنِيني"، فَلَمَّا حَلَلْتُ (¬1)، ذَكَرْتُ لَهُ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَّا أبَو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوك لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ"، فَكَرِهَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: "انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زيدٍ"، فَنَكَحَتْهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطَتْ بِهِ (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: أبو عَمْرِو بنُ حفصٍ هذا قيل: اسمُه كنيتُه، وقيل: اسمُه عبدُ الحميد. ع: وهو الأشهرُ في اسمه (¬1). وقيل: اسمه أحمدُ، وقال بعضهم: أبو حفصِ بنُ عمر، وقيل: أبو حفصِ بنُ المغيرة، ومن قال: أبو عمرو بن حفص أكثرُ، قاله ق (¬2). الثاني: قولها: "طلقها ثلاثًا": قال العلماء: هذا هو الصحيح المشهورُ الذي رواه الحُفَّاظ، واتفق على روايته الثقاتُ -على اختلاف ألفاظهم- في أنه طلقها ثلاثًا، أو البتةَ، أو آخرَ ثلاثِ تطليقات، أو طلقها ولم يذكر هذا ولا غيره. وجاء في آخر "صحيح مسلم" في حديث الجساسة ما يفهم منه أنه ماتَ عنها، وليست (¬3) هذه الروايةُ على ظاهرها، بل هي وهمٌ، أو مؤولةٌ (¬4). ¬
قلت: والجمعُ بين هذه الروايات المختلفاتِ الألفاظِ: أن تكون قد تقدم له فيها تطليقتان؛ بأن (¬1) أتم الثالثةَ، فمن (¬2) روى: آخرَ ثلاث تطليقات، أو طلقها ولم يذكر عددًا ولا غيره، فظاهرٌ، ومن قال: ثلاثًا، أراد: تمامَ ثلاثٍ (¬3)، ومن روى: البتةَ، عبر بها عن الثلاث؛ إذ كانت في معناها؛ كما هو مذهبنا، ومذهبُ العامة، فعلى هذا، لا (¬4) متمسَّكَ لمن استدلَّ بهذا الحديث على جواز طلاق (¬5) الثلاث دفعةً وَاحدة (¬6). الثالث: فيه: دليلٌ على جواز طلاقِ الغائب، وجوازِ الوكالةِ في أداء الحقوق، ولا خلاف في ذلك. والوكيلُ: يرفع، على أنه المرسِل، وينصب، على أنه المرسَل، وهو القائل: مالكِ علينا (¬7) من شيء؛ إذ المطلِّقُ غائبٌ، ولما كان قائماَّ مَقام الموكِّل في ذلك، صحَّ له أن يقول: مالكِ علينا (¬8) من ¬
شيء، وكأنه هو (¬1) -أيضًا- مدَّعًى عليه، وهذا (¬2) معروفٌ من لسان العرب، مشهورٌ. وفيه: جوازُ استفتاءِ المرأة، وسماع المفتي كلامَها، وكذلك في التحاكم عند الإمام. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ليسَ لكِ علينا (¬3) نفقةٌ"، وفي لفظٍ: "ولا سُكنى": ظاهرُه: إسقاطُها، أو إسقاطُهما. وقد اختُلف في المطلقةِ البائنِ الحائلِ، هل لها السكنى والنفقة، أم لا؟ فذكر مسلمٌ عن عمرَ -رضي اللَّه عنه-، وهو قول أبي حنيفة، إثباتَهما. وقال آخرون: بإسقاطِهما، وهو قولُ ابنِ عباس، وأحمدَ. وقال مالك، والشافعي: لها السكنى دونَ النفقةِ. فحجةُ من أثبتَهما (¬4): قولُه تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] الآيةَ، وأما النفقة، فلأنها محبوسة عليه، وهذا عنده يوجب لها النفقة. وحجةُ مَنْ أسقطَهما (¬5): قولُه -عليه الصلاة والسلام- في ¬
الحديث: "لا نفقةَ لكِ عليه، ولا سكنى". وحجةُ مالكٍ، والشافعيِّ في إثبات السكنى خاصةً: ما تقدَّمَ من قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] الآيةَ، وهذا خبرُ واحد، فقد لا يخص به العمومُ، ولقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] الآيةَ، ودليلُ خطابِ هذه الآية يقتضي عدمَ النفقة عند عدمِ الحملِ مع التصريح في الحديث بإسقاط النفقة. قال الإمام: ولا يدخل التأويل في هذا كما دخل في السكنى، فأكَدَ هذا الخبرُ دليلَ خطابِ القرآن، فصار مالكٌ رحمه اللَّه إليه. قلت: يريد: ومن وافقَه. وأما ما اعتَّل به ابنُ المسيب -رضي اللَّه عنه- من قوله: تلكَ امرأةٌ فَتَنَت الناسَ، إنها كانت (¬1) لَسِنَةً، فوضعت على يدي (¬2) ابن أم مكتوم (¬3)، وقوله -أيضًا-: تلكَ امرأةٌ استطالَتْ على أحمائها بلسانِها (¬4)، فأمرَها -عليه الصلاة والسلام- أن تنتقلَ، وما قاله الإمامُ من احتمال أن يكون ذلك من أنها خافَتْ من ذلك المنزل؛ بدليل ما رواه من قوله: أخافُ ¬
أن يُقتحمَ عليَّ (¬1) (¬2)، فسياقُ الحديث يأباه، فإنه يقتضي: أن سببَ اختلافِها مع الوكيل، وأن (¬3) الوكيل قال: لا نفقةَ لها، واقتضى ذلك أن سألتْ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأجابها -عليه الصلاة والسلام- بما أجاب، وذلك (¬4) يقتضي أن التعليل سببهُ (¬5) ما جرى من الاختلاف في وجوب النفقة، لا سببٌ آخَرُ. والإجماعُ على وجوب النفقة للرجعية (¬6)، والخلافُ في وجوب السكنى والنفقة للمبتوتةِ (¬7) الحائل كما تقدم، وأما الحاملُ، فلها السكنى والنفقة، واللَّه أعلم. الخامس: قوله: "فأمرها أن تعتدَّ في بيتِ أُمِّ شَريك (¬8) " إلى قوله: "تضعينَ ثيابَكِ": أم شريك هذه قرشيةٌ، وقيل: أنصارية، واسمها غُزَيَّةُ، وقيل: غُزَيْلَةُ -بغين معجمة مضمومة ثم زاي- فيهما، ¬
قيل: إنها التي وهبتْ نفسَها للنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل غيرها، وقد تقدم ذلك قريبًا في حديث الواهبةِ نفسَها. ح: ومعنى الحديث: أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كانوا يزورون أُمَّ شريك، ويُكثرون الترداد إليها؛ لصلاحِها، فرأى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن على فاطمةَ من الاعتداد عندَها حرجًا؛ من حيث إنه يلزمها التحفظُ من نظرهم إليها، ونظرِها إليهم، وانكشافِ (¬1) شيء منها، وفي (¬2) التحفظ من هذا مع كثرةِ دخولهم وتردُّدِهم مشقةٌ ظاهرة، فأمرَها -عليه الصلاة والسلام- بالاعتداد عند ابنِ أم مكتوم؛ لأنه لا ينظرُها، ولا يتردد إلى (¬3) بيته مَنْ يتردد إلى بيت أم شريك (¬4). قلت: واختُلف (¬5) في اسم ابنِ أم مكتوم، فقيل: عمرو، وقيل: عبد اللَّه، وقيل: غيره. قال بعضهم: فيه (¬6): جواز نظر المرأة إلى الرجل، وكونه معها إذا لم تنفرد به، وأن ما ينكشف (¬7) من الرجال للنساء (¬8) في تصرُّفهم ¬
لا حرجَ فيه غير العورات؛ بخلاف النساء معهم. قال ع، وتبعه ح ما معناه تضعيفُ هذا القول، وأن الصحيح الذي عليه جمهورُ العلماء أنه يحرمُ على المرأة النظرُ إلى الأجنبي، كما يحرم نظرُه إليها؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]، وأن (¬1) الفتنة مشتركة. ح: ويدل عليه من السنة حديثُ نبهانَ مولى أم سلمة عن أم سلمةَ (¬2): أنها كانت هي وميمونة عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فدخل ابنُ أم مكتوم، فقال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "احْتَجِبَا مِنْهُ"، فقالتا: إنه أعمى لا ينظر (¬3)، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4): "أفعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ أَلَيْسَ تُبْصِرَانِهِ (¬5)؟! "، هذا الحديث (¬6) حسن، رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما. قال (¬7) الترمذي: هو حديث حسن (¬8). ولا يُلتفت إلى قدحِ مَنْ قدحَ فيه بغير حجَّة معتمدة. ¬
وأما حديثُ فاطمةَ بنتِ قيسٍ مع ابن (¬1) أم مكتوم، فليس فيه إذنٌ لها في النظرِ إليهِ، بل فيه: أنها تأمن عندَه من نظر غيره (¬2)، وهي مأمورة بغض بصرها، فيمكنها الاحترازُ عن النظر بلا مشقة؛ بخلاف مكثها في بيت أم شريك (¬3). ع (¬4): وأما حديثُ نبهانَ، فيخص بزيادة حرمة أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنهن كما غُلِّظَ الحجابُ على الرجل فيهن، غُلِّظ عليهن في حقّ الرجال -أيضًا-؛ لعظم حرمتهن، وإلى هذا أشار أبو داود، وغيرُه من العلماء (¬5). قلت: وهذا الكلام يقتضي أنه لا دليلَ في حديث نبهان؛ لوجود خصوصيةٍ (¬6) في أزواجه -عليه الصلاة والسلام- مفقودةٍ في غيرهن، فلا ينتظم ما استدلَّ به ح على هذا. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإذا حَلَلْتِ فآذِنيني": هو بمد الهمزة؛ أي: فأعلميني. ¬
قيل: فيه: جوازُ التعريض في العِدَّة، واستبعده ع (¬1)؛ إذ ليس في قوله: "آذنيني"، أو "لا تَسبقيني بنفسِك" على الرواية الأخرى، غيرُ أمرها بالتربُّص، ولم يسمِّ لها زوجًا. قال: وإنما يكون التعريض من الزوج، أو ممن يتوسَّطُ له بعد تعيينه ومعرفته، وأما في مجهول، فلا يصحُّ فيه التعريض؛ إذ لا تصحُّ مواعدتُه. قال: لكن في الحديث ما يدل على منع التعريض، والخِطبة، والمواعدة في العِدَّة؛ إذ لم يذكر لها -عليه الصلاة والسلام- مرادَهُ، ولا واعدَها عليه، ولا خطبَها لأسامةَ (¬2). وقولها: "خَطَباني"، ولم ينكر ذلك -عليه الصلاة والسلام-، دليل (¬3) جواز الخِطْبة على الخِطْبة، إذا لم يتراكَنا. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَمَّا أبو جَهْمٍ، فلا يضعُ عصاه عن عاتقه": فيه تأويلان: أصحُّهما: أنه كثيرُ الضربِ للنساء (¬4)؛ كما جاء مصرَّحًا به في الرواية الأخرى: "ضَرَّابٌ لِلنِّساءِ" (¬5) هكذا. ¬
والثاني: أنه كثيرُ الأسفار، ولعل قائلَ هذا الثاني لم تبلُغْه الروايةُ الأخرى (¬1). والعاتِقُ: ما بين العُنق والمَنْكِب. وفيه: دليلٌ على جواز استعمال المبالغة، وجواز إطلاق مثل هذه العبارة؛ فإن أباجهم لا بدَّ أن يضع (¬2) عصاه حالةَ نومه وأكلِه، وكذلك معاويةُ لا بدَّ أن يكون (¬3) له ثوبٌ يلبسه -مثلًا-؛ لكن اعتبر حالُ الغلبة، وأُهدر حالُ النادر واليسير، وهذا المجاز فيما قيل في أبي جهم أظهرُ منه فيما قيل في معاوية؛ لأن لنا أن نقول: إن لفظةَ (المال) انتقلت في العرف عن موضوعها الأصلي إلى ما له قدرٌ من المملوكات، أو ذلك مجازٌ شائع يتنزل منزلةَ النقل، فلا يتناول الشيءَ اليسير جدًا؛ بخلاف ما قيل في أبي الجهم (¬4)، قاله ق (¬5). وهو الظاهر عندي، واللَّه أعلم. وفيه: دليلٌ على جواز ذكر الإنسان بما فيه عندَ المشاورة وطلبِ النصيحة، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرَّمَة، بل من النصيحة ¬
الواجبة، وقد قال العلماء: إن الغيبة تُباح (¬1) في ستة مواضع، وقد تقدم ذكرُها أولَ الكتاب في حديث: "إِنهمَا لَيُعَذَّبَانِ" الحديث (¬2). تنبيه: اعلمْ أن أبا الجَهْم (¬3) هذا (¬4): بفتح الجيم؛ مُكَبَّر، وهو المذكورُ في حديث الأَنْبجانية، وهو غير أبي الجُهيم (¬5) المذكورِ في حديث التيمم، وفي المرورِ بين يَدَيِ المصلي، فإن ذلك بضم الجيم، مصغر، وهو ابنُ حذيفة، القرشيُّ، العدويُّ؛ أعني: المكبرَ. ع (¬6): ذكره الناسُ كلهم، ولم ينسبوه في الرواية، إلا يحيى بنُ يحيى الأندلسيُّ أحدُ رواةِ "الموطأ"، فقال: أبو جَهْم بنُ هشام، [وهو غلط، لا يعرف في الصحابة أبو جهم بن هشام] ولم يوافق يحيى (¬7) على ذلك أحدٌ من رواة "الموطأ"، ولا غيرهم (¬8). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وأَمَّا معاويةُ، فصُعلوكٌ لا مالَ له": ¬
فيه: ما تقدم من مجاز المبالغة. والصُّعْلُوكُ -بضم الصاد-: الفقير. قال الجوهري: وصعاليكُ العرب: ذُؤبابها (¬1)، والتَّصَعْلُكُ: الفقر، قال الشاعر: [الطويل] غنينا (¬2) زَمَانًا بِالتَّصَعْلُكِ وَالْغِنَى (¬3) ويقال: تصَعْلَكَتِ (¬4) الإبلُ: إذا طرحَتْ أوبارَها (¬5). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "انكحي أسامة": فيه: جوازُ أمرِ المستشارِ بغير ما استُشير فيه إذا رأى ذلك نظرًا ومصلحةً. وفيه: جوازُ نكاح غيرِ الكُفُؤِ في النسب؛ لأن فاطمةَ هذه قرشيةٌ، وأسامةُ بنُ زيد مولى، والكفاءةُ عندنا حقٌّ لها وللأولياء (¬6)، فإن تركوها، جاز، إلا الإسلام، فيُفسخ نكاحُ الكافرِ المسلمةَ، ولو (¬7) أسلمَ بعدَ العقد (¬8)، ويؤدَّبُ، إلا أن يُعذر بجهل، والنظر في ¬
الدين، والحرية، والنسب، والقدر، والحال (¬1)، والمال، واختُلف في الجميع (¬2) إلا الإسلام. وفي "المدونة": المسلمون بعضُهم لبعضٍ أكفاء، وفُرِّقَ بين عربيةٍ ومولًى، فاستعظمَ ذلك مالك رحمه اللَّه، وتلا قولَه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] إلى قوله تعالى: {أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] والعبدُ كذلك. وقيل: إلا العبد. وقال ابنُ بشير: لا خلافَ منصوصٌ أن للزوجة ولمن قامَ لها فَسْخَ نكاحِ الفاسق، وأما الفاسقُ بالاعتقادِ، فقال مالك: لا يتزوج إلا (¬3) القدريَّة، ولا يزوَّجوا. وعن ابن القاسم، فيمن دعتْ إلى زوج، وأبى وليُّها: إذا كان كُفُؤًا لها في القدر، والحال، والمال، زوَّجَها السلطان. قال عبد الملك: وعلى هذا اجتمع (¬4) أصحابُ مالك، لا خلاف (¬5) بينهم في ذلك؛ هذا مذهبنا (¬6). ¬
قال ابنُ هبيرة: واختلفوا في فقد الكفاءة، هل تؤثر (¬1) في إبطال النكاح؟ فقال أبو حنيفة: فقدُ الكفاءة يوجب للأولياء حقَّ الاعتراض. وقال مالك: لا يُبطل النكاحَ فقدُها. وعن الشافعي قولان: الجديد منهما: أنه لا يُبطل النكاحَ عدمُها. والقديم: أن فقدَها يُبطل (¬2). وعن أحمد روايتان: أظهرهما: أنه يَبْطُل النكاحُ بفقدها. والأخرى: لا يبطل بفقدها، ويقف على إجازة الأولياء وإعراضهم (¬3). قال: واختلفوا إذا زوَّجها بعضُ الأولياء بغير كفؤ (¬4) برضاها. فقال مالك، والشافعي، وأحمد -في الرواية التي يقول فيها: فقدُ الكفاءة لا يُبطل النكاح-: لبقيةِ الأولياء الاعتراضُ. وقال أبو حنيفة: يسقط حقُّهم، واللَّه أعلم (¬5). ¬
ق: وكراهتُها له إما لكونه مولًى، أو لسواده -رضي اللَّه عنه- (¬1). واغْتبَطَتْ (¬2): هو بفتح التاء والباء؛ ليبين (¬3) أنه ليس مبنيًا للمفعول؛ فإن الغبطة -على ما قاله أهل اللغة (¬4) -: أن يتمنى مثلَ حال المغبوط من غير أن يريدَ زوالَها عنه، وليسَ بحسد، تقول منه: غَبَطْتُه بما نال، أَغْبِطُه غَبْطا، وغِبْطَةً، فاغتبطَ هو؛ كقولك (¬5): منعتُه فامتنعَ، وحبستُه فاحتبسَ، قال الشاعر: [البسيط] وَبَيْنَمَا المَرْءُ في الأَحْيَاءِ مُغْتبِطٌ ... إذْا هُوَ الرَّمْسُ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ أي: هو مغتبط. قال الجوهري: أنشدنيه أبو سعيد: بكسر الباء؛ أي (¬6): مغبوط، قال: والاسم الغِبْطَة، وهو حُسن الحال، ومنه قولهم: اللهمَّ غَبْطًا لا هَبْطًا؛ أي: نسألك الغبطةَ، ونعوذُ بك من أن نهبطَ عن حالنا (¬7). ¬
فقولها: "واغتبطَتْ"؛ أي: غبطني غيري على ما نلتُ مع أسامة -رضي اللَّه عنه- من خير، وحسنِ حال، واللَّه أعلم. * * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رِيَاضُ الأَفْهَامِ فِي شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 7 - 13 - 418 - 9933 - 978 ISBN دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالِب سوريا - دمِشق ص. ب: 34306 لبنان - بِيروت ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com
باب العدة
باب العدة الحديث الأول (¬1) 313 - عَنْ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ: أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، وَهِيَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ (¬2) عَنْهَا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تنشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا (¬3) بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا، تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ؛ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّينَ النكِّاحَ؟! وَاللهِ: مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ (¬4)، جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حَتَّى (¬5) أَمْسَيْتُ، فَأتَيْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَألْتُهُ ¬
عَنْ ذَلِكَ، فَأفْتَانِي بِأنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَني بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ، وإنْ كَانَتْ (¬1) فِي دَمِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُها زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُر (¬2). * * * ¬
* الشرح: سُبَيْعَة: بضم السين وفتح الموحدة. وقوله: "في (¬1) بني عامرِ بنِ لؤيٍّ": أي (¬2) نسبهُ فيهم. ومعنى (تَنْشَب): تمكثْ. ومعنى (تعلَّت من نِفاسِها)؛ أي: طَهُرَتْ منه. وأبو السَّنابِل: -بفتح السين و (¬3) بالموحدة- وبَعْكَك: -بالموحدة بعدها عين مهملة- بوزن (¬4) جَعْفَر، واسمه عمرٌو، وقيل: حبَّة -بالحاء المهملة والموحدة المشددة-، وقيل: بعد الحاء نون، بنُ الحجاجِ بنِ الحارثِ بنِ السباق بنِ عبد الدار (¬5)، هكذا نسبه ابنُ (¬6) الكلبي، وابنُ عبدِ البرِ. وقيل في نسبه غيرُ هذا (¬7). ¬
وقد اختلف الناس في عِدَّة الحامل المتوفَّى عنها زوجُها. والمشهورُ عندنا، وعند الجمهور: انقضاءُ عدتها بوضع الحملِ، وإن وضعت قبلَ أربعةِ أشهرٍ وعشرٍ، بل بلحظةٍ بعدَ موته وقبلَ غسلِه (¬1)؛ لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فعمَّ تعالى، فلم يفرق بين عدةِ وفاةٍ ولا طلاقٍ. وقال عليٌّ، وابنُ عباس -رضي اللَّه عنهما-، وهو قول سحنون: عليها أَقْصَى الأَجَلين؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] الآيةَ، فإذا انقضت، فلا بدَّ من طلب الوضع لأجل الآية الأخرى، وأنه لا يصح نكاحُ الحامل، فأخذ بموجب الآيتين جميعًا. وقال ابن مسعود (¬2): آيةُ النساء القُصرى (¬3) نزلت (¬4) آخِرًا بعدَ سورة الطلاق، وفيها البراءةُ بوضع (¬5) الحمل، فأشار (¬6) إلى أنها تقضي (¬7) على آية البقرة، وهذا ترجيحٌ للمذهب المشهور. (¬8) (¬9) ¬
ع (¬1): وقد (¬2) روي عن ابن عباس الرجوعُ عن قوله: أَقْصى الأَجَلين (¬3). فإن قلت: الآيتان كلُّ واحدة منهما عامَّةٌ من وجه، خاصةٌ من وجه، فآيةُ البقرة عامةٌ في كل متوفًّى عنها، حاملًا كانت أو حائلًا، والأخرى عامةٌ في كل حاملٍ، متوفًّى عنها كانت، أو غير متوفًّى عنها، وإذا تعارض العمومان، تعينَ الاحتياطُ، فلا تنقضي العدةُ السالفة إلا بيقين، وهو أقصى الأجلين؛ إذ لا ترجيح لأحد العمومين على الآخر. قلت: سلَّمنا التعارض؛ لكن يترجح قولُ الجمهور من أوجه: الأول: ما قاله ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-. الثاني: حديثُ سبيعة هذا، وهو نصٌّ عين المسألة. الثالث: ظهورُ المعنى (¬4)، وهو العلمُ ببراءة الرحم من الحمل، وهو المطلوب. وقولها: "فأفتاني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأني (¬5) حَلَلْتُ حينَ وضعتُ حملي": تصريحٌ بانقضاء العدة بنفس الوضع، وقد نُقل عن الشعبي، والنخعي، وحمادٍ: أن جواز نكاحها متوقفٌ على الطهر من دم النفاس؛ ¬
تعلقًا بقوله: "فلما تعلَّتْ من نِفاسِها"؛ أي: طهرت، ورُدَّ هذا بقولها: "فأفتاني رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأني قد حللتُ حين وضعتُ حَمْلي" (¬1)، وأن قوله: "فلما تعلَّتْ من نفاسها"؛ إنما هو إخبارٌ عن وقتِ سؤالها، ولا حجةَ فيه، وإنما الحجةُ في قوله -عليه الصلاة والسلام-: إنها حلت حين وضعتْ، ولم يُعَلِّل بالطهر من النفاس. ع: وظاهرُ قوله -عليه الصلاة والسلام-: "حللتِ حينَ وضعتِ"، ولم يفصل ولدًا كاملًا (¬2)، أو سقطًا، أو غيْرَه حجةٌ للكافة من أن ذلك يبرئها كيف كان، من غير مراعاةِ إتمامِ (¬3) خِلْقَةٍ، بل بكلِّ (¬4) مُضغة وعَلَقة مما يُعلم أنه سقطٌ؛ خلافًا لأحدِ قولَي الشافعي: إن عدتها لا تنقضي إلا (¬5) بوضع (¬6) ولدٍ كامل (¬7). ق: وهذا ضعيف -يعني: الاستدلالَ بعدم الاستفصال-؛ لأن الغالب هو الحملُ التامُّ المتخلِّقُ، ووضعُ المضغةِ والعلقةِ نادرٌ، وحملُ الجواب على الغالب ظاهرٌ، وإنما يقوي هذه القاعدة حيث ¬
لا يترجَّح بعضُ الاحتمالات على بعض، وتختلف (¬1) الحكم باختلافها (¬2). قلت: وهو كما قال رحمه اللَّه تعالى، وكأن المعتمد في ذلك عندَ العلماء (¬3): ظهورُ المعنى (¬4)، وهو أن وضعَ شيء مما ذُكر دليلٌ واضحٌ على براءة الرحم، واللَّه أعلم. ع: وقولُ أبي السنابل لها ما قالَ، قيل (¬5): إنما قال ذلك لتتربَّصَ لقوله حتى يأتي أولياؤها، إذ كانوا غُيَّبًا، فيتزوجها هو؛ إذ (¬6) كان له فيها غرض، وكان رجلًا كبيرًا، فمالت إلى نكاح غيره، كما جاء في حديث مالك. ويحتمل أنه حملَ الآيةَ على العموم لكل متوفًّى عنها، كما حملَها غيرُه، حاملًا كانت أو غيرَ حامل -كما تقدم-، ولعل الغائبَ من أوليائها على التنزيل الأول ممن ترجعُ (¬7) إلى رأيه، ولا تخالفُه (¬8)؛ ¬
إذ لو (¬1) لم يكن لها وليٌّ حاضرٌ جملةً، لم يكن بدٌّ من انتظاره في القرب، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 314 - عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لأُمِّ حَبِيبَةَ، فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْ ذِرَاعَيْهَا (¬1)، وَقَالَتْ: إِنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا؛ لأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" (¬2). ¬
الحَمِيمُ القَرَابَةُ. * * * * التعريف: زَيْنَبُ بِنْتُ (¬1) أَبِي سَلَمَةَ: واسمُه: عبدُ اللَّهِ بنُ عبدِ الأَسَدِ (¬2) بنِ هلالِ بنِ عبدِ اللَّه بنِ عمرِو بنِ مخزومٍ، القرشيةُ، المخزوميةُ. وأُمُّها: أُمُّ سلمةَ زوجُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولدت بأرض الحبشة، وكان اسمها بَرَّةَ، فسماها (¬3) النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- زينبَ؛ كما تقدَّم، وهي ابنةُ أخي النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من الرضاع؛ لأن أبا سلمةَ ¬
رضعَ مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من ثُوَيْبَةَ مولاةِ أبي لهب -كما تقدم أيضًا (¬1) -، فهي رَبيبتهُ، وابنةُ أخيه من الرضاع. (¬2) روى لها البخاري حديثًا، ومسلم آخر. و (¬3) روى عنها: القاسمُ بنُ محمدٍ، وعروةُ بنُ الزبير، وأبو سلمةَ ابنُ عبدِ الرحمن، وعبيدُ اللَّه (¬4) بنُ عبدِ اللَّه، والشعبيُّ. روى لها: أبو داود، والترمذي، والنسائي. توفيت في إمارة طارقٍ على المدينة، وشهدها ابنُ عمر. يقال (¬5): دخل النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمها، فوُضع له طهورٌ، فوثبت إليه زينبُ بنتُ أم سلمة (¬6)، فنضحَ في وجهها نضحةً من ماء، فما يعلم امرأةٌ كان في وجهها من الجمال ما كان بها (¬7)، ولقد كان ذلك يُعرف في وجهها حين عجزت، رضي اللَّه عنها (¬8). ¬
* الشرح: فيه: دليل على وجوب الإحداد على المتوفَّى عنها زوجُها، ولا خلافَ فيه على الجملة، وإن كان قد اختُلف في تفصيله، على ما هو مشهورٌ في كتب الفقه. والإحدادُ في اللغة: هو (¬1) المنعُ، يقال: أَحَدَّتِ المرأةُ تُحِدُّ -رباعيًا-، وحَدَّتْ تَحُدُّ (¬2) -بضم الحاء وكسرها، ثلاثيًا-، فهي مُحِدٌّ، وحادٌّ، قالوا (¬3): ولا يقال (¬4): حادَّة (¬5). وأما في الشرع: فهو الامتناع من الزينة، والحلي كلِّه، والطيبِ، ولبس المصَبَّغات، ما عدا الأسودَ والأزرقَ ونحوَهما، والكحلِ، والحناءِ، والامتشاطِ بما يختمر في الرأس إلا لضرورة (¬6). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إلا على زوج": عمومٌ يدخل فيه كلُّ زوجةٍ مدخولٍ ¬
بها، وغيرِ مدخولٍ بها، صغيرةً كانت، أو كبيرة، حرة، أو أمة (¬1)، مسلمة، أو كتابية. وأما (¬2) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تؤمن (¬3) باللَّه واليوم الآخر"، فهو من باب الإلهاب الذي معناه الحثُّ على الامتثال، وهو من وادي قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، تقول (¬4) العرب: أطعني إن كنتَ ابني، وقد تقدم (¬5) نحوُ هذا فيما تقدم، فعلى هذا لا يكون فيه متعلقٌ لمن خَصَّ الإحدادَ بالمؤمنة، وهو غيرُ المشهور (¬6) عندنا، وبه قال أبو حنيفة، والكوفيون، وبقولنا المشهور قال الشافعي. ع: وأجمعوا أنه لا إحدادَ على أَمَةٍ، ولا أُمِّ ولدٍ إذا تُوفي عنهن ساداتهنَّ. قال أبو حنيفة: ولا صغيرة، والعلماءُ كافةً على خلافه في الصغيرة، ولا خلافَ أن المطلقة واحدةً لا إحدادَ عليها. واختُلف في الإحداد على المطلقة ثلاثًا؛ فمذهب مالك، والشافعي، وربيعة، وعطاء، وابن المنذر: لا إحدادَ عليها؛ لقوله -عليه الصلاة ¬
والسلام-: "إِلَّا على ميتٍ"، فخصَّ الإحدادَ بالميت بعدَ تحريمه على غيره. ومذهبُ أبي (¬1) حنيفة، والكوفيين (¬2)، وأبي ثور، والحكم، وأبي عبيد: أن المطلقة ثلاثًا؛ كالمتوفَّى عنها في وجوب الإحداد (¬3). ع: وشذ الحسنُ وحدَه، فذهب إلى إبطال الإحدادِ جملةً عن المطلقة والمتوفى عنها. قال العلماء: وإنما اختص الإحداد بالمتوفى عنها دون المطلقة (¬4) احتياطًا لحفظ نسب الميت، ومحاماةً له؛ إذ لا يحامي عن نسبه (¬5)، ولا يزجر عن زوجته، بخلاف الحيِّ. قالوا: وهي الحكمة في زيادة أمدِ عدة (¬6) المتوفَّى عنها على عدة المطلَّقة؛ استظهارًا له بأتم (¬7) البراءات وأوضحِها، وهو الأمدُ الذي يظهر فيه تيقُّنُ الحملِ إن (¬8) كان بحركة الجنين؛ وذلك في الزيادة على ¬
أربعة أشهر؛ كما مرَّ. قال بعض السلف: ضُمت العشرةُ إلى أربعة الأشهر (¬1)؛ لأن فيها تُنفخ (¬2) الروح، قالوا (¬3): ولهذا خُصَّتْ عدةُ الوفاة بما يستوي فيه معرفةُ الحمل من أمدِ الزمان، ولم يوكل ذلك إلى أمانة النساء؛ كما في الطلاق، كلُّ ذلك حفظٌ للميت، ومحاماة له، وذبٌّ (¬4) عنه (¬5). قلت: ولمعترضٍ أن يعترض هذا التعليل بصغارِ الزوجات، لا سيما المراضعِ منهنَّ؛ إذ لا يتأتى فيهن (¬6) ما يتأتى (¬7) من بلغ حدَّ الوطء والحمل. ولم يأتِ إحدادٌ في السراري وأُمهات الأولاد، ولا عِدَّةٌ، بل حيضةٌ واحدة، بل (¬8) هي في الحقيقة استبراءٌ مع تأتي ذلك فيهن (¬9)، والميت محتاجٌ (¬10) إلى الذبِّ عن نسبه مطلقًا، أعني: في (¬11) الزوجاتِ ¬
وغيرِهن من السراري وأمهاتِ الأولاد. وكأن ع يحسس (¬1) لبعض هذا (¬2) الإشكال، فحاول الجوابَ عنه محاولةً ليست عندي بالقوية (¬3)، فقال: ولما كانت الصغار من الزوجات، ومن لم يبلغْ (¬4) حدَّ الوطء والحمل، شاذًا (¬5) في الزوجات، شملهن الحكمُ، وعَمَّتْهن (¬6) الحوطة؛ حماية للذريعة، واتقاء للشبهة (¬7). وهذا كما ترى، فليتأمل ما قدمناه، واللَّه الموفق. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 315 - عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَا تُحِدُّ امْرَأةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلَّا ثَوْبَ (¬1) عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ" (¬2). ¬
العَصْبُ: ثِيابٌ مِنَ اليَمَنِ، فِيها بَيَاضٌ وَسَوَادٌ. * * * * التعريف: أُمُّ عَطِيَّةَ: اسمُها نُسَيْبَةُ -بضم النون وفتح السين المهملة وإسكان المثناة تحت وبعدها الموحدة (¬1) وهاء (¬2) تأنيث- بنتُ كعبٍ الأنصاريةُ. روي لها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعون حديثًا، اتفقا (¬3) على ستة، وللبخاري حديث واحد (¬4)، ولمسلم آخر. ¬
روى عنها محمدُ بنُ سيرين، وأختُه حفصةُ. روى لها الجماعةُ (¬1). * الشرح: ظاهرُ الحديث: تحريمُ المصبَّغات مطلقًا، إلا العصبَ، والذي أجازه منه مالكٌ رحمه اللَّه الغليظُ، كأنه حملَ الحديث على ذلك لما كان المرادُ تجنبَ الزينة، وقد يكون الرقيقُ منه زينةً. وأجازه الزهريُّ مطلقًا، وكرهه الشافعيُّ مطلقًا، وحرَّمه أصحابُه مطلقًا (¬2)، على الأصحِّ عندهم فيما نقله ح في "شرح مسلم" (¬3)، وهذه مصادمة صريحةٌ للحديث، مع أن الشافعي يقول: إذا صح الحديثُ، فهو مذهبي، أو نحو هذا (¬4)، فليت شعري ما الذي دعاهم إلى تحريم ما هو مباحٌ بالنص الصريح الصحيح؟! وما وجهُ كراهةِ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه- ¬
لذلك مع ذلك؟ ولو كرهه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ما أباحه قطعًا (¬1). وقد أرخصَ في السواد: مالكٌ، والشافعي؛ وهو قولُ عروةَ، وكرهه الزهريُّ، وقد تقدم (¬2) شيء من هذا. ع: وذهب الشافعيُّ إلى أن كل صبغٍ (¬3) (¬4) كان زينةً، فلا تلبسه (¬5) الحادُّ، غليظًا كان أو رقيقًا، ونحوه للقاضي (¬6) عبدِ الوهاب، قال: كلُّ ما كان من الألوان تتزين به النساء لأزواجهن، فتُمنع (¬7) منه الحادُّ، قال: ومنع بعضُ متأخري شيوخنا من جيد البياضِ التي يُتزين به، ويُتجمل، وكذلك الرفيعُ من السواد (¬8). وقوله -عليه الصلاة والسلام (¬9) -: "ولا تكتحل" دليلٌ على منع الاكتحال. وقد اختُلف في ذلك، والمشهور (¬10) عندنا: المنعُ منه، إلا لضرورة، ¬
تكتحل ليلًا، وتمسحه نهارًا، والشاذ: ولا (¬1) للضرورة (¬2). ووجهُ المشهور: ما جاء في حديث أم سلمة، وهو في "الموطأ": "اجْعَلِيهِ بِاللَّيْلِ (¬3)، وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ" (¬4). ع: وقد أجاز الكحلَ للحادِّ، إذا خافتْ على عينها: سالمُ بنُ عبدِ اللَّه، وسليمانُ بنُ يسار، وقال (¬5) مالكٌ في "المختصر": إذا لم يكن فيه طيبٌ. وقال غيره: إن كان فيه طيبٌ إثمدٌ أو غيرُه. قال ابن المنذر: والأسودُ وغيرُه. وقال الكوفيون، والنخعي، وعطاء، والشافعي: وتكتحل ليلًا، وتمسحه نهارًا. قال الشافعيُّ: وكلُّ كحلٍ فيه زينةٌ فلا تكتحل به الحادُّ، إثمد أو غيره، ولا بأسَ بغيره عند الضرورة؛ كالفارسيِّ (¬6)؛ إذ (¬7) ليس بزينة، ¬
بل لا يزيد العينَ إلا قبحًا، إلا عندَ الاضطرار؛ كما تقدم. وقد حكى الباجيُّ نحوَه عن مالك، كان فيه طيبٌ أو لم يكن (¬1)، كان فيه سوادٌ أو خضرةٌ، قال: [و] إن اضطُرَّتْ (¬2) إلى ذلك (¬3). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "و (¬4) لا تمس طيبًا" إلى آخره. فيه: تحريمُ الطيب على الحادِّ إلا ما استُثني من النُّبْذَة، وهي بضم النون بعدها الموحدة ساكنة وبالذال المعجمة: القطعةُ، والشيء (¬5) اليسيرُ، وأدخل فيه الهاء؛ لأنه بمعنى القطعة، وظاهرُه (¬6): البخورُ بها (¬7). وقال الداودي: معناه: أن تسحق القسطَ، وتلقيه في الماء آخرَ غسلها (¬8)، ليذهب برائحة الحيض؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام- للمستحاضة: "خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً (¬9)، فَتَتَبَّعِي بِهَا أثَرَ الدَّمِ" (¬10). ¬
ع: والأولُ أظهر (¬1)، واللَّه أعلم. والقُسط -بضم القاف-، ويقال: بالكاف بدل القاف، وبالتاء بدل الطاء، والأظفارُ والقسطُ نوعان من البخور، رخص لها في ذلك عند الطُّهر من الحيض، لتطييب المحلِّ، وإزالةِ كريهِ (¬2) الرائحة (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 316 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يا رسول اللَّه! (¬1) إِنَّ ابْنَتي توفّي عنها زوجُها، وقد (¬2) اشْتكَتْ عَيْنُهَا، أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا"، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: "لَا"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّما هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ (¬3)، وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ في الجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ". فَقَالَتْ زينَبُ (¬4): كَانَتِ المَرْأةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا، وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا (¬5) سَنَةٌ (¬6)، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ: حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ، فتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا ¬
تَفْتَضُّ بِشَيءٍ إِلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ، فَتُعْطَى بَعْرَةً، فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُمَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ (¬1). الحِفْشُ: البَيْتُ الصَّغِيرُ، وتَفْتَضُّ: تَدْلُكُ بِهِ جَسَدَهَا. * * * ¬
* الشرح: فيه: ما تقدَّمَ من جواز استفتاء المرأة، وسماع المفتي كلامَها. و (عينُها): -بالرفع- على أن العين (¬1) المشتكية، و-بالنصب- على أن المرأة هي المشتكيةُ، ورُجِّح هذا، وإن كان قد وقعَ في بعض الروايات: "عيناها" (¬2). و (¬3) (أفتكحُلُها) -بضم الحاء-، وهو مما جاء مضمومًا، وإن كانت عينه حرفَ حَلْقِ. وقوله -عليه الصلاة والسلام- لا يقتضي تحريمَ الكحلِ لها، وإطلاقُه يعمُّ حالَ الضرورةِ وغيرَها. فإن قلت: ما وجهُ الجمع بين هذا الحديثِ، والحديثِ السالف الذي قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: "اجْعَلِيهِ بِاللَّيْلِ (¬4)، وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ" (¬5)؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن النهيَ (¬6) عنه بالليل لمن اضطرَّ إليه ليس على ¬
الإيجاب؛ لكن على الندب لتركه، والكراهةِ لفعلِهِ، قاله (¬1) ع (¬2) (¬3). وفيه عندي نظر. (¬4) والثاني: أنه مؤول في حديث أم سلمة بأنه (¬5) لم يتحقق الخوفُ على عينها (¬6). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما هي أربعةُ أشهر وعشرٌ" إلى آخر الحديث، معناه: قد خفف اللَّه عنكنَّ الاعتدادَ بأنْ جعلَه أربعةَ أشهر وعشرًا، بعد أن كانت (¬7) سنةً، فلا تستكثرْنَ (¬8) ذلك، ولا تستعظِمْنَ (¬9) منعَ الكحل فيه. قال العلماء: وفيه: نسخُ الحولِ في عدة الوفاة، ولا خلافَ في سقوطِ حكمِه (¬10) (¬11). ¬
وأما رميُها بالبعرة على رأس الحول، فقيل: معناه: الإشارةُ إلى رمي العِدَّةِ خلفَ ظهرها، وانفصالِها منها كما رمتْ بهذه البعرة وانفصلَتْ منها (¬1). وقيل: بل هو إشارة إلى أن الذي (¬2) فعلَتْه (¬3) من دخولها الحفش، ولبسِها شرَّ ثيابها، وانقطاعِها عن ملذوذاتها (¬4)، وحزنها واعتدادِها (¬5) سنةَ صغيرٌ هينٌ بالنسبة إلى حقِّ الزوج، وما يجب عليها من مراعاته، كما يهون (¬6) الرمي بالبعرة (¬7). قلت: وهذا الثاني هو اللائقُ (¬8) بالنسبة إلى مراعاة حقِّ الزوج، ألا ترى قولَه -عليه الصلاة والسلام-: "لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ" الحديث (¬9). ¬
والحِفْش: -بكسر الحاء المهملة وإسكان الفاء وبالشين المعجمة-: بيتٌ صغيرٌ حقيرٌ قريبُ السَّمْك، وقيل: هو الخُصُّ، وقيل: الحِفْشُ مثلُ القُفَّة من الخوص، تجمعُ فيه المرأةُ غَزْلَها وأسبابها (¬1)، قاله ع (¬2). والتفسير الأول أليقُ بمعنى الحديث، ويليه الثاني، وأما الثالث، فبعيدٌ عن معنى الحديث جدًّا، واللَّه أعلم. وقولها: فتفْتَضُّ: هو بالفاء والضاد المعجمة. قال ابنُ قتيبة: سألتُ الحجازيين عن معنى الافتضاض، فذكروا: أن المعتدَّةَ كانت لا تغتسل، ولا تمسُّ ماءً ولا تقلِّم ظُفرًا، ثم تخرجُ بعد الحول بأقبحِ منظرٍ، ثم تفتضُّ، أي: تكسر ما هي عليه من العِدَّةِ بطائر، تمسحُ قُبُلَها به، وتنبذه، فلا يكاد يعيش ما تفتضُّ به. وقال مالك: تمسحُ به جلدَها كالنشرة. وقال ابن وهب: تمسحُ بيدها (¬3) عليه، أو على ظهره. وقيل: معناه: تمسح به، ثم تفتضُّ، أي: تغتسل بالماء العذب، والافتضاض: الاغتسالُ بالماء العذب للإنقاء (¬4)، وإزالة الوسخ حتى تصير كالفِضَّة. ¬
قال الأخفش: تفتضُّ (¬1) تتنظَّفُ وتنتقي (¬2)، مأخوذ من الفِضَّة؛ تشبيهًا (¬3) بنقائها وبياضها. وقيل: تفتضُّ: تُفارق ما كانت عليه (¬4). ع: وذكر الهروىُّ: أن الأزهريَّ قال: رواه (¬5) الشافعي: (فتَقْبِصُ) -بالقاف والموحدة والصاد المهملة-، مأخوذ من القَبْصِ، وهو الأخذُ بأطراف الأصابع (¬6). قلت: وهو غريب، واللَّه أعلم. * * * ¬
كتاب اللعان
كِتْابُ اللعَانِ
الحديث الأول
كِتْابُ اللعان الحديث الأول 317 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ: أَنَّ فُلَانَ بنَ فُلَانٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأتهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ، تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيم، وإنْ سَكَتَ، سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ يُجبْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ (¬1) ابْتُلِيتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- هَؤُلَاءَ (¬2) الآيَاتِ في سُورَةِ النُّورِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، فتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ، وَوَعَظَهُ، وَذَكرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ. فَقَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ! مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا. ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْونُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ. فَقَالَتْ (¬3): لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ! إِنَّهُ لَكَاذِبٌ. فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ¬
الصَّادِقِينَ، وَالخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ، ثُمَّ ثَنَّى بِالمَرْأَةِ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ، وَالخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ. ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ثَلَاثًا (¬1) " (¬2). وَفي لَفْظٍ: "لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا". قَالَ: يَا رَسُولِ اللَّهِ! مَالِي. قَالَ: "لَا مَالَ لَكَ، إِنْ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وإنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا" (¬3). ¬
* مقدمة في حقيقة اللعان ومعناه: اللِّعانُ، والمُلَاعَنَةُ، والتَّلَاعُنُ، والالْتِعَانُ: أصلُه (¬1): اللَّعْنَةُ، وهي (¬2) الإبعادُ والطردُ، وسُمي هذا لعانًا؛ لما يعقب من اللعنةِ والغضبِ على الكاذب من الزوجين، يقال: لاعَنَ امرأَتَهُ مُلَاعَنَةً ولِعانًا، وقد تَلَاعَنَا، والْتَعَنَا، بمعنى واحد، ولاعَنَ الحاكمُ بينهما، فتلَاعَنَا (¬3). وهو في الشرع: يمينُ الزوجِ على زوجته بِزِنى، أو نفيِ نسب، ويمينُ الزوجةِ على تكذيبه، وليس شهادةً (¬4)؛ خلافًا لمن قال ذلك من الشافعية، فيصحُّ مع الرقِّ والفسقِ. قال العلماء: ولا يتعدَّدُ يمينٌ إلا في اللعان، والقَسامة، ولا يكون اليمينُ في جانب المدَّعِي إلا فيهما. وشرطُ الملاعِنِ: أن يكون زوجًا، مسلِمًا، مكلَّفًا، فيلاعن الحرُّ الحرةَ، والأمةَ، والكتابيةَ، وكذلك العبدُ في هذه الثلاث، والنكاحُ ¬
الفاسدُ بالنسبة إلى المتلاعنينِ كالصحيح (¬1). قالوا: والحكمةُ في شرعيته: حفظُ الأنسابِ، ونفيُ المعرَّةِ عن الأزواج. وقد أُجمع على صحته في الجملة. * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله: "أَنَّ فلانَ بنَ فلانٍ": اعلم: أن فلانَ وفلانةَ كناياتٌ (¬2) عن الأعلام، وهما مما لا يُثنى، ولا يُجمع، وإذا وقع (ابن) بين فلان وفلان (¬3)؛ كقوله (¬4): هذا فلانُ بنُ فلان، عوملا معاملة العَلَمين في حذف تنوينِ الأول، وحذفِ ألف الوصل من (ابن)، كما تقول: هذا زيدُ بنُ عمرو سواء، ومما يجري مجرى الأعلام -أيضًا- في هذا (¬5): قولهم: طامرُ بنُ طامر لمن يُجهل نسبُه، ولا يُعلم أبوه، ويقال ذلك أيضًا: لمن لا قرابةَ بينَك وبينه، ومعناه بعيدُ بنُ بعيد، قال الشاعر: أَزَعَمْتُمُ أَنِّي سَأَتْرُكُ أَرْضَكُمْ ... خَلْفِي وَأَذْهَبُ طَامِرًا عَنْ طَامِرِ ¬
ويجري هذا المجرى -أيضًا- أسماءُ الأعلام الموضوعةُ لما لا يعقل؛ كقولك: هذا أبو (¬1) مهدي بنُ حفصة، وأبو مهدي: الديك، وحفصةُ: الدجاجة، وهذا سمسمُ بنُ ثعالة، وسمسمٌ، وثعالةُ: من أسماء الثعلب (¬2)، وكقولهم: للخبزِ: جابرُ بنُ حَبَّةَ، سُمي جابرًا؛ لأنه يجبر الجائعَ، وهو متَّخذ من حَبِّ الطعام، قال الشاعر: أَبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنَا في الظَّهَائِرِ ... يَجِيءُ فَيُلْقِيَ رَحْلَهُ عِنْدَ جَابِرِ وأبو مالك كنية للجوع (¬3)، واللَّه أعلم. وانظر لم قال الراوي: أن (¬4) فلانَ بنَ فلان، فكنَّى عنه، ولم يُعَينه (¬5)، وهو عُوَيمِرُ بنُ أبيضَ العجلانيُّ، الأنصاريُّ، المشهورُ بصاحب اللِّعان. الثاني: قوله: "أرأيتَ لو أَنَّ أحدنا": ظاهره: أنه سؤالٌ عما لم (¬6) يقع، ويحتمل أن يكون قد وقع، فعلى الأول: ينطبق قوله: "إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُليتُ به"، وعلى الثاني: وهو أن يكونَ الأمرُ قد وقعَ قبلَ السؤال؛ لكن لما تأخَّر جوابه، بينَ ضرورَته ¬
ليستجرَّ (¬1) بذلك الجواب، ليعرف الحكم، فيعمل (¬2) بمقتضاه. الثالث: قوله: "فأنزل اللَّه -تعالى- هؤلاء (¬3) الآياتِ" يقتضي أن سؤالَه سببُ نزولها، وقد صحح ابنُ عطيةَ أن سببَ نزولها هلالُ بنُ أميةَ، فقال (¬4): إنه الصحيحُ المشهور (¬5)، وأبى ذلك الطبريُّ وغيرُه، وهذا الحديث يدلُّ لهم، كما تقدَّم. وقد أُجيب عنه: بأن قولَه لعويمر: "قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفي صَاحِبَتِكَ قُرْآنًا"، معناه: ما نزلَ في هلالِ؛ لأن ذلك حكم عامٌّ لجميع المسلمين. قال ع، وتبعه (¬6) ح (¬7): ويحتمل أن تكون الآية نزلتْ فيهما، فلعلَّهما سألا في (¬8) وقتين متقاربين، فنزلت الآيةُ فيهما، وسبقَ هلالٌ باللعان، واللَّه أعلم. قلت: وكلُّ هذا محتمَل، واللَّه أعلم. ¬
قالوا: وكانت قصةُ (¬1) اللعان في سنة تسعٍ من الهجرة (¬2)، وتلاوتُه -عليه الصلاة والسلام- الآياتِ؛ ليُعرف حكمُها، ويُعمل بها. الرابع: قوله: "ووعَظَه وذَكَّرَه": قال الجوهري: الوَعْظ: النُّصْحُ، والتذكيرُ بالعواقبِ، تقول: وَعَظْتُهُ وَعْظًا وعِظَةً، فاتَّعَظَ؛ أي (¬3): قَبِلَ المواعِظَ (¬4) (¬5). قلت: فعلى هذا التفسير يكون قولُه: "وذَكَّرَه" من باب: أقوى وأقفر؛ إذ التذكيرُ مدلولُ الوعظِ؛ كما أن الإقفارَ من مدلولُ الإقواء، واللَّه أعلم، فيكون الوعظُ سُنَّةً للمتلاعِنَيْنِ، وكذلك تخويفُهما من وَبال اليمين الكاذبةِ، وأن (¬6) الصبرَ على عذابِ الدنيا وهو الحدُّ، أهونُ من عذاب الآخرة. ع: وذهب الشافعيُّ إلى أن الإمام يَعِظُ كلَّ واحدٍ بعدَ تمام الرابعةِ، وقبلَ الخامسة، وقال الطبري فيه: إنه يجبُ للإمام (¬7) أن يعظَ ¬
كُلَّ مَنْ يحلِّفه (¬1). قلت: وفيه نظر. الخامس: قوله: "فبدأ بالرجل": (¬2) -مهموز-؛ لأنه بمعنى: شَرَعَ، بخلاف ما إذا كان بمعنى: ظهرَ، فإنه لا يُهمز. وابتداؤُه بالزوج؛ لابتداء اللَّه -تعالى- به في الآية، ولأنه الذي يدرأ (¬3) حَدَّ القذف عن نفسه، وأَيمانُه كالشهودِ على دعواه، ويثبت عليها هي الحد ما لم تلتعنْ، ولا خلاف في ذلك. ولكن اختلف العلماء في زياداتٍ وبيانات في هذه اليمين بحسب دعوى الزوج؛ من رؤية، أو مجردِ قذفٍ، أو نفي حملٍ، اختلافًا لا يؤول إلى تنافُر؛ وإنما هو (¬4) حكم بالتمام والكمال، والأمر المتقارب مما هو معروف. وفي مذهبنا مشهورٌ. وفي مذهب غيرنا: هل يقول: أشهدُ باللَّه، أو يعلمُ اللَّه؟ وهل يزيدُ بعد قوله: أشهد باللَّه الذي لا إله إلا هو، أم لا؟ وهل يزيد في (¬5) دعوى الرؤية بعدَ قوله: إني لمن الصادقين: لرأيتُها تزني كالمِرْوَدِ في المكحلة؛ كما يقول الشهود، أو يقتصرُ على ¬
قوله: رأيتُها (¬1) تزني فقط؟ وهل قوله: إني لمن الصادقين، لازمٌ، أم يكفيه الحلفُ على نصِّ دعواه، الذي فيه تصديقه؟ وكذلك هل يقتصر في الحمل على قوله: لزنَتْ (¬2)، أو يزيدُ (¬3): وما هذا الحملُ مني؟ وهل يزيد: لقد استبرأت، أم لا؟ ويكون يمين (¬4) المرأة على تكذيبه بحسب هذا. وكلُّ هذا مختلَف فيه في مذهبنا. وهل يجزىء المرأةَ اللعنةُ من الغضب، أم لا؟ وهل يقوم قولُه: ما كذبتُ عليها في الخامسة، مقامَ قوله: إني لمن الصادقين؟ وهي أيضًا في الخامسة، أم لا يجزىء (¬5) إلا ما نصَّ اللَّه تعالى عليه (¬6)؟ وذهب الشافعيُّ، ونحوُه مذهبُ الليثِ، والثوريِّ، وأبي حنيفة: ¬
أنه يقول: أشهد باللَّه إني لمن الصادقين فيما رميتُها به من الزنا، وُيشير إليها، وإن كان نفيَ حملٍ، زاد: وما هذا الحملُ مني. وقال زفرُ مثلَ هذا، إلا أنه قال: يخاطبها وتخاطبُه، بقوله (¬1): فيما رميتُكِ به، وتقول هي: فيما رميتَني به. ع: واختُلف عندنا إذا ابتدأت المرأةُ باللعان، ثم لاعنَ الزوجُ، هل يجزئها؟ وهو قول أبي حنيفة، أم (¬2) تعيدُ اللعان (¬3)؟ قلت: والمشهورُ عندنا أنه لا يُعيد (¬4) عليها بعدَ لعانِ الزوج. وقال أشهب: يُعاد، واستحبه ابنُ الكاتب. وقال الشافعيُّ وطائفة: لا يصحُّ لعانُها ابتداءً. السادس: قوله: "ثم فرق بينهما": ظاهره يدلُّ لأبي حنيفةَ القائلِ: إنه (¬5) لا تقعُ الفرقةُ بين المتلاعنين حتى يقضيَ القاضي بالفراق (¬6)، وهذه (¬7) إشارةٌ للحكم عنده، وعندَنا: لا يفتقرُ إلى حاكم؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في طريق أخرى: "أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا"، ¬
ولقوله: ففارقها عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال-عليه الصلاة والسلام-: "ذَلِكُمُ (¬1) الفِرَاقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ" (¬2)، ولم يعتبر قضيةَ القاضي. السابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اللَّهُ يعلمُ أَنَّ أَحدَكما كَاذِبٌ، فهل منكما تائبٌ": فيه: تغليبُ المذكَّرِ على المؤنث. وفيه: أخذُ الأحكام على الظاهر، وعرضُ التوبة على المذنبين، وقد أُخذ (¬3) منه أن الزوجَ لو رجعَ، فأكذبَ نفسَه، كان توبةٌ، ويجوز أن يكون النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرشدَ إلى التوبة فيما بينهما وبين اللَّه تعالى. تنبيه: قال ع، وتبعه ح: وفيه: ردٌّ على مَنْ ذهبَ من النحاةِ إلى أن (أحدًا) لا تستعمل (¬4) إلا في النفي، (¬5) في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَنَّ أحدَكما كاذبٌ"، قال: فكذلك قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] (¬6). قلت: هذا من أغرب وأعجب ما يُسمع عن ع رحمه اللَّه تعالى، مع براعته ¬
وحذقه، فإن الذي قاله النحاة رحمهم اللَّه تعالى: أن (¬1) (أَحَدٌ) التي للعموم، لا تُستعمل (¬2) إلا في النفي، بهذا القيدِ الذي لابدَّ منه إجماعًا منهم، نحو قولنا: ما في الدار مِنْ أحدٍ، وما جاءني مِنْ أحدٍ، ونحوِ ذلك، أما إذا كانت (أحدٌ) بمعنى: واحد، فلا خلافَ بينهم -أيضًا- في جواز استعمالها في الإيجاب نحو (¬3) قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، و (¬4) {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]، وغير ذلك مما كان بمعنى واحد، وكما هي في الحديث، ألا ترى أن المعنى: اللَّه يعلمُ أن واحدًا منكما كاذبٌ؟ وع (¬5): أطلقَ، ولم يُقَيِّدْ -كما تقدَّم-، وكأنه لم يتبينْ مرادَ النحويين في ذلك، وقد جمع الشاعر بين (أحد) التي للعموم، والأخرى، فقال (¬6): لَقَدْ ظَهَرْتَ فَلَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ... إِلَّا عَلَى أَحَدٍ لا يَعْرِفُ القَمَرَا فاستعملَ الأولى لعمومها في النفي، والثانيةَ التي هي بمعنى واحدٍ في الإيجاب، فليتنبه لذلك، وقد سبق تقريرُنا لهذا المعنى في ¬
أول الكتاب عندَ قوله عليه السلام: "لا يَقْبَلُ (¬1) اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ"، الحديث (¬2)، وباللَّه التوفيقُ والعصمة. الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن كنت صادقًا" إلى آخر الحديث، دليلٌ على استقرارِ المَهْرِ بالدخول، وثبوتِ الصداقِ للملاعَنَة، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 318 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا في زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتَلَاعَنَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَضَىَ بِالوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ المُتَلَاعِنَيْنِ (¬1). ¬
* الشرح: الولدُ الملاعَنُ فيه، اتُّفق على أنه يُلْحَق بأُمه، وأنه ينقطعُ نسبُه من جهة أبيه ما لم يكذِّبْ نفسَه، ويُنسب إلى قوم أُمه ومَواليها إن كانت مولاةً، وترثُ منه ما فرضَ اللَّه لها، وكذلك هو أيضًا. وقال ابنُ مسعود: إنها عَصَبَةٌ، فترثُ الجميع. قالوا: ولا خلافَ في هذا، ولا في (¬1) توارثه مع أصحاب الموارثات من جهة أمه؛ كجدته، وإخوته، فإنهم يتوارثون كأنهم إخوةٌ لأم. واختُلف في تَوْءَميها (¬2)، والمعروفُ عندنا: أنهما شقيقان، وفُرِّقَ بينهما وبين توءَمي (¬3) الزانية بإمكان الاستلحاق واستحالته في الزانية. وكذلك اختلف أصحابُنا في توءَمي (¬4) المغتصبة، والمتحملة (¬5) بأمان، والمسبِيَّة، هل هما شقيقانِ، أم لا؟ والذي صوَّبه ابنُ يونس من أصحابنا أن توءَمي (¬6) المغتَصَبةِ والزانيةِ ¬
يتوارثان بأنهما إخوةٌ لأم، قال: لأن المغتصِبَ والزانيَ لو استلحَقَهما، لم يلحقا به، هذا مذهبنا. والصحيحُ عند الشافعية في توءَمي (¬1) الملَاعِنة: التوارثُ من جهة الأم خاصةً، ووافقونا في الزانية، واللَّه أعلم. مسألة: ما فَضَلَ عن ميراثِ ولدِ الملاعنة المعتقة، فلموالي أُمه، وأما العربيةُ، فلجماعة المسلمين، هذا قولُ مالك، والزهريِّ، والشافعيِّ، وأبي ثورٍ (¬2). وقالت طائفة: يرثه ورثةُ أمه، و (¬3) قاله الحكم، وحماد. وقال آخرون (¬4): عصبةُ أمه، ورُوي عن علي، وابنِ مسعود، وعطاءٍ، وابنِ عمرَ، وبه قال أحمدُ بنُ حنبلٍ، وقد تقدم قولُ ابنِ مسعود (¬5): أَنَّ أُمه عصبتهُ، وقال أبو حنيفة: يُرَدُّ ما فضلَ على ورثته إن كانوا ذوي (¬6) أرحام، واللَّه أعلم (¬7). ¬
وقوله: "وفَرَّقَ بينَ المتلاعِنين"، قد تقدم الكلامُ على ذلك قريبًا، وباللَّه التوفيق. * * *
الحديث الثالث
الحديث الثالث 319 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: جَاءَ رَجُل مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ لَكَ إبلٌ؟ "، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَمَا أَلْوَانُها؟ "، قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: "فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ " قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: "فَأَنَّى أتَاهَا ذَلِكَ؟ "، قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نزَعَه عِرْقٌ، قَالَ: "وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نزَعَهُ عِرْقٌ" (¬1). ¬
* الشرح: فيه: حسنُ تأنِّي المستفتي، وتنبيهُه (¬1)، وعدمُ تصريحه. وفيه: حجةٌ للقول بالقياس على ما قيل (¬2)؛ لتشبيهه -عليه الصلاة والسلام- ولدَ هذا الرجل المخالفَ للونه بولد الإبل المخالفِ لألوانها، والعلةُ الجامعةُ هي نزعُ العرق، والعرقُ هنا: الأصلُ من النسب، شُبِّه بعرقِ (¬3) الثمرة، يقال: فلانٌ مُعْرِق في الحَسَب، وفي اللُّؤْمِ والكَرَم. ومعنى نزع: جَذَبَ، هذا أصلُه، وكأنه في الحديث بمعنى: أشبهَه، وأظهرَ لونَه، يقال: منه نزَعَ الولدُ لأبيه، ونزَعَ إليه، ونزَعَهُ أبوه (¬4). ¬
وفيه: ضربُ الأمثالِ والأشباهِ تقريبًا للأفهام (¬1)، وعرضُ الغامضِ المشكلِ على الظاهر البَيِّنِ. ع (¬2): وفي هذا الحديث: أن التعريضَ اللطيف إذا لم يُقصد به المشاتمة (¬3)، وكان لمعنًى وضرورة، أو شكوى، أو استفتاء، فلا حدَّ فيه، وقد استدلَّ به من لا يرى الحدَّ في التعريض والكناية، وهو مذهب الشافعي. قلت: وفي الاستدلال به نظر؛ لما ذُكر من أنه جاء على طريق الاستفتاء، والضرورةُ داعية إلى ذكره ذلك، وسؤالِه عنه، وهو بخلاف ما جاء على طريق المشاتمة والتشفِّي، واللَّه أعلم. وأبعدُ من هذا استدلالُ (¬4) الخطابي به (¬5) على نفي الحدِّ عَمَّنْ قال: ليس الولدُ مني؛ إذ ليس فيه شيءٌ من ذلك، وإنما فيه إنكارهُ اللونَ دونَ الولد، ونفيه له (¬6). والأَوْرَقُ من الإبل: الذي فيه بياضٌ وسواد، وهو أطيبُ (¬7) الإبل ¬
لحمًا، وليس بمحمودٍ عند العرب في عملِه (¬1) وسيره (¬2)، ومنه قيل للرماد: أورق، وللحمامة: ورقاء، وللذئبة: ورقاء. وقال أبو زيد: هو الذي يضربُ لونُه إلى خضرة (¬3). والمعروفُ الأول، وجمعه وُرْقٌ؛ مثل: أَحْمَر، وحُمْر، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 320 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بنُ زَمْعَةَ في غُلَامٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا ابْنُ (¬1) أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ عَلَى فَرِاشِ أَبي مِنْ وَلِيدَتِهِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَللْعَاهِرِ الحَجَرُ، وَاحْتَجبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ"، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ (¬2). ¬
* الشرح: قال أبو سليمانَ الخطابيُّ رحمه اللَّه: إن أهل الجاهلية كانوا يَقْتنون الولائدَ، ويضربون عليها الضرائبَ، فيكتسبْنَ بالفجور، وكان من سيرتهم إلحاقُ النسب (¬1) بالزناة إذا ادَّعَوا الولدَ؛ كهو في النكاح، فكانتْ لزمعةَ أمةٌ كان يُلم (¬2) بها، وكانت له عليها ضريبةٌ، فظهر بها حملٌ كان يُظن أنه من عتبةَ بنِ أبي وقاص، فهلكَ عتبةُ كافرًا لم يسلِمْ، ¬
فعهدَ إلى سعدٍ أخيه أنه يستلحق الحمل (¬1) الذي بأَمَة زمعةَ، وكان لزمعةَ ابنٌ يقال له: عَبْدٌ، فخاصمَ سعدٌ عبدَ بنَ زمعةَ في الغلام الذي ولدتْه الأمةُ، فقال: سعدٌ: هو ابنُ أخي، على ما كان عليه الأمرُ في الجاهلية، فقال (¬2) عبدُ بنُ زمعة: بل هو أخي، ولد على فراش أبي، على ما استقر عليه الحكمُ في الإسلام، فقضى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبدِ بنِ زمعة، وأبطل دعواه في الجاهلية (¬3). إذا ثبت هذا، فلتعلم أن هذا الحديث أصلٌ في أمرين: أحدهما: إلحاقُ الولد بصاحب الفراش، وإن طرأ عليه وطء محرَّمٌ. والثاني: ما يقولُه أصحابنا: إن الحكم يبقى بين (¬4) حكمين، وذلك أن يكون الفرعُ الواحد (¬5) يتجاذبه مشابهة (¬6) أصولٌ متعددة (¬7)، فيعطَى أحكامًا مختلفةً بحسب تلك المتشابهات (¬8)، ولا يُمحض (¬9) الحكمُ لأحد الأصول. ¬
وبيان ذلك: أن الفراشَ مقتضٍ لإلحاقه بزمعةَ، والشبهُ (¬1) البَيِّنُ يقتضي إلحاقَه بعُتبة، فأُعطي النسب بمقتضى الفراش، فاُلحق (¬2) بزمعة، وروعي أمرُ الشبه بأمرِ سودةَ بالاحتجابِ منه، هذا من حيث المنقول. وأما من حيث المعقول: فإنه إذا تعارضت شائبتان (¬3) في محل واحد، فلا بد له من حكم؛ إذ لا تخلو واقعة عن حكم؛ بدليل سيرة (¬4) السلف -رضي اللَّه عنهم-؛ فإنهم لم يعفوا (¬5) عن حكم في واقعة بناءً على أنه لا حكمَ فيها، واعتبارُ إحدى الشائبتين (¬6) دون الأخرى تَحَكُّم، وإعمالُهما معًا مطلقًا في جميع الأحوال متناقضٌ، فلا مخلصَ إلا ما ذكرناه. وهذا النوع (¬7) من التصرُّف يكثُر وجوده في مذهب مالك رحمه اللَّه، فكثيرًا ما يحكم في حالتي المسألة الواحدة بحكمين متناقضين؛ لتعارض الشوائبِ فيها، فرتب على كل شائبة مقتضاها؛ ككونه جعلَ الوضوءَ كالعبادة (¬8) الواحدة، فأفسدَها بالتفريق المتفاحِش (¬9) عَمْدًا (¬10)، ¬
وجعلَه كعبادات، فلم يفسده (¬1) بالتفريق سهوًا، وإن طال؛ ومثلُ (¬2) ذلك: جعلُه المسبوقَ بانيًا في (¬3) الأفعال؛ إذ لا تأثير للإمامة فيها، قاضيًا في الأقوالِ؛ لتأثير الإمامة فيها، ومن ذلك جعلُه، الأكلَ سهوًا في الصوم يوجب القضاءَ إن (¬4) كان واجبًا، ولا يوجبه (¬5) إن كان تطوُّعًا، وجعلُه -أيضًا- كالعمد في وجوب قضاء الصوم المقدور (¬6)، وكالمريض في أنه لا يقطع التتابع، ومن ذلك جعلُه المديانَ فقيرًا، فلم يوجب عليه زكاةَ النقدين، وغنيًا، فأوجبَ عليه زكاةَ الماشيةِ والحرثِ، ونظائرُ ذلك كثيرة في مذهبنا، فيعتقد الغمرُ الجاهلُ (¬7)، أو العالمُ الذي لم يبلغ مبلغَ الاستقلال بالنظر في الشرع، ولم يُحط بمقصود (¬8) صاحب الشريعة: أن ذلك تناقض، وأن مذهبَ مالك لا يجري على قياس، وليس كما قال: ولكن كما قيل: وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ ¬
