روضة الناظر وجنة المناظر

موفق الدين ابن قدامة

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فمن فضل الله -تعالى- على عباده: أنه -سبحانه- بعد أن استخلفهم على هذه البسيطة لم يتركهم يخططون منهاج حياتهم، لأن العقل البشري مهما أوتي من الفطنة والذكاء يعتريه القصور، وتنتابه الشوائب، ولا يعلم الغيب، وتختلف مدارك الناس حول المصلحة الحقيقية التي ينشدونها، ولذلك: يحسّن بعض الناس ما هو عند غيرهم قبيحًا وبالعكس، بل قد يحسن الإنسان اليوم ما كان في نظره بالأمس قبيحًا ويقبح ما كان عنده قبل ذلك حسنًا.

ومن هنا تولى الله -سبحانه- عباده من أول الأمر بالعناية والتوجيه، وبيان المنهج الذي يجب أن يسيروا عليه. جاء ذلك واضحًا في قصة أبي البشر، بعد أن أهبطه الله -تعالى- إلى الأرض هو وزوجه "حواء" يقول الله -تعالى-: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} 1. وتتابعت الشرائع بعد ذلك توضح منهج الله -تعالى- لكل أمة حسب ظروفها ومقتضيات أحوالها، عن طريق رسول منها، بلغتها التي تتخاطب بها {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. ولما شاء الله -تعالى- أن يختم هذه السلسلة المباركة من الأنبياء والمرسلين، اختار أفضل خلقه، وأكمل رسله، فحمّله الرسالة الخاتمة التي جمعت كل ما تحتاج إليه البشرية في حياتها الدنيوية، وما تعدّ له في حياتها الآخرة، فكانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء. قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 3. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا فأحسنها وأكملها وأجملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة؟ فأنا في

_ 1 سورة طه الآيات 123-127. 2 سورة إبراهيم الآية 4. 3 سورة الصافات الآية: 37.

النبيين موضع تلك اللبنة" 1. ومقتضى كون شريعة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتمة المطاف، ومتضمنه لمنهج الله -تعالى- في صورته الأخيرة، مقتضى ذلك: أ- حفظ أصول هذا الدين من التحريف والتبديل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2. ب- جعل معجزته الأساسية في كتاب يخاطب العقل، ويحقق مقتضيات الفطرة والصفات الإنسانية الثابتة، ليكون مستمر الإعجاز والتأثير إلى يوم القيامة، على عكس ما كان من معجزات السابقين، حيث كانت محصورة في المحسوسات، باعتبارها مؤقتة بوقت معين، ولأناس معينين. أما شريعة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فكانت، ولا تزال إلى كل البشر، وعلى جميع المستويات، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ج- جمعه بين ما هو ثابت لا يتغير، وبين ما هو متغير حسب ظروف الناس وأحوالهم، ولذلك كانت الأحكام الشرعية شاملة للقطعي الذي لا مجال فيه للاجتهاد والرأي، لأن المصلحة في ثباته، كما شملت ما يسمى بالظني الذي فيه سعة ومجال للبحث والنظر، وهي ما تسمى بالأمور الاجتهادية، تمشيًا مع طبيعة الحياة وتغير ظروف الناس، حتى تكون الشريعة متسعة لكل ما يجدّ للناس من وقائع، فيجد فيها المسلم حاجته، ولا يحتاج -بعد ذلك- إلى شيء من التشريعات الوضعية التي يظهر نقصها من حين لآخر.

_ 1 رواه البخاري ومسلم عن جابر وأبي هريرة، ومسلم عن أبي سعيد الخدري، والترمذي عن جابر وأبي بن كعب، وأحمد عن الأربعة "الفتح الكبير 3/ 134". 2 سورة الحجر الآية: 9.

وبذلك تواكب الشريعة الإسلامية حركة الحياة في نموّها وازدهارها، من خلال وضع القواعد والضوابط التي تحقق مصالح العباد في العاجل والآجل. ولذلك: كان من أهم الخصائص التي تميزت بها هذه الشريعة: أن أحكامها وتشريعاتها المختلفة قائمة على الحجة والدليل، ورد الأمور المتنازع فيها إلى الوحي الإلهي، المتمثل في القرآن والسنة، وما يلحق بهما عن طريق الاجتهاد من العلماء المؤهلين لذلك. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1. فالرد إلى الله -تعالى- هو الرجوع إلى القرآن الكريم، والرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكون بالرجوع إليه -صلى الله عليه وسلم- في حياته وإلى سنّته بعد مماته كذا قال عمرو بن ميمون2. وقال -تعالى- {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ......} 3. والمراد بأولي الأمر -في هذه الآية- هم العلماء. قال الشوكاني في تفسير قوله تعالي: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بتدبرهم وصحة عقولهم4. ومعنى ذلك: أن العلماء المجتهدين هم الذين يستطيعون أن يفتوا

_ 1 سورة النساء الآية: 59. 2 انظر: تفسير الطبري "5/ 151" والقرطبي "5/ 261". 3 سورة النساء من الآية: 83. 4 فتح القدير "1/ 552".

في الوقائع التي ليس فيها نص معين، على ضوء قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، وروحها السمحة، وعلى أساس دلالات الألفاظ اللغوية، باعتبار أن القرآن الكريم نزل من عند الله -تعالى- بلسان عربي مبين، وكذلك السنة النبوية، فهي كلام أفصح العرب على الإطلاق، سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-. وبذلك يظهر دور أصول الفقه في تطبيق هذه الخاصية، خاصية قيام الشريعة الإسلامية على الدليل والبرهان، فهو الذي يبين مصادر التشريع الإسلامي، ويذكر حجتها، ومراتبها في الاستدلال، وكيفية استخراج الأحكام من هذه المصادر، كما يبين صفات الشخص الذي يستطيع أن يستبط الأحكام من هذه المصادر، وهو المجتهد. ولذلك عرّفه البيضاوي بقوله: "أصول الفقه: معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد"1 والمستفيد هنا: المجتهد الذي يستفيد حكم الله -تعالى- من الدليل. وهذا يقتضي أن يكون المتصدي للاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية على درجة علمية تؤهله لذلك، وهي التي يعبر عنها علماء الأصول بشروط الاجتهاد. وهذه الأهلية كانت موجودة لدى الصدر الأول من الصحابة -رضي الله عنهم- حيث كانوا أفقه الناس لروح الإسلام، وأعلمهم بمقاصده ومراميه، فقد تربوا في الحضرة النبوية، وعاشوا نزول الآيات وأسبابها، وورود الأحاديث النبوية، مع سلامة الفطرة ونور البصيرة، وجودة الفهم، وتمكن من اللغة، حيث كانت سليقة وسجية طبعوا عليها منذ نعومة أظفارهم.

_ 1 انظر: شرح البدخشي على المنهاج "1/ 13-14" طبعة صبيح.

وقد علّمهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- كيف يواجهون الأمور التي لم يرد فيها نص، وذلك بالاجتهاد وتبادل الرأي بين أهل العلم والصلاح. روى سعيد بن المسيب عن علي -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض لك فيه سنّة؟ فقال -صلى الله عليه وسلم- "اجمعوا له العالمين، أو قال: العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد" 1. وقد طبق الصحابة -رضي الله عنهم- ما وجههم إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل شئونهم. روى الدارمي والبيهقي عن ميمون بن مهران قال: "كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، وإن لم يجد في كتاب الله نظر: هل كانت من النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه سنّة؟ فإن علمها قضى بها، فإن لم يعلم، خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا ... فلم أجد في ذلك شيئًا، فهل تعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام إليه الرهط فقالوا: نعم، قضى بكذا وكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول عند ذلك: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به"2. وكذلك كان يفعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وكتابه إلى

_ 1 روى الطبراني مثله في الأوسط، انطر مجمع الزوائد "1/ 178". 2 إعلام الموقعين "1/ 84".

شريح القاضي مشهور ومعروف. قال الشعبي: "قال عمر بن الخطاب: ما في كتاب الله وقضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فاقض به، فإذا أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يقض به النبي -صلى الله عليه وسلم- فما قضى به أئمة العدل، وما لم يقض به أئمة العدل فأنت بالخيار، إن شئت أن تجتهد رأيك، وأن شئت تؤامرني، ولا أرى في مؤامرتك إياي إلا أسلم لك"1. وفي بعض رواياته: " ... إذا جاءك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سنّ رسول الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله فاقض بما أجمع عليه الناس، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله ولم يتكلم به أحد، فاختر أي الأمرين شئت، فإن شئت فتقدم واجتهد رأيك، وإن شئت فأخره، ولا أرى التأخير إلا خيرًا لك"2. وقد نقل عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- وقائع كثيرة تدل على تطبيقهم لهذا المنهج، وأن القواعد الأصولية التي يذكرها علماء الأصول -بعد التدوين- كانت موجودة لدى الصدر الأول من الصحابة -رضي الله عنهم- وإن لم تعرف بهذه التسمية، لأنه ما دام هناك فقه، فلا بد وأن تصحبه قواعد وأصول يتفرع عنها هذا الفقه: أ- روى مالك في الموطأ: كتاب الأشربة "أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال علي بن ابي طالب: نرى أن تجلده ثمانينن جلدة، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى عليه حد القذف، أو كما قال، فجلد عمر في الخمر ثمانين"3.

_ 1 أخرجه وكيع في أخبار القضاة "2/ 189". 2 المصدر السابق. 3 أخرجه البخاري "8/ 185" مع الفتح، ومسلم "2/ 56" وأحمد في المسند "2/ 49" والشافعي في مسنده "6/ 9".

فهو بهذا ينهج الحكم بالمآل، أو بسد الذرائع، وكلاهما من قواعد الأصول. ب- روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل، مهما كانت المدة بعد الوفاة قليلة أو كثيرة، أخذًا بقول الله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ... } 1. ويرى أن هذه الآية ناسخة لآية سورة البقرة وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا....} 2. ويستدل على ذلك بقوله: "ومن شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد قوله تعالى: {.... أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ... } 3. ويقصد بسورة النساء القصرى: سورة الطلاق، فإنها تزلت بعد سورة البقرة. ج- قتل الجماعة بالواحد: فقد روي أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابنًا له من غيرها غلامًا يقال له "أصيل" فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلًا، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله، فأبى، فامتنعت منه، فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام: الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه، ثم

_ 1 سورة الطلاق من الآية: 4. 2 سورة البقرة من الآية: 234. 3 أخرجه عنه البخاري: كتاب التفسير، باب {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وأبو داود: كتاب الطلاق، باب في عدة الحامل، والنسائي: كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وكذلك ابن ماجه.

أما زيد بن ثابت: فيشبه الجد بساق الشجرة وأصلها، والأب بغصن منها، والإخوة بخوطين1 تفرعا عن ذلك الغصن، وأحد الخوطين إلى الآخر أقرب منه إلى أصل الشجرة، ألا ترى أنه إذا قطع أحدهما امتص الآخر ما كان يمتص المقطوع، ولا يرجع إلى الساق2. هـ- تأبيد المرأة التي تتزوج في العدة: فمن المسائل التي قضى فيها الصحابة -رضي الله عنهم- بالاجتهاد والرأي: ما إذا تزوجت المرأة وهي في العدة، ماذا حكمها؟ روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرق بين طليحة الأسدية وبين زوجها راشد الثقفي، لما تزوجها في العدة، من زوج ثان وقال: "أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها، فرّق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم كان الآخر خاطبًا من الخطاب، وإن كان قد دخل بها، فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبدًا"3. وذهب علي -رضي الله عنه- إلى أن للزوج الثاني نكاحها بعد انقضاء عدتها من الرجلين. قال الشافعي: "أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال: أخبرنا عطاء أن رجلا طلق امرأته فاعتدت منه، حتى إذا بقي شيء من عدتها نكحها

_ 1 الخوط -بالضم-: الغصن الناعم لسنة، أو كل قضيب. القاموس المحيط. 2 أخرج مثله ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله "2/ 131" والبيهقي في السنن الكبرى "6/ 247". 3 رواه مالك في الموطأ: كتاب النكاح -باب جامع ما لا يجوز من النكاح، كما أخرجه الشافعي في كتاب النكاح- الباب الخامس في العدة، وعبد الرزاق في المصنف: كتاب الطلاق، باب نكاحها في عدتها.

فلم يكن الصحابة ولا التابعون -رضي الله عنهم- في حاجة إلى معرفة القواعد والضوابط التي عرفت -فيما بعد- بأصول الفقه والاستنباط، لأنها كانت -كما قلت- مركوزة في أذهانهم وسجية لهم، فكانوا يعرفون الخاص والعام الذي أريد به العموم، والعام الذي يراد به الخصوص، والمطلق والمقيد، والمشترك والمفرد، والناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك من القواعد التي تدرس في هذا العلم. أما بعد أن طال الزمن، وفسد اللسان العربي، نتيجة لاتساع البلاد الإسلامية، واختلاط الأعاجم بالعرب، وجدّت حوادث ووقائع كثيرة، وكثر الاجتهاد والمجتهدون، واختلفت طرقهم في الاستنباط، وظهر في الأفق الاتجاهان المعروفان باتجاه أهل الحديث بالحجاز، واتجاه أهل الرأي بالعراق، وأسرف كل فريق في الطعن على الفريق الآخر، فعاب أهل الرأي على أهل الحديث الإكثار من الرواية التي هي مظنة لقلة الفهم والتدبر، كما عاب أهل الحديث على أهل الرأي بأنهم يأخدون في دينهم بالظن، ويحكمون العقل في الدين1، فلما اتسع النزاع بين المدرستين المذكورتين، أرسل الإمام عبد الر حمن بن مهدي -عالم الحديث بالمدينة المنورة المتوفى سنة "198هـ"- إلى الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يطلب منه وضع قواعد يحتكم إليها، وأسس يسير عليها العلماء في اجتهادهم، وكيف يتعاملون مع الأدلة الشرعية، فأجابه الإمام الشافعي، وبعث إليه بهذه القواعد، والتي عرفت فيما بعد باسم "الرسالة".

_ = إذا أشهد، وفي باب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وباب ما يحذر من زهرة الدنيا، كما رواه الترمذي وأحمد وغيرهما. 1 تاريخ التشريع للخضري ص146.

وقد بين الإمام الشافعي -في هذه الرسالة- أهمية رسالة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأهمية الكتاب العزيز "القرآن الكريم" وأنه لا تنزل بأحد نازلة إلا في كتاب الله -تعالى- حكم لها، إما نصًّا وإما إلحاقًا بالنص، وأن مهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تبيين ما نزّل إلى الناس، ثم أتبع ذلك بباب: "كيف يكون البيان" ثم تحدث عن علاقة السنة بالقرآن، وعن حجية السنة وأنها المصدر الثاني للتشريع، كما بين حجية خبر الآحاد بصفة خاصة، ثم أتبع ذلك الكلام على الإجماع، والقياس وحجيته وشروطه، وألحق به باب الاجتهاد، ثم الاستحسان، ثم ذكر الاختلاف بين العلماء، والمذموم منه والممدوح، وأنهى رسالته بموضوع "أقوال الصحابة" رضي الله عنهم، ومدى الاستدلال بها. فكانت هذه الرسالة بمثابة اللبنة الأولى في هذا العلم، من حيث التأليف والتدوين، وأن الإمام الشافعي صاحب السبق في ذلك. وإن كان هناك من ينازع في ذلك، ويدّعي أن هناك من سبق الإمام الشافعي في ذلك، كالإمامين: أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، صاحبي الإمام أبي حنيفة -رحمهم الله جميعًا- كما ادعت الشيعة ذلك أيضًا. وهي مجرد دعوى لا دليل عليها، فلم يصلنا من هذه المؤلفات شيء، كما وصلتنا رسالة الإمام الشافعي. وفي تصوّري: أن ما يدعيه هؤلاء، إنما هو من قبيل القواعد التي ترد في بعض المسائل الفقهية بطريقة عارضة، وهو أمر مسلم به؛ فإن كل إمام من الأئمة المجتهدين كانت له قواعده وأصوله التي يسير عليها، ويحتكم إليها في اجتهاده، وسبق أن قلنا: إن هذا كان موجودًا ومطبقًا في عصر الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- وفرق كبير بين تطبيق القواعد

والاحتكام إليها، وبين تأليف كتاب مستقل متكامل مستوعب لأبواب العلم1. ثم تتابع العلماء بعد ذلك في التأليف وإضافة بعض الموضوعات إلى رسالة الإمام الشافعي، شأنه في ذلك شأن سائر العلوم، تبدأ قليلة، ثم تنمو وتتسع. وقد سلك العلماء -بعد الإمام الشافعي- مسالك مختلفة: أ- فمنهم من اتجه نحو تحرير المسائل الأصولية وتقرير القواعد تقريرًا منطقيًّا يقوم على الدليل العقلي، دون نظر إلى ما يتفرع عنها من فروع فقهية، وسمي هذا الاتجاه: باتجاه المتكلمين؛ لأنهم أشبهوا علماء الكلام في إقامة الأدلة، ودفع شبه المخالفين. ومن أمهات الكتب المؤلفة على هذه الطريقة: 1- كتاب "العمد" للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المعتزلي المتوفى سنة 415هـ. 2- كتاب "المعتمد" لأبي الحسين البصري: محمد بن علي الطيب البصري المعتزلي المتوفى سنة 436هـ. 3- كتاب "البرهان" لإمام الحرمين: عبد الملك بن يوسف الجويني المتوفى سنة 478هـ. 4 - كتاب "المستصفى" للإمام أبي حامد: محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505هـ. فكانت هذه الكتب الأربعة بمثابة المرجع في الأصول على هذه

_ 1 انظر: التمهيد للإسنوي ص45، 46 تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو.