هذا معنى كلامُ صاحب "البيان والتقريب" وأكثرُ لفظه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "احْتَجِبي (¬1) منه يا سَوْدَةُ" هل هو على الإيجاب، أو الاستحباب؟ الصحيحُ: أنه على الاستحباب دونَ الإيجاب، وبذلك قال مالك، والشافعي، وأبو ثور، وغيرُهم، وبه أجابوا عن قول أصحاب الرأي، والثوري، والأوزاعي، وأحمد: أن من فَجَرَ بامرأة، حُرمت على أولاده، وأن ذلك أحدُ قولي (¬2) مالك، مستدلين بهذا الحديث، فقالوا: لما رأى الشبهَ بعتبةَ، علم -عليه الصلاة والسلام- أنه من مائه، فأجراه في التحريم مجرى النسب، وأمرَها بالاحتجاب منه، ولما كان مالكٌ، والشافعيُّ، وغيرُهم لا يرون تحريمها، تأولوا قولَه لسودةَ: "احتجبي منه" على معنى الاستحباب والاستظهار بالتنزُّه عن الشبه (¬3)، هكذا نقله الخطابي في "شرح السنن"، قال: وقد كان جائزًا أن لا يراها لو كان أخاها ثابتَ النسب، ولأزواج النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الباب ما ليس لغيرهنَّ (¬4) من النساء، قال اللَّه تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32] الآيةَ، وقد يُستدل بالشبه في بعض الأمور لنوع من الاعتبار، ثم لا يقع الحكمُ ¬
به، ألا ترى أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في قصة المتلاعنة (¬1): "إِنْ جَاءَت (¬2) بِهِ كَذَا وَكَذَا، فَمَا أَرَاهُ إِلَّا كَذَبَ عَلَيْهَا (¬3)، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا (¬4)، فَمَا أَرَاهُ إِلَّا صَدَقَ عَلَيْها"، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ المكروهِ، ثم لم يحكم به، وإنما يُحكم بالشبه (¬5) في موضعٍ لا يوجد فيه (¬6) أقوى منه؛ كالحكم بالقافَةِ، وأبطل معنى الشَّبَه (¬7) في المتلاعنة (¬8) إلى وجود الفراش أقوى منه، وهذا كما يحكم في (¬9) الحادثة بالقياس إذا لم يكن فيها نصّ، فإذا وجد فيها ظاهر، ترك له القياس، واللَّه أعلم (¬10). وفيه: أن فراشَ الأمةِ كالحرة، وهو مذهبنا؛ أعني: أنها تكون فراشًا بالوطء، فمتى (¬11) اعترفَ سيدُها بوطئها، أو أتتْ بولدٍ، فاعترف ¬
به السيدُ، أو ثبتت (¬1) عليه بينةٌ (¬2) إن أنكر، لحق به، وأما الحرةُ، فبالعقد وإمكان الوطء، ولحق الولد في مدة يلحق الولد في مثلها. ع: وشذَّ أبو حنيفة، فشرط العقدَ خاصةً، وقال: لو (¬3) طلق عقبَ العقد من غير إمكان وطء، وجاءت بولد لستة أشهر من حينئذ (¬4)، لَحِقَ به (¬5). وفيه (¬6): أن للورثة أن يُقروا بوارث. ومعنى: "هو لك"؛ أي: أخٌ لك. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "الولدُ للفراش"؛ أي: لصاحب الفراش. وقوله (¬7): "وللعاهرِ الحجرُ"، العاهر: الزاني. قال الخطابي: يحسب أكثرُ الناس أن معنى الحجر ها (¬8) هنا الرجمُ بالحجارة، وليس الأمرُ كذلك؛ لأنه ليس كلُّ زانٍ يُرجم، إنما ¬
يُرجم المحصَنُ، وإنما معنى الحجر هاهنا (¬1): الحرمانُ والخَيْبَة، كقولك إذا خيبتَ الرجلَ (¬2) وآيسته من الشيء: مالكَ غيرُ التراب، وما في يدك غيرُ الحجر، ونحو ذلك من الكلام، وقد رُوي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "إِذَا جَاءَكَ صَاحِبُ الكَلْبِ يَطْلُبُ، فَامْلأْ كَفَّهُ تُرَابًا" (¬3)، يريد: أن الكلبَ لا ثمنَ له، فضرب المثل بالتراب الذي ليس له قيمةٌ (¬4). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "يا عبدُ بنَ زمعة" يجوز في (عَبد) ضمُّ الدال، وهو الأصل، وفتحُها (¬5) إتباعًا لنونِ (ابن)، وإسكانُ ميم (¬6) (زمعة) أكثرُ من الفتح. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 321 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: "أَلَم تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا" (¬2) نَظَرَ آنِفًا إِلَى زيدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زيدٍ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ (¬3) لَمِنْ بَعْضٍ؟! " (¬4). ¬
وَفي لَفْظٍ: "كَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا" (¬1). * * * * الشرح: السُّرورُ: خِلافُ الحزن، وأما قولُ الشاعر: نَسُرُّهُمُ إِنْ هُمُ أَقْبَلُوْا ... وَإِنْ أَدْبَرُوا فَهُمُ مَنْ نَسُبُّ فليس من هذا المعنى، بل معناه: نطعنهم في سُرَّاتهم، يقال: سَرَّهُ: إذا طعَنه في سُرَّته، وقولُه: فهم [مَنْ] نَسُبُّ؛ أي: نطعنهم في سَبَّاتهم؛ جمع سَبَّة، وهي الإستُ (¬2). والأسارير: جمع أسرار، وأَسْرار جمعُ سِرَر؛ مثل: عنب، ¬
وهي الخطوط التي في الوجه والجبهة، ويقال فيها أيضًا (¬1): الأَسِرّة، والغُضون، وأما التي في الراحة، فواحدها سِرَّة، والجمعُ (¬2) سِرَر؛ مثل: سْدَرَة وسِدَر، ويقال -أيضًا- فيه (¬3): الأَسِرَّة على غير قياس، ويقال أيضًا: أَسْرار، وسُرَر، فأسرار على القياس، وسُرَر على غير قياس (¬4)؛ كالأسرة. وقال الجوهري: السَّرَرُ واحدُ أَسرار الكَفِّ والجبهة، وهي: خطوطهما (¬5)، وأنشد قول (¬6) الأعشى: فانْظُرْ إِلَى كَفٍّ وَأَسْرَارِها ... هَلْ أَنْتَ إِنْ أَوْعَدْتَني ضائِرِي (¬7) قال الإمامُ في صفته -عليه الصلاة والسلام-: ورونقُ (¬8) الجلال يَطَّرِدُ في أسارير جبينه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬9). ¬
ومُجَزِّز: -بضم الميم (¬1) وفتح (¬2) الجيم وكسر الزاي المعجمة المشددة بعدها زاي ثانية (¬3) -، ونقل ع في الزاي: الفتحَ أيضًا (¬4)، ومُحْرِز -بحاء مهملة ساكنة وراء مكسورة- (¬5)، وهو من بني مدلج، وكانت (¬6) القِيافَة فيهم، وفي بني أسد، يعترف (¬7) العربُ لهم بذلك. قال الزبير بن بكار: قيل له: مجزز؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا، حلقَ لحيتَه. وقال غيره: جَزَّ (¬8) ناصيتَه. ومعنى آنفًا: قبل، وقيل: أول وقت نحن فيه قريب (¬9)، وقد قرىء (¬10) (أَنِفًا) على فَعِل؛ مثل كَتِف. ¬
فيه: دليلٌ على ثبوت أمرِ القافة، وصحةِ الحكم بقولهم من حيث الجملة، وإن كان قد اختُلف في ذلك. فنفاه أبو حنيفة مطلقًا، وأثبته الشافعي مطلقًا، وأثبته مالك في الإماء، ونفاه في الحرائر، في المشهور عنه. ع: وقد روى الأبهريُّ عن الرازيِّ (¬1)، عن ابن وهب، عن مالكٍ: أنه أثبته في الحرائر والإماء جميعًا. فدليلُ المثبتين هذا الحديثُ؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- قد سُرَّ بقولِ مجززٍ. قالوا: ولم يكن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيُسَرَّ بأمر لا يُعتبر شرعًا؛ لأنه باطل، ولا يُقِرُّ -عليه الصلاة والسلام- على باطل، فضلًا عن أن يُسَرَّ به، وما تقدم أيضًا في حديث زمعةَ؛ من أنه -عليه الصلاة والسلام- رأى شبهًا بينًا بعتبةَ، فأمر سودةَ بالاحتجاب منه، ولأن الفراش إنما قُضي به من جهة الظاهر، ولا يُقطع فيه بأن الولد لصاحب الفراش، فإذا فقدنا الفراشَ المؤديَ (¬2) لغلبة الظن تطليبًا للظن (¬3) من وجه آخر؛ وهو الشبه. قال الإمام: واحتجَّ مَنْ نفاه بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4) لاعَنَ في قصة (¬5) العجلانيِّ، ¬
ولم يؤخِّرْ حتى تضعَ، ويرى الشبهَ. وقد ذكر -أيضًا (¬1) - في قصة (¬2) المتلاعنين: "إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا، فَهُوَ لِفُلَانٍ"، ثم لم ينقض حكمَه لما جاءت به على الصفة المكروهة، ولا حَدَّها، فدلَّ ذلك على أن الشبه غيرُ معتبر، وانفصل عن هذا؛ بأن هاهنا فراشًا يرجع إليه، وهو مقدم (¬3) على الشبه، فلم ينقض الحكم المبني عليه بظهور (¬4) ما يخالفه بما ينحطُّ عن درجته؛ كما لم ينقض الحكم بالنص إذا ظهر فيما بعد أن القياس يخالفه. وحجةُ التفرقة: أن الحرائر لهنَّ فراشٌ ثابت يُرجع إليه، ويُعول في إثبات النسب عليه، فلم يلتفت إلى تطلُّب معنى آخرَ سواه (¬5) أخفضَ منه رتبةً، والأمة لا فراشَ لها، فافتقر فيها إلى مراعاة الشبه (¬6). وإذا قلنا بثبوت القِيافة، فهل يكفي في ذلك واحدٌ، أو لا بدَّ من اثنين كالشهادة؟ وهو قول مالك، والشافعي، والأولُ قولُ ابن القاسم. ¬
ع (¬1): ولا خلافَ بين القائلين بذلك فيما قالوه، إنه إنما يكون ذلك فيما أشكلَ من (¬2) الفراشَيْن الثابتين؛ كالمشتري والبائع يطآنِ الأمةَ في طُهر واحد قبلَ الاستبراء من الأول، فتحمِلُ، فتأتي بولد لأكثرَ من ستةِ أشهرٍ من وطء الثاني، وأقلَّ من أقصى أمدِ الحملِ من وطء الأول، وإن كان هذا الوطء الآخر ممنوعًا منه صاحبُه، فله شبهةُ الملك، وصحةُ عقده، ولهذا فرق مالكٌ في مشهور قوله بين النكاحِ والملكِ في هذا؛ إذ لا يصحُّ عقدُ النكاح في العدة؛ بخلاف عقد الشراء (¬3) في الاستبراء، ولم يعذره بالجهل والغفلة لوجوب البحث والتقصي، وتفريطه في ذلك، فرجح العقدَ الصحيحَ والوطءَ الصحيحَ دون غيره، ورأى في القول الآخر: أن الجهلَ بحكم النكاح في العدَّة، أو النسيان، عذرٌ، والعقد على ذلك شبهةٌ توجب للفراش (¬4) حكمًا؛ كما لو لم يكن فراش متقدِّم، مع فساد العقد، وتحريمِ الوطءِ في لحوق الولد؛ لشبهة العقد. واختلفوا إذا ألحقته القافةُ بمدَّعِيَيْهِ (¬5) معًا، هل يكون ابنًا لهما؟ وهو قول سحنون، وأبي ثور. ¬
وقيل: يُترك حتى يكبر، فيوالي مَنْ شاء منهما، وهو قولُ عمرَ ابنِ الخطاب، وقاله مالكٌ، والشافعي. وقال عبدُ الملك بنُ الماجشون، ومحمدُ بنُ مسلمةَ: يلحق بأكثرهما له شَبَهًا. قال ابنُ مسلمةَ: إلا إن علم الأول، فيلحق به. وكذلك اختلف الآبون (¬1) من القول بالقافة في حكم ما أشكلَ، وتُنوزع (¬2) فيه: فقال أبو حنيفة: يُلحق الولدُ بالرجلين إذا تنازعا فيه، وكذلك بامرأتين. وقال (¬3) أبو يوسف: يلحق برجلين (¬4)، ولا يلحق بامرأتين. وقال محمدُ بنُ الحسن: نحوه، يلحق بالآباء (¬5)، وإن كثروا، ولا يلحق إلا بأم واحدة. وقال سحنون: يُقرع بينهم، وقاله (¬6) الشافعي في القديم، واللَّه أعلم (¬7). ¬
قلت: وسببُ سرور النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك: هو (¬1) أن العرب كانت تقدَحُ في نسب أسامةَ حِبِّ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان ذلك يسوْءُه منهم (¬2)؛ لكونه أسودَ شديدَ السواد، وكان زيدٌ (¬3) أبوه أبيضَ من القطن، فلما قضى هذا القائفُ بإلحاق هذا النسب، مع اختلاف اللون، وكانت الجاهلية تُصغي إلى قول القافة (¬4)، سُرَّ بذلك النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)؛ لكونه كافًّا لهم (¬6) عن الطعن فيه (¬7). ق: ولم يذكر في هذه الرواية تغطيةُ أسامةَ وزيدٍ رؤوسَهما، وظهورُ أقدامهما (¬8)، وهي زيادة مفيدة جدًا؛ لما فيها (¬9) من الدلالة على صدق القيافة. قال: وكان يُقال: إن من علوم العرب ثلاثًا: السيافة، والعيافة، والقيافة. ¬
فأما السِّيافَةُ: فهي شَمُّ (¬1) ترابِ الأرض ليعلم الاستقامة على الطريق، والخروج منها، قال المعري: أَوْدَى فَلَيْتَ الحَادِثَاتِ كَفَافي ... مَالُ المُسِيفِ وَعَنْبَرُ المُسْتَافِ والمستافُ: هو هذا (¬2) القاصُّ. وأما العِيافة: فهي زجرُ الطير، والطيرةُ، والتفاؤلُ بها، وما قاربَ ذلك. وأما السانِحُ والبارِحُ ففي الوحش (¬3). قلت: يريد: أن العرب كانت تتطير بالبارح، وتتفاءل بالسانح، يقال: بَرَحَ (¬4) الظبيُ -بفتح الراء (¬5) - بروحًا: إِذا ولَّاكَ (¬6) مَياسرَهُ يمرُّ من ميامِنِكَ إِلى مياسرك، [والعرب تتطير بالبارح] وتتفاءل بالسانح. قال الجوهري: لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف (¬7). قال: وفي الحديث: "العِيَافَةُ وَالطَّرْقُ مِنْ الجِبْتِ" (¬8)، والطرق: ¬
هو الرميُ بالحَصَى. وأما القِيافة: فهي ما نحنُ فيه، وهي اعتبارُ الأشباه لإلحاق الأنساب (¬1)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 322 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: ذُكِرَ العَزْلُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُم؟ "، وَلَمْ يَقُلْ: فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؛ "فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا" (¬1). ¬
* الشرح: العَزْل: معروف، وهو أن يُجامع، فإذا قاربَ الإنزالَ نزعَ، وأنزلَ خارجَ الفَرْج، وهو جائز عندنا بلا كراهة، وفيه كراهةٌ عند الشافعي، وكرهه ابنُ عمر -رضي اللَّه عنه-؛ لكن شرطه عندنا وعندهم رضا الزوجةِ الحرةِ بذلك؛ لأن لها حقًا في تمام لذتها، وحقها في الولد، أو (¬1) رضا السيدِ إن كانت الزوجة (¬2) أَمَةً؛ لأن له -أيضًا- حقًا في الولد. ودليلُنا على عدم الكراهة: أنه إذا جاز تركُ الوطء، وهو أصلُ الإنزال، فَلأَنْ يجوزُ تركُ الإنزال أَوْلى، وقد رَجَّحَ هذا بعضُ أصحاب الشافعي، وأيضًا ما سيأتي من (¬3) حديث جابر -رضي اللَّه عنه-، وأما العزلُ عن الأمة بملك اليمين (¬4)، فجائزٌ بغير رضاها: إذ لَا حَقَّ لها في وطء، ولا استيلاد (¬5)، واللَّه أعلم (¬6). ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 323 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه (¬1) -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ، وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ، لَوْ (¬2) كَانَ شَيْءٌ يُنْهَى، لنهَانَا عَنْهُ القُرْآنُ (¬3). * * * ¬
هذا -أيضًا- كما تقدم، فدل على عدم الكراهة في العزل. ق (¬1): واستدل جابرٌ -رضي اللَّه عنه- بتقرير اللَّه عز وجل، وهو استدلال غريب، وكان يحتمل (¬2) أن يكون الاستدلال بتقرير الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لكنه مشروطٌ بعلمه بذلك، ولفظ الحديث لا يقتضي (¬3) الاستدلال بتقرير اللَّه عز وجل (¬4). * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 324 - عَنْ أَبِي ذرٍّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّهُ سَمعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلكَ، إِلَّا حارَ عَلَيْهِ". كَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلِلبُخَارِيِّ (¬1) نَحْوُهُ (¬2). ¬
[حار]: يَعْنِي: رَجَعَ. * * * * الشرح: لا إشكالَ في تحريم الانتفاء من النسب المعلوم إلى نسبٍ غيره، وأنه من الكبائر؛ لما يتعلق بذلك من المفاسد العظام؛ من اختلاط الأنساب، وتحريم المحلَّلات، وتحليل المحرَّمات من الموطوءات، واختلافِ أحكام المواريث، وغيرِ ذلك مما يدوم تحريمُه، ويعمُّ ضررُه. واشتراطُه -عليه الصلاة والسلام- العلمَ؛ لأن الأنساب قد تتراخى فيها (¬1) مددُ الآباء والأجداد، ويبعُدُ العلمُ بحقيقتها، وقد يقع اختلالٌ في الباطن من جهة النساء لا يشعر به، فاشترطَ -عليه الصلاة والسلام- العلمَ بذلك لذلك، واللَّه أعلم (¬2). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إلا كفرَ": قيل: إنه متروكُ الظاهر عندَ الأكثرين، ولا بدَّ له من تأويل؛ لأنا -أهلَ السنة- لا نُكَفِّر بالمعاصي، فإما أن يكون ذلك من كُفر النعمة، أو لأنه (¬3) قارب الكفر؛ ¬
لشدة المفسدة في ذلك -على ما تقدم- (¬1)، وقد جاء: المَعَاصِي بَرِيدُ (¬2) الْكُفْرِ، وقال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14] , فيكون من باب تسمية الشيء باسم ما يُقاربه ويُدانيه، أو أنه فعل ذلك مستحلًّا، واللَّه أعلم أي ذلك أُريد (¬3). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومنِ ادَّعى ما ليسَ له، فليسَ مِنَّا"، عموم تدخل (¬4) [فيه] الدعاوى الباطلة كلِّها؛ نسبًا، ومالًا، وعلمًا، وحلمًا (¬5)، وإليه يُشير قوله -عليه الصلاة والسلام-: "المُتَشَبِّعُ بِمَا لَيْسَ لَهُ كَلَابِسٍ ثَوْبَيْ زُورٍ"، أعاذنا اللَّه من ذلك، وسلكَ بنا أنهج المسالك (¬6)، إنه ولي ذلك، والقادرُ عليه، آمين. ومعنى "فليس منا"؛ أي: ليس مثلَنا (¬7)، و (¬8) ليس مهتديًا بهَدْينا، ولا مُتَّبِعا لسُنَّتِنا (¬9)، وهذا أخفُّ مما قبلَه من الادِّعاء إلى غيرِ أبيه؛ لأن مفسدتَه أخفُّ، على ما تقرر. ¬
وأما قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومن دعا رجلًا بالكفر، أو قال: عدو اللَّه"؛ أي (¬1): قال له: يا كافر، أو يا عدوَّ اللَّه، فعلى هذا يكون (عدوَّ اللَّه) منصوبًا على النداء، ويجوز الرفعُ على خبر مبتدأ محذوف؛ أي: قال له: أنتَ عدوُّ اللَّه (¬2)، ونحو ذلك، و (حار): بالحاء والراء المهملتين، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)} [الانشقاق: 14]؛ أي: لن (¬3) يبعث. ق: وهذا وعيدٌ عظيم لمن أكفرَ أحدًا من المسلمين، وليسَ كذلك، وهي ورطةٌ عظيمة وقع فيها خلقٌ كثير من المتكلمين، ومن المنسوبين إلى السنة، وأهل الحديث، لمَّا اختلفوا في العقائد، فغلّظوا على مخالفيهم (¬4)، وحكموا بكفرهم (¬5)، وخرقَ حجابَ الهيبة في ذلك جماعةٌ من الحشوية، وهذا الوعيد لاحقٌ بهم إذا لم يكن خصومُهم كذلك (¬6). ¬
وقد اختلف الناس في التكفير وسببه، حتى صنف فيه (¬1) مفردًا، والذي يقع فيه النظر في هذا: أن مآل (¬2) المذهب هل هو مذهب، أم لا؟ فمن أكفرَ المبتدعةَ، قال: إن مآل (¬3) المذهب مذهب. فنقول المُجَسِّمَةُ كفار؛ لأنهم عبدوا جِسمًا، وهو غيرُ اللَّه عز وجل، فهم عابدون لغير اللَّه عز وجل، ومن عبدَ غيرَ اللَّه، كفرَ. ونقول: المعتزلة كفارٌ؛ لأنهم -وإن اعترفوا بأحكام الصفات-، فقد أنكروا الصفات، ويلزم من إنكار الصفات إنكارُ أحكامِها، ومن أنكرَ أحكامَها، فهو كافر، وكذلك المعتزلةُ تنسب الكفرَ إلى غيرها بطريق المآل (¬4). والحقُّ: أنه لا يكفر أحدٌ من أهل القبلة إلا بإنكارِ متواترٍ من الشريعة عن صاحبها؛ فإنه حينئذ يكون (¬5) مكذِّبًا للشرع، وليس مخالفةُ القواطع مأخذًا للتكفير، وإنما مأخذهُ مخالفةُ [القواعد] السمعيةِ القطعيةِ طريقًا (¬6) ودلالةً، وعبَّر بعضُ أصحاب الأصول عن ¬
هذا بما معناه: أن مَنْ أنكر طريقَ إثبات الشرع، لم يكفر كمن أنكرَ الإجماع، ومن أنكر الشرعَ بعد الاعتراف بطريقه، كفر؛ لأنه مكذِّب شرعًا (¬1). وقد نقل عن (¬2) بعضُ المتكلمين أنه قال: لا أُكفر إلا مَنْ كفرني، وربما خفي سببُ هذا القول عن بعض الناس، وحملَه (¬3) على غير محمله الصحيح، والذي ينبغي أن يُحمل عليه: أنه قد لمحَ هذا الحديث الذي يقتضي: أن من دعا رجلًا بالكفر، وليس كذلك، رجعَ عليه الكفرُ، وكذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ قَالَ لأخِيهِ: كَافِرٌ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا" (¬4)، وهذا (¬5) المتكلم يقولُ (¬6): الحديث دلَّ على أنه يحصل الكفرُ (¬7) لأحد الشخصين؛ إما المُكَفِّر، وإما المُكَفَّر، فإذا كفرني بعضُ الناس، فالكفرُ واقعٌ بأحدنا، وأنا ¬
قاطعٌ بأني لستُ بكافرٍ (¬1)، فالكفرُ راجعٌ إليه (¬2). قلت: وهذا تقديرٌ حسن، وتفسير بيِّنٌ، واللَّه أعلم. * * * ¬
كتاب الرضاع
كِتْابُ الرَّضَاع
الحديث الأول
كِتْابُ الرضاع الحديث الأول 325 - عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بِنْتِ حَمْزَةَ: "لَا تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ" (¬1). ¬
* (¬1) مقدمة: الرَّضاع: بفتح الراء، وكسرُها قليل، وكذلك الرضاعة (¬2)، وقرأ (¬3) أبو حيوة وغيرُه في قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] , قال ابن عطية: وهو لغة كالحضارة (¬4)، وغير ذلك (¬5). وقد رضعَ الصبيُّ أُمه يرضَعُ رَضاعًا، مثل: سَمِعَ (¬6) يسمَعُ سَماعًا. قال الجوهري: وأهلُ نجد يقولون: رَضَعَ يَرْضِعُ رَضْعًا، مثل ضرَب يضرِب ضَرْبًا، وأنشد على هذه اللغة (¬7): وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضِعُونَهَا ... أَفَاوِيقَ حَتَّى ما يَدِرُّ (¬8) لها ثُعْلُ (¬9) وأرضَعَتْه (¬10) أُمه، وامرأةٌ مُرْضِعٌ: إذا كان من شأنها أن تُرضِع، ¬
وإن لم (¬1) تباشرِ الإرضاعَ في حال وصفِها به، وأما في حال الإرضاع: فمرضِعَةٌ (¬2)، قال اللَّه تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2]. قال في "الكشاف": قيل (¬3): مرضعة؛ ليدل أن ذلك الهول (¬4) إذا فوجئت به هذه (¬5)، وقد ألقمت المرضَعَ ثديَها، نزعته عن (¬6) (¬7) فمه (¬8)؛ لما يلحقها من الدَّهَش (¬9)، واللَّه أعلم. * ثم (¬10) الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" عمومٌ يدخل فيه قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، فهو (¬11) ¬
عندي عكسُ تخصيصِ (¬1) الكتابِ بالسنة؛ لأنه قد ثبت بهذا الحديث: أن السبعَ المحرَّمات بالنسب على التفصيل الذي ذكر اللَّه -تعالى- محرماتٌ بالرضاع، واللَّه الموفق. إذا (¬2) ثبت هذا، فالرضاع يُكسب مَنْ وُجد به من الاسم (¬3) ما يُكسبه النسبُ (¬4)، فإذا أرضعت المرأة طفلًا، حرمَتْ عليه؛ لأنها أمه، وبنتُها؛ لأنها أخته، وأختُها، لأنها خالته، وأمها لأنها جدته، وبنت زوجها صاحب اللبن؛ لأنها أخته، وأختها لأنها عمته (¬5)، وأمُّها (¬6)، لأنها جدته، وبناتُ بنيها (¬7) وبناتِها (¬8)؛ لأنهن بناتُ إخوته وأخواته، هذا على الجملة (¬9). وأما (¬10) التفصيل: ¬
فنقول: الأمُّ اسمٌ لكلِّ أنثى لها عليك ولادةٌ (¬1)، فيدخل في ذلك الأم دنيةً (¬2)، وأُمهاتها، وجداتُها (¬3)، وأُمُّ الأبِ (¬4) وجدَّاتها (¬5) وإن عَلَوْنَ. والبنتُ: اسمُ لكلِّ أنثى لكَ عليها ولادةٌ، أو على مَنْ له عليها ولادةٌ، فيدخل في ذلك: بنتُ الصلب، وبناتها، وبناتُ الأبناء، وإن نَزَلْنَ (¬6). والأختُ: اسم لكل أنثى (¬7) جاورتك في أَصْلَيْك، أو في أحدِهما. والعَمَّةُ: اسمٌ لكل أنثى شاركتْ أباك [أو جدك] في أصلَيْها (¬8)، أو في أحدهما (¬9) (¬10). والخالة: اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها، أو في أحدهما. ¬
وبنتُ الأخ: كلُّ أنثى لأخيك عليها ولادةٌ بواسطة، أو مباشرة. وبنتُ الأخت: كلُّ أنثى (¬1) لأختك (¬2) عليها ولادةٌ بواسطة، أو بمباشرة (¬3) (¬4). ق: وقد استثنى الفقهاءُ من هذا العموم -؛ أعني: قوله عليه الصلاة والسلام: "يحرُمُ من الرضاعِ ما يحرُمُ من النسب"- أربعَ نسوةٍ يحرُمن من النسب، وقد (¬5) لا (¬6) يحرُمن من الرضاع: الأولى: أُم أخيك، وأُم أختك من النسب هي أُمك، أو زوجةُ أبيك، وكلاهما حرام، ولو أرضعت أجنبيةٌ أخاك (¬7) أو أختَك، لم تحرُم. (¬8) الثانية: أُمُّ نافلتك (¬9) (¬10)؛ أم (¬11) بنتك، أو زوجةُ ابنك، وهما ¬
حرامان (¬1)، وفي الرضاع قد لا تكونُ (¬2) بنتًا، ولا زوجةَ ابنٍ؛ بأن ترضع أجنبيةٌ نافلَتَكَ. قلت: وهي بنتُ بنتِك، وبنتُ ابنِك. الثالثة: جدةُ ولدِك من النسب، إما أُمُّك، أو أُمُّ زوجتك، وهما حرامان، وفي الرضاع قد لا تكونان (¬3) أمًا، ولا أُمَّ زوجة؛ كما إذا أرضعت (¬4) أجنبيةٌ ولدك، فأمُّها جدةُ ولدِك (¬5)، وليست بأُمِّك، ولا أم زوجتك. الرابعة: أختُ ولدكَ في النسب حرام؛ لأنها إما بنتك، أو ربيبتُك، ولو أرضعت أجنبيةٌ ولدَك (¬6)، فبنتُها أختُ ولدك، وليست ببنتٍ لك (¬7)، ولا ربيبة. فهذه (¬8) الأربع مستثنيات (¬9) من عموم قوله -عليه الصلاة والسلام-: ¬
"يحرمُ من (¬1) الرضاعِ ما يحرُم من النسبِ" (¬2). قلت: بل هي سبعٌ: والخامسة: يجوز للمرأة أن تتزوج (¬3) أخا ابنِها من الرضاع؛ بخلاف النسب. والسادسة: يجوز للرجل أن يتزوج أُمَّ عمِّه وعَمَّتِه من الرضاع؛ بخلاف النسب. والسابعة: يجوز له أن يتزوج أُمَّ خالِه وأُمَّ خالتِه من الرضاع؛ بخلاف النسب، فاعرفه. وأما أختُ الأخ، فلا تحرُم، لا من النسب، ولا من الرضاع (¬4). وصورته: أن يكون لك أخٌ من أب، وأختٌ من أم، فيجوز لأخيك من الأب نكاحُ أختك من الأم، وهي أختُ أخيه. وصورتُه من الرضاع: امرأةٌ أرضعَتْك وأرضعتْ صغيرةً أجنبيةً منك (¬5)، يجوز لأخيك نكاحُها، وهي أختُك، انتهى كلامه رحمه اللَّه تعالي (¬6). ¬
ولتعلمْ: أن للرضاع (¬1) الذي تقع (¬2) به الحرمةُ شروطًا ستة، متى اختل أحدُها، لم تقع به حرمة: الأول: وصولُ اللبن من المرضعة إلى حَلْق الرضيع، أو جوفِه من المنافذِ؛ كان من فم، أو سعوط، وهو صَبُّه في الأنف كان بإرضاعٍ، أو وَجورٍ؛ وهو صبُّ اللبن في وسط الفم من غير إرضاع. والثاني: أن يكون من أنثى، بكرًا كانت أو ثيبًا، موطوءةً أو غيرَ موطوءة، ونعني بغير الموطوءة: مَنْ يوطأ مثلُها، دونَ مَنْ هي في سنِّ من لا تُوطأ؛ لصغرها، وقيل: مطلقًا. والثالث: أن ذلك مقصورٌ على الآدميات (¬3)، فلو ارتضع طفلانِ من بهيمة، لم يثبت بينهما أخوةُ الرضاع. الرابع: أن يكون في الحولين وما قارَبَهما. والخامس: أن يكون الرضيعُ محتاجًا إلى اللبن، فأما إن فُصِل قبلَ الحولين، واستغنى بالطعام مدة بينة، ثم ارتضعَ (¬4)، لم يُحَرِّم، وإن كان في الحولين، وقيل: يُحَرِّمُ. السادس: أن يكون اللبنُ إما منفردًا بنفسِه، وإما مختلِطًا بما لم ¬
يستهلَكْ فيه، فأما إن خالطه ما استُهلك فيه من طبخٍ، أو دواءٍ، أو غيرِ ذلك، فلا يُحَرِّمُ عند جمهور (¬1) أصحابنا. وليس من شرطه أن تكون المرضعة حية. ويحرم لبنُ الفحلِ؛ كالذي له امرأتان؛ تُرضعُ إحداهما صبيًا، والأخرى صبيةً (¬2). ع: ولم يقل أحدٌ من الفقهاء وأهلِ الفتوى بإسقاط حرمة لبنِ الفحل، إلا أهلُ الظاهر، وابنُ عُلَيَّة (¬3). قلت: وذُكر عن ابن عمر، وعائشة، وغيرِهما من الفقهاء: أنه لا يؤثر، ولا يتعلَّق به التحريمُ، كذا نقله الإمام أبو عبد اللَّه المازري رحمه اللَّه تعالي (¬4)، وهذا كلُّه إذا كان ما يخرج (¬5) من الثدي لبنًا، فلو كان ماء أو غيره مما ليس بغذاء (¬6)، ولا يغني عن الطعام، فلا يُحَرِّم، قاله ابن القاسم في "كتاب ابن سحنون". الثاني: اختلف في القدر الذي تقع به الحرمة من الرضاع، فقال ¬
مالك وأبو حنيفة (¬1) وأحمد في رواية، و (¬2) الجمهور المصة الواحدة. وقال الشافعي، وأحمد في رواية أيضًا: خمس رضعات (¬3)، وقال أبو ثور وأبو عبيد، وابن المنذر، وداود (¬4)، ورواية (¬5) عن أحمد أيضًا: ثلاث رضعات (¬6). ع: وشذ بعضُ الناس، فقال: عشر رضعات، قال غيره: هو (¬7) قول (¬8) باطل مردود (¬9)، ودليل مالك والجمهور: قوله (¬10) تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]. قال الإمام: والمصةُ الواحدة (¬11) توجبُ (¬12) تسميةَ المرضعةِ أمًا ¬
من الرضاعة (¬1). وللمالكية، والشافعية مراجعات واحتجاجات (¬2) لا نطول بذكرها. الثالث: اضطربَ المذهبُ عندنا في الرضاع بعدَ الحولين، هل الأيامُ اليسيرة حكمُها حكمُ الحولين، أو الشهر، أو الشهرين و (¬3) الثلاثة، وقيل (¬4): غير ذلك؟ قال الإمام: وهذا كلُّه عندي راجع إلى خلاف في (¬5) حال، وهو القدرُ الذي جرت العادةُ فيه بالاستغناء بالطعام عن الرضاع. وقال أبو حنيفة: أقصاه ثلاثون شهرًا. وقال الشافعي، وأحمد: الأمدُ: الحولانِ فقط، على ما حكاه عنهما ابنُ هبيرة (¬6). وقال زفر: ثلاث سنين (¬7). الرابع: اختلف في رضاع الكبير، والجمهورُ على عدم تأثيره. ¬
وقال داود: يؤثر؛ مستدلًا بقولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لسَهْلَةَ: "أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ" (¬1). وحمله الجمهورُ على أنه من خصائص سَهْلَةَ. وللجمهور (¬2): قولُه تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، وتمامُها بالحولين، وقولُه -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ (¬3) مِنَ المَجَاعَةِ" (¬4)، وهذا المعنى مفقودٌ في الكبير. قال الإمام: وفي غير "كتاب مسلم": "لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ في الثَّدْي (¬5)، وَ (¬6) كَانَ قَبْلَ الطَّعَامِ" (¬7)، وكان ينفي ¬
رضاعةَ الكبير (¬1)، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 326 - عَنْ عَائِشَةَ (¬1) -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الرَّضَاعَةِ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلَادَةِ" (¬2). ¬
327 - وَعَنْهَا -رضي اللَّه عنها-: أَنَّهَا قَالَتْ (¬1): إِنَّ أفلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ، اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ (¬2) الحِجَابُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَاْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فَإِنَّ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ (¬3) أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ (¬4) أَرْضَعَتْنِي امْرَأتُهُ، قَالَ (¬5): "ائْذَني لَهُ؛ فَإِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ". قَالَ عُرْوَةُ: فَبِذَلِكَ كانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (¬6). ¬
وَفي لَفْظٍ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أفلَحُ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ، فَقَالَ: أَتَحْتَجبِينَ مِنِّي وَأَنا عَمُّكِ؟ فَقُلْتُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي (¬1) بِلَبَنِ أَخِي، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالَ: "صَدَقَ أفلَحُ، ائْذَنِي لَهُ" (¬2). تَرِبَتْ يَمِينُكِ (¬3)؛ أَيِ: افْتَقَرْتِ، وَالعَرَبُ تَدْعُو عَلَى الرَّجُلِ، ¬
وَلَا تُرِيدُ وُقُوعَ الأَمْرِ بِهِ. * * * 328 - وَعَنْهَا (¬1)، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعِنْدِي رَجُلٌ، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ! مَنْ هَذَا؟ "، قُلْتُ (¬2): أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ! انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ؛ فإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ" (¬3). ¬
* الشرح: فيه: التثبتُ في الأحكام عند قيام الشُّبه حتى تتضحَ بالاستفتاءِ (¬1) ونحوِه (¬2). وفيه: عدمُ كراهةِ التسميةِ بأفلحَ، وإن كان قد جاء ما يخالفه، ولعلَّ تقريره -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث (¬3) بيانٌ للجواز، وأن ذلك (¬4) على الكراهة دونَ الحرام، أعني: حديثَ النهي عن التسمية بذلك. وفيه: دليلٌ على ما تقدَّم من اعتبار قليلِ اللبنِ وكثيرِه؛ إذ لم يسألْ -عليه الصلاة والسلام- عن عددِ الرضعات، ولم يستفصِلْ. وقوله -عليه الصلاة والسلام- "انظرْنَ مَنْ إخوانُكن": ق: نوعٌ من (¬5) التعريض لخشية أن تكون رضاعةُ ذلك الشخص (¬6) وقعتْ في حال الكبر (¬7). وفيه: استعمالُ لفظ (إخوان) في غير الأصدقاء، وهو أكثرُ ¬
ما يُستعمل فيهم عند أهل اللغة، والإخوةِ (¬1) في الولادة؛ فكأنه حُمل (¬2) على الأصدقاء، ولو حُمل على النسب، لصحَّ أيضًا؛ فكأنه فرعٌ دارَ بينَ أصلين، وقد جُمع -أيضًا- بالواو والنون، قال الشاعر: وَكَانَ بَنُو فَزَارَةَ شَرَّ قَوْمٍ ... وَكُنْتُ لَهُمْ كَشَرِّ بَنِي الأَخِينَا (¬3) وفيه: أن كلمةَ (إنما) للحصر؛ لأن المقصود حصرُ الرضاعةِ المحرَّمَة في المجاعة، لا مجردُ إثبات الرضاعة في زمنِ المجاعة (¬4). قلت: وفيه: ابتدارُ المستفتي المفتيَ (¬5) بالتعليل قبلَ سماع الفتوى، ولعلَّ قوله -عليه الصلاة والسلام-: "تَرِبَتْ يَمينُكِ" تنبيهٌ لها على ذلك، وأن المرادَ منها: أن تسأل عن مجرد الحكم، من غير أن تبتدىء هي تعليلًا له (¬6)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 329 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ (¬1) يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ امْرَأةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ (¬2) لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَعْرَضَ عَنِّي، قالَ: فتنَحَّيْتُ، فَذَكرْتُ ذَلِكَ لَهُ (¬3)، قَالَ (¬4): "وكَيْفَ وقَدْ (¬5) زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ " (¬6). ¬
* التعريف (¬1): عُقْبَةُ بن الحارث بن عامر بن عبد مناف بن قصي النوفلي القرشي، حجازي، يكنى أبا سِرْوَعَةَ: بكسر السين المهملة، وإسكان الراء، وفتح الواو، وعين مهملة. له صحبة، قيل: هو أخو أبي سروعة، وأسلما جميعًا يوم الفتح. وهو الذي قتل خبيب بن عدي. روى عنه: عبيد بن أبي مريم، وابن مليكة لم يسمع منه؛ فإن ¬
بينهما عبيد بن أبي مريم. روى له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬1). * الشرح: اختلف الناس (¬2) في قبول شهادة المرضعة وحدَها، فأجازه بعضُهم؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث. ق: ولا بدَّ فيه مع ذلك -أيضًا- إذا (¬3) أجريناه على ظاهره من قَبول شهادةِ الأَمَة، ومنهم من أبى ذلك، وحملَ الحديثَ على الورع دونَ التحريم (¬4). قلت (¬5): وهو (¬6) ظاهرُ مذهبنا. ¬
قال في "الكتاب": وإذا (¬1) قالت امرأةٌ عدلةٌ: أرضعتُ فلانًا (¬2) وزوجتَه (¬3)، لم أقضِ بفراقهما، ولو عرف ذلك من قولها قبل النكاح لأمرتُه بالتنزه عنها، إن كان يوثَق بقولها. وقال بعد ذلك: وإن خطب رجلٌ امرأة، فقالت له امرأةٌ: قد أرضعتُكما، لم ينبغِ نكاحُها (¬4)، (¬5) فإن فعلَ، لم يفرِّقِ القاضي بينهما (¬6). وإلى هذا التنزه يشير قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "كيفَ وقد قيلَ؟ "، و (¬7) لا شكَّ أن الورعَ هاهنا (¬8) متأكد (¬9) جدًا. وانظر: ما وجهُ إعراضه -عليه الصلاة والسلام- عن السائل، وإحواجه إلى السؤال مرة ثانية، وما الحكمةُ في ذلك، وهو -عليه الصلاة والسلام- الإمامُ الأعظم، ومنه تُتلقى الأحكامُ والشرائع، وإليه يُلجأ عند المعضلات والنوازل -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 330 - عَنِ البَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْنِي: مِنْ مَكَّةَ-، فَاتَّبَعَتْهُم (¬1) ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمِّ! فتنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ ابْنَةُ عَمِّكِ، فَاحْتَمَلهَا (¬2)، فَاخْتَصَمَ فِيْهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ (¬3)، فَقَالَ عَلِيٌّ: أناَ أَحَقُّ بِهَا، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي، وخَالتهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي. فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: "الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ"، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: "أَنْتَ (¬4) مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ"، وَلِجَعْفَرٍ (¬5): "أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي"، وَقَالَ لِزَيْدٍ: "أنتَ أَخُونا وَمَوْلَانَا" (¬6). ¬
* الشرح: الحديثُ أصلٌ في الحضانة، وهي (¬1) عندنا في النساء للأم (¬2)، ثم أُمِّها، ثم جدةِ الأمِّ لأمِّها، ثم الخالةِ، ثم الجدةِ للأبِ، ثم جدةِ (¬3) الأبِ (¬4) لأبيه (¬5)، ثم الأختِ، ثم العمةِ، ثم بنتِ الأخت، وفي إلحاق ¬
خالةِ الخالةِ بالخالة قولان. وأما في الذكور: فللأب (¬1)، ثم الأخُ، ثم الجدُّ، ثم ابنُ الأخ، ثم العمُّ، ثم ابنُ العمِّ، ثم المولى الأعلى و (¬2) الأسفلُ، على المشهور فيهما (¬3). فيترك الغلامُ (¬4) في الحضانة حتى يحتلم، والجاريةُ حتى تبلغ النكاحَ، فإذا بلغَتْه، نُظر (¬5)؛ فإن كانت الأم في حوزٍ ومنعةٍ وتحصين (¬6)، فهي أحقُّ بها منه (¬7) حتى تنكحَ، وإن بلغت أربعين سنة، وإن لم تكن الأُم كما وصفْنا، أو كانت غيرَ مرضية في نفسِها، أو نكحت، ودخل بها (¬8) زوجها، فللأب أخذها منها، وكذلك للأولياء (¬9) أو الوصي (¬10) أخذ الولد (¬11) بذلك، واللَّه أعلم (¬12). ¬
وفي الحضانة فروعٌ موضعها كتب الفقه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "الخالةُ بمنزلةِ الأُمِّ" السياقُ يقتضي أنها بمنزلة الأم (¬1) في الحضانة، فلا ينبغي أن يكون (¬2) لأهل التنزيل في ذلك متعلقٌ في تنزيلها منزلةَ الأمِّ (¬3) في الميراث فإن السياق طريق (¬4) إلى بيان المجملات، وتعيين المحتملات وتنزيل الكلام على المقصود منه، وفهم ذلك قاعدة كبيرة (¬5) من قواعد أصول الفقه وما قاله لعلي وجعفر وزيد، جاء على عادته (¬6) من كريم أخلاقه، وعذوبة ألفاظه، وحسن تأليفه -صلى اللَّه عليه وسلم-، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. فإن قلت: أما ما قاله لعلي وزيد، فقد ظهرت مناسبته؛ (¬7) إذ كان فيه جبرٌ (¬8) لهما، وتطييب لقلوبهما؛ حيث حُرِما مقصودَهما من أخذ الصبية، وأما جعفر، فما مناسبة القول له وقد حصل له مقصوده (¬9) من أخذ الصبية. ¬
قلت: مناسبته من وجهين: أحدهما: أنه لو لم يقل له -عليه الصلاة والسلام- ما قال ربما تألم، لفَوْت مدحته (¬1) -عليه الصلاة والسلام- كما مدحهما، ولاختار ذلك على أخذ الصبية، وأنه لجدير بذلك، وكيف لا؟ (¬2) وهو -عليه الصلاة والسلام- تترك في محبته الآباء والأمهات (¬3) والبنون والبنات، فكان يكون من هذا الوجه قد فاته المقصودُ الأعظم، والأمرُ الأهمُّ. والوجه الثاني: أن الصبيةَ لم يُحكم بها في الحقيقة لجعفرٍ، ولكن استحقتها (¬4) الخالةُ؛ لكونها بمنزلة الأم؛ كما تقدم، فهو -أيضًا- غيرُ محكوم له بصفته؛ كهما (¬5)، فناسب ذلك جبره (¬6) بما قال (¬7) -عليه الصلاة والسلام-، فاعرفْه، واللَّهُ الموفق (¬8). * * * ¬
كتاب القصاص
كِتْابُ الْقَصَاص
الحديث الأول
كِتْابُ القصاص الحديث الأول 331 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1): "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؛ إِلَّا بِإحدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ" (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يحلُّ دمُ امرىءٍ مسلم" كنايةٌ عن قتله، وقوله: "دمُ امرىء" فيه (¬1) حذفُ مضاف، أي: إجراءُ دَمِه (¬2)، والدمُ (¬3) أصلُه: دَمَيٌ؛ مثلُ: يَدٍ (¬4)، أصلُه: يَدَيٌ، وهما مما أُميتت لامُهما (¬5) بالحذف، حتى في التثنية، فقالوا: يدان، ودمان، فلم يردوا المحذوف (¬6)، وقد جاء (¬7) ردُّ المحذوف، شاذًا، قال الشاعر: ¬
فلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا ... جَرَى الدَّمَيَانِ بِالخَبَرِ اليَقينِ (¬1) وقال آخر: (¬2) يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ عِنْدَ مُحَلِّم ... قَدْ يَمْنَعَانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُضْهَدَا (¬3) (¬4) فرُدَّ المحذوفُ (¬5)، وهو شاذٌّ لا يُقاس عليه، وقد تقدم أنه يقال: امرؤ، ومَرْءٌ، قال اللَّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "يشهدُ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللَّه" كالتفسير لقوله: مسلم، وكذا "المفارقُ للجماعةِ"، هو -أيضًا (¬6) - كالتفسير لقوله: "التاركُ لدينه"، والجماعةُ: جماعةُ المسلمين، وفِراقُهم بالرّدَّة (¬7). ¬
الثاني: فيه: أنه يُطلق على الرجل: ثَيِّبٌ؛ كالمرأة، وكذا هو في اللغة. قال الجوهري: الذَّكَرُ والأنثى فيه سواء. قال ابنُ السِّكِّيت: وذلك إذا كانت المرأة دُخِلَ بها، أو كان الرجل قد دخلَ بامرأته، تقول منه: ثُيِّبت (¬1) المرأةُ (¬2). قلت: وإذا فسر الثيبُ بمن دخلَ بزوجته، فما حقيقة الدخول؟ هل هو (¬3) الوطءُ ليس إلا، أو يتنزل منزلة التجريد والتقبيل بالمضاجعة (¬4)، وغير ذلك من أنواع التلذذ، أو مجرد الخلوة؟ فيه نظر. وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، فقال ابنُ عباس، وطاوسٌ، وغيرهما: الدخولُ في هذا الموضع: الجماعُ، فإن طَلَّقَ قبل البناء، وقبلَ الوطء، فإن ابنتها له حلالٌ. قال ابن عطية: وقال جمهورٌ من (¬5) العلماء؛ منهم: مالك، وعطاء بن أبي رباح، وغيرُهم: إن التجريد، والتقبيل، والمضاجعة، ¬
وجميعَ أنواع التلذذ يحرِّمُ (¬1) الابنةَ؛ كما يحرمها الوطءُ (¬2). فظاهرُ ما قاله مالك -هنا- وموافقوه: أن لا يُشترط الوطء -أيضًا- في الإحصان؛ كما لم يُشترط في تحريم عقد النكاحِ، بل يكفي التلذذُ -كما تقدم-، ولكن المنقولَ عندنا: أنه لا يكون محصَنًا إلا بمغيبِ الحشفة، أو مثلِها من مقطوعها (¬3)، وهو أحدُ الشروطِ الستةِ المعروفةِ في المحصَن. الثالث: أكثرُ نسخِ مسلم: (الزان) -بغير ياء بعد النون-، وهي لغة صحيحة، قد قُرىء بها في السبع في قوله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9]، وغيرِه، والأشهرُ في اللغة في مثل هذا إثباتُ الياء في الوقف (¬4)، فإن لم يكن فيه ألف ولام، فالأشهرُ الأكثرُ الحذفُ في الرفع والخفض؛ نحو: هذا قاضٍ، ومررتُ بقاضٍ، عكس الأول، فأما في النصبِ، فليس إلا إثباتَ الياء، نحو رأيتُ القاضيَ، وأجبتُ الداعيَ، وقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة: 26]؛ لأنها بالحركة صارت بمنزلة الصحيح، وإن كان مجردًا من الألف واللام -أعني: المنصوبَ-، فالوقف عليه بالألف، تقول (¬5): رأيتُ قاضيا، ¬
وأجبت داعيا، لا سبيلَ إلى حذف الياء؛ لحركتها (¬1)، والوقف على الألف المبدولة (¬2) من التنوين. وقد أطلق بعضُ المتأخرين ممن تكلم على هذا الحديث إطلاقًا يحتاج (¬3) إلى تفصيل، وليس من شأنه. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "والنَّفْسُ بالنَّفْسِ"، النفسُ تُذَكَّر وتُؤَنَّث، قال اللَّه تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]، وقال تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} [الزمر: 59]، فأولُ الآية يدل على التأنيثِ، وآخرُها يدل على التَذكيرِ. وقد تعلق أبو حنيفةَ وأصحابُه بهذا العموم، فقالوا: يُقتل المسلم بالذميِّ، والحرُّ بالعبد، والجمهورُ على خلافه، وأنه عمومٌ أُريد به الخصوصُ في المتماثِلين، وهذا مذهبُ مالك، والليث، والشافعيِّ، وأحمدَ، وقد وافقنا الحنفية على تخصيص هذا العموم (¬4)، وأخرجوا منه صورًا: منها: إذا قتل السيدُ عبدَه، فإنه لا يُقتل به عندهم، وإن كان متعمِّدًا؛ كما يقول مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ. ¬
ومنها: إذا قتل الأبُ ابنَه، فقال (¬1) أبو حنيفة: لا يُقتل به، وكذلك (¬2) يقول الشافعي، وأحمد، وفي الحديث؛ "لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ (¬3) بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ" (¬4) اعترضتِ الحنفيةُ بأن معناه: ولا ذو عهد في عهده: كافر حربي فالذي لا يقتل به المسلم هو الحربي، تسويةً بين المعطوف والمعطوف عليه (¬5). وأجيب (¬6) عن ذلك بوجوه: الأول: لا نسلِّمُ كونَ (¬7) الواو هنا عاطفةً، بل استئنافيةً، فلا يلزم الاشتراكُ. الثاني: سلَّمناه، لكن العطفَ يقتضي التشريكَ (¬8) في الأصل دونَ توابعه، وقد قالت النحاة: إذا قلت: مررتُ بزيدٍ قائمًا، وعمرٍو، لا يلزمُ منه أن يكون: مررتُ بعمرٍو قائمًا -أيضًا-، بل الاشتراك في أصل المرور، لا غيرُ (¬9)، وكذلك جميعُ التوابع من المتعلِّقات وغيرها، ¬
فيقتضي العطف هاهنا أنه لا يُقتل، أما تعيينُ من يقتل (¬1) الآخر، فلا؛ لأن الذي يقتل به من توابع الحكم. الثالث: لا نسلِّم أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا ذو (¬2) عهدٍ في عهده" معناه بحربي، بل معناه التنبيهُ على السببية؛ فإن (في) تكون للسببية؛ كما (¬3) تقدم، فيصير معنى الكلام: ولا يُقتل ذو عهدٍ بسببِ المعاهدة (¬4)، فيفيدنا ذلك: أن المعاهدةَ سببٌ (¬5) يوجب العصمةَ، وليس المراد: أنه يُقتصُّ منه، ولا غيرُ ذلك. الرابع: أن معناه: نفيُ الوهم عمَّن يعتقد أن عقدَ المعاهدة كعقد الذمة يدوم، فنبه -عليه الصلاة والسلام- على أن أثر ذلك العهدِ إنما هو في ذلك الزمن خاصةً، لا يتعدَّاه، وتكون (في) على (¬6) هذه الطريقة للظرفية (¬7)، وهو الغالبُ فيها. الوجه الخامس من الكلام على الحديث: قال العلماء: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "المفارقُ للجماعةِ" يتناول كلَّ مرتدٍّ عن ¬
الإسلامِ، وكلَّ خارج عن الجماعة ببدعةٍ، أو بَغْيٍ، أو غيرِهما، وكذلك (¬1) الخوارجُ، واللَّه أعلم. ح: وهذا عامٌّ يُخَصُّ منه (¬2) الصائلُ ونحوُه (¬3)، فيباح (¬4) قتلُه في الدفع، وقد يُجاب عن هذا: بأنه (¬5) داخلٌ في المفارق للجماعة، أو يكون المراد: لا يحل تعمُّدُ قتلِه قصدًا، إلا هؤلاء الثلاثة (¬6). ق: واختلف الفقهاء في المرأة، هل تقتل بالردة، أم لا؟ ومذهب أبي حنيفة (¬7): لا تقتل. ومذهب غيره، تقتل وقد يؤخذ (¬8). قوله: "المفارقُ للجماعة" يعني: المخالفَ لأهل الإجماع، فيكون متمسَّكًا لمن يقول: مخالفُ الإجماع (¬9) كافرٌ، وقد نُسِب (¬10) ذلك إلى بعض الناس، وليس بالهين، وقد قدمنا الطريقَ في ¬
التكفير، فالمسائلُ الإجماعية تارةً يصحبها التواترُ بالنقل عن صاحب الشرع؛ كوجوب الصلاة -مثلًا-، وتارة لا يصحبها التواتُر. فالقسم الأول: يكفرُ جاحِدُه؛ لمخالفته (¬1) التواترَ، لا لمخالفة (¬2) الإجماع. والقسم الثاني: لا يكفرُ به. وقد وقع في هذا المكان مَنْ يدعي الحذقَ في المعقولات، ويميل إلى الفلسفة، فظنَّ (¬3) أن المخالفَ في حدوث (¬4) العالم من قَبيل مخالفةِ الإجماع، وأخذَ من قولِ مَنْ قال: إنه لا يكفرُ مخالفُ الإجماع: أن لا يكفر هذا المخالف في هذه (¬5) المسألة، وهذا كلام ساقط بمرَّةٍ (¬6)، إما عن عَمًى في (¬7) البصيرة، أو تَعامٍ؛ لأن حدوثَ العالم من قَبيل ما اجتمعَ فيه الإجماعُ، والتواترُ بالنقل عن صاحب الشريعة (¬8)، فيكفر المخالفُ بسبب مخالفتِه النقلَ المتواتَر، لا بسببِ ¬
مخالفةِ الإجماع (¬1). قلت: وهذه (¬2) قاعدةٌ نفيسةٌ جليلةٌ في هذا المعنى، فلتُعْطَ من الحفظِ حَقَّها، وباللَّه التوفيق. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 332 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ" (¬1). ¬
* الشرح: فيه: تغليظُ أمرِ الدماء، وعظيم (¬1) مفسدتها؛ فإن البداءةَ بها مشعرةٌ بذلك؛ إذ (¬2) إنما يُبدأُ بالأهمِّ فالأهم، أي (¬3) المهمَّ المقدَّم؛ فإن الذنوب تعظُم بعِظَم (¬4) مفسدتها، وأيُّ مفسدةٍ بعدَ الكفرِ باللَّه -تعالى- أعظمُ من هدمِ هذه البنيةِ الإنسانيةِ التي خلقَها اللَّه -تعالى- في أحسنِ تقويم، وأسجدَ لها ملائكَتَه، وخلقَ الحادثاتِ كلَّها من أجلِها؟! فإن قلت: قد (¬5) جاء في حديث السنن: "أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ صَلَاتُهُ" (¬6) فما طريقُ الجمع بين الحديثين؟ قلت: قد جُمعَ بينهُما: بأنْ يكون حديثُ الصلاة محمولًا على ما بينَ العبد وربِّه عز وجل، وحديثُ الدماء فيما بينَ العبادِ (¬7)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 333 - عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى خَيْبَرَ -وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ-، فتفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ المَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتكَلَّمُ، فَقَالَ: "كَبِّرْ كَبِّرْ"، وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ، فَسَكَتَ، فتكَلَّمَا، فَقَالَ: "أتحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ -أَوْ: صَاحِبَكُمْ؟ -"، قَالُوا (¬1): و (¬2) كَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نشهَدْ، وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ: "فتبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ؟ "، فَقَالُوا: كَيْفَ (¬3) نَأْخُذُ (¬4) بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ (¬5). ¬
وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زيْدٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ"، قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْ، كَيْفَ نَحْلِفُ (¬1)؛ قَالَ: "فتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَوْمٌ كُفَّارٌ (¬2). وَفِي حَدِيثِ سعيد (¬3) بْنِ عُبَيْدٍ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ بِمِئَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ (¬4). ¬
* التعريف: سَهْلُ بنُ أبي حَثْمَةَ، واسمُ أبي حثمةَ -بالمثلثة الساكنة-: عبدُ اللَّه، وقيل: عامرُ بن ساعدةَ بنِ عامرِ بنِ عديِّ بنِ جُشَم -بضم الجيم وفتح الشين المعجمة- بنِ مَجْدَعَةَ -بالجيم الساكنة والدال المهملة- بنِ حارثةَ بنِ الحارثِ بنِ الخزرجِ. يكنى: أبا يحيى، ويُقَالُ: أبو محمد، الأنصاريُّ، المدنيُّ (¬1). مات النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ابن ثماني سنين، وقد حفظ عنه. رُوي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسة وعشرون حديثًا، اتفقا على ثلاثة أحاديث. ¬
روى عنه: بشير (¬1) بنُ يسار، وصالح بنُ خواتِ بنِ جُبير، وغيرُهم. روى له: الجماعة. توفي في أول ولاية معاوية (¬2). * ثم (¬3) الكلام على الحديث من وجوه: الأول: حُوَيِّصَة ومُحَيِّصَة: -بتشديد الياء فيهما، وبتخفيفها- لغتان مشهورتان، أشهرهما (¬4): التشديدُ (¬5). والقَسامة: -بفتح القاف-، وهي التي يحلف بها المدَّعي للدمِ، ¬
وقيل: إنها في اللغة اسمٌ للأولياء الذين يحلفون على دعوى الدمِ (¬1). الثاني: ع: حديث القسامةِ أصلٌ من أصول الشرع، وقاعدةٌ من قواعد الأحكام، وركنٌ من أركانِ مصالحِ العبادِ، وبه أخذَ (¬2) الأئمةُ كافةً، والسَّلَفُ من الصحابةِ والتابعينَ، وعلماء الأمة (¬3)، وفقهاء الأمصار؛ من الحجازيين، والشاميين، والكوفيين، وإن اختلفوا في صورة الأخذ به. وروي التوقفُ (¬4) عن الأخذ به عن طائفة فلم يَرَوا القسامةَ، ولا أثبتوا (¬5) لها في الشرع حكمًا؛ وهو مذهب الحكم بن عُتَيبة، ومسلمِ بنِ خالد، وأبي قِلابةَ، وسالمِ بنِ عبدِ اللَّه، وسليمانَ بنِ يسارٍ، وقَتادةَ، وابنِ عُلَيَّة (¬6)، والمكيين، وإليه ينحو البخاريُّ، ورُوي عن عمرَ بنِ عبد العزيز مثلُه، وروي عنه -أيضًا-: الحكمُ (¬7) بها. واختلف قولُ مالك في جواز القسامة في قتل الخطأ. ثم اختلف القائلون بها في العمد؛ هل يجب بها القتلُ والقصاصُ، أو الديةُ فقط؟ ¬
فمذهبُ معظمِ الحجازيين: إيجابُ القَوَدِ والقتل (¬1) بها إذا كَمُلَتْ شروطُها وموجِباتُها؛ وهو قولُ الزهريِّ، وربيعةَ، وأبي الزنادِ، ومالكٍ وأصحابِه، والليثِ، والأوزاعيِّ، وأبي ثورٍ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وداودَ، والشافعيِّ في أحد قوليه، ورُوي ذلك عن ابن الزبير، وعمرَ بنِ عبد العزيز -رضي اللَّه عنهم- (¬2). إذا (¬3) ثبت هذا، فللحكم بالقَسامَةِ عندنا شروط: أحدهما: أن يُدَّعَى الدمُ على مَنْ لا يُعرفُ قاتلُه ببينةٍ، ولا إقرارِ مَنْ يُدَّعى عليه. والثاني: أن يكون المقتولُ حرًا مسلمًا. والثالث: أن يكون في قتل، لا في جرحٍ. والرابع: أن يتفق الأولياء على ثبوت القتل في العَمْد، فإن اختلفوا، فلا قسامة، فأما في الخطأ إذا ادعاه بعضُهم، ولم يَدَّعِه (¬4) الباقون، فقال مالك: إن المدعين يُقسمون، ويأخذون حقوقَهم من الدية. والخامس: أن يكون ولاةُ الدمِ في العمد اثنينِ فصاعدًا، فإن كان واحدًا، لم يُقْسِم، إلا أن يعين من عصبته من يحلفُ معه (¬5)، وإن لم ¬
تكن له ولاية (¬1)؛ كالابن، يستعينُ بعمومته، فأما في الخطأ، فيقسم الواحدُ. والسادس: أن يكون الأولياءُ في العمد رجالًا عُقلاءَ (¬2) بالغِينَ، فإن لم يكن إلا نساءٌ، فلا قسامةَ، وأما في الخطأ، فأولياءُ الدم هم الورثةُ، رجالًا كانوا أو نساءً. والسابع: أن يكون مع الأولياء لَوْثٌ يقوِّي دعواهم، واللوثُ أشياء: منها: الشاهدُ الواحدُ العدلُ على رؤية القتل، وفي شهادةِ من لا تُعلم عدالتُه، والعدلِ يرى المقتولَ يتشحَّطُ في دمه، والمتَّهَمُ عندَه أو قربَه عليهِ آثارُ الدم، خِلافٌ. ومنها: أن يقول المقتولُ: دمي عند فلان. وفي كون ذلك لوثًا في الخطأ: روايتان عن مالك. وفي شهادة النساء والعبيد خلاف (¬3). ومنها: أن يشهد عدلان بالجرح، فيعيش بعدَه أيامًا، ثم يموت قبل أن يُفيق منه. ومنها: أن تَقْتَتِلَ طائفتان، فيوجد بينهما قتيلٌ، فهذا لوثٌ عند مالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ (¬4)، وإسحاقَ. ¬
وعن مالك رواية: أنه لا قسامةَ، بل فيه ديةٌ على الطائفة الأخرى، إن كان من إحدى (¬1) الطائفتين، وإن كان من غيرهما، فعلى الطائفتين ديتُه (¬2) (¬3). الثالث من الكلام على الحديث: قوله: فذهبَ عبدُ الرحمن يتكلم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "كَبِّرْ كَبِّرْ": معنى هذا: أن المقتولَ هو عبدُ اللَّه، وله أخ اسمُه عبدُ الرحمن، ولهما ابنا عَمٍّ، وهما: مُحيصة وحُويصة، وهما أكبر سنًا من عبدِ الرحمن، فلما أراد عبدُ الرحمن أخو القتيل أن يتكلم، قال له النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَبِّرْ كَبِّرْ"؛ أي: ليتكلمْ أكبرُ منك (¬4)، وإن كان (¬5) حقيقة الدعوى إنما هي (¬6) لأخيه عبد الرحمن، لا حقَّ فيها لابْنَي عمه، ولكن أمرَ -عليه الصلاة والسلام- أن يتكلم الأكبرُ، وهو حُويصة؛ ليعربَ عن (¬7) صورة الواقعة كيف جرتْ، لا سماع الدعوى منه، فإذا أُريد (¬8) سماعُ الدعوى، تكلم صاحبُها؛ وهو عبدُ الرحمن. ¬
ويحتمل أن يكون عبدُ الرحمن حين أُمر بالسكوت، وَكَّلَ حُويصة ومُحيصة في الدعوى، وفي هذا فضيلةُ السنِّ عند التساوي في الفضائل، وقد اعتبر العلماء ذلك في الإمامة، وفي عقدِ النكاح، وغيرِ ذلك، على طريق الندب دونَ الوجوب (¬1). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَتَحلفون، وتَستحقون دمَ (¬2) قاتِلِكم -أو: صاحبكم-؟ "، دليلٌ على ما تقدَّم؛ من أنه إذا كان وليُّ الدمِ واحدًا، استعان بعَصَبَته في الأيمان، فيحلفون معه، وإن لم تكن (¬3) لهم ولايةٌ، لعرضِه -عليه الصلاة والسلام- الأيمانَ على الثلاثة: عبدِ الرحمن، وابني عمِّه حويصةَ ومحيصةَ، والولايةُ لعبد الرحمن أخي المقتولِ، لا غيرُ، هذا مذهبنا، وخالفَ في ذلك الشافعيُّ. وأما قوله -عليه الصلاة والسلام-: "تستحقون (¬4) قاتلِكم أو صاحبِكم"، فمعناه: يَثْبُتُ حقُّكم على مَنْ حلفتم عليه. وهل ذلك الحقُّ قصاصٌ، أم ديةٌ؟ فيه الخلاف السابقُ بين العلماء (¬5). ¬
والاستدلالُ بالرواية التي فيها: "فيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ" أقوى من الاستدلال بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "وتستحقون دم قاتلكم"؛ لأن قولنا: يدفع برُمَّته مستعملٌ في دفع القاتل للأولياء للقتل، ولو أن الواجبَ الديةُ، لبعُدَ استعمالُ هذا اللفظ فيها، وهو في استعماله في تسليمِ القاتل أظهرُ. والرُّمَّةُ: -بضم الراء-: قطعة من الحبل بالِيَةٌ، والجمعُ: رُمَمٌ، ورِمَامٌ. قال الجوهري: وأصلُه: أن رجلًا دفع إلى رجل بعيرًا بحبلٍ في عنقه، فقيل ذلك لكلِّ مَنْ دفع شيئًا بجملته، وأما الرِّمَّةُ -بالكسر-، فهي العظام البالية، والجمع (¬1): رِمَمٌ، ورِمَامٌ (¬2)، واللَّه أعلم. والاستدلال بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وتستحقون دمَ صاحبِكم" أظهرُ (¬3) من الاستدلال بقوله: "فتستحقون قاتلَكم، أو صاحبَكم"؛ لأن هذا اللفظ الأخيرَ لا بدَّ فيه من إضمار، فيحتمل أن يضمر: ديةَ صاحبَكم احتمالًا ظاهرًا، وأما بعدَ التصريح بالدمِ، فلا، وربما أشار بعض المخالفين لهذا المذهب أن يكون "دمَ صاحبِكم": هو القتيل، لا القاتل، ويرده قوله -عليه الصلاة والسلام-: "دمَ صاحبِكم، أو قاتلِكم" (¬4). ¬
ولتعلمْ (¬1): أنه إنما يجوز لهم الحلفُ إذا علموا أو ظنوا ذلك، وإنما عرضَ عليهم النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اليمينَ إن وُجد فيهم ذلك الشرط، وليس المرادُ الإذنَ لهم في الحلف من غير علمٍ، ولا ظنٍّ، والتقدير: أتعلمون ذلك، أو تظنونه، فتحلفون؟ ولذلك قالوا: "كيف نحلفُ ولم نشهدْ". الخامس: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فتبرِئُكم يهودُ بأيمان خمسين"؛ أي: تُبري إليكم من دعواكم بخمسين يمينًا، وقيل: معناه: يخلصونكم من اليمين بأن يحلفوا، فإذا حلفوا، انتهت الخصومةُ، ولم يثبتْ عليهم شيء، فخلصتم أنتم من اليمين. وفيه: دليلٌ لصحة يمينِ الكافرِ والفاسق، وأن الحكمَ بين المسلم والذميِّ؛ كالحكمِ بين المسلمين. ويهود: لا ينصرفُ؛ للتأنيث والعلمية؛ إذ المراد به: القبيلة، أو الطائفة (¬2)، ومنه قول الشاعر: فَرَّتْ يَهُودُ وَأَسْلَمَتْ جِيَرانَهَا ... صَمِّي لِمَا فَعَلَتْ يَهُودُ صَمَامِ (¬3) ¬
وقوله: "فعقله النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من عندِه"؛ أي: أعطى ديتَه من عنده. وفي الرواية الأخرى: "فَوَدأْهُ من قِبَلِهِ" (¬1)، - بتخفيف الدال-؛ أي: أعطى ديته أيضًا. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فيُقسم خمسون منكُم على رجلٍ منهم": فيه: أن القَسامة لا تكون إلا على واحد؛ كما هو المشهور من مذهبنا، وهو قول أحمد. وقال أشهبُ وغيرُه: يقسمون على ما شاؤوا، ولا يقتلون إلا واحدًا. وقال الشافعي: إن (¬2) ادعوا على جماعة، حلفوا عليهم، وثبتت الدية، على الصحيح، وعلى قول: يجبُ القصاصُ عليهم، وإن حلفوا على واحد، استحقوا عليه وحدَه. وفيه: أن الأيمان لا تكون (¬3) أقلَّ من خمسين، وأنها لا يحلفها واحد (¬4)، وإنما يحلفها خمسون من أولياء المقتول، كلُّ واحد يمينٌ، فإن كانوا دونَ هذا العدد، أو نَكَلَ بعضُهم، ولم يكن ممن يجوز ¬
عفوُه (¬1)، أو صرفُ اليمينِ إلى غيره، رُدَّتِ الأيمانُ عليهم، حتى يُتِمُّوا خمسين يمينًا (¬2)، ويجزىء في ذلك رجلان، ولا يجزىء في قتل العمد أقلُّ من رجلين، هذا مشهور مذهب مالك رحمه اللَّه. وعنه: إن كان الأولياء أكثرَ من خمسين، حلفوا كلُّهم (¬3) يمينًا يمينًا، ولا يحلف في ذلك إلا الرجال البالغون من أوليائه، ومَنْ يستعينون به من عَصَبَته، على ما تقدم (¬4). السادس: قوله: "فكرهَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُبطل دمَه، فوداهُ بمئةٍ من إبلِ الصدقةِ": قيل: ذلك لأنه -عليه الصلاة والسلام- لما لم يحلِفوا، ولم يُحَلِّفوا، و (¬5) تَنَزَّهوا عن اليمين لمَّا لم يحضروه، ولم يَرَوْا إلزامَها الخيبريين (¬6)، حذرًا من مجاهرتهم للَّه -تعالى- بالحِنْثِ، وأنه يكون سببًا لاغتيال المسلمين إذا علموا أنهم يحلفون لا غير، ولم يتوجَّه لهم حكمٌ، أرضاهم النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأَنْ ودى (¬7) مِنْ عندهِ، أو من بيت المال. ¬
وقيل: بل فعل ذلك النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لما يخشى أن يبقى (¬1) في نفوس الأنصار على أهل خيبر، وهم ذمة؛ مما تبقى عاديتُه، فرأى من المصلحة قطعَ ذلك، وحسمَ الطلب بما أعطاهم. وأما هذه الرواية الأخيرة: "فَوَدَاهُ مِنْ إِبلِ الصَّدَقَةِ"، فقيل: هو (¬2) غلط؛ إذ ليس هذا (¬3) مصرف الصدقات، والأصحُّ والأكثرُ قولُ مَنْ قال: "مِنْ قِبَلِهِ"، أو "مِنْ عِنْدِهِ"، إمَّا (¬4) من ماله، أو من مال الفيء. وقيل: يجمع بينهما: أن يكون تَسَلَّفَ ذلك من إبل الصدقة، حتى يودِّيَها لمستحقيها (¬5) من الفيء. ع: فإذا قلنا على التأويل الآخر: إنه للمصلحة، فقد يجوز تصريفُها في مثل هذا عند (¬6) بعض العلماء في المصالح العامة. وقيل -أيضًا-: إنه قد يكون فيما فعلَ من ذلك استئلافٌ لليهود؛ رجاءَ (¬7) إسلامهم، وإعطاؤه عنهم قد يكون من سهم المؤلَّفَة قلوبُهم. ¬
قلت: هذا على تفسير المؤلَّفة قلوبُهم: بأنهم كفارٌ يُتَأَلفون على الإسلام، لا (¬1) على قول من يقول: حديثو عهد بإسلام (¬2)؛ ليتمكن الإسلامُ في (¬3) قلوبهم، أو مسلمونَ لهم أتباعٌ ليستألفوهم، على ما مرَّ في كتاب: الزكاة. أو لكونِ (¬4) أولياءِ القتيلِ محاويجَ ممن تُباح لهم الصدقةُ، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 334 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ جَارِيةً وُجِدَ رَأْسُهَا مَرْضُوضًا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ؟ فُلَانٌ، فُلَانٌ، حتَّى ذُكِرَ يَهُودِيٌّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُرَضَّ (¬1) رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ (¬2). ¬
335 - وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ، فَأَقَادَهُ بها (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * * * * الشرح: قيل: فيه: دليلٌ على اعتبار الإشارة في الأحكام الشرعية، وقيامِها مقامَ النطق. ¬
قلت: وفي هذا عندي نظر؛ لأن إشارتها لم يترتَّبْ (¬1) عليها في الحقيقة حكمٌ شرعي؛ إذ لولا اعترافُه، لم يجز قتلُه بإشارتها، غايةُ ذلك: أنه نُزِّلَت (¬2) إشارتُها منزلةَ الدعوى بالنطق، وهذا قريب. وفيه: قتلُ الرجل بالمرأة، وهو إجماع مَنْ يُعتد به. وفيه: أن حكم القتل بالمثقَّلِ حكمُه بالمحدَّد في ثبوت القصاص؛ خلافًا لأبي حنيفة في قوله: لا قصاصَ إلا بمحدَّدٍ (¬3) من حديد، أو حجرٍ، أو خشبٍ، أو كان معروفًا بقتل الناس؛ كالمنجنيق (¬4)، أو بالإلقاء (¬5) في النار. واختلفت الرواية عنه في مثقل الحديد؛ كالدبوس، هكذا نقله عنه ح (¬6). والأول مذهبُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وجماهيرِ العلماء رحمهم اللَّه. ق: وعذرُ الحنفية عن هذا الحديث ضعيفٌ، وهو أنهم قالوا: هو بطريق السياسة، وادعى صاحبُ "المطوَّل" أن ذلك اليهوديَّ كان ساعيًا في الأرض بالفساد، وكان من عادته قتلُ الصغار بذلك الطريق. ¬
قال: أو نقول (¬1): يحتمل أن يكون جرحها برضخ، وبه نقول، يعني: على إحدى (¬2) الروايتين عن أبي حنيفة، والأصحُّ عندَهم أنه يجب (¬3). قلت: والحديثُ حجة عليه، ودليلٌ للجمهور (¬4)، لا سيما وقد قال الراوي: فأقاده رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، و (¬5) قال اللَّه تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقال تعالى: {افَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وهذا نصٌّ في المماثلة مطلقًا. وفيه: دليلٌ على المساواة في كيفية القتل، وفي الحديث الآخر: "المَرْءُ مَقْتُولٌ بِمَا قَتَلَ بِهِ" الحديث؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- رَضَّ رأسَهُ كما (¬6) رَضَّ رأسَها، وهو مذهبُ مالك، والشافعيِّ، إلا أن يختار الوليُّ العُدولَ إلى السيف، فله ذلك. وقال أبو حنيفة: لا قَوَدَ إلا بالسيف. ¬
واختُلف في التحريق بالنار لمن فعلَ ذلكَ بأحدٍ، فقال مالكٌ، والشافعيُّ: إن طرحه في النار حتى مات، فُعل به كما فَعل. وقال ابن الماجشون وغيرُه: لا يُحرق بالنار، ويُقتل بغير ذلك، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّهَا" (¬1). واختلفوا إذا لم يمتْ من ضربِهِ بالعصا، أو بحجرِ في القَوَدِ، فقال مالكٌ، والشافعيُّ، وغيرهما [بتكرير ذلك عليه حتى يموت]، إلا أنه عن مالكٍ رواية: أنه إن كان في ضرب العصا تعذيبٌ، فيُقتل (¬2) بالسيف، وكذلك قال عبدُ الملك في الرَّجْم بالحجارة. ع: وأصلُ المذهب: القَوَدُ بما قتل، وقال الشافعي: نحوَه في (¬3) المحبوس في البيت أيامًا دونَ طعام حتى ماتَ: يُفعل بقاتله مثلُ ذلك، فإن لم يمتْ في تلك المدة، قُتل. وكذلك مَنْ قطعَ يَدَي رجلٍ ورجليه، وألقاه في مَهْواة، فماتَ: يُفعل بقاتله مثلُه، فإن لم يمت، قُتل بالسيف. ¬
ع: وفي هذا الحديث -أيضًا (¬1) -: حجةٌ على وجوب القصاص على القاتل (¬2) بكلِّ ما يقتل (¬3) بمثله، كساقي السمِّ، والخانِقِ (¬4)، ورامي الرَّجُل من الجبل، وفي البئر، أو الضاربِ بالخشبةِ والعَصا، أو تغريقِه في الماء، وعلى هذا جمهورُ العلماء. واختُلف إذا قتل بما لم تجرِ العادةُ بالقتلِ به (¬5)، قاصدًا لقتلِه؛ كالعصا، و (¬6) اللَّطمة، والسوطِ، والبُنْدُقَة (¬7)، والقضيبِ. فعند (¬8) مالك: القودُ في هذا كله، وعندَ غيره: يشبه العمدَ، لا قودَ فيه، وإنما فيه الديةُ مغلظة. ومالك لا يقول بشبه العمد في هذا (¬9)؛ إنما هو عمد، أو خطأ. وبقول مالكٍ قال الليثُ. ¬
قال أشهبُ: ولم يختلف علماءُ الحجاز في هذا (¬1). قال أبو عُمر: ولم يوافق مالكًا -يعني: من فقهاء الأمصار- عليه (¬2)، إلا الليثُ، وقد قال بقولهما جماعةٌ من السلف من الصحابة والتابعين، وذهب جمهورُ فقهاء الأمصار إلى (¬3) أن هذا كله شبهُ العمد، وإنما فيه الديةُ مغلظةً، وهو قول سفيانَ الثوريِّ، والأوزاعيِّ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وأبي ثورٍ، وقد ذُكر عن مالك، وقاله ابنُ وهب من أصحابنا، ورُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين. وقوله: "على أَوْضاح": هي جمعُ وَضَحٍ -بفتح الواو والضاد المعجمة (¬4) -، وهي حليٌّ من حجارة، قاله الإمام. وقال غيره: هي قطعُ فضة، والمراد: حلي فضة، وقد جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 336 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ، قتلَتْ هُذَيْلٌ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "إِنَّ اللَّه قد (¬1) حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ كان (¬2) قَبْلِي، وَلَمْ تَحِلَّ لأِحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نهَارٍ، وَإِنَّها سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَجَرُهَا (¬3)، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُقْتَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُفْدَى"، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اكتُبُوا لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اكْتُبُوا لأِبِي شَاهٍ"، ثُمَّ قَامَ العَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا الإِذْخِرَ؛ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِلَّا الإِذْخِرَ" (¬4). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: كان فتحُ مكة -شرفها اللَّه تعالى- في سنة ثمان من الهجرة، في شهر رمضان الشريف. الثاني: الفيل: -بالفاء والمثناة تحت-، هذه هي (¬1) الرواية ¬
الصحيحة، وشذ بعضهم فرواها (¬1): القتل، والأول هو الصواب، ومعنى حبسَ الفيلَ: حبسَ أهلَه عن القتال في الحرم. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وسلَّط عليها رسولَه والمؤمنين" دليل لمن رأى أن فتح مكة كان (¬2) عَنْوَةً لمجيء التسليط في مقابلة الحبس الذي وقع للفيل، وهو الحبس عن (¬3) القتال، وقد تقدَّم ما يتعلق بالقتال في مكة. الرابع: ما ذُكر من التحريم دليلٌ على عِظَم حرمةِ مكةَ، زادها اللَّه شرفًا. وقد تقدم معنى العضد، وهو: القطعُ، في كتاب: الحج. وتقدم -أيضًا- تفسير الاختلاء فيه، وهو الحزُّ (¬4) والقطع أيضًا. وتقدم -أيضًا- معنى: "لا يلتقط لقطتها أو ساقطتها" في: اللقطة. وأما قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إلا لمنشد"، فقال الجوهري: يقال: نَشَدَهُ (¬5): إذا شهره (¬6) وسمَّع به (¬7)، ونَشَدْتُ الضَّالَّة أَنْشُدُها نِشْدَةً ¬
ونِشْدانًا (¬1)؛ أي: طلبتُها، وأَنْشَدْتُها، أي: عَرَّفْتُها (¬2). فعلى هذا يكون معناه: لا تُلتقط ساقطتُها إلا لمن يريد أن يُعَرِّفها، ليجمعَها على ربها، واللَّه أعلم. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومن قُتل له قتيلٌ، فهو بخير النظرين": اختلف الفقهاء في موجب القتل العمد؛ القودُ، أو الديةُ، على قولين: أحدهما: أن الموجبَ هو القصاص عَيْنًا، وهو المشهور من مذهبنا (¬3). والثاني: أن الواجب أحدُ الأمرين: إما القصاص، وإما (¬4) الدية، والقولان للشافعي أيضًا (¬5) (¬6). ¬
قال أصحابنا: فإن قلنا: الواجبُ أحدُهما لا بعينه، وهي رواية أشهب، فلو عفا الوليُّ عنهما، صح، وإن عفا عن الدية، فله القصاص، ولو قال: اخترتُ الديةَ، سقط القودُ، ولو [قال]: اخترتُ القودَ، لم يسقط اختيار الدية، بل له الرجوعُ إليه. وإن قلنا (¬1): الواجبُ القودُ فقط -على رواية ابن القاسم، وهو المشهور، كما تقدم-، فإن عفا عن مال بيت (¬2) المال إن وافقه الجاني، ولو مات قبل الاقباض، ثبت المالُ، وإن عفا مطلقًا، سقط القصاصُ والدية (¬3). السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اكتبوا لأبي شاهٍ": الذي أراد أبو شاهٍ كَتْبَه خطبتُه -عليه الصلاة والسلام (¬4) -، ففيه: جوازُ كتبِ غير القرآن، وإن كان قد (¬5) جاء النهي عن كتبِ غير القرآن، وفي ظني أن بعضهم تأوله على كتب الحديثِ مع القرآن؛ خشيةَ التباسه بالقرآن، وجاء مصرَّحًا في بعض الأحاديث، وأظنه في "سنن أبي داود": يا رسول اللَّه! أكتبُ (¬6) عنك ما تقول في الرضا، والغضب؟ ¬
قال: "اكْتُبْ مَا أَقُولُ في الرِّضَا وَالغَضَبِ؛ فَإِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا"، أو كما قالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وقد استقر الأمرُ بين الناس على الكتابة لتقييدِ العلم بها (¬2)، وهذا الحديث يدلُّ على ذلك، وإن كان الصدرُ الأولُ اختلفوا في ذلك. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِلَّا الإذْخِرَ": قد تقدم الكلامُ عليه في الحج، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 337 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّهُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إِمْلَاصِ المَرْأَةِ، فَقَالَ المُغِيرَةُ (¬1): شَهِدْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، فَقَالَ: لَتأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ (¬2). ¬
إِمْلَاصُ المَرْأَةِ: أَنْ تُلْقِيَ جَنِينَهَا مَيْتًا (¬1). * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: فيه: استشارةُ الإمامِ (¬2) مَنْ دونَه في حكمٍ غيرِ معلومٍ له؛ إذ العلم الخاصُّ قد يَخْفى على الأكابر، ويعلمه مَنْ دونهم. ق: وقول عمرَ -رضي اللَّه عنه-: "لتأتينَّ بمن يشهدُ معكَ" تعلق (¬3) به مَنْ يرى اعتبارَ العددِ في الرواية، وليس هو بمذهب (¬4) صحيح؛ فإنه قد ثبت قبولُ خبر الواحد، وذلك قاطع بعدم اعتبار العدد، وأما طلبُ العدد في حديث جزئي، فلا يدلُّ على اعتباره كليًا (¬5)؛ لجواز أن يحال ذلك على مانع خاصٍّ بتلك الصورةِ، أو (¬6) قيامِ سبب يقتضي التثبتَ، وزيادةَ الاستظهار، لا سيما إذا قامت قرينة على عدمِ علمِ عمرَ -رضي اللَّه عنه- بهذا الحكم (¬7)، وكذلك حديثُه مع أبي موسى في الاستئذان، ولعل ¬
الذي أَوجب ذلك استبعادُ عدمِ العلمِ به، وهو في باب الاستئذانِ أقوى، وقد صرح -رضي اللَّه عنه- بأنه أرادَ أن يستثبتَ، انتهى (¬1). الثاني: الروايةُ الصحيحة التي عليها الجماهير: "بغُرَّةٍ" -بالتنوين-، وما بعده بدلٌ منه. ح: ومما يؤيده ويوضِّحه: روايةُ البخاري في "صحيحه" في كتاب: الديات، في باب: دية جنين المرأة: عن المغيرة بن شعبة، قال: "قضى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالغُرَّةِ عَبْدٍ أو أَمَةٍ" (¬2). وذكر صاحبُ "مطالع الأنوار" الوجهين: التنوين، والإضافة، قال: والأولُ أوجهُ وأقيسُ. قلت: وجهُ القياس: أن الإضافة تكون من باب إضافة الشيء إلى نفسِه، وهي قليلة. قال الجوهري (¬3): و (¬4) (أو) هنا للتنويع، لا للشكِّ، وأصلُ ¬
الغُرَّة: بياضٌ في الوجه، ولهذا قال ابن عبد البر (¬1): لا يكون العبدُ الذي يُقضى به إلا أبيضَ؛ لذكْرِه الغرةَ، قال: ولولا أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أراد بالغرة معنًى زائدًا على شخص العبد والأمة، لما ذكرها (¬2). قلت: وقال مالك: الحمرانُ من الرقيق أحبُّ إليَّ من السودان (¬3). ع: فإن قلت: الحمرانُ بذلك البلد أخذ (¬4) من السودان، إلا أن يغلُوَ (¬5) الحمرانُ، فمن أوسطِ السودانِ. ح: واتفق العلماء على أن ديةَ الجنين هي (¬6) الغرة. ذكرًا كانَ أو أنثى (¬7). ¬
ثم قال ع: وقيلَ الغرةُ: تُطْلَق على الذكر والأنثى. قال الجوهري: وكأنه (¬1) عبر عن الجسم كلِّه بالغرة (¬2). وهذا كقوله: "عتق رقبة"، وظاهر هذا يرد ما قاله ابنُ عبد البر من اشتراط البياض، فتأمله. وقيل: أرادَ بالغرة: الخيارَ، والوسطُ من الأعلى يجزىء، وليس الوسط من جملة (¬3) العبيد. قال: ومقتضى مذهبنا: أنه مخيرٌ بين إعطاء غرة، أو عُشْرِ دية الأم. الثالث (¬4): إن كانوا أهلَ ذهب، فخمسون دينارًا، أو أهلَ وَرِق، فست مئة درهمٍ، أو خمسُ فرائض من الإبل. وقيل: لا يعطى من الإبل، وعلى هذا في قيمة الغرة جمهور العلماء. وخالف الثوري، وأبو حنيفة، فقالا: قيمة (¬5) الغرة خمس مئة درهم؛ لأن ديتها عندهم من الدراهم خمسُ مئة درهم. وحجةُ الجماعة في ذلك: قضاءُ الصحابة (¬6) بما قالوه. ¬
وشذ بعض السلف، منهم: طاوسٌ، وعطاءٌ، ومجاهدٌ، فقالوا: غرة عبدٍ، أو وليدة، أو فرس. وقال بعضُهم: أو بغل، ورفعوا في ذلك حديثًا (¬1). وقال داود وأصحابه: كل ما (¬2) وقع عليه اسمُ غُرَّةٍ يجزىء (¬3). وقال الشافعي: أقلُّ سِنِّ الغُرَّةِ سبعُ سنين، وأما في طرف الكبر، فقيل: إنه (¬4) لا يؤخذ الغلام بعدَ خمسَ عشرةَ سنةً، ولا الجاريةُ بعدَ عشرين سنة. وجعل بعضُهم الحدَّ عشرين سنة. والأظهرُ: أنهما يؤخذان، وإن جاوزا الستين (¬5)، ما لم يضعفا، ويخرجا عن سن (¬6) الاستقلال بالهرم، لأن من أتى بما دل الحديث ¬
عليه ومسماه، فقد أتى بما وجب، فلزم (¬1) قبولُه، إلا أن يدل دليلٌ على خلافه (¬2). قلت: وليس في لفظ (¬3) الحديث تعرُّض للسن قطعًا، وهذا كلُّه من تصرفات الفقهاء -رضي اللَّه عنهم-. وهذا كله في جنين الحرة. وأما غيرُها، فإن كانت أمَّ ولد، فكالحرةِ عندنا، وإن كانت أم أمة (¬4)، ففي جنينها من غير السيدِ عُشْرُ قيمةِ أُمه؛ كان أبوه حرًا، أو عبدًا؛ إذ ليس في لفظ الحديث عمومٌ يدخل تحته جنينُ الأمة، فإنه وإن كان في لفظ الاستشارة ما يُعطي العمومَ، وهو قوله: "في إملاصِ المرأةِ"؛ لكن لفظَ الراوي يقتضي كونَها في واقعةٍ مخصوصة، فعلى هذا ينبغي أن يؤخذ حكمُ جنينِ الأمةِ من محل آخر (¬5). وقال ابن وهب: فيه ما نقصَها من قيمتها. والأولُ قولُ مالك. قال ابنُ القاسم في "العتبية": قيمتُه على الرجاء والخوف. ¬
وقال في "المدونة" في جنين الذمية -يريد (¬1): إذا لم يستهلَّ صارخًا- عشرُ ديةِ أمه، أو نصفُ عشرِ ديةِ أبيه، وهما سواء (¬2)، والذكرُ والأنثى في ذلك سواء (¬3). قال العلماء: هانما كان ذلك؛ لأنه قد يخفى، فيكثر فيه النزاع، فضبطه الشرعُ يما يقطع النزاع. قلت: وسواء كان خلقُه كاملَ الأعضاء، أو ناقصَها، أو كان مضغةً تَصَوَّرَ فيها خلقُ آدمي. قال مالك: وذلك بغير قَسامة، وهي في مال الجاني، ولا تحملها العاقلة. وقال الشافعي، وأبو حنيفة، والكوفيون (¬4): على العاقلة. وبقول مالك، قال البصريون. واختُلف (¬5) هل على الجاني كفارةٌ أم لا؟ فاستحسن مالكٌ الكفارةَ في الجنين، والعبدُ، والذميُّ، إذا قُتلا، ففيهما الكفارة، وفي جنينهما الكفارة (¬6). ¬
وقال أشهب: وهي في العبد المؤمن أوجبُ. وروى أشهبُ عن مالك: لا كفارة فيه. قال أشهب: وأوجبها الشافعيُّ وآخرون. وبقول مالك قال أبو حنيفة. والكفارةُ: عتقُ رقبة؛ كما قال اللَّه تعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [النساء: 92]. الرابع (¬1): الغُرَّةُ موروثةٌ على فرائض اللَّه تعالى، على المشهور عندنا، وبذلك قال الشافعي، والجمهور. وقال ربيعةُ: هي للأم خاصَّة؛ لأنه كعضوٍ من أعضائها، تنفرد بديته، فيشاركها الأب. قلت: وظاهرُ هذا تساوي الأَبَوين فيها نصفَيْن (¬2) بالسويَّة، وأظن أن ابنَ (¬3) يونس من أصحابنا صرَّح بذلك، فقال: نصفانِ بينهما؛ أعني (¬4): على هذا القول. ونقل عن (¬5) ابن هرمز: أنها للأبوين خاصة: الثلث، والثلثان، فإن لم يكن إلا أحدُهما، فجميعها له. ¬
وقال بهذا مالكٌ مرةً. وهذا كله إذا خرج الجنين ميتًا، فإن خرج حيًا، ثم مات، فالواجبُ فيه ديةُ الكبير، فإن كان ذكرًا، فمئةُ بعير، وإن كان أنثى، فخمسون. ح: وهذا مجمَعٌ عليه، وسواءٌ فيه العمدُ والخطأ (¬1). قلت: واختُلف إذا خرج الجنين بعدَ موتِ أمه، والمشهورُ عندنا (¬2)، وعليه الجمهور: أنه لا غُرَّة فيه. وفي المسألة فروعٌ كثيرة موضعُها كتبُ الفقه، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 338 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ دِيَةَ جَنِييهَا: غُرَّة عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ المَرأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَها وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الهُذَلِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ ولَا أَكَل (¬1)، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ؛! فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّما هُوَ مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ"؛ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: اختُلف في اسمَيْ هاتين المرأتين، فقيل: إحداهما: مليكة، والأخرى: غطيف، ويقال: أم غطيف. وقيل: إحداهما: أم عفيف، والأخرى: أم مكلف. وقيل: إحداهما، مليكة، والأخرى: أم عفيف وكانتا ضرتين (¬1). الثاني: قوله (¬2): "فقتلَتْها (¬3) وما في بطنها": ليس فيه ما يدلُّ على انفصاله، وإنما يؤخذ ذلك من الرواية الأخرى: "فماتَتْ، وألقتْ جَنينَها"، وفي أخرى: "فأسقطَتْ غُلامًا قد نبتَ شعرُه ميتًا، وماتتِ ¬
المرأةُ" (¬1)، وقد تقدم أن (¬2) الحديثَ يفسِّرُ بعضُه بعضًا. الثالث: قوله: "وَقَضَى بِدِيَةِ المَرأَةِ علَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَها وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ (¬3) ": أجرى -عليه الصلاة والسلام- هذا القتلَ إجراءَ غيرِ العمد. الرابع: حَمَل: بفتح الحاء والميم المهملتين. وقوله: "فمثلُ ذلك يُطَلُّ": روي (¬4) بالباء الموحدة، وبالياء المثناة تحت المضمومة. ع: وروي (¬5) عن مالك في "الموطأ" بالوجهين (¬6). قلت: فهو على الأول: من البطلان، وعلى الثاني: من قولهم: طُلَّ دمُه؛ أي: هُدِرَ. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما هو (¬7) من إخوانِ الكهان". ¬
قال الإمام: إنما ذمه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هذا السجع في مقابلةِ حكمِ اللَّه تعالى، فهو كالمستبعد له (¬1)، ولا شك أن كلَّ ما عُورضت به (¬2) النبوةُ مذمومٌ، إذا (¬3) كان القصدُ به ردَّ الحكم، وإلا، فقد سجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في مواضع (¬4). ع: وقيل بل أنكر عليه (¬5) تكلف الأسجاع على طريق الكهان، وحوشية الأعراب، وليس بسجع فصحاء العرب ومقاطعها، وكلامُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من هذا النوع (¬6). قلت: وانظر قوله: "من أجل سجعه الذي سجع"، هل هو من كلامه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو من كلام الراوي؟ فإنه عندي يحتمل الوجهين (¬7)، واللَّه أعلم. قال الجوهري: السَّجْعُ (¬8): الكلامُ المُقَفَّى، والجمعُ أَسْجاعٌ، ¬
وأَساجيعٌ، وقد سَجَعَ (¬1) الرجُلُ سَجْعًا، وسَجَّعَ (¬2) تَسْجيعًا، وكلامٌ مُسَجَّعٌ (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 339 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ؟! لَا دِيَةَ لَكَ" (¬1). ¬
* الشرح: اختُلف في المعضوض إذا نزعَ يدَه من فم العاضِّ، فانتشر (¬1) بعضُ أسنانه: فالمشهورُ عندنا: أنه ضامنٌ. وقال بعضُ أصحابنا: لا ضمانَ عليه. وبالتضمين (¬2) قالَ الشافعيُّ رحمه اللَّه فيما نقلَ عنه الإمامُ. قال الإمام: وبعض (¬3) المحققين من شيوخنا: إنما (¬4) ضمَّنَه مَنْ ضَمَّنه من أصحابنا؛ لأنه يمكنهُ النزعُ بالرفق حتى لا تنقلعَ أسنانُ العاضِّ، فإذا زادَ على ذلك، صار متعديًا في الزيادة، فضمنَ، وحملوا الحديث (¬5) على مَنْ لم يمكنه النزعُ إلا بذلك النزعِ الذي أَدَّى إلى سقوط الأسنان. وقال بعضهم: لعلَّ أسنانه كانت متحركة عقبَ (¬6) النزع. وهذا التأويل بعيدٌ من ظاهر الحديث. وكذلك اختلفوا في الجَمَل إذا صالَ على رجل، فدفعه عن نفسه، فقتلَه، هل يضمنُ، أم لا؟ ¬
وبنفي التضمين قلنا نحن، والشافعيُّ. وبإثباته قال أبو حنيفة. والحجةُ لنفي التضمين: أنه مأمورٌ بالدفع عن نفسه، ومن فعلَ ما أُمر به، لم يكن متعدِّيًا ومَنْ ليسَ بمتعدٍّ، فلا يضمن في مثل هذا، وقياسًا على ما لو قتلَ عبدًا في مدافعته إياه عن نفسه. ومن (¬1) أثبتَ الضمانَ رأى أنه أحيا نفسه بإتلاف مالِ غيره، فأشبهَ منِ اضطُرَّ لطعام غيره، فأكل منه خوفَ الموت، فإنه يضمن. والفرق بين السؤالين: أن الآكلَ (¬2) لطعام غيره ابتدأ ذلك من قِبَلِ نفسه، ولا جناية من ربِّ الطعام، ولا من الطعام عليه؛ فلهذا لم يضمن، يعني (¬3): في مسألة الصائل. وأيضًا: فإن الطعام ينوبُ غيرُه منابَه في إحياء نفسِه، فكأن الضرورة (¬4) فيه لم تتحقق، فصار كمن أكل اختيارًا، ولا مندوحةَ له في الجَمَل، ولا تنفعه (¬5) مدافعةُ غيره، ولا تنجيه، فتحققت الضرورةُ، فهذان فرقان (¬6) بينهما. ¬
ومن هذا المعنى سؤالٌ ثالث، وهو: لو (¬1) رمى إنسانٌ أحدًا ينظر إليه في بيته، فأصاب عينَه، فاختلف أصحابنا -أيضًا- في ذلك، فالأكثرُ منهم: على إثبات الضمان، والأقلُّ: على نفيه. وبالأول قال أبو حنيفة. وبالثاني: قال الشافعي. فأما نفيُ الضمان؛ فلقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ" (¬2). وأما إثباتُ الضمان؛ فلأنه لو نظر إنسانٌ إلى عورة إنسانٍ آخرَ بغير إذنه، لم يستبح بذلك فَقْءَ عينه، فالنظرُ إلى الإنسانِ في بيته أولى أن لا يُستباح به ذلك. ومحملُ الحديث عندهم على أنه رماه لينبهه على أنه نظرَ إليه، أو ليدفعَه عن ذلك غيرَ قاصد لفقء، فانفقأت عينه خطأ، فالجناح منتفٍ، وهذا الذي نفي في الحديث، والدِّيةُ لا ذِكْرَ لها (¬3). فائدة: جملةُ الأسنان: اثنانِ وثلاثون: أربعٌ ثنايا، وأربعٌ ¬
رَبَاعِيَات، وأربعةُ أنيابِ، وأربعةُ ضواحكَ، وأربعةُ نواجذ، وفي كل شق بعد الأرحاء ضرسٌ من النواجذ، وهو الذي يسمى: ضرس الحلم؛ أي: العقل، فذلك (¬1) عشرون ضرسًا. واثنتا عشرة رحًا، وهي التي يقول (¬2) لها العامة: المطاحين (¬3)، في كل شق ثلاثةُ أَرْحاءِ، فذلك اثنان وثلاثون ضرسًا (¬4)، وأظنُّ هذا قد (¬5) تقدم، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع 340 - عَنْ الحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ البَصْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ فِي هَذَا المَسْجدِ، وَمَا نسَينَا مِنْهُ حَديثًا، وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1): "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ، فَأَحَذَ (¬2) سِكِّينًا، فَحَزَّ (¬3) بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ (¬4)، فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ" (¬5). ¬
* الشرح: الجرح هنا: يحتمل أن يكون بالفتح، وهو مصدرُ جرحَ، ويحتمل أن يكون بالضم، وهو اسم المكانِ المجروح، ولم أَرَ مَنْ تعرَّض لضبطه في الحديث. وجزعَ: -بكسر الزاي- لا غير، وحز: رويناه بالحاء المهملة، ومعناه: قطَعَها، أو بعضَها. وَرَقَأَ: -بفتح الراء والقاف والهمز (¬1) -: ارتفعَ، وانقطعَ. ق: وفي الحديث إشكالان أصوليان (¬2): أحدهما: قوله تعالى: "بادرني بنفسه"، وهي مسألة تتعلَّق بالآجال، وأجلُ كلِّ شيء وقتُه، يقال: بلغَ أَجَلَه؛ أي: تم أَمَدُه (¬3)، وجاء حينُه، وليس كلُّ وقتٍ أجلًا، ولا يموت أحدٌ بأي سبب كان إلا بأَجَلِه، وقد علم اللَّه -تعالى- أنه يموتُ بالسبب المذكور، وما عَلِمَه، فلا يتغيرُ، فعلى هذا يبقى قوله: "عبدي بادَرَني بنفسه" محتاجًا إلى ¬
التأويل؛ فإنه قد (¬1) يوهم أن الأجلَ كان متأخرًا عن ذلك الوقتِ، فقدم (¬2) عليه. قلت: يحتمل أن يكون التأويل فيه: بادَرَني بنفسه من حيثُ التسببُ في ذلك، والقصدُ له، لا أنه كان أجلُه (¬3) متأخِّرًا لو لم يفعل، لكنْ لما كان على صورة المستعجِلِ لأجلِه بتسببِه في ذلك، صحَّ أن يصدُقَ عليه (¬4) من حيثُ الصورةُ اسمُ المبادِرِ بذلك، واللَّه أعلم. قال: والثاني: قولُه: "فحرَّمْتُ عليه الجنةَ"، فيتعلق به من يَرى بوعيدَ الأبد، وهو مؤولٌ عند غيرهم على تحريم الجنة بحالةٍ مخصوصة؛ كالتخصيص بزمنٍ؛ كما يقال: إنه لا يدخلها مع السابقين، أو يحملونه على فعلِ ذلك مستحِلًّا، فيكفر به، ويكون مخلَّدًا بكفرِه، لا بقتلِه نفسَه. قلت: والملجِىءُ إلى التأويل في ذلك: أن مذهبَ أهلَ السنَّة والحق: أن أحدًا لا يكفُر من (¬5) أهل القبلة بذنبٍ، وأن من فعلَ جميعَ المنهياتِ شرعًا، ومات على التوحيدِ والإقرار بالرسالة، فهو في الجنة ¬
باجماع العلماء؛ إما بعفوِ اللَّه -تعالى- عنه، فلا يعذِّبه على معاصيه، وإما أن يعذِّبه عليها، ثم يُدخله بعد ذلك (¬1) الجنةَ. والحديثُ أصلٌ كبيرُ في تعظيم قتلِ النفس، سواء كانت نفس الإنسان، أو نفس (¬2) غيره؛ لأن نفسه ليست ملكَه -أيضًا- فيتصرَّفُ فيها على حسبِ ما يراه (¬3). فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي} [المائدة: 25]، فهذا صريح في كونه يملك نفسه؟ قلت: ليست الآية على ظاهرها، بل لا بدَّ من تقدير مضافٍ محذوفٍ، والتقديرُ: لا أملك إلا أمرَ نفسي، أو: إلا طاعةَ نفسي، وأخي، وذلك أنه لما قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} [المائدة: 24]، غضب موسى -عليه الصلاة والسلام-، فقال ذلك، كأنه يقول: لم يُطِعْني منهم إلا نفسي، وأخي، وإذا كان كذلك؛ علمتَ أنه لا دلالةَ في الآية على ملك الإنسان نفسَه. وقد سمعتُ بعضَ شيوخنا رحمهم اللَّه يقول: أجمعوا على أن الإنسان لو تعمَّدَ قطعَ أنملة من أنامله فما دونهَا، لا لمعنى شرعي، لكان عاصيًا بذلك. ¬
قال: وكذلك لو رمى فَلْسًا من ماله في البحر، أو بحيث لا ينتفع به أحدٌ، لكان عاصيًا بذلك إجماعًا، هذا أو نحوه. فلا ملكَ (¬1) على الحقيقة إلا للَّه تعالى، وإنما للناس المنافعُ المعيشيةُ؛ من نفسٍ، أو مالٍ، أو غير ذلك، لا غيرُ، واللَّه أعلم. * * * ¬
كتاب الحدود
كِتْابُ الْحُدُودِ
[باب]
كِتْابُ الحدود الحديث الأول 341 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَدِمَ ناَسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ (¬1) عُرَيْنةَ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِلِقَاحٍ (¬2)، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ (¬3)، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ، جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقُطِعَتْ (¬4) أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وُسُمِرَتْ (¬5) أَعْيُنُهُمْ، وَتُرِكُوا في الحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ (¬6) فَلَا يُسْقَوْنَ. قَالَ أَبُو قِلَابَة: فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا، وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، ¬
وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. أَخْرَجَهُ الجَمَاعَةُ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: عُكْل: بضم المهملة وسكون الكاف بعدها لام، وعُرَيْنَة: بضم المهملة وفتح الراء المهملة (¬1) وسكون المثناة (¬2) تحت بعدها (¬3) نون. وقال بعضهم: ناسٌ من بني سليم، وناسٌ من بَجيلةَ (¬4) وبني عُرينة (¬5). الثاني: قوله: "اجْتَوَوُا المدينةَ": جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى: ¬
اسْتَوْخَمُوها؛ أي: لم تُوافِقْهم؛ كما قال: وسقمَتْ أجسامُهم، وهو مأخوذ من الجَوَى، وهو داءٌ في الجَوْف، وهذا مِصْداق قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ المَدِينَةَ لَتَنْفِي (¬1) خَبَثَهَا" الحديث (¬2) (¬3)، فلو كانوا من أهلها، لم يستوخموها، ولكن ليسوا من أهل المقام فيها، فنفَتْهم؛ إذ كانوا من خَبَثها. واللِّقاح: جمع لِقْحَة -بكسر اللام وإسكان القاف-، وهي الناقة ذاتُ الدر (¬4). الثالث: قوله: "وأمرَهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها" دليلٌ على طهارة بولِ ما يؤكَلُ لحمُه؛ كما هو مذهبنا، واحتجَّ من يرى نجاستَها بجواز التداوي بالمحرَّمات للضرورة، إلا الخمرَ. وجوابنا عن ذلك: أنها لو كانت نجسة محرمةَ الشرب، لما جاز التداوي بها؛ لأن اللَّه -تعالى- لم يجعل شفاءَ هذه الأمة فيما حَرَّمَ عليها؛ كما في الحديث (¬5). ¬
الرابع: قوله: "وسَمَرَ أعينهم": يروى: بالراء، وباللام (¬1): سَمَلَ (¬2)، ومعنى سَمَرَها: كَحَلَها بمساميرَ محميةٍ بالنار، ومعنى سَمَلَها: فَقَأَها بشوكٍ أو غيرِه. قال أبو ذؤيب: فَالعَيْنُ بَعْدَهُمُ كَأَنَّ حِدَاقَهَا (¬3) ... سُمِلَتْ بِشَوكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ (¬4) ع: وقيل: هما بمعنى واحد، والراء تبدل من اللام. والحرة: أرض ذات حجارة سود. الخامس: مذهبُنا: أن الإمام (¬5) مخيرٌ في حدِّ المحارِب ما لم يقتلْ، فإن قتلَ، فعلى المشهور: لا بدَّ من قتله. ومذهبُ الشافعي: أنه (¬6) على الترتيب: ¬
إن قتلَ ولم يأخذْ مالًا، قُتل. وإن أخذَ المالَ وقد قَتَلَ، قُتل وصُلب. وان أخذ المال، ولم يقتُل، قُطع، والحبسُ والنفيُ فيمن يبلغ جرمُه إلى أن يستحق ذلك. واستدل أصحابه: بأن تأثيره في الضرر يختلف، فلا تكون عقوبةُ الأَجرامِ المختلفةِ متساويةً. قال: واختلف الناس وأصحابُنا في المحارَبَة في المصرِ، هل حكمُها حكمُ المحاربة في غير المصر، أو لا؟ فالمشهور عندنا، وبه قال الشافعي: أنهما سِيِّان. وفَرَّقَ بينهما بعضُ أصحابنا، وهو مذهب أبي حنيفة. ع: و (¬1) ذهب أبو مصعب من أصحابنا: إلى التخيير (¬2) فيه، وإن قتلَ، وهو قولُ (¬3) أبي حنيفة. وحكى الماورديُّ (¬4) عن مالك: أنه يَقتلُ ذا الرأي والتدبير (¬5)، ويقطعُ ذا البطش والقوة، ويعزِّرُ مَنْ عداه. قال: فجعلها مرتبةً على صفاتهم، لا على أفعالهم. ¬
السادس: ع: اختلف الناس في معنى هذا الحديث، وفعلِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بهؤلاء ما فعلَ. فقال بعض السلف: كان هذا (¬1) قبلَ نزول الحدود، ونهي النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المُثْلَة، فهو (¬2) منسوخٌ، [وقيل: هو محكم غير منسوخ]، وفيهم نزلت آية المحاربين، وإنما فعل النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بهم ما فعلَ قصاصًا؛ لأنهم فعلوا بالرعاة مثلَ ذلك، وروى ذلك مسلمٌ في بعض حديثه، وابنُ إسحاق، وموسى بنُ عقبة، وأهلُ السير، والترمذيُّ، ففي هذا حجةٌ لمالك في أنه يُقتص من القاتل بمثلِ ما فعلَ بالمقتول. وقيل: بل ذلك حكمٌ من النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيهم زائدًا على حَدِّ الحرابة؛ لعظم جرمهم؛ لارتدادهم (¬3)، ومحاربتهم، وقتلهم الرعاةَ، وتمثيلهم بهم، وأن النهيَ عن المثلةِ نهيُ ندبٍ لا تحريمٍ. السابع: قوله: "يَستسقون فلا يُسْقون": ليس في الحديث ما يدل على أنه -عليه الصلاة والسلام- أمرَهم بمنع سَقْيِهم، ولا أنه علمَ بذلك، أعني: أنهم استَسْقَوا، فما سُقوا. ع: وقد أجمع المسلمون على أن مَنْ وجبَ عليه القتلُ، فاستسقى، لا يُمنع الماء قصدًا، فيجتمع عليه عذابان. ¬
وقيل: إنما لم يُسْقَوا؛ معاقبةً لجنايتهم، وكفرِهم سقيَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ألبانَ تلكَ الإبل، فعاقبهم اللَّه تعالى بذلك، فلم يُسْقَوا. وقيل: بل عاقبهم اللَّه بذلك؛ لإعطاشِهم آلَ بيتِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأخذِ لِقاحِهم، ودعاءِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليهم في حديث رواه ابن وهب: أنه قال: "عَطَّشَ اللَّهُ مَنْ عَطَّشَ آلَ مُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ" (¬1)، فكان تركُ الناس سقيَهم إجابةً لدعائه -عليه الصلاة والسلام-، وتنفيذًا لعقوبتهم، وهذان الوجهان حسنان لا يبقى معها اعتراض ولا إشكال. قلت: وأما قوله في الحديث الآخر: "إنها إبلُ الصَّدَقة"، فالجمع بينهما: أن لقاحَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كانت ترعى مع إبلِ الصدقة، فاستاقوا الجميعَ، ويدلُّ عليه قولُه في الحديث الآخر: وَساقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللَّهِ (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 342 - عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْشُدُكَ اللَّهَ، إِلَّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الخَصْمُ الآخَرُ -وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ (¬1) -: نَعَمْ! فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَائْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُلْ"، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنىَ بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِئَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ العِلْم، فَأَخْبَرُونِي: أَنَّ عَلَى ابْنِي (¬2) جَلْدَ مِئةٍ، وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِئَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، (¬3) وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ -لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَم- إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، ¬
فَارْجُمْهَا"، قال: فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَرُجِمَتْ (¬1). ¬
العسيف: الأجير (¬1). * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: معنى أَنْشُدُكَ (¬2): أسألُك (¬3) رافعًا نشَيدتي (¬4)، أي: صوتي، وهو بفتح الهمزة وضم الشين. وقوله: "بكتاب اللَّه"؛ أي (¬5) ما تضمَّنَه كتابُ اللَّه، أو يريد: بحكم اللَّه، وهو أَوْلى هنا من أن يُحمل على القرآن؛ لأن القصة (¬6) مذكورٌ فيها التغريبُ، وليس ذكرُ التغريب في القرآن. ¬
فيه: استحبابُ صبرِ القاضي على جُفاة الخصوم، وقولِ بعضهم: احكمْ بيننا بالحق، ونحو ذلك. الثاني: قوله: "فقال الخصم الآخَرُ -وهو أفقهُ منه-": قال العلماء: يجوز أن يكون أراد أنه بالأصالة أكثرُ فقهًا منه في هذه القضية؛ لوصفه إياها على وجهها، ويحتمل أنه لأدبه واستئذانه في الكلام، وحذرِهِ من الوقوع في النهي، في قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]؛ بخلاف خطاب الأول في قوله: أنشدُكَ اللَّه. . . إلى آخره (¬1). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "قلْ": قال الخطابي: فيه: دليل على أن الإمام إذا اجتمع الخصمان بين يديه أن يبيحَ الكلامَ لمن شاء منهما (¬2). والعَسيف: الأجير، وجمعه عُسفاء؛ كأَجير وأُجَراء، وفَقيه وفُقهاء. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لأقضينَّ بينكما بكتابِ اللَّه": قال الإمام: يحتمل أن يكون المراد: قضية اللَّه، والكتاب يكون بمعنى القضاء، ومن الناس من قال: إن الرجم مشارٌ إليه في كتاب اللَّه بقوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، وذى الرجم. قلت: لأن التغريب ليس مذكورًا فيه، كما تقدم (¬3). ¬
وقيل: إن الرجم كان مما يُقرأ في القرآن، ثم نسُخ، وهو قوله: "الشيخُ والشيخةُ إذا زنيَا، فارجُموهما البَتَّة" (¬1). ع: قيل في معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لأقضينَّ بينكما بكتاب اللَّه": في نقضِ حكمِكما الباطلِ الفاسدِ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، ويحتمل أن يريد: مما قُرِّرَ في كتاب اللَّه -تعالى- من قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] (¬2). وقوله: "فسألتُ أهلَ العلم"، ولم (¬3) ينكر عليه: فيه: دليل على جواز الاستفتاء لمن كان مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في مِصْرٍ واحد، وإن كان يجوز (¬4) على غير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الخطأ والحيف ما لا يجوز عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال الإمام (¬5): وهذا كالاقتصار على الظن مع القدرة على اليقين، وقد يتعلق به من أهل الأصول مَنْ يُجيز استفتاءَ الفقيه، وإن كان هناك من هو (¬6) أفقهُ منه. قلت: وإنه لمتعلِّقٌ لا بأسَ به، ويؤيده -أيضًا-: أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ¬
كانوا يستفتي بعضُهم بعضًا، ولا يتوقفون على فُتيا الأعلم، واللَّه أعلم. وقد قال بعضهم: لِمَ لَمْ يحدَّه (¬1) للمرأة، وقد قال: فزنى بامرأته؟ وهذا لأنها اعترفَتْ، فرجمها (¬2). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "الوليدةُ والغنمُ رَدٌّ عليكَ"؛ أي: مردودةٌ (¬3) عليك، فالمصدرُ هنا بمعنى المفعول؛ كقولهم: ثوبٌ نَسْجُ اليمنِ، أي (¬4): منسوجُ اليمنِ، وهذا خلقُ اللَّه؛ أي: مخلوقُه، ومعناه: يجبُ رَدُّها عليك. قال الخطابي: فيه: أن كلَّ صلحٍ خالفَ السنَّةَ باطلٌ مردودٌ. وفيه: أن ما قبض في صلح الباطل، وخطأ السنَّة لا يدخلُ في ملك قابِضه. وفيه: أن الحدودَ لا يُصالح فيها، ولا يُمْضى الصلحُ. ع: ولا خلافَ عندنا في ذلك فيما يتعلق بحق اللَّه محضًا؛ نحو: الحرابة، والزنا، والسرقة، بلغَ السلطانَ، أم لا؛ لأنه أكلُ مالٍ بالباطل ¬
في إبطالِ حَدٍّ إِن بلغَ السلطانَ، أو أكلُ مالٍ على أن لا يبلغ، وهو (¬1) حرامٌ ورشوةٌ (¬2). واختُلف عندنا في الصلح على ما (¬3) تعلَّق بحقِّ العباد في الأعراض بعدَ رفعِه؛ كحدِّ القذف (¬4)، ففيه قولان، وإن كان يُكره بكل حال؛ لأنه أكلُ مالٍ في ثمن عرضِه، ولا خلاف أنه يجوزُ قبلَ رفعه. ولم يُخْتَلَفْ في جوازِ ما كانَ منه في حقِّ الأبدان؛ من القصاص في الجراح والنفس: أن الصلحَ فيه جائزٌ لا يرد عما اتفق عليه (¬5). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وعلى ابنك جلدُ مئة، وتغريبُ عام": هو محمولٌ على أن الابن لم يكن مُحْصَنًا، وعلى أنه (¬6) أقرَّ، وإلَّا (¬7)، فإقرارُ (¬8) الأب لا يُقبل عليه، هذا إذا قلنا: إن (¬9) هذا حكمٌ منه -عليه الصلاة والسلام-، وإن قلنا: إنه أفتى، فيكون معناه: فإن كان ¬
ابنُك زنى، وهو بكرٌ، فعليه جلدُ مئة، وتغريبُ عام (¬1). الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "واغدُ يا أُنَيْسُ إلى امرأةِ هذا، فإن اعترفتْ، فارجُمْها"، أُنيسٌ هذا صحابيٌّ مشهور، وهو أُنَيْسُ ابنُ الضحاكِ الأسلميُّ، معدود في الشاميين. وقال ابنُ عبدِ البر: هو أُنيسُ بنُ مَرْثَدٍ. ح: والأولُ هو الصحيحُ، المشهورُ، وأنه أَسْلَمِيٌّ، والمرأةُ أسلميةٌ (¬2). فيه: استنابةُ الإمام غيرَه في هذا وشبهِه، وهو أصلٌ في اتخاذ القضاة والحكام، وأصلٌ في وجوبِ الإعذار، وفي جوازه بواحدٍ، وفي ذلك عندنا قولان. ع: وقد يمكن أن يكون (¬3) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثبت عنده اعترافُها بشهادةِ هذين الرجلين (1)، فكان توجيهُ أُنيس إعذارًا (¬4) لها. وقد احتجَّ به قومٌ في جواز حكم الحاكم في الحدود وغيرِها بما أقرَّ به الخصمُ عندَه (¬5)، وهو (¬6) أحدُ قولَي الشافعي -رضي اللَّه عنه- في إقامة الحدِّ ¬
بذلك، وهو قولُ أبي ثورِ في الحدِّ بذلك (¬1)، والجمهورُ على خلافه، وإنما اختلفوا في غيرِ الحدود، وعندَنا في هذا قولان. وفيه (¬2): أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يحضرِ الرجمَ، وهو الإمامُ، وفي ذلك خلافٌ، ولا ذُكر الحفرُ للمرجومة. وفيه: رجمُ الثيبِ دونَ جلدِه، وجلدُ البكرِ ونفيُه. وفيه من الفقه: سؤالُ الإمامِ -إذا قَذَفَ عِندهُ قَاذِفٌ- المقذوفَ، فإن اعترف، حُدَّ ودرىء عن القاذفِ الحدُّ، وإن أنكر، وأرادَ سترًا، أُسقط الحدُّ عنهما، وإلَّا سُئلَ القاذفُ البينةَ، وإلا حُدَّ (¬3) للقذف؛ كما وجَّه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُنيسًا للمرأة. فأما لو شهدَ عندَ الإمام: أن فلانًا قذفَ فلانًا، فلا يحدُّه الإمامُ حتى يطلبه المقذوفُ عند أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، والأوزاعيِّ. وقال مالكٌ: يرسل إليه، فإن أراد سترًا، تركه، وإلَّا، حَدَّهُ. ع: وقد اختلف قولُ مالك في عفوه (¬4)، وإن لم يرد سترًا. وفيه: قبولُ خبر الواحد. ¬
وفيه الاكتفاءُ بمجردِ الإقرار دونَ مراعاةِ عذرٍ (¬1). وفيه: مراعاةُ الإحصان في الرجم (¬2)، وقد صحت في هذه المرأة، وأنها متزوجة. ع: ولعل حالَ الدخول كان معروفًا، أو طول الإقامة مع الزوج، أو وجود الولد، فاستُغني عن ذكره في الحديث. قلت: وقد أجمعوا على مراعاة الإحصان للمرجوم، واختلفوا في صفته؛ فللإحصان عندنا شروطٌ ستة، وهي: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والتزويجُ الصحيح، والوطءُ المباحُ فيه (¬3)، ولم يراعِ مالكٌ هذه الصفاتِ (¬4) في الزوجة الموطوءة كيفَ كانت؛ أَمَةً، أو كافرةً، أو مجنونةً، أو صغيرةً، ولكن إن زنت هي، روعي فيها الصفاتُ المذكورة كالرجل، إلا إذا كان زوجُها غيرَ بالغٍ، فلا يُحْصِنُها؛ بخلاف الصبيةِ مع الرجل. ع: واختلف أصحابنا في الوطء المكروه، والممنوع في النكاح الصحيح، هل يحصن، أم لا؟ ¬
ولم يشترط بعضُهم العقلَ جملةً في (¬1) واحدٍ منهما، وبعضُهم اشترطَه في الرجل دونَ المرأة، فإن كان عاقلًا، كان إحصانًا لهما، وإن كانت مجنونة، وإن كان مجنونًا، لم يكن بينهما إحصانٌ، وإن كانت عاقلة. ولم يراع أبو حنيفةَ الوطءَ المحظورَ، مع موافقته لنا في شروط الإحصان، وراعاه الشافعيُّ؛ ولم يجعل به إحصانًا. ولم يشترطْ هو ولا أحمد (¬2) في الإحصان الإسلامَ في نكاح الزوجين. واختلف أصحاب الشافعي في الحرية، والبلوغ، فمنهم مَنْ جعل النكاحَ دون ذلك إحصانًا، ومنهم من لم يجعله، ومنهم من فَرَّقَ، فجعل البلوغَ شرطًا دون الحرية، ومنهم من عَكَس. ولم يشترط أبو يوسفَ، وابنُ أبي ليلى في الإحصان، ولا في (¬3) الزنا الإسلامَ، ولم يراع الأوزاعي في الإحصان الحريةَ، إذا كانت الزوجة حرةً، ولم يراع الوطءَ الممنوع. وقال الليث، والثوري نحوَ قولِ مالك، إلا أن الليثَ لا يُراعي الوطءَ الممنوع، واللَّه أعلم (¬4). ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 343 - عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبه بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، وَزيدِ بن خَالِدٍ الجُهَنِيِّ: قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) عَنِ الأَمَةِ إِذَا زنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ، قَالَ: "إِنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضفِيرٍ". قَالَ ابْنُ شِهَاب: لَا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ؟ وَالضفِيرُ: الحَبْلُ (¬2). ¬
* الشرح: فيه: دليلٌ على جواز إقامة السيدِ الحدَّ على رَقيقِه، وهو مذهبُنا، ومذهبُ الشافعيِّ، وأحمدَ، وجماهيرِ العلماء؛ خلافًا لأهل الرأي. ع: واختُلف في إقامة الحدِّ عليه في القَطْع، مع اتفاقَ هؤلاء أن حدودَ الجلد كلَّها كحدود الزنا يقيمُه السيد. فقال (¬1) الشافعي: يقطعُ السيدُ يدَ عبده. وقال بعض أصحابنا: إذا قامت على السرقة بينةٌ. ومنع ذلك مالكٌ وغيره في القطع، والقتل، وقصاص الأعضاء؛ مخافةَ أن يُمَثِّلَ بعبده (¬2)، ويدَّعيَ أنه أقامَ عليه الحدَّ، فلا يعتقُ عليه، وأن ذلك للإمام (¬3). وإذا قلنا بإقامة السيدِ الحدَّ -أعني: في الجلد-، فذلك عندنا بالبينة، أو الإقرار، أو ظهور الحمل، وفي علمِه خلاف، وذلك إذا لم ¬
يكن، لها (¬1) زوج أجنبي، فلا يكون للسيد حدُّها، وله ذلكَ إن كانت لا زوجَ لها. قال أصحابنا: وكذلك إن كان زوجُها عبدًا له، فله حدُّها أيضًا. ولا فرق عندنا في وجوب إقامة الحدِّ من (¬2) أن تكون محصنةً، أو غيرَ محصنة. وعن ابن عباس: اشتراطُ الإحصان، وإذا وُجد، فنصفُ الحدِّ، وهو خمسون؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، الآيةَ (¬3). ومذهبُ الجمهور أصحُّ (¬4)؛ لأن هذا الحديث نصٌّ في إيجاب الحدِّ على من لم يحصنْ، فإذا تبينَ بحديث آخرَ أنه الحدُّ، أو أُخذ من السياق، فهو مقدَّم على مفهوم الآية، واللَّه أعلم. فيه: ترك (¬5) مخالطةُ الفسَّاقِ وأهلِ المعاصي، وفراقُهم على طريق (¬6) الندبِ، لا الوجوبِ؛ خلافًا للظاهرية. فإن قلت: كيف ينبغي له بيعُها، لغيره ويرضى لغيره ما لا يرضى لنفسه؟ ¬
قلت: قيل (¬1) معناه: لعلَّها تَسْتَعِفُّ عندَ ذلك المشتري؛ بأن يُعِفَّها بنفسه، أو يصونها بهيبته (¬2)، أو يزوجها لغيره، أو يحسن إليها، و (¬3) يوسع عليها، وغير ذلك (¬4). ع (¬5): وفيه: جوازُ التغابُن، وبيعُ الخطير بالثمن اليسير، ولا خلافَ في هذا مع العلم به، وإنما الخلافُ إذا كانَ عن (¬6) جهالةٍ من المغبون، وعندنا في ذلك (¬7) قولان: المضيُّ كيف كان، والالتفاتُ إلى الخروج عن عادة الناس في التغابن إلى ما يكْثُر ويَسْمُجُ، وحدُّه عند (¬8) قائلِ هذا بالزيادة على ثُلثِ الثمن، و (¬9) النقص منه. وليس في الحديث عندي (¬10) ما يُستدل به على المسألة، وإنما هذا على طريق الإغياء في بيعها بما (¬11) أمكنَ، ولا تُحبس ليرصدَ (¬12) ¬
بها ما يرضى من الثمن (¬1). قلت: لكنه يجبُ على البائع عندنا، وعند الشافعيِّ إعلامُ المشتري بعيبها الذي بيعت بسببه. تنبيه: ولتعلمْ: أن مَنْ (¬2) فيه بقيةٌ (¬3) من كتابةٍ، أو تدبير، أو أُمية ولدٍ (¬4)، أو مَنْ بعضُه حُر، فحدُّهم حدُّ العبيدِ في جميع الحدود، غُلِّبَ عليهم الرقُّ عندنا؛ كما في الميراث (¬5)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 344 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أنه قَالَ: أتَى رَجُل (¬1) مِنَ المُسْلِمِينَ (¬2) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَنَاداهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأعْرَضَ عَنْهُ، فتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِه؛ فَقَالَ لَهْ: يَا رسُولَ اللَّهِ إِنَّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ (¬3)، حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَاداتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "أبِكَ جُنُونٌ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ". قالَ ابنُ شهابٍ: فَأخبرَنَي أَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ، هَرَبَ، فَأَدْركْنَاهُ بِالحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ (¬4). ¬
الرَّجُلُ هُوَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ. وَ (¬1) رَوَى قِصَّتَهُ: جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ (¬2)، وَعَبْدُ اللَّهَ بْنُ عبَّاسٍ (¬3)، وَأَبُو ¬
سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ (¬1)، وَبُرَيْدَةُ بْنُ الحُصَيْبِ الأَسْلَمِيُّ (¬2). * * * * الشرح: فيه: جوازُ الحكم في المسجد، وجلوسُ الحاكم فيه. قال مالك: وذلك من الأمر القديم، وكأنه -واللَّه أعلم- يشير إلى هذا و (¬3) نحوه. وقد أخذت الحنفيةُ من هذا الحديث: اشتراطَ أربعِ مرَّات في الإقرار بالزنا (¬4) لوجوب إقامة الحد، ورأوا أن (¬5) النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما أَخَّر الحدَّ لتمام أربع مرات؛ لكونه لم يجب الحدُّ قبل ذلك. قالوا (¬6): لو وجب الحد (¬7) بالإقرار مرة، لما أَخَّر الرسولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- الواجبَ. ¬
وفي قول الراوي: فلمَّا (¬1) شهدَ على نفسه أربعَ شَهاداتٍ (¬2)، دعاهُ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . إلى آخره، إشعار بأن الشهادة أربعًا هي العلةُ في الحكم. ومذهبُ مالك، والشافعي، وموافقيهما: إيجابُ الحدِّ بالإقرار مرةً واحدة؛ كالحقوق كلِّها، وإنما فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك؛ استثباتًا واحتياطًا للحدود؛ إذ ذلك بابُها، لا لما قاله الحنفية؛ إذ الحدودُ تُدْرَأُ بالشُّبهات؛ بخلاف غيرها. ق: وفي الحديث: دليل على سؤال الحاكم في الواقعة عما يحتاج إليه في الحكم، وذلك من الواجبات؛ لسؤاله -عليه الصلاة والسلام- عن الجنون؛ ليتبين العقل، وعن الإحصان؛ ليثبت (¬3) الرجم، ولم يكن بدٌّ من ذلك؛ فإن الحدَّ مترد؛ بين الجلد والرجم (¬4)، ولا يمكن الإقدامُ على أحدهما إلَّا بعد تبيُّنِ (¬5) سببِه. ق: وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أبك جنونٌ؟ "، يمكن أن يُسأل (¬6) عنه، فيقال: إقرار المجنون غيرُ (¬7) معتبر، فلو كان ¬
مجنونًا (¬1)، لم يفد قوله: إنه ليس بي (¬2) جنونٌ، فما وجهُ الحكمة في سؤاله عن ذلك، بل سؤالُ غيرِه ممن يعرفه هو المؤثرُ؟ قال: وجوابه: أنه قد ورد أنه سألَ غيرَه عن ذلك، وعلى تقدير أن لا يكون وقعَ سؤالُ غيره، فيمكن أن يكون سؤالُه ليتبينَ بمخاطبته ومراجعته تثبتَه (¬3) وعقلَهُ، فيبني (¬4) الأمر عليه، لا على مجرد إقراره بعدم الجنون (¬5). قلت: ويحتمل عندي وجها آخر؛ وهو أن يكون ذلك جاء (¬6) على طريق الإغلاظ عليه (¬7)، والزجر له؛ لإعلانه بالإقرار على نفسه بالزنا، وأن التوبة فيما بينه وبين اللَّه -تعالى- كانت في حقه أولى من إقراره وشهادته على نفسه بالزنا (¬8) في الملأ. ويؤيده (¬9) ويوضحُه: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنِ ابْتُلِي ¬
بِشَيْءٍ مِنْ هَذ القَاذُورَاتِ، فَلْيَسْتَتِرْ" (¬1)، وفي الحديث الآخر: "هَلَّا سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ؟! " (¬2)، وغير ذلك مما في هذا المعنى. أو أنه كان الأمثلُ في حقه أن يسال النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على جهة الاسترشاد (¬3) والاستفتاء من غير تعيين، فيقول مثلًا: يا رسول اللَّه! ما تقولُ في رجل زنى وهو محصَنٌ؟ أن يقرَّ فيقامَ عليه الحدُّ، أو أن يتوبَ فيما بينَه وبين اللَّه عز وجل؟ فيمتثل ما يأمره به -عليه الصلاة والسلام- في ذلك، فحيث أقدمَ على الإقرار معلِنًا من غير سؤالٍ عنِ الحكم الشرعي أشبهَ فعلُه فعلَ مَنْ لا عقلَ له، فحسُنَ منه -عليه الصلاة والسلام- قولُه له (¬4): "أَبِكَ جنونٌ"، واللَّه أعلم. وقوله: "فلما أَذْلقته الحجارةُ": هو بالذال المعجمة والقاف؛ أي: أقلقته (¬5). ¬
قال الجوهري: الذَّلَق -بالتحريك-: القلقُ (¬1)، وقد ذُلِقَ -بالكسر-، وأذلقتُه أنا (¬2). وقال غيرُه: أصابَتْه بحدِّها، وذلقُ كلِّ شيء طرفُه. وقيل: آلمَتْهُ، وأوجعته (¬3)، وهذا تفسيرُ المعنى لا اللفظِ. وقوله: "هرب" دليل على عدم الحفر له. ع: وقد اختلف الناس في المقرِّ بالزنا إذا رجعَ عن إقراره لغير (¬4) عذر، هل يُقبل منه، أم لا؟ فعندنا فيه قولان. وقد (¬5) تعلق من لم يقبل رجوعَه بهذا الحديث، وقال: قد هرب هذا، وقتلوه بعدَ هروبه، ولم يأمرهم -عليه الصلاة والسلام- بديته. وقد وقع في غير كتاب "مسلم": فلما وجدَ مسَّ (¬6) الحجارة، صرخَ: يا قوم! رُدُّوني إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإن قومي هم قتلوني، وغروني من نفسي، وأخبروني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غيرُ قاتلي، فلم نَنْزِعْ عنه حتى قتلناه، ¬