الطريقة، إلى أن قام عالمان جليلان بتلخيص ما فيها، هما: فخر الدين الرازي المتوفى سنة "606هـ" في كتاب سماه "المحصول" وسيف الدين الآمدي المتوفى سنة "361هـ" في كتاب سماه "الإحكام في أصول الأحكام". وقد عني العلماء بهذين الكتابين عناية فائقة، بالاختصار والشرح والتعليق. وتوالت -بعد ذلك- المؤلفات على هذه الطريقة مما يطول بيانه في هذه المقدمة. ب- وبجانب طريقة المتكلمين ظهرت طريقة أخرى تسمى طريقة الفقهاء أو الحنفية، تميزت بربط القواعد الأصولية بالفروع الفقهية، بمعنى: أنهم جعلوا الأصول تابعة للفروع، بحيث تتقرر القواعد على مقتضى الفروع الفقهية، باعتبار أن هذه القواعد إنما هي لخدمة الفروع. ومن أهم الكتب التي وضعت على هذه الطريقة: 1- رسالة الكرخي في الأصول: تأليف أبي الحسن عبد الله بن الحسن الكرخي المتوفى سنة "340هـ". 2- أصول الفقه: لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة "370هـ". 3- كنز الوصول إلى معرفة الأصول: تأليف الإمام فخر الإسلام أبي الحسن علي بن محمد البزدوي المتوفى سنة "482هـ". 4- أصول السرخسي: محمد بن أحمد بن سهل السرخسي المتوفى سنة "483هـ". 5- منار الأنوار: لأبي البركات: عبد الله بن أحمد النسفي المتوفى

سنة "710هـ". وعليه عدة شروح نفيسة، واختصره كثير من العلماء. ج- طريقة الجمع بين المتكلمين والفقهاء: وفي القرن السابع الهجري بدأت تظهر طريقة ثالثة تجمع بين المنهجين المتقدمين: منهج المتكلمين، ومنهج الفقهاء، بحيث تذكر القاعدة الأصولية وتقيم الأدلة عليها، وتقارن بين ما قاله المتكلمون وما قاله الفقهاء، مع المناقشة والترجيح، ثم تذكر بعض الفروع المخرجة عليها. ومن أشهر الكتب التي ألفت على هذا المنهج: 1- كتاب "بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام" لمظفر الدين: أحمد بن علي الساعاتي الحنفي المتوفى سنة "694هـ". 2- كتاب "التنقيح" للقاضي صدر الشريعة: عبيد الله بن مسعود البخاري الحنفي المتوفى سنة "747هـ". وقد وضع عليه شرحًا سماه "التوضيح شرح التنقيح". 3 - "جمع الجوامع" لتاج الدين: عبد الوهاب بن على السبكي المتوفى سنة "771هـ". وعليه عدة شروح وحواش عظيمة. 4- "التحرير" تأليف: كمال الدين: محمد بن عبد الواحد، المشهور بابن الهمام الفقيه الحنفي المتوفى سنة "861هـ". شرحه تلميذه: محمد بن محمد أمير حاج الحلبي المتوفى سنة "879هـ" في كتاب سماه "التقرير والتحبير" وعليه شرح آخر يسمى "تيسير التحرير" للشيخ محمد أمين المعروف بأمير بادشاه. 5- "مسلم الثبوت" لمحب الدين بن عبد الشكور البهاري الفقيه الحنفي المتوفى "1119هـ" وعليه شرح نفيس للعلامة: عبد العلي

21 محمد بن نظام الدين الأنصاري يسمى: "فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت". وهكذا بدأ المتأخرون ينسجون على منوال ما سلكه المتقدمون1. د- اتجاه تخريج الفروع على الأصول: وبجانب الاتجاهات المتقدمة، ظهر اتجاه رابع يسمى اتجاه "تخريج الفروع على الأصول" بحيث يذكر القاعدة الأصولية، وآراء العلماء فيها، دون الخوض في أدلة كل مذهب، ثم يفرع عليها بعض الفروع الفقهية، إما على مذهب معين، وإما مع المقارنة بين مذهبين مختلفين، كالحنفية والشافعية -مثلا- أو الشافعية والمالكية والحنابلة وهكذا. ومن الكتب التي ألفت في هذا الاتجاه: 1- "تخريج الفروع على الأصول" للإمام شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني المتوفى سنة "656هـ". يذكر القاعدة الأصولية، ثم يتبعها بتطبيقات فقهية على مذهب الحنفية والشافعية. 2- "مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول" للإمام الشريف أبي عبد الله محمد التلمساني المالكي المتوفى سنة "771هـ". سلك فيه مؤلفه نفس المسلك السابق، إلا أنه يقارن بين المذاهب الثلاثة: الحنفي والمالكي والشافعي. 3- "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" للإمام جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن القرشي الإسنوي الشافعي المتوفى سنة "772هـ". ويعتبر من أهم الكتب التي ألفت على هذا المنهج، حيث استوعب

_ 1 انظر: مقدمة ابن خلدون ص325 طبعة دار المصحف بالقاهرة.

القواعد الأصولية، إلا أنه قصر التخريج على مذهب الشافعية فقط. 4- "القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية" للإمام: أبي الحسن علاء الدين: علي بن عباس البعلي الحنبلي، المعروف بابن اللحام المتوفى في سنة "803هـ". سار فيه مؤلفه على نفس المنهج، غير أنه أبرز رأي علماء الحنابلة بشكل أوضح، وإن كان يذكر آراء بعض المذاهب الأخرى. هـ- اتجاه بناء القواعد الأصولية على مقاصد الشريعة: وبجانب الاتجاهات المتقدمة ظهر اتجاه مخالف للاتجاهات السابقة، سلكه الإمام الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي المتوفى سنة "790هـ" ألف الشاطبي كتابه المشهور المسمى "الموافقات" وكان في بداية الأمر قد سماه "عنوان التعريف بأسرار التكليف" ثم عدل عن هذه التسمية لأمر ما. سلك الشاطبي في كتابه هذا مسلكًا جديدًا لم يسبق إليه، بحيث يذكر القواعد الأصولية تحت أبواب معينة تتضمن مقاصد الشريعة الإسلامية ومراميها المختلفة، والتي تتضمن حفظ الضروريات، والحاجيات والتحسينيات. وتوالت -بعد ذلك- المؤلفات على الاتجاهات المختلفة، منها: المطول، ومنها المختصر، ومنها المتوسط، لكنها -في الجملة- لا تختلف كثيرًا عما أصّله المتقدمون، إلا في طريقة العرض، أو تقديم موضع على آخر، كما هو الشأن في التأليف. وبعد هذه المقدمة عن نشأة هذا العلم وتطوّره، نذكر لمحة سريعة عن مؤلف كتاب "روضة الناظر وجنة المناظر" وعن منهجه في الكتاب، والعمل الذي نقوم به.

تمهيد

التعريف بالإمام ابن قدامة تمهيد: الإمام ابن قدامة علم من أعلام الفكر الإسلامي، وله من الآثار العلمية ما يشهد بفضله ومكانته العلمية، الأمر الذي جعل العلماء يكتبون عن حياته من نواحيها المختلفة، حتى سجلت فيه بعض الرسائل العلمية1. فأرى أن الكتابة عن حياته هنا من فضول القول. وسوف أكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى تاريخ حياته، تمهيدًا للحديث عن منهجه في كتابه: "روضة الناظر وجنة المناظر".

_ 1 راجع في ترجمته: معجم البلدان "2/ 113-114" مرآة الزمان "8/ 627-630" ذيل الروضتين ص139، والعبر "5/ 79"، دول الإسلام "2/ 93" فوات الوفيات "1/ 443-434"، البداية والنهاية "13/ 99-101"، الذيل لابن رجب "2/ 133-149"، شذرات الذهب "5/ 88-92"، سير أعلام النبلاء "22/ 165-173"، ابن قدامة وآثاره الأصولية للدكتور: عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عثمان السعيد الجزء الأول، مقدمة روضة الناظر وجنة المناظر للدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة جـ1 ص7-28، مقدمة "المغني" لابن قدامة بقلم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو جـ1 ص5-56.

1- اسمه ونسبه ونشأته: هو: أبو محمد، موفق الدين: عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله بن حذيفة بن محمد بن يعقوب بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- المقدسي، ثم الدمشقي الصالحي. فأسرته -رحمه الله تعالى- أسرة عريقة، يتصل نسبها إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. ولد -رحمه الله- في شهر شعبان من عام 541هـ الموافق 1146م في إحدى قرى نابلس، ثم رحل -بعد ذلك- إلى "دمشق" فحفظ القرآن، وتلقى العلوم على علمائها، وحفظ بعض المتون، ومنها: "مختصر الخرقي" للإمام: عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم الخرقي المتوفى سنة "334هـ" وهو مختصر في فقه الإمام أحمد بن حنبل، وهو الذي شرحه ابن قدامة -فيما بعد- وسماه "المغني". وفي عام 561هـ رحل ابن قدامة إلى "بغداد" وأخذ العلم عن علمائها، وبعد فترة عاد إلى دمشق، ثم إلى "بغداد" مرة ثانية، ثم إلى "مكة المكرمة" فسمع من علمائها وأفاد منهم كثيرًا في جوار البيت الحرام. وهكذا كانت حياته الأولى، حل وارتحال، في سبيل طلب العلم، حتى وصل إلى المكانة المرموقة بين العلماء. قال عنه أبو شامة " ... كان إمام عصره في علم العربية والنحو واللغة، ولم أتمكن من الإكثار من مجالسته والتعلم منه؛ لكثرة الزحام عليه"1.

_ 1 الذيل على الروضتين ص141.

شيوخه: إن كثرة رحلاته وتنقله بين دمشق، وبغداد، ومكة، جعل شيوخه كثيرين، والحديث عنهم يطول، وليس هذا مجاله، وسوف نكتفي بذكر بعضهم. أولًا- شيوخه في دمشق: 1- والده -رحمه الله تعالى- أحمد بن محمد بن قدامة المتوفى سنة "558هـ". 2- أبو المعالي: عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السلمي الدمشقي المتوفى سنة "576هـ". 3- أبو المكارم: عبد الواحد بن محمد بن المسلّم بن هلال الأزدي الدمشقي المتوفى سنة "565هـ". ثانيًا- شيوخه في بغداد: 1- أحمد بن صالح بن شافع الجيلي البغدادي المتوفى سنة "565هـ". 2- أحمد بن المقرب بن الحسين البغدادي الكرخي المتوفى سنة "563هـ". ثالثًا- من شيوخه من مكة: المبارك بن علي البغدادي الحنبلي، المحدث الفقيه، إمام الحنابلة بالحرم الشريف، المتوفى سنة "575هـ"1.

_ 1 انظر في شيوخه: ذيل طبقات الحنابلة "2/ 133 وما بعدها" سير أعلام النبلاء "22/ 166 وما بعدها".

تلاميذه: وكما كان شيوخ "ابن قدامة" كثيرين، فإن تلاميذه كانوا -أيضًا- كثيرين. فإذا كانت التلمذة -بالمعني العام- تثبت لكل من تلقى عنه وأفاد منه مباشرة، أو عن طريق مؤلفاته، فإن كان الأجيال المتأخرة عنه تعتبر من تلاميذه، ونحن منهم. وسوف نقتصر على بعض المشهورين من تلاميذه الذين تلقوا عنه مباشرة. فمنهم: 1- تقي الدين أبو العباس: أحمد بن محمد بن عبد الغني المقدسي الصالحي، شيخ الحنابلة في عصره، المتوفى سنة "643هـ". 2- أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المتوفى سنة "665هـ". 3- أبو بكر: محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي، قاضي القضاة المعروف بابن العماد المتوفى سنة "676هـ". 4- أبو الفرج: عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي المتوفى سنة "682هـ". عقيدته: كان -رحمه الله تعالى- سلفي العقيدة، يسير على منهج أهل السنة والجماعة، ويكره الخوض في طرق المتكلمين؛ لأنها لا توصل إلى يقين، ويحمل صفات الباري -سبحانه وتعالى- على ظاهرها، كما جاءت في الكتاب والسنة، دون تكلف ولا تعسف، ولا تشبيه ولا تعطيل، فيثبت ما أثبته الله -تعالى- على وجه لا يعلمه إلا هو سبحانه، عملًا بقوله

تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. يدل على ذلك ما ذكره -رحمه الله تعالى- في كتبه في مواضع مختلفة: فمن ذلك ما جاء في كلامه على قضية المحكم والمتشابه في القرآن الكريم، يقول -رحمه الله- بعد أن أورد آراء العلماء في المراد من المتشابه: "والصحيح: أن المتشابه: ما ورد في صفات الله -سبحانه- مما يجب الإيمان به، ويحرم التعرض لتأويله، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3 {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 4 {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 5 {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 6 ونحوه. فهذا اتفق السلف -رحمهم الله- على الإقرار به، وإمراره على وجهه، وترك تأويله؛ فإن الله -سبحانه- ذم المتبعين لتأويله وقرنهم -في الذم- بالذين يبتغون الفتنة وسماهم أهل زيغ7. يضاف إلى ذلك مؤلفاته في العقيدة، والتي منها: 1- "ذم التأويل" وهي رسالة مطبوعة ضمن مجموعة رسائل بمطبعة كروستان بمصر عام 1329هـ.

_ 1 سورة الشورى من الآية: 11. 2 سورة طه الآية: 5. 3 سورة المائدة من الآية: 64. 4 سورة "ص" من الآية: 75. 5 سورة الرحمن من الآية: 27. 6 سورة القمر من الآية: 14. 7 انظر: روضة الناظر "1/ 279-280" ط. مكتبة الرشد، تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.

2- "لمعة الاعتقاد" وهي رسالة في عقيدة أهل السنة، والجماعة، نسبها إليه "بروكلمان" في تاريخ الأدب العربي1. 3- "رسالة في مسألة العلو" نسبها إليه ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة2، وإسماعيل باشا في هدية العارفين3. مذهبه الفقهي: أما مذهبه الفقهي: فمعروف أنه من أئمة فقهاء الحنابلة، ومؤلفاته المتعددة في فقه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- شاهدة على ذلك، ومنها: "المغني" و"المقنع" و"الكافي". وإذا كان كتابه "المغني" في الأصل موضوعًا على مذهب الإمام أحمد، فإن العلماء -وبالأخص في الأزهر- يعتبرونه مصدرًا مهمًّا من مصادر الفقه المقارن، ويضعونه بجانب كتاب "المجموع" للإمام النووي، و"بداية المجتهد" لابن رشد. مكانته وثناء العلماء عليه: أما مكانة "ابن قدامة" فحدّث ولا حرج، فقد شهد له علماء عصره، ومن بعدهم بالفضل والعلم والأخلاق الكريمة، ولا غرو، فهو شريف النسب، حيث يتصل نسبه إلى الخليفة العادل "عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه- كما تقدم. قال عنه تلميذه أبو شامة: "كان إمامًا من أئمة المسلمين، وعَلَمًا من أعلام الدين، في العلم

_ 1 جـ1 ص368. 2 الذيل "2/ 139". 3 جـ1 ص460.

والعمل، صنف كتبًا حسانًا في الفقه، وغيره، عارفًا بمعاني الآثار والأخبار"1. وقال عنه الصفدي: ".... كان أوحد زمانه، إمامًا في علم الفقه، والأصول، والخلاف، والفرائض، والنحو، والحساب، والنجوم السيارة والمنازل"2. وقال عنه ابن الجوزي: "كان إمامًا في فنون، ولم يكن في زمانه بعد أخيه "أبي عمر" أزهد منه، وكان معرضًا عن الدنيا وأهلها، هينًا لينًا متواضعًا، حسن الأخلاق، جوادًا سخيًّا، ومن رآه كأنما رأى بعض الصحابة، وكأن النور يخرج من وجهه"3. وهذه شهادة تلميذ من تلاميذه الذين عاصروه وعاشروه عن قرب، وهي شهادة عدل فلا يطعن فيها كونه واحدًا من تلاميذه. وفاته: وبعد حياة حافلة بالبذل والعطاء ونشر العلم، تدريسًا وتأليفًا، توفي -رحمه الله تعالى- في يوم السبت غرة شوال عام 620هـ الموافق 1223م. رحمه الله -تعالى- رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين.

_ 1 انظر: الذيل ص140. 2 الوافي بالوفيات "17/ 37". 3 مرآة الزمان "8/ 628".

مؤلفاته: مؤلفات "ابن قدامة" كثيرة ومتعددة الاتجاهات، منها ما يتعلق بالعقيدة، ومنها ما يتعلق بالقرآن والسنة، ومنها ما يتعلق بالفقه وأصوله، ومنها ما يتعلق بالآداب وفضائل الصحابة -رضي الله عنهم- ومنها ما يتعلق بالتاريخ والأنساب، إلى غير ذلك من الفنون التي برز فيها "ابن قدامة" وألّف فيها الموسوعات والرسائل، التي أفاد منها طلاب العلم في شتى المعارف المختلفة. وهذه هي المؤلفات التي وقفت عليها، والتي أوردها فضيلة الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عثمان السعيد -يحفظه الله- في دراسته الضافية عن "ابن قدامة وآثاره الأصولية". أولًا- في العقيدة: 1- الاعتقاد. 2- ذم التأويل. 3- رسالة إلى الشيخ فخر الدين ابن تيمية في تخليد أهل البدع في النار. 4- لمعة الاعتقاد، وهي رسالة في عقيدة أهل السنة والجماعة. 5- رسالة في مسألة العلو. 6- مسألة في تحريم النظر في كتب أهل الكتاب. 7- كتاب القدر. ثانيًا- في أصول الفقه: لم أجد -فيما اطلعت عليه- أن له في الأصول سوى "روضة الناظر وجنة المناظر" والذي سوف نتحدث عن منهج المصنف فيه إن شاء الله تعالى.

ثالثًا- في الفقه: أما مؤلفات "ابن قدامة" في الفقه، فكثيرة جدًّا، منها ما وقفنا عليه: 1- المغني في شرح مختصر الخرقي. 2 - المقنع. 3 - الكافي. 4 - عمدة الأحكام. 5 - مختصر الهداية لأبي الخطاب. 6 - رسالة في المذاهب الأربعة. 7 - فقه الإمام. 8 - فتاوى ومسائل منثورة. 9 - مقدمة في الفرائض. 10- مناسك الحج. رابعًا- في الكتاب والسنّة: 1- البرهان في مسألة القرآن. 2- قنعة الأريب في الغريب. 3- مختصر علل الحديث؛ لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال المتوفى سنة "311هـ". 4- مختصر في غريب الحديث. 5- جواب مسألة وردت من صرخد في القرآن. خامسًا- في الفضائل والأخلاق: 1- فضائل الصحابة. 2- فضائل العشرة المبشرين بالجنة. 3- فضائل عاشوراء.

4- كتاب التوابين. 5- كتاب الرقة والبكاء. 6- كتاب الزهد. 7- ذم الوسواس. 8- كتاب المتحابين في الله. سادسًا- في التاريخ والأنساب: 1- الاستبصار في نسب الأنصار. 2- التبيين في نسب القرشيين. 3- مشيخة شيوخه. 4- مشيخة أخرى. هذا بالإضافة إلى رسائل أخرى في موضوعات متفرقة1.

_ 1 يراجع في مؤلفاته: تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، سير أعلام النبلاء، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب، فوات الوفيات لابن شاكر، الوافي بالوفيات للصفدي، مرآة الزمان لابن الجوزي، معجم البلدان لياقوت الحموي، شذرات الذهب لابن العماد، ابن قدامة وآثاره الأصولية للدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد، مقدمة روضة الناظر، تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.

منهج ابن قدامة: في كتابه: روضة الناظر وجنة المناظر 1- من المعروف أن "ابن قدامة" حنبلي المذهب، والحنابلة -بصفة عامة- يسيرون على منهج المتكلمين الذي يعنون بتأسيس القواعد وإقامة الأدلة عليها. والمؤلف سلك نفس المسلك، فيذكر مذاهب العلماء في المسألة مقرونة بأدلتها، ثم يذكر ما يراه راجحًا، مؤيدًا بالبرهان والدليل، ثم يناقش أدلة المخالفين ويبين وجه الخطأ فيما قالوه. وقد بين -رحمه الله تعالى- منهجه هذا في مقدمة كتابه فقال: "أما بعد: فهذا كتاب نذكر فيه أصول الفقه، والاختلاف فيه، ودليل كل قول، على وجه الاختصار، والاقتصار من كل قول على المختار، ونبين من ذلك ما نرتضيه، ونجيب على من خالفنا فيه". فهو بذلك يريد أن يجعل كتابه في "أصول الفقه المقارن" كما فعل ذلك في كتابه "المغني" في الفقه، فهو موضوع أساسًا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- لكنه أضاف إليه أقوال بعض المذاهب الأخرى، مقرونة -أحيانا- بأدلتها، ثم يناقش هذه الأدلة ويبين الراجح في النهاية بقوله: "ولنا". ولذلك يعتبره العلماء من أهم المراجع في الفقه المقارن.

2- والمؤلف سلك في كتابه "الروضة" مسلك الإمام الغزالي في كتاب "المستصفى من علم الأصول" في الجملة، حتى إنه تبعه في إضافة المقدمة المنطقية إلى كتابه، والتي كانت مثار انتقاد له من بعض العلماء، حتى قيل: إنه حذفها فيما بعد من بعض النسخ. كما تبعه في ترتيب أدلة الأحكام، فجعلها على هذا النحو: كتاب الله -تعالى-، ثم سنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الإجماع، ثم دليل العقل المبقي على النفي الأصلي، ثم في الأدلة المختلف فيها، وأخر القياس وجعله في باب: ما يقتبس من الألفاظ، مخالفًا ما عليه جمهور العلماء من المذاهب الأربعة، حيث يجعلون القياس من الأدلة الأربعة المتفق عليها: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس. جاء في شرح الكوكب المنير1: "أدلة الفقه المتفق عليها -على ما في بعضها من خلاف ضعيف جدًّا- أربعة: الأول: الكتاب، وهو القرآن، وهو الأصل. والثاني: السنة..... وهي مخبرة عن حكم الله تعالى. والثالث: الإجماع..... وهو مستند إلى الكتاب والسنّة. والرابع: القياس على الصحيح، وعليه جماهير العلماء. وقال أبو المعالي وجمع: ليس القياس من الأصول، وتعلقوا بأنه لا يفيد إلا الظن. قال في شرح التحرير: والحق هو الأول، والثاني ضعيف جدًّا، فإن القياس قد يفيد القطع -كما سيأتي- وإن قلنا: لا يفيد إلا الظن فخبر الواحد ونحوه لا يفيد الظن.