فلما رجعنا إلى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "فَهَلَّا (¬1) تَرَكْتُمُ الرَّجُلَ، وَجِئْتُمُوني بِهِ؟ " لِيَسْتَثْبِتَ (¬2). وعند أبي داود: "أَلَا تَرَكْتُمُوهُ حَتَّى أَنْظُر في شَأْنِهِ؟ " (¬3)، وعنده: "هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، فَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ" (¬4)، فقد صرح في بعض هذه الطرق: أنه لا يُترك الحدُّ، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 345 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّه قَالَ: إنَّ اليَهُودَ جَاؤُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَذَكرُوا لَهُ أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلًا زَنيًا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا تَجدُونَ فِي التَّورَاةِ في شَأنِ الرَّجْمِ (¬1)؟ "، فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ، وَيُجْلَدُونَ، فَقَالَ عبدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْم. فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ، فَنَشَرُوهَا (¬2)، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْم، فَقَرَأ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَه (¬3) عبد اللَّه بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَأمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَرُجِمَا، فَرأيتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى المَرْأَة يَقِيهَا الحِجَارَةَ (¬4). ¬
قَالَ المُصَنِّفُ (¬1): (¬2) الَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْم (¬3): ¬
عبدُ اللَّه بْنُ صُورِيَا. * * * * الشرح: فيه: جوازُ كلامِ بعضِ حاضري مجلس الحكم في أثناء كلامِ الحاكم، وإن لم يستدع منه الكلام، إذا ترتب على كلامه فائدةٌ شرعية يُفْحِمُ بها من كذب فيما يدَّعيه؛ لقول عبد اللَّه بن سلام -رضي اللَّه عنه-: "كذبتُمُ إن فيها آيةَ (¬1) الرجمِ". وقد تقدم ذكرُ الخلافِ في اعتبار الإسلام في الإحصان، وأنَّ مذهبنا اشتراطُه. وتعلَّق من لم يشترطْ بهذا الحديث، وهو محمولٌ عند مالك على أن هذا المرجومَ لم يكن له ذمة؛ فهو مباحُ الدم، وأما رجمُه المرأةَ، فلعلَّه كان قبل النهي عن قتل النساء (¬2). ع: وقيل: لأنهم هم تحاكموا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فطلبوا ذلك منه، وعندنا: أنهم إذا أتوا هكذا: أن الحاكم مخيرٌ؛ إن شاء حكم بينهم، وإن شاء لم يحكم، فإن حكم، حكمَ بحكم الإسلام، وذلك برأي المحكوم عليه منهما (¬3)، ورأي أساقفتهم ورهبانهم، وهو دليل قوله: ¬
"جاءتِ اليهودُ"، وفي غير مسلم: أَنَّ أَحْبَارهم أَمَروهم بذلك، ويتخيرُ الحاكم في الحكم بينهم (¬1). قال الشافعي، وجماعة من السلف: وحجتُهم قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. وقال أبو حنيفة: يحكم بينهم بكل حال. وقاله (¬2) جماعة من السلف. ثم اختلف أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة: هل يحكم بين المتحاكمين منهم لمجيء (¬3) أحدهما، أو حتى يجيئا معًا، أو حتى يعلمها بما يحكم به، ويرضيان به؟ (¬4) وسؤالُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم عما في التوراة، قيل: هو محتمل أنه قد أُعلم به بالوحي (¬5)، وأنه مما لم يُغيروه منها، ولهذا لم يَخْفَ عليه حين كتموه، أو يكون علمَ ذلك مِمَّنْ وثقه مِمَّنْ أسلمَ من علمائهم، ¬
ويحتمل أن يكون سألهم عن ذلك استخبارًا عما (¬1) عندهم، ثم يستعلِمُ صحتَه من قبل اللَّه -تعالى-، ويكون حكمُه بما في التوراة؛ إما لأنهم رَضُوا بذلك، وصَرفوا حكمَهم (¬2) إليه، أو لأن شرعَ مَنْ قبلنا لازمٌ لنا ما لم يُنسخ، على أحد القولين لأهل الأصول. وقد قيل: إن هذا كان خصوصًا للنبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إذ لا نصل نحن إلى معرفة ما أُنزل عليهم (¬4)، وللإجماع أن أحدًا لم يعمل به بعده، ولقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، واللَّه أعلم (¬5). وقوله: "فرأيتُ الرجل يَجْنَأُ على المرأة": هذه هي الروايةُ الصحيحة: بفتح المثناة تحت وسكون الجيم بعدها نون مفتوحة بعدها همزة-؛ أي: يميل. ق: وفي كلام بعضهم ما يُشعر بأن (¬6) اللفظ بالحاء المهملة، ¬
يقال: حَنَا يَحْنُو حُنُوًّا: إذا أَكَبَّ على الشيء (¬1)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 346 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث: قد استسلفناه في حديث عِمْرانَ بنِ حُصين -رضي اللَّه عنه-، فليراجَع هناك إن شاء اللَّه تعالى. * * *
باب حد السرقة
باب حد السرقة الحديث الأول 347 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَطَعَ في مِجَنٍّ قِيَمَتُهُ -وَفِي لَفْظٍ: ثَمَنُهُ- ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ (¬1). ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 348 - عَنْ (¬1) عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أنَهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "تُقْطَعُ اليَدُ فِي رِبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا" (¬2). ¬
* الشرح: الأصلُ في القطع: قولُه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. ع: صان اللَّه -تعالى- الأموالَ بحدِّ القطعِ في أول حدود ما لَهُ بال من المال، ولم يجعل ذلك في غير السرقة: في الخلسة، والاغتصاب، والانتهاب؛ لأن ذلك قليلٌ بالنسبة إلى السرقة، ولأنه (¬1) يمكن استرجاعُ هذا النوع بالاستعداء إلى ولاة الأمور (¬2)، ويسهُل (¬3) إقامةُ البينة عليه، فعظُم أمرُها، واشتدت عقوبتُها، ليكون أبلغَ في الزجر عنها، ولم يجعل -تعالى- ديةَ الجناية على العضو المقطوع فيها بقدر ما يُقطع فيه، حمايةً للعضو -أيضًا-، وصيانةً له، فعظَّم ديتَه، ليعظم التحفظُ من ذلك. ولا خلاف في قطع السارق على الجملة بين العلماء، وإن ¬
اختلفوا في تفصيله، هذا معنى كلامه، وأكثرُ لفظه (¬1). إذا (¬2) ثبت هذا، فالكلام في هذا الباب يتعلق بأوصافٍ تكون في السارق، والشيءِ المسروق، والموضعِ المسروقِ منه، وصفةِ (¬3) السرقة. فأما ما يُراعى في السارق، فهو (¬4): أخذُ المال سرًا؛ فالبلوغُ، والعقلُ، وكونُه غيرَ ملكٍ للمسروقِ منه، فإن كان ملكًا له، لم يقطع (¬5)؛ كالعبد سرقَ (¬6) مالَ سيده. وأما المسروق، فهو: كل ما تمتدُّ (¬7) الأطماعُ إليه، ويصلح عادةً وشرعًا للانتفاع به، فإن منعه (¬8) منه الشرع، فلا ينفع (¬9)، تعلُّقُ الطماعية به، ولا يتصور (¬10) الانتفاعِ به عادة؛ كالخمر، والخنزير، وشبههما، ثم هو مالٌ، وغير مال. ¬
فغير المال: الحرُّ الصغير، وفيه القطعُ إذا سُرق من حرزِ مثلِه عادةً، وذلك رُوي عن عمر -رضي اللَّه عنه-، وعن عبد الملك بن مروان، وبه قال الفقهاء السبعة، والقاسمُ بنُ محمد، والشعبيُّ، والزهريُّ، وربيعةُ، وخالف في ذلك ابنُ الماجشون من أصحابنا، ودليلُ الجماعة: عمومُ الآية، وما روى بعضُهم من (¬1) أنه -عليه الصلاة والسلام- ذُكر عنده رجلٌ يسرق الصبيان، فأمر بقطعه، وهذا -إن صح (¬2) -، فلا عِطْرَ بعدَ عروس. وأما المال: فشرطُه (¬3): أن يكون نصابًا، مملوكًا لغيرِ السارق ملكًا تامًا، محترمًا، و (¬4) محرزًا، لا شبهة فيه، فهذه ستة شروط. الشرط الأول: النصاب: وقد اختلف الناس في قدره على ثمانية أقوال، لا أعلم لها تاسعًا: من درهم إلى خمسةٍ على الترتيب. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يُقطع في أقلَّ من عشرة دراهم، أو ما قيمتُه عشرةُ دراهم من ذهبٍ أو غيرِه، واختلف عنه في الدينار إذا لم (¬5) يبلغ عشرةَ دراهم؛ هل يعتبر بنفسه، أو صرفه (¬6)؟ ¬
وقيل: لا قطع في أقلَّ من أربعين درهمًا، و (¬1) أربعةِ دنانير، روي ذلك عن النخعي. وقيل: يقطع فيما قلَّ أو كثر، وهو مروي عن الحسن، وهو وجه في مذهب الشافعي، وهو مذهبُ الخوارجِ، وأهلِ الظاهر؛ وهؤلاء أخذوا بعموم الآية، ولم يخصصوه بالأحاديث الصحيحة المفسِّرة للآية (¬2). ومذهبنا من هذه الأقوال (¬3): أنْ لا قطعَ في أقلَّ من ربعِ دينارٍ ذهبًا، أو ثلاثةِ دراهمَ، أو ما قيمته (¬4) ذلك، كانت أكثرَ من ربع دينار أو أقلَّ، ولم يراع هل تكون ثلاثةُ الدراهم (¬5) صرفَ ربع دينار، أو لا؛ وإلى هذا ذهب أحمدُ، وإسحاقُ. ووافقَنا الشافعيُّ في كون النصاب ربعَ دينار، إلا أنه يقوم ما عدا الذهب بالذهب. ومالك قد (¬6) يرى أن الفضة أصلٌ في التقويم كالذهب، وعليه يدل هذا الحديث؛ فإن المسروق لما كان غيرَ الذهب والفضة؛ وهو ¬
المِجَنُّ، قُوِّمَ بالفضة دونَ الذهب، دلَّ على أنها أصلٌ في التقويم (¬1)، وإلَّا، كان الرجوعُ إلى الذهب الذي هو الأصلُ أَوْلى وأوجبَ عند مَنْ يرى التقويمَ به (¬2). ع (¬3): والحنفيةُ في مثل هذا الحديث، وفيمن روى في حديث عائشة القطعَ في ربع دينار فصاعدًا يقولون، أو مَنْ قال منهم في التأويل ما معناه: إن التقويم أمرٌ تخميني، فيجوز أن تكون (¬4) قيمتُه عندَ عائشة ربعَ دينار، أو ثلاثةَ دراهم، وتكون عند غيرها أكثرَ. وقد ضعَّف غيرُهم هذا التأويل، وشنَّعه عليهم بما معناه: أن عائشة رضي اللَّه عنها لم تكن لتخبر بما يدلُّ على مقدار ما يُقطع فيه إلا عن تحقيق؛ لعظم أمر القطع (¬5). الشرط الثاني: أن يكون مملوكًا لغير السارق، فلو سرق ملكَ نفسِه من المرتهن، أو المستأجر، فلا قطعَ عليه، وكذا لو طرأ الملكُ بإرث قبلَ الخروج به من الحرز (¬6)، فلا قطعَ عليه، ومن (¬7) شرطه أن ¬
يكون ملكًا للمسروق منه، فلذلك يقطع السارق من السارق، ومن المودع، والوكيل (¬1)، والمرتهن، والمستعير. الشرط الثالث: أن يكون محترمًا؛ فلا قطعَ على سارقِ الخمر، والخنزير، والطنبور، والملاهي؛ من المز مار، والعود، وشبهه من آلات اللهو، إلا أن يكون في قيمته (¬2) ما يبقى منها بعد المنفعة الفاسدة ربعُ دينار فصاعدًا. وكذلك عندنا في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها، ويُؤمر بكسرها، فإنما يُقَوَّم ما فيها من ذهب أو فضة دونَ صنعة، وكذلك الصليبُ من ذهب أو فضة، والزيتُ النجسُ إن كانت قيمته على نجاسته نصابًا، قُطع فيه. وأما جلدُ الميتة فلا قطع فيه قبل الدباغ، وفيه بعد الدباغ خلافٌ، والمشهور عندنا: إن كانت قيمة الصنعة نصابًا، قطع. وفي الكلب المأذون -أيضًا- خلافٌ، وكذا الأضحية بعد الذبح؛ بخلاف لحمها ممن يتصدق به عليه، فإنه يقطع بلا خلاف (¬3) عندنا. ولو سرقَ سَبُعا يُذَكَّى لجلدِه (¬4)، ويُنتفع به على ما تقدَّم، قُطع ¬
فيه، إلا أن الخلاف واقعٌ (¬1) في المعتبر في نصاب القطع؛ هل هو (¬2) قيمةُ جلده ذَكِيًا، أو قيمةُ عينه (¬3) حيًا؛ على قولين بين ابن القاسم، وأشهب. الشرط الرابع: أن يكون الملك تامًا قويًا؛ فلو كان للسارق فيه أدنى جزء، ويدُه جائلةٌ فيه مع شريكه، فلا قطعَ، فإنْ سرقَ مما حُجب عنه نصابًا زائدًا على ملكه منه، قُطع. وأما بيتُ المال، وأَهداءُ المسلمين (¬4)، والمغانم بعد حيازتها؛ فيُقطع سارقُها، وإن لم يزد ما أخذ على النصاب، على المشهور عندنا. ولا يُقطع الأبوان في سرقتهما من مال ابنهما، ويُقطع هو في سرقة مالهما، والجدُّ كالأبِ، على المشهور، ولا يُقطع من سرقَ من جوعٍ أصابَهُ. الشرط الخامس: أن يكون المال خارجًا عن شُبهة الاستحقاق في حقِّ السارق، فلا قطعَ على مَنْ سرقَ من غريمه المماطِل. واختُلف في الزوجين إذا كانا في بيت واحد، وليست الدور مشتركة، وحكمُ الضيفِ حكمُ الزوجين؛ للإذن. ¬
الشرط السادس: أن يكون مُحْرَزًا، ومعناه: أن يكون في مكان هو حرزُ مثلِه عادةً وعرفًا، وذلك يختلف باختلاف عادات الناس في إحراز أموالهم، وهو في الحقيقة: كلُّ ما لا يُعَدُّ صاحبُ مال (¬1) في العادة مضيِّعًا لماله (¬2) بوضعِه فيه. وجملةُ القول فيه: أن كلَّ شيء له مكانٌ معروف به، فمكانُه حرزه. وكل شيء معه حافظُه، فحافظُه حرزُه، فمن ذلك: أن الدور (¬3) والمنازل والحوانيت حرزٌ لما فيها. والقبرُ حرزٌ للكفن إذا سُدَّ وأُدرج الميتُ في أكفانه. ولو مات في البحر، فكفن، وطرح في البحر، لقُطع مَنْ أخذَ كفنَه، سواء شُدَّ (¬4) في خشبة، أو (¬5) لا، وهكذا المطاميرُ في الجبال والصحاري، هي حرز لما فيها، فيُقطع مَنْ سرق منها نصابًا، وسواءٌ كان عليها حائط، أو لم يكن. ولا قطع في ثمرٍ (¬6) معلَّقٍ إلا إذا آواه الجرين، فذلك حرزه، ¬
ولا في حرسة جبل، وهي الشاةُ وما في معناها من الماشية تُسرق من الرعي، بخلاف ما إذا أُويت في المَراح. والصبي ليس بحرز (¬1) لما (¬2) يكون معه أو عليه من ثياب أو حليٍّ، إلا أن يكون معه مَنْ يحفظه. وفروعُ هذا الباب كثيرة جدًا، وموضعُها كتبُ الفقه المطوَّلة، وإنما ذكرنا منها ما سنح. وأما صفة السرقة: فأن يخرج المسروقُ من الحرز مساويًا لنصابٍ، فإن أتلفه في الحرز، ثم أخرجه، فلا قطع عليه. قال القاضي عبد الوهاب: ولا يُراعَى أن يخرجه بمباشرة، أو معاونة، وذلك بأن يأخذه بيده، ويخرج به بنفسه، وكذلك إن رماه إلى خارجه (¬3)، أو أخرجه بيده إلى خارج الحرز، فأخذه غيرُه، أو أخرجه على ظهر دابته، أو كانوا جماعة، فرفعوه على رأس أحدهم أو ظهره، فخرج به (¬4)، وبَقُوا هُمْ في الحرز، أو خرجوا معه، ففي كل ذلك القطعُ. ولا قطع على مختلسٍ، أو مستلبٍ، ولا مكابرٍ، ولا غاصبٍ، ولا مستعيرٍ جحدَ (¬5). ¬
قلت: قوله: ففي كل ذلك القطعُ؛ هو على ظاهره، إلا في مسألة: ما إذا كانوا جماعة، فإنهم إنما يُقطعون كلُّهم، إذا كان في حصة كل واحد منهم (¬1) ربعُ دينار فصاعدًا، على أحد الأقوال الثلاثة في المذهب، وقيل (¬2): يُقطعون مطلقًا، وقيل: بالفرق بين أن يمكن أحدَهم الاستقلالُ بالمسروق، فلا يُقطعون، أو لا يمكن، فيقطعون، وأظن أن هذا هو المشهورُ من المذهب، واللَّه أعلم (¬3). فائدة: قال الشيخ أبو عمرانَ الفاسيُّ (¬4) في كتابه "مدرجة المتعلمين (¬5) ": أخذُ الأموالِ بغير رضا أربابها على ثمانية أوجه، وهي: السرقة، والحرابة، والغصب، والاختلاس، والتعدي، والخديعة، والخيانة، والغيلة. والعقوبة فيه على ثلاث مراتب: فعقوبة السارق القطع، والمحارب أحدُ أربعة أشياء، وهي: القتل، أو القطع من خلاف، أو ¬
الضرب، أو النفي، أو يُصلب ثم يُقتل بعد ذلك. وعقوبة من سواهما: الضربُ والسجنُ مع الغرم، لا غيرُ. قلت: وقد أجمع العلماء على أنه إذا سرق أولًا، قُطعت يده اليمنى. قال مالك، والشافعيُّ وأهلُ المدينة، والزهريُّ، وأحمدُ، وأبو ثور، وغيرُهم: فإذا سرق ثانيًا، قُطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثًا، قطعت يده اليسرى (¬1)، فإن سرق رابعًا، قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك، عُزِّرَ (¬2)، ثم إن عاد، حُبس؛ يروى هذا عن عليٍّ، والزهريّ، وحمادٍ، وأحمدَ. وعامَّتُهم على قطع اليدِ من الرسغ؛ وهو المفصل بين الكفِّ والذراع، وتُقطع الرجل من المفصل بين الساق والقدم. وقال علي -رضي اللَّه عنه-: تُقطع الرّجل من شطر القدم؛ وبه قال أحمدُ، وأبو ثور. وقال بعض السلف: تُقطع اليد من المرفق. وقال بعضهم: من المنكب. قال ابن عطية: ويُروى عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-: أنه كان يقطع اليد من الأصابع، ويُبقي الكفَّ، والرِّجْلَ من نصف القدم، ¬
ويُبقي العقبَ (¬1) (¬2). والمِجَنُّ: بكسر الميم وفتح الجيم (¬3)، وهو كل ما يُستجن به، أي: يستتر (¬4). وصاعدًا (¬5): حال، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 349 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيها رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِىءُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ-صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ: "أَتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ "، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: "إِنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فَيهِمُ الشَّرِيفُ، تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ. وَايْمُ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا" (¬1). ¬
وَفي لَفْظٍ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَطْعِ يَدِهَا (¬1). * * * * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قُرَيْشٌ: قبيلةٌ، وأبوهم النَّضْرُ بنُ كنانةَ بنِ خزيمةَ بن ¬
مُدْرِكَةَ بنِ إلياسَ بنِ مُضَرَ، وكلُّ مَنْ كان من ولد النضر، فهو قرشي، دون ولد كنانة فمن فوقه، والنسبُ إليه قرشيٌّ، وربما قالوا: قريشي وهو القياسُ، قال الشاعر: بِكُلِّ قُرَيْشِيٍّ عَلَيْهِ مَهَابَةٌ ... سَرِيعٌ إِلَى دَاعِي النَّدَى والتكرُّمِ فإن أردتَ بقريشٍ الحيَّ، صرفته، وإن أردتَ به القبيلةَ، لم تصرفْه، قال الشاعر في ترك الصرف: وَكَفَى قُرَيْشَ المُعْضِلَاتِ وَسَادَهَا (¬1) الثاني: ظاهرُ الحديث: تحريمُ الشفاعة في الحدود إذا بلغتِ الإمامَ، فأما قبلَ البلاع: فالأكثرون على جوازها؛ لما جاء في الستر على المسلم. قال مالك: وذلك فيمن لم يُعرف منه أذى للناس، وأما مَنْ عُرف منه شرٌّ وفساد، فلا أحبُّ أن يشفع فيه. ع: وأما الشفاعةُ فيما ليس فيه حدٌّ، ولا حقٌّ لآدمي، وإنما فيه التعزير، فجائزٌ عند العلماء، بلغ الإمامَ، أم (¬2) لا (¬3). ق (¬4): "ومن يجترىء عليه إلا أسامةُ بنُ زيدٍ حِبُّ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، ¬
هو بكسر الحاء، أي: محبوبه، وهذه منقبة ظاهر لأسامة -رضي اللَّه عنه-، ومعنى يجترىء عليه: يتجاسَرُ عليه بطريق الإدلال (¬1). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما أهلكَ الذين مِنْ قبلِكُم" إلى آخره: (إنما) هنا (¬2) ليست للحصر المطلق ولا بدَّ، فإن أسباب الإهلاك بالنسبة إلى بني إسرائيل كانت متعددة، فلابدَّ وأن يُحمل على حصر مخصوص؛ وهو الإهلاكُ بسبب تغيير (¬3) حدودِ اللَّه تعالى، وقد تقدم أن الحصر يكون حقيقةً تارة (¬4)، ومجازًا أخرى. الرابع قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وايمُ اللَّه! ". ع: يقال: أَيْمُ اللَّه -بقطع الهمزة، وفتحها-، وإيم اللَّه (¬5) -بكسرها-، وأَيْمُنُ اللَّه -بالفتح وزيادة نون (¬6) -، وإيمَن اللَّه -بالكسر-، وأَيْمَنُ اللَّه -بفتح الهمزة والميم-، ولَيْمَنُ اللَّه -باللام-، ومُنَ اللَّه، ومَن اللَّه، ومِن اللَّه، وليمُ اللَّه، ومُ اللَّه، ومِ اللَّه، ومَ اللَّه، وفي الحديث: "وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَده"، أربعَ عشرةَ لغةً، كلُّها صحيحة. ¬
قيل: هي (¬1) جمع يمين، وألفها ألفُ قطع؛ وهو مذهب الفراء وأبي عبيد، والصحيحُ عند النحاة: أنها مفردة، وأن (¬2) ألفها ألفُ وصل مشتق من اليُمن، بدليل حذفها في درج الكلام، نحو قولك: لَيْمُنُ اللَّه لأفعلنَّ، وعُلل فتحُها بشبه همزة الوصل اللاحقة للام التعريف في نحو: الرجل والغلام؛ لأن أيمن اسمٌ غيرُ متمكن، إذ لا يُستعمل إلا في القسم، ولا يُستعمل إلا مرفوعًا، فأشبَهَ بعدم (¬3) تمكنه الحرفَ الذي هو لام التعريف، ففتحت همزته كما فُتحت همزة الوصل اللاحقة للام التعريف: ولم يُبْنَ، وإن أشبهَ الحرفَ؛ لقوة تمكنه (¬4) بالإضافة؛ كما تبنى (¬5) أَيٌّ لذلك، فاعرفْه، فقلما تجدُه في كتب العربية. قال الأزهري: وضُمَّ آخره، وحكمُ القسم الخفضُ؛ كما ضم (لَعَمْرُكَ)؛ كانه أضمر يمينًا (¬6) ثانية، فقال (¬7)، وأَيمنُك عظيمة، ولأيمنُك عظيمة (¬8)، وعَمْرُك، ولعمرُك عظيم، وقد قيل: إن لَيُمْنُ إنما معناه: ¬
لا لَيُمْن، على مَنْ جعلها ألفَ وصل، أقسم على النفي، وأقسم به، ومن هذا قوله: لَيُمْنُ اللَّهِ ما ندري (¬1)، وقيل: معنى ليمنُ اللَّه؛ يمينُ اللَّه، أي: يمين الحالف باللَّه، أو أيمانُه باللَّه، وقد يكون على هذا، أي: يمين اللَّه وأيمانه (¬2) التي يحلف بها على إضافة التعظيم والتشريف؛ كما قيل: {وَنَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف: 73]، أو الاختصاص؛ كما قيل: {عِبَادَ اللَّهِ} [الصافات: 160]؛ أي (¬3): وسُمي اليمينُ يمينًا باسم اليد؛ لأنهم كانوا يبسطون أيديَهم إذا تحالفوا. وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنه-: أن يمين اسمٌ من أسماء اللَّه تعالى، قاله ع (¬4). الخامس: قوله: "كانت امرأة مخزومية" إلى آخر الحديث. ق: قد أطلق في هذا الحديث على هذه المرأة لفظُ السرقة، ولا إشكالَ فيه، وإنما الإشكالُ في الرواية الثانية: وهو إطلاقُ جَحْدِ العاريةِ على المرأة، وليس في لفظ هذا الحديث ما يدلُّ على أن المعبرَ عنه امرأة واحدة، ولكن في عبارة المصنِّف ما يُشعر بذلك؛ فإنه جعل الذي ذكره ثانيًا روايةً، و (¬5) مقتضى ذلك من حيث الإشعار العادي، إنما هو حديث واحد اختُلف فيه، هل كانت المرأةُ المذكورةُ سارقةً، أو جاحدةً؟ ¬
وعن أحمد: أنه أوجبَ القطعَ في صورة جحود العاريَّةِ عملًا بتلك الرواية. قلت: وبقوله قال إسحاقُ. وإذا أُخذ بطريق صناعي -أعني: في صيغة (¬1) الحديث- ضعفت الدلالةُ على مسألة الجحود قليلًا؛ فإنه يكون اختلافًا في واقعة واحدة، فلا يثبت الحكمُ المرتَّبُ على الجحود، حتى يتبين (¬2) ترجيحُ رواية مَنْ روى في (¬3) الحديث: أنها كانت جاحدةً، على رواية من روى: أنها كانت سارقة (¬4). ع، وتبعه ح: قال العلماء: المرادُ: أنها قُطعت بالسرقة، وإنما ذكرت العارية تعريفًا لها، لا لأنها سبب القطع. ح: وقد ذكر مسلمٌ هذا الحديث في سائر الطرق المصرحة بأنها سرقت، وقُطعت بسبب السرقة، فيتعين (¬5) حملُ هذه الرواية على ذلك؛ جمعًا بين الروايات؛ فإنها قصة واحدة، مع أن جماعة من الأئمة قالوا: هذه الرواية شاذة، فإنها مخالفة لجماهير الرواة، ¬
والشاذُّ لا يُعمل به. قال العلماء: وإنما لم يذكر السرقة في هذه الرواية؛ لأن المقصود منها عند الراوي ذكرُ منعِ الشفاعة في الحدود (¬1)، لا الإخبار عن السرقة (¬2). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو سرقَتْ" إلى آخره: فيه (¬3): دليل واضح، وحجة صريحة لأحد القولين عندنا فيمن قال: واللَّهِ لو وقعَ كذا، لفعلت كذا، ونحو هذا، هل يكون حانثًا بهذا اللفظ، أو لا؟ ومثلوه عندنا بمسألة؛ من قال: واللَّهِ لو كنت حاضرًا لك عند مخاصمة أخي، لفقأتُ عينك (¬4)، واللَّه أعلم. فائدة لغوية: اختصرتها من كتاب "ليس (¬5) " لابن خالَوَيْه: يقال للذي يسرق الشِّعْرَ: سُرَاقَةُ، وللذي يسرق اللغةَ من الكتب اللَّفيفُ، واللفيف -أيضًا-: الذي يحفظ ثيابَ اللصوص، والذي يسرقُ الإبل خاصَّةً: الخارِبُ، وللذي يسرق اللحم إذا (¬6) سُلخ: غالٌّ، وللذي ¬
يسرق الغنيمة: المحوسُ (¬1)، والمغلُّ، وللذي يسرق في المكيال: المُطَفِّفُ، وللذي (¬2) يسرق في الميزان: المُخْسِرُ، وللذين (¬3) يختفون فيسرقون من غير أرضهم: الزَّوقل (¬4)، والزواقيل، والزواقل، وللذي (¬5) يسرق ولا سلاح معه: الطَّمِلُّ، وأصله في الذِّئب، وسراق السباع (¬6): الرِّئْبال، والرآبيلُ في السباع مثلُ اللصوص في الناس، وفي الطير: الكندس، وهو العقعق، وسبراق الريان، وللذي (¬7) يسرق رائحةَ الطعام بأنفه: الأَرْشَمُ، وللذي (¬8) يكل بيمينه وشرقُ بشماله: الجرذبان، وللذي يسرق السمعَ ويرده: القَتَّات، فإن أدى ذلك إلى السلطان، فهو الماحِلُ، والساعي، والواشي، والآسي (¬9)، والسماع، والجاسوسُ: الذي يسرق الأنباء فيردُّها إلى أرض العدو، قال اللَّه تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]؛ أي: الجواسيس، فالجاسوسُ صاحبُ سرِّ ¬
الجواسيس، فالجاسوسُ صاحبُ سرِّ الشر، وصاحبُ سرِّ الخير هو الناموسُ (¬1)، وللذي يسرق بالعَجَلة: الخاطف، وهو المستلِبُ، وللذي يسرق من الكم: الطَّرَّار، وللذي يسرق بالحيلة بالكلام وهو مصلوب: شَطَّاط (¬2)، وللذي يسرق جَهْرًا: الغاصب، وللذي يسرق وهو مؤتَمَن: الخائن، وكلُّ سارق يقال له: أَحَذُّ (¬3) يدِ القميص، وأنشد: جَعَلْتَ عَلَى العِرَاقِ وَرَافِدَيْهِ (¬4) ... فَزَارِيًّا أحَذَّ (¬5) يَدِ القَمِيصِ وللذي يسرق بسبب غيره: المتنحِّل (¬6)، والمدَّعي، والزنيم، واللعين، وللذي يسرق الأسانيد والروايات (¬7)، ويُعَمِّي: المدلِّس، وللذي يسرق تراجمَ الكتب: الملبِّد (¬8)، وللذي يسرقُ من العدول والقضاة: المصلى، والاكَّال، وللذي يسرق من الصلاة وينتقصها (¬9): المغار، وللذي يسرق الفتيلة من المسرجة: الفُوَيْسقة؛ وهي الفأرة، ¬
وللذي يسرق الحراق (¬1) والخرق من الخياطين: المحفتر، وللذي يسرق مال المساكين: المبطوحُ (¬2)، والمطرفُ، وللذي يسرق الدَّيْن، ولا ينوي أداءه: زانٌّ (¬3)، وللذي يسرق الحاجَّ بِمِحْجَنه: المُسِلُّ، والسَّالُّ، والسَّلالُ، وللذي يسرق النيامَ والدوابَّ: الشالُّ، وللذي (¬4) يسرق النورةَ في الحمَّام من الأحداث: المتببُ، يعنون: المستحيي، فإن سرق شعر شاربه، ونتف، فهو: الزابقُ، ويقال: أحمقُ أرنق (¬5) للذي ينتف لحيتَه لحماقته (¬6). قلت: وتسميةُ هذا سرقةً بعيدٌ جدًا. * * * ¬
باب حد الخمر
باب حد الخمر الحديث الأول 350 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيْدٍ (¬1) نَحْوَ أَرْبَعِينَ. قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ (¬2). ¬
* الشرح: يقال: خَمْرٌ، وخَمْرَةٌ، ولا خلاف يُعتد به في أنها مؤنثة. وذكر ح: أنها مذكرةٌ على ضعف (¬1)، ولم أدرِ من أين نقله (¬2). والجمعُ: خُمور، مثل تَمْر وتَمْرَة (¬3) وتُمور. قيل (¬4): سُميت خمرًا؛ لأنها تُركت فاختمرت (¬5)، واختمارُها تغيرُ (¬6) ريحها. ¬
وقيل: سميت بذلك؛ لمخامرتها العقلَ؛ أي: مخالطتِه وتغطيتِه، ومنه خِمَار المرأة: ما يُغطي رأسَها (¬1). ولا خلافَ في حدِّ شاربها على الجملة، وإنما الخلافُ في مقداره. فقال الشافعي: إنه (¬2) أربعون. ق: و (¬3) اتفق أصحابُه (¬4) أنه لا يزيد على الثمانين، وفي الزيادة على الأربعين إلى الثمانين خلاف، والأظهرُ الجواز، ولو رأى الإمامُ أن يحدَّه بالنعال، وأطرافِ الثياب؛ كما فعله النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، جاز، ومنهم من منعَ ذلك؛ تعليلًا بعسر الضبط (¬5). ومذهب الجمهور من السلف؛ مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم (¬6): أن حده ثمانون جلدة، وهو أحد قولي الشافعي، وحجتُهم ما استقرَّ عليه إجماعُ الصحابةِ -رضي اللَّه عنهم-، وأنه (¬7) لم يكن بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حدٌّ معين، ألا تراه قال: نحو أربعين (¬8)؟ ¬
قال الإمام: لو فهمتِ الصحابةُ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حدًا محدودًا في الخمر، لما عملت فيه برأيها، ولا خالفته، كما لم تفعل ذلك في سائر الحدود، ولعلهم فهموا أنه -عليه الصلاة والسلام- فعل ذلك على موجب اجتهاده فيمن فعل ذلك فيه (¬1). قلت: وقد نقلوا الإجماعَ على أنه لا يُقتل إذا تكرر منه الشربُ، إِلَّا أن (¬2) طائفة شذت، فقالت: يُقتل بعد حده أربعَ مرات؛ للحديث الوارد في ذلك (¬3). وأجيب عن هذا: بأن الحديث منسوخ عند العامة بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ" الحديث (¬4) (¬5)، وبحديث النُّعَيْمان، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حدَّه ثلاثَ مرات، ¬
ولم يقتلْه، ونهى عن لعنه (¬1). قالوا: ودل على نسخه إجماعُ الصحابة على تركِ العملِ بهِ (¬2). ثم اتفقوا على إقامةِ الحدِّ على شاربِ القليلِ من خمر العنب: وكثيرِه، سكرَ أو لم يسكرْ (¬3)، وعلى حدِّ مَنْ سكر من كلِّ مسكرٍ. واختلفوا في حدِّ مَنْ شرب ما لا يُسكر منه من غير خمر العنب: فجمهورُ السلف والعلماء على تسوية ذلك كله، والحدِّ من قليله وكثيره. وذهب الكوفيون: إلى أنه لا يُحد حتى يسكر، وإن شربه ما لم يبلغ السكر. وعنهم -أيضًا-: في مطبوخ العنب المسكر، وخمر التمر عند بعضهم؛ كخمر العنب. وقال أبو ثور: يُجلد مَنْ يرى تحريمَه، ولا يُجلد مَنْ يرى تحليلَه، ويتأوَّلُ في ذلك. ع: وقد مال إلى هذا التفريق بعضُ شيوخنا المتأخرين. قال: وإجماعُ المسلمين ينعقد على تحريم خمر العنب النيء ¬
قليلِه (¬1) وكثيرِه (¬2). قلت: وسمعتُ بعض شيوخنا -رحمهم اللَّه تعالى- يقول: حتى لو أخذ منه برأس إبرة على لسانه، لَحُدَّ. ع (¬3): وضربُه بالجريد والنعال يدل على تخفيف حدِّ الخمر، وإلى هذا ذهب الشافعي: أنه لا يكون الحدُّ إِلَّا بمثل هذا، لا بالسوط (¬4). وعند مالك وغيره: الضربُ فيه بسوطٍ بينَ سوطين، وضربٍ بين ضربين، والحدودُ كلُّها سواءٌ عنده (¬5). وفيه: استشارةُ الإمام في الأحكام، كما تقدم. وقوله: "قال عبد الرحمن: أخفُّ الحدود ثمانون"، ويروى بالنصب: "أخفُّ الحدودِ ثمانين" (¬6). ق: أي: اجعلْه ثمانين، أو ما يقاربُ ذلك. قلت: وهذا بعيدٌ، أو باطل، وكأنه صدرَ من الشيخ من غير تأمل القواعد العربية، ولا لمراد المتكلم بذلك؛ إذ لا يجيز أحدٌ: أجودُ ¬
النَّاس الزيدين، على تقدير: اجعلهم، وأيضًا: فإن مراد عبد الرحمن: الإخبارُ بأخف الحدود، لا أمرُه بأن يجعل أخف الحدود (¬1) ثمانين، فاحتمالُ توهيم الراوي لهذه الرواية القليلة أولى من ارتكاب ما لا يجوز، لا من حيثُ اللفظ، ولا من حيثُ المعنى (¬2). وقيل: أن القائل لذلك علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- (¬3). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 351 - عَنْ أَبي بُرْدَةَ، هَانِىءِ بْنِ نِيَارٍ البَلَوِيِّ: أَنَّهُ سَمعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ" (¬1). * * * ¬
* التعريف: (¬1) هانىءِ بنُ نيارِ بنِ عمرِو بنِ عُبيدِ بنِ عَمْرِو بنِ كلابِ بنِ دُهمانَ ابنِ غنمِ بنِ ذهلِ (¬2) بنِ هيثمِ بنِ دهلِ (¬3) بنِ هنيِّ بنِ بَلِيِّ (¬4) بنِ عمرِو بنِ الحارثِ بنِ قضاعةَ. كنيته: أبو بردة، وله عَقِبٌ، وهو خالُ البراءِ بنِ عازبٍ، صاحبِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. شهد أبو بردةَ العقبةَ مع السبعين مع الأنصار، وشهد أُحدًا، والخندقَ، والمشاهدَ كلَّها مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانت معه رايةُ حارثةَ يومَ فتح مكة. وروي له عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أحاديثُ حفظها عنه، وهو الذي قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الشاة التي ذبحها قبل صلاة العيد: "شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ"، الحديث (¬5). مات أبو بردةَ هذا في خلافة معاوية سنة خمس وأربعين، وقيل: سنة إحدى أو اثنتين وأربعين. روى له الجماعة -رضي اللَّه عنهم- (¬6) ¬
* الشرح: ح: ضبطوا: يجلد بوجهين: أحدهما: بفتح (¬1) الياء وكسر اللام. والثاني: بضم (¬2) الياء وفتح اللام. وكلاهما صحيح. وقد أخذ بظاهر هذا الحديث أحمدُ بن حنبل، وأشهبُ من أصحابنا، وبعضُ الشافعية. والجمهورُ: على جواز الزيادة على ذلك في التعزيرات، ولا ضبطَ لعدد الضربات، بل ذلك موكولٌ إلى اجتهاد الإمام، وله أن يزيد على قدر الحدود. قالوا: لأن عمر ضربَ مَنْ نقشَ على خاتمه مئةً، وضرب صَبِيغًا (¬3) أكثرَ من الحدِّ (¬4). و (¬5) قال أبو حنيفة: لا يبلغ به أربعين. ¬
وقال ابن أبي ليلى: خمسة وسبعون، ولا يبلغ به الحد، وروي عن مالك وأبي يوسف، وعن عمر: لا تجاوز به ثمانين وعن ابن أبي ليلى رواية أخرى (¬1)، وهي (¬2) دون المئة، وهو قول ابن شُبرمة. وقال ابنُ أبي ذئب، وابنُ أبي يحيى: لا يُضرب أكثرَ من ثلاثةٍ في الأدب. وبه قال أشهب وقال (¬3): في مؤدب الصبيان: إن زاد على ذلك، اقتُصَّ منه. وقال الشافعي، وجمهورُ أصحابه: لا يبلغ بتعزير كلِّ إنسان أدنى حدوده، فلا يبلغ بتعزير العبد (¬4) عشرين، ولا بتعزير الحر أربعين. وروي عن (¬5) الشافعي -أيضًا-: أنه يضرب في الأدب أبدًا، وإن أتى على نفسه، حتى يقر بالإنابة، ويرجع عنه، وعن الزبيري (¬6) من أصحاب الشافعي تعزير كلّ ذنب (¬7) مستنبط من حده لا يجاوز (¬8) حده. ¬
ح: وأجاب أصحابنا عن الحديث (¬1): بأنه منسوخ، واستدلوا بأن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- جاوزوا عشرةَ أسواط، وتأوله أصحابُ مالك على أنه كان مختصًا بزمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر. قال وهذا التأويل ضعيف (¬2). قلت: وأضعفُ منه ادعاء النسخ من غير دليلٍ محرَّرٍ، ومما يشدُّ من عضد تأويل أصحابنا: ما رُوي عن (¬3) عمر -رضي اللَّه عنه-: يُحْدَث (¬4) للناس من الأحكام بقدر ما أحدثوا من الفجور. قلت: ولاسيما في وقتنا هذا، فنسأل [اللَّه] المسامحةَ والعفوَ، إنه وليُّ ذلك، والقادرُ عليه، آمين. وقد قيل: إن هذا الراوي غيرُ أبي بردة، وإنه رجل من الأنصار، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
كتاب الأيمان والنذور
كِتْابُ الْأَيْمَان وَالنُّذُورِ
[باب]
كِتْابُ الأيمان والنذور الحديث الأول 352 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! (¬1) لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكِلْتَ إِلَيْها، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (¬2). ¬
* التعريف: عبدُ الرحمن بنُ سَمُرَةَ: -بفتح السين المهملة وضم الميم- ابنِ حبيبِ بنِ عبدِ شمسِ بنِ قصيِّ بنِ كلاب. ويقال: حبيب بن ربيعةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ -يلتقي مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في عبدِ مناف- القرشيُّ، العبسيُّ. يكنى: أبا سعيد، وأمه أروى بنتُ الفارعة -بالفاء والراء المهملة- من بني فراس. أسلمَ يَومَ فتح مكّة، وصحِبَ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسمع منه، وغزا خراسانَ في زمن عثمانَ بنِ عفانَ، وهو الذي افتتحَ سجستان، وكابل. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعةَ عشرَ حديثًا؛ اتفقا منها على ¬
حديث واحد، وانفرد مسلم بحديثين. روى عنه: عبد اللَّه بنُ عباس، ومحمدُ بنُ سيرينَ، وسعيدُ بنُ المسيبِ، وغيرُهم. مات بالبصرة سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة خمس، وقيل: إحدى وخمسين -رضي اللَّه عنه- (¬1). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الإمارة: -بكسر الهمزة -: الولاية، وبفتحها: العلامة، وفي الأولى لغة أخرى: إِمْرَة -بكسر الهمزة وسكون الميم-، وأما الأَمْرة -بالفتح-، فهي المرةُ الواحدة من الأَمْر، يقال: لك علي أَمْرَة مطاعة؛ أي: لك علي أمرة أطيعك فيها، وأَمِر فلان، وأَمُرِ (¬2) -بكسر الميم وضمها-: صار أميرًا (¬3). الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وُكِلْتَ إليها"، ويروى: ¬
"أُكِلْت" -بالهمزة-، معناه: لم تُعَنْ عليها؛ أي: لا يكون فيك كفايةٌ (¬1) لها، يقال: وَكَلَه إلى نفسه وَكْلًا ووُكولًا، قال الشاعر: كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ ... وليلٍ أُقَاسِيْهِ بَطِيءِ الكَوَاكِبِ (¬2) ومعناه: دعيني، فعلى هذا ينبغي أن لا يولَّى مَنْ سألها، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّا لَا نُوَلِّي عَلَى عَمَلِنَا مَنْ طَلَبَهُ، أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ" (¬3) (¬4). ق: لما كان خطرُ الولاية عظيمًا؛ بسبب أمورٍ تكون في الوالي، وبسبب أمور خارجة عنه، كان (¬5) طلبُها تكلُّفا ودخولًا في (¬6) غَرَرٍ عظيم، فهو جدير بعدم العَوْن، ولما كانت إذا أتت من غير مسألة، لم يكن فيها هذا التكلف (¬7)، كانت جديرةً بالعون على أعبائها (¬8) وأثقالها. ¬
و [في] الحديث: إشارة إلى إِلطاف اللَّه -تعالى- بالعبد؛ بالإعانة على إصابة الصواب في فعله وقوله تفضلًا زائدًا على مجرد التكليف والهداية إلى النجدين، وهي مسألة أصولية أكثر فيها الكلام، والذي يحتاج إليه في الحديث أشرنا إليه الآن (¬1). الثالث: ظاهرُ الحديث: كراهةُ سؤال الولاية؛ من إمارةٍ، وقضاءٍ، وحِسْبَةٍ، وغيرِ ذلك، وقد تكلم الفقهاء في هذه المسألة بالقواعد الكلية، وقسموها على أقسام أحكام الشريعة الخمسة، فقالوا: من استجمعت فيه شروط الولاية، تعين عليه قبولُها إن عُرضت عليه، وطلبُها إن لم تُعرض؛ لأنه فرضُ كفاية لا يتأدَّى إِلَّا به، فتعينَ (¬2) عليه القيامُ به، وكذا إذا لم يتعينْ عليه، وكان أفضلَ من غيره. ومنعْنا ولايةَ المفضول مع وجود الأفضل، وإن كان غيرُه أفضلَ منه، ولم نمنعْ توليةَ المفضولِ مع وجود الفاضل، فهاهنا يكره له أن يدخل في الولاية، وأن يسألها. وحرم بعضُهم الطلبَ، وكره للإمام أن يوليه، وقال: إن ولاه، انعقدت ولايتُه، وقد استخطىء فيما قال. ¬
ومن الفقهاء مَنْ أطلق القولَ بكراهة القضاء؛ لأحاديث وردت فيه (¬1). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإذا حلفْتَ على يمين" إلى آخرها: اختلفت الروايات في هذا الحديث: ففي بعضها ما ذكره المصنِّف، وفي أخرى: "إِنِّي واللَّهِ! إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، "فَأَرَى (¬2) غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أتيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ"، وفي الحديث الآخر: "وَ (¬3) مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْها، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ"، وفي الرواية الأخرى: "فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ"، على ما سيأتي. وبحسب اختلاف هذه الروايات اختلف العلماء في إجزاء الكفارة قبل الحِنْث، مع اتِّفاقهم على أنها لا تجبُ إِلَّا بعد الحنث، وأنه يجوز تأخيرُها بعدَ الحنث (¬4)، وجمهورُهم على إجزائها قبل الحنث. ع: لكن مالكًا، والثوريَّ، والأوزاعيَّ، والشافعيَّ منهم: يستحبون كونها بعدَ الحنث، ويوافقون على إجزائها قبله (¬5)، وروي هذا عن أربعةَ عشرَ من الصحابة، وجماعةٍ من التابعين، وغيرِهم. ¬
وذهب أبو حنيفة وأصحابه: إلى أنها لا تجزىء، وهي روايةُ أشهبَ عن مالك. وقال الشافعي -أيضًا-: تجزىء فيه الكفارةُ بالإطعام، والكسوة، والعتق قبل، ولا تجزىء بالصوم إِلَّا بعد الحنث (¬1). قال الخطابي: واحتج أصحابه في ذلك: بأن الصوم مرتب على الإطعام، فلا يجزىء إِلَّا مع عدم الأصل؛ كالتيمُّم بالنسبة إلى الماء (¬2). وقال ح (¬3): لأنه عبادة بدنية، فلا يجوز تقديمها قبل وقتها؛ كالصلاة، وصوم رمضان. واستثنى بعضُ الشافعية -أيضًا- حنثَ المعصية، فقال: لا يجوز [تقديم] كفارتُه؛ لأن فيه إعانة على المعصية (¬4). ع (¬5): والخلافُ في هذا مبني على: هل الكفارة لحلِّ اليمين، أو لتكفير مأثمها بالحنث؟ فعند الجمهور: أنَّها (¬6) رخصة شرعها اللَّه -تعالى- لحل ما عقد (¬7) الحالف من يمينه، فتُجزىء قبلُ وبعدُ، وليس ¬
في الوجهين إثمٌ، لا في الحلف ابتداءً، ولا في تحنيث الإنسان نفسَه، لإباحة الشارع له ذلك (¬1). قلت: وأما مَنْ تعلَّق في جواز تقديم الكفارة ببدايته -عليه الصلاة والسلام- بذكر التكفير قبل الإتيان بالخير، فضعيف جدًا؛ لأن الواو لا تقتضي ترتيبًا، بل المعطوف والمعطوف عليه كالجملة الواحدة، على ما تقرر في العربية. ومعنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فرأى غيرَها خيرًا منها"؛ أي: رأى ما حلف عليه من فعلٍ أو تركٍ خيرًا لدُنياه أو أُخراه، أو موافقًا لهواه وشهوته، ما لم يكن إثمًا، هكذا فسره العلماء، واللَّه أعلم (¬2). وانظر ما المناسبةُ بين صَدْر الحديث، وهو النهيُ عن طلب الإمارة، وعَجُزِه، وهو (¬3) الأمرُ بتكفير يمينه عند رؤية (¬4) خير (¬5) مما حلفَ عليه (¬6)، والإتيان بما هو خير، فإني راجعتُ فيه (¬7) جماعةً من ¬
فضلاء العصر، فلم يأتوا فيه بمقنع، هذا بعد الفكرة فيه، ولعل اللَّه يفتح فيه بشيء، فيلحق، واللَّه الفتاحُ العليم، وما أسهلَ الجوابَ عن المشكلات عند الجاهل، وقد كان مالك رحمه اللَّه يقف في المسألةُ أربعين يومًا، ونحو ذلك، وقد سمعتُ بعضَ شيوخنا يقول: أقام شيخُنا يفكر في مسألة اثنتي عشرة سنة حتى وُفِّق فيها للصواب. * * *
الحديث الثاني
الحديث الثاني 353 - عَنْ أَبي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي وَاللَّهِ! -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا" (¬1). ¬
* الشرح: قد تقدم أنه يُستحب الحلفُ على تقرير الأمور المهمة، وإن لم يُستحلَف، وكأَنَّ فائدةَ توكيدِه -عليه الصلاة والسلام- هذا الحديثَ باليمين ترجيحُ الحنثِ على الوفاء باليمين عند رؤية ما هو خيرٌ مما حلفَ عليه، وقطعُ وهمِ متوهِّمٍ يرى الوفاءَ مما حلف عليه أولى، والتنبيهُ على خطئه في اعتقاد ذلك، واللَّه أعلم. فيه: استحبابُ الاستثناء بالمشيئة في اليمين، إِلَّا أنه إن قصد بالاستثناء حلَّ اليمين، لم ينعقد (¬1) بالشروط المذكورة في الاستثناء، وإن لم يقصد ذلك، كان ذلك (¬2) أدبًا مندوبًا إليه في اليمين وغيرها. وشرطُ الاستثناء عندنا: أن يكون متصلًا، ملفوظًا به. ¬
واختلف أصحابنا هل من شرطه أن يكون قصدُه مقارنًا لبعضِ حروفِ اللفظ، أو لا؟ والمشهورُ: لا يُشترط (¬1)، وسيأتي شيء من هذا في (¬2) الباب. ومعنى "تحلَّلتها": كَفَّرْتُ عنها. وهذا الحديث مختصر، وله سببٌ مذكور في موضعه، وأنه - عليه الصلاة والسلام- حلفَ أن لا يحملَهم، ثم حملَهم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 354 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ" (¬1). * * * 355 - وَلِمُسْلِمٍ: "مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ" (¬2). ¬
وَفِي رِوَايةٍ: قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ! مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا (¬1) (¬2). (¬3) يعْنِي آثرًا (¬4): حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي أَنَّهُ حَلَفَ بِهَا. * * * ¬
* الشرح: قال العلماء: سرُّ النهي عن ذلك كراهةُ أن يشرك في التعظيم غير اللَّه جلَّ وعز وعلا. وقد قال ابن عباس (¬1): لأَنْ أَحْلِفَ باللَّه، فَآثَمَ -بمد الهمزة- أحبُّ إليَّ من أن أُضاهي. ومعنى أضاهي: أحلف بغير اللَّه تعالى، وقيل: معناه: الخديعة، يُرَى أنه حلفَ وما حلفَ، والأول (¬2) أظهر، ويدلُّ عليه ما روي عنه -أيضًا-: لأَنْ أَحْلِفَ باللَّه على مئة مرة، فَآثَمَ، خَيْرٌ من أن أحلف بغيره فَأَبَرَّ، فلهذا نَهَى عن اليمين بسائر المخلوقات. فإن قلت: فما تصنعُ بقوله -عليه الصلاة والسلام- للأعرابي: "أَفْلَحَ -وَأَبِيهِ- إِنْ صَدَقَ" (¬3)؟ قلت: عنه جوابان: أن هذا كان جاريًا على ألسنتهم، لم يقصدوا به القسم. والثّاني: أنه على حذف مضاف؛ أي: وربِّ أبيه. وهذا كله في حقنا؛ للمعنى المتقدم، وأما الباري -جل، وتعالى، وتقدس-، فله أن يعظِّمَ من مخلوقاته ما شاء، فيقسم بالطور، ¬
وبالشمس، وبالليل، وغير ذلك، لا حَجْرَ عليه -سبحانه-، بل الحجرُ علينا، وإن كان قد قيل في ذلك -أيضًا-: إنه على حذف مضاف، كما تقدم. وعندي: لا يحتاج إليه هنا؛ بخلاف الأول؛ فإن تعظيمَه -تعالى- لبعض الأشياء تنبيهٌ لنا على عِظَمِ قدرِها عنده، أو تعبد لنا (¬1) بأن نعطمها، فلا يُقاس هذا على هذا (¬2). إذا ثبت هذا، فإنَّ ما (¬3) يقسم به على ثلاثة أقسام: قِسْمٌ يُباح القَسَمُ به، وهو القَسَمُ بأسماء اللَّه -تعالى- وصفاتِه. وقسمٌ يحرُم القَسَمُ به إجماعًا، وهو القَسَمُ بالأنصاب، والأزلام، واللاتِ، والعزى، ونحو ذلك، فإن قصد (¬4) تعظيمًا، كفرَ، وإلَّا، أَثِمَ. والقسمُ الثالث: ما عدا ذلكَ مما لا يقتضي تعظيمُه (¬5) كفرًا، فهذا اختُلف فيه بالتحريم والكراهة، ولا كفارةَ عندنا فيه؛ خلافًا لأبي حنيفة في إثبات الكفارةِ في ذلك. وقولُ عمر -رضي اللَّه عنه-: ذاكرًا ولا آثرًا، هذا من الاحتياط والمبالغة في ¬
عدم جريان ذلك على لسانه؛ كيلا يتلبس بصورة اللفظ الممنوع، وإن كان حالَ الحكاية هو غيرُ ممنوع (¬1)، وقد كان بعض شيوخنا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لا يتلفظ في تدريسه بلفظ الطلاقِ ونحوِه (¬2)، بل يعبر عنه بعبارة أخرى (¬3)، فيقول مثلًا: الطاء واللام والقاف، ونحو ذلك، ومما يشبه هذا المعنى ما حُكي (¬4) عن مالك رحمه اللَّه: أنه قيل له في وقت ليس من شأنه الصلاة فيه: اركع، فركع، وعلل ذلك بخوف التشبه (¬5) بقوم (¬6) قال اللَّه -تعالى- فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48]، وهذه حالة المتقين المنقطعين، المراقبين لأقوالهم وأفعالهم، نفعنا اللَّه بهم (¬7) -رضي اللَّه عنهم- أجمعين. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 356 - عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ -رضي اللَّه عنه-، عن النَّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) قَالَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ ابْنُ دَاوُدَ عليهما السلام: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأةً، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ"، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ" (¬2). ¬
قولُه: "قِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شاءَ اللَّهُ"؛ يَعْنِي: قالَ لهُ المَلَكُ. * * * * الشرح: فيه: استحبابُ ما تقدَّمَ من قول الإنسان في يمينه (¬1)، وفيما (¬2) يريد وقوعه: إن شاء اللَّه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] (¬3). وفيه: رفع اليمين بالاستثناء؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لم يحنث". ¬
وتحريرُ الاستثناء (¬1) أنها على ثلاثة أقسام -؛ أعني: في نحو (¬2): لأدخلنَّ الدَّار، مثلًا -إن شاء اللَّه-. فإن أعاد الاستثناء على الدخول، لم يحنث إن لم يدخل (¬3). وإن أعاده على اليمين، لم ينفعه ذلك؛ لوقوع اليمين وتببين (¬4) مشيئة اللَّه تعالى. والثالث: أن يذكر الاستثناء على طريق (¬5) التأدب والأمتثال؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24]، الآية، لا (¬6) على معنى التعليق (¬7)، فهذا كالثاني (¬8) في عدم رفعه لليمين (¬9). وفيه: أن الاستثناء من شرطه الاتصالُ باليمين -على ما تقدم-؛ إذ لو لم يشترط ذلك، لم يحنث أحد في يمين (¬10)، ولا افتقر إلى ¬
كفارة؛ خلافًا لما روي عن بعض السلف. ع: وكان الحسنُ، وطاوسٌ، وجماعةٌ من التابعين يرون للحالف الاستثناءَ ما لم يقمْ من مجلسه. وقال قتادة: ما لم يقمْ، أو يتكلمْ. وعن عطاء: قدرُ حَلْبِ ناقةٍ. وعن سعيد بن جبير: بعدَ شهر. وروي عن ابن عباس: أن الاستثناء أبدًا متى تذكر، وقد تأول بعضهم هذا: أن معناه: أن له الاستثناء (¬1) لإلزام أمر اللَّه -تعالى- وأدبه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} [الكهف: 23] الآية، يحل (¬2) اليمين باللَّه وصفاته وأسمائه. وذهب الكوفيون، والشافعيُّ، وأبو ثور، وبعضُ السلف: إلى جواز ذلك في الطلاق، والعتق، وكلِّ شيء، ومنعه الحسنُ في الطلاق، والعتقِ خاصةً. واختَلف المذهبُ عندنا إذا علَّقَ الاستثناءَ في اليمين بغير اللَّه -تعالى- بشرطِ فعلٍ، هل ينفعُ ذلك، أو (¬3) لا (¬4)؟ ¬
قلت: وقد استدلَّ بعضُ متأخري أصحابنا على تخصيص الاستثناء بأسماء اللَّه -تعالى-، وصفاته؛ بأن قال: رُوي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ" (¬1)، فنهى -عليه الصلاة والسلام- عن الحلف بغير اللَّه -تعالى-، وجعلَ اليمينَ المشروعةَ هي اليمينُ باللَّه -تعالى- لا غيرُ، فلما قال (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم-: مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى، عَادَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ، انصرف هذا (¬3) الاستثناءُ إلى اليمين باللَّه المشروعة التي أمر الشرعُ باليمين بها، وصار معنى الكلام: مَنْ حلف باللَّه، فاستثنى، عادَ كمنْ لم يحلف. قال: وأما غيرُ المشروعة (¬4)، فلا ينصرفُ إليها (¬5)؛ لأنها منهيٌّ عن الحلف بها. وقوله: "لأَطوفنَّ الليلةَ على سبعين امرأة"، وفي بعض الروايات؛ "لأُطِيفَنَّ" (¬6) عَلَيْهِنَّ اللَّيْلَةَ، لغتان فصيحتان: طافَ بالشيء، وأَطافَ به: إذا طافَ (¬7) حولَه، وتكرَّرَ عليه، فهو طائِفٌ، ومُطيفٌ، وهو هاهنا كنايةٌ عن الجِماع. ¬
فيه: استحبابُ التعبير باللفظ الحسنِ عن اللفظ الشنيع، إن تدعُ لذلك ضرورة شرعية. ع: فيه: ما أُوتي الأنبياءُ من القوة على هذا، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يدور على نسائه في ليلة (¬1)، وهذا كلُّه (¬2) يدلُّ على أنها فضيلة في الرجال، ودليلٌ على صحة الذكورية، والإنسانية، ولا يعترض على هذا بقوله -تعالى- في يحيى -عليه الصلاة والسلام-: {وَحَصُورًا} [آل عمران: 39]، فقد قيل: حصورٌ عن (¬3) المعاصي ممسك عنها. وقوله: "تلدُ كلُّ واحدة منهن غلامًا" يدلُّ على أن أُمنيتَه وقصدَه إنما كانا للَّه تعالى، لا لغرض دنيوي. قال بعض المتكلمين: نبَّه -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث على آفة التمني، وشؤم الاختيار، والإعراض عن التسليم والتفويض، قال: ومن آفة التمني نسيانه (¬4) الاستثناء، أو إنساؤه إياه، فيمضي فيه قدرٌ بمعنًى سابق، بأن (¬5) ولدته شق إنسان (¬6). ¬
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فلم تحمل منهنَّ إِلَّا امرأةٌ واحدة، نصفَ إنسان"، وفي رواية: "جاءتْ بشقِّ غلام" (¬1): قيل: هو الجسد الذي ذكره اللَّه -تعالى- أنه أُلقي على كرسيه، وقيل: غير ذلك. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فقيل له: قُلْ: إن شاء اللَّه، فلم يقلْ"، وفي رواية: "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ، أَوِ المَلَكُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، وَنُسِّيَ" (¬2)، قيل: المراد بصاحبه: الملك، وقيل: القَرين، وقيل: صاحبٌ له آدميٌّ، وقيل: خاطِرُه. وقوله: "نسي". ح: ضبطه بعضُ الأئمة بضم النون وتشديد السين، وهو ظاهرٌ حسنٌ، واللَّه أعلم (¬3). ع: وقيل: صُرف عن الاستثناء؛ لتتم حكمة ربك وسابقُ قدره في أن لا يكون ما تمناه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو قالَ: إن شاء اللَّهُ، لم يحنثْ، وكان دَركًا لحاجته": قد يؤخذ منه: أن الاستثناء لا يكونُ (¬4) ¬
إِلَّا قولًا، ولا يُعتبر نيةً (¬1)؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو قالَ: إن شاء اللَّه"، وقولُه: "وكانَ (¬2) دَرَكًا لحاجته": هو بفتح الراء: اسمٌ من الإدراك؛ أي: لَحاقًا، قال اللَّه تعالى: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77] (¬3). وقد يؤخذ من الحديث: جوازُ الإخبار عن المستقبل بطريق الظن، دونَ القطع؛ لأن ما أخبر به سليمان -عليه الصلاة والسلام- لم يكن بوحي، وإلا (¬4) لوقع ضرورة، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 357 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعودٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ونزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] " إلى آخر الآية (¬1). ¬
* الشرح: يجوز تنوينُ (يمين) على أن يكون (صبر) صفةً لها، ويكون من باب: رجل عدل، وتجويز عدم التّنوين على الإضافة، وقد رويناه بالوجهين، ومعنى (الصبر) هنا: الحبس؛ أي يحبس نفسه عن اليمين، ويسمى (¬1) -أيضًا-: غموسًا. قال الفقهاء (¬2): لأنها تغمس صاحبَها في النار، ولذلك قال ¬
أصحابنا: لا كفارة فيها؛ لأن إثمها أعظمُ من أن يُكَفَّر (¬1). وفي الحديث: ما يدلُّ على ذلك من الوعيد الشديد لحاللها (¬2)، وكأن ذكر المسلم هنا من باب التشنيع والتبشيع على الحالف والحالة هذه؛ كما يقال: قَتْلُ الرجلِ الصالحِ، وسَفْكُ دمِ العالمِ حرامٌ، وإن كان قتلُ غيرهما من المسلمين حرامًا؛ لكن قتل هذين أشنع وأبشع من قتل غيرهما من المسلمين ممن ليس بصالح ولا عالم. وقولُ ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 77] إلى آخرها (¬3)، يقتضي: أن معنى الآية معنى الحديث ظاهرًا. وقد اختلف المفسرون في سبب نزولها، فقال (¬4) ابن عطية: قال عكرمة: نزلت في أحبار اليهود؛ أبي رافع، وكِنَانة بنِ أبي الحقيق، وكعبِ بنِ الأشرفَ (¬5)، وحُيَيِّ بنِ أخطبَ (¬6)، تركوا عهدَ اللَّه في التوراة للمكاسِبِ والرياسة، التي كانوا بسبيلها. وروي أنها نزلت بسبب خصومة (¬7) الأشعثِ بنِ قيس مع رجل من ¬
اليهود في أرضٍ، فوجبت اليمينُ على اليهوديِّ، فقال الأشعثُ: إِذًا يحلفُ يا رسول اللَّه! ويذهبُ بمالي؟ فنزلت الآية. ورُوي: أن الأشعث بن قيس اختصم في أرض مع رجل من قرابته، فوجبت اليمينُ على الأشعث، وكان في الحقيقة مبطِلًا، قد غصبَ تلك الأرضَ في جاهليته (¬1)، فنزلت الآيةُ (¬2)، فنكلَ الأشعثُ عن اليمين، وتحرَّجَ، وأعطى الأرضَ، وزادَ من عندِه أرضًا أخرى. وروي أن الآية (¬3) نزلت بسبب خصومة لغير الأشعثِ بنِ قيس. وقال الشعبي: نزلت في رجل أقام (¬4) سلعةً في السوق أولَ النهار، ولما كان في آخره (¬5)، جاءه رجلٌ، فساومه، فحلف حانثًا: لقد (¬6) منعها في أول النهار من كذا أو كذا، ولولا المساءُ ما باعها، فنزلت الآية بسببه (¬7). ¬
ق (¬1): ويترجَّح قولُ مَنْ ذهب إلى هذا المعنى بهذا الحديث، وبيانُ سبب النزول طريقٌ قوي في فهم معاني الكتاب العزيز، وهو أمر يحصل للصحابة بقرائنَ تحتفُّ بالقضايا (¬2). قال ابن عطية: وهي آية (¬3) يدخل فيها (¬4) الكفرُ فما دونَه من جَحْدِ الحقوق، وخطر (¬5) المواثيق، وكلُّ أحد (¬6) يأخذ من وعيد الآية على (¬7) قدر جريمته (¬8)، واللَّه أعلم (¬9). * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 358 - عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ"، قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ (¬1) يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" (¬2). ¬
* التعريف: الأشعثُ بنُ قيسِ بنِ معدي كربَ بنِ معاويةَ بنِ جبلةَ بنِ عديِّ بنِ ربيعةَ بنِ الحارثِ، الكنديُّ. كنيتُه: أبو محمّد، سكن الكوفةَ، وفي أهلها عِدادُه، سمع النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث ابن مسعود عن (¬1) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول (¬2): "مَنْ اقتطعَ مالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ" الحديث (¬3). روى عنه: أبو وائل. قال ابنُ سعدٍ كاتبُ الواقدي: مات بالكوفة. وقال الخطيب: إنه مات في سنة أربعين بعد قتل عليِّ بنِ أبي طالبٍ بأربعين ليلة، وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنة. أُخرج حديثُه في "الصحيحين" (¬4). ¬
* الشرح: فيه: ما في الذي قبلَه من الوعيد، وإنما يقع الكلام هنا على قوله -عليه الصلاة والسلام-: "شاهِداك أو يمينُهُ"، وظاهرُه حصرُ الحقِّ في ذلك، ولربما يتعلَّق به الحنفيةُ في ترك العمل بالشاهد واليمين. وقد اختلف العلماء فيما إذا حلَّف أحدُ الخصمين خصمَه (¬1)، ثم أراد إقامةَ البينة عليه بعد تحليفه، مذهبنا: أنه ليس له ذلك إِلَّا أن يأتي بعذر في تأخير البينة عن زمن التحليف؛ إذ ليس لها إِلَّا أحدُ الأمرين (¬2) كما هو نصُّ الحديث، و (¬3) في الحديث الآخر: "لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَاكَ (¬4) " (¬5)، فلو وجَّهنا إقامةَ البينة بعد الإحلاف، لكان (¬6) له الأمران معًا -أعني (¬7): الإحلافَ، وإقامة البينة-، والحديث لا يقتضي إِلَّا أحدَهما؛ لأن (أو) في مثل هذا؛ إنما هي لأحد الشيئين. وله ذلك عند (¬8) الشافعية مطلقًا. ¬
ولعلهم يقولون: إن المقصود من الحديث نفيُ طريق أخرى لإثبات الحق، فيعود المعنى إلى حصر الحجةِ في هذين الجنسين، وهما: البينةُ، والإحلافُ لا غيرُ، وفيه نظر، ولا يسلم من المنازعة عند الجدليين (¬1). وشاهداك: يرتفع على أحد ثلاثة أوجه: أن يكون فاعلًا بفعل مضمر؛ أي: ليَحْضُرْ شاهداك، أو ليَشْهَدْ، ونحو ذلك. و (¬2) الثاني: أن يكون خبرَ مبتدأ محذوف؛ أي: المستحقُّ أو الواجبُ شرعًا شاهداك؛ أي: شهادةُ شاهِدَيْك. والثالث: أن يكون مبتدأ محذوفَ الخبر؛ أي: شاهداك أو يمينُه الواجبُ لك في الحكم. وقوله: "إِذًا يحلف": إن كان المعنى على (¬3) الاستقبال، فالنصبُ ليس إِلَّا (¬4)، وإن كان المعنى أنه يحلف الآن، فالرفعُ. فائدة هجائية: اختلف الكتَّاب في (إذًا)، هل تُكتب بالألف في كل حال، أو ¬
بالنون في كل حال، أو يفرق بين أن تكون عاملةً فتكتبُ بالنون، أو ملغاةً فتكتبُ بالألف؟ ثلاثة أقوال، واللَّه أعلم. * * *
الحديث السابع
الحديث السابع 359 - عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كمَا قَالَ، وَمَنْ قتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ، عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نذرٌ فِيمَا لا يَمْلِكُهُ (¬1) " (¬2). وَفي رِوَايةٍ: "وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ" (¬3). ¬
وَفِي رِوَايةٍ: "مَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا قِلَّةً" (¬1) * * * * التعريف: ثابتُ بنُ الضحَّاكِ بنِ أميةَ بنِ ثعلبةَ بنَ جُشَمِ بنِ مالكِ بنِ سالمِ ابنِ عمرِو بنِ عوفِ بنِ الخزرجِ، الأنصاريُّ، الخزرجيُّ، وهو أخو جُبير (¬2) بنِ الضحاك، وقيلَ غيرُ هذا. ¬
كانَ رديفَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودليلَه إلى حمراءِ الأسدِ، وكان ممن بايع تحتَ الشجرة بيعةَ الرضوان وهو صغيرٌ. يكنى: أبا يزيد، والظاهرُ أو الصحيح: أنه لم يشهد بدرًا، ولا (¬1) يعطي كلام البخاري أنه شاهدها عند التأمل؛ فإن البخاري إنما ذكر في "الجامع": أنه من أهل الحُدَيبية، واستشهد بحديث أبي قلابة عنه. روى عنه: عبد اللَّه بنُ مغفل، وأبو قِلابةَ. سكن الشامَ، وتوفي سنة خمس وأربعين، وقُبض النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ابنُ ثمانِ سنين (¬2). * ثم الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ حلفَ على ملَّةٍ": الملة -بالكسر-: الدينُ، والشريعة، والحلفُ بها يحتمل أن يكون حقيقةً؛ كقوله: واليهوديةِ، والنصرانيةِ، ونحو ذلك، ويحتمل أن يكون مجازًا، وهو التعليق الذي يطلق عليه الفقهاء: يمينًا مجازًا؛ ¬
للتشبيه باليمين، من حيث اقتضاؤه الحلفَ (¬1) على الفعل أو المنع منه (¬2)؛ كاليمين، وهذا التعليقُ إنما يكون بمعنى الاستقبال، أو بمعنى المُضِيِّ، فإن كان بمعنى الاستقبال (¬3)؛ كقوله: إن دخل (¬4) الدَّار، فهو يهودي أو نصراني، ونحو ذلك؛ فقال الحنفية: فيه الكفارةُ، وإن كان بمعنى المضي؛ كقوله: إن كنت دخلت الدَّار -مثلًا (¬5) -؛ فهو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ، ونحو ذلك (¬6). فاختلفوا فيه -أعني: الحنفية أيضًا-، فقال بعضُهم: لا يكون بهذا القول كافرًا اعتبارًا بالمستقبل، وقيل: يكون كافرًا؛ لأنه تنجيز معنى، فصار كما لو قال: هو يهودي أو نصراني. و (¬7) قال بعضهم: والصحيحُ: عدمُ الكفر فيهما إنْ كان يعلم أنه يمين، وإن كان عندَه أنه يكفر بالحلفِ به، فكفر فيهما؛ لأنه رضي بالكفر، حيث (¬8) قدم على الفعل (¬9). ¬
وأما عندنا، وعند الشافعي: فلا كُفْرَ، ولا كفارةَ، إذا قصدَ به (¬1) اليمينَ، وإنما قال أصحابنا: يستغفرُ اللَّه، ولا شيء عليه. قال بعضهم: لأنها (¬2) ألفاظ عاريةٌ عن أسماء اللَّه -تعالى- وصفاتِه، فلم يجب بالحنثِ فيها كفارةٌ (¬3)؛ كما لو حلف بالكعبة، ولأنه تبرأ (¬4) ممن لا يجوز له التبرِّي منه (¬5)، فلم يلزمه في ذلك كفارة؛ كما لو قال: هو بريءٌ من الكعبة. قلت: وأما التكفيرُ بهذا اللفظ مع قصدِ اليمين، فقد يكونُ أبعدَ من إيجابه الكفارة، واللَّه أعلم. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومن قتلَ نفسَه بشيء، عُذِّبَ به يومَ القيامة": هذا كما تقدَّمَ من كونِ الإنسانِ غيرَ مالكٍ لنفسه، فليس له فيها تصرفٌ بجرحِ، ولا قتلٍ، ولا غيرِه (¬6)، فجنايتُه (¬7) على نفسه كجنايته على غيره، ولا يخلو من إشارة إلى ما ذهب إليه مالك، ومَنْ قال بقوله: من أن القصاص من القاتل بمثلِ ما قَتل به، ¬
محدَّدًا كان أو غيرَ محدَّد، على ما تقدم تقريره (¬1). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا نَذْرَ فيما لا يملكُ ابنُ آدَم": ع: إذا أطلق النذر بالصدقة (¬2)، أو العتق فيه، فإن قيده متى ملكه، لزم في العتق عندنا على مشهور مذهبنا، ولم يلزم على غيره، وهذا الحديث لهذا المذهب حجةٌ (¬3). قلت: ومما ينخرط في هذا السلك تعليقُ الطلاق على النكاح، ومذهبُنا ومذهبُ أبي حنيفة: لزومُه، ويعدم اللزوم قال الشافعيُّ، وربما استَدَلَّ بهذا الحديث وما يُقاربه، ونحن نحملهُ على التنجيز دونَ التعليق، أو نقول بموجب الحديث؛ إذ التقييدُ لا يقع إلا بعدَ الملك، فالطلاق لم يقع قبل الملك، فهو كالنذر قبل الملك المتفق عليه عندنا، وعندَهم كقوله: للَّه عليَّ صدقةُ درهمٍ إن ملكتُه، أو: إن ملكتُ درهمًا، فللَّه عليَّ أن أتصدقَ بِهِ، فاللازم للشافعية على هذا التقدير أحدُ أمرين: إما التفريق بين التعليقين -أعني: تعليق الطلاق، وتعليق النذر-، وإما الرجوع بما (¬4) قلناه في صحة (¬5) لزوم تعليق الطلاق. ¬
الرابع قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولَعْنُ المؤمنِ كقتلِه": مفهومُه (¬1): جوازُ لعن الكافر، وإلا، لم يكن لإضافته إلى المؤمن فائدةٌ، مع أنه يحتمل عندي احتمالًا فيه بعدٌ؛ أن تكون فائدة الإضافة إلى المؤمن التشنيعَ والتبشيع (¬2)؛ كما تقدَّم في قوله -عليه الصلاة والسلام- "يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ"، وإن كان اقتطاعُ مالِ الكافر حرامًا -أيضًا-، ووجهُ البعد في (¬3) هذا: أنا أجمعْنا على تحريم اقتطاع مال الكافر الذمي؛ بخلاف لعنه. فائدة: قال العلماء: لا خلافَ في جواز لعنِ الكافر جملةً من غير تعيين؛ أهلَ ذمة كانوا، أو غيرَهم، قالوا: وكذلك مَنْ جاهر بالمعاصي؛ كشرَّاب الخمر، وَأَكَلة الربا، ومَنْ تشبه من النساء بالرجال، والعكس (¬4)، وغير ذلك مما جاء في الحديث لعنه. وذكر ابنُ العربي: أن لعنَ العاصي المعين لا يجوز اتفاقًا (¬5). قال القرطبي في "جامعه": وقد ذكر بعضُ العلماء خلافًا في لعن العاصي المعينِ. قلت: فلعلَّ ابنَ العربي أرادَ اتفاقَ المذهب خاصة. ¬
ثم قال القرطبي (¬1): قالَ ابنُ العربي: وأما لعنُ العاصي مطلقًا، فيجوز إجماعًا؛ لما رُوي أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ" (¬2). وهذا التشبيه عندي يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون مجازًا من باب المبالغة في التشبيه؛ حثًا على تجنُّب اللعن، وحسمًا لمادته؛ فإن اللعنةَ لا تساوي القتل في الإثم، ولا في العقوبة؛ لأن الإثم يتفاوت بتفاوت مَفْسَدة الفعل، وليس إتلافُ النفس في المفسدة كالإذاية باللعنة (¬3). هذا في الإثم، وأما في العقوبة، فإن اللعنة لا توجب قِصاصًا كما يوجبه القتلُ. والثاني: أن يكونَ حقيقةً، ويكون ذلك راجعًا إلى الإثم، دونَ العقوبة، وهو الذي اختاره ق، ووجَّهه بما معناه وتلخيصُه: أن (¬4) اللعنة ليس مفسدتها مجردَ الإذاية، بل فيها مع ذلك تعريضُه لإجابة (¬5) الدعاء فيه بموافقةِ ساعةٍ لا يُسأل اللَّهُ -تعالى- فيها شيئًا إلا أعطاه، وكما دل عليه الحديث من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا تَدْعُوا ¬
عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ (¬1)، وَلَا تَدْعُوا (¬2) عَلَى أَوْلَادِكُمْ (¬3)، لَا (¬4) تُوَافِقُوا سَاعَةً" الحديث (¬5)، وإذا عَرَّضه باللعنة لذلك، ووقعتِ الإجابةُ، وإبعادُه من رحمة اللَّه تعالى، كان ذلك أعظمَ من قتله؛ لأن القتل تفويتُ الحياة الفانية (¬6) قطعًا، والإبعاد من رحمة اللَّه تعالى أعظمُ ضررًا بما (¬7) لا يُحصى، وقد يكون أعظمُ الضررين على سبيل الاحتمال مساويًا أو مقاربًا لأخفهما على سبيلِ التحقيقِ، ومقاديرُ المصالحِ والمفاسدِ وأعدادُهما أمرٌ (¬8) لا سبيلَ للبشر إلى الاطلاع على حقائقه (¬9) (¬10). قلت: وفيه نظر، وأقلُّ ما فيه: أن (¬11) إجابةَ اللعنة أمرٌ مظنون ¬
قطعًا، ومفسدة القتل محققةٌ، ولا مساواةَ بينَ المظنون والمحقِّق، وإذا عُدم التساوي في المفاسد، عُدم التساوي في الإثم؛ لما تقرر من أن الإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل، واللَّه أعلم. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومَنِ ادَّعى دعوى كاذبةً" إلى آخر الحديث، الدعوى: يُحتمل أن تكون هنا من باب تَدَاعي الخصمين عندَ الحاكم، ويحتمل أن تكون (¬1) من باب ادعاءِ فضيلةٍ ليست فيه، أو علمٍ، أو صلاح، أو غير ذلك من المزايا. فعلى الأول: يكون معنى التكثُّرِ بها راجعًا إلى المال، يضمُّ ما ليسَ له إلى ماله. وعلى الثاني: يكون معناه: تعظيمَ الناس له (¬2) على تقدير صحة ما ادعاه، ويتخرج قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إلا قِلَّةً" على المعنيين؛ إما قلة في ماله؛ لذهاب بركته بضمِّ الحرام إليه، وإما قلَّة قدره وتعظيمه عند الناس؛ لكذبه في دعواه. وقد تقدم لنا: أن دعوى الإنسان والثناء على نفسه بما فيه يُنْقِصُهُ (¬3)، ويحطُّه عن قدره عند الناس، فما ظنُّك (¬4) بالدعوى الكاذبة؟! أعاذنا اللَّه من ذلك بمنِّه وكرمه. ¬
باب النذور
باب النذور الحديث الأول 360 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ (¬1) أَنْ أَعْتكِفَ لَيْلَةً -وَفِي رِوَايةٍ: يَوْمًا- فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ: "فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬2). ¬
* الشرح: النذر: إيجابُ المكلَّف على نفسه ما لم يجبْ عليه في أصل الشرع؛ من فعلٍ، أو تركٍ، يُقال منه: نذرتُ أَنْذُرُ وأَنْذِرُ (¬1)، بضم الذال وكسرها (¬2). وقد أباح اللَّه -تعالى- النذرَ في كتابه العزيز في (¬3) غير ما آية، فقال (¬4) تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] الآيةَ، {قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35]. وأوجبَ الوفاء به، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، قيل: يريد: عقدَ النذر، وعقدَ اليمين، وسائرَ العقود اللازمة في الشرع، وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]. ¬
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] الآيةَ، فأمر تعالى بالوفاء بالنذر عمومًا، وبيَّنَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ذلك ليس على عمومه، فقال: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ (¬1) اللَّه، فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصيَ اللَّه، فَلَا يَعْصِهِ" (¬2)، فنذرُ الطاعة -على تفصيلٍ يأتي- يلزمُ الوفاءُ به عندنا، وإن كان مكروهًا (¬3)، ونذرُ المعصية يحرُمُ الوفاء به (¬4)، ونذرُ المكروه يُكره الوفاءُ به، ونذر المباح يُباح الوفاءُ به، وتركُ الوفاءِ به. ثم إِنَّ نذرَ الطاعة قسمان: مستحبٌّ: وهو المطلَقُ الذي أوجبه الإنسان على نفسه؛ شكرًا للَّه -تعالى- على ما أنعم به عليه فيما مضى، أو لغير (¬5) سبب. ونذر مباحٌ: وهو المقيد بشرط يأتي: فالأول: كقوله: عليَّ نذر كذا (¬6)، أو نذرٌ أن أفعل كذا، أو نذرٌ لا أفعل كذا، أو لا يلفظ بذكر النذر، فيقول: للَّه عليَّ كذا (¬7)، أو أن ¬
لا أفعلَ كذا، أو: إن لم أفعل كذا (¬1) شكرًا للَّه تعالى، الحكمُ في ذلك كلِّه سواءٌ عندنا. قال القاضي أبو الوليد بن رشد رحمه اللَّه: ومن أهل العلم مَنْ ذهب إلى أنه إذا قال: للَّه عليَّ كذا وكذا، ولم يقل: نذرًا: أن ذلك لا يلزمُه؛ لأنه إخبار بكذب. وعند الشافعية قول: إن من نذر نذرًا، ولم يعلقه على شيء: أنه لا يصحُّ، وإن كان المذهبُ عندَهم الصحةَ. وأما النذرُ المباحُ المقيد (¬2) بشرط، فمثل أن يقول: للَّه عليَّ كذا إن شفى اللَّه مريضي، أو قدمَ غائبي، وما أشبهَ ذلك مما لا يكون الشرطُ فيه من فعله، إلا أن يكون شيئًا يوقته أبدًا؛ فإن مالكًا يكرهه، وأما إن قَيَّدَ ما أوجبه على نفسه من ذلك بشرطٍ من فعله يقدر على فعله و (¬3) تركِه؛ مثل أن يقول: إن فعلتُ كذا، أو إن لم أفعلْ كذا، فعليَّ كذا، فليس بنذر، وإنما هو يمينٌ مكروهة، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ" (¬4)، إلا أنها لازمةٌ عند مالك رحمه اللَّه فيما يلزم فيه النذرُ من الطاعات، وفي الطلاق، وإن لم يكن للَّه -تعالى- فيه طاعةٌ؛ لأن الحالف بالطلاق مطلقٌ على ¬
صفة، ويُقضى به عليه، وبالعتقِ المعيَّنِ، بخلاف ما سوى ذلك من الشيء، والصدقة لمُعينين، أو لغير مُعينين، والعتق (¬1) الذي ليس بمعين، إلا أن يخرج ذلك من تقييده مخرجَ النذر؛ مثل أن يقول: إن فعلتُ كذا أو كذا، وإن لم أفعله، للَّه (¬2) عليَّ كذا وكذا (¬3)، فلا يلزمه في الطلاق؛ إذ ليس للَّه فيه طاعةٌ، ويلزمه فيما عدا ذلك من الطاعة، دون أن يُقضى عليه في شيء من ذلك، وإن كان عِتْقًا بعينه؛ قاله ابن رشد رحمه اللَّه. وقد اختلف العلماء فيما نذرَه الكافرُ في حال كفره مما يوجبه (¬4) المسلمون، ثم أسلم (¬5)، فقال (¬6) بعض الشافعية، وأبو ثور: يجب الوفاءُ به، وهو قولُ الطبري، والمغيرة، و (¬7) المخزومي، والبخاري، وحملوا قولَه -عليه الصلاة والسلام-: "أَوْفِ بنذرِكَ" على الوجوب (¬8)، وقاسوا اليمينَ على النذر، فإن كان النذر واليمين مما لا ينبغي الوفاء به، فعليه الكفارةُ فيه؛ على أصلِهم في نذر المعصية. ¬
وذهب مالك، والكوفيون، والشافعية (¬1)، إلى (¬2) أنه لا شيء عليه فيما نذر؛ إذ الأعمالُ بالنيات، ولا نية له حينئذ، ويحمل قولُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أوفِ بنذركَ" على طريق الندب والاستحباب، لا على طريق الوجوب (¬3). أو يقال: إنه -عليه الصلاة والسلام- أمره أن يأتي بعبادة مماثلةٍ لما التزم في الصورة، وهو اعتكافُ يوم، فأطلق عليها وفاء بالنذر (¬4)؛ لمشابهتها إياه، ولأن المقصود قد حصل، وهو الإتيان بهذه العبادة. واحتج الشافعي ومَنْ يُجيز الاعتكافَ بالليل، وبغير صوم، بهذا الحديث، ولا حجةَ لهم فيه؛ لأن العرب تعبر بالليلة عن اليوم، لاسيما وفي الرواية الأخرى: (يومًا) مكان (ليلةً) فتعينَ حملُ الحديث على ذلك. وأما قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7]، فجاء على الأصل، ولابدَّ أن يجيء الشيءُ على أصله في بعض الصور، وهذا كله إذا قلنا (¬5): إن الاعتكاف هنا على بابه، وإلا، فإن كان المرادُ: الاعتكاف الذي هو بمعنى الجوار -وهو ¬
محتمل-، فهذا (¬1) عندنا (¬2) بغير صوم، ويصح ليلًا ونهارًا. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 361 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ" (¬1). ¬
* الشرح: الظاهر: أن هذا النهيَ نهيُ كراهةٍ وتنزيه، لا نهيُ تحريم -كما تقدم-، وكأن سبب الكراهة فيه: أن الناذر يصير ملتزِمًا له، فيأتي به مع نوعٍ من التكلُّف دونَ نشاطٍ وانشراح، أو لكونه (¬1) يأتي به لا على وجه التقرُّبِ (¬2) المحضِ، بل على وجه المعاوضة للأمر الذي طلبه، أو يكون سبب الكراهة: أن بعض الجهلة (¬3) يعتقد أن النذر يردُّ القَدَر، فنهى عنه؛ خوفًا ممن يعتقد ذلك، ويقوي هذا: أن في بعض روايات "مسلم": "أنه لا يردُّ شيئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ (¬4) مِنَ الشَّحِيحِ (¬5) " (¬6)، وفي رواية أخرى: أنه -عليه الصلاة والسلام-: قال: "لا تَنْذِرُوا؛ فَإِنَّ النَّذْرَ لا يُغْنِي مِنَ القَدَرِ شَيْئًا" (¬7). وقوله -عليه الصلاة والسلام- في النذر: "لا يأتي بخير" يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا يردُّ شيئًا من القدر، كما تقدم. ¬
والثاني: قاله ق: أن تكون الباء للسبب؛ كأنه قال (¬1): لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القرب والطاعة من غير غرض يحصل له، وإن كان يترتب عليه خير (¬2)، وهو فعلُ الطاعة التي نذرها، لكن سبب ذلك الخير حصول (¬3) غرضه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإنما يستخرج به من البخيل": ق: الأظهرُ في معناه: أن البخيل لا يُعطي طاعة إلا في عِوَض، ومقابلة تحصل له، فيكون النذر هو السببَ الذي استخرج منه (¬4) تلك الطاعة (¬5). قلت: وقد قال غيرُه نحوَه، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 362 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الحَرَامِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ: "لِتَمْشِ، وَلْتَرْكَبْ" (¬1). ¬
* الشرح: ع: فيه: حجةٌ على أبي حنيفة في إسقاطه المشيَ جملةً. وفيه: حجةٌ لمن ألزم النذر بقوله: إلى بيت اللَّه، أو إلى مكة، أو إلى (¬1) المسجد الحرام، وإن لم يذكر حجًا ولا عمرةً، وكذلك متى ذكر جزءًا من الكعبة، أو البيت، فله حكمُه، وهذا قول مالك وأصحابه. واختلف أصحابه إذا قال: إلى الحرم، أو مكانًا منه، أو مكانًا من مدينة مكة، أو المسجد، هل له حكمُ ذكرِ البيت، أم لا؟ ع: وقال الشافعي: متى (¬2) قالَ: عليَّ المشيُ إلى شيء مما يشتمل عليه الحرمُ، لزمَهُ، وإن ذكر ما خرج عنه، لم يلزمه، وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن. وابنُ حبيب من أصحابنا (¬3) زاد: إلا في (¬4) ذكر عرفة، فيلزمه (¬5)، وإن لم يكن من الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يلزمُه في هذا مشيٌ (¬6)، ولا مسير في القياس، لكن الاستحباب في قوله: إلى بيت اللَّه، أو (¬7) الكعبة، أو مكة فقط ¬
[أن يسير، ولا يلزمه ركوب على أصله] (¬1). وقوله: "حافيةٍ"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لتمش" (¬2): ظاهره عندي: إقرارُها على الحفاء، وإن كان المستحبُّ عندنا لناذره الانتعالُ؛ لأن الحفاءَ ليس بطاعة، فإن أَهْدَى، فحسن، وإن لم يُهْدِ، فلا شيءَ عليه في انتعاله. و (¬3) قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولتركب": ينبغي أن يُحمل على حال العجز عن المشي؛ إذ الركوبُ عندنا لا يجوز مع القدرة على المشي. وتحصيل مذهبنا في المسألة وتلخيصُه: أن من أتى بالمشي في جميع الطريق دفعةً واحدة غيرَ مفرِّقٍ بين أجزائه بمقامٍ خارجٍ عن المعتادِ، أجزأه، وإن (¬4) طول المقامَ في أثنائه؛ فإن كان لضرورة، أجزأه، وإلا، ففي إجزاء ذلك المشي قولان، فإن ركب في بعض الطريق لعجزٍ، وكان يسيرًا جدًا، اغْتُفِر، وعليه دمٌ، وإن كان للركوب مقدارٌ، فإن كان مشيه يسيرًا، وكان قادرًا فيما (¬5) بعد، ألغى (¬6) المشيَ ¬
الأولَ، ووجب عليه مشيٌ ثانٍ، وإن كان عاجزًا عن المشي، اكتفى بالأول، واجتزأ بالهَدْي (¬1)، فإن تساوى ركوبُه ومشيُه، أو كان كلُّ واحد منهما كثيرًا، وجب الرجوعُ؛ لتلافي ما ركبَ، فيركبُ المواضعَ التي مشى فيها (¬2)، ويمشي (¬3) المواضعَ التي ركب. و (¬4) قيل: إن كان موضعه بعيدًا جدًا، لم يلزم الرجوعُ لمشي ما (¬5) ركب، فإن عجز في الثاني، لم يكلَّفِ العودةَ دفعةً أخرى، وإن ركب مختارًا، ففي بطلان مشيه قولان، وإذا قلنا: لا يبطل، فإنه يرجع، ويمشي ما ركب، ويُهدي، ولو مشى في الثاني الطريقَ أجمعَ، فقال (¬6) ابنُ المواز: سقط (¬7) عنه الهدي، قال المتأخرون (¬8): كيف (¬9) يسقطُ الهدي (¬10) المتقررُ في ذمته بمشي غيرِ واجبٍ؟ (¬11) ¬
قلت: ومما يقوي حملَ الحديث على العجز: ما ذكر أبو داودَ في هذا الحديث: "أَنَّها نذرتْ أن تحجَّ ماشيةً، وأنها لا تُطيق ذلكَ"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِ أُخْتِكَ، فَلْتَرْكَبْ، وَلْتُهْدِ بَدَنَةً" (¬1)، وهذا صريحٌ في العجز، واللَّه أعلم، فقد اتفق المذهب مع الحديث، والحمد للَّه. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 363 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّهُ قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَاقْضِهِ عَنْهَا" (¬2). ¬
* الشرح: قيل: إن هذا النذر (¬1) كان نذرًا مطلَقًا، وقيل: كان صومًا، وقيل: كان عتقًا، وقيل: كان صدقةً، واستدل كلُّ قائل بأحاديثَ وردتْ في قصة أُمِّ سعدٍ. ع: ويحتمل أن يكون النذرُ غيرَ ما وردَ في تلك الأحاديث، واللَّه أعلم. قال: وأظهرُ ما فيها: أن نذرَها كان في المال، أو نذرًا مُبْهَمًا (¬2)، ويكون (¬3) حديثُ مَن احتجَّ لذلك برواية مالك، لما قيل (¬4) لها: "أوص"، قالت (¬5): فيم أوصي؟ وإنما المالُ مالُ سعد (¬6)؛ ¬
أي (¬1): فأوصي فيه بقضاء نذري، ويطابق هذا (¬2) قول من روى: "أَفاعتقُ عنها؟ "؛ فإن العتق من الأموال، ومن كفارة النذور (¬3)، وليس فيه قطعٌ على أنه كان عليها عتقٌ كما استدلَّ به من قال: إنه (¬4) كان عليها رقبة؛ ولأن هذا كلَّه من باب الأموال المتفَقِ على النيابة فيها، ويعضده -أيضًا- ما رواه الدارقطني من حديث مالك، فقال له -يعني: النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اسْقِ عَنْهَا المَاءَ". قال: وأما حديثُ الصوم فقد عَلَّلَه أهلُ الصنعة؛ للاختلاف (¬5) في روايته في سنده ومتنه، وكثرة اضطرابه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فاقضه عنها": عامةُ العلماء على أن هذا الأمر ليس على الوجوب، وحملَه أهلُ الظاهر على الوجوب، وألزموا الوارثَ قضاءَ النذرِ عن الميت، صومًا كان أو غيرَه، يلزم ذلك منهم الأقعد فالأقعد، أما لو أوصى بنذر عليه فَرَّطَ فيه، فمذهبُ مالك، وأبي حنيفة، والشافعي: أنه يلزم إخراجه؛ لكن عندنا: من الثلث، وعند غيرنا: من رأس المال؛ كالديون اللازمة. ¬
واختلف أصحابنا فيما لم يفرِّط فيه من ذلك؛ كالزكاة الحالَّة وشبهِها، فعند ابن القاسم: أنها تُخرج إذا أوصى بها من رأسِ المال (¬1)، ولا تلزم إذا لم يوصِ بها، وعند أشهب: تخرج من رأس المال (¬2)، أوصى بها، أم لا (¬3). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 364 - عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ مِنْ تَوْبَتي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" (¬1). ¬
* الشرح: إن قلت: كان الأَوْلى في حقِّ كعب -رضي اللَّه عنه- أن يستشيرَ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويستغني (¬1) برأيه قبل أن يقولَ ما قالَ من الانخلاع؛ كما فعل سعدُ بنُ أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- حيث قال: "أفأتصدَّقُ بثُلُثَي مالي؟ " الحديث (¬2). قلت: (¬3) أجل، و (¬4) لكن هذا كلامُ مَنْ أدهشَه فرحُ التوبة من اللَّه -تعالى- عليه (¬5)، وكأنه (¬6) قامت به (¬7) حالة أوجبتْ عنده أن إتيانه بجميع الطاعات من بعض ما يجب أن تُتلقى (¬8) به تلك النعمةُ (¬9)، حتى أورود الاستشارة بصيغة الحكم، وإنه لجديرٌ بذلك، وحقيقٌ به، ويشير إلى هذا المعنى قولُ الآخَرِ الذي وجد راحلتَه عندَ رأسه، الحديث: ¬
أنتَ عبدي، وأنا ربُّكَ (¬1). وهذا عندي أصلٌ كبير للمتصوفةِ ونحوِهم في عمل الشكران إذا تجددت لأحدهم نعمةٌ، أو رُفعت (¬2) عنه نقمةٌ، ونحو ذلك، وتسميتهم ذلك شكرانًا -أيضًا-، وهو مصدرُ شَكَر. وفي الحديث: دليل على أن إمساكَ ما يحتاج إليه أولى من التصدُّق بجميع ماله، وعليه يدل -أيضًا- قولُه -عليه الصلاة والسلام- أيضًا (¬3) في الحديث الآخر: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى" (¬4)، وقد ذهب بعضُ أصحابنا، وأظنه سحنونًا -رضي اللَّه عنه-: إلى أنه لا يجوز للإنسان أن يتصدَّق بجميع ماله، فجعلَ ذلك واجبًا، لا مندوبًا. والأمثلُ في هذا عندي (¬5): ما قاله العلماء -رضي اللَّه عنهم- من التفصيل بين مَنْ له صبرٌ وطاقة على الإضاقة وغيره، ففي الأول (¬6): يجوز، وفي الثاني: يكره، ولعل قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ ¬
خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] يتنزل على هذا المعنى، فيكون المخصوصون بهذا المدح (¬1) من القسم الأول، دون الثاني. وانظرْ عَتْبَهُ -عليه الصلاة والسلام- على الذي جاء بمثل بيضةِ (¬2) من ذهب، ورميه (¬3) بها، وإنكارِه ذلكَ عليه، إذْ لم يكن له مالٌ غيرُها (¬4)، أو (¬5) عدم إنكاره على أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- حين أتى بماله كلِّه، وهو ثمانون ألفًا على ما قيل، وما ذاك إلا لتبايُن الحالين، واختلاف الوصفين، واللَّه أعلم. ولا يحسُن الاستدلالُ لمذهب مالك بهذا الحديث (¬6): على أن مَنْ نذر أن يتصدق بماله كلِّه: أنه يجزئه منه الثلثُ؛ لأن (¬7) كعبًا -رضي اللَّه عنه- لم يأت بصيغة التنجيز ولابدَّ، والاستدلالُ بما رواه ابنُ وهبٍ من أن رجلًا تصدَّقَ بجميع ماله على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأجاز له منه الثلثَ أحسنُ (¬8). ¬
وتحريرُ هذه المسألة من حيثُ المذهب: أنه إن نذر أن يتصدق بجميع ماله إطلاقًا من غير تعيين، لزمه الثلث؛ لما تقدم، وإن تصدَّقَ بشيء من ماله بعيِنه، فإن كان قدرَ ثلثه، أو أقلَّ، لزمَه، وإن كان أكثرَ من ذلك؛ فعن مالك روايتان: مشهورُهما: التصدُّق بالجميع، وإن كان أكثرَ من الثلث، أو جميعَ ماله. والأخرى: أنه لا يلزمه (¬1) إلا قدرُ ثلثِ ماله. وقال سحنون: سواء عيَّن، أو لم يعيِّن، فإنه يُخرج ما لا يضرُّ به إخراجه، واستحسنه اللخمي؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى" (¬2)، فإن كان جميعَ ماله لا فضل فيه، لم يكن عليه شيء، وإن (¬3) [كان] الفضلُ نصفَه، أو ثلاثةَ أرباعه، أخرجَ جميعَ ذلك الفضل، لأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالوفاء بالنذر (¬4). و (¬5) قالوا: والفرق بين التعيين والإطلاق: أن الذي عين شيئًا من ماله قد أبقى لنفسه بقيةً، ولو ثيابَ طهره، أو ما لا يعلم به من ميراث أو غيره، وأما الذي قالَ: مالي، فإنه لم يُبق لنفسه شيئًا، ¬
وما جهلَه (¬1) أو علمَه، فكان هذا من الحرج المرفوع، فوجب قصرُه على الثلث. قلت: ولعل تخصيصَ (¬2) عدمِ الحرج بالثلثِ دونَ غيره من الأجزاء المتمسك (¬3) بحديث سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- حين استشاره في التصدُّق بثلثي ماله، إلى أن قال-عليه الصلاة والسلام-: "الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ" (¬4). ق: وفيه: دليل على أن الصدقة لها أثرٌ في محو الذنوب، ولأجل هذا شُرعت الكفارات المالية، وفيها مصلحتان، كلُّ واحدةٍ منهما تصلُح للمحو: إحداهما: الثوابُ (¬5) الحاصل بسببها، وقد تحصل به الموازنة، فتمحو أثرَ الذنب. والثانية: دعاء مَنْ يتصدق عليه، فقد يكون سببًا لمحو الذنب (¬6). قلت: في (¬7) هذا نظر؛ فإن (¬8) التوبة تجبُّ ما قبلها، لا سيما هذه ¬
التوبةِ القطعيةِ المستجمعةِ الشرائطَ، فلا ذنبَ حالَ حصولها، فلا يحصل أخذُ محوِ الذنب (¬1) بالصدقة من هذا الحديث، وإنما الظاهرُ من حال كعب -رضي اللَّه عنه- في قصد انخلاعه من ماله: أن ذلك (¬2) على جهة الشكر للَّه -تعالى- على كمال نعمته عليه؛ لنزول توبته -كما تقدم-، لا لمحو الذنب ولابُدَّ؛ إذ الذنب إنما كان قبل حصول التوبة، لا بعدَه، واللَّه أعلم. وقصةُ كعبِ بنِ مالكٍ هذا وصاحبيه، وهما هلالُ بنُ أميةَ الواقفيُّ، ومُرَارَةُ بنُ الربيعِ العامريُّ، ويقال: ابنُ ربيعة، ويقال: ابن ربعي -رضي اللَّه عنهم-، قد خرجه البخاري، ومسلم، وأهل السير (¬3)، وقد ضبطت أسماؤهم بأن (¬4) أولها مكة (¬5)، وآخرها عكة، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب القضاء
باب القضاء الحديث الأول 365 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، (¬1) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا (¬2) مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ" (¬3). وَفِي لَفْظٍ: "وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ" (¬4). ¬
* الشرح: القضاء في اللغة: أصلُه الحكمُ، ومنه قولُه تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]؛ أي: حكم، وقد يكون بمعنى الفراغ من (¬1) الشيء، تقول: قد قُضِيَتْ حاجتي، وضَرَبَه فقضى عليه؛ أي: قتله، كأنه فرغَ منه، وقَضَى نَحْبَه؛ أي: ماتَ، وفرغَ من الدنيا (¬2). قيل: إن هذا الحديث أحدُ الأحاديثِ الأركانِ من أركان (¬3) الشريعة؛ لكثرة ما يدخل تحته من الأحكام (¬4). وقد تقدم الكلام على ذلك في أول الكتاب. ولتعلمْ: أن القضاء والإمامة من فروض الكفايات (¬5)؛ لما فيه من مصالح العباد؛ من فصل الخصومات، ورفع التهارجُ (¬6)، وإقامة الحدود، ¬
وكفِّ المظالم، ونصر (¬1) المظلوم، والأمرِ بالمعروف، والنهي عن المنكر. والحكمُ بالعدل من أفضل البر، وأعلى درجات الأجر، قال اللَّه تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]؛ أي: العادلين، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "المُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬2)، ولكنَّ خطرَه (¬3) عظيم؛ لأن الجَوْرَ في الأحكام واتباعَ الهوى من أعظم الذنوب، وأكبرِ الكبائر، قال اللَّه تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15]؛ أي: الجائرون. يقال: أَقْسَطَ: إذا عَدَلَ، وقَسَطَ: إذا جارَ. وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى (¬4) اللَّهِ، وَأَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ: رَجُلٌ وَلَّاهُ اللَّهُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا، فَلَمْ يَعْدِلْ فِيْهِمْ" (¬5). ¬
قالوا: فالقضاءُ محنةٌ، ومن دخل فيه، فقد ابتُلي بعظيم؛ لأنه عرَّض نفسه للهلاك، إذ التخلصُ منه على من ابتُلي به عسيرٌ (¬1)، ولذلك قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ وَلِيَ القَضَاءَ، فقد (¬2) ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ" (¬3). قال (¬4) الخطابي: معنى الكلام: التحذيرُ من طلبِ القضاء والحرصِ عليه بقول من تصدَّى للقضاء، فقد (¬5) تعرَّض للذبح، فليحذَرْه (¬6)، ولْيتوقَّهُ. وقوله: "بغير سكين" يحتمل وجهين: أحدهما: أن الذبحَ إنما يكون في ظاهر العرف وغالبِ العادة بالسكين، فعدل به -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ظاهر العرف، وصرَفَه عن سنن العادة إلى غيرها؛ ليعلمَ أن الذي أراده بهذا القول إنما هو ما يخاف عليه من هلاك دينه دونَ هلاك بدنه. ¬
والوجه الآخر: أن الذبحَ الوجِىء الذي يقع به إزهاقُ الروح، وإراحةُ الذبيحة وخلاصُها من طول الألم وشدة التعذيب؛ إنما يكون بالسكين؛ لأنه يمرُّ بالمذبوح، ويمضي في مذابحه، فيجهز عليه، وإذا ذُبح بغير سكين، كان ذبحه خنقًا وتعذيبًا، فضرب المثل بذلك؛ ليكون أبلغَ في الحذر من الوقوع فيه، واللَّه أعلم (¬1). فلا ينبغي أن يقدُم عليه إلا مَنْ وثقَ بنفسه، أو تعين للقضاء دونَ غيره، أو أجبره الإمامُ العدلُ عليه. وللإمام العدل إجبارُه إذا كان صالحًا، وله هو أن يمتنعَ ويهربَ بنفسه (¬2)، إلا أن يعلم تَعَيُّنَهُ (¬3) له (¬4)، فيجب عليه القبولُ (¬5)، وذلك أنه (¬6) إذا تحقق أنه ليس في تلك الناحية مَنْ يصلُح للقضاء سواه، فلا يجوز له الامتناعُ حينئذ، لتعيُّنِ الفرض عليه، ولا يأخذه بطلب؛ لما تقدَّم من النهي عن سؤال الإمارة، وأنه إذا سألها، لا يُعان عليها. قال العلماء: فان سألها، لم ينبغ أن يُوَلَّى، وإن اجتمعت فيه شروطُ التولية؛ خشيةَ أن يوكَلَ إلى نفسه، فيعجز؛ لما تضمَّنَه الحديثُ ¬
من أن مَنْ طاب القضاء، وُكِلَ إلى نفسه، واللَّهُ المستعان. وأما شرائطُ القاضي وصفاتُه التي يكون عليها، وما يمنعُ من (¬1) صحةِ التولية من فقدانِ بعضها، وما يقضي عدمُه فسخَها، وإن لم يشترط في الصحة، ولا يشترط في الانعقاد، ولا في (¬2) الإبقاء؛ لكن تُستحب (¬3) في القاضي، فموضعُها كتبُ الفقه المطوَّلَة، واللَّه أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فهو رَدٌّ"؛ أي: مردود، فهو (¬4) كما تقدَّمَ من وقوع المصدرِ موقعَ اسم المفعول. قال الفقهاء: ويُستدل به على إبطالِ جميع العقود الممنوعةِ، وعدمِ وجود ثمراتِها المترتبةِ عليها على تقدير الصحة. ق (¬5): واستُدِلَّ به في أصول الفقه: على أن النهي يقتضي الفسادَ، نعم، [قد] يقع الغلط في بعض المواضع لبعض الناس فيما يقتضيه الحديث من الردِّ، فإنه قد يتعارض أمران، فينتقل (¬6) ¬
من أحدهما إلى الآخر، فيكون العملُ بالحديث في أحدهما كافيًا، ويقع الحكم به في الآخر في محل النزاع، فللخصم (¬1) أن يمنع (¬2) دلالته عليه، فتنبهْ لذلك (¬3). * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 366 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، (¬1) قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِيني مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِيني وَيَكْفِي بَنِيَّ، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ في ذَلِكَ مِنْ (¬2) جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ" (¬3). ¬
* الشرح: فيه: ما تقدم من جواز سماع المفتي كلامَ المرأة. وفيه: جوازُ ذكرِ بعض الأوصاف المذمومة في الغائب عن المجلسِ للضرورة، على ما تقدم تقريرُه في (¬1) كتاب: النكاح، في حديث: "لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ". وقولها: "رجل شحيح": يقال: شَحِيحٌ، وشَحَاحٌ، بفتح الشين. قال الجوهري: والشُّحُّ (¬2): البُخْلُ مع حرصٍ. ¬
ع: والشحُّ عندهم في كل شيء، وهو أَعَمُّ من البخل، وقيل: الشحُّ لازمٌ كالطبع (¬1). قال الجوهري: يقال: شَحِحْتَ -بالكسر- تشَحُّ، وشَحَحْتَ -بالفتح (¬2) - تَشُحُّ وتَشِحُّ (¬3). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "خذي من ماله" إلى آخره: استدل به بعضُهم على جواز الحكم على الغائب (¬4)، ووُهِّمَ؛ لأن هذا من باب الفتوى، لا من باب الحكم؛ إذ الحكم يشترط فيه إثباتُ السببِ المسلط على الأخذ من مال الغريم، ولا يحتاج إلى ذلك في الفتوى. ق: وربما قيل: إن أبا سفيان كان حاضرًا في البلد، ولا يُقضى على الغائب الحاضرِ في البلد مع إمكان إحضاره، وسماعِه للدعوى (¬5) عليه، في المشهور من مذهب الفقهاء، فإن ثبت أنه كان حاضرًا، فهو وجهٌ يبعد الاستدلالَ عند الأكثرين من الفقهاء، وهذا يبعُد ثبوته، إلا أن يؤخذ بطريق الاستصحاب لحال حضوره فيه (¬6). ¬
وفيه: دليلٌ على مسألة الظفرِ بالحقِّ وأخذِه من مراجعة مَنْ هو عليه، ولم يدل (¬1) الحديث على كونها من جنس الحق، ولا من غيره (¬2). وهو أحدُ الأقوال عندنا؛ فإنه قد رُوي عن مالك: أن له أخذَ مقدار دَينه من الجنس، إن كان الغريمُ غيرَ مِدْيان، أو مقدارَ ما يخصُّه لو حاصَصَ بدَينه إن كان مِدْيانًا. ورُوي: ليس له ذلك، لا من الجنس، ولا من غيره، على أَيِّ تقديرٍ كان. قلت: ووجهُه (¬3): قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" (¬4)، وأظنه المشهورَ من المذهب. وروي: أن له ذلك، وإن كان من غير جنسه، يتحرَّى فيه، ويأخذ مقدارَ ما يستحق. قلت: ووجْهُهُ (¬5) حديثُ هندٍ هذا على ما تقدم (¬6)، وفيه نظر، فإن ¬
حقَّها وحقَّ بنيها غيرُ متعينِ (¬1) الجنس ولابدَّ، فلا يحسُن الاستدلالُ به على ذلك، واللَّه أعلم، واختاره القاضيان: أبو الحسن، وأبو بكر. قال أصحابنا: ولو جحدَ مَنْ عليه الحقُّ، وله على المستحق مثلُه، والحقان حالَّان، جاز له أن يجحدَ على الرواية الأولى و (¬2) الأخيرة، ويحصل التقاصُّ. وفيه: دليلٌ لما نقوله من عدم تقدير النفقة بمقدار معينٍ، وإنما هي على قدر الكفاية، خلافًا لمن جعلها مقدَّرةً؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "خُذِي (¬3) (¬4) بالمعروفِ" الحديث. ق: وفيه: دليلٌ على تصرُّف (¬5) المرأةِ في نفقة ولدِها في الجملة. وقد يستدل به مَنْ يرى (¬6) أن للمرأة ولايةً على ولدها من حيثُ إن صرفَ المال إلى المحجور (¬7) عليه، أو تمليكَه له (¬8) يحتاجُ إلى ولاية. قال: وفيه نظر؛ لوجود الأب، فيحتاج إلى الجواب عن هذا ¬
التوجيه المذكور، فقد (¬1) يقال: إن تعذر استيفاء الحقِّ من الأب، أو غيره (¬2) مع تكرر الحاجة دائمًا يجعلُه كالمعدوم، وفيه نظر أيضًا (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 367 - عَنْ أُمِّ سَلَمَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَلَا إِنَّمَا أَنا بَشَرٌ، وَإِنَّما يَأْتِيني الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أبلغ (¬1) (¬2) مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّما هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ، فَلْيَحْمِلَهَا، أَوْ يَذَرْهَا (¬3) " (¬4). ¬
* الشرح: الجَلَبُ والجَلَبَة: -بفتح اللام (¬1) -: رفع الأصوات، يقال منه: جَلَّبوا، بالتشديد. والخَصْمُ: معروف، يستوي فيه الواحدُ والجمع (¬2)، والمذكر والمؤنث؛ لأنه في الأصل مصدر. قال الجوهري: ومن العربِ من يُثنيه ويجمعه، فيقول: خَصْمان، وخُصوم (¬3). ¬
قلت: ومثلُه عَدُوٌّ، وصَديقٌ، وضيفٌ (¬1). والحُجْرَةُ: -بضم (¬2) الحاء وسكون الجيم-، وأصلها حظيرة الإبل، ومنه حُجرة الدار، تقول (¬3): احْتَجَرْتُ حُجْرَةً؛ أي: اتخذتُها، والجمعُ حُجَرٌ، وحُجُرَاتٌ؛ مثل: غُرْفَة، وغُرَف، وغُرُفات (¬4) (¬5). والبَشَر: الخلق، سمي (¬6) بذلك؛ لظهور بشرته، دون ما عداه من الحيوان. ع: فيه: تنبيه على حالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون من الغيب والبواطن (¬7) إلا ما أطلعهم اللَّه عليه، وأنه منهم، وأنه يجوز عليه في أمور الظاهر ما يجوز عليهم (¬8). قلت: لا اختصاصَ (¬9) للبشر بعدم الاطلاع على المغيبات، بل (¬10) الملائكةُ والجنُّ وغيرُهم كذلك، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ¬
وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وكلام ع يُشعر بالاختصاص ظاهرًا، واللَّه أعلم. ومعنى أَلْحَنَ (¬1) هنا: أَفْطَنَ (¬2) لها، ويجوز عندي أن يكون معناه: أفصحَ تعبيرًا (¬3) عنها، وأظهرَ احتجاجًا لها، حتى يُخيل إليه أنه مُحِقٌّ، وهو في الحقيقة مُبْطِلٌ، واللَّه أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فَلْيَحْمِلْها، أو يَذَرْها (¬4) ": معناه -واللَّه أعلم-: فيختار أحدَ الأمرين: إما أن يستمرَّ على ما قُضي (¬5) له به من حقِّ أخيه المسلم، أو (¬6) يُعَذَّبَ بالنار على ذلك، أو يرجعَ إلى الحق، ويخرجَ عن (¬7) ذلك بإيصال (¬8) حقِّ غريمه إليه، فينجو من عذاب النار بسبب ذلك، ومعنى هذا التخيير في الظاهر: التحذيرُ من الوقوع (¬9) فيما لا يحلُّ له؛ إذ العاقلُ لا يختار الهلاكَ على النَّجاة، وكأن ¬
المعنى: لا (¬1) بدَّ من اختيارك أحدَ الأمرين، فاخترْ أيهما شئت، وهذا في نهاية (¬2) التحذير؛ كما تقدم. ولعله يؤخذ من هذا الحديث: وعظُ الحاكم للخصم قبلَ التحاكم، لاسيما إذا قامت عنده قرينةٌ بإبطال أحدِ الخصمين، واللَّه أعلم. فائدة تصريفية: اعلمْ: أن (يذرها) أُميتَ ماضيه استغناءً (¬3) عنه بَتَرْكٍ (¬4)، وكذلك يَدَعُ. قال الجوهري: وأصله (¬5): وَذِرَهُ يَذَرُهُ، مثل وَسِعَهُ يَسَعُه (¬6)، وقد رأيتُ حاشية على هذا الموضع من "الصحاح" نصها (¬7): قال شيخنا أبو اليمن الكنديُّ رحمه اللَّه: هذا وهمٌ من المصنف، حملَه على فتح الذال من المستقبل، وإنما فُتح حملًا على أخيه، وهو يَدَعُ؛ لمصاحبته إياه في الحذف (¬8) والاستقبال. قلت: وهذا هو الحقُّ -إن شاء اللَّه-، وإلا، كان يلزم -على ¬
ما قاله الجوهري- ثبوتُ الواو في المضارع إذا (¬1) لم يقع بين ياء وكسرة (¬2)؛ كَوَجِلَ يَوْجَلُ، واللَّه أعلم. ق: وفي الحديث: دليل على أن الأحكام على ظاهرها، وإعلامُ الناس أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك كغيره، وإن كان يفترق مع (¬3) الغير في اطلاعه على ما يُطلعه اللَّهُ عليه من الغيوب الباطنة، وذلك في أمور مخصوصة، لا في الأحكام العامة، والحصرُ هنا مخصوصٌ لا عامٌّ؛ على ما تقدم (¬4) أولَ الكتاب. وفيه: دليلٌ على أن الحكم لا ينفُذُ ظاهراَّ وَباطنًا معًا مطلَقًا، وأن حكم القاضي لا يغير حكمًا شرعيًا في الباطن. ق: واتفق أصحاب الشافعي: على أن الحنفيَّ (¬5) إذا قضى بشفعة الجار (¬6)، أخذها في الظاهر، واختلفوا في حلِّ (¬7) ذلك في الباطن على وجهين، والحديثُ عامٌّ بالنسبة إلى سائر الحقوق، والذي (¬8) يتفقون ¬
عليه -أعني: أصحاب الشافعي-: أن الحججَ (¬1) إذا كانت باطلةً في نفس الأمر؛ بحيثُ لو اطلع عليها القاضي، لم يجز له الحكمُ بها: أن ذلك لا يؤثر، وإنما وقع التردُّدُ في الأمور الاجتهادية إذا خالف اعتقادُ القاضي اعتقادَ المحكوم عليه (¬2)؛ كما قلنا في شفعة الجار، واللَّه أعلم (¬3). قلت: وأما مذهبنا، فلا أعلم فيه خلافًا (¬4): أن حكم القاضي لا يُغَيِّرُ حكما شرعيًا، فلو أقام (¬5) شهود زورٍ على نكاح امرأة، فحكم له بها، فهي حرامٌ عليه (¬6)، وكذا (¬7) لو حكم الحاكم الحنفيُّ (¬8) للمالكي (¬9) بشفعة الجوار، لم يحلَّ له الأخذُ بها عندنا، قولًا واحدًا. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 368 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي بَكْرَةَ، قَالَ: كتَبَ أَبي، وَكَتَبْتُ لَهُ إِلَى ابْنِهِ عُبَيدِ اللَّه بْنِ أَبي بَكْرَةَ، وَهُوَ قَاضٍ بِسِجسْتَانَ: أَنْ لَا تَحْكُمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ (¬1) بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" (¬2). وَفي رِوَايَةٍ: "لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ (¬3) بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" (¬4). ¬
* الشرح: فيه: دليلٌ على أن الكتابة بالحديث؛ كالسماع من الشيخ في وجوب العمل به، وأما في الرواية، فقد اختلفوا فيها إذا كانت مجردةً عن الإجازة، فمنع الروايةَ بها قومٌ، وأجازها كثيرون (¬1) من المتقدمين والمتأخرين (¬2)؛ وهو الصحيحُ المشهور بين أهل الحديث. وأما المقرونةُ بالإجازة، نحو: أجزتُك بما كتبتُ لك، أو إليك (¬3)، أو به إليك، ونحوه من عبارة الإجازة (¬4)، فهذه (¬5) في الصحة والقوة ¬
كالمناوَلَة (¬1) المقرونة بذلك، وسواءٌ في هذا (¬2) كله كتبَ الشيخُ بخطه، أو بأمرِه لغائبٍ أو حاضرٍ، ثم يكفي في ذلك معرفتةُ خطِّ الكاتب، ومنهم من شرطَ البينةَ، واستُضعف. ثم الصحيح أنه يقول في الرواية بالمكاتبة: كتب إليَّ فلانٌ، قال: حدثنا فلانٌ، أو أخبرنا، وجَوَّدَه (¬3) الليثُ، ومنصورٌ، وغيرُ واحد من علماء المحدِّثين. ثم (¬4) الحديثُ نصٌّ في منع قضاء الغضبان حالَ غضبه، قالوا: لما يحضر النفسَ بسبب الغضب من التشويش (¬5) الموجبِ لاختلال (¬6) النظر، وعدمِ استيفائه على الوجه المطلوب. وقاس الفقهاءُ عليه (¬7) ما كان في معناه من المشوشات (¬8)؛ كشدة الجوع والعطش، أو النوم، أو (¬9) مدافعة الأخبثين، وغير ذلك ¬
مما في معناه (¬1). ولو (¬2) حكمَ مع الغضب وما ذُكر معه، نفذ (¬3) إذا صادف الحقَّ، وكأَنَّ تخصيصَ الغضب في الحديث دونَ سائر المشوشات؛ لأنه أشدُّها؛ لاستيلائه على النفس، وصعوبة مقاومته (¬4). فإن قلت: كيف وجهُ الجمعِ بين هذا الحديث، وحديثِ شِرَاجِ الحَرَّة، وأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حكمَ بعد أن غضب؟ (¬5) قلت: الذي يقوى (¬6) في نفسي (¬7)، ولا يتجه عندي غيره: أن ذلك مخصوصٌ بغير المعصوم من اختلال الحكم عند الغضب ونحوه، وأما النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فغيرُ داخل في هذا؛ إذ لا يقول في الرضا والغضب إلا ¬
حقًا؛ كما جاء في الصحيح (¬1)، حين قال بعضُ الصحابة: "أكتبُ (¬2) عنكَ ما تقولُ في الرضا والغضب؟ " الحديث (¬3)، وأما قولُ مَنْ قال: لعلَّه علمَ الحكمَ قبل أن يغضَب، أو لعلَّه لم ينته الغضبُ به إلى الحدِّ القاطعِ عن سلامةِ الخاطرِ، فضعيفٌ واهٍ (¬4) عندي، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 369 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكبَرِ الكَبَائِرِ؟ " ثَلَاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: "الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ"، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: "أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ"، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا؛ حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: ظاهرُ الحديث: تفاوتُ الذنوب، وانقسامُها (¬1) إلى كبيرة، وأكبرَ منها، وعليه يدلُّ قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] الآيةَ، وهذا حجة على مَنْ قال من السلف: إن كلَّ ما نهى (¬2) اللَّه عنه كبيرةٌ. قال ابنُ عطية: واختلف أهلُ العلم في الكبائر، فقال عليُّ بنُ أبي طالب -رضي اللَّه عنه-: هي سبع: الإشراكُ باللَّه، وقتلُ النفس، وقذفُ المحصنات (¬3)، وأكلُ مال اليتيم، وأكلُ الربا، والفرارُ من الزحف، والتغرُّبُ بعدَ الهجرة. وقال عبيدُ بنُ عمير (¬4): الكبائر سبعٌ (¬5)، في كل منها آيةٌ من كتاب اللَّه تعالى، وذكر يقول (¬6) علي -رضي اللَّه عنه-، وجعل الآيةَ في التغرب قولَه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ¬
الْهُدَى} الآية [محمد: 25]. ووقع في "البخاري" في كتاب: الحدود، في باب: رمي (¬1) المحصنات: "اتَّقُوا السَّبع المُوْبِقَاتِ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، [وقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ] (¬2) ". وقال عبد اللَّه بنُ عمرَ: هي تسعٌ: الإشراكُ باللَّه، والقتلُ، والفرارُ، والقذفُ، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، وإلحادٌ (¬3) في المسجد الحرام، والذي يستسحِرُ (¬4)، وبكاءُ الوالدينِ من العقوق (¬5). وقال عبد اللَّه بنُ مسعود، وإبراهيمُ النخعيُّ: هي جميعُ ما نهى اللَّه عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آيةً منها، وهي (¬6): {إِنْ تَجْتَنِبُوا} [النساء: 31]. ¬
و (¬1) قال عبد اللَّه بنُ مسعود -أيضًا- هي أربع: الإشراكُ باللَّه، والقنوطُ من رحمة اللَّه، واليأسُ من روح اللَّه، والأمنُ من مكر اللَّه (¬2). ويروى (¬3) عن ابن مسعود -أيضًا (¬4) -: هي ثلاثٌ: القنوطُ، واليأسُ (¬5) (¬6)، والأمنُ المتقدمةُ (¬7). وقال ابن عباس -أيضًا-، وغيره: الكبائر: كلُّ ما وردَ عليه وعيدٌ بنارٍ، و (¬8) عذاب، أو لعنةٍ، وما أشبهَ ذلك. وقالت فرقةٌ من الأصوليين: هي في هذا الموضع (¬9): أنواعُ الشركِ (¬10) التي لا تصح (¬11) معها الأعمال. ¬
وقال رجلٌ لابن عباس: أخبرني عن الكبائر السبع، فقال: هي إلى (¬1) السبعينَ أقربُ (¬2). وقال ابنُ عباس: كلُّ ما نهى اللَّه عنه فهو كبيرةٌ (¬3). يدخل فيها الربا، وشربُ الخمر، والزورُ، والغيبةُ، وغيرُ ذلك مما قد نُصَّ عليه في أحاديث، لم يقصدْ حصرُ (¬4) الكبائر بها، بل (¬5) ذُكر بعضُها مثالًا، وعلى هذا القول (¬6) أئمةُ الكلام: القاضي، وأبو المعالي، وغيرهما. قالوا: وإنما قيل: صغيرة بالإضافة إلى أكبرَ منها، وهي في نفسها كبيرة من حيثُ إن المعصيَّ (¬7) بالجميع (¬8) واحدٌ. قال: وهذه الآية -يعني: قوله تعالى-: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] يتعاضد معها حديثُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتاب: ¬
الوضوء من "مسلم" عن عثمان -رضي اللَّه عنه-، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول (¬1): "مَا مِنْ مُسْلِم تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَة، فَيُحْسِنُ وُضُوْءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا؛ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يَأْتِ كَبِيرَة، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ " (¬2). واختلف العلماءُ في هذه المسألة. فجماعة من الفقهاء وأهلِ الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنبَ الكبائرَ، وامتثلَ الفرائضَ، كُفِّرَتْ صغائرُه؛ كالنظرِ وشبهِه، قطعًا بظاهرِ هذه الآية، وظاهرِ الحديث. وأما الأصوليون، فقالوا: لا يجبُ (¬3) على القطع تكفيرُ الصغائرِ باجتناب الكبائر، وإنما محملُ (¬4) ذلك على غلبة الظن، وقوةِ الرجاء، والمشيئة ثابتة، ودلَّ على ذلك؛ أنا لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثلِ الفرائضِ بتكفير (¬5) صغائره (¬6) قطعًا، لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنْ لا تباعَةَ فيه، وذلك نقض لعُرى الشريعة، ومحملُ ذلك عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر، والآيةُ (¬7) التي قيدت الحكمَ، ¬
ورُدَّ إليها هذه المطلَقاتُ كلَّها: قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، انتهى كلام ابن عطية رحمه اللَّه تعالى (¬1). قلت: وهذه الكبائرُ الثلاثُ المذكورة في الحديث متقاربةٌ (¬2) -أيضًا (¬3) - في أنفسِها، و (¬4) أعظمها، بل أعظمُ الكبائر مطلقًا الإشراكُ باللَّه، مع أنه يحتمل أن يراد به هنا: مطلَقُ الكفر، وإنما خُصَّ بالذكر؛ لغلبتِهِ في الوجود (¬5)، لاسيما في بلاد العرب، فذكر تنبيهًا على غيره من أنواع الكفر، ويبعدُ أن يُراد به خصوصُه؛ لأن ثَمَّ من الكفر (¬6) ما هو أشدُّ قبحًا منه، وهو كفرُ التعطيل؛ وكأنه -واللَّه أعلم- إنما سُمِّيَ كبيرة؛ تغليبًا لما ذكر معه عليه، وإلا، فكلُّ الصيدِ في جوف الفَرا. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وعقوق الوالدين": لا شك أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر؛ لما لهما من الحق على الولد، وقد صرح الكتابُ العزيز بالوصية بهما (¬7)، والشكر لهما، حتى قرن ¬
-تعالى- شكرَهما بشكره (¬1)، فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، وقال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} [الإسراء: 23]، الآياتِ، هذا من حيث الجملة. وأما من حيث التفصيلُ، فإنه يعسُر (¬2) ما يجب من حقهما على التعيين (¬3). قال الشيخ عز الدين رحمه اللَّه: ولم أقف في عقوق الوالدين، ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أَعتمدُ عليه؛ فإنَّ ما يحرُم (¬4) في حق الأجانب، فهو حرامٌ في حقهما، وما يجبُ للأجانب، فهو واجبٌ لهما، ولا يجب على الولد طاعتُهما (¬5) في كلِّ ما يأمران به، ولا في كل ما ينهيان عنه، باتفاق العلماء، وقد حرم على الولد السفر إلى الجهاد إلا بإذنهما؛ لما يشق عليهما من توقُّع قتله، أو قطعِ عضوٍ من أعضائه، ولشدة تفجُّعهما على ذلك (¬6)، وقد أُلحق بذلك كلُّ سفر يخافان فيه على نفسه، أو على عضوٍ من أعضائه، وقد (¬7) ساوى ¬
الوالدان (¬1) الرقيقَ (¬2) في النفقة، والكسوة، والسكنى (¬3). وقال ابنُ عطية عند قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]: وقد وطأت الآية الأولى -يعني: قوله تعالى- (¬4): {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]: الأمر ببر الوالدين وتعظيمه، ثم حكمَ بأن ذلك لا يكون في الكفر والمعاصي. وجملةُ هذا الباب: أن طاعة الوالدين لا تُراعى في ركوب (¬5) كبيرة، ولا في ترك (¬6) فريضة على الأعيان، ويلزم طاعتُهما في المباحات، ويُستحسن (¬7) في ترك الطاعاتِ الندبِ، ومنه أمرُ جهاد الكفاية، وإجابةُ الأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب؛ لكن يُعلل (¬8) بخوف هلكها (¬9) عليه، (¬10) ونحوها مما (¬11) يبيح قطع الصلاة، ¬
فلا يكون غيره (¬1) أقوى من الندب. وخالف الحسنُ في هذا التفصيل، فقال: إن منعته أُمه من شهود العِشاء الآخرةِ شفقةً (¬2) (¬3)، فلا يُطعها (¬4) (¬5). وقد صنف الناس في بر الوالدين، وهذا ألخَصُ ما رأيت، واللَّه أعلم. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وشهادة الزور، وقولُ الزور" (¬6): إن قلت: ما الحكمةُ في اهتمامه -عليه الصلاة والسلام- بشهادة الزور، أو قول الزور (¬7)، وشدة التنفير عن ذلك، وقد ذكر معها ما هو أشدُّ مفسدةً منها، وهو الإشراك، ولم يؤكِّدْهُ ما أَكَّدَ شهادةَ الزور، ولا نفَرَ عنه تنفيرَه عنها (¬8)؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن شهادة الزور لا تنفِرُ النفسُ عنها نفورَها عن الإشراك؛ ¬
إذ لا يقع في ذلك أذى (¬1) المسلمين اختيارًا وقصدًا، ففي الطباع وازعٌ (¬2) عنه؛ بخلاف شهادة الزور، فإنها أسهلُ (¬3) وقوعًا، والتهاونُ بها أكثرُ، والحواملُ عليها متعددة من العوامل (¬4)، والرشا، وغير ذلك، فاحتيج إلى توكيدها والاهتمام بها ما لم يُحتج إلى الإشراك، اكتفاءً بما في جِبِلَّة المسلمين من النفور عنه. والثاني: أن شهادة الزور -وإن كانت مفسدتها أخفَّ من مفسدة الإشراك-، فهي متعدِّية الفساد إلى غيرِ الشاهد، وهو (¬5) المشهودُ له، والمشهودُ عليه، ومفسدةُ الإشراك قاصرة على صاحبها، فكان الاهتمام بها آكدَ لذلك، واللَّه أعلم. وأما عقوقُ الوالدين فالطبعُ صارفٌ عنه، فاكتفى بذلك عن توكيده، واللَّه أعلم (¬6). الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وقول الزور" فيه عندي أدنى إشكال، وذلك أنه لا يخلو أن يُراد يقول الزور: شهادةُ الزور خاصة، أو يراد: قولُ الزور مطلقًا؛ شهادةً كانت أو كذبًا، ونحو ¬
ذلك، فإن كان الأول، فلمَ أتى بعده بشهادة الزور، بل لِمَ لَمْ يكتفِ بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وشهادةُ الزو" عن قول الزور؛ لصراحتها بالمعنى المقصود من ذلك (¬1)، ونَصّيِّتِها عليه؛ لأن كلَّ شهادةِ زورٍ قولُ زور، وليس كلُّ قولِ زورٍ شهادةَ زور، وإن كان الثاني، لزم (¬2) أن تكون الكذبةُ الواحدة مطلقا كبيرةً، وليس كذلك، فإنه قد نص الفقهاءُ على أن (¬3) الكذبة الواحدة وما يقاربها لا تُسقط العدالةَ، ولو كانت كبيرةً، لأسقطت. فإن قلت: لم لا يحمل (¬4) قولُ الزور على الكذب بخصوصه (¬5)، فيتعين ذكرُ شهادة الزور بعدُ، فيحصل فائدتان: النهيُ عن الكذب بخصوصه، والنهيُ عن شهادة الزور، أو يُحمل قولُ الزور على إطلاقه، وشهادةُ الزور على بابها، ويكون ذلك من باب ذكر الخاصِّ بعد العام؟ قلت: لو كان كما قلت في الوجهين، للزم أن يكون أكبرُ الكبائر أربعًا، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ثلاثًا (¬6)، فيثبت وجودُ ¬
الإشكال، فعلى المتأمل طلبُ صوابه (¬1). * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس 370 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى ناَسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ (¬1)، وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ" (¬2). ¬
* الشرح: المقصودُ المهمُّ (¬1) من هذا الحديث: معرفةُ المدَّعي، والمدَّعى عليه؛ فإن الحكم متوقفٌ على ذلك، وقد قال أصحابنا: المدَّعي: مَنْ تجردتْ دعواه من أَمْر بصدقه، أو كان أضعفَ المتداعِيَيْنِ. والمدَّعى عليه: من ترجَّحَ جانبهُ بمعهودٍ أو أصلٍ. فإذا ادعى أحدُهما ما يخالف العرفَ، وادعى الآخر ما يوافقه، فالأولُ المدعي (¬2)، وكذلك كل (¬3) من ادعى وفاءَ ما عليه، أو ردَّ ما عندَه، من غير أمر بصدق (¬4) دعواه، فإنه مدَّع، إلا المودعَ إذا ادَّعى ردَّ الوديعة، فإنه يصدق؛ لترجُّح (¬5) جانبه بالاعتراف له (¬6) بالأمانة، فإن أشهدَ عليه، ¬
فهل هو بأن على ائتمانه (¬1) أم (¬2) لا؟ فيه (¬3) خلاف. ثم الدعوى المسموعةُ هي الدعوى الصحيحة، وهو أن يكون المدعى به معلوما محقَّقًا، فلو قال: في عليه شيءٌ، لم تُسمع دعواه، وكذلك لو قال: أظنُّ أن في عليك كذا وكذا (¬4)، أو لك (¬5) عليَّ كذا وكذا. والحديثُ دالٌّ على مطلق إيجاب اليمين على المدَّعى عليه، وإن غلب على الظن صدقُ المدعي، لا يدل لفظُه على أكثر من ذلك. وهذه كلُّها تصرفات من الفقهاء فيه من تخصيص عموم، وكذلك اشتراط الخلطة بين المتداعيين (¬6)، أو ما يقوم مقامَها (¬7) في اليمين عندنا، وقد اختُلف في حقيقتها. فقال ابن القاسم: هي أن تُسالفه (¬8)، أو تُبايعه، أو تشتري (¬9) منه ¬