_ 1 الجزء الثاني ص5، 6.

وهو: أي القياس مستنبط من الثلاثة: التي هي الكتاب والسنة والإجماع". و"ابن قدامة" وإن كان قد سار على منهج "الغزالي" إلا أنه قد خالفه في بعض المسائل، وفي ترتيب الفصول، وتقديم بعض المباحث وتأخير البعض، كما أنه امتاز عن "المستصفي" بإبراز آراء علماء الحنابلة، كالقاضي أبي يعلى المتوفى سنة "458هـ"، وأبي حامد: الحسن بن حامد بن علي البغدادي المتوفى "403هـ" والتميمي: عبد العزيز بن الحارث بن أسد المتوفى سنة "371هـ"، وعبد العزيز بن جعفر بن أحمد الحنبلي، المعروف بغلام الخلال المتوفى سنة "363هـ"، وعلي بن عقيل بن محمد "ابن عقيل الحنبلي" المتوفى سنة "513هـ"، ومحفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب الحنبلي المتوفى سنة "510هـ" وغيرهم من علماء المذهب، فضلًا عن النقل عن إمامهم جميعًا: الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-. 3- ولما كان الغرض من الكتاب الاختصار والاقتصار على ما هو الراجح -غالبًا- كما جاء في مقدمة الكتاب، فإن المصنف كثيرًا ما يحيل على المسائل المتقدمة التي تشبه المسألة التي يعالجها، ومن أمثلة ذلك: قوله في باب النهي: "اعلم أن ما ذكرناه من الأوامر، تتضح به أحكام النواهي؛ إذ لكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي، وعلى العكس، فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير"1 كما أنه -أحيانًا- يضطر إلى إضافة بعض الأشياء في نهاية المسألة، حتى لا تخفى على القارئ بسب الاختصار الذي يختصره من كلام الغزالي. ففي مسألة الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها

_ انظر: الروضة "2/ 652" تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.

ينقل كلام الإمام الغزالي -باختصار شديد- ثم يقول في ختام المسألة: " ... العقل لا دخل له في الحظر والإباحة..... وإنما تثبت الأحكام بالسمع. وقد دل السمع على الإباحة على العموم بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 1 وبقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} 2 وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ....} 3 وبقوله {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ... } 4 ونحو ذلك. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "..... وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه" "5". 4- كما أن منهجه: أن يوضح حقيقة الخلاف والآراء المنسوبة إلى المذاهب، فقد ينقل الغزالي عن الحنابلة رأيًا معينًا، بينما يكون في المسألة روايات أخرى لم يذكرها، فيوضح ابن قدامة ذلك، ويبين الرواية الراجحة والمرجوحة، ومن أمثلة ذلك: ما جاء في "مسألة الفرض والواجب" وهل هما بمعنى واحد أو مختلفان؟ يقول الغزالي: "فإن قيل: هل من فرق بين الواجب والفرض؟ قلنا:

_ 1 سورة البقرة من الآية: 29. 2 سورة الأعراف من الآية: 33. 3 سورة الأنعام من الآية: 151. 4 سورة الانعام من الآية: 145. 5 رواه الترمذي في سننه "1726" وابن ماجه "3367" والحاكم في المستدرك "4/ 115" والبيهقي "9/ 320" عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" والمراد بالفراء: حمار الوحش، أو الذي يلبس، وسيأتي الكلام على سند الحديث وما فيه في مسألة: حكم الأشياء قبل ورود الشرع.

لا فرق -عندنا- بينهما، بل هما من الألفاظ المترادفة، كالحتم واللازم وأصحاب أبي حنيفة -رحمه الله- اصطلحوا على تخصيص اسم "الفرض" بما يقطع بوجوبه، وتخصيص اسم "الواجب" بما لا يدرك إلا ظنًا"1. أما ابن قدامة فيقول: "والفرض هو الواجب -على إحدى الروايتين- لاستواء حدهما، وهو قول الشافعي. والثانية: الفرض آكد...."2. فابن قدامة أظهر أن في مذهب الحنابلة روايتين، وقوى الرواية التي توافق مذهب الحنفية من كون الفرض آكد من الواجب، ودلل على ذلك من نصوص علماء اللغة، ثم توصل في النهاية إلى أن الخلاف مبني على الاصطلاح، وهو أمر لا مشاحة فيه. ولذلك قال في نهاية المسألة: "ولا خلاف في انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون، ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعنى". 5- كذلك من منهجه: أنه -غالبًا- ما يبدأ المسألة بذكر المذهب الذي يراه راجحًا، ثم يتبعه برأي المخالفين وأدلتهم، ثم يناقشها، ثم يختم ببيان الأدلة التي تؤيد ما يرجحه، وغالبًا ما ينوع الأدلة التي يوردها مستندًا إلى كلام أهل اللغة، ثم إلى القرآن والسنّة والإجماع والقياس، إن وجد ذلك، وهو في ذلك كله لا يستهين بالرأي المخالف، حتى ولو كان ضعيفًا أو ظاهر البطلان، ولذلك ينقل عن المعتزلة، وأهل الظاهرة، والشيعة، حتى اليهود عنهم، كما جاء في باب النسخ. وهذا -في الواقع- منهج علمي سليم، يقوم على الحجة والبرهان،

_ 1 المستصفى "1/ 212-213" تحقيق الدكتور حمزة حافظ. 2 الروضة "1/ 151-152" تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.

حتى يكون المسلم على بينة من أمره، ولا ينخدع بما يزينه المخالفون لمنهج الإسلام، والطعن على أحكامه بأساليب مختلفة. قيمة الكتاب العلمية ومزاياه: أ- مما لا شك فيه أن كتاب "روضة الناظر" من أهم الكتب التي ألفت في علم الأصول -بصفة عامة- وفي مذهب الحنابلة -بصفة خاصة- فما من بحث أو كتاب في علم الأصول -من الكتاب المتأخرة عن "ابن قدامة"- إلا وتجده واحدًا من مصادره التي يعتمد عليها ومن أمثلة ذلك: 1- فقد جعله الإمام القرافي المتوفى سنة "684هـ" من مصادره في شرحه لكتاب "المحصول" للإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة "606هـ" والمسمى "نفائس الأصول". 2- كما نص الإمام بدر الدين الزركشي المتوفى سنة "794هـ" في مقدمة كتابه "البحر المحيط" على أن كتاب "روضة الناظر" من المؤلفات التي اعتمد عليها في كتابه. 3- كذلك الإمام: محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي المتوفى سنة "972هـ" جعله واحدًا من أهم الكتب التي رجع إليها ونقل منها. وغير هؤلاء كثير ممن يطول الكلام عنهم. ب- كذلك من المزايا التي تميز بها الإمام ابن قدامة: أنه ليس مجرد ناقل، وإنما له فكره المستقل، ورأيه المستنير الذي لا يرى حجية المسألة تابعة لرأي شخص معين، مهما كانت منزلته، وإنما يعتمد في أقواله وترجيحاته على الدليل الذي لم يتطرق إليه أي احتمال.

_ 1 طبع مؤخرًا ونشر في المكتبة التجارية بمكة المكرمة.

ولذلك نراه يشتد في مناقشته للإمام الغزالي، ويصف رأيه بأنه خارج عن الإجماع، أو الكتاب في مسألة: إصابة كل مجتهد، أو أن المجتهد يخطئ ويصيب. قال -رحمه الله تعالى-: "وزعم بعض من يرى تصويب كل مجتهد: أن دليل هذه المسألة قطعي، وفرض الكلام في مسألتين: أحدهما: مسألة فيها نص فينظر: فإن كان مقدورًا عليه، فقصّر المجتهد في طلبه، فهو مخطئ آثم لتقصيره، وإن لم يكن مقدورًا عليه، لبعد المسافة، وتأخير المبالغة، فليس بحكم في حقه...." إلى أن قال: "وزعم أن هذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف من كل منصف"1. ويقصد بذلك الإمام الغزالي. والذي يدل على ذلك ما جاء في المستصفى: ".... والمختار عندنا وهو الذي نقطع به، ونخطّئ المخالف فيه: أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وأنها ليس فيها حكم معين لله -تعالى-"2 ثم فرض المسألة في طرفين، كما قال ابن قدامة. وهذا يدل على أن للرجل رأيًا مستقلًّا، وليس مجرد ناقل. جـ- ومما يدل على أهمية الكتاب العلمية: اهتمام العلماء بشرحه والتعليق عليه، أو اختصاره، فضلا عن كونه الكتاب الأساس في أغلب المؤسسات التعليمية.

_ 1 روضة الناظر مع شرحه نزهة الخاطر العاطر "2/ 415". 2 المستصفى "2/ 363" المطبعة الأميرية بمصر.

ويدل على ذلك ما يلي: 1- الإمام نجم الدين: سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي المتوفى سنة "716هـ" اختصر كتاب "روضة الناظر" في كتاب سماه "البلبل في أصول الفقه" طبع بمطبعة النور بالرياض عام 1383هـ. ثم قام بشرح هذا المختصر شرحًا وافيًا، أضاف إليه أمورًا كثيرة من اجتهاداته، ومن أقول العلماء الآخرين، مما جعل لهذا الشرح أهمية بالغة. وقد حقق هذا الشرح معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي -يحفظه الله- ونشر بمكتبة مؤسسة الرسالة. 2- قام بشرح الكتاب والتعليق عليه الشيخ عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بدران الدمشقي المتوفى سنة "1346هـ-1920م" وسماه "نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر". وهو ليس شرحًا بالمعنى المعروف، لكنها تعليقات على بعض المسائل التي يصعب فهمها على المبتدئ في علم الأصول، وأغلبها منقول حرفيًّا من شرح الطوفي آنف الذكر. وقد نبه -رحمه الله تعالى- على ذلك في أول الكتاب فقال: ".... وأخذت بكتابة تعليقات عليه، تقرب ما نأى من المطالب، وتفتح باب تلك الروضة لكل طالب، وتُهديه من ثمراتها، بلا ثمن، وتحرير مسائله تحرير ممارس مؤتمن، مع ترك الواضح منه، وصرف الهمة إلى ما أشكل"1. 3- وقد سلك مسلك "ابن بدران" في التعليق على ما أشكل من

_ انظر: نزهة الخاطر العاطر "1/ 10" طبعة المعارف بالرياض.

الكتاب الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي المتوفى سنة "1393هـ". والظاهر أنه -رحمه الله تعالى- كان يتولى تدريس مادة "أصول الفقه" لطلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إبّان افتتاحها عام 1380هـ وكان الكتاب المقرر هو "روضة الناظر" وأن الطلاب وجدوا صعوبة في فهمه، فوضع هذه التعليقات، وطبعت مستقلة بعنوان "مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر للعلامة ابن قدامة رحمه الله". 4- قدم فيه الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عثمان السعيد -يحفظه الله- دراسة علمية نال بها درجة "الدكتوراه" من كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، بعنوان "ابن قدامة وآثاره الأصولية" في قسمين: القسم الأول: خصصه للحديث عن حياة ابن قدامة ونشأته ومراحل تعلّمه، ونسبه الذي أوصله إلى الخليفة العادل "عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه- ثم تحدث باستفاضة عن آثار هذا الرجل في المذهب الحنبلي بعامة، وفي أصول الفقه ومنهجه فيه بخاصة. أما القسم الثاني: فقد خصصه لتحقيق كتاب "روضة الناظر" والتعليق عليه. وهو عمل جليل أظهر مكانة هذا العالم وأهمية كتاب الروضة، الأمر الذي جعل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تقوم بطبع الكتاب وتوزيعه على طلبة العلم، فجزى الله القائمين عليها خيرًا، وجعل ذلك في صفحات أعمالهم الصالحة. 5- كما حقق الكتاب وقدم له بدراسة وافية فضيلة الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن

سعود الإسلامية بالرياض -يحفظه الله- ونشرته مكتبة الرشد بالرياض. والمطالع في هذه الطبعة يلمس الجهد المشكور الذي بذله المحقق في تصحيح النص ومقابلته على النسخ المخطوطة والمطبوعة للكتاب، مع تخريج شواهد الكتاب على أحدث طرق التحقيق، فجزاه الله عن هذا العمل خير الجزاء، ونفع بعلمه وعمله بقدر إخلاصه لله تعالى. فهذه الأعمال المختلفة، وتلكم الجهود المتكررة حول كتاب "الروضة" خير شاهد على دعوانا: من أن لهذا الكتاب أهمية خاصة، ومكانة مرموقة بين أهل العلم، عبر العصور المختلفة. وفي تصوري أن هذه العناية بهذا الكتاب بصفة خاصة، دون غيره من الكتب ترجع إلى إخلاص هذا الرجل في عمله، وأنه ما أراد به إلا وجه الله -تعالى- ورضاه. ولذلك هيأ الله -تعالى- من يقوم بخدمة الكتاب ونشره بين أبناء العلم. ما يؤخذ على الكتاب: العمل البشري -دائمًا- يعتريه القصور، ويرد عليه الخطأ والنسيان وما من عمل يعمله الإنسان، ثم ينظر فيه -بعد ذلك- إلا ويجد نفسه قد قصّر في بعض الأمور، كما قال العماد الأصفهاني: "إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يوم إلا قال في غده: لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر". وكتاب "الروضة" وإن كان يعتبر موسوعة علمية في أصول الفقه،

خاصة في ذكر آراء علماء المذاهب المختلفة، والمقارنة بينها، والاستدلال لكل مذهب، وبيان الراجح منها بالدليل، وإبراز مذهب الحنابلة على وجه الخصوص، إلا أنه يؤخذ عليه ما يلي: 1- أحيانًا يعنون للشئ ولا يذكره، مثل ما جاء في الحكم وأقسامه. عنون له بقوله: "حقيقة الحكم وأقسامه..... ثم قال: أقسام أحكام التكليف خمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور ... ". فلم يذكر شيئًا عن تعريف الحكم لغة واصطلاحًا، ولا عن تقسيمه إلى حكم تكليفي وحكم وضعي إلى آخر ما هو معروف في هذا المجال. كما أنه عبر بقوله "واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور" وهو خلاف ما عليه المحققون من العلماء، من أن خطاب التكليف هو: الإيجاب، والندب، والإباحة، والكراهة، والحرمة. أما الواجب والمندوب، إلى آخره، فهو فعل المكلف الذي تعلق به الإيجاب أو الندب أو الكراهة أو الحرمة. والوجوب: هو أثر الخطاب الشرعي، وهو الصفة التي تثبت للفعل. فهناك فرق بين التعبيرات الثلاثة: الإيجاب، والواجب، والوجوب1. كما أنه أهمل بعض تقسيمات الواجب، فلم يذكر شيئًا عن الواجب العيني والواجب الكفائي، وما يتعلق بهما من أحكام.

_ 1 راجع: كشف الأسرار "4/ 243" فواتح الرحموت "1/ 128" تيسير التحرير "2/ 148".

2- أحيانًا لا يصرح بالمذهب ولا بالقائلين به، وإنما كان يكتفي بعبارة: "فإن قيل" فيستفاد منها المذهب والقائلون به. وكثيرًا ما يورد هذه العبارة عند ذكر أدلة المخالفين، الأمر الذي يجعل طالب العلم، أو الباحث يرجع إلى أصل الكتاب، وهو "المستصفى" لمعرفة المقصود بهذه العبارة، أو إلى بعض المراجع الأخرى. والأمثلة على ذلك لا تخفى على من طالع الكتاب. 3- غالبًا ما تكون عبارة الكتاب غامضة تحتاج إلى شرح وتوضيح. ومن أسباب هذا الغموض: أن المؤلف -رحمه الله تعالى- كثيرًا ما يختصر عبارة "المستصفى" فيحذف عبارة يتوقف عليها فهم المعنى، فيحصل الغموض. ومن أمثلة ذلك: أ- ما جاء في المرتبة الخامسة من مراتب رواية الحديث بالنسبة للصحابة -رضي الله عنهم- وهي: "أن يقول: "كنا نفعل، أو كانوا يفعلون كذا.... ثم قال: مثل قول ابن عمر -رضي الله عنه- كنا نفاضل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنقول: أبو بكر، وعمر، وعثمان، فيبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينكره". وأصل الرواية -كما في المستصفى-: "كنا نفاضل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنقول: خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر وعمر وعثمان ... إلى آخره". وقال في مثال آخر -في نفس المسألة-: "وقال: -أي: عبد الله بن عمر- كنا نخابر أربعين سنة" وهي في الأصل: كنا نخابر على عهد

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعده أربعين سنة، حتى روى لنا رافع بن خديج.... الحديث". ب- في مسألة: إفادة الخبر المتواتر العلم وإن لم يدل عليه دليل آخر، كما هو رأي جمهور العلماء.... حكى رأي "السمنية" في أنهم خالفوا في ذلك وحصروا العلم في الحواس الخمس ... ثم رد عليهم بقوله: "ولا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد، وبلدة تسمى مكة". والأصل في المستصفى "ولا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد وإن لم يدخلها". ومحل الشاهد هنا في عبارة "وإن لم يدخلها" ومعناه: أن العلم بوجود هذه البلدة لم يتوقف على الحواس عن المشاهدة مثلًا، وإلا لكان موافقا للسمنية في حصر العلم على الحواس، فابن قدامة حذف عبارة "وإن لم يدخلها" ووضع مكانها "وبلدة تسمى مكة" فكرر المثال، وحذف محل الشاهد، ومثل ذلك كثير. 4- أحيانًا يتساهل في نسبة الآراء إلى المذاهب المختلفة، فيقول: يرى الحنفية كذا، بينما هو رأي البعض منهم، أو لا يمثل المذهب. ومن أمثلة ذلك: ما نقله عن الحنفية في مسألة: تكليف الكفار بفروع الإسلام فقال: "واختلفت الرواية: هل الكفار مخاطبون بفروع الإسلام؟ فروي أنهم لا يخاطبون منها بغير النواهي؛ إذ لا معنى لوجوبها، مع استحالة فعلها في الكفر، وانتفاء قضائها في الإسلام، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله، وهذا قول أكثر أصحاب الرأي". وهذا القول مخالف لما في كتب الحنفية أنفسهم، حيث حكموا

على هذا الرأي بالشذوذ، وأن الصحيح عندهم أنهم غير مكلفين مطلقا1. وهو الذي ذكره الغزالي في المستصفى حيث قال: "مسألة: ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلًا حالة الأمر. بل يتوجه الأمر بالمشروط والشرط، ويكون مأمورًا بتقديم الشرط. فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الإسلام، كما يخاطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الوضوء، والملحد بتصديق الرسول، بشرط تقديم الإيمان بالمرسل. وذهب أهل الرأي إلى إنكار ذلك"2. 5- أحيانًا يورد في المسألة عدة آراء، ويستدل لها، ويترك أهم الآراء فيها فلا يشير إليه. ومن أمثلة ذلك: ما جاء في مسألة دلالة الأمر المطلق، هل يقتضي التكرار أو لا؟ حكى الآراء المختلفة، واستدل لما رآه راجحًا، وأغفل أهم الآراء، وهو: أنه يدل على مجرد تحصيل الماهية، من غير نظر إلى المرة أو التكرار، وهو الرأي الذي رجحه المحققون من علماء الأصول. 6- عدم تحريره لمحل النزاع فكثيرًا ما يطلق القول في المسألة، ويحكم عليها حكمًا عامًّا، مع أنه قد يكون هناك محال اتفاق ومحال خلاف وهذا قد يوقع القارئ في خطأ، وبالأخص المبتدئ.

_ 1 راجع: كشف الأسرار "4/ 243"، فواتح الرحموت "1/ 128". 2 انظر: المستصفى "1/ 304" تحقيق الدكتور حمزة حافظ.

7- وأخيرًا -كما هي عادة أغلب المؤلفين القدامي- لا يذكر عنوانًا لأي مسألة، بل يقول: فصل..... ثم يبدأ مباشرة في نقل الآراء في الموضوع، وهكذا....، بل أحيانًا يجعل المسألة الواحدة في فصلين، فيجعل رأي بعض العلماء فصلا، والبعض الأخر فصلًا مستقلا، الأمر الذي يوهم أنه موضوع مستقل. ومن أمثلة ذلك: ما جاء في مسألة التعبد بخبر الواحد عقلًا، قال: "فصل: وأنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلا؛ لأنه يحتمل أن يكون كذبًا، والعمل به عمل بالشك، وإقدام على الجهل، فتقبح الحوالة على الجهل ... " إلى آخر الأدلة التي أوردها لهذا المذهب، ثم بعد أن ناقشها قال: "فصل: وقال أبو الخطاب: العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد؛ لأمور ثلاثة....". فمع أن الكلام لا يزال موصولًا بموضوع التعبد بخبر الواحد عقلًا، إلا أنه فصل بين الآراء كما هو واضح. وأقول: ومع ذلك كله، فإن قيمة الكتاب العلمية لا ينكرها إلا جاهل أو معاند، وهذه الملحوظات التي أشرت إليها، أغلبها راجع إلى اختلاف المنهج بين المتقدمين والمتأخرين. فالذي سلكه ابن قدامة لا يعتبر غريبًا ولا شاذًّا بمقتضى العصر الذي عاش فيه وكتب له، فهذه كانت طريقتهم التي ألفوها ودرجوا عليها. وللعصور المتأخرة طريقتهم ومنهجهم الذي يسلكونه، فلا خلاف في المعنى، وإن اختلفت الطرق والسبل التي توصل إليه.

عملي في الكتاب: بعد أن شرفت بالعمل في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى بمكة المكرمة، زادها الله شرفًا وتعظيمًا، وأسند إلى تدريس مادة "أصول الفقه" من كتاب "الروضة" لمست مدى الصعوبة التي يواجهها الطلاب في فهم الكتاب، بسبب الملاحظات التي أشرت إليها آنفًا. فكنت أقرأ عبارة الكتاب أكثر من مرة، وأراجعها على "المستصفى" وأسجل الفوارق التي بينهما -إن وجدت- أو أضيف عبارة يكون تمام المعنى متوقفًا عليها، وقبل ذلك أحرر محل النزاع، ثم أدخل المحاضرة وأقول لأبنائي الطلبة: درس اليوم في الموضوع الفلاني، والذي يحتوي على العناصر الآتية.... ثم أشرحها شرحًا وافيًا، ثم أقول لهم: تعالوا نستخرج ذلك من الكتاب، فكان البعض منهم يستغرب ذلك في أول الأمر، ويقول: أين تحرير محل النزاع في الكتاب، ولم يذكره المصنف، فأقول لهم: إن المصنف قد ذكره، لكن بطريق الإشارة، وليس بصريح العبارة. ومن أمثلة ذلك قوله في باب الأوامر: "الأمر المطلق لا يقتضي التكرار في قول أكثر الفقهاء والمتكلمين". فقوله: "الأمر المطلق" فيه إشارة إلى أن الأمر المقيد بمرة واحدة، أو مرات لا يدخل تحت موضوع المسألة، فهذا تحرير لمحل النزاع وإن لم يصرح به. ولما وجدتني أسجل في كل مسألة بعض الملاحظات، أو أضطر إلى توضيح عبارة الكتاب بأسلوب مبسط، استخرت الله -تعالى- في أن يتم ذلك على الكتاب كله -إن شاء الله تعالى- وتمثل ذلك في: 1- توضيح ما هو غامض من عبارات الكتاب، إما توضيح كلمة

بكلمة، إن كانت لا تحتاج إلى أكثر من ذلك، وإما تلخيص لمجمل كلام المصنف في فصل كامل، أو أدلة لمذهب، بحيث أشير إلى بدايات الأدلة للمذهب الفلاني، وإلى بداية الرد على المذهب المخالف وهكذا، بحيث إذا تعذر على الطالب فهم ما يريده المصنف، وجد في الهامش ما يبين له المراد بأسلوب مبسط. 2- إضافة الموضوعات التي يتركها المصنف، وهي من لب الموضوع المتحدث عنه، كتعريف الحكم وبيان أقسامه، والفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، وتقسيم الواجب إلى عيني وكفائي وما أشبه ذلك. 3- تصحيح النص -على قدر الإمكان- ومراجعته على "المستصفى" فإذا وجدت عبارة حذفها المصنف، والمقام يحتاج إليها أضفتها بين معقوفين وأشرت إلى ذلك في الهامش. وأحيانًا أصحح العبارة من كتب أخرى، كالعدة لأبي يعلى، والتمهيد لأبي الخطاب، وغيرهما، إلا أن ذلك يكون في الهامش. 5- خرجت شواهد الكتاب المختلفة، من عزو الآيات القرآنية إلى سورها، وتخريج الأحاديث النبوية والآثار المختلفة، مع الحكم عليها، والتعريف بالأعلام والفرق، ونسبة الأبيات الشعرية إلى قائليها، وإذا كانت هناك مسائل تحتاج إلى زيادة شرح وبسط، أحلت القارئ إلى المصادر التي يمكن الاستفادة منها. 5- ولما كان..... لا يضع عناوين لموضوعات الكتاب، فإني قد وضعت عناوين لجزئيات المسائل، وذلك لسائر الفصول، إعانة للطالب والباحث على استخراج ما يريده بأيسر الطرق.

وحتى يتضح أن هذه العناوين ليست من عمل المؤلف، وضعتها بين معقوفين، كما هو المتبع في قواعد التأليف والتحقيق. وقد اعتمدت في نسخ الكتاب على النسخة التي عليها تعليقات الشيخ عبد القادر بن مصطفى بدران، وإذا كان هناك خطأ صححته من نسختي: الدكتور عبد العزيز بن عثمان السعيد، والدكتور عبد الكريم النملة -يحفظهما الله-، أو من المستصفى، وأشرت إلى ذلك في الهامش. وأسأل الله -تعالى- أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به على قدر إخلاصي فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وآله وصحبه وسلم. شعبان بن محمد إسماعيل مكة المكرمة، المحرم 1416هـ.

مقدمة المجلد الأول

مقدمة المجلد الأول مدخل ... روضة الناظر وجنة المناظر بسم الله الرحمن الرحيم رب زدني علمًا وفهمًا الحمد لله العلي الكبير، العليم القدير، الحكيم الخبير، الذي جلّ عن الشبيه والنظير، وتعالى عن الشريك والوزير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. وصلى الله على رسوله محمد البشير النذير، السراج المنير، المخصوص بالمقام المحمود2، والحوض المورود3، في اليوم العبوس القمطرير4، وعلى آله وأصحابه الأطهار النجباء الأخيار، وأهل

_ 1 سورة الشورى من الآية: 11. 2 المقام المحمود: هو الذي يحمده فيه الخلائق لتعجيل الحساب من هول الموقف يوم المحشر العظيم، حيث يشفع -صلى الله عليه وسلم- للخلق بعد أن يتأخر عنها أولو العزم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- حتى تنتهي إليه -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "أنا لها". انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص200 وما بعدها، النسخة التي صححها وعلق عليها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله. 3 الحوض المورود: هو الحوض الذي أكرم الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من ريح المسك، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، ترد عليه الخلائق بعد الحساب، وهو المراد بالكوثر في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} على رأي بعض المفسرين، فضلًا عن ثبوته بالأحاديث الصحيحة. 4 اليوم العبوس: أي الشديد، والقمطرير: أي الشديد العبوس، أو الشديد العسر، =

بيته الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس، وخصهم بالتطهير، وعلى التابعين لهم بإحسان، والمقتدين بهم في كل زمان. أما بعد1. فهذا الكتاب نذكر فيه "أصول الفقه" والاختلاف فيه، ودليل كل قول على المختار، ونبيّن من ذلك ما نرتضيه، ونجيب [على] من خالفنا فيه. بدأنا بمقدمة لطيفة في أوله، ثم أتبعناها ثمانية أبواب: الأول: في حقيقة الحكم وأقسامه. الثاني: في تفصيل الأصول، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاستصحاب. الثالث: في بيان الأصول المختلف فيها. الرابع: في تقاسيم الكلام والأسماء. الخامس: في الأمر والنهي، والعموم، والاستثناء، والشرط، وما يقتبس من الألفاظ، من إشارتها وإيمائها. السادس: في "القياس" الذي هو فرع للأصول.

_ = نسأل الله -تعالى- اللطف في هذا الموقف وما بعده. 1 عبارة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، خاصة بعد حمد الله تعالى وغيره مما يبتدأ به كالبسملة، ولا تقع مبتدأة، ولا بد من مجيء الفاء بعدها؛ لأن "أما" لا عمل لها، فتفصل الكلام بعضه عن بعض، فتأتي الفاء لتصله. ومعنى العبارة: مهما يكن من شيء. وأول من قالها: "قس بن ساعدة" وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي بها في خطبه. انظر: "الأوائل لأبي هلال العسكري ص53، فتح الرحمن للشيخ زكريا الأنصاري ص8".

السابع: في حكم "المجتهد" الذي يستثمر الحكم من هذه الأدلة، و"المقلد". الثامن: في ترجيحات الأدلة المتعارضة. ونسأل الله -تعالى- أن يعيننا فيما نبتغيه، ويوفقنا في جميع الأحوال لما يرضيه، ويجعل عملنا صالحًا، ويجعله لوجهه خالصًا، بمنّه ورحمته. [معنى الفقه والأصول] واعلم أنك لا تعلم معنى "أصول الفقه" قبل معرفة معنى "الفقه". والفقه في أصل الوضع1: الفهم. قال الله تعالى: -إخبارًا عن موسى عليه السلام-: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} 2.

_ 1 المراد بالوضع: ما وضعه أهل اللغة، إذ عادة الأصوليين والفقهاء أنهم إذا أرادوا بيان لفظ بينوه من جهة اللغة والشرع، فيذكرون المعنى اللغوي أولًا، ثم يذكرون المعنى الشرعي، ويوضحون هل الشرع وضع لحقائقه الشرعية أسماء بإزائها وضعًا استقلاليًّا جديدًا خارجًا عن وضع أهل اللغة، أو أنه أبقى الموضوعات اللغوية على حالها، وزاد فيها شرعًا شروطًا وأفعالًا أخر؟ مثاله: أنه سمى الصلاة الشرعية صلاة، لاشتمالها على الصلاة اللغوية وهي الدعاء، لكن اشترط لها في الشرع شروطها الستة، وأركانها الثلاثة عشر، وكذلك سمي الصوم الشرعي صومًا لاشتماله على الصوم اللغوي، وهو الإمساك وزاد النية، وقدّر وقته "انظر: شرح مختصر الروضة 1/ 129". 2 سورة طه الآيتان: 27، 28. والذي قاله المصنف في معنى "الفقه" لغة هو الراجح، وهناك من قال: هو فهم غرض المتكلم من كلامه، أو هو: فهم الأشياء الدقيقة، لكن الذي تؤيده الآيات القرآنية المتعددة ونصوص علماء اللغة هو الرأي الأول. انظر: "لسان العرب 13/ 522، الحدود للباجي ص36".

وفي عرف الفقهاء: العلم بأحكام الأفعال الشرعية، كالحل والحرمة، والصحة والفساد ونحوها1. فلا يطلق اسم "الفقيه" على متكلم، ولا محدّث، ولا مفسر، ولا نحوي2. وأصول الفقه: أدلته الدالة عليه من حيث الجملة لا من حيث التفصيل3 فإن الخلاف يشتمل على أدلة الفقه، لكن من حيث التفصيل،

_ 1 كان الفقه في الصدر الأول يطلق على كل ما يفهم من الكتاب والسنة وما يلحق بهما، ولذلك كانوا يعرفونه بأنه "معرفة النفس ما لها وما عليها" وهو ما يفهم من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". وبعد تمايز العلوم أصبح الفقه يطلق على الأحكام الشرعية العملية. والتعريف الذي ذكره المصنف للفقه هو تعريف ابن الحاجب في مختصره، إلا أن المصنف كعادته -غالبًا- لم يكمل التعريف الذي نقله عن ابن الحاجب، ولذلك استدرك عليه الطوفي فعرفه بقوله: ".... العلم بالأحكام الشرعية، الفرعية، عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال" انظر: "بيان المختصر 1/ 18، شرح مختصر الطوفي 1/ 333". 2 هذا ما يسميه العلماء: إخراج المحترزات. 3 ما ذكره المصنف من تعريف "أصول الفقه" من أنه: أدلته الدالة عليه من حيث الجملة. هو أحد التعريفات الاصطلاحية، وهناك تعريفات أخرى نذكرها بعد ذكر المعنى اللغوي لكلمة "أصول". فالأصول: جمع أصل. والأصل في اللغة: ما يبنى عليه غيره، أو هو: ما يستند إليه الشيء، أو هو المحتاج إليه، أو هو: ما يتفرع عليه غيره. وفي اصطلاح الأصوليين: يطلق على الدليل، وعلى الراجح، وعلى القاعدة، المستمرة كما يطلق على المقيس عليه. أما معناه الاصطلاحي بعد أن صار علَمًا على هذا الفن، فإن العلماء مختلفون في تعريفه بناء على اختلافهم في موضوع "أصول الفقه" هل هو الأدلة -كما قال ابن قدامة-، أو هو الأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة، أو =

كدلالة حديث خاص على مسألة "النكاح بلا ولي"1. والأصول لا يتعرض فيها لآحاد المسائل، إلا على طريق ضرب المثال، كقولنا: الأمر يقتضي الوجوب ونحوه. فبهذا يخالف أصول الفقه فروعه2. ونظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية، والمقصود: اقتباس الأحكام من الأدلة.

_ = هو الأدلة والأحكام، أو هو الأدلة والترجيح والاجتهاد. فمن قال برأي من هذه الآراء عرّف الأصول بتعريف يشتمل على ما يرى، والذي نراه راجحًا من هذه الآراء هو ما ذهب إليه الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه من أن أصول الفقه عبارة عن الأدلة، والكيفية التي تستخرج بها الأحكام من الأدلة، والمجتهد الذي يستطيع إخراج الأحكام، من الأدلة وهو ما عبر عنه البيضاوي بقوله: "أصول الفقه: معرفة دلائل الفقه إجمالًا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد". وعلى ذلك تكون الأحكام الشرعية هي الثمرة والنتيجة لعلم الأصول، ولذلك جعلها البيضاوي من المقدمات. 1 حديث "لا نكاح إلا بولي" أخرجه أبو داود: كتاب النكاح، باب في الولي حديث "2085"، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء: لا نكاح إلا بولي، حديث "1101"، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي حديث "1881"، والإمام أحمد في المسند "4/ 394، 411، 418" كما رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري. قال الحاكم: "فقد استدللنا بالروايات الصحيحة وبأقاويل أئمة هذا العلم على صحة حديث أبي موسى بما فيه غنية لمن تأمله" انظر: تلخيص الحبير "3/ 162"، نصب الراية "3/ 183، 190". 2 مراده بذلك: أن الأصولي يبحث في الأدلة بطريق الإجمال، كما في: الأمر المطلق يقتضي الوجوب، والفقيه يبحث في الأدلة الشرعية من حيث التفصيل، وهو ما يسمى بالدليل التفصيلي، فيقول -مثلا-: الله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا =

مقدمة

المقدمة1: اعلم أن مدارك العقول تنحصر في الحد والبرهان؛ وذلك لأن إدراك العلوم على ضربين: إدراك الذوات المفردة، كعلمك بمعنى العالَم، والحادث، والقديم. والثاني: إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض، نفيًا وإثباتًا. فإنك تعلم أولًا معنى: العالَم، والحادث، والقديم، مفردة، ثم تنسب مفردًا إلى مفرد، فتنسب الحادث إلى العالم بالإثبات، فتقول: العالم حادث، وتنسب القديم إليه بالنفي، فتقول: العالم ليس بقديم. والضرب الأول: يستحيل التصديق والتكذيب فيه، إذ لا يتطرق إلا

_ الصَّلاةَ} فهذا أمر، والأمر المطلق يدل على الوجوب، ما لم يصرفه عن ذلك قرينة من القرائن، فتكون الصلاة واجبة، فالفقيه يرجع إلى نصوص القرآن والسنة في ضوء القواعد والأسس التي يضعها الأصوليون. 1 هذه هي المقدمة المنطقية التي وعد بها المصنف في بداية الكتاب، وعلم المنطق يسميه بعض العلماء: فن الميزان، وتارة بفن النظر، وبكتاب الجدل. ومعنى الإدراك: الإحاطة بماهية الشيء، بلا حكم عليها بنفي أو إثبات، بمعنى إدراك حقائق الأشياء مجردة عن الأحكام، وهو ما يسمى بالتصور، لأخذه من الصورة، لحصول صورة الشيء في الذهن. أما الضرب الثاني: وهو النسبة بين المفردات، فيسمى تصديقًا؛ لأن فيه حكمًا يصدق فيه أو يكذب. فالتصديق يتضمن ثلاثة تصورات: تصور المحكوم عليه، والمحكوم به، ثم تصور نسبة أحدهما للآخر. والحكم يعتبر تصورًا رابعًا، انظر "إيضاح المبهم للدمنهوري ص6، شرح الكوكب المنير جـ1 ص58، 59".

إلى خبر وأقل ما يتركب منه الخبر مفردان. والضرب الثاني: يتطرق إليه التصديق والتكذيب. وقد سمى قوم الضرب الأول تصوّرًا، والثاني تصديقًا وسمى آخرون الأول. معرفة، والثاني علمًا. وسمى النحويون الأول: مفردًا والثاني جملة. وينبغي أن يعرف البسيط قبل مركبه1، فإن من لا يعرف المفرد كيف يعرف المركب، ومن لا يعرف معنى "العالَم" و"الحادث" كيف يعرف أن "العالم حادث"؟ ومعرفة المفردات قسمان: أوّلي: وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب، كالموجود، والشيء. ومطلوب: وهو الذي يدل اسمه على أمر جُملي غير مفصّل. والثاني: قسمان أيضًا: أولي: كالضروريات. ومطلوب: كالنظريات2.

_ 1 يقصد بالبسيط: المفرد، وهو التصور، وبالمركب: التصديق. 2 خلاصة هذه التقسيمات: أن كلًّا من التصور والتصديق ضروري ونظري: فالنظري: ما احتاج للتأمل والنظر، والضروري: ما لا يحتاج إلى ذلك. فمثال التصور الضروري: إدراك معنى: البياض، والحرارة، والصوت. ومثال التصور النظري: إدراك معنى: العقل، والجوهر الفرد، والجاذبية. ومثال التصديق الضروري: إدراك وقوع النسبة في قولنا: "الواحد نصف الاثنين" =

فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص1 إلا بالحد. والمطلوب من العلم لا يقتنص إلا بالبرهان. فلذلك قلنا: مدارك العقول تنحصر فيهما.

_ = و"النار محرقة" ومثال التصديق النظري: إدراك وقوع النسبة في قولنا: "الواحد نصف سدس الإثني عشر". انظر "إيضاح المبهم ص6". 1 القنص: الصيد جاء في القاموس المحيط فصل القاف، باب الصاد: "..... وقنصه يقنصه صاده" فهو هنا مجاز عما يصاد من المعاني، لأنه يحتاج إلى بحث ونظر، سواء أكان من التصورات أم من التصديقات. 2 المصنف -كعادته غالبًا- يبدأ بالتقسيم، ثم يذكر التعريف آخر الفصل، كما فعل هنا، فقد ذكر تعريف الحد بعد هذه التقسيمات وهو مسلك فيه نظر. =

فصل: في أقسام الحد

فصل: "في أقسام الحد" والحد ينقسم ثلاثة أقسام: حقيقي، ورسمي، ولفظي2. [الحد الحقيقي، وشروطه] فالحقيقي: هو القول الدال على ماهية الشيء. والماهية: ما يصلح جوابًا للسؤال بصيغة "ما هو". فإنّ صيغ السؤال التي تتعلق بأمهات المطالب أربعة: أحدها: "هل" يطلب بها إما أصل الوجود، وإما صفته. والثاني: "لِمَ" سؤال عن العلة، جوابه بالبرهان. والثالث: "أيّ" يطلب بها تمييز ما عرف جملته.