مرارًا، وإن تقابضا في ذلك (¬1) الثمن وإن تفاصلا قبل التفرق، وقاله أصبغ. وقال سحنون: لا يكون (¬2) خلطةً إلا بالبيع والشراء من الرجلين المتداعيين. وقال الشيخ أبو بكر: معنى ذلك: أن ينظر إلى دعوى المدَّعي، فإن كان يشبه (¬3) أن يدَّعي بمثلها على المدَّعى عليه، أُحلف له، وإن كانت ممن لا تشبه (¬4)، وينفيها العرف، لم يحلف، إلا أن يأتي المدعي بلطخ (¬5). وقال القاضي أبو الحسن: ينظر (¬6) إلى المتداعيين، فإن كان المدعى عليه يشبه أن يعامل المدعي، أُحلف. ومنهم من قال: المسألةُ على ظاهرها، ولا يحلف إلا بثبوت الخلطة بينهما والمعاملة، وفي ذلك فروع وتفصيل موضعها كتب الفقه المطولة. أما لو ادعت المرأة على زوجها طلاقًا، والعبدُ على سيده عتقًا، ¬
لم يحلفا، وكذلك لو ادعى الرجل على امرأة نكاحًا، لم يجب عليها يمين في ذلك، قال سحنون: إلا أن يكونا طارئين. وفي ذلك كله خلافٌ لغيرنا (¬1)، أخذًا بعموم هذا الحديث. قال الإمام: وذلك لو وجب اليمين لكلِّ أحدٍ على كل (¬2) أحدٍ، من غير اشتراط خلطة، لابتذلَ السفهاءُ (¬3) العلماءَ و (¬4) الأفاضلَ بتحليفهم مرارًا كثيرة في يوم واحد، فجُعلت مراعاةُ الخلطة حاجزًا من ذلك، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
كتاب الأطعمة
كِتْابُ الْأَطْعِمَة
[باب]
كِتْابُ الأطعمة الحديث الأول 371 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيهِ إِلَى أُذُنيهِ-: "إِنَّ الحَلَالَ بيِّنٌ، وَإِنَّ (¬1) الحَرَامَ بيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعيِ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ (¬2) فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، إِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ" (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: هذا الحديث أحدُ الأحاديث التي بُني عليها الدين -كما تقدم-، وهو أصلٌ في باب الورع والتحفُّظ، وتركِ الشبهات على ما سيأتي. الثاني: الحلالُ في اللغة: مصدرُ حَلَّ لكَ (¬1) الشيءُ، يَحِلُّ حِلاًّ وحلالًا. وهو في الشرع: ما قام الدليلُ على إباحته، ولم يمنع منه مانعٌ شرعي، والحرامُ عكسُه، والشبهاتُ دائرة بينهما. ¬
ق: وللشبهات مثارات، منها: الاشتباه في الدليل الدال على التحريم، والتحليل، وتعارض الأمارات والحجج، ولعل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يعلمهنَّ (¬1) كثيرٌ من الناس" إشارة إلى هذا المثار، مع أنه يحتمل أن يراد: لا تُعلم عينُها، وإن عُلم حكمُ أصلِها في التحريم والتحليل، وهذا -أيضًا- من مثار الشبهات. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فمن اتقى الشُّبهاتِ، استبرأ لدينه وعرضِه" أصلٌ في الورع. قلت: وقد أوردَ بعضُ الناس (¬2) إشكالًا على قاعدة الورع، فقال ما معناه: إن كان هذا الشيء مباحًا، كان مستويَ الطرفين (¬3)، وما استوى طرفاه، يستحيل الورعُ فيه، لأن الورع يرجَّح (¬4) فيه جانبُ الترك، والرجحانُ مع التساوي محالٌ، وجمع بين المتناقضين، وأفرد في المسألة تصنيفًا. والجواب عن هذا من وجهين. أحدهما: أن لنا أولًا أن نمنعَ أن كلَّ مباح مستوي الطرفين؛ إذ المباح قد يُطلق على ما لا حرجَ في فعله، وإن لم يكن مستوي الطرفين، فالمباحُ على هذا التقدير أعمُّ من كونه مستوي الطرفين (¬5)، ¬
والدالُّ على العام لا يدلُّ على الخاصِّ بعينِه (¬1). وقد ذهب بعضُ أهل الأصول (¬2) إلى حصر الأحكام الشرعية في قسمين: التحريم، والإباحة، وفُسرت الإباحةُ هنا بجواز (¬3) الإقدام الذي يشمل الوجوبَ، والندبَ، والكراهةَ، وخرج على ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَبْغَضُ المُبَاحِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ" (¬4)؛ فإن البغضةَ تقتضي (¬5) رجحان الترك، والرجحانُ مع التساوي محالٌ -كما تقدم-، سلَّمنا أنه مستوي الطرفين؛ لكنه -وإن كان مستوي الطرفين حالًا-، فهو ليس بمستوي الطرفين مآلًا. بيان ذلك: أن النفس إذا (¬6) تعودت الاستغراقَ في المباحات، والانهماكَ في ملذوذ (¬7) الشهوات، وإن كانت مباحةً، خيف عليها بسبب ذلك الوقوعُ في المكروه، أو (¬8) الحرام؛ لأنه ليس (¬9) بعدَ المباح مما ¬
هو مطلوبُ التركِ غيرُهما (¬1)، ويكفي على ذلك شاهدًا قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ حامَ حولَ الحِمى يوشك أن يقعَ فيه"، وأين مَنْ جعلَ بينه وبين الحرام حاجزًا ممن لم يجعلْه؟! الثاني (¬2): أنَّا قد أجمعنا على أن الخروج من الخلاف أولى من الدخول فيه إذا أمكنَ، ومن أخذ (¬3) في مسألة بأحد قوليها أو أقوالها؛ كان ذلك مباحًا له، لا سيما إن كان ذلك القولُ هو الراجحَ، فقد سلَّمَ هذا المعترضُ لمن (¬4) أخذَ بما يُباح له شرعًا: أن الرد (¬5) أولى فيما لم يعارضه معارضٌ يكون أولى من الترك، واللَّه أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: " (¬6) فقد استبرأ لدينه وعرضِه"؛ أي: احتاطَ لدينه، وتحرَّزَ (¬7)، وتحفَّظَ. والدين في اللغة يطلق بإزاء معان ثمانية: الملة، وسُمي حظُّ الرجل منها في أقواله، وأعماله، واعتقاداته (¬8) دِينًا، وكان هذا هو المراد في الحديث لا غيرُ، والعادةُ، وسيرةُ الملك وملكه، والجزاءُ، والسياسةُ، ¬
والحال، والداء، عن اللَّحياني، وقد ذكرت (¬1) شواهدها ودلائلها في "شرح الرسالة"، أعاننا (¬2) اللَّه على إكماله. وأما العِرْض: فقال الجوهري: هو رائحةُ الجسدِ وغيرِه، طيبةً كانت، أو خبيثة، يقال: فلان طيبُ العرضِ، ومنتنُ العرضِ، وسقاءٌ خبيثُ العرض: إذا كان منتنًا، والعِرض -أيضًا- الجسدُ، وفي صفة أهل الجنة: "إِنَّمَا هُوَ عَرَقٌ يَجْرِي (¬3) مِنْ أَعْرَاضِهِمْ" (¬4)؛ أي: من أجسامهم. والعِرْض -أيضًا-: النفسُ، يقال: أكرمتُ (¬5) عنه عِرضي، أي: صنتُ عنه نفسي، وفلان نقيُّ العِرض؛ أي: بريء من أن يُشتم أو يُعاب، وقد قيل: عِرضُ الرجل حَسَبُه (¬6). وأشبهُ ما يُفسر به العرضُ هنا: النفس، أي: استبرأ لنفسه من أن يلام على ما أتى (¬7)، واللَّه أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومن وقعَ في الشبهات، وقعَ في الحرام": يحتمل وجهين: ¬
أحدهما: أن من تَعاطَى الشبهات، وداوم عليها، أفضت (¬1) به إلى الوقوع في الحرام؛ كما قلناه في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ حامَ حولَ الحِمى" الحديث. والثاني: أنَّ من تعاطى الشبهات، وقع في الحرام في نفسِ الأمر، وإن كان لا يشعر بها، فمنع من تعاطي الشبهات لذلك، قاله ق (¬2). الثالث (¬3) قوله -عليه الصلاة والسلام-: "كالراعي [يرعى] حول الحمى يوشكُ أن يرتعَ فيه" من التشبيه والتمثيل، ولا يختلف فيما دخلت عليه كاف التشبيه أنه حقيقة، وإنما يكون التمثيل مجازًا عند عدمها، كقولك: فلانٌ أسدٌ، أو (¬4) رأيتُ أسدًا، ونحو ذلك. ويوشك -بكسر الشين- ليس إلَّا، ومعناه: يحقُّ ويقرُب (¬5)، وهي أحدُ أفعال المقاربة العشرة المتقدمِ ذكرُها. فيه: دليلٌ على سدِّ الذراع، والتباعدِ عمَّا يحاذر، وإن ظن السلامةَ في مقاربته. والحِمَى: المحظورُ على غيرِ ما ملكه، وهو الذي لا يقرب احترامًا لمالكه، وهو (¬6) المَحْمِيُّ، فالمصدرُ فيه واقعٌ موقعَ اسمِ المفعول، ¬
وتثنيته حِمَيَان، وسمع الكسائي (¬1) تثنيته حِمَوَان، والصوابُ الأول (¬2)؛ لأنه من باب: فتى، ورَحًا؛ مما لامُه ياء، وإن كان قد جاءت لغةٌ شاذة في تثنية رَحًى، قالوا فيها (¬3): رَحَوَان على لغة من قال: رَحَوْتُ بالرَّحى، وهي لغة قليلة جدًا. والمضغة: قَدْرُ ما يُمضغ من اللحم، والمراد بها هنا (¬4): القلب؛ كما فسرها -عليه الصلاة والسلام-، وليس المراد بالصلاح والفساد اللحمة الصنوبرية، وإنما المراد: المعنى القائم بها الذي هو محلُّ الخطاب والتكليف، وهذا مما يستدل به على ما ذهب إليه الجمهور؛ من أن العقل محلُّه القلب، لا الدماغ -على ما تقدم-؛ لترتيبه (¬5) -عليه الصلاة والسلام- الصلاحَ والفساد عليه (¬6) دونَ ما عداه، وهو محل الاعتقادات، والعلوم، والأفعال الاستتارية (¬7)، بأن قد عبر عنه بالعقل نفسه. قال الفراء في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]: أي: عقل، وهو من الألفاظ المشتركة، يقع ¬
-أيضًا (¬1) - على (¬2) الكوكب النَّيِّرِ (¬3) الذي بجانبه (¬4) كوكبان، وعلى مصدرِ قَلَبَ، وقالوا: عربي قلب؛ أي: خالص، يستوي فيه المذكر، والمؤنث، والجمع. قال الجوهري: وإن نسبتَ، قلتَ: امرأة عربية (¬5)، وثَنَّيْتَ، وجَمَعْتَ، وقلبُ النخلة لُبُّها، وفيه ثلاث لغات -أعني: قلبَ النخلة-: قَلْبٌ وقُلْبٌ وقِلْبٌ، والجمعُ القِلَبة (¬6). وقد قيل: إن للقلب عينين وأُذنيين، وهذا إنما يعلمه أهلُ الكشف والاطلاع، وقد تكلم الناس على ذلك (¬7) كثيرًا؛ كالغزالي وغيره (¬8)، واللَّه الموفق. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 372 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى القَوْمُ فَلَغَبُوا، وَأَدْركْتُهَا فأَخَذْتُهَا، فَأتَيْتُ بِهَا أَيا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِوَرِكهَا وَفَخِذَيْهَا فَقَبِلَهُ (¬1) (¬2). ¬
* الشرح: "أنفَجْنا" -بفتح الهمزة والفاء وسكون الجيم-: أي: أَثَرْنا وذَعَرْنا فنفجَ (¬1). ومَرُّ الظَّهْران: موضعٌ معروف قربَ مكةَ، شرفها اللَّه تعالى (¬2)، وإعرابه بالحركات، وإن كان في صورة المثنى، فهو كالبحران (¬3)، لموضع أيضًا. ولَغَبوا -بفتح اللام والغين المعجمة -؛ أي: تعبوا، وأَعْيَوْا، والكسرُ ضعيف، أعني (¬4): في الغين (¬5) المعجمة من لَغَبُوا (¬6) (¬7). فيه: جوازُ أكل الأرنب، كما هو مذهبُ مالك، والشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، والعلماءِ كافة، إلا ما يُحكى (¬8) عن عبد اللَّه بن عمرِو بنِ العاص، ¬
وابنِ أبي ليلى: أنهما كرهاها، ودليلُ الجمهور؛ هذا الحديث، وما يُقاربه من الأحاديث. ح: ولم يثبت في النهي عنها شيء (¬1). قلت: وفيه: دليلٌ على الهدية وقَبولها (¬2)، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يحبُّ الهديةَ، ويكرهُ الصدقةَ، وقد تقدم في حديث بَريرةَ: "وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ"، وكان -عليه الصلاة والسلام- يكافىء عليها. لا يقال: كيف يجمع بين هذا، ونصِّ الفقهاء على تحريم هدية القاضي؟ لأنا نقول: ليس هذا من هذا الباب؛ لفقدان المعنى الموجود في غيره، وهو خوفُ الميل عن الحقِّ في حقِّ الخصم، وهو -عليه الصلاة والسلام- معصومٌ من ذلك إجماعًا. * * * ¬
الحديث الثالث والرابع
الحديث الثالث والرابع 373 - عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبي بَكْرٍ رضي اللَّه عنها، قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَسًا، فَأَكَلْنَاه (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: وَنَحْنُ بِالمَدِينَةِ (¬2). ¬
374 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لحُوُمِ الخَيْلِ (¬1). وَلِمُسْلِم وَحْدَهُ: أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الخَيْلَ وَحُمُرَ الوَحْشِ، وَنهى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الحِمَارِ الأَهْلِيِّ (¬2). ¬
* الشرح: ظاهرُ هذين الحديثين: جوازُ أكلِ لحوم الخيل من غير كراهة، وهو مذهب الشافعيِّ، وأحمدَ. وعندَنا في المذهب (¬1) ثلاثة أقوال: بالكراهة، والتحريم، والإباحة، والظاهر منها، وأظنه المشهور: الكراهة. والصحيح عند الحنفيين التحريم، وقيل: مكروهة (¬2). فأما الشافعيُّ، فتمسك يقول جابر، وأذن في لحوم الخيل، والإذنُ إباحة. وقد يتعلق القائلون بالتحريم بما روى النَّسائيُّ، وأبو داود عن خالد بن الوليد: أنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لَا يَحِلُّ أكْلُ لُحُومِ الخَيْلِ، وَالبِغَالِ، وَالحَمِيرِ" (¬3)، قال النَّسائيُّ: يشبه إن كان هذا صحيحًا، أن يكون منسوخًا، لأن قوله: "أذنَ في لحومِ الخيل" دليلٌ على ذلك (¬4). ق (¬5): اعتذر بعضُ الحنفية عن هذا الحديث بأن قال: فعلُ ¬
الصحابةِ في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما يكونُ حجةً إذا علمَهُ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيه شكٌّ على أنه معارَضٌ بقول بعض الصحابة: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حرم لحومَ الخيل، ثم إن سلمَ من المعارِض، ولكن لا يصحُّ التعلقُ به في مقابلة دلالة النص. قال: وهذه إشارة إلى ثلاثة أجوبة: فأما الأول: فإنما يرد على هذه الرواية والرواية الأخرى لجابر، وأما الرواية (¬1) التي فيها: "وأَذِنَ في لحومِ الخيل"، فلا يرد عليها (¬2) التعلق. والثاني: وهو المعارض بحديث التحريم، فإنه ورد بلفظ النهي، لا بلفظ التحريم من حديث (¬3) خالد بن الوليد، وفي ذلك الحديث كلامٌ ينقص به عن مقاومة هذا الحديث عند بعضهم. وأما الثالث: فإنه أراد بدلالة الكتاب: قولَه تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] , ووجه الاستدلال: أن الآية خرجت مخرجَ الامتنان بذكر النعم؛ على ما دلَّ عليه سياقُ الآيات التي في سورة النحل، فذكر اللَّه -تعالى- الامتنانَ مع الركوب والزينة في الخيل والبغال والحمير، وتركَ الامتنانَ بنعمة الأكل؛ كما ذكر في الأنعام، ولو كان الأكلُ ثابتًا، لما تركَ الامتنانَ به؛ لأن نعمة ¬
الأكل في جنسها فوقَ نعمة الركوب والزينة؛ فإنه يتعلق بها البقاءُ بغير واسطة، ولا يحصل تركُ الامتنان بأعلى النعمتين، وذكرُ الامتنان بأدناهما، فدل (¬1) تركُ الامتنان بالأكل على المنعِ منه، لا سيما وقد ذكر نعمةَ الأكل في نظائرها من الأنعام، وهذا، وإن كان استدلالًا حسنًا، إلا أنه يجاب عنه من وجهين: أحدهما: ترجيحُ دلالة الحديث على الإباحة على هذا الوجه من الاستدلال من حيثُ قوتُه بالنسبة إلى تلك الدلالة. والثاني: أن يطالب بوجه الدلالة على عين (¬2) التحريم؛ فإن ما يُشعر به تركُ الأكل أعمُّ من كونه متروكًا على سبيل الحرمة، أو على سبيل الكراهة (¬3). قلت: أما الوجه الثاني: فلا بأسَ به، وأما (¬4) الأولُ: فلهم أن ينازعوا في كون دلالة هذا الحديث على الإباحة أقوى من دلالة الآية (¬5) على المنع، فيحتاج إلى دليل على ما قال، وإلا لم (¬6) يتمَّ له الجواب، واللَّه أعلم. ¬
قال الإمام: ولما رأى أصحابنا هذه الأحاديث، وكان حديثُ جابرٍ أصحَّ (¬1)، قدموه على نفي التحريم، وقالوا بالكراهة لأجل ما وقع من معارضته بالحديث الآخر، ولما (¬2) يقتضيه ظاهرُ الآية، وقد ذكر فيها الخيل؛ كما ذكر فيها البغال و (¬3) الحمير، ونبه على المِنَّة بما خُلقت له (¬4)، ولم يذكر الأكل (¬5). قلت: وبقولِ مالك قالَ ابنُ عباس، وبقولِ الشافعي قال الليث. وفي الحديث: دليلٌ على جواز نحر الخيل. وقوله: "ونهى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الحمار الأهلي" دليلٌ لمن يرى تحريمَ الحُمُرِ الأهلية، وعندنا في ذلك قولان: أظهرهما: أنها مغلَّظَةُ الكراهةِ جدًا. والثاني: أنها محرَّمة بالسنَّة (¬6) (¬7)، يريد: بهذا الحديث، وما يقاربه، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس 375 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبي أَوْفَى -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، وَقَعْنَا فِي الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا القُدُورُ، نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَنِ اكْفَؤُوا القُدُورَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الحُمُرِ شَيْئًا (¬1). ¬
* الشرح: ظاهرُ الحديث يدلُّ على تحريم أكل (¬1) الحمر الأهلية، لكن بين الصحابة -رضي اللَّه عنهم- اضطرابٌ؛ هل حُرِّمَتْ لعييها، أو لأنها لم تُخَمَّس، أو لأنها ظَهْرٌ، فكره أن تذهب حملة الناس، أو لأنها جَوَالُّ القرية؛ أي (¬2): تأكل الجَلَّةَ -بفتح الجيم-، فهذا -واللَّه أعلم- منشأُ الخلاف المتقدم بالكراهة المتغلظة (¬3) والتحريم؛ لأن بذهاب هذه العلل المذكورة يذهب التحريم (¬4). ومعنى: "اكْفَؤُوا القدورَ"؛ أي (¬5): اقلبوها، وفرغوها، وهو بوصل الهمزة، ثلاثيًا، من كفأت الإناء: كَبَبْتُهُ وقلبتُه. قال الجوهري: وزعم (¬6) ابنُ الأعرابي أنَّ أكفَأْتُةُ لغةٌ، واللَّه أعلم (¬7). * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع (¬1) 376 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ ¬
رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ (¬1) الَّلاتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ"، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكْلُتُهُ، وَالنَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْظُرُ (¬2). المحنوذ: المشويُّ بالرَّضْف، وهي الحجارة المُحمَّاة. ¬
* الشرح: الحديثُ نصٌّ في إباحة أكل الضَّبِّ من غير كراهة من وجهين: أحدهما: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا" في جواب: "أحرام هو؟ ". والثاني: تقريرُه -عليه الصلاة والسلام- على أكله، وهو -عليه الصلاة والسلام (¬1) - لا يُقِرُّ على حرام، ولا مكروهٍ. ولا خلافَ فيه، إلا ما حُكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته، وإلا ما حكاه ع عن قوم: أنهم قالوا بتحريمه (¬2). ح: ولا أظنه يصح (¬3)، وإن صح، فهو محجوجٌ بالنصوص والإجماع قبلَه (¬4). ومعنى: "أَعافُه": أكرهه تَقَذُّرًا، هكذا قال أهلُ اللغة. وأكلُ خالدٍ له من غيرِ استئذانٍ من باب الإدلالِ، والأكلِ من بيت القريب والصديق الذي لا يكرهُ ذلك (¬5)؛ لأن ميمونةَ هي خالةُ خالد، والبيتُ بيتُ صديقِه رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلا (¬6) يفتقر إلى استئذانٍ، لاسيما ¬
والمُهدِيَةُ خالتُه (¬1). بل ذلك في مقتضى العادة؛ جبرًا لقلب المُهدِي، وتطييب له، وتركُه كسرٌ له، وتشويشٌ لخاطره. وفيه: دليل على الإعلام بما يُشك في أمره، والبحثِ عنه حتى يتضحَ الحكمُ (¬2) فيه، فإن كان يمكن أَلَّا يعلمَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عينَ ذلك الحيوان، وأنه ضبٌّ، فقصدوا الإعلامَ بذلك؛ ليكونوا على يقين من إباحته إن أكلَه، أو أقرَّ على أكله. ق: وفيه: دليلٌ على أن ليس مطلقُ النُّفرةِ، وعدم الاستطابة دليلًا على التحريم، بل أمر مخصوص من ذلك، إن قيل بأن (¬3) ذلك من أسباب التحريم؛ أعني: الاستحبابَ كما يقوله الشافعي رحمه اللَّه (¬4). * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن (¬1) 377 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي أَوْفَى -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبْعَ غَزَوَاتٍ، نَأْكُلُ الجَرَادَ (¬2). * * * ¬
* التعريف: عبد اللَّه بنُ أبي أَوْفى: واسمُ أبي أوفى: علقمةُ بنُ خالدِ بنِ الحارثِ ابنِ أبي أسيدِ (¬1) بنِ رفاعةَ بنِ ثعلبةَ الأسلميُّ، أخو زيدِ بنِ أبي أوفى. شهد بيعةَ الرضوان، كنيته: أبو إبراهيم، ويقال: أبو معاوية، ويقال: أبو محمد، بايع تحت الشجرة، وأولُ مشهدٍ شهدَه مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم حنين، وأصابته يومئذ ضربةٌ في ذراعه، وشهد ما بعدَ حُنَينٍ من المشاهد. وكان قد كُفَّ (¬2) بصرُه في آخر عمره، وكان يصبغ رأسه ولحيته بالحناء، وكان له ضفيرتان، نزل الكوفة، وابتنى بها دارًا، ومات بها سنة ست، ويقال: سبع وثمانين، وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسة وتسعون حديثًا، اتفقا منها على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث. روى عنه: طلحةُ بنُ مصرِّف (¬3)، وإسماعيلُ بنُ أبي خالد، وأبو النَّضْرِ سالمٌ مولى ابنِ مطيعٍ، وأبو إسحاقَ الشيبانيُّ، وإبراهيمُ (¬4) بنُ عبدِ الرحمن السَّكْسَكِيُّ. ¬
روى له الجماعة (¬1). * الشرح: الحديثُ دليلٌ على إباحةِ أكلِ الجراد، ولا خلافَ فيه، ولكن اختُلف هل يفتقر إلى ذكاة، أو لا (¬2): فقال مالكٌ في المشهور عنه، وجمهورٌ أصحابه، وأحمدُ في رواية (¬3): باشتراط ذكاته، وذلك بأن يموتَ بسبب من الأسباب، إما بأن تقطع أرجله، أو تغريقه في الماء المسخن (¬4)، أو طرحِه في النار حيا، أو يصلَق، أو يُحشى (¬5) في الغرائر، ويُجلس عليه. ولم يشترط ذلك الشافعي، ولا أبو حنيفة، ولا ابنُ نافع، ولا ابنُ عبد الحكم من أصحابنا. وقال ابن وهب: إن ضُمَّ في غِرارة، فضمُّه ذكاتُه. ¬
وقال ابن القاسم: لا، حتى (¬1) يُصنع به شيء يموت منه؛ كقطع الرؤوس، أو الأرجل، أو الأجنحة، أو الطرح في الماء. وقال سحنون: لا يُطرح في الماء البارد. وقال أشهب: إن مات من قطعِ رجل، أو جناحٍ، لم يؤكل؛ لأنها حالة قد يعيش بها (¬2)، ويَنْسُل (¬3). قلت: وهو بعيدٌ في (¬4) مجرى العادة، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع (¬1) 378 - عَنْ زَهْدَمِ بْنِ مُضَرِّبٍ الجَرْمِيِّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى، فَدَعَا بِمَائِدَةٍ و (¬2) عَلَيْهَا لَحْمُ دَجَاجٍ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بني (¬3) تَيْمِ اللَّهِ، أَحْمَرُ، شَبِيهٌ بِالمَوَالي، فَقَالَ: هَلُمَّ، فَتَلَكَّأَ، فَقَالَ لَهُ: هَلُمَّ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْكُلُ مِنْهُ (¬4). ¬
* التعريف: زَهْدَمُ بنُ مضرِّبٍ: التابعيُّ الجَرْميُّ الأَزْدِيَّ البَصْرِيُّ، هو بفتح الزاي المعجمة وسكون الهاء وفتح الدال المهملة، ومُضَرِّب: بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المهملة (¬1) المشددة-، يكنى: أبا مسلم. سمع عمرانَ بنَ الحصين، وأبا موسى الأشعريَّ. روى عنه: أبو حمزةَ نصرُ بنُ عمرانَ الضبعيُّ، وأبو قِلابةَ، والقاسمُ بنُ عاصم، ومَطَرٌ الوراقُ. أخرج حديثه في "الصحيحين" (¬2). * الشرح: في المائدة لغةٌ أخرى: مَيْدَة؛ كجَفْنَة. قيل: سُميت مائدة؛ لأنها تَمِيدُ بما عليها؛ أي: تتحرك وتميل (¬3). ¬
والدجاجُّ معروفٌ، وفتحُ الدال فيه أفصحُ من كسرها، الواحدةُ دجاجة، للذكر والأثنى. قال الجوهري: لأن الهاء إنما دخلت (¬1) على أنه واحد (¬2) من جنس؛ مثل حمامة وبَطَّة، ألا ترى إلى قول جرير: لَمَّا (¬3) تَذَكَّرْتُ بِالدَّيْرَيْنِ أَرَّقَنِي ... صَوْتُ الدَّجَاجِ وَقَرْعٌ بِالنَّواقِيسِ إنما يعني: زُقاءَ الديوك. والدجاجةُ أيضًا: كُبَّةٌ من الغزل (¬4)، انتهى. ومعنى "تَلَكَّأَ": تَبَطَّأَ (¬5) وتَوَقَّفَ. وفي "هَلُمَّ" لغتان؛ أفصحُهما: أن يكون للمثنى والمجموع، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، ومنه قوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، وهذه لغة أهل الحجاز، وأهلُ نجدٍ يصرفونها، فيقولون للاثنين: هَلُمَّا، وللجمع هَلُمُّوا، وللمرأة (¬6) هَلُمِّي، وللنساء هَلْمُمْنَ (¬7). ¬
وإذا قيلَ لك: هَلُمَّ إلى كذا، قلتَ: إلامَ أَهَلُمُّ -مفتوحة الألف والهاء-، كأنك قلت: إلامَ أَلُمُّ، وتركتَ الهاء على ما كانت (¬1). وإذا قيلَ لك: هَلُمَّ كذا وكذا؛ أي: هاتِهِ، قلتَ: لا أَهْلُمُّهُ؛ أي: لا أُعطيكَه. قال الخليل: وأصلُه: لَمَّ، من قولهم: لَمَّ اللَّهُ شعثَه؛ أي: جمعه، كأنهم أرادوا: لُمَّ نفسَك إلينا، أي: اقربْ، وها للتنبيه، وإنما حُذفت ألفها؛ لكثرة الاستعمال، وجعلا اسمًا واحدًا (¬2). وتُستعمل (¬3) قاصرةً إذا كانت بمعنى: أقبلْ، ومتعديةً إذا كانت بمعنى: هاتِ (¬4)، ونحو ذلك، وقد مضى تمثيلُه. وفي الحديث: دليلٌ على جواز أكل الدجاج. ق: وفيه: دليلٌ على البناء على الأصل؛ فإنه قد تبين برواية أخرى: أن هذا الرجل علل تأخُّرَه، بأنه رآه جمل شيئًا، فقَذِرَهُ (¬5)، فإما أن يكون كما قلنا في البناء على الأصل، ويكون أكل الدجاج الذي يأكل القذرَ (¬6) ¬
مكروهًا، أو يكون ذلك دليلًا على أنه (¬1) لا اعتبارَ بأكله النجاسة (¬2)، وقد جاء النهي عن لبن الجَلَّالة، وقال الفقهاء: إذا تغير لحمُها بأكل النجاسة، لم تؤكل (¬3). قلت: في هذا الكلام نظر، فتأمله. * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العاشر (¬1) 379 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا" (¬2). * * * ¬
* الشرح: يقال: لَعِقْتُ الشيءَ -بالكسر-، أَلْعَقُهُ -بالفتح- لَعْقًا؛ أي: لَحَسْتُهُ، وأَلْعَقْتُ غيري يدي (¬1) -رباعي-، فالأولُ يتعدَّى إلى مفعول واحد، والثاني إلى مفعولين، فالمفعولُ (¬2) الثاني من الرباعي محذوف، وأظن أن فيه رواية: "أَوْ يُلْعِقَهَا أَخَاهُ"، واللَّعْقَة -بالفتح-: المرة الواحدة، واللَّعوق: اسمُ ما يُلعق (¬3). وتمامُه في بعض الروايات: "فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي في أَيِّ طَعَامِهِ البَرَكَةُ" (¬4). ق: وقد يُعلل بأن مسحها قبلَ ذلك فيه زيادةُ (¬5) تلويث لما يمسح به، مع الاستغناء عنه بالريق، لكن إذا صح الحديث بالتعليل، لم يُعْدَل عنه (¬6). * * * ¬
باب الصيد
باب الصيد الحديث الأول 380 - عَنْ أَبِي (¬1) ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا بِأَرْضِ قَومٍ (¬2) أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ في آنِيَتِهِم؟ وَفِي أَرْضٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَبِكَلْبِيَ المُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتَ (¬3) مِنْ آنِيَةِ أَهْلِ الكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا، فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ المُعَلَّمِ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلبِكَ غَيْرِ المُعَلَّمِ، فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ، فَكُلْ" (¬4). ¬
* التعريف: أبو ثَعْلَبَة: اسمُه جُرثومُ بنُ ناشبِ، والخُشَنِيُّ -بضم الخاء المعجمة وفتح الشين المعجمة بعدها نون- منسوبٌ إلى بني خُشَين قضاعة، وهو وائلُ بنُ نمرِ بن وبرةَ بن تغلب -بالغين المعجمة- بنِ علوانَ بنِ عمرانَ بنِ الحافِ (¬1) بنِ قضاعة، وخُشين تصغيرُ أخشن مُرَخَّمًا (¬2). ¬
* الشرح: قال أهل اللغة: الصيدُ مصدرُ صادَه يَصيدُه ويَصادُه؛ أي: اصطاده، والصيدُ أيضًا: المَصِيدُ، قال اللَّه تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96]؛ أي: مَصِيدُ البحر (¬1). و (¬2) الحديث يشتمل على مسائل (¬3): الأولى: ظاهرُه توقفُ استعمال أواني (¬4) الكتابيين على الغَسْل، وإن كان قد اختُلف في ذلك، وكأنَّ منشأ الخلاف يرجع (¬5) إلى مسألة [تعارض] الأصل والغالب. ق: والحديثُ جارٍ على مقتضى ترجيحِ غلبةِ الظن؛ فإن الظنَّ ¬
المستفادَ من الغالب راجحٌ على الظن المستفادِ من الأصل. الثانية: فيه: دليل على جواز الاصطياد بالقوس، والكلب المعلَّم (¬1)، وتحريم ما صِيدَ بغير المعلم إلا بشرط الذكاة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- في غير المعلَّم: "فأدركتَ ذكاته، فكلْ"، فجعل حل الأكل متوقفًا على الذكاة الشرعية. قال الفقهاء: والتعليمُ المعتبر: أن ينزجِرَ بالانزِجار، وينبعث بالإشارة (¬2)، وليس في الحديث ما يدلُّ على ذلك تعيينًا، إنما فيه مطلَقُ التعليم، وكأنهم رجعوا في ذلك إلى العُرْف، واللَّه أعلم (¬3). ومن عبارة بعض شيوخنا رحمهم اللَّه: كلُّ أمرٍ لم يردْ فيه تحديدٌ من الشارع، فالرجوعُ فيه إلى تعارف العقلاء (¬4). الثالثة: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وذكرتَ اسمَ اللَّه عليه": ظاهرُه: وجوبُ التسمية، فيحتج به مَنْ يشترط التسميةَ عند الإرسال؛ لوقفِهِ -عليه الصلاة والسلام- إباحةَ الأكل عليها. ومذهبنا: إن تركَها عامدًا، لم يؤكل، وإن تركها ناسيًا، أكل، كالذبيحة عندنا -أيضًا-، هذا هو المعروف من مذهبنا. ¬
وقال الشافعي في الوجهين: لا يحرم؛ لأن التسميةَ عنده مسنونةٌ لا واجبة. وعن أحمدَ روايات ثلاث، أظهرها (¬1): اشتراطُ التسمية مطلَقًا. وفَرَّقَ أبو حنيفة بين العَمْد والنسيان؛ كما نقوله نحن، واللَّه أعلم (¬2). الرابعة: الحديثُ يدل دلالةً ظاهرة على أن ما صِيد بالكلب المعلَّم لا يفتقر إلى ذكاة؛ كما هو مذهبُ العلماء على تفصيل في قتل الكلب إياه، ولا أعلم خلافًا أنه إذا أنفذ مقاتلَه، أو أثر فيه بجرح من تَنْييب أو تَخْليب: أن ذلك ذكاةٌ له، أما لو صَدَمَه، أو نَطَحَه (¬3)، ونحو ذلك مما لا يكون جرحًا، فهذا فيه خلافٌ عندنا، وأما إن تلف الصيدُ عند مشاهدة الكلبِ، أو غيرِه طالبًا له؛ فَزَعًا، أو دَهَشًا، فلا يجوز أكلُه (¬4). وهذا الباب مستوعَب في كتب الفقه. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 381 - عَنْ هَمَّامِ بْنِ الحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أُرْسِلُ الكِلَابَ المُعَلَّمَةَ، فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، وَأَذْكرُ اسْمَ اللَّهِ، فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كلْبَكَ المُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ". قُلْتُ: وَإِنْ قتَلْنَ؟ قَالَ: "وَإِنْ قتَلْنَ، مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مِنْهَا". قُلْتُ فَإِنِّي أَرْمِي بِالمِعْرَاضِ الصَّيْدَ، فَأُصِيبُ (¬1)، فَقَالَ (¬2): "إِذَا رَمَيْتَ بِالمِعْرَاضِ، فَخَزَقَ، فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ (¬3)، فَلَا تَأْكُلْهُ" (¬4). ¬
382 - وَحَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ نَحْوُهُ، وَفيهِ: "إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ، فَإِنْ أَكَلَ (¬1)، فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ (¬2) إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيرِهَا، فَلا تَأْكُلْ (¬3)؛ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ" (¬4). وَفِيهِ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُكَلَّبَ (¬5)، فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْهِ (¬6)، فَأَدْركْتَهُ حَيًّا، فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْركْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، ¬
فَكُلْهُ (¬1) (¬2)؛ فَإِنَّ أَخْذَ الكَلْبِ ذَكَاتُهُ" (¬3). وَفِيهِ أَيْضًا: "إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عليه" (¬4) (¬5). وَفِيهِ: "فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ -وَفِي رِوَايَةٍ-: اليَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، فَلَمْ تَجدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنَ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي المَاءِ، فَلَا تأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لا تَدْرِي المَاءُ قَتَلَهُ، أَوْ سَهْمُكَ" (¬6). ¬
* التعريف: هَمَّامُ بنُ الحارثِ: النخعيُّ، الكوفيُّ، التابعيُّ، سمعَ حذيفةَ، وجريرَ بنَ عبد اللَّه، وعمارَ بنَ ياسرٍ، وعائشةَ، وعَدِيَّ بنَ حاتمٍ، والمقدادَ ابنَ الأسود. روى عنه: إبراهيم النخعي، ووبرةُ (¬1) بنُ عبد الرحمن. قال ابن سعد: تُوفي في ولاية الحجاج. أخرج له في "الصحيحين" (¬2). * (¬3) الكلام على الحديث من وجوه: الأول: ق: دلالةُ هذا الحديث على اشتراط التسمية أقوى من دلالة الحديث السابق عليه؛ لأن هذا مفهومُ شرط، والأول مفهومُ ¬
وصف، ومفهومُ (¬1) الشرط أقوى من مفهوم الوصف. الثاني: الحديثُ صريحٌ في جواز أكلِ ما قتلَه الكلبُ، ولا خلافَ فيه أعلمُه، كما تقدم (¬2) في الحديث السابق. الثالث: فيه: دليلٌ على منع أكلِ ما شورك فيه، وعلَّته مذكورة في الحديث، وهي قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإنما سَمَّيْتَ على كلبك، ولم تُسَمِّ (¬3) على غيره" (¬4) فإن تُيُقِّنَ أن المعلَّمَ هو المنفردُ بالقتل، أُكِل الصيد عندنا، وإن تُيقن غيرُه، أو شُك فيه، لم يؤكل، وإن غلبَ على ظنه أنه القاتلُ، فقولان. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما لم يَشْرَكْها كلبٌ ليسَ منها": يحتمل عندي وجهين: أحدهما: أن يريد -عليه الصلاة والسلام-: مِمَّا ليس بمعلَّم. والثاني: أن يريد: ليسَ من كلابك، بل من كلاب غيرِك، والأولُ أظهر؛ لأنه لو أرسل رجلان كلبين على صيد، فقتلاه جميعًا، أُكل، وكان الصيدُ بينهما، إلا أن ينفذ الأول مقاتلَه، فلا شيء للثاني، فهذا شركَه كلبٌ ليس من كلابه، وهو حلال. ¬
الرابع: المِعراض -بكسر الميم وسكون العين المهملة وبالضاد المعجمة- قيل: هو خشبة في رأسها كالزُّجِّ (¬1) يلقيها (¬2) الفارسُ على الصيد، فربما أصابته الحديدةُ فقتلَتْه، وأراقتْ دمه، فهذا يجوز أكلُه؛ لأنه حينئذ كالسيف والرمح، وربما أصابته الخشبة، فترضه؛ أي: تهشم عظمه ولحمه (¬3)، فهذا لا يجوز أكله؛ لأنه (¬4) وقيذ. وقال عبدُ الحق من أصحابنا: قال بعضُ شيوخنا: المِعْراض عود (¬5) محدَّد الأعلى، لا حديدة، إن أصابه بذلك المحدد، وأثر في الصيد، أُكل، وإن أصابه بعَرْضه، فلا يؤكل؛ لأنه وقيذ. وقال الجوهري: المِعْرَاضُ: سهمٌ لا ريشَ عليه (¬6). زاد الهروي: ولا نَصْلَ. قلت: فقولُ الجوهري يقوي القولَ الأول، وقولُ الهرويِّ يقوي القول الثاني، وإنما لم يؤكل ما قُتل بالمعراض عرضًا؛ لأنه في معنى الحَجَر، لا في معنى السهم. والشعبيُّ: اسمُه عامرُ بنُ شراحيل، من شعب همدان. ¬
الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإنْ أكلَ فلا تأكُلْ" محمولٌ عندنا على الاستحباب (¬1) دون الإيجاب؛ جمعًا بينه وبين الأحاديث الواردة بإباحة ما أكل الكلبُ منه من الصيد، وللشافعيِّ فيه قولان، ومنعَ أكلَه أبو حنيفةَ مطلقًا، وعن أحمدَ روايتان كالشافعيِّ. وتعلَّق المانعون بظاهر الحديث، وبقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، قالوا: ولو أراد تعالى كل إمساك لقال: فكلوا مما أمسكن، فزيادة: "عليكم" إشارة (¬2) لما قالوه: لما كان الإمساك يتنوع عندهم (¬3)، خُصِّصَ الجائزُ منه بهذه الزيادة، قالوا: ولو كان القرآن محتمِلًا (¬4)، لكان هذا الحديث بيانًا له؛ لأنه أخبر أنه إنَّما أَمسكَ على نفسه. قال الإمام: وأما أصحابُنا، فلا يسلِّمون كونَ الآية ظاهرة فيما قالوه، ويرون الباقي بعدَ أكله ممسَكًا علينا، وفائدة قوله: {عَلَيْكُمْ} الإشعارُ بأن ما أَمسكَه من غير إرسال لا يأكله (¬5)، وأما الحديثُ الآخر الذي أرسله مسلمٌ (¬6)، فيقابلونه بحديث أبي ثعلبةَ، وقد ذكره أبو داودَ، ¬
وغيرُه. وفيه: إباحةُ الأكل مما أمسكَ (¬1)، وإن أكلَ، ومحملُ حديثِ (¬2) مسلمٍ في النهي على (¬3) التنزيه والاستحباب، ومحمل (¬4) حديث أبي ثعلبةَ على الإباحة، حتى لا تتعارض الأحاديث (¬5). قال بعضهم: وربما عُلل حديثُ عديٍّ بأنه كان من المياسير، فاختير له الحملُ على الأولى، وأن حديث (¬6) أبي ثعلبةَ كان على عكس ذلك، فأخذ له بالرخصة، واستُضعف؛ لكونه -عليه الصلاة والسلام- علل عدمَ الأكل بخوفِ الإمساك على نفسه. ق (¬7): اللهمَّ إلا أن يقال: إنه علل بخوف الإمساك، لا بتحقيقه، فيجاب عن هذا: بأنا إذا شككنا في السبب (¬8) المبيح، رجعْنا إلى الأصل، وكذلك إذا شككنا في أن الصيد مات بالرمي، أو (¬9) لوجود سبب آخر يجوز أن يحال عليه الموت، لم يحلَّ؛ كالوقوع في الماء مثلًا. ¬
بل وقد (¬1) اختلفوا فيما هو أشدُّ من ذلك؛ وهو ما إذا بانَ (¬2) عنه الصيدُ، ثم وجده ميتًا، وفيه أثرُ سهمه، ولم يعلم وجودَ سبب آخر، فمَنْ حَرَّمه، اكتفى مجرد تجويز سبب آخر، وقد ذكرنا ما دلَّ عليه الحديثُ من المنع، إذا وُجد غريقًا؛ لأنه سببٌ للهلاك، ولا يعلم أنه مات بسبب الصيد، وكذلك إذا (¬3) تردَّى من جبل؛ لهذه العلة، نعم يُسامح في خبطه على الأرض، إذا كان طائرًا؛ لأنه أمرٌ لا بد منه (¬4). قلت: اختُلف عندنا في الصيد البائت يوجد من الغد مَيِّتًا، وقد أنفذَ (¬5) مقاتلَه؛ فقال مالكٌ في "المدونة": لا يؤكل، قال: وتلك السنَّة (¬6). وقال بعض أصحابنا: لأن الحيوان ينتشر (¬7) في الليل، فيجوز أن يكون أعانَ (¬8) على قتله ما انتشرَ من السباع والهوام، فلا يتحقق (¬9) أن الكلبَ هو الذي أنفذَ مقاتلَه. ¬
قال بعضهم: وكذلك السهم قد يتقلَّبُ الصيدُ عليه، فيكون إنما أنفذتْ مقاتِلُهُ من تقلبه عليه، أو ألجأته الهوامُّ بالليل إلى (¬1) الحركة أو إلى المشي، فكان ذلك سببًا لإنفاذ مقاتله بعد أن كان السهمُ لم ينفذ (¬2) مقاتله. وقال ابن الماجشون من أصحابنا: يؤكل إذا أنفذت مقاتله. قال الباجي: ولأن مغيبَ الصيد عن الصائد لا يمنعُ إباحتَه، أصلُ ذلك مغيبُه بالنهار، فإن (¬3) لم تنفذ مقاتله، لم يؤكل؛ مخافة (¬4) أن يكون إنما قتلَه بعضُ هوام الأرض. وقال ابن المواز: يؤكل في السهم، ولا يؤكل في البازي والكلب. وكأن الفرقَ عنده: أن السهم يوجد في (¬5) موضع الإصابة، فإذا لم يُر هناك أثر لغيره، دلَّ على (¬6) أن السهم قتله، وليس كذلك الكلب؛ لأنه ليس لجرحه علامةٌ يُعرف بها، فلا نأمن (¬7) من (¬8) أن يكون غيرُه قتلَه، وهذا كلُّه تصرُّف من الفقهاء رحمهم اللَّه. ¬
وظاهرُ الحديث: جوازُ الأكل، وإن بات اليومَ، أو اليومين، أو الثلاثة، وإن كان ذلك في الرمي بالسهام (¬1)، ولعلَّ ذلك مستَنَدُ ابنِ الماجشون في تفريقه بين السهم وغيره؛ أخذًا بظاهر الحديث، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 383 - عَنْ سَالِمِ بْنِ عبد اللَّه بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ" (¬1). قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةْ يَقُولُ: أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ، وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ (¬2). ¬
* التعريف: سالمُ بنُ عبد اللَّه بنِ عمرَ بنِ الخطابِ، القرشيُّ، العدويُّ، المدنيُّ، التابعي. كنيتُه: أبو عمرو، ويقال: أبو عبد اللَّه. سمع: أباه عبد اللَّه، وأبا هريرة، ورافعَ بنَ خَديجٍ. روى عنه: الزهريُّ، وحنظلةُ بنُ أبي سفيان، وموسى بنُ عقبةَ، ونافع، وعَمْرُو بنُ دينار، وعبد اللَّه بن عُمَرَ، والقاسمُ بنُ عُبيد، وعِكْرِمَةُ بنُ عمارِ (¬1)، وفَضْلُ بنُ غَزوانَ، وأبو بكر بنُ حفصٍ، ويحيى ابنُ أبي إسحاق. مات في سنة ستٍّ ومئةٍ عقيبَ (¬2) ذي الحجة، وصلَّى عليه هشامُ ابنُ عبد الملكِ في حجته التي حجَّ فيها، ولم يحجَّ في ولايته غيرَها. أخرج حديثه في "الصحيحين" (¬3). ¬
* الشرح: كأن السرَّ في المنع من اقتناء الكلاب، إلا ما استُثْني: ما فيها من الترويع والعَقْر لمن يمرُّ بها. ق: ولعلَّ ذلك لمجانبة الملائكةِ لمحلِّها (¬1)، ومجانبةُ الملائكة أمرٌ شديد؛ لما في مخالطتهم (¬2) من الإلهام إلى الخير، والدعاء إليه (¬3). قلت: وفي هذا التعليل نظرٌ؛ إن قلنا: إن اقتناء الكلب محرَّم، إلا ما استُثني؛ لأن مخالطة (¬4) الملائكة -على جميعهم (¬5) السلامُ- زيادةُ خير (¬6) وبركة، ولا يجب على الإنسان تحصيل ذلك، حتى يحرم عليه ما كان مانعًا منه، غايةُ ما في ذلك الندبُ، والندبُ لا يقاومه التحريمُ، فيرجَّحُ التعليلُ الأول؛ لأن ترويعَ المسلمِ وعقرَه حرامٌ، وذلك حاصلٌ بسبب اقتنائها. ¬
وإن قلنا: إن إقتنْاءَهَا مكروهٌ لا محرمٌ، فيترجح التعليلُ الثاني؛ لأن المكروهَ لا يُقاوم المحرَّمَ، وهو الترويعُ والعَقْر المذكوران، واللَّه أعلم. وقد استدل أصحابُنا على طهارتها بجواز اتخاذها للصيد من غير ضرورة؛ فإن ملابستَها مع الاحتراز عن مسِّ شيء منها أمرٌ شاق (¬1)، والإذنُ في الشيء إذنٌ في مكملات (¬2) مقصوده؛ كما أن المنع من لوازمه مناسبٌ للمنع منه (¬3)، وللاستدلال على المسألة موضعٌ غيرُ هذا. وإذا ثبتَ جوازُ اتخاذ الكلب (¬4) للصيد والحرث والماشية، فقد اختُلف في جواز اتخاذه لغرض آخرَ بالقياس على ما ذُكر؛ كحراسة الدور، ونحو ذلك. وقد سئل مالكٌ رحمه اللَّه عن أهل الريف يتخذونها في دورهم خيفةَ اللصوص على دورهم، والمسافر يتخذ كلبًا يحرسه، فقال: لا أدري (¬5) ذلك، ولا يُعجبني، إنما الحديث في الزرع والضَّرع، ولا بأس باتخاذ الكلاب للمواشي كلِّها، ولكن بغير شراء. وقال ابنُ كنانةَ من أصحابنا، وغيرُه: لا بأس أن تُشترى لما يجوز ¬
اتخاذُها له، هذا ما رأيته في مذهبنا. وقال ق: واختلف الفقهاء في اتخاذها لحراسة الدور (¬1) (¬2). ولم أدر مَنْ أرادَ بالفقهاء (¬3)، وكثيرًا ما يطلق هذا القولَ هكذا، وقليلًا ما يعزو إلى معيَّن، وكأنه اصطلاحٌ له اختصَّ به (¬4)، هذا غالبُ حاله فيما رأيتُ من شرحه لهذا الكتاب رحمه اللَّه تعالى. قال مالك رحمه اللَّه تعالى: ويُقتل منها ما آذى، وما يكون بموضع لا ينبغي؛ كالفسطاط. وقوله: "وكانَ صاحبَ حرثٍ": يريد: أن أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- لما كان صاحبَ حرث، عُني (¬5) بتحقيق الحكم في ذلك؛ لضرورته إليه، حتى ¬
عَرَفَ منه ما جهلَ غيره؛ لأن المحتاج إلى الشيء أشدُّ اهتمامًا به من غيره، واللَّه أعلم. * * *
الحديث الرابع
الحديث الرابع 384 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذِي الحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَابَ (¬1) النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إبِلًا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أُخْرَيَاتِ القَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا القُدُورَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشْرَةً مِنَ الغَنَم بِبَعيِرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، وَكَانَ فِي القَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: "إِنَّ لِهَذِهِ البَهَائِم أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا"، قَالَ: فَقُلْتُ (¬2): يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا لَاقُو العَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَت (¬3) مَعَنَا مُدًى، أفنَذْبَحُ بِالقَصَبِ؟ قَالَ: "مَا أنهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ، فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ، فَمُدَى الحَبَشَةِ" (¬4). ¬
* التعريف: رافعُ بنُ خَديجٍ -بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة بعدها ¬
المثناة تحت بعدها جيم-: ابنُ رافعِ بنِ عَدِيِّ بنِ زيدِ بنِ جُشَمَ بنِ حارثةَ بنِ الحارثِ بنِ الخزرجِ، الأنصاريُّ، الحارثيُّ، المدني، كنيته أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو رافع. كان يخضِبُ بالصُّفرة، ويُحفي شاربَه، وكان يُعد من الرماةِ، أُصيب بسهمٍ يومَ أُحد في ترقوتة، فبقيت الحديدةُ في ترقوته، فقال له النبي (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ (¬2)، وَتَرَكْتُ القُطْبَةَ (¬3)، وَشَهِدْتُ لَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَّكَ شَهِيدٌ"، فتركها (¬4)، وكان إذا ضحك فاستغربَ، بدا ذلك السهمُ. قلت: قال الجوهري: القُطْبةُ (¬5): أصل الهدف (¬6). استُصغر يومَ بدر، وأُجيز يومَ أحد. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمانية وسبعون حديثًا، اتفقا منها على خمسة أحاديث، وانفرد مسلم بثلاثة. ¬
روى عنه: عبدُ اللَّه بنُ عمرَ، والسائبُ بنُ يزيدَ، وحنظلةُ بنُ قيسٍ، وغيرُهم. قال الحافظ ابن زيدان: رافعُ بنُ خديج (¬1) هذا تُوفي سنة أربع وسبعين. ثم قال: ومما يبين لنا أن ابنَ عمرَ مات في هذه السنة، وأنَّ أبا نعيم قد أخطأ في ذكره في سنة ثلاث: أن رافعَ بنَ خديجٍ مات سنة أربع وسبعين، وابنُ عمرَ حيٌّ، وحضرَ جنازتَه. قلت: وكذا ذكره الحافظ (¬2) أبو عليِّ بنُ السَّكَن في كتاب (¬3) "الصحابة" له، في سنة أربع وسبعين، وكذلك ذكره الحافظُ عبدُ الغنيِّ المقدسيُّ (¬4) في كتابه "الكمال" في سنة أربع أيضًا، واللَّه أعلم (¬5). * الكلام على الحديث من وجوه: الأول: "أُخُريات القوم"؛ أي: في أواخرهم. ¬
فيه: سَوْقُ الإمام رعاياه حفظًا لهم، وحياطةً (¬1) عليهم من عدوٍّ يكون (¬2) وراءهم، ونحو ذلك، وكذا قيل: إنه كان يفعل ذلك في الحضر -أيضًا- يسوقُ أصحابَه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا خلافُ ما يفعله بعضُ جهلةِ مشايخِ هذا الزمان، وربما ركبَ وأصحابُه مشاةٌ زهوًا وتكبرًا، وإظهارًا لتعظيم لنفسه، ومعاندةً للسنة، نعوذ باللَّه من ذلك. الثاني: قوله: "وأمر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقُدورِ فكُفئت"؛ أي: فرغت. ظاهره: إتلافُ ما فيها، وعدم الانتفاع به، فانظرِ السببَ الموجبَ لذلك، فإني لم أرَ فيه شيئا، ويبعُد عندي أن يكون سببُه استعجالهم بالذبحِ ونصب القدور قبلَ مشاورته -عليه الصلاة والسلام-، وأن يكون (¬3) ذلك من باب العقوبة بالمال، واللَّه أعلم. الثالث: قوله: "ثم قسمَ، فعدلَ عشرةً من الغنم ببعيرٍ": ق: قد يُحمل (¬4) على أنه قسمة تعديل بالقيمة، وليس من طريق التعديل الشرعي؛ كما جاء في البَدَنَة: أنها عن سبعة، ومن الناس من حملَه على ذلك. وقوله: "فنَّد منها بعيرٌ"؛ أي: شَرَدَ. ¬
والأَوابِدُ: جمعُ آبِدَة بوزن ضارِبة، تَأَبَّدَتِ الوحشُ: نَفَرَتْ من الإنسِ، وتَوَحَّشَتْ، وتأبَّدَتِ الديارُ: خَلَتْ من قُطَّانها (¬1)، وتَوَحَّشَتْ، ويقال: أَبَدَتْ -بفتح الباء- تأبِدُ وتأبُدُ -بالكسر والضم- أُبودًا (¬2)، وجاء فلان بآبدةٍ؛ أي: كلمةٍ غريبة، أو خصلةٍ تنفر منها النفوسُ. ومعنى الحديث: أن من البهائم ما فيه نِفارٌ كنِفار الوحش (¬3). الرابع: اختُلف في الإنسيِّ إذا توحَّشَ؛ هل يكون حكمُه حكمَ الوحش، أو لا؟ والمشهورُ من مذهبنا: لا يؤكل إلا بذكاة، وهو خلافُ ظاهرِ الحديث، إن قلنا: إنهم استغنوا (¬4) بالسهم عن الذكاة، وإن قلنا: إنه ذُكِّي بعدَ حبسه بالسهم، وهو محتمل، فلا يكون في الحديث دليلٌ على أن المتوحش فزعًا يؤكل بما يؤكل به الصيد، بل يكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فاصنعوا به هكذا"، معناه: ليمسَكْ، ثم هو باقٍ على أصله من كونِه لا يؤكَلُ إلا بالنحر، أو الذبح؛ كغيره. وأجازَ ابنُ حبيب أكلَه بما يؤكل به الصيدُ، الأصلُ في البقر ¬
خاصةً، قال: لأن لها أصلًا في التوحُّش. وأما أبو حنيفة، والشافعيُّ، فإنهما أخرجاه عن أصله، ورأيا تذكيتَه بما يُذَكَّى به الوحشُ؛ اعتبارًا بالحالة التي هو عليها، ووجودِ العلة التي من أجلها أُبيح العَقْر في الوحش؛ وهي عدمُ القدرة عليه، وكذا هذا المتوحشُ قد صار غيرَ مقدور عليه، واعتمدا على هذا الحديث (¬1). وقد قررنا بالاحتمال (¬2) المذكور ما (¬3) يمنعُ تعلُّقَهما. ثم يقول (¬4): استيحاشُه وشرودُه لا يُخرجه عن أصله في باب الذكاة؛ كما لا ينقلُه عن أصله في سائر الأحكام، ألا ترى أنه باقٍ على ملك ربه، وأنه ليس حكمُهُ حكمَ الوحش في الجزاء إذا قتلَه محرمٌ، وفي جواز التضحية به، والعقيقة والهدي به؟! قال الإمام: وقد يتعلَّق المخالفُ بما خرَّج الترمذيُّ عن رجل ذكره: قلت: يا رسول اللَّه! أما (¬5) تكون الذكاة إلا (¬6) في الحلق واللَّبَّة؟ قال (¬7): "لَوْ طَعَنْتَ في فَخِذِهَا، لأَجْزَأَ عَنْكَ"، قال يزيدُ بنُ هارونَ: ¬
هذا في الضرورة (¬1). قلت: وهي في كتاب الدارمي (¬2) أيضًا (¬3). وهذا الحديث لم يسلِّم بعض أصحابنا ثبوتَه (¬4)، وقال بعضهم: يمكن أن يُراد به الصيدُ الذي لا يُقدر عليه، فكأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- فهمَ عن السائل بقرينة حالٍ: أنه سأله عن صيدٍ أرادَ أن يتصيده، هل لا يُذَكَّى إلا في الحلق واللبة؟ فأجابه -صلى اللَّه عليه وسلم- بما قال، انتهى (¬5). قلت: وأما المتوحش يتأنس فلا يؤكل إلا بما يؤكل به المتأنس، لا أعلم فيه خلافًا، إلا أنه (¬6) صار مقدورًا عليه، فانتفت العلةُ [التي] ¬
من أجلها أُكل بالعقر، وهو عدمُ القدرة عليه. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليسَ السنَّ"، رويناه بالنصب، ويجوز فيه الرفعُ على أن يكون اسمَ ليس، والخبر محذوف، و (¬1) تقديره ليسَ السنُّ والظفرُ من ذلك، والأولُ أظهر، ونصبُه على الاستثناء. قال الإمام: وقد اضطرب العلماءُ في ذلك، والذي وقع في مذهبنا منصوصًا: التفرقةُ بين المتصل والمنفصل، فيمنع حصولُ التذكية بالسنِّ والظفرِ المتصلَين بالإنسان، وتحصل التذكيةُ بالمنفصلين عنه (¬2) إذا تَأَتَّتْ بهما التذكيةُ. وقد وقع في بعض ما نُقل عن مالك: المنعُ مطلقًا، ووقع لبعض أصحابنا: ما يُشير إلى صحة التذكية مطلقًا إذا أمكنتْ. فمن منعَ على الإطلاق، أخذَ الحديثَ على عمومه، لا سيما والإشارة بالتعليل فيه بالعظم تدلُّ على المساواة بين المتصل والمنفصل؛ لكون السنِّ عظمًا في الحالين. وأما الإجازةُ على الإطلاق، فيحمل الحديث على أن المراد به: سنٌّ يصغرُ (¬3) عن التذكية، ولا نسلِّم القولَ بالعموم فيه، وكذلك يدَّعى على (¬4) ¬
التخصيصَ في التعليل، فنقول (¬1): لما علم أن العظم لا تتأتى به الذكاة (¬2)، وأن ذلك مما يعلمونه، أحالَ (¬3) التعليلَ عليه. وأما (¬4) المنصوصُ من المذهب؛ وهو التفرقةُ، فكأنه يرجع إلى هذا القول الآخرَ الذي هو [الإجازة على الإطلاق؛ لأن المجيز على الإطلاق يشترط كون التذكية متأتية بهما، ولكنه] (¬5) لم يعين وجه الثاني، وعينه في المنصوص، فرأى أن كونه متصلًا يمنع من الثاني، ومنفصلًا لا يمنع منه، فلهذا فَرَّق بينهما. وأما العظمُ فتجوزُ التذكيةُ به إذا أمكنَ ذلك. قال: فيه ما قيل في السن، وقد كان بعض شيوخنا يشير إلى هذا، ويجريه مجرى السن، ويعتل بما ذكرناه حين التعليل به في الحديث (¬6). وقوله: "وذُكر اسمُ اللَّه عليه" دليلٌ على التسمية أيضًا؛ لتعليقه الإباحة بشيئين، والمعلَّقُ على شيئين ينتفي بانتفاء أحدهما. والمدى: جمعُ مُدْيَة -بضم الميم وكسرها-، وهي الشَّفرة، ¬
ويجمع -أيضًا- مُدْيات، بإسكان الدال (¬1). والحبشةُ والحبشُ جنسٌ من السودان، والجمع الحُبْشان؛ مثل حَمَل وحُمْلان (¬2)، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب الأضاحي
باب الأضاحي 385 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا (¬1). ¬
قال -رضي اللَّه عنه-: الأَمْلَحُ: الأَغْبَرُ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ. * * * * الشرح: الأضاحي: جمع أُضْحِيَّة، وإِضْحِيَّة -بضم الهمزة وكسرها، وتشديد الياء فيهما-، ويقال أيضًا: ضَحِيَّة -بفتح الضاد وكسر الحاء وتشديد الياء-، وجمعُها ضَحايا، ويقال: أَضْحَاةٌ، وجمعها أَضَاحِيُّ، وأَضْحى (¬1). قالوا: و (¬2) سُميت بذلك؛ لأنها تُذبح يومَ الأضحى وقتَ الضُّحى (¬3)، من أجل الصلاةِ ذلكَ الوقت. ولا خلاف أن الأضحية مطلوبة شرعًا؛ لكن ذلك على طريق الوجوب، أو الندب؟ خلاف. فقال (¬4) أبو حنيفة: هي واجبة على كل حرٍّ، مسلمٍ، مقيمٍ، مالكٍ ¬
لنصابٍ من أَيِّ الأموالِ كان. وقال مالك: هي مسنونةٌ غيرُ مفروضة، وهي على كلِّ مَنْ قدرَ عليها من المسلمين من أهل الأمصار والقرى والمسافرين، إلا (¬1) الحاجَّ الذين (¬2) بمنى، فإنهم لا أُضحية عليهم. وقال (¬3) الشافعي، وأحمد: هي مستحبةٌ، إلا أن أحمد قال: لا يُستحب تركُها مع القدرة عليها. واتفق هؤلاء أنه لا يلزمه أضحية عن ولده الصغار، وإن كان موسرًا، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يلزمه عن كل واحدٍ منهم (¬4) شاة. واختلفوا في الوقت الذي تجزىء فيه الأضحيةُ، فقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: يوم النحر، ويومان بعده. وقال الشافعي: ثلاثة أيام بعده إلى آخر انقضاء التكبير من اليوم الرابع. واتفقوا على أنه تجزىء الأضحية ببهيمة الأنعام كلِّها، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، وأفضلُها عندنا الغنمُ، ثم البقرُ، ثم الإبلُ، وقيل: الإبل، ثم البقر. ¬
وقال الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمدُ: أفضلُها الإبل، ثم البقر، ثم الغنم (¬1). وقد استدل أصحابنا على أفضلية الغنم بأمرين: أحدهما: اختيارُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأضاحي الغنم. والثاني: اختيارُ اللَّه تعالى - ذلك في فداء الذبح. فائدة: قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107]، قيل: سُمي عظيمًا؛ لأنه رعى في الجنة سبعين خريفًا. وقيل: لأنه لم يكن من نسلِ حيوان، وإنما هو مكوَّنٌ بالقدرة. وقيل: لأنه متقبَّلٌ قطعًا. وقيل: لأنه بقي سُنَّةً إلى يوم القيامة. وقيل: لأنه فُديَ بهِ عظيمٌ، خمسة أقوال بين المفسرين. وفيه: دليلٌ على استحبابِ تعدادِ الأضحية؛ لتضحيته -عليه الصلاة والسلام- بكبشين. وفيه: استحبابُ تولي الإنسان أضحيتَه بنفسه (¬2)، وإن كان يجوز له (¬3) أن يذبحَ له مسلمٌ غيرُه. وفيه: استحبابُ التكبير مع التسميةِ؛ كما هو مذهبُ الفقهاء (¬4) (¬5). ¬
وقد استحبَّ الشافعيُّ الصلاةَ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مع التسمية، وخالَفهُ الجمهورُ في (¬1) ذلك. * * * ¬
كتاب الأشربة
كِتْابُ الْأَشْرِبَة
الحديث الأول
كِتْابُ الأشربة الحديث الأول 386 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ؛ مِنَ العِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالعَسَلِ، وَالحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ. ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان (¬1) عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنَ أَبْوَابِ (¬2) الرِّبَا (¬3). ¬
* الشرح: قد تَقَدَّمَ الكلامُ على تفسير لفظ: (أما) (¬1) ومعناها أولَ الكتاب بما يُغني عن الإعادة. وقوله: "أَيُّها الناسُ"، الأصل: يا أيها الناسُ، فحذف حرفُ النداء، وهذا أحدُ المواضع الأربعة التي (¬2) يجوز فيها حذفُ حرف النداء، على ما هو مقرر في كتب النحو، والناسُ هنا: نعتٌ لا يُستغنى عنه، وهو -أيضًا- أحدُ المواضع الثلاثة التي (¬3) يلزم فيها النعتُ وجوبًا. وقوله: "نزلَ تحريمُ الخمر" يريد -واللَّه أعلم-: قولَه تعالى في سورة المائدة: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]، وفي آية أخرى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ ¬
الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. وقد تقدَّمَ أن الإجماع منعقدٌ على تحريم الخمر العنبي النِّيءِ (¬1)، ولكنهم اختلفوا هل هي محرمة في كتاب اللَّه بنصٍّ، أو بدليل؟ والصحيحُ: محرَّمَةٌ فيه بالنص؛ لأن المحرَّمَ هو المنهيُّ عنه الذي توعَّدَ اللَّه عبادَه على استباحته، وقد نهى اللَّه عز وجل عن الخمر في كتابه، وأمر باجتنابها، وتوعَّدَ على استباحتها، وقرنهَا بالميسر والأنصاب والأزلام في آية المائدة المتقدمة آنفًا، وهذا بلاع (¬2) في الوعيد، ونهايةٌ في التهديد، وهاتان الآيتان ناسختان لآية البقرة؛ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]، الآيةَ (¬3)، ولآية النساء؛ قوله تعالى (¬4): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الآيةَ (¬5)؛ لأن آية البقرة إنما تقتضي الذمَّ دونَ التحريم، فكانوا (¬6) يشربونها؛ لما فيها من المنافع على أحد التفسيرَين، وقيل: المرادُ بالمنافع: الربحُ فيها؛ إذ (¬7) كانوا يَتَّجِرون فيها إلى الشام، وأما آيةُ النساء، فقيل: إنها تقتضي الإباحةَ؛ لأنهم أُمروا فيها بتأخير الصلاة ¬
حتى يذهبَ السكرُ قبل أن تُحرم الخمرُ، فكان منادي رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أُقيمت الصلاة ينادي: لا يقرب الصلاةَ سكران، ثم نُسخ ذلك، فحرِّمت الخمر (¬1)، وأمروا بالصلاة على كل حال. قال القاضي أبو الوليد بنُ رشد رحمه اللَّه: وإنْ طَالَبَ متعسفٌ (¬2) جاهلٌ بوجود (¬3) لفظِ التحريمِ لها في القرآن، فإنه موجود في غيرِ ما موضعٍ، وذلك أن (¬4) اللَّه -تعالى- سماها رجسًا، فقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، ثم نص على تحريم الرجس، فقال تعالى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، وسماها (¬5) -أيضًا- في موضع آخر إثمًا، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]، ثم (¬6) نص على تحريم الإثم، ثم قال تعالى (¬7): {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ} [الأعراف: 33]، ولو ¬