والرابع: "ما" وجوابه بالحد. وسائر صيغ السؤال كمتى، وأيان، وأين، يدخل في مطلب "هل"؛

_ = والحد في اللغة: المنع، ومنه سمي البواب حدادًا، لأنه يمنع من دخول الدار، ومنه الحدود الشرعية، لأنها تمنع من العود إلى المعصية، وسمي التعريف حدًّا؛ لأنه يمنع غير أفراد المعرف من الدخول، كما يمنع أفراد المعرف من الخروج. "القاموس المحيط 1/ 296، مفرادات الراغب الأصفهاني ص108". وفي الاصطلاح: هو الوصف المحيط بمعنى الموصوف المميز له عن غيره وله تعريفات أخرى كثيرة انظر: المستصفي 1/ 12، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب1/ 68، شرح الكوكب المنير 1/ 89 وما بعدها. ووجه انحصار الحد في هذه الثلاثة: أن الحد إما أن يكون بحسب المعنى أو بحسب اللفظ، فإن كان بحسب اللفظ فهو الحد اللفظي. وإن كان بحسب المعنى، فإن اشتمل على جميع الذاتيات فهو الحقيقي، وإن لم يشتمل على ذلك فهو الرسمي. ومن العلماء من جعلها خمسة: 1- حقيقي تام، وهو: ما أنبأ عن ذاتيات المحدود الكلية المركبة، كقولك: ما الانسان؟ فيقال: حيوان ناطق. 2- حقيقي ناقص: وهو ما كان بالفصل القريب فقط، مثل: قولنا: ما الإنسان؟ فيقال: الناطق، أو بالفصل القريب والجنس البعيد، مثل: أن يقال: ما الإنسان؟ فيقال: جسم ناطق. 3- رسمي تام: وهو ما كان بالخاصة مع الجنس القريب، كأن يقال: ما الإنسان؟ فيقال: حيوان ضاحك. 4- رسمي ناقص: وهو ما كان بالخاصة فقط، أو مع الجنس البعيد. 5- الحد اللفظي: وهو شرح اللفظ بلفظ أشهر منه، كما سيأتي تمثيل المصنف له. انظر: "تحرير القواعد المنطقية ص79، شرح تنقيح الفصول ص13، شرح الكوكب المنير 1/ 92-95".

إذ المطلوب به صفة الوجود. والكيفية: ما يصلح جوابًا للسؤال بكيف؟ والماهية تتركب من الصفات الذاتية. والذاتي1: كل وصف يدخل في حقيقة الشيء دخولًا لا يتصور فهم معناه بدون فهمه، كالجسمية للفرس، واللونية للسواد، إذ من فهم "الفرس" فهم جسمًا مخصوصًا، فالجسمية داخلة في ذات الفرسية، دخولًا به قوامها في الوجود، والعقل لو قدَّر عدمها بطل وجود الفرس، ولو خرجت عن الذهن بطل فهم الفرس. والوصف اللازم: ما لا يفارق الذات، لكن فهم الحقيقة غير موقوف عليه، كالظل للفرس عند طلوع الشمس، فإنه لازم غير ذاتي؛ إذ فهم حقيقة الفرس غير موقوف على فهمه، وكون الفرس مخلوقة، أو موجودة، أو طويلة، أو قصيرة، كلها لازمة لها غير ذاتية، فإنك تفهم حقيقة الشيء وإن لم تعلم وجوده. وأما الوصف العارض: فيما ليس من ضرورته أن يلازم، بل تتصور مفارقته، إما سريعًا كحمرة الخجل، أو بطيئًا كصفرة الذهب. والصبا، والكهولة2 والشيخوخة، أوصاف عرضية؛ إذ لا يقف فهم الحقيقة على فهمها، وتتصور مفارقتها.

_ 1 صفات الأشياء: ثلاثة: صفات ذاتية، وهي التي تعتبر جزءًا من حقيقة الشيء، وصفات لازمة للموصوف لا تنفك عنه، وتسمى "تابعًا" وصفات عارضة، تلحق الموصوف في بعض الأحيان، وتفارقه في البعض الآخر، والمصنف -رحمه الله تعالى- بدأ يعرّف بهذه الصفات الثلاثة ويفرق بينها، ويذكر أمثلة لكل واحدة على حدة. 2 اختلف العلماء في تحديد سن الكهولة على أقوال كثيرة، أصحها -من وجهة =

[تقسيم الأوصاف الذاتية] ثم الأوصاف الذاتية تنقسم إلى جنس وفصل: فالجنس: هو الذاتي المشترك بين شيئين فصاعدًا مختلفين بالحقيقة. ثم هو منقسم إلى عام، لا أعم منه، كالجوهر1، ينقسم إلى جسم وغير جسم. والجسم ينقسم إلى نام وغيره. والنامي ينقسم إلى حيوان وغيره. والحيوان ينقسم إلى آدمي وغيره. وإلى خاص، لا أخص منه، كالإنسان. ولا عم من الجوهر إلا الموجود، وليس بذاتي2.

_ = نظري- أنه من جاوز الثلاثين، وحدده بعض العلماء بثلاثة وثلاثين سنة. وهو ما وصف الله به عيسى عليه السلام في قوله تعالىٍ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا......} [سورة آل عمران الآية: 46] وانظر تفسير القرطبي جـ2 ص90 وما ذكره المصنف من مراحل العمر المختلفة أمثلة على الأوصاف العرضية البطيئة الزوال. 1 جوهر الشيء: ما خلقت عليه جبلته، ومن الأحجار: كل شيء يستخرج منه شيء ينتفع به، والنفيس الذي تتخذ منه الفصوص ونحوها. وعند المناطقة: ما قام بنفسه، ويقابله العَرَض، وهو ما يقوم بغيره. انظر تفصيل ذلك في التعريفات للجرجاني ص79. 2 سبق أن قلنا: إن الجوهر ما قام بنفسه، ولما قال المصنف: بأن الجوهر عام، لا أعم منه، استشعر اعتراضًا عليه مضمونه: كيف يكون كذلك، وكونه موجودًا أعم منه؟ فأجاب بقوله: "ليس بذاتي" أي: أنه يعني الأعم الذي هو ذاتي =

ولا أخص من الإنسان إلا الأحوال العرضية، من الطول، والقصر، والشيخوخة ونحوها. والفصل: ما يفصله عن غيره، ويميزه به، كالإحساس في الحيوان، فإنه يشارك الأجسام في الجسمية، والإحساس يفصله عن غيره. [شروط الحد] فيشترط في الحد: أن يذكر الجنس والفصل معًا. وينبغي أن يذكر الجنس القريب، ليكون أدل على الماهية، فأنك إن اقتصرت على ذكر البعيد بعدت، وإن ذكرت القريب معه كررت، فلا تقل -في حد الآدمي-: "جسم ناطق" بل حيوان ناطق، وقل -في حد الخمر- "شراب مسكر" ولا تقل "جسم مسكر". ثم ينبغي أن يقدم ذكر الجنس على الفصل، فلا تقل -في حد الخمر-: "مسكر شراب"، بل العكس. وهذا لو ترك لشوّش النظم، ولم يخرج عن الحقيقة. وإذا كان للمحدود ذاتيات متعددة فلا بد من ذكر جميعها؛ ليحصل بيان الماهية. وينبغي أن يفصل بالذاتيات، ليكون الحد حقيقيًّا، فإن عسر ذلك عليك فاعدل إلى اللوازم، لكي يصير رسميًّا، وأكثر الحدود رسمية، لعسر درك الذاتيات1.

_ = وداخل في حقيقة المحدود وماهيته، بخلاف "الموجود" فإنه خارج عن الماهية، وبذلك ينتفي الاعتراض المتوهم. 1 يقصد من ذلك: أن أكثر التعريفات أو الحدود التي تذكر في الكتب من قبيل =

واحترزْ من إضافة الفصل إلى الجنس، فلا تقل في حد الخمر: "مسكر الشراب" فيصير الحد لفظيًّا غير حقيقي. وأبعد من هذا: أن تجعل مكان الجنس شيئًا كان وزال، فتقول في الرماد: "خشب محترق" فإن الرماد ليس بخشب1. [الحد الرسمي وشروطه] وأما الحد الرسمي: فهو اللفظ الشارح للشيء بتعديد أوصافه الذاتية واللازمة، بحيث يطرد وينعكس، كقوله، -في حد الخمر-: "مائع يقذف

_ = الحد بالرسم، وهو: كما سيأتي في صلب الكتاب: اللفظ الشارح للشيء بتعديد أوصافه الذاتية واللازمة. أما الحد الحقيقي -كما سبق تعريفه- فعسير جدًّا، فإن إدراك جميع الذاتيات ليس بالأمر الهين، ولذلك يلجأ كثير من العلماء إلى الحد بالرسم. 1 إلى هنا انتهى المصنف من ذكر شروط الحد الحقيقي، وهي سبعة: الأول: الجمع بين الجنس والفصل معًا. الثاني: أن يذكر في الحد الجنس القريب إن وجد. الثالث: أن تذكر جميع الذاتيات مرتبة، بحيث يبدأ بالجنس ثم بالفصل. الرابع: إذا كان للمحدود ذاتيات متعددة فلا بد من ذكرها جميعها. الخامس: أن تفصل بالذاتيات دون العرضيات، إلا إذا تعذر ذلك، فإنه يلجأ إلى اللوازم. السادس: عدم إضافة الفصل إلى الجنس. السابع: عدم استبدال الجنس بشيء مضى. وهناك شروط أخرى ذكرها بعض العلماء: كأن يكون مطردًا، وأن لا يكون مشتملًا على مجاز أو اشتراك الخ. انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 68، شرح تنقيح الفصول ص4، تحرير القواعد المنطقية ص78.

بالزبد، يستحيل إلى الحموضة، ويحفظ في الدَّن"1. تجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر، بحيث لا يخرج منه خمر، ولا يدخل فيه غير خمر. واجتهد أن يكون من اللوازم الظاهر المعروفة. ولا يحد الشيء بأخفى منه. ولا بمثله في الخفاء. ولا تحد شيئًا بنفي ضده، فتقول في الزوج: "ما ليس بفرد" وفي الفرد: "ما ليس بزوج" فيدور الأمر، ولا يحصل بيان. واجتهد في الإيجاز -ما استطعت- فإن احتجت فاطلب منها ما هو أشد مناسبة للغرض2.

_ 1 الدَّن: وعاء ضخم للخمر ونحوها. 2 إلى هنا انتهى المصنف من تعريف الحد الرسمي وذكر شروطه وهي ستة: الأول: أن يكون مطردًا منعكسًا: ومعنى الاطراد: أنه كلما وجد الحد وجد المحدود، والعكس معناه: كلما انتفى الحد انتفى المحدود. الثاني: أن يكون الحد من اللوازم الظاهرة المعروفة. الثالث: أن لا يكون بأخفى منه. الرابع: أن لا يكون بما هو مساو له. الخامس: أن لا يكون بنفي الضد. السادس: أن يكون بطريق الإيجاز. وهناك شروط أخرى ذكرها بعض العلماء، مثل: عدم اشتماله على ألفاظ غريبة، أو ألفاظ مجازية أو مشتركة، أو كنايات، لأنها لا تؤدي الغرض المقصود. انظر: تحرير القواعد المنطقية ص81.

[الحد اللفظي وشرطه] وأما الحد اللفظي: فهو شرح اللفظ بلفظ أشهر منه: كقولك: في العقار1: "الخمر"، وفي الليث: "الأسد". ويشترط: أن يكون الثاني أظهر من الأول. واسم الحد شامل لهذه الأقسام الثلاثة2، لكن الحقيقي هو الأول؛ فإن معنى "الحد" يقرب من معنى حد الدار، وللدار جهات متعددة إليها ينتهي الحد، فتحديدها بذكر جهاتها المختلفة المتعددة التي الدار محصورة بها مشهورة. وإذا سأل عن حد الشيء فكأنه يطلب المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة ذلك الشيء، وتتميز به عما سواه، فلذلك لم يسم "اللفظي" و"الرسمي" حقيقيًّا، وسمى الجميع باسم "الحد" لأنه جامع مانع؛ إذ هو مشتق من المنع، ولذلك سمى البواب حدّادًا؛ لمنعه من الدخول والخروج. فحدُّ الحدِّ إذا: الجامع المانع [تعريف الحد الحقيقي] واختلف في حد الحد الحقيقي:

_ 1 العقار -بضم العين- الخمر. وبفتح العين: كل ملك ثابت له أصل، كالأرض والدار، جمعه عقارات. والعقار الحر: ما كان خالص الملكية، يأتي بدخل سنوي يسمى ريعًا. والعقار من كل شيء خياره "المعجم الوسيط 2/ 621". 2 أي: الحد الحقيقي، والحد الرسمي، والحد اللفظي.

فقيل: هو اللفظ المفسر لمعنى المحدود على وجهٍ يجمع ويمنع. وقيل: القول الدال على ماهية الشيء1. وحدّه قوم: بأنه نفس الشيء وذاته2. وهذا لا معارضة بينه وبين ما ذكرناه؛ لكون المحدود ههنا غير المحدود ثَمَّ، وإنما يقع التعارض بعد التوارد على شيء واحد3. بيانه: أن الموجود له في الوجود أربع مراتب: الأولى: حقيقته في نفسه.

_ 1 وهذا ما ذكره المصنف قبل ذلك، وهذا يدل على أن المصنف لم يلتزم بالمنهج العلمي، فكان ينبغي عليه أن يذكر هذه الآراء هناك، أما أن يذكر رأيا في أول المسألة، ثم يعيده مع غيره في آخرها ففيه ما فيه. 2 اعترض على هذا التعريف بأن فيه تفسير للشيء بنفسه. وأجيب: بأن دلالة المحدود من حيث الإجمال، ودلالة الحد من حيث التفصيل، ولا محذور في ذلك. 3 علق "ابن بدران" على هذا الكلام بقوله: "معناه: أن هذه الأقوال الثلاثة المذكورة في حد الحد لا معارضة بينها وبين ما ذكره من أن حد الحد هو الجامع المانع، وذلك لأن كل واحد ذكر للحد حدًّا باعتبار غير ما اعتبره الثاني، والمعارضة لا تكون إلا حيث تواردت الحدود على محدود واحد باعتبار واحد". ثم قال: والحاصل: أن الحد لفظ مشترك بين أقسام الوجود، وباختلاف إطلاقه على أحد معانيه اختلف حده. ومثاله: أن حد "العين" بأنه العضو المدرك للألوان بالرؤية، لم يخالف من يحد "العين" بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود، بل حد هذا أمرًا مباينًا لحقيقة الأمر الآخر, وإنما اشتركا في اسم "العين". انظر: "نزهة الخاطر جـ1 ص41، 42".

الثانية: ثبوت مثال حقيقته في الذهن، وهو المعبر عنه بالعلم1. الثالثة: اللفظ المعبّر عما في النفس2. الرابعة: الكناية عن اللفظ. وهذه الأربعة متوازية متطابقة. فإذًا: المحدود في أحد الجانبين غير المحدود في الآخر، فلا معارضة بينهما والله أعلم.

_ 1 يقصد بالعلم هنا: التصور، لأنه عبارة عن إدراك حقائق الأشياء مجردة عن الحكم عليها بالإثبات أو النفي. 2 ومنه قول الشاعر: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلًا والقائل: هو الأخطل -على رأي بعض العلماء-، وقال البعض: إنه ليس من كلام الأخطل لعدم وجوده في ديوانه، وأضيف إليه -عند الطباعة- في قسم الزيادات. انظر "شرح المفصل للزمخشري 1/ 31، معجم شواهد العربية 1/ 271".

فصل: في أن تعذر البرهان على الحد لا يمنع صحته

فصل: [في أن تعذر البرهان على الحد لا يمنع صحته] وزعم أهل هذا العلم1 أن الحد لا يمنع لتعذر البرهان على

_ 1 يقصد بأهل العلم: المناطقة، قال ابن بدران: والزعم هنا بمعنى الرأي، كقولك: زعم أبو حنيفة كذا: أي ارتأى كذا. واعلم أن تفصيل القول في أن الحد لا يكتسب البرهان وتحقيق الحق فيه مما لا يليق بهذا الكتاب ولا بغيره من كتب الأصول، ومن أراده فعليه بكتاب "البرهان" من كتاب "الشفاء" لابن سينا، والمصنف اختطف خطفة من كلام الغزالي فأورثها كتابه هنا، ونحن نجاريه على كلامه قائلين: اعلم أن الحد لا =

صحته، فإن الحد أقل ما يتركب من مفردين، فيحتاج في البرهان عن كل مفرد إلى حد يشتمل على مفردين، ثم يتسلسل ذلك إلى أن يصير إلى الأوليات المعلومة ضرورة، لكن قل ما يمكن إنهاؤه إليها، والنظر وضع للتعاون على إظهار الحق، فلا يوضع على وجه لا يمكن إثباته أو يعسر، بل طريق الاعتراض عليه بالنقض أو المعارضة1، بحد آخر. فإن عجز المستدل عن نقض حد المعترض كان منقطعًا، وإن أبطله صح حده. مثاله: قولنا -في حد الغصب-: "إثبات اليد العادية على مال الغير". فربما قال الحنفي: لا نسلم أن هذا هو الحد الغصب. قلنا: هو مطرد منعكس، فما الحد عندك؟ فيقول: "إثبات اليد العادية المزيلة لليد المحقّة". قلنا: يبطل بالغاصب من الغاصب، فإنه غاصب يضمن للمالك، ولم يُزل اليد المحقة، فإنها كانت زائلة.

_ = يحصل بالبرهان بمعنى: أن الحد لا يدخله المنع، وإنما يدخله من أقسام المعارضة الآتية في أواخر باب القياس: النقض، والمعارضة، وإنما لم يدخله المنع لتعذر البرهان على صحته...." انظر: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص44". 1 النقض عبارة عن: بيان تخلف الحكم المدعى ثبوته أو نفيه على الدليل في بعض الصور. والمعارضة عبارة عن: إقامة دليل يدل على خلاف ما قال به الخصم. وسوف يأتي ذلك موضحًا في باب القياس، إن شاء الله تعالى.

فصل: في البرهان

فصل: في البرهان1 وهو الذي يتوصل به إلى العلوم التصديقية المطلوبة بالنظر. وهو عبارة عن أقاويل مخصوصة، ألفت تأليفًا مخصوصًا بشرط يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر، وتسمى هذه الأقاويل مقدمات2. ويتطرق الخلل إلى البرهان من جهة المقدمات تارة، ومن جهة التركيب تارة، ومنهما تارة، على مثال البيت المبني: تارة يختل لعوج

_ 1 قال الشيخ ابن بدران: "ذكر في أول المقدمة أن مدارك العقول تنحصر في الحد والبرهان، وأهل هذا الفن يعبرون عن الأول بالتصور، ويجعلون مبادئه الكليات الخمس التي هي الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعَرض العام، ومقاصده: القول الشارح الذي يعنونونه بالحد. وعن الثاني: بالتصديقات، ويجعلون مبادئه القضايا وأحكامها: من التناقص والعكس وغيرهما، ومقاصده: البرهان. ولما أتم الكلام على التصورات، أراد هنا أن يتكلم على التصديقات كلامًا على نمط الأول فقال: فصل في البرهان". "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص48". 2 هذا هو تعريف البرهان، كما نقله عن المستصفى "1/ 29" لكن ببعض تصرف، وأوضح وأخصر منه ما قاله بعض العلماء من أنه: "قول مؤلف من قضايا يلزم عنها لذاتها قول آخر". وقولهم في التعريف "قول مؤلف من قضايا" يشمل ما كان من قضيتين، مثل قولنا: العالم متغير، وكل متغير حادث، وهو حجة بلا خلاف، فالمراد بالقضايا عند المناطقة: ما زاد على قضية واحدة. انظر في هذه المسألة: "شرح العضد على المختصر 1/ 76، إيضاح المبهم ص7".

الحيطان، وانخفاض السقف إلى قرب من الأرض، وتارة لشعث1 اللبنات، أو رخاوة الجذوع، وتارة لهما جميعًا. فمن يريد نظم البرهان يبتدئ أولًا بالنظر في الأجزاء المفردة، ثم في المقدمات التي فيها النظم والترتيب. وأقل ما يحصّل منه المقدمة: مفردان. وأقل ما يحصّل منه البرهان: مقدمتان، ثم يجمع المقدمتين فيصوغ منهما برهانًا، وينظر كيفية الصياغة2.

_ 1 المراد بالشعث هنا: تفرق اللبنات وعدم تماسكها. انظر: القاموس المحيط فصل الشين، باب: الثاء. 2 خلاصة ما يريده المصنف من إيراد المثال المحسوس الذي أورده في صورة بيت: أن ينظر الإنسان في المعاني المفردة وأقسامها، وفي الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها، ثم إذا فهمنا اللفظ مفردًا، والمعنى مفردًا، استطعنا أن نؤلف معنيين ونجعلهما مقدمة، وننظر في حكم المقدمة وشرطها، ثم نجمع مقدمتين فنصوغ منهما قياسًا، وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة. فإذا أردنا أن نبرهن على أن العالم حادث، ونرد على القائلين بقدمه، قلنا: العالم متغير، وهذه هي المقدمة الأولى، وتسمى "الصغرى" ثم نقول: وكل متغير حادث، وهذه هي المقدمة الثانية، وتسمى "الكبرى". ولهاتين المقدمتين نتيجة هي المقصودة للمستدل، وهي: "العالم حادث".

فصل: في كيفية دلالة الألفاظ على المعنى

فصل: في كيفية دلالة الألفاظ على المعنى ... فصل: [في كيفية دلالة الألفاظ على المعاني] واعلم أن دلالة الألفاظ على المعنى تنحصر في: المطابقة، والتضمن، واللزوم.

فالمطابقة: كدلالة لفظ "البيت" على معنى البيت. والتضمن: كدلالته على السقف، ودلالة لفظ "الإنسان" على الجسم. واللزوم: كدلالة لفظ "السقف" على الحائط؛ إذ ليس جزءًا من السقف، لكنه لا ينفك عنه، فهو كالرفيق الملازم، ولا يستعمل في نظر العقل ما يدل بطريق اللزوم؛ لأن ذلك لا ينحصر في حد؛ إذ السقف يلزم الحائط، والحائط: الأس1، والأس الأرض، فلا ينحصر، بل اقتصرْ على الأولين: المطابقة والتضمن2. [تقسيم اللفظ، من حيث التعيين وعدمه] 3 ثم اللفظ ينقسم إلى ما يدل على معين كزيد وهذا الرجل.

_ 1 الأس في اللغة: الأصل، فالأس والأساس: أصل البناء. انظر: القاموس المحيط فصل الهمزة، باب السين. 2 خلاصة ما يريده المصنف في هذه الجزئية: أن دلالة الألفاظ على المعاني ثلاثة أنواع، دلالة مطابقة، وهي دلالة اللفظ على كامل معناه، كدلالة "البيت" على البيت كاملًا بجميع مشتملاته. ودلالة تضمن، وهي: دلالة اللفظ على جزء المعنى، كدلالة "السقف" لأنه جزء من البيت. ودلالة التزام: وهي دلالة اللفظ على أمر خارج عن معناه، لكنه لازم له لا يفارقه، كدلالة السقف على الحائط، فالسقف ليس جزءًا من الحائط، لكنه لا يعقل أن يوجد سقف بدون حائط تحته، ومن هنا سميت دلالة التزامية. ولما كانت الدلالات الالتزامية كثيرة لا حصر لها، حيث المصنف على الإقلال منها، والاقتصار على المطابقة والتضمن. 3 هذا التقسيم للألفاظ من حيث العموم والخصوص. =

وحدّه: اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد. وإلى ما يدل على واحد من أشياء كثيرة، تتفق في معنى واحد، يسمى "مطلقًا" كقولنا: فرس، ورجل. فإن دخلت عليه الألف واللام صار عامًا1 يتناول جميع ما يقع عليه ذلك. فإن قيل: فالسماء، والأرض، والإله، والشمس، والقمر، مدلولها مفرد مع الألف واللام؟ قلنا: امتناع الشركة لم يكن لوضع اللفظ، بل لاستحالة وجود المشارك؛ إذ الشمس في الوجود واحدة، ولو فرضنا عوالم في كل واحد شمس، كان قولنا: الشمس شاملًا للكل. [تقسيم الألفاظ المتعددة المعاني باعتبار مسمياتها] ثم تنقسم الألفاظ إلى: مترادفة، ومتباينة، ومتواطئة، ومشتركة. فالمترادفة: أسماء مختلفة لمسمّى واحد، كالليث والأسد، والعقار والخمر.

_ = فالأول: يسمى معينًا كما عرفه المصنف. والثاني: يسمى مطلقًا، وهو الذي لا يمنع مفهومه من وقوع الشركة فيه. 1 قوله: "فإن دخلت عليه الألف واللام صار عامًّا" أي: أن الاسم المفرد إذا دخلت عليه الألف واللام، سمي عامًّا، يستغرق جميع أفراد الجنس، مثل: الكتاب، والميزان. بشرط أن يكون له في الخارج أفراد كثيرون، ولهذا أورد الاعتراض بالشمس والقمر وغيرهما، ورد على هذا الاعتراض بأنه لا وجود إلا لفرد واحد، ولو فرض وجود أكثر من شمس لصدق عليه أنه عام.

فإن كان أحدهما يدل على المسمى مع زيادة لم يكن من المترادفة، كالسيف، والمهنّد، والصارم؛ فإن المهنّد يدل على السيف مع زيادة نسبته إلى الهند، والصارم يدل عليه مع صفة الحدَّة، فخالف إذا مفهومه مفهوم السيف1. والمتباينة: الأسماء المختلفة للمعاني المختلفة، كالسماء والأرض، وهي الأكثر. وأما المتواطئة: فهي الأسماء المنطلقة على أشياء متغايرة بالعدد، متفقة في المعنى الذي وضع الاسم عليها، كالرجل: ينطلق على زيد، وعمرو، والجسم: ينطلق عليهما وعلى السماء والأرض، لاتفاقهما في معنى الجسمية. وأما المشتركة: فهي الأسماء المنطلقة على مسميات مختلفة بالحقيقة، كالعين للعضو الناظر، والذهب2. وقد يقع على المتضادين: كالجليل، للكبير والصغير، والجون: للأسود والأبيض، والقرء: للحيض والطهر، والشفق: للبياض والحمرة. وقد يقرب المشترك من المتواطئ، كالحي، يقع على الحيوان والنبات، فيظن أنه من المتواطئ، وهو من المتشرك؛ إذ المراد من حياة

_ يستفاد من ذلك: أن شرط الترادف: أن يكون في أحد اللفظين زيادة معنى لم يدل على اللفظ الآخر، وإلا خرج من باب الترادف. 2 لفظ "العين" يطلق على معان كثيرة منها: العين المبصرة، والذهب، وعين الشمس، وما ينبع من الماء، والجاسوس، ورئيس الجيش، وكبير القوم وشريفهم، وذات الشيء ونفسه، وعلى الحاضر من كل شيء، وعلى النفس من كل شيء.... انظر "الصاحبي لابن فارس ص171، المزهر للسيوطي 1/ 369".

النبات: الذي يحصل به نماؤه، ومن الحيوان: الذي يحس به ويتحرك بالإرادة، فيسمى هذا مشتبهًا. والمختار: يطلق على القادر على الفعل وتركه، فلذلك يصح تسمية المكره مختارًا، ويطلق على من تخلَّى في استعمال قدرته ودواعي ذاته1. فلا تحرك دواعيه من خارج، وهذا غير موجود في المكره، فليفهم هذا. وله نظائر في النظريات تاهت فيها عقول كثير من الضعفاء، فليستدل بالقليل على الكثير.

_ 1 هذه الجملة منقولة من المستصفى "1/ 32" وقد شرحها الشيخ ابن بدران فقال: "معناه: أن استعمال قدرته والداوعي التي تستدعيها ذاته لا يكون أمر خارج مؤثرًا عليها، وإنما تكون باختياره، "مخلَّى" أي خاليًا عن جميع المؤثرات الخارجية ... ثم قال: و"مَنْ" اسم موصول، مجرور بعلى, متعلق بيطلق، وجملة "تخلى" صلة الموصول، والظرف بعده متعلق به. وقوله "فلا تحرك ... " الفاء تفريعية، وتحرك بالبناء للمجهول والمعنى: أن المختار يطلق على من كانت دواعي ذاته واستعمال قدرته مخلَّاة، أي متروكة له، فلا تكون لأجل أمر خارج دعاه إليها فتأمل" "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص56".

فصل: في النظر في المعاني

فصل: في النظر في المعاني سبب الإدراك يسمى قوة1. المعاني المدركة ثلاثة: محسوسة، ومتخيلة، ومعقولة.

_ 1 الإدراك: الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه، والطريق الذي يوصل إلى تلك =

ففي حدقتك1 معنى تميزت به عن الجبهة حتى صرت تبصر بها، تسمى قوة باصرة. وشرط البصر: وجود المبصَر، فإذا أبصرت شيئًا فهو محسوس بحاسة البصر، فإذا انعدم المبصَر انعدم الإبصار، وبقيت صورته في دماغك كأنك تنظر إليها، فيسمى ذلك تخيّلًا، فغيبة الشيء تنفي الإبصار، ولا تنفي التخيل. ولما كنت تحس التخيل في دماغك، فاعلم أن في الدماغ غريزة وصفة تهيؤ للتخيل، تباين بها بقية الأعضاء، كمباينة العين لها. وهذه القوة2 يشارك فيها الإنسان البهيمة، فمهما رأى الفرسُ الشعير تذكر صورته، فيعرف أنه موافق له مستلذ لديه، ولو لم تثبت الصورة في خياله لم يبادر إليه، ما لم يجرّبه بالذوق مرة أخرى. ثم فيك قوة ثالثة تباين البهيمة بها، تسمى "عقلًا" محلها القلب3، تباين قوة التخيل، أشد من مباينة قوة التخيل قوة الإبصار.

_ = الإحاطة يسمى قوة مدركة، ولذلك نفى الله -تعالى- عن ذاته العلية، إدراك الأبصار لها، قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] ولا تعارض في ذلك مع إثبات الرؤية: قال الشوكاني: ".... الأبصار جمع بصر، وهو الحاسة، وإدراك الشيء عبارة عن الإحاطة به. قال الزجاج: أي لا تبلغ كنه حقيقته، فالمنفيّ هو هذا الإدراك لا مجرد الرؤية. فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواترًا لا شك فيه ولا شبهة، ولا يجهله إلا من يجهل السنة المطهرة جهلًا عظيمًا" انظر: فتح القدير جـ2 ص170 ط. دار الخير. 1 حدقة العين: سوادها. 2 أي: قوة التخيل. 3 ما قاله المصنف هو رأي جمهور العلماء والأطباء. وقيل: محله الدماغ، وقيل: =

ثم فيك قوة رابعة: تسمى "المفكّرة" شأنها أن تقدر على تفصيل الصورة التي في الخيال، وتقطيعها وتركيبها، وليس لها إدراك شيء آخر، بل إذا خطر في الخيال صورة إنسان قدر أن يجعلها نصفين: نصفٌ إنسان، ونصفٌ فرس، وربما صوّر إنسانًا يطير إذا ثبت في الخيال صورة الإنسان والطيران مفردين، والمفكرة تجمع بينهما، كما تفرق بين نصفي الإنسان، وليس لها أن تخترع صورة لا مثل لها.

_ = محله القلب وله اتصال بالدماغ. والذين يرون أن النفس جوهر قائم بذاته يقولون: إن محله النفس. وهذه الأقوال ناشئة عن تعريف العقل. وهل يحد أو لا، وهل هو جوهر أو عرض، أو ليس بجوهر ولا عرض، وبناء على ذلك اختلف في تعريفه على عدة آراء: قال الإمام الشافعي: هو آلة التمييز والإدراك. وقال الراغب الأصفهاني: هو القوة المتهيئة لقبول العلم. وفي شرح الكوكب المنير: العقل: ما يحصل به التمييز بين المعلومات. ثم قال: وهو غريزة نصًّا. قال في "شرح التحرير" قال الإمام أحمد رضي الله عنه: العقل غريزة، وقاله الحارث المحاسبي، فقال: العقل غريزة وليس مكتسبًا، بل خلقه الله تعالى يفارق به الإنسان البهيمة، ويستعد به لقبول العلم وتدبير الصنائع الفكرية، فكأنه نور يقذف في القلب، كالعلم الضروري. وقال: وقال الحسن بن علي البربهاري: من أئمة أصحابنا: ليس بجوهر ولا عرض ولا اكتساب، وإنما هو فضل من الله تعالى. قال الشيخ تقي الدين: هذا يقتضي أنه القوة المدركة. كما دل عليه كلام أحمد، لا الإدراك. وقد ذهب الإمام الغزالي إلى عدم إمكان حدّه بحد يحيط به؛ لأنه يطلق على معان خمسة: أحدها: الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لإدراك العلوم النظرية وتدبير الأمور الخفية. ثانيها: إطلاقه على بعض الأمور الضرورية، وهي التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز، بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات. =

فصل: في تأليف مفردات المعاني

فصل: في تأليف مفردات المعاني 1 والتأليف بين مفردين لا يخلو: إما أن ينسب أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات، كقولنا: "العلم حادث" و"العالم ليس بقديم". يسمي النحويون الأول: مبتدأ، والثاني خبرًا2. ويسميه الفقهاء:

_ = ثالثها: إطلاقه على العلوم المستفادة من التجربة، فإن الذي لديه الخبرة والحنكة يقال له: عاقل، وغيره ليس بعاقل. رابعها: إطلاقه على ما يوصل إلى ثمرة معرفة عواقب الأمور، وذلك بقمع الشهوات الداعية إلى اللذات العاجلة التي تعقبها الندامة. خامسها: إطلاقه على الهدوء والوقار. وهي هيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه. فيقال: هذا عاقل: أي عنده هدوء ورزانة. وأيًّا كان الاختلاف في تعريف العقل، فإن الراجح أنه في القلب، كما قال بعض العلماء، وهو الذي تؤيده الآيات الكريمة: قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق الآية: 37] . عبر بالقلب عن العقل، لأنه محله، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ... } [سورة الحج الآية: 46] . وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [سورة الأعراف الآية: 179] ، فجعل العقل في القلب. فلولا أن العقل موجود في القلب لما وصف بذلك حقيقة في قوله تعالى: {.... فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} إذ لا يتصور أن توصف الأذن بأن يرى بها أو يشم بها، لأن الأصل إضافة منفعة كل عضو إليه. انظر في هذه المسألة: "الحدود للباجي ص35، المستصفى 1/ 23، المسوّدة ص558، شرح الكوكب المنير 1/ 79 وما بعدها". 1 لما فرغ من الحديث عن اللفظ مجردًا، وعن المعاني مجردة، بدأ يتحدث عن النسبة بينهما وهي المسماة بالتصديق. 2 ومثل المبتدأ والخبر: الفاعل ونائبه في المحكوم عليه، والفعل في المحكوم به. =

حكمًا ومحكومًا عليه. ويسمى الجميع قضية. والقضايا أربع: قضية في عين نحو: "زيد عالم". وقضية مطلقة نحو: "بعض الناس عالم". وقضية عامة كقولنا: "كل جسم متحيز". وقضية مهملة كقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}

_ = ويسميه البلاغيون: مسندًا ومسندًا إليه، والمتكلمون: موصوفًا، وصفة، والمناطقة: موضوعًا ومحمولًا، والكل يسمى قضية، كما يسمى مقدمات؛ لأن المقدمة قضية جعلت جزء قياس. والقضية نوعان: قضية شرطية وهي: التي حكم فيها بحكم على وجه التعليق لا على وجه الحمل، مثل: "إن جئتني الآن أكرمتك" وقد أهملها المصنف لعدم الحاجة إليها كثيرًا. والقضية الحملية: هي ما يحكم فيها بثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه. وهذه هي التي قسمها إلى أربعة أقسام. كما قال. ووجه هذا التقسيم: أن الجزء الأول من القضية وهو المحكوم عليه إما أن يكون معينًا أو غير معين. فإن كان معينًا سميت قضية معينة وشخصية، لأن موضوعها شخص معين. والثاني -وهو غير المعين-: إما أن يكون الحكم فيها على ما صدق عليه الكلي من الأفراد أو على نفس الكلي. والأول: إما أن يبين فيها أن الحكم على كل الأفراد أو بعضها، أو لم يبين. فإن بيّن تسمى: "جزئية محصورة" إن كان الحكم على البعض. والسور الذي يدل على ذلك: "بعض" و"واحد" إن كانت موجبة، و"ليس بعض" و"ليس كل" إن كانت سالبة. وإن كان الحكم على كل الأفراد تسمى "قضية كلية" أو عامة.

وربما وضع بعض المغالطين المهملة موضع العامة، كقول الشافعية: "المطعوم ربوي" دليله: البر والشعير. فيقال: إن أردت كل مطعوم فما دليله؟ والبر والشعير ليس كل المطعومات. وإن أردت البعض لم تلزم النتيجة؛ إذ يحتمل أن السفرجل من البعض ليس بربوي1.

_ = وسورها "كل" إن كانت موجبة. كما مثل المصنف، و: "لا شيء" و"لا واحد" و"ليس كل" إن كانت سالبة كقولنا: لا شيء من الوضوء بعبادة. وإن لم يبين فيها الحكم على ما صدق عليه الكلي من الأفراد أو على بعضه تسمى: "مهملة" لإهمال السور وعدم ذكره فيها، كالمثال الذي ذكره المصنف. والثاني: هو أن يكون الحكم على نفس مفهوم الكلي، لا على ما صدق عليها من الأفراد، وتسمى "طبيعية" مثل: الإنسان جوهر. ولم يتعرض لها المصنف لعدم الحاجة إليها. انظر: بيان المختصر 1/ 8 وما بعدها. 1 خلاصة ما يريده من ذلك: أن بعض الناس قد يستعملون القضايا المهملة بدلًا من القضايا العامة، ظنًّا منهم أن المهملات قد يراد بها الخصوص والعموم، فتحل محلها، وهذا لا ينبغي أن يوجد في القضايا النظرية، ثم ضرب لذلك مثالًا هو: قول الشافعية: المطعوم ربوي، لأن البر والشعير ربويان وهما مطعومان. فيقال لهم: إن أردتم بقولكم: "المطعوم ربوي" البعض، لم تلزم النتيجة، لأن السفرجل -وهو الفاكهة المعروفة- مطعوم وليس بربوي، وإن أردتم كل =

فصل: في مقدمتي البرهان وأضربه

فصل: [في مقدمتي البرهان وأضربه] وقد ذكرنا أن البرهان مقدمتان يتولد منهما نتيجة، ولا يسمى برهانًا إلا إذا كانت المقدمتان قطعية، فإن كانت مظنونة سميت قياسًا فقهيًا، وإن

كانت مسلمة سميت قياسًا جدليًّا، وتسميتها قياسًا مجاز؛ إذ حاصله: إدراج خصوص تحت عموم: والقياس تقدير شيء بشيء آخر1. والبرهان على خمسة أضرب: الأول2: قولنا: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فيلزم منه أن كل نبيذ حرام ضرورة، متى سلمت المقدمتان؛ إذ كل عقل صدّق بالمقدمتين صدّق بالنتيجة مهما أحضرهما في الذهن. ووجه دلالته: أنا جعلنا المسكر صفة للنبيذ، ثم حكمنا على الصفة بالتحريم، فبالضرورة يدخل الموصوف فيه. ولو بطل قولنا "النبيذ حرام" مع كونه مسكرًا، بطل قولنا: "كل مسكر حرام".