لم يَرِدْ في القرآن في الخمر إلا مجردُ النهي، لكانت السننُ الواردةُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بتحريم الخمر مبينة لمعنى ما نهى اللَّه عنها، وأن مراده التحريمُ لا الكراهة؛ لأنه إنما بعثه ليبيِّنَ للناس ما نُزِّلَ إليهم، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا"، وقد أجمعتِ الأمةُ على تحريمها، فتحريمُها معلومٌ من دين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) ضرورة، فمن قال: إِن الخمر ليست بحرام، فهو كافرٌ بإجماع، يُستتاب كما يُستتاب المرتدُّ، فإن تاب، وإلَّا قُتل، انتهى كلامه رحمه اللَّه تعالي. وفي الحديث: [دليلٌ] على أن اسمَ الخمر يقع على ما اعتُصر من العنب وغيرِه، وربما جاء ذلك صريحًا في غيرِ هذا الحديثِ من لفظ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا مذهبُ أهل الحجاز، وخالفهم أهلُ الكوفة. وقوله: "وهي من خمسةٍ": قال الخطابي: فيه: البيانُ الواضح أن قولَ مَنْ زعمَ من أهل الكلام أن الخمرَ إنما هي (¬2) عصيرُ العنب النيء الشديد منه، وأن ما عدا ذلك ليس بخمر، باطلٌ. قال (¬3): وفيه دليل على فساد قولِ مَنْ زعم أن لا خمرَ إلا من العنب، والزبيب، والتمر، فكانوا (¬4) يسمونها كلَّها خمرًا (¬5)، ثم ألحقَ ¬
عمومُها كلَّ ما خامر العقلَ من شراب، وجعلَه خمرًا، إذ كان (¬1) في معناها؛ لملابسته (¬2) العقلَ، ومخامرته إياه. وفيه: إثباتُ القياس، وإلحاقُ حكمِ الشيء بنظيره. وفيه: دليلٌ على جواز إحداثِ الاسم لشيء (¬3) من طريق الاشتقاق بعدَ أن لم يكن، انتهى (¬4). قلت: والواو من قوله: "وهي من (¬5) خمسة" يحتمل أن تكون واو الحال، ويكون المعنى: نزل تحريمُ (¬6) الخمرِ في حالِ كونها تُعْمَلُ من خمسة أشياء، ويجوز أن تكون استئنافيةً، فلا يكون للجملة موضعٌ من الإعراب، ويجوز أن تكون عاطفة للجملة على التي قبلها، أو المعنى على أنه أخبر أن الخمر تكون من خمسة أشياء، لا أنه نزل تحريمُ الخمر، وهو (¬7) كذلك ولا بدَّ. وقوله: "الجَدُّ (¬8) "؛ أي: و (¬9) ميراثُ الجد. ¬
وقد اختلف الناس اختلافًا كثيرًا؛ من الصحابة فمَنْ بعدَهم، وقد قال عمر -رضي اللَّه عنه-: قضيتُ في الجَدِّ بسبعينَ قضيةً، لا أَلْوِي في واحدة منها على (¬1) الحَقِّ، وفي لفظ آخر: "لا حَيَّاهُ اللَّهُ ولا بَيَّاه"، حتى اختلفوا هل هو أبٌ حقيقة، أو لا؟ على ما هو مذكور في كتب الفرائض. وأما الكلالَةُ، فقيل: هي (¬2) كلُّ فريضةٍ لا وَلَدَ فيها. وقيل: هي كلُّ فريضة لا والدَ فيها. وقيل: كلُّ فريضةٍ (¬3) لا ولدَ فيها، ولا والدَ، وهذا هو الظاهر (¬4)، واللَّه أعلم. وهل هي اسمٌ للميتِ، أو للورثةِ، أو للفريضةِ؟ خلاف أيضًا، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 387 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ البِتْعِ، فَقَالَ: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، فَهُوَ حَرَامٌ" (¬1). قال -رضي اللَّه عنه-: البِتْعُ: نبَيذُ العَسَلِ. ¬
* الشرح: البِتْع: بكسر الباء الموحدة وسكون المثناة فوق وبالعين المهملة، ويقال بفتحها أيضًا. فيه: دليلٌ على تحريم كلِّ مسكر على الإطلاق، قليلًا كان أو كثيرًا، فالجمهورُ على أن ما أسكرَ كثيرُه، فقليلُه حرامٌ من جميع الأشربة، والكوفيون يحملونه على القَدْرِ المسكِر (¬1)، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة بأبسطَ من هذا، واللَّه الموفق. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 388 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا! أَلَم يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا" (¬1)؟!. * * * ¬
* الشرح: فُلانٌ المكنى عنه هو حمزةُ بنُ جندب، ومعنى جَمَلوها: أذابوها، ويسمى الشحمُ المذاب: جَميلًا، وتَجَمَّلَ؛ أي: أكلَ الشحمَ المذابَ. قال الجوهري: وقالت امرأةٌ لابنتها: تَجَمَّلي، وتَعَفَّفي (¬1)، [أي: كُلي الشحم]، واشربي العُفَافَةَ، وهو ما بقي في الضَّرْع من اللبن (¬2). فيه: دليلٌ على أن ما حُرمت عينه، حُرم بيعه، ولهذا الحديث تعلُّق بمسألة بيع العَذِرةَ، وقد اختُلف فيها، وفي ظني أنها تقدمَتْ في البيوع. ق: وفيه: دليلٌ على استعمال الصحابة للقياس (¬3) في الأمور من غير نكير؛ لأن عمر -رضي اللَّه عنه- قاسَ تحريمَ بيعِ (¬4) الخمر عندَ تحريمها على بيع الشحوم عندَ تحريمها، وهو قياسٌ من غير شك، وقد وقع تأكيدُ (¬5) أمره بأن قال فيمن خالفه (¬6): قاتلَ اللَّهُ فلانًا (¬7). * * * ¬
كتاب اللباس
كِتْابُ اللبَاسِ
الحديث الأول
كِتْابُ اللباس الحديث الأول 389 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ" (¬1). ¬
* الشرح: ظاهرُ الحديث، أو نصُّه يدلُّ على تحريم مطلَق الحرير للرجال، وحملَهُ الجمهور على المُتَمَحِّضِ منه، فلا يلبس الرجلُ الثوبَ منه (¬1). قال ابنُ حبيب من أصحابنا: ولا يلتحفُ به، ولا يفرُشُه (¬2)، ولا يصلِّي عليه. (¬3) قال أصحابنا: ولا يجوز إضافةُ شيء منه إلى الثياب، وإن (¬4) كان يسيرًا. وأجاز بعضُهم اتخاذَ الطَّوقِ منه واللَّبِنَة؛ كما (¬5) وقع في الحديث من استئناءِ العَلَم، وقد اختُلف فيه؛ فروى ابنُ حبيب: أنه لا بأسَ به، وإن عظم، لم يختلف في الرخصة فيه، والصلاة به. وروى (¬6) ابنُ القاسم: أن مالكًا كرهَ لباسَ الملاحفِ فيها أصبعٌ أو أصبعانِ أو ثلاثةٌ من الحرير. قال ابن القاسم: ولم يُجز مالك من الحرير في الثوب إلا الخطَّ الرقيق. ¬
وأجاز الشافعي (¬1) نحوَ أربعةِ الأصابعِ في الثوب؛ لما في بعض الأحاديث من الرخصة في ذلك القدر. وفي هذا نظر؛ فإن أربعةَ (¬2) الأصابع (¬3) أعمُّ من أن تكون (¬4) في الطولى أو العرض، والعرضُ والطولُ -أيضًا- يختلفان في أنفسِهما، فكيف يتحقق القدرُ المباح من ذلك مع هذا (¬5) الاختلاف؟ هذا كلُّه في الخالص، فأما ما سُداه حرير، ولُحْمَتُه من غيره، فمكروه عندنا كراهيةَ (¬6) تنزيه. واختُلف في الخز، والأكثرون على جوازه، وكرهه مالكٌ (¬7) لأجل السَّرَف. ويجوز عندنا خياطةُ الثوب بالحرير. واستخفَّ ابنُ الماجشون من أصحابنا لباسَ (¬8) الحرير في الحرب والصلاة به حينئذ؛ لإرهاب العدوِّ، ولم يَرَ ذلك مالكٌ، ولم يرَ ابنُ ¬
القاسم بأسًا بأن يُتخذ منه رايةً في أرض العدو. وأما السترُ يُعَلَّق، فقال ابنُ حبيب: لا بأس به. فأما النساءُ، فيباح لهنَّ لباسُه كيفَ شِئْنَ من وجوه (¬1) اللباس، ومما (¬2) ينخرط في سلك اللباس سترُ الجُدُرِ، فمنهيٌّ عنه؛ لما رُوي عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- قال: نَهى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تُستر الجدرُ بالحرير (¬3)، إلا جدارَ الكعبةِ (¬4). قلت: وظاهرُ هذا أو نصُّه: النهيُ عن ستر الجدر بحريرٍ أو غيرِه، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 390 - عَنْ حُذَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ (¬1): "لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ" (¬2). ¬
* الشرح: قد تقدم الكلامُ على أحكام الحرير في الحديث الأول. وأما الديباجُ: فبكسر الدال، وقد يفتح، وهو فارسي معرَّبٌ، ويُجمع على دَيابِيجَ. قال الجوهري: فإن قلت: دبابيج -بالباء- على أن يجعل أصله مشددًا؛ كما قلت في الدنانير (¬1). قلت: يريد: أن أصل (¬2) دينار: دنَّار، بنون مشددة. وأما أواني الذهب والفضة، فالإجماعُ على تحريم استعمالها (¬3) للرجال والنساء. وفي اقتنائها (¬4) عندنا قولان: والأصح: التحريم، وإن كان لم يختلف في تملكها. واختُلف في الأواني من الجواهر واليواقيت؛ بناءً على أن التحريم ¬
لعينها، أو لأجل السَّرَف. ولو غُشِّيَ (¬1) الذهبُ برصاص، أو مُوِّهَ الرصاصُ بذهب، ففيه -أيضًا- عندنا قولان: والأصحُّ: منعُ ما فيه ضبة أو حلقة من ذهب أو فضة؛ كالمرآة ونحوها، قال مالك: لا يعجبني أن يشرب فيه، ولا أن ينظر فيها، واللَّه أعلم (¬2). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإنها لهم في الدنيا"، (¬3) الضمير في (لهم) مما يفسره سياق الكلام، والظاهرُ عَوْدُه على الكفار الذين يستعملونها، ويجوزُ -على بُعد- أن يعود على مستعملِيها (¬4) من عُصاة المؤمنين؛ لأنهم يُحْرَمونها في الآخرة؛ كما في الحديث الآخر الدالِّ على ذلك، والأولُ أظهر، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 391 - عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ، فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ، بَعِيدُ ما بَيْنَ المَنْكِبَيْنِ، لَيْسَ بِالقَصِيرِ، وَلَا بِالطَّوِيلِ (¬1). ¬
* الشرح: اللِّمَّة: بكسر اللام: الشَّعْرُ يُجاوز شحمةَ (¬1) الأذن، فإذا بلغتِ المنكبين، فهي جُمَّة (¬2)، والجمعُ: لِمَمٌ، ولِمَامٌ (¬3). والحُلَّة: ثوبان. والمنكِبُ: مجمَعُ عظمِ (¬4) العَضُدِ والكَتِفِ (¬5). فيه: دليلٌ على توفيرِ الشعر، وفَرْقه. قال القاضي أبو بكر: الشعرُ في الرأس زينةٌ، وفرقُه سُنَّةٌ، وحلقُه بدعةٌ، وحاله مذمومةٌ، جعلها النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- شعارَ الخوارج، قال في "الصحيح": "سِيمَاهُمُ التَّسْبِيدُ" (¬6)، وهو الحَلْق. ¬
قلت: هو بالسين المهملة، بعدها الموحدة، بعدها المثناة تحت، آخره دال مهملة، مصدرُ سَبَّدَ رأسَه: إذا استأصلَ شعرَهُ. قال الجوهري: والتسبيدُ -أيضًا-: تركُ الادِّهان (¬1). قال أصحابنا: ويجوز أن يتخذ جُمة، وهي (¬2) ما أحاط بمنابت الشعر، ووَفْرَةً، وهو ما زاد على ذلك حتى يبلغ (¬3) شحمةَ الأذنين (¬4)، ويجوز أن يكون أطولَ من ذلك. وقد ذكر أبو عيسى في صفة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن عائشة (¬5): أن شعره كان فوقَ الجُمَّة، ودونَ الوَفْرَة (¬6). قال: ويُكره القَزَعُ: وهو أن يحلق البعضَ، ويتركَ البعضَ، شبه بالقزع، وهو قِطَع السحاب. قال أبو عبيد (¬7): يتخصص القزعُ بتعددِ مواضعِ الحلق حتى تتعدد مواضع الشعر، وبذلك تحصل المشابهة. ¬
قال بعضُ متأخري أصحابنا (¬1): وهذا (¬2) مساوٍ لما روي عن مالك. قال ابنُ وهب: سمعتُ مالكًا يقول: بلغني أن القزعَ مكروه، والقزعُ أن يترك شعرًا متفرقًا في رأسه. (¬3) قال ابن وهب: وسمعتُه يكره القزعَ للصبيان، قال: وهو الشعر المتبدِّدُ في الرأس (¬4). نفيسة فتحية: إن قلتَ: ما السرُّ في كونه (¬5) -عليه الصلاة والسلام- ليس بالطويل ولا بالقصير؟ قلت: لما ثبت أن (¬6) خير الأمور أوساطُها، وكان -عليه الصلاة والسلام- خيرَ الخليقة، ومعدِنَ الحقيقة، ناسبتْ صورتُه معناه، فكان وَسَطًا في الطول، وإنْ كان أطولَ الأطولين في الطول، فكمَّله اللَّه -تعالى- خَلْقًا وخُلُقًا، ورَقَّاه من درج الجمال والكمال (¬7) أيَّ مرقى، -صلى اللَّه عليه وسلم- وآله وأصحابه (¬8)، وشَرَّفَ وكَرَّمَ. ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 392 - عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أَمَرَناَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَبعٍ، وَنهانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرَناَ بِعِيَادَةِ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، وَإِبْرَارِ القَسَمِ أَوْ (¬1) المُقْسِمِ، وَنَصْرِ المَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَنهانَا عَنْ خَوَاتِيمَ، أَوْ تَخَتُّم بالذَّهَبِ، وَعَنْ شُرْبٍ (¬2) بِالفِضَّةِ، وَعَنِ المَيَاثِرِ، وَعَنِ القَسِّيِّ، وَلُبْسِ الحَرِيرِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ (¬3). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: العيادة: أصلُها العِوَادَة؛ لأنه من عادَهُ يَعُودُهُ، فقلبت الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها، وهي من مادة العَوْدَ (¬1)؛ كما تقدم، وهو الرجوعُ إلى الشيء بعدَ انصرافه، إما انصرافًا بالذات، أو بالقول والعزيمة. قال الجوهري: والعَوْدُ: الطريقُ القديم (¬2). زاد غيره: يعود إليه السَّفْرُ، فإن أُخذ من الأول، فقد (¬3) يُشعر بتكرار العيادة، وإن أُخذ من ¬
الثاني بعدَ نقله نقلًا عرفيًا (¬1) إلى الطريق، لم يدل على ذلك (¬2). وهي مستحبةٌ عند الجمهور، وقد تجب حيث يحتاج المريضُ إلى مَنْ يتعاهده، وإن لم يُعَدْ، ضاع، وأوجبها الظاهريةُ من غير هذا القيد لظاهرِ (¬3) الأمر، قاله ق (¬4). الثاني: قال أبو القاسم الحسينُ بنُ محمدِ بنِ المفضلِ (¬5) الراغِب الأصفهاني: المرض: الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان، وذلك ضربان: مرض جسمي، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وقال تعالى: {وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} (¬6) [التوبة: 91]. والثاني: عبارة عن الرذائل الخلقية؛ كالجهل، والجبن، والبخل، والنفاق، ونحوها (¬7) من الرذائل، وشُبه الكفرُ والنفاقُ ونحوُهما (¬8) من ¬
الرذائل بالمرض، إما لكونها (¬1) مانعةً من (¬2) إدراك الفضائل؛ كالمرض المانعِ للبدن عن التصرف الكامل، وإما لكونها مانعةً عن (¬3) تحصيل الحياة الأُخروية المذكورة في قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، وإما لميل النفس إلى الاعتقادات الرديئة ميلَ (¬4) البدنِ المريض إلى الأشياء المضرَّة به؛ لكون هذه الأشياء متصوَّرة بصورة المريض، يقال: دَوِيَ صدرُ فلان، ونَغِلَ قلبُه؛ أي: طعن (¬5)، قال -عليه الصلاة والسلام-: "وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخْلِ؟! " (¬6)، ويقال: شمسٌ مريضة: إذا لم تكن مضيئة لعارِضٍ يعرِضُ لها (¬7). الثالث: قوله: "واتِّباعِ الجنائزِ": قد تقدم ضبطُ تَبِعَ واتَّبَعَ في باب (¬8): الحوالة، ويراد هنا: أن الاتباعَ تارة يكون بالجسم، وتارة ¬
يكون بالارتسام والائتمار، وعلى ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] الآيةَ، {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 20، 21] الآيةَ، وإن كان حقيقةً: الاتباعُ بالجسم. والمجازُ كثيرٌ شائع. فمن الحقيقة: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان: 23]، {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] , {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)} [الكهف: 89] , {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} [المؤمنون: 44] , وهو كثير. وأما قوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، فقالوا: يحتملَ الحقيقة والمجاز، والمجازُ هنا أقربُ، ومن المحتمل -أيضًا- ما (¬1) في هذا الحديث وما يقاربه من اتباع الجنازة، وينبني عليه: هل الأفضلُ المشيُ أمامَها، أو خلفَها؟ ويمكن أن يجعل حقيقة في القدر المشترك؛ دفعًا للاشتراك والمجاز على طريقة المتأخرين. واختار بعضُهم إذا كَثُر الاستعمالُ في إحدى الخاصتين (¬2)، وتبادرَ (¬3) الذهنُ إليه عند الإطلاق، أن يجعل حقيقة اللفظ، وتقديمه (¬4) على عدم الاشتراك والمجاز؛ لأن الأصل يُترك بالدليل القابل على خلافه، ¬
ومبادرةُ الذهن، وكثرةُ الاستعمال دليلٌ على الحقيقة، وأما حيث يقرب الحالُ أو يُشكل (¬1)، فلا بأس باستعمال الأصل (¬2). وإذا قلنا، إنه محمول على الاتباع بالجسم، فيحتمل أن يكون مُعَبَّرًا به عن الصلاة، وذلك من فروض الكفاية عندَ الجمهور، ويكون التعبير بالاتباع عن الصلاة (¬3) من باب مجاز الملازمة في الغالب؛ لأنه ليس من الغالب أن يصلَّى على الميت ويدفَن في محل موته، ويحتمل أن يريد (¬4) بالاتباع: الرواحَ إلى محل الدفن لمواراته، والمواراةُ -أيضًا- من فروض الكفاية، لا تسقط (¬5) إلا بمن تتأدى به، واللَّه أعلم (¬6). وقد تقدم (¬7) -أيضًا- ضبطُ الجنازة، ويزاد هنا: أنه لا يقال لها، جنازة إلا وعليها (¬8) ميتٌ، وإلا، فهي سريرٌ أو نعشٌ (¬9). الرابع: قوله: "وتشميتِ العاطسِ"، هو أن يقول له: يرحمك اللَّه، ¬
والتشميتُ -بالشين والسين جميعًا (¬1) -، واختار ثعلبٌ المهملةَ؛ لأنه مأخوذ من السَّمْت، وهو القصدُ والمَحَجَّة. وقال أبو عبيد: الشينُ أعلى في كلامهم وأكثر، يعني: المعجمة (¬2). وحكى ع عن ابن الأنباري: أنه قال: شَمَّتُّ فلانًا، وَسَمَّتُّ (¬3) عليه، وكل داع بالخير مشمِّتٌ ومسمِّتٌ (¬4) (¬5). وقال الزبيدي (¬6) في "مختصر العين": شَمَّتُّ العاطسَ: إذا دعوت له -يريد: بالمعجمة-، ويُقال بالسين، يريد: بالمهملة. وقال الخطابي: شَمَّتَ وسَمَّتَ بمعنى، وهو أن يدعو للعاطس بالرحمة (¬7). وقال التميمي في "جامع اللغة (¬8) ": وقيل: التشميتُ: الرجاءُ والتبريك (¬9)، والعربُ تقول: سَمَّتَهُ: إذا دعا له بالبركة (¬10). ¬
ق: والحديثُ المرفوع: "شَمَّتَ (¬1) عَلَيْهِمَا" (¬2)؛ يعني: عليا وفاطمة -رضي اللَّه عنهما-؛ أي: دعا لهما، وبَرَّكَ عليهما، قيل: وهو مأخوذ من الشماتة التي هي فرحُ الرجلِ ببلاء عدوه، وسوءٍ ينزل به، يقال: شَمَتُّ بعدوِّي شماتةً، وشماتًا، وأشمته اللَّهُ به. وفي توجيه هذا المعنى وجهان: أحدهما: أنه دُعاء له أن لا يكون في حال (¬3) يشمت به فيها. والثاني: أنك إذا قلت: يرحمك اللَّهُ، فقد أدخلتَ على الشيطان ما يَسُوءُه، فيُسر العاطسُ بذلك. وقيل: إنه مأخوذ من التسميت؛ الذي هو اجتماعُ الإبلِ في المرعى. قال صاحب "الجامع" (¬4): والتسميتُ: اجتماع الإبل في المرعى، قيل: ومنه تشميتُ العاطس: إذا قيل له: يرحمك اللَّه، فيكون معنى شمتَّه: سألتَ اللَّهَ -تعالى- أن يجمع شمله وأمره. ونقل بعضُ شيوخنا عن القاضي أبي بكر بن العربي فيما وجده (¬5) عنه: أنه قال: فإن كان بالشين المعجمة، فهو مأخوذ من الشوامِت، ¬
وهي القوائم، وإن كان بالسين المهملة، فهو مأخوذ من السَّمْت، وهو قصدُ الشيء وناحيتُه؛ كأن العطاسَ يَحُلُّ (¬1) معاقدَ البدن، ويفصل (¬2) معاقده، فيدعو له بأن يردّ اللَّه شوامِتَه على حالها، وسَمْتَهُ (¬3) على صفته. قال ق: وهذا يقتضي أن الشوامت (¬4) تنطلق على قوائم الإنسان؛ لأن العاطسَ المشمَّتَ إنسان (¬5) لا غير. وقد قال ابن سِيْده: والشوامِتُ: قوائم الدابّة (¬6)، وهذا أخصُّ مما ذكر عن القاضي أبي بكر. قلت: وهكذا ذكره الجوهري أنّ الشوامت (¬7) قوائمُ الدابة، ثم (¬8) قال: وهو اسم، قال أبو عمرو: يقال: لا تركَ (¬9) اللَّه له شامتةً (¬10)؛ أي: قائمةً (¬11). ¬
وقيل: معنى شمته وسمته: دعوت له بالهُدى والاستقامة على سمت الطريق. قال التميمي: والعربُ تجعل السينَ والشينَ (¬1) في لفظٍ بمعنى؛ كقولهم: جاحَسْتُه وجاحَشْتُه. قلت: هو (¬2) بتقديم الجيم على الحاء المهملة، ومعناه: زاحمتُه وزاولته على (¬3) الأمر. هذا ما يتعلق بالشين المعجمة. وأما المهملةُ: فقد تقدم أنه مأخوذٌ من السمت الذي هو قصدُ الشيء وناحيتُهُ. واختار بعضُ شيوخنا أن يكون مأخوذًا من السمت الذي هو الهيئةُ الموصوفةُ بالحسن والوقار، قال: ومنه ما جاء في الحديث: "أَنَّ الهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ وَالاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" (¬4). انتهى ما يتعلق بتفسير اللفظ اللغوي. وأمّا حُكْمُهُ شَرْعًا: فهو مستحبٌّ، وكذلك جوابُه، وهو قوله: "يَهْدِيكُمُ اللَّهُ ويُصْلِحُ بَالَكُمْ"، أو: "يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ"، وإن جمع ¬
بينهما، فهو أحسن. وقال القاضي أبو الوليد بن رشد رحمه اللَّه: ظاهر المذهب وجوبُه على الكفاية؛ كردِّ السلام (¬1). وقال ابن مُزَين من أصحابنا -أيضًا (¬2) -: هو فرضٌ على كل واحد ممن سمعه، ولا يجزىء أحدٌ (¬3) عن غيره. قلت: وما أظنه يقول ذلك في ردّ السلام، ولعل الفرق على قوله: إن المقصود من السلام التأمين، وذلك حاصل بردِّ الواحد، والتشميتُ دعاء، وليس دعاءُ الواحد بمفرده كدعاء الجماعة، واللَّه أعلم. فإن لم يحمَدِ العاطسُ، لم يُشَمَّتْ؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في "صحيح مُسلم": "مَنْ عَطَسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، فَشَمِّتُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ، فَلَا تُشَمِّتُوهُ" (¬4)، وما يقارب ذلك من الأحاديث الصحيحة. وينبغي له أن يرفع صوتَه بالحمدِ (¬5) ليُسمع، فيُشَمَّتَ، ومن لم يُسمعْ منه الحمدُ (¬6)، لكن سمع ممن هو أقربُ إلى سماعه منه يشمته (¬7)، فليشمته. ¬
وأما من عطس في الصلاة، فلا يحمَدُ اللَّهَ إلا في نفسه. قال سحنون: ولا في نفسه. وهو ظاهر "الكتاب"؛ لقوله: ولا يحمدُ اللَّهَ المصلِّي إنْ عطس، فإن فعل، ففي نفسه، وتركُه خيرٌ له (¬1)، وإنما يبقى النظر هل ترك ذلك عند سحنون على طريق الندب أو الوجوب؟ هو (¬2) محتمل، واللَّه أعلم (¬3). ومن توالى عُطاسه، شُمِّتَ إلى الثالثة، ولم يُشمت فيما (¬4) بعدها، ولكن يقال له: عافاك اللَّهُ، أو "إنَّكَ مَضْنُوكٌ"؛ كما في الحديث (¬5). الخامس: قوله: "وإبرار القَسَم، أو المُقْسِم": لم أرَ فيما وقفتُ عليه من دواوين اللغة أَبَرَّ رُباعيًا، حتى يكون مصدرُه إبرارًا، وإنما المنقولُ في ذلك بَرِرْت، ثلاثيًا -بكسر الراء- يقال: برّ في يمينه يَبُرُّ؛ أي: صدق، وكذا بَرِرْتُ والدي، أَبُرُّه بِرًّا فيهما، فأنا بَرٌّ وبَارٌّ، وكذا بَرَّ حَجُّه، وَبرَّ اللَّه حَجَّه بِرًّا في الجميع (¬6)، إلا ابنَ طريف؛ فإنه ذكر في ¬
"أفعاله" (¬1) بَرَّ الرجلُ يمينَه بِرًّا، أو (¬2) بُرورًا، وأَبَرَّها رباعيًا، ولم أره لغيره، كما تقدم. وقوله: "أو المقْسِم": الظاهرُ أن (أَوْ) هنا للشَّكِّ من هذا الراوي؛ لأنّ في رواية النسائي عند البخاري: "إبرارِ القْسمِ (¬3) " (¬4) بلا شَكٍّ (¬5). والقَسَم: هو الحَلِفُ، وهو مصدرٌ محذوفُ الزوائد، والأصل: أَقْسَم إقسامًا، وقد حَدّه النحاة: بأنه جملة يؤكَّد بها جملةٌ أخرى، كلتاهما خبريّة (¬6)، يرتبطان ارتباط الشرط والجزاء؛ أي: لا يُستغنى بأحدهما عن الأخرى؛ نحو: أحلفُ باللَّه، أو أُقسم باللَّه لأفعلنَّ كذا، أو لا أفعلُ. قيل (¬7): وأصله من القَسامة، وهي أيمانٌ يقسم بها (¬8) على أولياء المقتول -كما تقدم-، ثم صار اسْمًا لكل حلف. ¬
قلت: والعكسُ أولى أن تكون القسامةُ مأخوذة من القَسم؛ لأنها أحدُ أنواعه، ومَا أبعدَ قولَ مَنْ جوّز من معاصرينا أن يكون مأخوذًا من القَسامة التي بمعنى الحُسْن، من قولهم: وجهٌ قَسيم؛ أي: حَسَنٌ، وعَلَّله بأن الحالفَ كأنه حَسَّنَ ما حكم به بتأكيده باسم اللَّه تعالى (¬1). وأما المقسِم: فهو الحَالف نفسه، ولابدّ من تقدير مضاف محذوف، أي: وإبرارِ يمينِ المقْسِمِ. وفيه معنيان: أحدهما: أن الحالفَ إذا حلفَ على شيء مأمورٌ أن يَبَرَّ في يمينه، وهو الوفاءُ بمقتضى ما حلَفَ عَلَيْه (¬2)، وهذا لا خلافَ في وجوبه؛ لأنه مقابِلٌ للحنث لا غيرُ، أو ما يقومُ مقامَ الوفاء بذلك، وهو الكفارة. والثاني: أن يكون المراد (¬3): أن يبرّ يمينَ مَنْ حلف عليك، وهذا على قسْمين: تارة يشوبه معنى السُّؤال، وتارةً لا يشوبه. فالأولُ (¬4) كقوله: باللَّه إلا ما فعلتَ كذا، ونحو ذلك. ¬
والثاني: أن يقول (¬1): واللَّه لتفعلنَّ كذا، ونحو ذلك (¬2)، سواء في هذا الإثباتُ والنفي، وهو مندوبٌ في الوجهين أن يبرّ قَسَمه، لكنه (¬3) يتأكد في الثاني؛ لوجوب الكفارة عليه دون الأول، وذلك إضرار به، هذا كلُّه مع عدم (¬4) المعارِض الشرعي، فإن وُجد معارضٌ، عمل بمقتضاه؛ كما ثبت أن أبا بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- لما عبّر الرؤيا بحضرة النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أَصَبْتَ بَعْضًا، وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا"، فقال: أقسْمتُ عليك يا رسول اللَّه! لتخبرني (¬5)، فقال: "لا تُقْسِمْ" (¬6)، ولم يخبرْه. السادس: قوله: "ونصْرِ المظلوم": والنصرةُ: العونُ، والظُلْمُ: وضْعُ الشيء في غير موضعه المختصِّ به؛ إما بنقصان، أو زيادة، أو بعدولٍ عن وقته ومكانِه (¬7)، ولهذا يقال: ظلمتُ البعيرَ: إذا نحرتُه من غير داءٍ، والمظلومُ: اللبنُ المشروب قبل أن يبلغَ الرّوْب (¬8). ¬
ولا خلاف أعلمُه أن نَصْر المظلوم واجبٌ على مَنْ علم بظلمه، وقدر على نصره ورفع الضرر عنه (¬1)، وهو من فروض الكفايات؛ لما فيه من دفع الضرر عن المسلم بإنقاذه من يد الظالمُ، بل علينا أن نمنع التظالم بين أهل الذمة، ولا نمكِّنَ بعضَهم من ظلم بعض؛ كما يكون ذلك بين (¬2) المسلمين، ويكفي في التحريم من الظلم قوله تعالى (¬3): {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ، لَمْ يُفْلِتْهُ" (¬4)، وتلا قولَه تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، فسبحانَ الذي يُمهل ولا يهمل، وكلُّ شيء عنده بمقدار، إن ربَّك لبالمرصاد (¬5). فائدة: ومما مرّ بي في بعض الكتب القديمة: أنه لما مات كِسْرى أنو شروان، وُجد على تاجه مكتوبًا بالسّرْيانيّة خمسة أسطُر. الأول (¬6): العَدْلُ لا يدوم، وإن (¬7) دام عَمَّر. ¬
والثاني: الظلمُ لا يدوم، وإن (¬1) دام دَمَّرَ. والثالث: الفقْرُ هو الموتُ الأحمرُ. والرابع: الأعمى ميّتٌ وإذ لم يُقْبر. والخامِس: من لم يُخَلِّفْ ولدًا ذكرًا، لم يُذْكَرْ. السّابع: قوله: "وإجابةِ الداعي": ظاهرُه العمومُ، فيتناولُ وليمةَ النكاح وغيرَها من كل أَمْر مشروع. وقد اختُلف (¬2) عندنا في وجوب الإجابة لوليمة النكاح، وهي مَأْدُبَة العُرس بعدَ البناء، لا قبله، وقد نصّ مالكٌ وأكثرُ العلماء على وجوب إتيان طعام الوليمة لمن دُعي إليها بشروطٍ لابدّ من بيانها. قال القاضي أبو الوليد: وصفةُ الدَّعوة التي تجب لها الإجابةُ: أن يَلْقى (¬3) صاحبُ العُرْس الرجلَ (¬4)، فيدعوه، أو يقولَ لغيره: ادعُ لي فلانًا، فيعينّه، فإن (¬5) قال له: ادعُ لي (¬6) مَنْ لقيت، فلا بأس على من دُعي لمثل هذا أن يتخلف. ¬
قال (¬1): وهل يلزم الأكلُ مَنْ لزمته (¬2) الإجابة؟ لم أرَ لأصحابنا فيه نصًّا (¬3) جليًّا، وفي المذهب مسائل تقتضي القولين. وقال القاضي أبو الحسن من أصحابنا: مذهبُنا: أن الوليمة غير واجبة، والإجابةُ إليها غيرُ واجبة، ولكن تُستحب. ثم إنما (¬4) يؤمر بالإجابة -على القولين جميعًا (¬5) - إذا لم يكن في الدَّعوة منكرٌ، ولا فَرشُ حرير، ولا في الجمع مَنْ يتأذَّى بحضوره ومجالسته (¬6) من السفلة والأراذل الذين يزدري بمجالستهم، ولا زحامٌ، ولا إغلاقُ بابٍ دونه؛ فقد روى ابنُ القاسم: هو في سَعَةٍ إذا تخلَّفَ لأجل ذلك، وكذلك إن كان على جدار الدور صور، أو ساتر، ولا بأس بصور الأشجار، فإن كان هناك لعبٌ ولهو، وكان خفيفًا (¬7) مباحًا غير مكروه، لم يرجع، وحضر. وروى ابن وهب: لا ينبغي لذي الهيئة أن يحضر موضعًا فيه لهوٌ. قال القاضي أبو بكر: والحق هو الأول (¬8). ¬
قلت: إذا علمَ أو ظنَّ المدعُوُّ أنه يترتَّب على تخلفه عن حضور الوليمة ما هو أشدُّ من حضور (¬1) المكروه من اللهوِ وغيره؛ كخشية العداوة، أو (¬2) الغيبة بينه وبين الداعي، أو تخاصمٍ غيرِ جائز، فلا ينبغي أن يُختلف في جواز الحضور والحالةُ هذه، وعندي (¬3) في الوجوب نظرٌ، ولا أَستبعده (¬4)، واللَّه أعلم. قال أصحابنا (¬5): فاما لهوٌ غيرُ مباح، كالعود، والطنبور، والمزهَرِ المربَّعِ، فلا تُجاب الدعوة معه، ومن أتاها، ووجد اللهوَ المحظورَ، فليرجعْ. ولا يترك إجابة الدعوة بعذر الصوم، بل يحضر، ويمسك. قالوا (¬6): ويُكره نثرُ السُكَّر واللَّوز (¬7) وشبهِ ذلك. قال القاضي أبو محمد: ويُكره لأهل الفضل التسرعُ إلى إجابة الطعام، والتسامح بذلك، إلا في وليمة العُرس، فقد رخّص فيه، فجعل هذا القدر من التبذُّل بالإجابة في حقِّ أهل الفضل مخصِّصًا لهذا العموم (¬8). ¬
الثامنُ: قوله: "وإفشاءِ السلام": الإفشاء: الإظهارُ (¬1) والانتشار والإعلان، فَشَتِ (¬2) المقالَةُ: إذا ظهرَتْ، وانتشرت، وذاعَتْ، وأفشى السرَّ: أظهرَه ونشرَه، والمراد هنا: أن تحيا سنّةُ السلام، ولا تُمات بالترك (¬3). وأمّا السلام، فهو اسمٌ للمصدر، مثل: كلام (¬4)، والمصدرُ: التسليم؛ وهو من الألفاظ المشتركة تطلق بإزاء أربعة معان: اسْمٌ من أسماء اللَّه تعالى، لقوله: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]. وبمعنى السلامة (¬5)، كقوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]، أي: دار السلامة، ومنه قول الشاعر: تُحَيِّي بِالسَّلامَةِ أُمُّ عَمْروٍ (¬6) ... وَهَلْ لَكِ بَعْدَ قَوْمِكِ مِنْ سَلَامِ (¬7) أي: من سلامة، ومحتملٌ عندي أن يكون كالأول، والإضافةُ إضافةُ ملكٍ وتشريف. ¬
والثالث: أن يكون بمعنى: التسليم والتحية، كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24]، (¬1) أي: يقولون: سلام عليكم. و (¬2) الرابع: شَجَرُ العِضَاة، ومنه قولُ الشاعر: فرابيةُ السَّكْرَانِ قَفْرٌ فَمَا بِهَا (¬3) ... يُرَى شَبَحٌ (¬4) إِلَّا سَلَامٌ وَحَرْمَلُ (¬5) ويقال فيه سَلْم أيضًا. وأما قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا} [يس: 57، 58]، السلامة، على أن يكون (سلام) بدل (مما يدعون)؛ كأنه قيل: لهم سلام، أي: سلامة (¬6)، فقيل: يحتمل (¬7) أن يراد به: التحيةُ، والمعنى: أن اللَّه -تعالى- يُسلِّم عليهم بواسطة الملائكة (¬8)، أو بغير واسطة، مبالغةً في تعظيمهم، وذلك مُتمنّاهم، قال ابن عباس: والملائكةُ يدخلون عليهم ¬
بالتحية، من كل لون (¬1) (¬2). وقد اختلف في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]. إذا ثبت هذا (¬3)، فالابتداء بالسلام سُنّة مرغَّبٌ فيها، لهذا الحديث وما يقاربُه. والمعروف من المذهب: أن الردِّ واجب. وقد نقل ح الإجماعَ على فرضيته (¬4). وقال القاضي أبو محمد: الابتداء بالسلام سنة، وردُّهُ آكَدُ من ابتدائه، فظاهر هذا عدمُ الفرضيّة، واللَّه أعلم. و (¬5) قال ابنُ عطيّة: وأكثرُ أهل العلم على أن الابتداء بالسلام سُنّة مؤكَّدة، ورَدُّه فريضة (¬6) (¬7)، فهو -أيضًا- يخالف ما ذكر ح من الإجماع، فلا يغتر به (¬8). ¬
وينتهي في السلام (¬1) إلى (¬2) البركات عند جمهور أهل العلم (¬3). فائدة نفيسة: اختُلف في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، فقالت فرقة: التحيةُ أن يقول الرجل: سلام عليك، فيجب على الآخر أن يقول: عليكَ السلامُ ورحمة اللَّه، فإن قال البادِىء: السلامُ عليكَ ورحمةُ اللَّه، قال الرادّ: السلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته، فإن قال البادِىءُ: السلامُ عليكَ ¬
ورحمةُ اللَّه وبركاته، فقد انتهى، ولم يمكن للرادِّ (¬1) أن يُحيى (¬2) بأحسنَ منها، فها هنا يقع الردُّ المذكور في الآية. قالت (¬3) فرقة: إنما معنى الآية: تخييرُ الرادِّ، فإن قال البادىء: السلامُ عليك، فللرادِّ أن يقول: وعليك السلام، فقط، وهذا هو الردّ، وله أن يقول: وعليكم السلامُ ورحمةُ اللَّه، وهذا هو التحية بأحسنَ منها. وقال ابن عباس وغيرُه: المراد بالآية: إذا حُييتم بتحية، فإن كان من مؤمن، فحيوا بأحسنَ منها، وإن كان من كافر، فردُّوا على (¬4) ما قال. ويجوز عندنا أن يكون الردُّ بلفظ السلام، وتسليمُ الواحد يجزىء (¬5) عن الجماعة، وكذلك الردُّ، ويُسلِّمُ الراكبُ على الماشي، والقليلُ على الكثير، والصغيرُ على الكبير، فأما الداخلُ على شخص، والمارُّ عليه، فإنه يسلم (¬6) كان راكبًا أو راجلًا، صغيرًا أو كبيرًا، واحدًا أو أكثر (¬7)، كان الشخصُ مستقرًا أو مسافرًا، ولا يسلم على المرأة الشابة؛ بخلاف المتجالَّة. ¬
والمصافحةُ حسنةٌ؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَصَافَحُوا (¬1) يَذْهَبِ الغِلُّ" (¬2)، وكرهها في رواية أشهبُ، والصحيح المشهورُ: الأولُ. وتُكره عندنا المعانقةُ، وتقبيلُ اليد في السلام، ولو من العبد، وينبغي لسيده (¬3) أن يزجُرَه عن ذلك، إلا أن يكون غيرَ مسلم. ولا يُبْتَدأ (¬4) أهلُ الذمة بالسلام عندَ الجمهور، وشذ قومٌ في إباحةِ ابتدائهم، على ما نقله ابنُ عطية، ثم قال: والأولُ أصوبُ؛ لأنّ به يُتصور إذلالُهم، فإن سلَّمَ على أحدهم ساهيًا، أو جاهلًا، ففي "الجواهر" وغيرِها: لم يحتج إلى استقالةٍ (¬5). وقال ابنُ عطية: ينبغي أن (¬6) يَستقيله سلامَه (¬7). وإن بدؤونا، ردّ عليهم: عليكم، بغير واو، وقيل: بإثباتها. وقال القاضي أبو محمد: فإن رد بكسر السين، ونوى موضوعه في اللغة، جاز. ¬
وفي رواية أشهب: لا يسلِّم عليهم، ولا يردّ، وتُؤُوِّل (¬1) ذلك على (¬2) أن المراد به (¬3): لا يردّ عليهم كما يردّ على المسلمين. ويُكرهُ السلام على أربعة: المؤذّن، والملبّي، والآكِلِ، والمتغوِّط. ولا يسلم على أهل الأهواء؛ كالقدريّة، والمعتزلة (¬4)، والروافض، والخوارج، والحشويّة، وما أعتقد حنبليًا يسلم من الحشو، غيرَ الإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولا يُسلم على أهل اللهو والباطل حالَ تَلَبُّسِهم به، بل يُستحب هجرُ جميع أهل القَدَر ونحوهم، وأهلِ الباطل، زجرًا لهم، وردعًا عمّا هم فيه، وغضبًا للَّه سبحانه في مواصلة مَنْ هذه (¬1) سبيلُه. وروي إباحةَ السلام على اللاعب بالشطرنج، وقال: هم مسلمون. ومَنْ دخل منزلَه، فليسلِّمْ على أهله، وإن دخلَ منزلًا ليس فيه أحد، فليقل: السلامُ علينا وعلى عبادِ اللَّه الصالحين. وسمعت شيخَنا الإمام أبا العباس المرسيَّ رحمه اللَّه يقول: مَنْ وَاظب على قولِ: لا إله إلا اللَّه عندَ دخوله منزلَه، وجد الغنى حسًا (¬2)، هذا أو نحوه. هذا كله -أعني: آداب السلام- نقلُ مذهب مالك رحمه اللَّه تعالى (¬3). التاسع: قوله: "ونهانا عن خواتيمَ، أو تختُّم الذهبِ، وعن شربٍ (¬4) بالفضة": الخواتم: جمعُ خاتِمَ -بكسر التاء وفتحها-، وخَيْتام (¬5)، ¬
وخَاتام، أربعُ لغات، تقدَّم ذكرُها، وسوَّى الجوهريُّ بينها (¬1) في الجمع (¬2) على فَواعيلَ (¬3)، وقد نُقِل عن الجرمي: أن كلَّ ما كان على فاعَل -بفتح العين-، نحو: نابل، فإن جَمْعَهُ على فواعيل، نحو: طوابيق، ونوابيل (¬4)، وخواتيم. وفي اللفظ تردُّدٌ بين خواتيم، وتخُّتم: فعلى الأول: لابدَّ من تقدير محذوف، أي: لبسِ خواتيمَ. وعلى الثاني: لا يحتاج إلى حذف؛ لأن الإضافةَ في الأول إلى الذّات، فلابدَّ من صرفها إلى فعل يتعلق بها، وفي الثاني أُضيف إلى المصدر، فلا حاجةَ إلى غيره، فإن النهيَ يصحّ تعلُّقه به نفسه (¬5). والذهب: لفظ مشترك، والمراد به ها هنا: ما (¬6) غلب استعمالُه فيه، وهو أحد النقدين، ويذَّكر (¬7) ويؤنَّث. قال الجوهري: والقطعةُ منه ذَهَبَةٌ (¬8)، ويجمع على الأَذْهاب، والذُّهوب، والذهبُ -أيضًا-: مكيالُ أهل اليمنِ معروفٌ، الجمع: ¬
أَذْهاب (¬1)، وجمعُ الجمع أذاهِب، عن أبي عبيد (¬2). فيه: دليلٌ على تحريم التختُّم بالذهب، وهو راجع إلى الرجال، ودليلٌ على تحريم الشرب في أواني الفضة، وذلك عند العلماء عامٌّ بالنسبة إلى الرجال والنساء، على ما تقدم استيعابه. ق: والجمهورُ على ذلك، وفي مذهب الشافعي قولٌ ضعيف أنه مكروه فقط، ولا اعتدادَ به، لورود الوعيد عليه بالنار. قال: والفقهاء القياسيون لم يقصروا هذا الحكم على الشرب، وعَدَّوْه إلى غيره، كالوضوء، والأكل، لعموم المعنى فيه (¬3). العاشر: قوله: "والمياثِرِ"، وفي بعض الروايات: "وَعَنْ مَيَاثِرِ الأُرْجُوَانِ" (¬4): قال أهلُ اللغة: مِيثَرَةُ الفَرَس: لبدَتُه غير مهموز-، والجمعُ: مَياثِر، ومَواثِر. قال أبو عُبيد: وأمّا المياثرُ الحمرُ التي جاء فيها النهيُ، فإنها كانت من مراكب (¬5) الأعاجم من ديباجٍ وحريرٍ (¬6)، وكأن الأصلَ: ¬
ونهانا عن افتراشِ المياثر، والأصلُ في الميثرة الواو، ولكن قُلبت ياء؛ لسكونها، وانكسار ما قبلها؛ كأنه من الوِثار، وهو الفِراشُ الوطيء، أو الوثر، يقال: ما تحته وثرٌ ووِثارٌ (¬1). الحادي عشر: القَسِّيّ: بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة، وفي "شرح الإلمام": وذكر أبو عُبيد رحمه اللَّه: أن أصحاب (¬2) الحديث يقولون: القِسِّيُّ -بالكسر-، وأهل مصر يفتحون القاف، تنسب (¬3) إلى بلادٍ يقال لها: القَسُّ (¬4). وقال ابنُ وهب، وابن بُكير (¬5) فيما حكاه ع: هي ثياب مُضَلَّعة بالحرير، تُعمل بالقَسِّ من بلاد مصر مما يلي الفرماء (¬6). وقال الجوهري: والقَسِّيُّ: ثوبٌ يحمل من مصر يخالطه الحرير (¬7). وقد روى أبو داود عن أبي بردة، عن علي -رضي اللَّه عنه- في حديث ذكره: "وَنَهاني عنِ القَسَّةِ وَالميثَرِ"، قال أبو بردة: فقلنا لعليٍّ: ما القَسَّة؟ ¬
قال: ثيابٌ تأتينا من الشام أو من (¬1) مصر مضَلَّعة فيها أمثالُ الأترجِّ، قال: والميثرةُ: شيء كان يصنعه النساء لبعولتهنَّ (¬2). قال بعض شيوخنا (¬3): ومنهم من جعل السينَ مبدلةً من الزاي، ويكون بمعنى: القَزِّيِّ المنسوبِ إلى القَزّ، واللَّه أعلم (¬4). الثاني عشر: قوله: "ولبْسِ الحرير، والإستبرقِ، والديباجِ"، اللُّبْس -بضم اللام-: مصدرُ لبستُ الثوب ألبَسه -بكسر الباءِ في الماضي، وفتحها في المستقبل (¬5) -، قال الشّاعر: وَلُبْسُ (¬6) عَبَاءَةٍ وَتَقِرَّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ واللباسُ واللبوسُ مثلُه، وأما اللِّبسُ -بكسر اللام-، فهو ما يُلبس، ¬
ولِبْسُ الكعبةِ: هو ما عليها من لباس، وأما اللَّبْس -بفتح اللام-، فمصدر لَبَسْتُ عليه الأمرَ أَلْبِسُه -بفتح الباء في الماضي، وكسرها في المستقبل (¬1) - قال اللَّه تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] (¬2). والحريرُ: معروفٌ، والإستبرقُ: غليظُ الديباج، فارسيٌّ معرَّبٌ، قاله الجواليقي. وقال ابن دريد: ويُصغر على أُبَيْرق، ويُكَسَّر على (¬3) أباريق -بحذف السين والتاء جميعًا-، وقد تقدم أن الأكثرَ في الديباج كسرُ الدال، وأنه فارسيٌّ معربٌ (¬4). وظاهرُ الحديث يدلُّ على تحريم هذه المنهيَّات كلّها، وقد تقدم في صدر الكتاب الكلامُ على ما إذا قال الصحابي: أَمَرَنا -عليه الصلاة والسلام- بكذا، ونهانا عن كذا، ونحو ذلك، وأنه على سبعةِ أقسامٍ، بما يغني عن الإعادة، مع أنها مسألة مشهورة في أصول الفقه أيضًا. * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس (¬1) 393 - عَنْ عبد اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ (¬2)، فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إذَا لَبِسَهُ، فَصَنَعَ النَّاسُ كَذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ جَلَسَ فَنَزَعَهُ، فَقَالَ: "إنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ, وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ"، فَرَمَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَاللَّهِ! لا أَلْبَسُهُ أَبَدًا"، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ (¬3) (¬4). ¬
وَفِي لَفْظٍ: جَعَلَهُ فِي يَدِهِ اليُمْنَى (¬1). * * * * الشرح: الأصلُ في اصْطَنَعَ: اصْتَنَعَ (¬2): بالتاء (¬3)، فلما جاورت التاءُ (¬4) الصادَ، وهي -أعنى: التاء- (¬5) مُستفل (¬6)، والصاد حرفٌ مستعلٍ (¬7) ¬
مطبق شديد، إلى غير ذلك من الصفات التي توجب منافَرَتَه للتاء (¬1)، أبدلوا منها حرفًا مناسبًا للصاد في ذلك كلِّه، وكانت الطاءُ أولى بذلك من غيرها؛ لأنها من مخرج التاء، وإن كانت الدال -أيضًا (¬2) - من ذلك المخْرج، لكن التاء إلى الطاء أقربُ منها إلى الدال، على ما هو مقرر عند النحاة. والفَصُّ: بفتح الفاء وكسرها، والفتح أفصح (¬3). والكفُّ: مؤنثة. ونزع: مضارعُه يَنْزِعُ -بالكسر-، وإن كانت لامُه حرفَ حلق. وفيه: ما تقدم من استحباب الحلف من غير استحلاف عندَ إرادة تقرير الأحكام وتأكيدها، لما في ذلك من الوقع في نفس المكلفين بالنسبة إلى تَلَقِّي الأحكام. وفيه: دليلٌ على تحريم خواتم الذهب على الرجال. وفيه: إطلاقُ لفظ: (اللّبس) على التختُّم، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السادس
الحديث السادس (¬1) 394 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عَنْ لُبُوسِ الْحَرِيرِ، إلَّا هَكَذَا , وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِصْبَعَيْهِ: السَّبَّابَةَ, وَالْوُسْطَى (¬2). وَلِمُسْلِمٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، إلَّا مَوْضِعَ إِصْبُعَيْنِ, أَوْ ثَلاثٍ, أَوْ أَرْبَعٍ (¬3). ¬
* الشرح: قد تقدم في غير ما موضع ما يدل على تحريم الحرير للرجال، وهو مذهب الجمهور، وحكى ع إباحتَه عن قوم، الرجال (¬1) والنساء (¬2)، وعن ابن الزبير: تحريمه عليهما؛ و (¬3) انعقد الإجماع على تحريمه على الرجال، وإباحته للنساء (¬4)، وهذا الحديث يدلُّ على استثناء هذا القدر المذكور، وقد قررنا ما ينبغي تقريره من ذلك فيما تقدم. والإصبعُ: مؤنثة، وفيها عشرُ لغات: فتح الهمزة، وكسرها، وضمها، وكذلك الباء، فهذه تسع، والعاشرُ: أصبوع، وأظنّه تقدم أيضًا. فائدة لغوية: أسماءُ الأصابع وهي: الإبهام، والسبابة، والوسطى، والبنْصر، والخنصر، يقال ذلك في كل كَفٍّ وقَدَمٍ، وما بين عصبة الإبهام ¬
والسبّابة: الوَتَرة (¬1)، وكذلك ما بين كل إصبعين من أصولهما (¬2)، والخَلَلُ والخصاص: الفروجُ التي ما بين الأصابع؛ واحدتُها خصاصَة، وفي الأصابعِ الأَناملُ، واحدتها أنْمَلة -بفتح الميم (¬3) -، ويقال: أَنْمُلة -بضمها-، والأول أفصح، وهي ما تحت الظفر من الأصابع، وفيها الأظفار؛ واحدُها (¬4) ظُفر، وأُظفور (¬5)، وما حول الأظفار: الإطار؛ واحدُها أَطْر، وإطار -أيضًا-، وجمعها أُطُرٌ، ويقال: للبياض الذي يكون في أظفار الأحداث: الفَوْق والفُوق (¬6)، و (¬7) الأصابعُ -أيضًا- السُّلاميات؛ واحدتها سُلَامَى، وهي: العظام التي ما بين كل مفصلَين من مفاصل الأصابع، وفي الأصابع: الرواجبُ، وهي: بطونُ السلاميات وظهورُها، وفي الأكفِّ (¬8): البراجِمُ، الواحدة بُرْجُمَة وهي: رؤوس السُّلاميات من ظاهر الكفّ، إذا قبض القابض كفه، نَشَزت، وارتفعت، واللَّه الموفق. ¬
كتاب الجهاد
كِتْابُ الْجِهَاد
الحديث الأول
كِتْابُ الجهاد الحديث الأول 395 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كانَ (¬1) فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ، انْتَظَرَ حَتَّى إذَا مَالَتِ الشَّمْسُ، قَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ (¬2): "أَيُّهَا النَّاسُ! لا تَتَمَنَّوْا (¬3) لِقَاءَ الْعَدُوِّ, وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاصْبِرُوا (¬4) , وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ"، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ, وَمُجْرِيَ السَّحَابِ, وَهَازِمَ الأَحْزَابِ! اهْزِمْهُمْ, وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ" (¬5). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: الجهادُ: مأخوذٌ من الجَهْد -بفتح الجيم-، وهو التعبُ والمشقَّة، و-بضم الجيم-: الطاقة، بلغ جُهْدَه (¬1)، أي: طاقته، فمعنى المجاهد في سبيل اللَّه: المبالغ في إتعاب نفسه في ذات اللَّه عز وجل، وإعلاءِ كلمته التي جعلها طريقًا إلى الجنة وسبيلًا إليها. والجهادُ يكون بأربعة أشياء: بالقلب، واللسان، واليد، والسيف. فجهادُ القلب: جهاد الشيطان، ومجاهدةُ النفس عن الشهوات و (¬2) المحرمات، قال اللَّه تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]. ¬
وجهاد اللسان: الأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر. وجهاد اليد: زجْرُ ذوي الأمور أهلَ المناكر عن مناكرهم، وأخذُهم على يد الظلمة، وإقامتُهم الحدود على القَذَفَة والزناة وشَرَبَة الخمر، وغير ذلك مما أوجب اللَّه -تعالى- عليهم. وجهاد السَّيف: قتالُ المشركين على الدّين. فكلُّ من أتعبَ نفسه في ذات اللَّه عز وجل، فقد جاهد في سبيله، إلا أن الجهاد في سبيل اللَّه إذا أُطلق، لم يقع عُرفًا إلا على مجاهدة الكفار بالسّيف. وَالجهادُ (¬1) منْ أفضل الأعمال وأزكاها عند اللَّه تعالى، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] الآية، ومن أحبَّ (¬2) اللَّه لا يسأل عن حاله، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} إلى قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]، ومَنْ باع سلعته بالجنّة أتراه رابحًا (¬3)؟ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على فضل الجهاد. وقد سئل -عليه الصلاة والسلام- عن أفضل أعمال البر، فقال: ¬
"إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ في سَبِيلِهِ" (¬1)، وإنه قال لرجل له ستة آلاف دينارٍ: "لَوْ أَنْفَقْتَهَا في طَاعَةِ اللَّهِ (¬2)، مَا بَلَغَتْ غُبَارَ شِرَاكِ نَعْلِ المُجَاهِدِ" (¬3)، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَغَدْوَةٌ (¬4) أَوْ رَوْحَةٌ في سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيهَا". وإنما كان الجهادُ من أفضلِ الأعمالِ؛ لما فيه من بذلِ النفس في ذات اللَّه -تعالى-، ومَنْ بذلَ نفسه (¬5) في ذات اللَّه تعالى، فقد بلغَ الغايةَ التي لا يقدر على أكثرَ منها، ولذلك جازى اللَّه الشهداءَ الذين قُتلوا في سبيله بحياةِ الأبدِ، فقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 169 - 170]، وفي الحديث من رواية أبي سعيد الخدري: "الشُّهَدَاءُ يَغْدُونَ وَيَرُوحُونَ إِلَى الجَنَّةِ، ثُمَّ يَكُونُ مَأْوَاهُمْ إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ (¬6) تَحْتَ العَرْشِ" (¬7)، ولو أخذْنا نذكر فَضْلَ ¬
الجهاد، لخرجنا عن مقصود الكتاب. الثاني: فيه: استحبابُ المُصَافَّة بعدَ الزوال. وفيه: استحبابُ ترغيبِ الإمام المقاتلةَ قبل اللقاء، والدعاء على (¬1) العدو بالانهزام، وللمسلمين بالنصر والغلبة، ونحو ذلك. وفيه: أنه يُستحب الدعاءُ بصفات (¬2) اللَّه -تعالى- التي تناسب (¬3) طِلْبةَ الداعي؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وهازمَ الأَحزابِ اهْزِمْهُم" (¬4). وفيه: كراهةُ تمني لقاء العدو، و (¬5) خشية اضطراب النفوس وتغيرها عما عزمت عليه، لصعوبة فَقْدِ الحياة عند الملاقاة، أو لغير (¬6) ذلك مما استبدَّ بعلمه -عليه الصلاة والسلام-، وقد نهى عن تمني الموت مطلقًا لضررٍ (¬7) نزلَ، وفي حديث آخر: "لَا تتمَنَّوُا المَوْتَ، فَإِنَّ ¬
هَوْلَ المُطَّلَعِ شَدِيدٌ" (¬1). وقد اختلف الناسُ (¬2) في قول يوسف -عليه الصلاة والسلام-: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101]، هل ذلك من تمني الموت، أو لا؟ فقال ابن عباس: لم يتمنَّ الموتَ نبيٌّ غير يوسفَ -عليه الصلاة والسلام-، وذكر المهدوي تأويلًا آخر، وهو الأقوى: أنه ليس في الآية تمني موتٍ، وإنما عَدَّدَ يوسفُ -عليه الصلاة والسلام- (¬3) نعمَ اللَّه -تعالى- عليه (¬4)، ثم دعا أن يُتم عليه النعمَ في آخر أمره، أي: إذا توفيتني إذا حين (¬5) أجلي، فتوفَّني على الإسلام، واجعلْ لحاقي بالصالحين، فتمنى الموافاةَ (¬6) على الإسلام، لا الموتَ. وقد ورد عنه -عليه الصلاة والسلام- في بعض دعائه: "وَإِذَا أَرَدْتَ بِالنَّاسِ فِتْنَة، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتونٍ" (¬7). ¬
وروي عن عمر -رضي اللَّه عنه-: أنه قال: اللهمَّ قد رَقَّ عظمي، وانتشرت رعيتي، فتوفَّني غيرَ مقصّرٍ، ولا عاجِزٍ (¬1). قال الإمام: وقد يُشكل في هذا الموضع أن يقال (¬2): إذا كان الجهاد طاعةً، فتمنِّي الطاعةِ كيف يُنهى عنه؟! قيل: قد يكون المرادُ بهذا: أن التمني رُبما أثار فتنة (¬3)، وأدخل حسرة إذا تُسِّهل (¬4) في ذلك، واستخفَّ (¬5) به، ومن استخفَّ بعدوه، فقد أضاعَ الحزمَ، فيكون المراد بهذا؛ أي: لا تستهينوا (¬6) بالعدوّ، فتتركوا الحذرَ والتحفُّظَ على أنفسكم، وعلى المسلمين، أو يكون المراد: لا تتمنوا لقاءه على حالة شك في غلبته لكم، أو يخاف منه أن يستبيح الحريم، ويذهب الأنفس والأموال، أو يدرك (¬7) منه ضرر (¬8)، ثم أمر -عليه الصلاة والسلام- بالصبر عند وقوع الحقيقة، فإن مَنْ صَبَر، كان اللَّهُ ¬
معَهُ، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وغير ذلك من الآيات (¬1) في هذا المعنى. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "واعلموا أَنَّ الجنةَ تحت ظِلال السُّيوف": هذا من المجاز البليغ الحَسن جدًا؛ فإن ظلَّ الشيء لما كان ملازمًا له، جُعل ثوابُ الجنة واستحقاقُها بسبب الجهاد، وإعمال السيوف لازمًا لذلك، كما يلزم الظلُّ (¬2). وهذا عندي كقوله -عليه الصلاة والسلام-: "الجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيوفِ (¬3) ". وأمّا قولُه -عليه الصلاة والسلام-: "مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ" (¬4)، فيحتمل أمرين: ¬
أحدهما: أن يكون ذلك حقيقةً، كما قيل، وتُنقل هذه البقعة، فتكون روضة في الجنة، وفيه عندي بُعْدٌ ما. والثاني: وهو أشبهُ: أن يكون مجازًا، ومعناه: أنه جعلَ نفسَ البقعة من الجنة؛ لصيرورة مَنْ حَلَّها (¬1) إلى الجنّة -إن شاء اللَّه تعالى- على طريق المبالغة والاستعارة. وكان تخصيص السُّيوف دونَ آلاتِ الحرب، لكونها الغالبَ على ما (¬2) يُقاتَل به، واللَّه أعلم. ق: وهذا الدعاء لعله إشارةٌ إلى ثلاثة أسباب يُطلب بها الإجابة. أحدها: طلبُ النصر بالكتابِ المنزل عليه، يدلُّ عليه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "منزلَ الكتاب"، كانه قال: كما أنزلته، فانصرْه وأَعْلِه (¬3)، وإشارة إلى القدرة بقوله: "ومجريَ السحاب". وأشار إلى أمرين بقوله "وهازمَ الأحزاب": أحدهما: التفرُّدُ بالفعل، وتجريدُ التوكُّل، واطِّراحُ الأسباب، واعتقادُ أن اللَّه -تعالى- هو الفاعل. والثاني: التوسُّل بالنعمة السابقة إلى النعمة اللاحقة. وقد ضمَّن الشعراءُ هذا المعنى أشعارَهم بعدما أشارَ إليه كتابُ اللَّه ¬
حكايةً عن زكريا (¬1) -عليه الصلاة والسلام- في قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]، وعن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]. وقال الشاعر: كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ فِيمَا مَضَى ... كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيمَا بَقِي وقال آخر (¬2): لَا وَالَّذِي مَنَّ بِالإِسلَامِ يُثْلِجُ في فُؤَادِي مَا كَانَ يَخْتِمُ بِالإِسَاءَةِ وَهُوَ بِالإِحْسَانِ بَادِي (¬3) قلت: وعلى هذا الشاعر عندي (¬4) مؤاخذة في قوله: ما كان يختمُ بالإساءة، فإنه لا يقال فيمن خُتم له بالكفر -والعياذ باللَّه-: إن اللَّه -تعالى- أساء إليه، إجماعًا؛ لأنه تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ¬
ما يريد في خَلْقه؛ لأنهم ملكُه ومحلُّ تصرفه، فلا يتصور منه الظلم ولا الإساءة أبدًا؛ لكونه تعالى لم يصادف لغيره ملكًا (¬1)، فيتصرف (¬2) بغير إذنه. وقد سمعت شيخنا الإمام أبا علي البجائي (¬3) -قدّس اللَّه روحَهُ- يقول: وقفَ (¬4) بعضُ المعتزلة على الحسنِ بنِ عليٍّ -رضي اللَّه عنهما-، فقال: تعالى رَبُّنا (¬5) عن الفحشاء. فقال الحسن: تعالى أن يكون في داره ما لا يشاء. فقال المعتزلي: أرأيتَ إن جَنَّبَني الهدى، وسَبَّبَ إليَّ الردى، أَحْسَنَ إليَّ أَمْ أَساء؟ فقال الحسنُ: إن كان تصرُّفه فيما لا يملكه، فقد أساء، وإن كان تصرفه فيما يملكه، فرحمَتُهُ يختصُّ بها من يشاء. فولَّى المعتزلي وهو يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. وإن أراد هذا الشاعر: ما كان يختم بما يسوْءُني بعد إحسانه ¬
إليّ (¬1)، فعبارتُه لا تعطيه (¬2) على التحرير، وإن كان الظاهرُ أن هذا مقصودُه، ولكن اللفظ ينبو عنه؛ لكونه أتى بالإساءة في مقابلة الإحسان، فأخطأ في اللفظ دون المعنى، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 396 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعديِّ (¬1) -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا (¬2) , وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا, وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا" (¬3). ¬
* الشرح: الرِّباطُ (¬1): المرابطةُ، وهي: مُلَازَمَةُ ثغرِ العدوِّ (¬2). هكذا (¬3) فسره أهلُ اللغة، وكأن المرابِط ربطَ نفسهُ في الثغر، لملازمته إياهُ مُدّةً ما. والثَّغْرُ: هو موضع المخافة من فُروج البلدان (¬4)، كعَسْقَلان، والإِسكندرية، ودِمْياط، ونحوِ ذلك. وقد تقدم أن السبيل: الطريق، وأنه يذكَّر ويؤنث. والرَّوْحَةُ: السَّيْرُ من الزوال إلى آخر النهار. والغَدْوةُ: السيرُ من أول النهار إلى الزوال. و (أو) هنا (¬5) للتقسيم، لا للشكِّ. ح: والظاهرُ: أنه لا يختصّ ذلك بالغدوّ والرواح من بلدته (¬6)، ¬
بل يحصل هذا الثواب بكلِّ غدوةٍ وَروْحةٍ في طريقه إلى العدوّ، وكذا غُدُوُّه ورواحه في موضع القتال؛ لأن الجميع يسمَّى غدوةً وروحةً في سبيل اللَّه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "خيرٌ من الدنيا وما عليها" معناه -واللَّه أعلم-: إن فَضْلَ الغدْوة والروحة وثوابَهما خيرٌ من نعيمِ الدنيا كلها لو (¬1) مُلكت، و (¬2) تُصُوِّر النعيمُ بها كلها؛ لزوال النّعيم بالدنيا، وبقاء نعيم الآخرة (¬3)، لاسيما ولا نسبةَ بين النعيمين (¬4)، ولو لم يكن من نعيم الآخرة إلا النظرُ إلى وجهه تعالى، لكان كافيًا، نسأل اللَّه العظيم ربَّ العرش العظيم أن لا يحرمَنا خيرَ ما عندَه بشرّ (¬5) ما عندَنا آمين. وهذا بابُ تشبيه الغَيْب بالمحسوس المشاهَدِ (¬6)، ومثلُه من وجهٍ قولُه تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35] الآيةَ، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 397 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، عَنْ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ (¬1): "انْتَدَبَ اللَّهُ، وَلِمُسْلِمٍ، قال: "تَضَمُّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ, لا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي, وَإِيمَانٌ بِي, وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي (¬2)، فَهُوَ عَلِيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ, أَوْ أُرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ" (¬3). ¬
398 - وَلِمُسْلِمٍ: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ- كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ, وَتَكَفَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إنْ تَوَفَّاهُ (¬1): أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ, أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ" (¬2). * * * * الكلام على هذا الحديث من وجوه: الأول: كأنّ وجهَ التعبير بالضمان والكفالة تحقيقُ الموعود من اللَّه -تعالى- وتوكيدُه، وهو الجنةُ، أو الأجرُ والغنيمةُ، وكأنه -تعالى- ¬
أوجبَ ذلك على نفسهِ على طريق التفضُّلِ لمن كان بهذه الصفة، واللَّه أعلم. الثاني: قوله: "لا يخرجه إلا جهادٌ في سبيلي"، رويناهُ بالرفع هو وما عطف عليه، وهو الصوابُ الذي لاشك فيه؛ لأنه فاعل لـ "خرج" (¬1)، والاستثناء مُفَرَّغ (¬2)، فهو كقولنا: ما أكرمَكَ (¬3) إلا زيدٌ سواء، وقال ح: هو بالنصب في جميع نسخ (¬4) مُسْلم، "جهادًا" بالنصب، (¬5) وهكذا ما بعده "وإيمانًا بي وتصديقًا"، قال: وهو منصوب على أنه مفعول له، وتقديره: لا يخرجُه المخرجُ، ويحركه المحركُ إلا للجهاد، والإيمان، والتصديق (¬6). قلت: هذا وجةٌ بعيدٌ جدًا، لا ينبغي حملُ الحديث عليه، والأولُ هو الصواب إعرابًا ومعنًى. أما الإعراب، فقد ذكر، وأما المعنى، فإن الرفع أبلغُ، لإسناد الإخراج إلى الجهاد وما (¬7) بعدَه، حتى كَأن ذلك هو المباشِرُ حقيقةً ¬
لإخراجه حسًّا؛ إذ كان خروجه مخلَصًا من كل شائبة من الشوائب (¬1) الدنيوية، فتمحَّضَ (¬2) القصدُ لإعلاء كلمة اللَّه -تعالى- لا غيرُ، فلا مُخرجَ ولا محرِّكَ له (¬3) إلا ذلك، وهو (¬4) كقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الآخر: "لا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ" (¬5) سواء، ولم يروه أحدٌ بالنصب فيما علمتُ، فليُعْرَفْ ذلك. وقوله: "وإيمانٌ بي" يحتمل معنيين: أحدهما: لا يخرجه إلا محضُ الإيمانِ والإخلاصِ والتصديقِ. والثاني: إن الكلام على حذف مضاف، أي: لا يخرجهُ إلا الإيمانُ (¬6) بوعدي وكرمي، ومجازاتي له بالجنة على جهاده، وتصديق برسولي (¬7) في ذلك، والأولُ أظهرُ، واللَّه أعلم. الثالث: قوله: "فهو عليَّ ضامنٌ"، قيل: إن فاعلًا هنا بمعنى مفعول، كقوله تعالى: {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]، بمعنى: مدفوق، ¬
و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]، بمعنى: مَرْضِيَّة، وقيل معناه: ذو ضمان؛ كلابِنٍ، وتامِرٍ، ويكون الضمانُ ليس منه، وإنما نُسب إليه، لتعلُّقه، والعرب تضيف بأدنى ملابسة (¬1). وقوله: "أُدْخِلَه (¬2) الجنةَ": يحتمل أن يدخلَه عند موته، كما قال -تعالى- في الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، وفي الحديث: "أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ في الجَنَّةِ" (¬3)، ويحتمل أن يكون المراد (¬4): دخوله عند دخول السابقين والمقرَّبين، بلا حساب ولا عذاب، ولا مؤاخذةٍ بذنب، وتكون الشهادة مكفِّرَةٍ لذنوبه؛ كما صرح به في الحديث الصحيح، (¬5) قاله ع (¬6). وقوله: "أو (¬7) أَرْجِعَه إلى مسكنِه": هو بفتح الهمزة وكسر الجيم، متعديه ولازمُه سواء، ثلاثي في الوجهين، قال اللَّه تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 83]، {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [طه: 40]، وهذيل تقول: (أَرْجَعَ) رباعيًا. ¬
وقوله: "ما نالَ من أجرٍ أو (¬1) غنيمة"، أي: مع ما حصل له من الأجر بلا غنيمة إن لم يغنموا، أو مع الأجر والغنيمة إن غنموا، وقيل: (أو) هنا بمعنى الواو أي (¬2): من أجر وغنيمة. ح: وكذا وقع بالواو في (¬3) رواية أبي داود، (¬4) وكذا وقع في مسلم في (¬5) رواية يحيى بن يحيى. وتلخيص المعنى: أن اللَّه -تعالى- ضمنَ أن الخارجَ للجهاد ينال الخيرَ بكلِّ حال، فإما أن يستشهد (¬6) فيدخل الجنة، وإما أن يرجع بأجرٍ، وإما بأجر (¬7) وغنيمة. واللَّه أعلم (¬8). * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع 399 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ (¬1) , وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ (¬2) " (¬3). ¬
* الشرح: الكَلْمُ في اللغة: الجرح، فيكْلم، بمعنى: يُجْرَح (¬1) (¬2). ولعل السِّرَّ في مجيئه يومَ القيامة وجُرْحه يَدْمى أُمور ثلاثة: أحدها: أن يكون (¬3) تشنيعًا وتبشيعًا على جارحه، وشهادةً عليه بالجرح ظاهرة، والدم في النصل (¬4) شهادة أعجب (¬5). الثاني: أن يكون ذلك إظهارًا لشرفه وكرامته عند أهل الموقف بانتشار رائحة المسك من جرحه الشاهِدِ له ببذلِ نفسه في ذاتِ اللَّه تعالى، والجودُ بالنفسِ أَقْصى غَايَةِ الجودِ. الثالث: أن هذا الدمَ خلعٌ (¬6) خلعَها اللَّه عز وجل عليه في حقيقة المعْنى، وملبَسٌ شريف أكرَمهُ (¬7) اللَّهُ -تعالى- به في الدنيا، فناسبَ (¬8) ¬
أن يأتي يومَ القيامة لابسًا خلعَة الملكِ. أَحْرَى الملَابِسِ أَنْ تَلْقَى الحَبِيبَ بِهِ ... يَوْمَ التَّزَاوُرِ في الثَّوْبِ الَّذِي خَلَعَا (¬1) * * * ¬
الحديث الخامس والسادس
الحديث الخامس والسادس 400 - عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ: خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). * * * 401 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (¬2). ¬
قد تقدم شرحُ هذا المعنى فيما سبق، فلا معنى لإعادته إلا التكرار. * * * ¬
الحديث السابع
الحديث السابع 402 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلَى حُنَيْنٍ، وَذَكَرَ قِصَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ"، قَالَهَا ثَلاثًا (¬1). ¬
* الشرح: حُنَيْنٌ: وادٍ بين مكةَ والطائف، وراءَ عرفاتٍ، بينه وبين مكة بضعةَ عشرَ ميلًا، وهو مصروفٌ (¬1) كما جاء في القرآن الكريم؛ لكونه مذكَّرًا، فليس فيه إلا العَلَميّةُ (¬2). قال مالك رحمه اللَّه: إذا قال الإمام: مَنْ قتلَ قتيلًا، فله سلبُهُ، فذلك لازمٌ له، ولكنه على قدرِ اجتهادِ الإمام، وبحسب الأحوالِ والصفات، واستصراخ الأنجاد. قال ابنُ عطيةَ: وقال الشافعيُّ، وأحمدُ: يُخرج الأسلابَ من الغنيمة، ثم تخمس بعدَ ذلك، ويعطي الأسلاب للقتلة. وقال إسحاقُ بن راهويه: إن كان السلَبُ يسيرًا، فهو للقاتل، وإن كان كثيرًا، خمَّس، وفعلَهُ عمرُ بنُ الخطابِ -رضي اللَّه عنه- مع البَراءِ بنِ مالكٍ حين بادرَ المرزبانَ فقتلَه، فكانت قيمةُ مَنْطَقَتِه وسَوارْيه ثلاثين ألفًا، فخمسَ ذلك، وروي ذلك (¬3) في حديثٍ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في "أبي ¬
داود"، وهو حديث عوف بن مالك (¬1) الأشجعيِّ (¬2). وقال مكحول: مغنم، وفيه الخمس، وروي نحوُه عن عمرَ بنِ الخطاب، يريد: يخمس على القاتل وحدَه. وقال جمهور الفقهاء: لا يُعطى القاتلُ السلبَ حتى يقيمَ بينةً على قتله. قال أكثرهم: ويجزىء شاهدٌ واحدٌ بحكم حديث أبي قتادة. وقال الأوزاعي (¬3): يُعطاه بمجرد دعواه، وهذا ضعيف. قلت: ولا أعلم له نظيرًا. وقال الشافعي: لا يُعطى القاتلُ إلا إذا كان قتيلُه (¬4) مقبِلًا، مُشيحًا (¬5)، مُبارِزًا، وأما إن قُتل، منهزمًا، فلا. وقال أبو ثور، وابن المنذر صاحب "الإشراف": للقاتل السلبُ منهزِمًا كان القتيل، أو غير منهزم، وهذا أصح؛ لحديث سلمةَ بنِ الأكوع في اتباعه رَبيئَةَ (¬6) الكفار في غزوة حُنين، وأخذِه بخطام بعيره، ¬
وقتله إياه (¬1)، وهو هاربٌ، فأعطاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سَلَبَه. وقال ابنُ حنبل: لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط. واختلفوا في السلب، فأما (¬2) السلاحُ، وكلُّ ما (¬3) يُحتاج للقتال، فلا أحفظُ فيه خلافًا أنه من السلب، وفرسُه إن قاتلَ عليه، وصُرع عنه. وقال أحمدُ بنُ حنبل في الفرس: ليس من السلبَ (¬4)، وكذلك إن كان في مَنْطَقَتِهِ [أو] هِمْيَانه دنانير، أو جَوْهَر، أو نحوُ (¬5) هذا مما يعُدّه، فلا أحفظ فيه خلافًا أنه ليس من السلَب. واختُلف فيما يُتزين به للحرب بمهابة (¬6)؛ كالتاج، والسّوارين، والأقراط، والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار. فقال الأوزاعي: ذلك كلُّه من السلب. وقالت فرقةٌ: ليس من السلب. وهذا كله مروي عن سحنون رحمه اللَّه تعالى، إلا المنطقة، فإنها عنده من السلب. ¬
و (¬1) قال ابن حبيب في "الواضحة": والسوارانِ من السَّلَب. ولو قال الإمام: من قتلَ قتيلًا فله سلبُهُ، فقتل ذِمِّيٌّ قتيلًا؛ فالمشهورُ أن لا شيءَ له. وعلى قول أشهب: يُرْضَخُ لأهل الذمة من الغنيمة، يلزم أن يُعْطَى السلب. فإن قتل الإمامُ بيده قتيلًا بعد هذه المقالة، فله سَلبُه. وأما الصَّفِيُّ، فكان خاصًّا للنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وقال (¬3) في موضع آخر: قال مالكٌ: لا يجوز أن يقول الإمام: من يقدِّمْ كذا، فله كذا، ولا أحبُّ لأحدٍ أن يسفكَ دمًا على مثلِ هذا. قال سحنون: فإن نفَّلَ ذلك، لزمه، فإنه مبايعة. وقال مالك رحمه اللَّه: لا يجوز أن يقول الإمام (¬4) لسرية: ما أخذتم (¬5) فلكم ثلثُه. قال سحنون: يريد: ابتداءً. فإن نزل (¬6)، مضى، ولهم أنصباؤهم في الباقي. ¬
وقال سحنون: إذا قال الإمام لسرية: ما أخذتُم فلا خمسَ عليكم فيه، فهذا لا يجوز، فإن نزل، رددته؛ لأن هذا حكمٌ شاذٌّ لا يجوز، ولا يمضى، هذا معنى كلام ابن عطية، وأكثرُ لفظه (¬1). ق: الشافعيُّ (¬2) يرى استحقاقَ القاتلِ للسلبِ حُكمًا شرعيًا، بأوصافٍ مذكورة في كتب الفقه، ومالكٌ وغيرُه يرى (¬3) أنه لا يستحقُّه بالشرع، وإنما يستحقُّه بصرف الإمام إليه نظرًا، وهذا يتعلق بقاعدة، وهي (¬4): أن تصرفات الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في أمثال هذا إذا تردَّدَتْ بين التشريع والحكم الذي يتصرف به ولاة الأمور، هل يُحمل على التشريع، أو على الثاني؟ والأغلبُ حملُه على التشريع، إلا أن مذهب مالك في هذه المسألة فيه قوة (¬5)؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ قتلَ قتيلًا، فله سَلَبُه" يحتمل ما ذكرناه من الأمرين؛ أعني: التشريعَ العام، وإعطاءَ القاتلين في ذلك الوقت السلبَ تنفيلًا، فإن حُمل على الثاني، فظاهرٌ، وإن حُمِل على الأغلب، وهو التشريعُ العامُّ، فقد جاء في ¬
أحاديث أمور (¬1) ترجِّحُ الخروجَ عن هذا الظاهر؛ مثل قوله -عليه الصلاة والسلام- بعدما أمر أن يعطي السلب قاتلًا، فقابل (¬2) هذا القاتلُ خالدَ بنَ الوليد بكلام (¬3)، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعدَه: "لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ" (¬4)، فلو كان مستحقًا له بأصل التشريع، لم يمنعه (¬5) منه بسبب كلامه لخالدٍ، فدلَّ على أنه كان على وجه النظر، فلمَّا كلَّم خالدًا بما يؤذيه، استحقَّ العقوبةَ بمنعه؛ نظرًا إلى غيرِ ذلك من الدلائل، واللَّه أعلم (¬6). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "له عليه بَيِّنة": قد تقدم ذكرُ الخلاف في ذلك، وأن هذا مذهبُ الجمهور. والجملة التي هي (¬7) "له عليه بيّنة" في موضع نصبٍ صفة لقتيل، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثامن
الحديث الثامن 403 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكوَعِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أتى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَيْنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ (¬1)، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ"، فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: "مَنْ قتلَ الرَّجُلَ؟ "، فَقَالُوا: سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ، فَقَالَ (¬3): "لَهُ سَلبُهُ أَجْمَعُ" (¬4). ¬
* التعريف: سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ: واسمُ الأكوعِ سِنانُ بنُ عبد اللَّه بنِ خزيمةَ بنِ مالكٍ الأسلميُّ، يكنى: أبا (¬1) مسلم، وقيل: أبو ياسر، وقيل: أبو عامر. وقال ابنُ السكن الحافظُ في كتاب "الصحابة" له: هو سلمةُ بنُ سنانِ بنِ بشيرِ بنِ خزيمةَ بنِ مالكِ بنِ سلامانَ بنِ أسلمَ بنِ أَفْصَى. أسلمَ هو وأخوه عامرٌ، وصَحِبا النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان يرتجزُ بين يدي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في أسفاره، وبايعهُ يومَ الحديبية، وبايعَهُ تحت الشجرة، استوطن الربذةَ بعد قتل عثمان -رضي اللَّه عنهما-، وقد جاء ذلك عن سلمة بن الأكوع، وكان من أصحاب الشجرة، وكان سلمة راميًا يصيد الوحش، وقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في منصرفه إلى المدينة: "كان (¬2) خير رجالتنا اليومَ سَلَمَةُ بنُ الأكوَعِ" (¬3)، وهو الذي (¬4) استنقذَ لِقاحَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين أخذتها (¬5) غطفان وفزارة (¬6)، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "مَلَكْتَ ¬
فأَسْجِحْ" (¬1)، وكان يُصَفِّر رأسَه ولحيته. توفي سنةَ أربعٍ وسبعين، وقيل (¬2): سنة أربع وستين، وله ثمانون سنة، وذكره الحافظُ ابنُ زبر في سنة أربع وسبعين، وكذا ذكره ابن السكن الحافظ في كتابه، وذكر عنه: أنه كان في أول من بايعَ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم بايعَ في أوسط الناس، ثم دعاه، فبايع في الثالثة (¬3) في أواخرِ الناس، ورآه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عُزْلًا، فأعطاه حَجَفةً أو دَرَقَةً، وقال سلمةُ: كنتُ تَبَعًا لطلحةَ بنِ عبيد اللَّه، أَسقي فرسَهُ، وأحسُّه، وأخْدمه (¬4)، وآكلُ من طعامه، وتركتُ أهلي ومالي (¬5) مُهاجِرًا إلى اللَّه ورسوله، وذى الحديثَ بطوله -رضي اللَّه عنه- (¬6). * الشرح: العين: الجاسوسُ، ويقال: ذو العينين (¬7) أيضًا، والعينُ من الألفاظ المشتركة، تطلق على حاسة الرؤية، وعين الماء، وعين الركبة، ولكل ركبةٍ عينان، وهما نُقْرتان في مقدمها عند الساق، وعين ¬
الشمس، والعينُ: الدينار، والعينُ: المالُ الناضُّ (¬1)، وعين الميزان، وهي ترجيح (¬2) إحدى الكفتين على الأخرى، وعين الشيء: خيارُه (¬3)، وعين الشيء: نفسُه، يقال: هو هو عينًا، وهو هو بعينه، وقولهم: لا أطلب أثرًا بعدَ عين، أي: بعدَ معاينة، وبلدٌ قليل (¬4) العين؛ أي: قليل الناس، والعين: ما عن يمين قبلة العراق (¬5)، يقال: نشأتِ السحابةُ من قِبَلِ العين، والعين: مطرُ أيامٍ لا تقلع، وأسودُ العين: جبل، ورأسُ عين: بلدة (¬6)، والعينُ من حروف المعجم، ويقال: هو عبدُ عَيْن؛ أي: هو كالعبد ما دمت تراه، فإذا غبتَ، فلا، ويقال: أنت على عيني: في الإكرام (¬7) والحفظ، جميعًا، قال اللَّه تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، ويقال: في الجلد عين، وهي: دوائر رقيقة، وذلك عيبٌ فيه، تقول (¬8) منه: تعينَ الجلدُ، وسقاء عين ومتعين (¬9) (¬10). ¬
فيه: دليلٌ على قتل الجاسوس الحربي، ومن يقاريه ممن لا أمان له. وفيه: دليلٌ على ما تقدم من أخذ السلَب، وإن كان القتيل هاربًا. وفيه: دليلٌ لقول (¬1) مالك: إن السلَب إنما يجب بتنفيل (¬2) الإمام على ما تقدم؛ لقوله (¬3): "فنفَّلني سلبَه"، ولو كان واجبًا باصل الشَّرع، لم يعبَّر عنه بهذه العبارة المشعرة بالأشياء (¬4). وفيه: دليلٌ على استحقاق جميعِ السلَب، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع 404 - عَنْ عبد اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَرِيَّةً إِلَى نَجْدٍ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَأَصَبْنَا إبِلًا وَغَنَمًا، فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعِيرًا بَعِيرًا (¬1) (¬2). ¬
* الشرح: السَّرِيَّة: قطعةٌ من الجيش، والجمعُ سرايا، يقال: خيرُ السّرايا أربع مئة (¬1). فيه: دليلٌ على بعث السرايا، وظاهرُ (¬2) الحديث: أن أهل هذه السّرية اختصّوا بما غنموه؛ لقوله: "فكانَتْ سُهماننُا"، وليس فيه ما يقتضي مشاركة الجيش أو غيره فيها، وهذا مذهبُ مالك رحمه اللَّه: أن السريةَ إذا كانت منفردةً من أصلها، والجيشُ ليس قريبًا منها بحيث يكون رِدْءًا لها وموئلًا ترجعُ إليه، فالغنيمةُ لها دونَ الجيش، أما لو خرجت من الجيش، وكان الجيش على ما (¬3) وصفنا، فإنها تردُّ ما غنمت على أهل العسكر. وقوله: "ونفَّلنا": النَّفْل، والنَّفَل -بإسكان الفاء وفتحها-: الزيادة على الواجب، وسُنَّة نافلة الصلاة، وسميت الغنيمة نافلة في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]؛ لأنها زيادةٌ على القيام بالجهاد، وحماية الحوزة، والدعاء إلى اللَّه عز وجل فيما ذكره ابنُ عطيّة (¬4). والنافلة -أيضًا-: ولد الولد، والفقهاء يطلقون النفلَ على ما يجعله الإمامُ لبعض الغزاة لمصلحة يراها، واختلفوا في محله. ¬
فمذهب مالك: أنه لا يجوز قبل الغنيمة، ويجوز في (¬1) أول المغنم وآخره على الاجتهاد. قال: وإنما (¬2) نَفَّلَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ حنين الخمسَ بعدَ أن بردَ القتال، ولا يكون عندَه إلا من الخمس. وقال الشافعي، وأحمد: لا نفلَ إلا بعدَ الغنيمة، قبل التخميس. وقال النخعي: ينفِّلُ الإمامُ مَنْ شاء قبلَ التخميس، وبعدَه. وقال أنس بنُ مالك، ورجاءُ بنُ حيوةَ، ومكحول، والقاسم، وجماعة منهم (¬3): الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: لا نَفْل إلا بعدَ إخراج الخُمس، ثم ينفِّل الإمامُ من أربعة الأخماس، ثم يقسم الباقيَ بين الناس. وقال ابنُ المسيّب (¬4): إنما ينفِّل الإمامُ من خُمُس الخُمس (¬5). ق (¬6): والذي يظهر من لفظ هذا الحديث: أن هذا التنفيل (¬7) كان من الخمس، لأنه أضاف الاثني عشر إلى سُهمانهم، فقد يقال: إنه ¬
إشارة إلى ما تقرر لهم استحقاقُه، وهو أربعةُ الأخماس الموزعةُ عليهم، فيبقى النفلُ من الخمس. قال: واللفظ محتملٌ لغير ذلك احتمالًا قريبًا، وإن استبعد بعضُهم أن يكون هذا النفلُ إلا من الخمس من جهة اللفظ، فليس بالواضح الكثير، وقد (¬1) قيل: إنه تبين أن كون هذا النفل من الخمس (¬2) موضع آخر، انتهى (¬3). واستحب مالكٌ رحمه اللَّه أن يكون ما ينفِّلُه الإمام مما يظهر؛ كالعِمامة، والفَرَس، والسيف. قال ابنُ عطية: وقد منع بعضُ العلماء أن ينفِّل الإمامُ ذهبًا، أو فضةً، أو لؤلؤًا، أو (¬4) نحو هذا. وقال بعضهم: النفل جائزٌ من كل شيء، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬
الحديث العاشر
الحديث العاشر 405 - عَنْ عبد اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلينَ وَالآخِرِينَ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ" (¬1). ¬
* الشرح: الغدر في اللغة: تركُ الوَفاء، يقال: غدرَ به، فهو (¬1) غادِرٌ (¬2). واللواءُ: بالمد، جمعه أَلْوِيَة. قال الجوهريُّ: وهي المَطَارِدُ، وهي دونَ الأَعلامِ والبُنود (¬3). فيه: تعظيمُ أمرِ الغَدْر في الحروب وغيرِها، هذا ظاهره، أما في الحرب، فَبِأَن يتقدمها أمانٌ ونحوُه، أو حيث يجب [تقدم] الدعوةُ، أو حيث يُقال بوجوبها، قاله ق (¬4) (¬5). وفيه نظر، أعني: إطلاقَ الغدر على ترك الدعوة من حيثُ العُرف، أو من حيثُ اللغةُ إذا (¬6) فسّرناه بترك الوفاء؛ كما تقدم نقلُه عن أهل اللغة، إذ الوفاءُ -في الغالب- فرعٌ عن (¬7) ثبوتِ المعاهدة، قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّه} [التوبة: 111]، ويقال: أوفى (¬8) له بعهده، وما وفى له بعهده (¬9)، فهذا كله يعطي تقدُّمَ عهدٍ، أو معاهدةٍ بين ¬
العدوّ وبين من دهمهم حتى يقال فيهم (¬1): إنهم تركوا (¬2) الوفاء لهم. وقد اصطلح جماعةٌ من المصنفين على تخصيص الغدر في مثل هذا بالحرب، وليس هو عندي أيضًا كذلك، بل يكون في الحرب وغيرِه بالنسبة إلى كل معاهد لم يُوَفَّ له بعهده، فإنه يقال فيه: غَدَرَه (¬3)؛ لأن ذلك ترك الوفاء بعينه المفسّر به الغدر، وهو -أيضًا- ظاهرُ الحديث من حيث العموم، فمن ادَّعى تخصيصَه، احتاج إلى دليل يدلُّ عليه. ق: وقد عوقب الغادر بالفضيحة العُظمى، وقد يكون ذلك من باب مقابَلَة الذنب بما يثاسب ضدَّه في العقوبة؛ فإن الغادرَ أخفى غدرَه، فعوقب بنقيضه، وهو شهرتُه على رؤوس الأشهاد. وفي هذا اللفظ المرويِّ هاهنا ما يدل على شهرة الناس، والتعريف بهم يوم القيامة، بالنسبة إلى آبائهم، خلاف ما حكي أن الناس يُدْعون في القيامة بالنسبة إلى أمهاتهم (¬4). قلت: ليس في هذا الحديث ما يدلُّ على تعريف جملةِ الناسِ بآبائهم حتى يكون معارِضًا لذلك الحديث الآخَر، وأنهى ما فيه: أن يكون عامًا مخصوصًا، مع أن هؤلاء المخصوصين بالنسبة إلى آبائهم، ¬
لم ينادَوْا (¬1)، وإنما أُضيف الغدرُ إليهم، فلعلَّ الحديث العامَّ مخصوصٌ بالنداء؛ كما هو ظاهرُه، أو نصُّه، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الحادي عشر
الحديث الحادي عشر 406 - وَ (¬1) عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ امْرَأةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ (¬2). ¬
* الشرح: لا خلافَ أعلمُهُ أَنَّ النساء لا يُقتلن إذا لم يُقاتلن، إلا أن يكنَّ ذواتِ رأيٍ، فيُقتلْنَ، فإن قاتلْنَ، ففي مذهبٍ مالكٍ أربعة أقوال، يفرق في الثالث: فإن (¬1) قَتَلَتْ، قُتِلت، وإلا فلا. والرابع: تُقتل عند قتالها (¬2) خاصةً، وفيمن اقتصرتْ على الرمي بالحجارة قولان، والمترهبات (¬3) منهن قولان، والصبيُّ -أيضًا- لا يُقتل بلا خلاف، إلا أن يكون مراهِقًا وقد قاتلَ، فهو كالبالغ؛ بخلاف الأطفالِ وغيرِهم، وأَلحق أصحابنا بهما -أعني: النساء والصبيان- الذميَّ، والشيخَ الفانيَ، ممن لا رأيَ لهم ولا معونةَ. وأمّا أهلُ الصوامع والديارات (¬4) من الرهبان؛ ممن لا رأيَ لهم ولا معونةَ على المسلمين، فالمشهور: تركُهم، وقيل: يقتلون. قال أصحابنا: لا يقتل المسلم أباه الكافر المشرك (¬5) إلا أن يضطره إلى ¬
ذلك بأن يخافَه على نفسه (¬1). قال ابنُ هُبيرةَ: واتفق الأئمة الأربعة على أنه إذا كان للأعمى، والمقعد، والشيخ الفاني، وأهل الصوامع رأيٌ وتدبيرٌ: أنه يجب قتلهم، واختلفوا إذا لم يكن لهم رأيٌ وتدبير، فقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: لا يجوز (¬2) قتلهم، وعن الشافعي قولان: أظهرُهما: يجوزُ قتلهم (¬3). ق (¬4): ولعلّ سرَّ هذا الحكم -يعني: تحريمَ قتل النساء والصّبْيَان-: أن الأصل عدمُ إتلاف النفوس، وإنما أُبيح منه ما يقتضيه رفعُ المفسدة، ومَنْ لا يقاتل، ولا يتأهل (¬5) للقتال في العادة ليس في إحداث الضرر كالمقاتلين، فرجع إلى الأصل فيهم، وهو المنع (¬6)، هذا مع ما في نفوس الصبيان من الميل وعدم النشب (¬7) الشديد بما يكون عليه كبيرًا (¬8) وغالبًا (¬9)، ¬
فرفع عنهم (¬1) القتلُ؛ لعدم مفسدة المقاتلة في الحال الحاضر، ورجاء هدايتهم عند بقائهم، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني عشر
الحديث الثاني عشر 407 - عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ العَوَّامِ، شَكَيَا القَمْلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزَاةٍ لَهُمَا، فَرَخَّصَ لهما (¬1) فِي قَمِيصِ (¬2) الحَرِيرِ، وَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا (¬3). ¬
* الشرح: يقال: شَكَوْتُ، وشَكَيْتُ، وكأن الأولَ أكثرُ، والشكوى: إخبارُكَ عن المَشْكِيِّ (¬1) بسُوءِ فعلٍ بك. قال الجوهري في المصدر: شَكْوَى (¬2)، وشِكَايَةً، وشَكِيَّةً، وشَكاة، والاسمُ الشكوى (¬3). وقد تقدم جوازُ لبس الحرير في الحرب. ق (¬4): أجازوا للمحارب لبسَ الديباج الذي لا يقومُ غيرُه مقامَه في دفع السلاح، وهذا الحديثُ يدلُّ على جوازه؛ لأجل هذه المصلحةِ المذكورةِ فيه، ولعله يتعين (¬5) لذلك في دفعها في ذلك الوقت، وقد ¬
سماها الراوي رخصةً؛ لأجل الإباحةِ مع قيامِ (¬1) دليلِ الحَظْرِ (¬2). قلت: وهذا كما جازَ لبسُ الحريرِ لأجل الحِكّة، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث عشر
الحديث الثالث عشر 408 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَني النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكابٍ، وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَالصة، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْزِلُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل (¬1). ¬
* الشرح: الإيجاف: الإعمال، قال اللَّه تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] أي: أَعْمَلْتم، قال الشاعر: نَاجٍ طَوَاهُ اللَّيْلُ مِمَّا وَجَفَا ... طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا (¬1) والرِّكاب: الإبلُ التي يُسار عليها، الواحدةُ راحلةٌ، ولا واحدَ لها من لفظها (¬2)، والجمعُ الرُّكُبُ؛ مثل الكُتُب (¬3). وأما الرَّكْب فمن الأسماء المفردة الواقعة على الجمع، وليس بجمع تكسير لراكبٍ بدليلِ قولهم في تصغيره: رُكَيْبٌ، وجمعُ التكسير لا يصغَّر على لفظه، قال الشاعر: وَأَيْنَ رُكَيْبٌ وَاضِعُونَ رِحَالَهُمْ ... إِلَى أَهْلِ نارٍ مِنْ أُنَاسٍ بِأَسْوَدَا (¬4) ¬
ومثلُه راحِلٌ، ورُحَلُ، ونحو ذلك. فائدة نحوية: يُعلم الفرقُ بين جمع التكسير وبينَ الاسم المفرد الدالِّ على الجمع من خمسة أوجه: الأول: أن تكون أبنيةُ الاسم (¬1) المفرد لا تُستمدُّ (¬2) في التكسير. الثاني: أن يشار إليه بهذا، أعني: الاسم المفرد. الثالث: أن يُعاد عليه (¬3) ضمير المفرد؛ كقولنا: الرَّكْبُ قَدِمَ، أو سافرَ. الرابع: أن يقع خبرًا عن (هو)؛ كقولك: هو الركبُ، وهو الرجُل. الخامس: أن لا يصغَّر على لفظه، وهو أقواها؛ كما تقدم. والكُراعُ: الخيلُ والسلاحُ، يذكَّر ويؤنَّث، ولغةُ القرآن التذكيرُ، قال اللَّه تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، ووجهُ الدليل من ذلك: أن الضابط عند أهل اللسان: أن كلَّ ما كان على أربعة أحرف ثالثُه (¬4) حرفُ مَدٍّ ولينٍ، إنْ كان مذكَّرًا (¬5)، جُمع على أفعِلة، نحو: جَناح وأجنحة، وإن كان مؤنثًا، جُمع على أَفْعُل نحو: عُقابٌ وأَعْقُب. ¬
وَالعُدَّة -بضم العَيْن-: كلُّ ما يُسْتعان به مطلقًا. قال الجوهريُّ أيضًا: والعُدَّةُ أيضًا: ما أعدَدْتَه لحوادث الدهر من المالِ والسلاح، يقال: أخذَ للأمر عُدّةً (¬1)، وعتادةً، بمعنًى، والعُدَّةُ -أيضًا-: الاستعدادُ، يقال: كونوا على عُدَّةٍ (¬2). وقوله: "كانت أموالُ بني النضير لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" يحتملُ وجهيْن: أحدهما: أن يُراد بذلك: أنها كانت لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصة، لا حقَّ فيها لغيره من المسلمين، ويكون إخراجُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما يخرجه منها لغير أهله أو نفسِه تبرعًا منه -صلى اللَّه عليه وسلم-. والثاني: أن يكون ذلك مما يشترك فيه هو وغيره -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويكون ما يخرجه منها لغيره من نفس المصروف، وإخراج المستحق من المال المشترك في التصرف، ولا يمنع من ذلك قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6]؛ لأن هذه اللفظةَ قد وردت مع الاشتراك في المصرف، قاله ق. قال: وفي الحديث جوازُ الادخار للأهل قوتَ سَنَة. قلت: وأما ما جاءَ من أنه -عليه الصلاة والسلام- كان لا يدَّخر شيئًا لغدٍ (¬3)، فمحمولٌ على ادّخارِه لنفسِهِ، لا لأهلِهِ، وإن كان -عليه ¬
الصلاة والسلام- مشارِكًا لأهله فيما يدخر لهم، ولكن المعنى: أنه لو لم يكونوا، لم يدخر شيئًا، فهم المقصودون بالادخار قطعًا. ق: والمتكلمون على لسان الطريقة قد يجعلون -أو بعضُهم- ما زادَ على السَّنَةِ خارجًا عن طريقة التوكل. وفيه: الاعتناءُ بأمر الكُراع والسلاح، وتقديمُه على غيره من وجوه الطاعات والقُربات، لاسيما في ذلك الزمان (¬1) وإلى ذلك يُشير قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، ففيه التصوُّنُ والتحرُّزُ (¬2) من العدوِّ ونحوِه، ولا يكون ذلك ينافي التوكل (¬3)؛ خلافًا لبعض من (¬4) حُكي عنه: أنه كان إذا خرج، لا يُغلق بابه، ويَرى إغلاقَه ليس من التوكل، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الرابع عشر
الحديث الرابع عشر 409 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: أَجْرَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا ضُمِّرَ مِنَ الخَيْلِ مِنَ الحَفْيَاءَ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجدِ بَنِي زُريقٍ. قَالَ ابنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى. قَالَ سُفْيَانُ: مِنَ الحَفْيَاءَ إِلى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَمِنْ ثَنِتةِ الوَدَاعِ إِلَى مَسْجدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ (¬1). ¬
* الشرح: المرادُ بالإجراء هنا: المُسَابَقَةُ بين الخيل. وتضميرُ الفرس: أن يعلفَه (¬1) حتى يسمَنَ، ثم يردّه إلى القوت (¬2)، وذلك في أربعين يومًا، وهذه المدة تسمَّى: المِضْمار (¬3)، والموضعُ الذي تُضَمَّر فيه يسمى أيضًا: مضمارا (¬4) وهو بيتٌ كَنِينٌ تُجَلَّلُ فيه لتعرقَ، ويجفَّ (¬5) عرقها فيخفَّ لحمُها، وتقوَى على الجري، هكذا قاله أهل اللغة (¬6). ¬
والحَفْياء: بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء بعدها المثناة تحت بعدها همزة ممدودة، وحُكي فيها القصر، والحاء مفتوحة بلا خلاف. قال صاحب "المطالع": وضبطَهُ بَعْضُهم بضم الحاء، وهو خطأ. ح: قال الحازميُّ في "المؤتلف": ويقال فيها أيضًا: الحَيْفاء -بتقديم الياء على الفاء-، والمشهورُ المعروفُ في كتب الحديث وغيرها (¬1): الحفياء. وثَنِيَّةُ الوداع: بفتح المثلثة بعدها نون مكسورة بعدها المثناة تحت المشددة، والوَداع: بفتح الواو. وزُرَيْق: بتقديم الزاي المعجمة المضمومة، وفتح الراء المهملة، مصغَّر، مثل: حجير. فيه: دليلٌ على قول: مسجد فلان، ومسجد بني فلان، وقد ترجم له البخاري بهذه الترجمة (¬2). وهذا الحديث أصلٌ في مشروعية المسابقة بين الخيل من حيثُ الجملة. وقد اختلف العلماء: هل هي مباحة، أم (¬3) مستحبة؟ والشافعيُّ يقول (¬4) باستحبابها، ولم أر لأصحابنا في ذلك نصًّا ¬
صريحًا، أعني: الاستحباب. وأمّا أحكامُها، فنحن نبين مذهبَنَا في ذلك، فنقول: المسابقة من العقود الملازمة (¬1)؛ كالإجارة، يشترط فيها ما يُشترط في عِوَضِ الإجارة، وليس من شرط العِوَضِ الاستواءُ من الجانبين، وإنْ كانت جائزة بغير عوض بلا خلاف، ولها صور ثلاث: الأولى: أن يجعل الوالي أو غيرُه مالًا للسابق، فهذه جائزة مباحةٌ (¬2) بلا خلاف. والثانية: أن يخرجه أحدُ المتسابقين، فإن كان المخرِجُ لا يعود إليه المخرَج، بل إن سبق، أخذه السابقُ، وإن سُبق، كان لمن يليه، أو للحاضرين إن لم يكن معهما غيرهما، فذلك جائز أيضًا. والثالثة (¬3): أن يُخرج كلَّ واحد منهما (¬4) شيئًا، فمن سبق منهم، أخَذَهُ، فإن لم يكن معهما غيرُهما، فلا يجوز، قولًا واحدًا، وإن كان معهما (¬5) مَنْ لا يأمنان أن يسبقهما، فإن سبقَ، غنمَ، وإن سُبق، لا يَغْرم، فالمشهورُ عن مالك: منعُ ذلك، وأجازه سعيدُ بنُ المسيب، وابنُ شهاب. ¬
قال ابنُ المواز: وهو الذي يختاره، وهو قياسُ قولِ مالك الآخر: أنه يحوزُ سبقَه. ولها شروط: وهي إعلام الغاية، وتبيين (¬1) الموقف، إلا أن يكون لأهل المكان سنّة في ذلك، فيعمل عليها (¬2)، ولا ينبغي أن يتعدَّى الغاية المذكورة في الحديث، ومعرفةُ أعيانِ الخيل، ولا يُشترط معرفةُ جَرْيها، ولا مَنْ يركب عليها، ولكن لا يُحمل عليها إلا مُحتلم، وكره مالكٌ حملَ الصبيان عليها (¬3). إذا ثبت هذا، فكلُّ ما تقدَّمَ من أحكام المسابقة فهو بين الخيل والركاب، أو بينهما، وهو المراد بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "في عِوَضٍ"، فيجوز فيه المسابقةُ (¬4) إذا كان مما يُنتفع به في نكاية العدو، ونفعِ المسلمين، فيدخل في ذلك المسابقةُ بين السّفن، وبين (¬5) الطير إذا كان الخبر لا يصل بسُرْعة؛ للنفع به، وأما لطلب المغالبة، فقمارٌ، ومِنْ فِعْلِ أهلِ الفسق. وتجوز المسابقةُ على الأقدام، وفي رمي الحجار (¬6)، ويجوز ¬
الصِّراعُ، كلُّ ذلك إذا قُصد به الانتفاعُ، والارتياضُ للحرب، جاز بغير عوض في جميعه (¬1)، واللَّه الموفق. وقولُ سفيان: خمسةُ أميال، أو ستةٌ. ح: وقال موسى بنُ عقبةَ: ستةُ أميال، أو سبعة (¬2). قلت: والمِيلُ: عشرُ غِلاء، والغَلْوَةُ: طلقُ الفرس، وهو مئتا ذراع، ففي الميل ألفُ باع، قيل: من أبواع الدواب، وقيل: ألفا ذراع، وهذا قولُ ابنِ حبيب من أصحابنا. وقال غيره: الميلُ: ثلاثةُ آلافِ ذراع، وخمسُ مئة ذراع. قال ابنُ عبدِ البرّ: وهو أصحُّ ما قيل فيه، قاله ع. وأما الفَرْسَخ، فثلاثة أميال، والبَرِيد: اثنا عشر ميلًا (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الخامس عشر
الحديث الخامس عشر 410 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ (¬1) وَأَنَا ابنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزني، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَني (¬2). ¬
* الشرح: اختُلف في السنّ التي يكون بها (¬1) الإنسانُ في حكم الرجال المقاتلين، وغيرِ ذلك من أحكام الرجال، ففي مذهبنا ثلاثةُ أقوال: خمسَ عشرَة، وسَبع عشرةَ، وثماني عشرةَ، وهو المشهور (¬2). واختُلف عندنا في اعتبار الإنبات، ومنهم من اعتبره في الجهاد دونَ غيره. ومذهبُ الشافعيِّ، وأحمدَ، وجماعةٍ: أن ذلك خمسَ عشرةَ سنة، وهو ظاهرُ الحديث، حتى قيل: إن عمر بن عبد العزيز (¬3) لما بلغه هذا الحديث، جعلَه حدًّا، وكان يجعل مَنْ دونَ خمسَ عشرةَ سنةً (¬4) في الذرية. ق: والمخالفون لهذا المذهب (¬5) اعتذروا عن هذا الحديث: بأن الإجازة في القتال حكمُها منوطٌ بإطاقته، والقُدرةِ عليه، وأن إجازة ¬
النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن عمر في الخمسَ عشرة (¬1)؛ لأنه رآه مُطيقًا للقتال، ولم يكن (¬2) له قبل ذلك، لا لأنه أدارَ (¬3) الحكم على البلوغِ وعدمِه (¬4). قلت: وهو كما قال رحمه اللَّه تعالى. فائدة وتنبيه: في هذا (¬5) الحديث دليلٌ (¬6) على أن الخندق كان سنةَ أربعٍ من الهجرة، وهو الصحيح، وقال جماعةٌ من أهل السير والتواريخ: كان سنةَ خمسٍ، وهذا الحديث يردُّه؛ لأنهم أجمعوا على أن أُحُدًا كانت سنةَ ثلاث، فيكون الخندقُ سنةَ أربع؛ لأنه جعلَها في هذا الحديث بعدَها بسنةٍ (¬7)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السادس عشر
الحديث السادس عشر 411 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَمَ فِي النَّفَلِ: لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا (¬1). * * * ¬
* الشرح: قد تقدم تفسيرُ النَّفَل، وهو هنا بفتح الفاء لا غير فيما رويناهُ ورأيناهُ. وتقدم -أيضًا-: أنه يُراد به الغنيمةُ تارةً، وعليه حُمل (¬1) قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]، وتارةً يُراد به: ما ينفِّلُه الإمامُ خارجًا عن السُّهمانِ المقسومةِ؛ إما من أصل الغنيمة، أو من الخُمُس، على الاختلاف الذي قدمناه. وقوله: "للفَرس سهمين"، يريد: غيرَ سهمِ الفارس، فللفارسِ ثلاثةُ أسهمٌ: سهم له، وسَهمانِ لفرسه، وللراجل (¬2) سَهْم واحدٌ، وهو مذهب مالك، والشافعي. ومذهبُ أبي حنيفة: أن للفارسِ سهمين، وللراجل سهم (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث السابع عشر
الحديث السابع عشر 412 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأِنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قَسْم عَامَّةِ الجَيْشِ (¬1). * * * ¬
* الشرح: هذا صريحٌ في أن هذا التنفيل زيادةٌ على السهمان المقسومة، وهو محتملٌ لأن (¬1) يكون من رأس الغنيمة، أو من الخُمُس، وقد تقدم نقلُ الاختلاف (¬2) في حكم ذلك، وفي تتبع بعضِ الروايات في هذا المعنى ما يعطي (¬3) أنه كان من الخُمُس، وفي بعضِها ما يعطي أنه (¬4) كان من أصل الغنيمة، وعليك بالقائل في (¬5) تحقيقه. ق: وللحديث (¬6) تعلُّق بمسائل الإخلاص في الأعمال، وما يضرُّ من (¬7) المقاصد الداخلة فيها، وما لا يضر، وهو موضع دقيق المأخذ. قال (¬8): ووجهُ تعلُّقِه به: أن التنفيلَ للترغيب في زيادة العمل، والمخاطرة والمجاهدة، وفي ذلك مداخلة (¬9) لقصد الجهاد للَّه عز وجل، إلا أن ذلك لم يضرهم قطعًا لفعل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك لهم (¬10)، ففي ذلك دلالة ¬
لا شكَّ فيها على أن بعضَ المقاصد الخارجة عن محض التعبد لا تقدح في الإخلاص، وإنما الإشكالُ في ضبط قانونها، وتمييز ما (¬1) يضرُّ مداخلته من المقاصد، ويقتضي الشركةَ المنافيةَ للإخلاص، وما لا يقتضيه، ويكون تَبَعًا لا أثرَ له، ويتفرَّع عنه غيرُ ما مسألة. وفي الحديث: دليلٌ على مطلَق النظر للإمام بحسبِ (¬2) ما يراه من المصالح الشرعية (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثامن عشر
الحديث الثامن عشر 413 - عَنْ أَبي مُوسَى عَبْدِ اللَّه بْنِ قَيْسٍ -رضي اللَّه عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ، فَلَيْسَ مِنَّا" (¬1). * * * * الشرح: كأن المعنى -واللَّه أعلم-: من حملَ على المسلمين السلاحَ ¬
لقتالهم، وقد تقدم معنى "ليسَ منا"، وأن معناهُ: ليس مثلَنا، أو ليسَ على طريقتنا، ولا مُتَّبِعا لسنّتنا، ولا مُهْتَديًا بهَدْيِنا، لا أن ذلك يُخرجه عن الإسلام، إلا إنِ استحلَّ ذلك، فيكفُر باستحلالِ المحرَّمِ، لا بحملِ السلاح، وكذلك كلُّ ما جاء من هذا المعنى، فهذا تأويله؛ مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا" (¬1)، ونحوِ ذلك (¬2)، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث التاسع عشر
الحديث التاسع عشر 414 - عَنْ أَبِي مُوْسى -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (¬1). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: قال أهل اللغة: الشجاعة: شِدَّةُ القَلْبِ عندَ البأسِ، والرجلُ شُجاعٌ، وقومٌ شِجْعَة، مثل صِبْيَة (¬1)، وشُجْعانٌ أيضًا. فإن قلت: شَجيعٌ، قلت: شُجعانٌ (¬2)، وشُجَعاءُ أيضًا، مثل: فُقَهاء، وقد يقال (¬3): امرأةٌ شُجاعةٌ، ومنهم مَنْ لا يصفُ المرأة بذلك (¬4). الثاني: الحَمِيَّةُ: الأَنَفَةُ والغَضَبُ، قاله العُزَيرِيُّ في تفسير قوله تعالى: {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] (¬5). وحَمِيتُ عن كذا حَمِيَّةً -بالتشديد-، ومَحْمِيَّةً: إذا أَنِفْتَ منه، وداخَلَكَ عارٌ وأَنَفَة أن تفعلَه، يقال: فلانٌ أَحْمى أَنْفًا، وأَمْنَعُ ذِمارًا من ¬
فلانٍ، قاله الجوهري (¬1). الثالث: الرياء: يُمدُّ ويقصرَ، والاكثرُ الأشهرُ (¬2) المدُّ. قال الغزالي: وهو إرادةُ نفعِ الدنيا بعمل الآخرة. قلت: وهو ضدُّ الإخلاص، وتارةً يَتَمَحَّضُ الرياءُ، وهو أن يريدَ بعمل الآخرة نفعَ الدنيا؛ كما تقدم، وتارةً لا يتمحَّضُ بأن يريدَهما جميعًا -أعني: نفعَ الدنيا والآخرة-، وبسطُ هذا في كتب الرقائق. الرابع: القتالُ للشجاعة، يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: أن يُقاتل إظهارًا لشجاعته، ليقال: إنَّ فلانًا شجاعٌ، وهذا ضدُّ الإخلاص، وهو الذي يُقال فيه: لكي يُقال، وقد قيل، ويكون الفرق بين هذا القِسْم وبين قوله بعدُ (¬3): ويقاتل رياءً: أن يكون المراد بالرياء: إظهارَ المقاتَلَةِ لإعلاء كلمة اللَّه تعالى، وبذلَ النفس في رضاه، والرغبة فيما عنده (¬4)، وهو في باطن الأمر (¬5) بخلاف ذلك، لا ليقال: إنه شجاع، والذي قلنا: إنه قاتل إظهارًا للشجاعة ليس مقصودُه إلا تحصيلَ المدح على الشجاعة من الناس (¬6)، فقد رأيت افتراق القصدين. ¬
الثاني: أن يقاتل للشجاعة طبعًا لا قصدًا، فهذا لا يُقال إنه كالأول؛ لعدم قصدِه إظهارَ الشجاعة، ولا يقال: إنه قاتل لتكون كلمةُ اللَّه هي العليا؛ إذ لم يقصد ذلك أيضًا، نعم، إن كان قد تقدم له القصدُ أولًا، لعدم قصد إظهار الشجاعة (¬1) ثم قاتل بعد ذلك بمقتضى طبعه، ولم يطرأ على النية الأولى ما ينافيها، فهو كالأول؛ إذ ليس من شرط هذه النية أن تكون مقارنةً للقتال ولابُدَّ؛ فإن الشجاع إذا دهمه القتال، وكان طبعه يقتضي المبادرةَ لذلك، يسارع (¬2) لذلك ذاهلًا عن (¬3) مطلق القصد، ولا يقدح ذلك في النية الأولى، بل هي باقية (¬4) على ما كانت، وهذا في التمثيل؛ كالمريضِ مرضَ الموت، يستحضِرُ الإيمانَ في وقتٍ ما (¬5)، ثم يغيبُ عن إحساسه، ويموت وهو على هذه الحالة، من غير أن يطرأ على استحضاره المتقدم ما ينافيه، فهذا محكومٌ لإسلامه قطعًا. والثالث: أن يقاتل الشجاعُ قاصدًا إعلاءَ كلمةِ اللَّه -تعالى- حالَ القتال، فهو هو المراد بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "قاتل لتكونَ كلمةُ اللَّه هي العُليا"، وأنه في سبيل اللَّه، وهو أفضلُ من القسم الذي ¬
قبله؛ لاستحضاره النيّةَ حالَ القتال، واللَّه أعلم. وإذا ثبت هذا، علمت أن الحميةَ خارجةٌ عن هذين القسمين -أعني: الرياء والشجاعة-، فإن الجبان قد يقاتل حميّة، والمرائي يقاتل لا (¬1) لحميّة، وخارجة أيضًا عن أن تكون (¬2) كلمة اللَّه هي العليا؛ إذ المرادُ بالحمية: الحميةٌ (¬3) لغير اللَّه تعالى، إما تمحيضًا، أو إشراكًا كما تقدم، واللَّه أعلم (¬4). * * * ¬
كتاب العتق
كِتْابُ الْعِتْقِ
الحديث الأول
كِتْابُ العتق الحديث الأول 415 - عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ (¬1) لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ العَبْدُ، وَإِلَّا، فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" (¬2). ¬
* الكلام على الحديث من وجوه: الأول: العِتْقُ: الحريَّة، وكذلك العَتاقُ -بالفتح-، والعَتاقَةُ أيضًا، تقول منه: عَتَقَ العَبْدُ يَعْتِقُ؛ كضَرَبَ يَضْرِب، عِتْقًا، وعَتَاقًا، وعَتاقَةً، فهو عَتيقٌ، وعاتِقٌ، وأَعتقتُه أنا، فهو مُعْتَقٌ، وهو من الألفاظ المشتركة، فالعتق -أيضًا-: الكرم، يقال: ما أَبْيَنَ العتقَ في وجه فلانٍ! يعنون: الكرمَ، والعتقُ: الجمالُ (¬1). ومنه لُقِّبَ أبو (¬2) بكر -رضي اللَّه عنه- بعَتيق؛ لجمال وجهه، قاله الليثُ بنُ سعد. وقال ابن قتيبة: لَقَّبه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك (¬3)؛ لجمالِ وجهِهِ، وقيل: إنه اسمه، سمتْهُ أُمّهُ بذلك. ¬
قال ابنُ الجوزي في "مشكل الحديث": إنه (¬1) قاله موسى بنُ طلحة. و (¬2) قيل: لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ" (¬3). قال ابن الجوزي -أيضًا-: روته عائشةُ رضي اللَّه عنها (¬4). والعِتْقُ أيضًا: السَّبْقُ والنجاةُ، عَتَقَتِ الفرسُ تعتقُ عتقًا؛ أي: سبقَتْ، فنجَتْ، وأعتقَها صاحبُها؛ أي: أَعْجَلَها وألجأها (¬5) الثاني: الشِّرْكُ هنا: النصيب، ومنه قولُه تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22]؛ أي: من نصيب، والشركُ -أيضًا-: الشريكُ، ومنه قوله تعالى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190]؛ أى: شريكًا، والشركُ -أيضًا-: الاشتراك (¬6)، تقول: شركته في المال شِرْكًا (¬7)، ومنه حديثُ معاذ: أَجازَ بينَ أهلِ اليمنِ الشِّرْكَ؛ أي: ¬
الاشتراك في الأرض (¬1). الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من أعتق شِرْكًا له في عبد،: ظاهرُه العمومُ في كلِّ مُعْتِق ومُعْتَق من حيث كانت (مَنْ) (¬2) من ألفاظ العموم. ع: ولذلك ألزمْنا التقويمَ إذا كان العبدُ كافرًا بين مسلمين، أو بين مسلم ونصراني، فأعتق المسلمُ (¬3) نصيبه؛ لحقِّ الشريك معه، وكذلك اختُلف عندنا إن كان العبدُ مسلمًا بين نصرانيين، فأعتق أحدُهما نصيبه؛ أو نصرانيٍّ ومُسْلمٍ، فأعتق النصرانيُّ نصيبه، على الخلاف: هل الحقُّ للشريك في تبعيض عبدِه عليه، أو للعبدِ في حقَه بتكملة عتقِه، أو للَّه تعالى؟ قال القاضي أبو محمد: فيه ثلاثة حقوق: حقٌّ للَّه -تعالى-، وللشريك، وللعبد، فعلى مراعاة هذه [الحقوق] وقع الخلاف (¬4) وتصويرُ الصور في المسألة على ما تقدم. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولهُ مالٌ يبلغُ ثمنَ العبد، قُوِّمَ عليه". ¬
ع: هو محمول على الوجوب، ولا تخيير (¬1) في الرضا بعيب (¬2) بتبعيض (¬3) العتق، لا للعبد، ولا للشريك، مراعاةً لحقِّ اللَّه -تعالى- في ذلك (¬4). واختُلف -أيضًا- هل للشريك التخييرُ في أن يعتق نصيبًا، أو يقوّم؟ وهو المشهور، أو ليس له إلا التقويمُ؟ وأنه قد وجب عتقُ (¬5) جميعِه على معتق نصيبه بحكم السرايةِ، على ما سيأتي من الاختلاف في هذا. ولا خلاف في نفاذ نصيب المعتِق بكل حال بين علماء الأمصار، إلا ما رُوي عن ربيعةَ من إبطال عتقِ المعتِق لنصيبه (¬6)، مُعْسِرًا كان أو موسِرًا. ع (¬7): وهذا قولٌ لا أصلَ له، مع مخالفته جميعَ الأحاديث. واختلفوا في الحكم في نصيب شريكه إذا كان المعتِقُ موسرًا على ستة أقوال: ¬
أحدها: أن العبد عتيق، يُقَوَّمُ (¬1) له، ويُقَوَّمُ نصيبُ صاحبه عليه بكلِّ حال، وولاؤه كلُّه له؛ هذا قول الثوريِّ، والأوزاعيِّ، وابنِ أبي ليلى، وابنِ شُبرمةَ، وأبي يوسفَ، ومحمدِ بنِ الحُسَن (¬2)، وأحمدَ، وإسحاق. ع: وحُكي مثلُه روايةً عندنا في (¬3) المذهب، وقاله الشافعيُّ في الجديد، وأن حريةَ بعضِه قد سرت في جميعه، وحكمه من (¬4) يومئذ حكمُ الحرِّ في الوراثة وسائر (¬5) أحكام الأحرار، وليس للشريك فيه غيرُ قيمتِه على المعتِق؛ كما لو قتلَه، وأنه إن أعتق نصيبه، كان عتقُه باطلًا، وأن المعتِق إن أعسر قبل أخذه بالقيمة، تبعه الشريكُ بها دَيْنًا، وكذلك لو مات المعتِقُ قبل نفاذِ عتقِ جميعه، قُوِّمَ عليه، ولو استغرق تَرِكَتَه. القول الثاني: إنه لا يُعتق بالسراية، وإنما يُعتق بالحكم، وإن العبد يحكم بالعبودية في نصيب (¬6) الشريك حتى يحكم بالتقويم، وإن المعتِقَ إن مات قبلَ التقويم، لم يقوَّم عليه، ولا على ورثته، وإن ¬
الشريكَ بعد عتقه مخيرٌ في نصيبه، إن شاء قومه عليه، وإن شاء أعتقه، فإن أعتقه، كان الولاء بينهما، وإن كان المعتِقُ معدِمًا، بقي الشريك على نصيبه في العبد، ولم يعتق غير حصة المعتق، وإن كان المعتِقُ موسرًا بقيمةِ بعضِ نصيب شريكه، قُوِّمَ عليه بقدرِ ذلك؛ وهذا مشهورُ قولِ مالك وأصحابه، وقولُ الشافعيِّ في القديم، وبه قال داودُ وأهلُ الظاهر. ثم اختلفوا هل بمجرد التقويم يكون حُرًّا، أو بتمامِ الحكم؟ والأولُ هو الصحيح من مذهبنا. القول (¬1) الثالث: قولُ أبي حنيفة: إن الشريك مخير، إن شاء استسعى العبدَ في نصف قيمته، وإن شاء أعتقَ نصيبه (¬2)، والولاءُ بينهما، وإن شاء قَوَّمَ على شريكه نصيبَه، ثم يرجعُ المعتِق بما دفع إليه على العبد يَستسعيه (¬3) في ذلك، والولاءُ كلُّه له. قال: والعبدُ في مدة السعاية بمنزلة المكاتَب في جميع أحكامه. القول الرابع: قولُ عثمانَ البَتِّي: لا شيءَ على المعتِق، إلا أن تكون جارية رائعة تُراد للوطء، فيضمن ما أدخلَ على صاحبه فيها من الضرر. ¬
القول الخامسُ: حكاه ابن سيرين: أن القيمة في بيت المال. وهذان القولان شاذّان مخالِفان للحديثين (¬1) جميعًا؛ حديث ابنِ عمرَ، وحديثِ أبي هريرة. قلت: حديثُ أبي هريرة سيأتي (¬2). ع: وكذلك مذهب أبي حنيفة لم يقل بواحدٍ من الحديثين، ومذهبُه خارجٌ عنهما. القول السادس: حُكي عن إسحاقَ بنِ راهويه: أن هذا الحكمَ في الذكور من العبيد دون الإناث؛ إذ لم يذكر في الحديث، وهذا أشذُّ الأقوال. قلت: وهذه نزعةٌ ظاهريةٌ من إسحاق رحمه اللَّه تعالى. هذا حكمُ الموسر، واختلفوا في المعسِر على أربعة أقوال: فقال مالك، والشافعيُّ، وأحمدُ، وأبو عبيدٍ: لا يتبع (¬3) بشيء، وينفذُ عتقُ نصيبه الذي أعتق؛ كما جاء في حديث ابنِ عمرَ وغيرِه، ولا سعايةَ عليه؛ وعلى هذا جمهورُ علماء الحجاز؛ لقوله في الحديث (¬4): "فَكَانَ (¬5) لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوّمَ عَلَيْهِ" إلى قوله: "وَإِلَّا، فَقَدْ عَتَقَ ¬
مِنْهُ مَا عَتَقَ"، وهذا اللفظ ثابتٌ من رواية مالكٍ وغيرِه في الحديث، وسقطت هذه اللفظةُ عند القعنبي، وابنِ بُكير في رواية (¬1)، وسقوطُها عند الحفاظ وهمٌ مِمَّنْ سقطتْ منه، والمعروفُ لكافة رواةِ نافع -ورواة مالك عنه (¬2) - ثباتُها (¬3) وصحتُها. واختَلف قولُ مالك في مراعاة العَسِرِ (¬4)، هل بمجرد العتق، أو باتصاله إلى يوم الحكم (¬5)؟ وقال الكوفيون باستسعاء العبد في حصّة الشريك؛ وبه قال الأوزاعيُّ، وإسحاقُ، وابنُ أبي ليلى، وابنُ شُبرمةَ (¬6). ثم اختلفوا في رجوع العبد بما أدّى (¬7) على المعتِق، فقال ابنُ أبي ليلى، وابنُ شبرمة: يرجع عليه. ولم ير أبو حنيفة و (¬8) صاحباه الرجوع، وهو عند أبي حنيفة كحكم المكاتَب مدةَ السعاية، وعند الآخرين هو حرٌّ بالسراية. ¬
وقال زفر: يقوَّم على المعتق، كان معسرًا أو موسرًا (¬1)، يؤديها في العسر متى أيسر؛ وقاله بعضُ البصريين (¬2). وقال آخرون: إذا كان معسرًا، بطل، و (¬3) عتق الأول. وهذان شاذان مخالِفان للأحاديث كلِّها أيضًا. وهذه الحجة القويّة: أن من أعتقَ بعضَ عبده: أنه يكمل عليه عتقه، وهل يجب (¬4) ذاك بالحكم، أو بالسراية؟ فيه عندنا روايتان، وعلى هذا جماعة علماء أهل الحجاز، والعراق، دون استسعاءٍ، إلا ما (¬5) ذهب (¬6) إليه أبو حنيفة: أنه يستسعى لمولاه في بقية قيمته، وخالفه أصحابه في ذلك، وقالوا بقول الجماعة؛ لكنه رُوي عن ربيعةَ، وطاوسٍ، وحمادٍ، والحسنِ -على خلاف عنه- نحو قوله، وقاله (¬7) أهل الظاهر. وذكر عن الشعبي، وعبد اللَّه بن الحسن: يعتق الرجل من مال ¬
عبده ما شاء (¬1)، انتهى. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قيمة عدل"؛ أي: لا زيادة ولا نقص (¬2). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وعتق عليه العبدُ"، وفي "كتاب أبي داود": "ثم عتق عليه" (¬3) دليلٌ واضحٌ للقول بأن العتق بالحكم دونَ السراية؛ وهو المشهور من مذهبنا، كما تقدم (¬4). وقد اختُلف عندنا فيما إذا كان الشريك المعتِقُ معسرًا، هل لمن (¬5) لم يعتق اتباعه بالقيمة في ذمته وإكمال المعتق عليه، أولا؟ وفي القول بالاتباع عندي ضعف؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإلا فقد عتق منه ما عتق"، أي: المفهوم منه: عتق ما عتق فقط؛ لأن الحكم السابق يقتضي عتق الجميع -أعني: عتق الموسر؛ فيكون عتق المعسر غير مقتضٍ لذلك الحكم؛ إذ حكم الإعسار (¬6) مخالف لحكم الإيسار قطعًا. ولعل القائل بالاتباع، يتمسك برواية أيوب عن نافع، وجعل قوله: "وإلا، فقد عتق منه ما عتق" من كلام نافع، لا من نفس الحديث، ¬
فإن كان قد تمسك بذلك، فهو متمسَّك ضعيف جدًا؛ لأن أيوب مرة (¬1) قال: و (¬2) لا أدري أشيءٌ قاله نافعٌ، أم هو من الحديث؟ ع: وظاهرُه: أنه من قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك رواه مالك، وعبيد اللَّه العمريُّ، ووصلاه بالحديث من قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال: وما قاله مالك وعبيد اللَّه أولى، وقد جوداه، وهما أثبت في نافع من أيوب عند أهل هذا (¬3) الشأن، فكيف وقد شك أيوب كما تقدم. وقد رواهُ يحيى بن سعيد، عن نافع، وقال في هذا الموضع: وإلا، فقد (¬4) جاز ما صنع، فجاء به على المعنى (¬5). وإنما يبقى النظرُ فيما يبقى بعد العتق، هل حكمه حكم الرق، أو يُستسعى العبدُ فيه؟ وقد منع بعضُ القائلين بالاستسعاء دلالةَ الحديث على بقاء الرق في الباقي، وقال: إنما يدل على عتق هذا النصيب فقط (¬6)، وسيأتي الكلام على شيء من هذا في الحديث الذي يلي هذا الحديث. ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني 416 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رضي اللَّه عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَنَّهُ (¬1) قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا له مِنْ مَمْلُوكٍ، فَعَلَيْهِ خَلَاصُه فِي (¬2) مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ؛ قُوِّمَ المَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ" (¬3). ¬
* الشرح: يقال: شقِصٌ، وشَقْص (¬1)، وشَقيص؛ مثل: رغيف؛ ثلاثُ لغات، وهو النصيبُ (¬2). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من مملوكٍ": يشمل الذكرَ والأنثى، وقد تقدم خلافُ إسحاق، ويخصصه الحديثُ بالذكر دونَ الأنثى. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فعليه خلاصُه": ظاهرُه حجةٌ للقول بأن العتقَ بالتقويم (¬3) دونَ السراية؛ كما تقدم؛ إذ اللفظ يشعر بالاستقبال. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثم استُسْعِيَ غيرَ مشقوقٍ عليه": قد يؤخذ منه مشروعيةُ الاجتهاد، والعمل بغالب الظن؛ إذ لم يحدَّ -عليه الصلاة والسلام- في ذلك حدًا، ووكل عدمَ المشقة إلى الحاكم في ذلك؛ وهذا الحديث مستندُ القائلين بالاستسعاء في حال عسرِ المعتِق الأول، وهو معارَضٌ بما تقدم من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وَإِلَّا، فَقَدْ ¬
عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"، ويبقى النظر في ترجيح إحدى الدلالتين على الأخرى (¬1)، واللَّه أعلم. * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث 417 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-، قَالَ: دَبَّرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ (¬1) غُلَامًا لَهُ (¬2). وَفِي لَفْظٍ: بَلَغَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ رَجُلًا مِن أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلَامًا عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِ مِئَةِ دِرْهَم، ثُمَّ أَرْسَلَ ثَمَنَهُ إِلَيْهِ (¬3). ¬
* الشرح: قال أهل اللغة: التدبير: عتقُ العبدِ عن دُبُر؛ وهو أن يعتق بعدَ موت صاحبه (¬1). وفي الشرعِ كذلك، عبّر عنه بعض أصحابنا بأنه: عتقٌ مقيدٌ بموتِ العاقد (¬2)، وله أحكامٌ خالفَ فيها العتقَ إلى أجل، والوصيةَ بالعتق بعد الموت، على ما هو مقرر في كتب الفقه. وظاهرُ الحديث: جوازُ بيع المدبَّر، وهو مذهب الشافعي. ومذهبُنا: منعُ بيعه، واستدلَّ أصحابنا بحديث خرجه (¬3) الدارقطني عن ابن عمر: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَا يُبَاعُ المُدَبَّرُ، وَلَا يُوهَبُ، وَهُوَ حُرٌّ مِنَ الثُّلُثِ" (¬4). ¬
قال سحنون من أصحابنا: وقد تأكد منعُ بيع المدبَّر عند السلف من الصحابة (¬1) والتابعين؛ ولأن عتقه تعلَّق بموت سيده، فلا يجوز بيعُه؛ كأم الولد. قال (¬2) بعضُ أصحابنا: وقد قضى عمر -رضي اللَّه عنه- بإبطال بيعه في زمن خير القرون، ولم ينكر عليه أحد، وهذا كالإجماع (¬3). فإن احتج علينا الشافعيةُ بحديث جابر هذا، قلنا لهم: الواقعةُ واقعةُ حالٍ لا عموم لها (¬4)، فيجوز أن يحمل على صورة نقولُ فيها (¬5) بجواز بيعه في الدَّينِ السابقِ دونَ اللاحق، فلا تقوم علينا الحجة في المنع (¬6) من بيعه في غيرها (¬7)، فسلم (¬8) لنا أدلتنا المتقدمة، واللَّه أعلم. قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا ¬
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 9 - 10]، و (¬1) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، اللهمَّ صَلِّ (¬2) على محمدٍ عبدِك ونبيِّكَ (¬3) ورسولكَ النبيِّ الأميِّ، وعلى آلِ محمدٍ، وأزواجِه وذُرِّيته، كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، وباركْ على محمدٍ النبيِّ الأميِّ، وعلى آلِ محمدٍ وأزواجِه وذُرِّيته، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ في العالمينَ (¬4) إنك حميدٌ مجيد. نَجَزَ الكِتَابُ وَرُبُّنَا المَحْمُودُ ... وَلَهُ المَكَارِمُ وَالعُلا وَالجُودُ رَبٌّ يَجُودُ عَلَى العِبَادِ بِفَضْلِهِ ... رَبٌّ كَرِيمٌ وَاحِدٌ مَوْجُودُ وها أنا أستغفرُ اللَّه تعالى -جلَّت قدرتُه- مما زلّ به الفَهْم، أو طغى به القلم، ومما اضطُرِرنا إلى تصنُّعٍ في كلامٍ رَتَّبْناه (¬5)، أو معنًى أوضحناه، أو دعاءِ سرٍّ أظهرناه، ونستغفرُه (¬6) من أقاويلنا التي تخالف أعمالَنا، ومن ظواهرِنا التي لا توافقُ سرائرَنا، نسألهُ (¬7) أن ينفعَ بهذا المصنَّفِ مَنْ ¬
كتبه، أو استَكْتَبَه، أو قرأَه، أو سمعَه، أو نظرَ فيه. وصلَّى اللَّه على (¬1) محمدِ وآلِه الطيبينَ الطاهرين، والحمدُ للَّهِ ربِّ العالمين. قال المصنف (¬2): وكان الفراغُ من تصنيفه في الكرة الثانية يوم الأربعاء في أثناء شهرِ (¬3) جُمادى الأولى سنة عشرِ وسبع مئة، أحسنَ اللَّه خاتمتها (¬4). ¬