_ = المطعومات لزمكم الدليل، وما ذكرتموه من البر والشعير كل المطعومات. 1 قال الشيخ ابن بدران: "قوله: ولا يسمى برهانًا الخ: بيان للزوم النتيجة؛ لأن النتيجة لا تلزم من هذا القياس إلا إذا كانت المقدمتان مسلمتين يقينًا، إن كان المطلوب عقليًّا، أو ظنًّا إن كان المطلوب فقهيًا، لما ستعلمه من أن أدلة الفقه ظنية، وإن كانت المقدمتان مسلمتين سمي القياس جدليًّا، لكن تسمية ما ذكر قياسًا إنما هي تسمية مجازية؛ لأن القياس في أصل الوضع: تقدير شيء بشيء آخر، كتقدير الثوب بالذراع، وحاصل الأقيسة المصطلح عليها: إدراج خصوص تحت عموم، فالخصوص كقولنا: الخمر مسكر، واندراجه تحت العموم كقولنا: وكل مسكر حرام، إلا أن يقال: إن تسمية ذلك قياسًا حقيقة عرفية، وهذا هو الأولى: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص64-65". 2 لم يذكر المصنف اسم الضرب الأول، وإنما اكتفى بذكر المثال، وهو في عرف المناطقة يسمى: قياسًا اقترانيًّا وهو: الذي لا يذكر اللازم، أي النتيجة ولا نقيضه فيه بالفعل. والمثال الذي ذكره المصنف فيه تساهل في التعبير، حيث أدخل لفظ "كل" على النبيذ، وهو غير وارد في أسلوب المناطقة، ولذلك كان ابن الحاجب أدق منه حيث قال: "النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام". انظر: بيان المختصر "1/ 98".

ثم اعلم أن كل واحدة من المقدمتين تشتمل على جزئين: مبتدأ وخبر. فتصير أجزاء البرهان أربعة أمور، منها واحد مكرر في المقدمتين، فتعود إلى ثلاثة؛ إذ لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شيء واحد1. مثل قولنا: "النبيذ مسكر" و"المغصوب مضمون" لم ترتبط إحداهما بالأخرى. ويسمى المكرر علة، فإنه لو قيل لك: لم حرمت النبيذ؟ قلت: لأنه مسكر. ويسمى ما جرى مجرى النبيذ محكومًا عليه. وما جرى مجرى الحرام حكمًا. وما يشتمل على المحكوم عليه: المقدمة الأولى. وما يشتمل على الحكم: المقدمة الثانية. ولهذا الضرب شرطان2:

_ 1 قال الشيخ ابن بدران: "قوله: على جزئين: مبتدأ وخبر: أي وحكم ومحكوم به -كما عرفته في الاصطلاح السابق-، فهذه هي الأربعة التي هي مجموع الأجزاء، لكن لما كان واحد مكرر في المقدمتين من قولنا: "الخمر مسكر، وكل مسكر حرام" أخذنا واحدًا من المكررين، فرجعت الأجزاء إلى الثلاثة" "نزهة الخاطر جـ1 ص95". 2 الشرط الأول: راجع إلى المقدمة الأولى، وهو: أن تكون الصغرى مثبتة، أي: موجبة، فإن كانت نافية لم تحصل النتيجة. والشرط الثاني: أن تكون الثانية عامة، أي يكون موضوعها كليًّا، ليعلم اندراج الأصغر فيه، كما مثل له المصنف، فلو كانت الكبرى جزئية جاز كون =

أحدهما: أن تكون الأولى مثبتة، ولو كانت منفية لم تنتج. والثاني: أن تكون الثانية عامة، ليدخل فيها المحكوم عليه بسبب عمومها. فلو قلت: "النبيذ مسكر، وبعض المسكر حرام" لم يلزم تحريم النبيذ. الضرب الثاني: أن تكون العلة حكمًا في المقدمتين، كقولنا: "لا يقتل المسلم بالكافر"1؛ لأن الكافر غير مكافئ، وكل من يقتل به مكافء. فهذه ثلاثة معان: "مكافء" و"يقتل به" والثالث: "الكافر".

_ = الأوسط أعم من الأصغر، وكون المحكوم عليه في الكبرى بعضًا منه غير الأصغر، فلا يندرج، فلا ينتج. انظر: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص67". 1 يشير بذلك إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده" رواه علي، وابن عباس، وابن عمر، وعمران بن حصين، وعائشة، وعبد الله، ومعقل بن يسار، ومن مرسل عطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن. أما رواية علي فأخرجها النسائي: كتاب القسامة -باب سقوط القود من المسلم للكافر- "8/ 24" والدراقطني في سننه: كتاب الحدود والديات وغيره "3/ 98" وأحمد في مسنده "1/ 122" وأبو داود في السنن: كتاب الديات -باب: أيقاد المسلم بالكافر- حديث "53" "9/ 22". وحديث ابن عباس رواه ابن ماجه: كتاب الديات -باب لا يقتل مسلم بكافر-، وإسناده ضعيف. وحديث ابن عمر رواه ابن حبان في صحيحه. وحديث عمران بن حصين رواه البزار والبيهقي. وحديث عائشة رواه البيهقي، وحديث عبد الله بن عمرو رواه أحمد وأبو داود، وحديث معقل رواه البيهقي. وانظر بقية الروايات في كتب السنة.

والمكرر: "المكافئ" فهو العلة، وهو الحكم في المقدمة الأولى. وخاصية هذا النظم: أنه لا ينتج إلا قضية نافية1. ولهذا الضرب شرطان: أحدهما: أن تختلف المقدمتان في النفي والإثبات2. والثاني: أن تكون الثانية عامة. الضرب الثالث: أن تكون العلة مبتدأ بها في المقدمتين3. وتسميه الفقهاء نقضًا، وينتج نتيجة خاصة، كقولنا: كل سواد عرض، وكل سواد لون، فيلزم منه: أن بعض العرض لون. ومن الفقه4: كل بر مطعوم، وكل بر ربوي، فيلزم منه أن بعض المطعوم ربوي.

_ 1 مثال ذلك: كل ما يصح بيعه ليس بمجهول الصفة، وكل مجهول الصفة لا يصح بيعه، فينتج: كل غائب لا يصح بيعه. 2 بحيث تكون الأولى مثبتة والثانية منفية، أو الأولى منفية والثانية مثبتة. 3 أي: أن يكون الحد الأوسط الذي وصف بأنه العلة، مبتدأ به في المقدمتين: الصغرى والكبرى. مثل قولنا: كل سواد عرض "وهذه هي الصغرى" وكل سواد لون "وهذه هي الكبرى" فيلزم منه -كما قال المصنف-: أن بعض العرض لون. وهذا الضرب لا ينتج إلا نتيجة جزئية. وشرطه: أن تكون صغراه موجبة، وأن تكون إحدى مقدمتيه كلية. انظر: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص69". 4 قوله: ومن الفقه: أي مثال آخر من الفقه.

الضرب الرابع: التلازم1: ومثاله: إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر، ومعلوم أن الصلاة صحيحة، فيلزم أن المصلي متطهر. أو نقول: إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر، ومعلوم أن المصلي غير متطهر، فيلزم أن الصلاة غير صحيحة. ووجه دلالة هذه الجملة: أنه جعل الطهارة شرطًا لصحة الصلاة، فيلزم من وجود المشروط وجود الشرط، ومن انتفاء الشرط انتفاء المشروط، ولا يلزم العكس2. فلو قال: إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر، ومعلوم أن المصلي متطهر لم يصح؛ إذ قد تفسد الصلاة بأمر آخر. وكذلك لو قال: "ومعلوم أن الصلاة غير صحيحة" لا يلزم منه شيء؛ إذ لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط، ولا من انتفاء المشروط انتفاء الشرط. وتحقيقه: أنه متى جعل شيء لازمًا لشيء، فيجب أن يكون اللازم أعم من الملزوم، أو مساويًا له، إذ ثبوت الأخص يوجب ثبوت الأعم ضرورة، وانتفاء الأعم يوجب انتفاء الأخص، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص، ولا من انتفاء الأخص انتفاء الأعم. ومثاله: إذا قلنا: كل حيوان جسم، فيلزم من ثبوت الحيوان ثبوت الجسم، ومن انتفاء الحيوان، ولم يلزم العكس3.

_ 1 ومعناه: أنه يلزم من وجود المشروط وجود الشرط، ومن انتفاء الشرط انتفاء المشروط، ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط ولا عدمه. 2 أي: لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط، كما هو الشأن في تعريف الشرط، حيث قال الأصوليون في تعريفه: "هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته". 3 أي: لا يلزم من انتفاء الحيوان انتفاء الجسم، لأنه قد يكون شيئًا آخر غير الحيوان.

فذلك قلنا: إنه يلزم من صحة الصلاة التطهر، ومن انتفاء التطهر انتفاء الصلاة، ولم يلزم من نفي صحة الصلاة انتفاء التطهر؛ ولا من وجود التطهر وجود الصحة، لكون التطهر أعم من الصلاة. أما إذا كان أحدهما مساويًا للآخر، فيلزم الوجود بالوجود، والانتفاء بالانتفاء؛ لاستحالة تفارقهما، وهذا ظاهر. كقولنا: إن كان زنا المحصن موجودًا فالرجم واجب، ومعلوم أن الرجم واجب، فيكون الزنا موجودًا، ولكنه غير واجب، فلا يكون الزنا موجودًا، لكن الزنا غير موجود، فلا يكون الرجم واجبًا. وكذا كل معلول له علة واحدة1. الضرب الخامس: السبر والتقسيم2: كقولنا: العالم إما حادث وإما قديم، لكنه حادث، فليس بقديم، أو لكنه قديم فليس بحادث، أو لكنه ليس بحادث، فهو قديم.

_ 1 أي مساو لعلته، ويلزم من وجود أحدهما وجود الأخر. ومن أمثلة ذلك: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، لكنها طالعة فهو موجود، لكنها غير طالعة فهو غير موجود، ولكن النهار موجود فالشمس طالعة، ولكن النهار غير موجود فالشمس غير طالعة. 2 علق الشيخ ابن بدران على ذلك بقوله: "مشى المصنف في هذا على اصطلاح المتكلمين، فإنهم يسمون هذا النوع بهذا الاسم، ويسميه المنطقيون بالشرطي المنفصل، وانفرد الغزالي بتسميته بالتعاند. "نزهة الخاطر جـ1 ص73" وانظر: المستصفى "1/ 42". والسبر في اللغة: الاختبار، ومنه: سبر الجرح: اختبر غوره، كما يسمى "الميل" الذي يختبر به الجرح في الطب "المسبار" والتقسيم: التجزئة. أما عند المتكلمين: فهو حصر أقسام الحكم للشيء الذي يراد إثبات الحكم له، ثم يختار منها المناسب له في المقدمة الثانية. =

وفي الجملة: كل نقيضين ينتج إثبات أحدهما نفي الآخر، ونفيه إثبات الآخر. ولا يشترط انحصار القضية في قمسين، لكن من شرطه: استفياء أقسامه1. أما إذا لم يحصر: احتمل أن الحق في قسم آخر. فإن كانت ثلاثة، كقولنا: العدد مساو، أو أقل، أو أكثر، فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين، ونفي الآخرين ينتج إثبات الثالث، وإبطال واحد ينتج: انحصار الحق في الآخرين.

_ = أما الأصوليون فعرفوه: بأنه حصر أوصاف الأصل، وإبقاء ما يصلح للتعليل منها، وحذف ما لا يصلح للتعليل. انظر: "شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2/ 236، إرشاد الفحول ص213". 1 وسبب ذلك: أنه لم يستوف أقسامه لا يكمن منتجًا. قال الشيخ ابن بدران: "أتى المصنف بمثال حاصر وأشار بقوله: "إذا لم يحصر" إلى الذي لا ينتج، كقولك: زيد إما بالعراق وإما بالحجاز، فهذا ما يوجب إثبات واحد ونفي الآخر، فإنه إن ثبت أنه بالعراق انتفى عن الحجاز وغيره، وأما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر، إذ ربما يكون في صقع ثالث". "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص74-75".

فصل: في أسباب مخالفة البرهان أو القياس

فصل: [في أسباب مخالفة البرهان أو القياس] وجميع الأدلة في أقسام العلوم ترجع إلى ما ذكرناه. وحيث تذكر لا على هذا النظم فهو: إما لقصور، وإما لإهمال إحدى المقدمتين2.

_ 2 خلاصة ذلك: أن جميع الأدلة العقلية في جميع العلوم ترجع إلى ما تقدم ذكره، =

ثم إهمالهما إما لوضوحهما، وهو الغالب في الفقهيات. كقول القائل: هذا يجب رجمه؛ لأنه زنا وهو محصن، وترك المقدمة الأولى لاشتهارها، وهي: كل1 من زنا وهو محصن فعليه الرجم. وأكثر أدلة القرآن على هذا. قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 2. فترك: أنهما لم تفسدا للعلم به3. وكذلك قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} 4. ثم قد يكون الإهمال للمقدمة الأولى، وقد يكون للثانية. وقد تترك إحدى المقدمتين للتلبيس على الخصم، وذلك بترك المقدمة التي يعسر إثباتها، أو ينازعه الخصم فيها، استغفالًا للخصم واستجالًا له، خشية أن يصرح بها فيتنبه ذهن خصمه لمنازعته فيها. وعادة الفقهاء إهمال إحدى المقدمتين، فيقولون في تحريم النبيذ:

_ = فإن كانت مخالفة لما تقدم لم تكن دليلًا معتبرًا، وذلك يرجع إلى أمرين: إما قصور علم الناظر، وإما إهمال إحدى المقدمتين: الصغرى أو الكبرى. وهذا الإهمال لأحد سببين: إما وضوح تلك المقدمة، وإما قصد التعمية والتلبيس على المستدل، حتى لا يستطيع نقض المقدمة. هذا معنى كلامه. 1 في جميع النسخ "وكل" ولعل الواو من زيادات النساخ فلا محل لها. 2 سورة الأنبياء من الآية: 22. 3 قال الفراء: إن "إلا" هنا بمعنى "سوى" والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسدتا، ووجه الفساد: أن كون مع الله إلها آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادرًا على الاستبداد بالتصرف، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف ويحدث بسببه الفساد. انظر "فتح القدير للشوكاني جـ3 ص453". 4 سورة الإسراء الآية: 42.

النبيذ مسكر، فكان حرامًا كالخمر1، ولا تنقطع المطالبة عنه ما لم يردّ إلى النظم الذي ذكرناه -والله أعلم-.

_ 1 قال الشيخ ابن بدران: "قوله: النبيذ مسكر، أي: ويتركون: وكل مسكر حرام. ومثله قولك: لا تخالط فلانًا، فيقال: لِمَ؟ فيقول: لأن الحسَّاد لا تؤمن مخالطتهم. وتمامه أن تقول: الحساد لا يخالطون، وهذا حاسد، فينبغي أن لا يخالط. فتركت مقدمة المحكوم عليه وهي قولك: هذا حاسد. وكل من يقصد التلبيس في المجادلات فطريقه: إهمال إحدى المقدمتين إيهامًا بأنه واضح". "نزهة الخاطر جـ1 ص76".

فصل: في اليقين ومداركه

فصل: [في اليقين ومداركه] اليقين: ما أذعنت النفس إلى التصديق به، وقطعت به، وقطعت بأن قطعها به صحيح، بحيث لو حُكي لها عن صادق خلافه لم تتوقف في تكذيب الناقل1. كقولنا: الواحد أقل من الاثنين، وشخص واحد لا يكون في مكانين2، ولا يتصور اجتماع ضدين3.

_ 1 ومعنى ذلك: أنه لو حكى للشخص نقيض ما يعتقده عن أفضل الناس لما توقف في تجهيله وتكذيبه. 2 أي: في وقت واحد، وإلا فقد يوجد الشخص في مكانين مختلفين في وقتين مختلفين، ولا تناقض في ذلك. 3 المعلومان: إما نقيضان، أو خلافان، أو ضدان، أو مثلان: فالنقيضان: هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، كالوجود والعدم بالنسبة إلى الشيء المعين. والخلافان: هما الشيئان اللذان قد يجتمعان وقد يرتفعان، كالحركة والبياض في الجسم الواحد. والضدان: هما الشيئان اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان، كالسواد والبياض، =

ولنا حالة ثانية، وهي: أن تصدق بالشيء تصديقًا جزميًّا لا تتمارى فيه، ولا تشعر بنقيضه البتَّة، ولو شعرت بنقيضه عسر إذعانها للإصغاء، لكن لو ثبتت وأصغت وحكى لها نقيضه عن صادق أورث ذلك توقفًا عندها. وهذا اعتقاد أكثر الخلق، وكافة الخلق يسمون هذا يقينًا، إلا آحادًا من الناس. فأما ما للنفس سكون إليه وتصديق به، وهي تشعر بنقيضه أو لا تشعر، لكن إن شعرت به لم ينفر طبعها عن قبوله، فهو يسمى ظنًّا1.

_ = لا يمكن اجتماعهما، وقد يرتفعان ويحل محلهما لون آخر، كالصفار مثلًا. والمثلان: هما الشيئان اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان، كالبياض والبياض. انظر في ذلك: شرح تنقيح الفصول ص97 وما بعدها، شرح الكوكب المنير جـ1 ص68، 69. 1 المنهج الذي سلكه المصنف في حصر القسمة في "اليقين" و"الظن" يخالف ما قاله جمهور العلماء من: أن القسمة تنحصر في: الاعتقاد، والظن، والوهم، والشك، والجهل: فالاعتقاد: هو الذي لا يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر، فإن طابق الواقع كان اعتقادًا صحيحًا، وإن لم يطابقه كان فاسدًا. والظن: هو ما يكون متعلقه راجحًا على احتمال النقيض. والمقابل للظن هو الوهم. فإن تساوى متعلقه واحتمال نقيضه فهو الشك. والجهل: اعتقاد المعتقد على ما ليس به. وهو نوعان: مركب، وهو ما تقدم تعريفه. وبسيط: وهو انتفاء إدراك الشيء بالكلية. ومنه: السهو، والغفلة، والنسيان. انظر: الحدود للباجي ص28 وما بعدها، بيان المختصر 1/ 51، التعريفات للجرجاني ص134، شرح الكوكب المنير 1/ 74 وما بعدها.

وله درجات في الميل إلى النقصان والزيادة لا تحصى، فمن سمع من عدل شيئًا سكنت نفسه إليه، فإن انضاف إليه ثان زاد السكون حتى يصير يقينًا، وبعض الناس يسمي هذا يقينًا أيضًا1. [مدارك اليقين] ومدارك النفس خمسة: الأول- الأوليات: وهي: العقليات المحضة التي قضى العقل بمجرده بها، من غير استعانة بحس وتخيل2، كعلم الإنسان بوجود نفسه، وأن القديم ليس بحادث، واستحالة اجتماع الضدين، فهذه القضايا تصادف مرتسمة في النفس3، حتى يظن أنه لم يزل عالمًا بها، ولا يدري متى تجدد، ولا يقف حصولها على أمر سوى مجرد العقل.

_ قال الشيخ ابن بدران: "كالمحدثين، فإنهم يسمون أكثر هذه الأحوال علمًا ويقينًا، حتى يطلقون بأن الأخبار التي تشتمل عليها الصحاح يجب العمل بها على كافة الخلق، إلا آحاد المحققين، فإنهم يسمون الحالة الثانية يقينًا ولا يميزون بين الحالة الأولى والثانية. والحق أن اليقين هو الأول، والثاني مظان الغلط". "نزهة الخاطر العاطر 1/ 78". 2 هذا التعريف للعقليات هو ما قاله الغزالي، وأخصر منه أن يقال: هي ما يجزم العقل فيها بمجرد تصور الطرفين، بديهيًّا كان التصور أو نظريًّا، وتتفاوت جلاءً وخفاءً. 3 وضح الشيخ "ابن بدران" ذلك بقوله: "أي مرتبة في العقل عند وجوده، فيرتسم فيه الوجود -مثلًا- مفردًا، والحادث مفردًا، والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات، وتنسب بعضها إلى بعض، مثل: أن تحضر أن القديم حادث، ويكذب العقل به، أو أن القديم ليس بحادث، ويصدق العقل به، ولا يحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات، أو إلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات =

الثاني- المشاهدات الباطنة: كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وسائر أحواله الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس، فليست حسية، ولا هي عقلية؛ إذ تدركها البهيمة والصبي. والأوليات لا تكون للبهائم. الثالث- المحسوسات الظاهرة: وهي: المدركة بالحواس الخمس، وهي: البصر، والسمع، والذوق، والشم، واللمس. فالمدرك بواحد منها يقيني، كقولنا: الثلج أبيض، والقمر مستدير، وهذا واضح. لكن يتطرق الغلط إليها لعوارض: كتطرق الغلط إلى الإبصار، لبعد أو قرب مفرط، أو ضعف في العين وخفاء في المرئي. وكذلك ترى الظل ساكنًا وهو متحرك، وكذلك الشمس، والقمر، والنجوم، والصبي، والنبات، هو في النمو لا يتبين ذلك. وأسباب الغلط في الأبصار المستقيمة1 منها: الانعكاس كما في المرآة، والانعطاف، كما يرى ما وراء البلور والزجاج وغير ذلك. الرابع- التجريبيات: ويعبر عنها باطراد العادات: ككون النار محرقة، والخبز مشبع، والماء مرو، والخمر مسكر، والحجر هاو، وهي يقينية عند من جربها.

_ = إلى البعض، فيتربص العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب". "نزهة الخاطر جـ1 ص79". 1 قوله: المستقيمة: أي الصحيحة، وليس فيها ما في النوع الأول من أسباب.

وليست هذه محسوسة؛ فإن الحس شاهد حجرًا يهوي بعينه، أما أن كل حجر هاو، فقضية عامة لم يشاهدها، وليس للحس إلا قضية في عين. الخامس- المتواترات: كالعلم بوجود مكة وبغداد. وليس هو بمحسوس، إنما للحس أن يسمع، أما صدق المخبر فذلك إلى العقل. فهذه الخمسة مدارك اليقين. فأما ما يتوهم أنه منها وليس منها: فالوهميات1، والمشهورات. وهي آراء محمودة توجب التصديق بها2، إما شهادة الكل، أو الأكثر، أو جماعة من الأفاضل، كقولك: الكذب قبيح، وكفران المنعم، وإيلام البريء قبيح، والإنعام، وشكر المنعم، وإنقاذ الهلكى حسن.

_ 1 الوهميات: عبارة عن قوة في التجويف الأخير من الدماغ تسمى "وهمية" شأنها ملازمة المحسوسات التي ألفتها، فليس في طبعها إلا النبوة عنها، وليست هي من مدارك اليقين. "نزهة الخاطر العاطر 1/ 81". 2 قوله: وهي آراء محمودة الخ: تفسير للمشهورات، وإنما لم تكن من مدارك اليقين، لأنها ليست مطردة، فتارة تكون صادقة، وتارة تكون كاذبة.

فصل: في لزوم النتيجة من المقدمتين

فصل: في لزوم النتيجة من المقدمتين اعلم أنك إذا جمعت بين مفردين، ونسبت أحدهما إلى الآخر، كقولك: "النبيذ حرام" فلم يصدق بينهما العقل، فلا بد من واسطة بينهما تنسب إلى المحكوم عليه، فتكون حكمًا له، وتنسب إلى الحكم فتصير حكمًا له، فيصدق العقل به، فليزم -ضروة- التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه. بيانه: إذا قال: "النبيذ حرام" فمنع وطلب واسطة ربما صدّق العقل

بوجودها في النبيذ، وصدق بوصف الحرام لتلك الواسطة، فيقول: النبيذ مسكر؟ فيقول: نعم. إذا كان قد علم ذلك بالتجربة. فيقول: وكل مسكر حرام؟ فيقول: نعم إذا كان حصل ذلك بالسماع، فيلزم التصديق بأن النبيذ حرام1. فإن قيل: فهذه القضية ليست خارجة عن القضيتين2؟ قلنا: هذا غلط؛ فإن قولك: "النبيذ حرام" غير قولك: "النبيذ مسكر" وغير قولك: "المسكر حرام"، بل هذه ثلاث مقدمات مختلفات لا تكرير فيها. لكن قولك: "المسكر حرام" شمل "النبيذ" بعمومه، فدخل "النبيذ" فيه بالقوة، لا بالفعل؛ إذ قد يخطر العام في الذهن، ولا يخطر الخاص، فمن قال: "الجسم متحيز" قد لا يخطر بباله ذكر القطب، فضلًا عن أن يخطر بباله -مع ذلك- أنه متحيز، فالنتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة القريبة، لا تخرج إلى الفعل بمجرد العلم بالمقدمتين، ما لم يحضر المقدمتين في الذهن، ويخطر بباله وجه وجود النتيجة في المقدمتين بالقوة. ولا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيظن أنها حامل. فيقال: هل تعلم أن هذه البغلة عاقر؟ فيقول: نعم. فيقال: وهل تعلم أن

_ 1 قال الشيخ "ابن بدران" -موضحًا هذه الصورة-: "وتحريرها أن يقال: وعرضته على العقل، لم يخل العقل فيه من أمرين: إما أن يصدق به، أو يمتنع عن تصديقه، فإن صدق به فهو الأولي المعلوم بغير واسطة، أو بغير علة، أو بغير دليل، وإن امتنع عن المبادرة إلى التصديق فلا بد حينئذ من واسطة.... "نزهة الخاطر "1/ 84". 2 أي المقدمتين السابقتين، لأنه يعبر عن المقدمة بالقضية.

هذه بغلة؟ فيقول: نعم. فيقال: فكيف توهمت حملها؟ فتعجب من توهمه مع علمه بالمقدمتين1. فإن قيل: فالمطلوب بالنظر معلوم أم مجهول؟ إن كان معلومًا كيف تطلبه وأنت واجد؟ وإن كان مجهولًا فبم تعلم مطلوبك؟ قلت: هذا تقسيم غير حاصر، بل ثَمَّ قسم آخر، وهو أني أعرفه من وجه دون وجه، فإني أفهم المفردات، وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة، ولا أعلمها بالفعل، فهو كطلب الآبق في البيت، فإني أعرفه بصورته وأجهله بمكانه، وكونه في البيت أفهمه مفردًا، فهو معلوم لي بالقوة, وأطلب حصوله من جهة حاسة البصر، فإن رأيته في البيت صدقت بكونه فيه.

_ 1 أي علمه أن كل بغلة عاقر، وهذه بغلة فهي إذا عاقر، والعاقر هي التي لا تحمل، فإذًا هي لا تحمل، وانتفاخ البطن له أسباب سوى الحمل، فإذًا انتفاخها من سبب آخر. انظر: "نزهة الخاطر 1/ 86".

فصل: في تقسيم البرهان إلى برهان علة وبرهان دلالة

فصل: [في تقسيم البرهان: إلى برهان علة وبرهان دلالة] 1 وإذا استدللت بالعلة على المعلول فهو: برهان علة: كالاستدلال بالغيم على المطر. وإن استدللت بالمعلول على العلة، أو بأحد المعلولين على الآخر:

_ 1 كما يسمى قياس علة وقياس دلالة, وسيأتي في باب القياس أن قياس الدلالة: هو ما لم تذكر فيه العلة.

فهو برهان دلالة، كالاستدلال بالمطر على الغيم. والاستدلال بأحد المعلولين على الآخر، كقولنا: كل من صح طلاقه صح ظهاره، والذمي يصح طلاقه فيصح ظهاره، فإن إحدى النتيجتين تدل على الأخرى بواسطة العلة؛ فإنها1 تلازم علتها، والأخرى2 تلازم علتها، وملازم الملازم ملازم.

_ 1 أي النتيجة. 2 أي: أن النتيجة الثانية تلازم علتها أيضًا.

فصل: في الاستدلال بالاستقراء

فصل: [في الاستدلال بالاستقراء] فأما الاستدلال بالاستقراء: فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على مثلها، كقولنا -في الوتر-: ليس بفرض؛ لأنه يؤدى على الراحلة، والفرض لا يؤدى عليها. فيقال: لِمَ قلتم: إن الفرض لا يؤدى عليها؟ قلنا: بالاستقراء؛ إذ رأينا القضاء والنذر والأداء لا تؤدى عليها، فهذا مختل1 يصلح للظنيات دون القطعيات، فإن حكمه بأن كل فرض لا يؤدى على الراحلة يمنعه الخصم؛ إذ الوتر عنده واجب يؤدى عليها. فنقول: هل استقرأت حكم الوتر في تصفحك، وكيف وجدته؟ فإن قال: وجدته لا يؤدى على الرحلة فباطل إجماعًا.

_ 1 لأنه استقراء ناقص، وهذا يكفي في الظنيات، ومنها الأحكام الفقهية، إذ أغلبها ظني.

ثم هو مبطل المقدمة الأخرى على نفسه؛ إذ1 الوتر يؤدى على الراحلة. وإن قال: لم أتصفحه، فلم يبين إلا بعض الأجزاء، فخرجت المقدمة عن أن تكون عامة، فإذًا لا يصلح ذلك إلا في الفقهيات. فلنشرع الآن في ذكر الأصول فنقول:

_ 1 بعدها في جميع النسخ لفظ "هي" ولا محل لها هنا.

الباب الأول: في حقيقة الحكم وأقسامه

الباب الأول: في حقيقة الحكم وأقسامه معنى الحكم ... الباب الأول: في حقيقة الحكم وأقسامه1 أقسام أحكام التكليف خمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور. وجه هذه القسمة: أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل أو الترك أوالتخيير بينهما. فالذي يرد باقتضاء الفعل أمر، فإن اقترن به إشعار بعدم العقاب على الترك فهو ندب، وإلا فيكون إيجابًا. والذي يرد باقتضاء الترك نهي، فإن أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة، وإلا فحظر.

_ 1 هذا العنوان أخذناه من كلام المصنف في المقدمة وإن لم يذكره هنا. وقد بدأ المصنف ببيان أقسام الحكم ولم يتعرض لتعريفه، فلنذكر تعريفه لغة واصطلاحًا. فالحكم في اللغة: المنع والقضاء، يقال: حكمت عليه بكذا: أي منعته من خلافه، وحكمت بين الناس: قضيت بينهم وفصلت، ومنه حكمة اللجام، وهو: ما أحاط بحنكي الدابة، سميت بذلك لأنها تمنعها من الجري الشديد. وهي أيضًا حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه تمنعه من مخالفة راكبه، ومنه الحكمة، لأنها تمنع صاحبها عن أخلاق الأراذل والفساد. "القاموس المحيط 4/ 9". =

..................................................................................

_ = الحكم في الاصطلاح: أما الحكم في الاصطلاح العام فهو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- حكم عقلي: وهو ما يعرف فيه العقل النسبة إيجابًا أو سلبًا، نحو: الكل أكبر من الجزء إيجابًا. والجزء ليس أكبر من الكل سلبًا. 2- حكم عادي: وهو ما عرفت فيه النسبة بالعادة، مثل: كون حرارة الجسم دليلًا على المرض، وتعاطي الدواء مزيلًا لها. 3- حكم شرعي، وهو المقصود هنا: وللحكم الشرعي تعريف عند الفقهاء، وآخر عند الأصوليين، والسبب في هذا الاختلاف: أن الأصوليين يعرفونه بما يفيد أنه خطاب الشارع الذي يبين صفة الفعل الصادر من المكلف. والفقهاء يعرفونها بما يفيد أنه أثر ذلك الخطاب. فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة الآية: 43، 110] ، وهو الحكم عند الأصوليين، لأنه خطاب الله تعالى الذي بين صفة هي الوجوب لفعل صادر عن المكلف وهو الصلاة. والوجوب الذي أثبته الخطاب المتقدم: هو الحكم عند الفقهاء، ولذلك كان تعريف الحكم عند الفقهاء: هو الأثر المترتب على خطاب الله تعالى، أو هو: مدلول الخطاب الشرعي وأثره. "انظر: الإحكام للآمدي 1/ 95، فواتح الرحموت 1/ 54". معنى الحكم عند الأصوليين: لعلماء الأصول في تعريف الحكم الشرعي اتجاهات مختلفة، فبعضهم عرفه بأنه: "خطاب الله -تعالى- المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير" وعلى ذلك لا يكون شاملًا للحكم الوضعي، وقالوا: إن الحكم الوضعي -كما سيأتي تعريفه- يرجع في النهاية إلى الحكم التكليفي. وبعضهم أبدل كلمة "المكلفين" بكلمة "العباد" ليكون التعريف شاملًا للأفعال التي تصدر من غير المكلفين، ويترتب عليها أثرها من وجوب الحقوق المالية كضمان المتلفات والنفقات وما أشبه ذلك. =

..................................................................................

_ ونحن نرى أن تعريف الجمهور للحكم الشرعي أشمل وأوضح من غيره، وأنه لا داعي للتجوز أو التقدير، فما لا يحتاج إلى تقدير أولى مما يحتاج، ولذلك عرفوه بأنه: "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع". والخطاب في الأصل: توجيه الكلام للغير ليفهمه، ويطلق -أيضًا- على الكلام الموجه نفسه. والمراد به هنا: كلام الله تعالى، فهو المشرع وحده دون غيره. ومعنى تعلق الخطاب بأفعال المكلفين: ارتباطه بهذه الأفعال على وجه يبين صفتها من كونها مطلوبة الفعل أو الترك أو مخيرًا فيها. والاقتضاء معناه: الطلب، سواء أكان طلب فعل أم كان طلب ترك. فطلب الفعل إن كان جازمًا فهو الواجب، وإن كان غير جازم فهو المندوب. وطلب الترك إن كان جازمًا فهوالحرام، وإن كان غير جازم فهو المكروه. والتخيير معناه: التسوية بين الفعل والترك، وهو الإباحة. وبتقييد الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله تعالى، خرج خطاب غيره، إذ لا حكم إلا لله تعالى. وبقيد "المتعلق بأفعال المكلفين" خرج خمسة أشياء: 1- الخطاب المتعلق بذات الله تعالى، مثل قوله سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ... } [سورة آل عمران الآية: 18] . 2- الخطاب المتعلق بصفاته سبحانه، مثل قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... } [سورة البقرة الآية: 255] . 3- الخطاب المتعلق بفعله -جل شأنه- مثل قوله تعالى: {اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ... } [سورة الزمر الآية: 62] . 4- الخطاب المتعلق بذوات المكلفين، مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ... } [سورة الأعراف الآية: 11] . 5- الخطاب المتعلق بالجمادات، مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ... } [سورة الكهف الآية: 47] . =

...............................................................................

_ = فكل ما تقدم لا يشمله الحكم الشرعي المتقدم. والمراد بالفعل: ما يعده العرف فعلًا، سواء أكان من أفعال القلوب، كالاعتقادات، أم كان من أفعال الجوارح. والمراد بالمكلف: من قام به التكليف، وهو البالغ، العاقل، الذاكر، غير المكره وبلغته الدعوة. والمراد بالوضع -في التعريف- أن الشارع قد ربط بين أمرين مما يتعلق بالمكلفين، كأن يربط بين الوارثة، ووفاة شخص، فتكون الوفاة سببًا للميراث، أو يربط بين أمرين يكون أحدهما شرطًا شرعيًّا لتحقيق الآخر، وترتب آثاره. كاشتراط الوضوء لصحة الصلاة، وكاشتراط الشهود لصحة عقد النكاح، ولذلك سمي وضعيًّا، وهذا لا يخرجه عن كونه شرعيًّا. "شرح العضد على المختصر 1/ 221". أنواع الحكم الشرعي: وبناء على التعريف المتقدم يتنوع الحكم الشرعي إلى نوعين: حكم تكليفي، وحكم وضعي: 1- الحكم التكليفي: وهو: خطاب الله -تعالى- المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير. وبناء على ذلك تكون الأحكام التكليفية خمسة: 1- الإيجاب: وهو الخطاب الدال على طلب الفعل طلبًا جازمًا. مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة الآيتان 43، 110] . 2- الندب: وهو الخطاب الدال على طلب الفعل طلبًا غير جازم، نحو قوله تعالى: { ... وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [سورة النور الآية: 33] . فالأمر بمكاتبة العبد حتى يعتق ليست واجبة، وإنما هي مندوبة حث عليها الإسلام تحقيقًا للحرية التي أردها الإسلام للجميع، فالمالك حر التصرف فيما يملك، فالأمر هنا على سبيل الندب، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". "أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي =

..................................................................................................

_ = والنسائي وابن خزيمة: الفتح الكبير 3/ 182". 3- التحريم: وهو الخطاب الدال على طلب الكف طلبًا جازمًا، مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَق....} [سوة الإسراء الآية: 33] . 4- الكراهة: وهي الخطاب الدال على طلب الكف عن الفعل طلبًا غير جازم، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين". أخرجه البيهقي وابن عدي في الكامل "الفتح 1/ 106". فالجلوس بدون صلاة مكروه. 5- الإباحة: وهي الخطاب الدال على تخيير المكلف بين الفعل والترك، مثل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ... } [سورة الأعراف الآية: 31] . وهذا تقيسم جمهور العلماء. أما الحنفية: فالأحكام عندهم سبعة: الفرض، والإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة التحريمية، والكراهة التنزيهة، والإباحة، فزادوا على الجمهور الفرض، وكراهة التحريم. ويتفرق الحكم التكليفي عن الحكم الوضعي بما يلي: أولًا: أن المقصود من الحكم التكليفي طلب فعل من المكلف، أو الكف عنه، أو التخيير بين الفعل والترك. وأما الحكم الوضعي: فليس فيه تكليف أو تخيير، وإنما فيه ارتباط أمر بآخر على وجه السببية أو الشرطية أو المانعية الخ.... ثانيًا: أن الحكم التكليفي مقدور للمكلف، وفي استطاعته أن يفعله أو يكف عنه، ولذلك يثاب على الفعل ويعاقب على الترك. أما الحكم الوضعي: فقد يكون مقدورًا للمكلف، مثل: صيغ العقود، التي هي سبب لصحتها، واقتراف الجرائم، فهي سبب لترتب أحكامها، واستحقاق العقوبة. وقد يكون غير مقدور للمكلف، مثل: القرابة التي هي سبب للإرث، فالإرث سبب من أسباب الملك، وهما غير مقدورين للمكلف، مثل: دلوك الشمس فإنه سبب لوجوب الصلاة. والدلوك ليس من فعل المكلف ولا قدره له على إيجاده. =

[الواجب وتقسيماته] وحد الواجب: ما توعد بالعقاب على تركه. وقيل: ما يعاقب تاركه. وقيل: ما يذم تاركه شرعًا1.

_ = ثالثًا: أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بالمكلف، أما الحكم الوضعي: فإنه يتعلق بالجميع، فالصبي -مثلًا- تجب الزكاة في ماله وإن كان غير مكلف، لوجود سبب الزكاة، وهو ملك النصاب، ويضمن وليه ما يتلفه وهكذا. انظر: "أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 1/ 43-44". 1 هذه التعريفات التي أوردها المصنف للواجب هي باعتبار الاصطلاح الشرعي. أما الواجب في اللغة: فيطلق على معنيين: أحدهما: الساقط، مأخوذ من: "وجب" بمعنى "سقط" قال الله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَر} [سورة الحج الآية: 36] . ومعنى "وجبت جنوبها": أي سقطت جنوبها على الأرض بسبب الذبح. ثانيهما: اللزوم، يقال: وجب الشيء وجوبًا، أي: لزم لزومًا. وقول المصنف: "ما توعد بالعقاب على تركه" لا ينافي عفو الله تعالى ومغفرته، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [سورة النساء الآية: 116] فإن الله تعالى قد يخلف إيعاده، لكنه -جل شأنه- لا يخلف وعده. ولذلك رجح كثير من العلماء التعريف الثالث وهو: "ما يذم تاركه شرعًا" لأن الذم أمر ناجز يترتب على الترك، أما العقوبة فمشكوك فيها، لأنه ربما لا يعاقب، وإن كان يذم على ترك الواجب. وهو مأخوذ من تعريف أبي بكر الباقلاني وعبارته: "هو الذي يذم تاركه ويلام شرعًا بوجه ما" وقوله "بوجه ما" ليشمل الواجب المخير، فإنه يلام على تركه مع بدله، والواجب الموسع، فإنه على تركه مع ترك العزم على الامتثال، =

والفرض هو الواجب على إحدى الروايتين1؛ لاستواء حدهما2، وهو قول الشافعي3.

_ = وكذلك الواجب الكفائي، فإنه يلام إذا لم يفعله، ولم يفعله غيره أيضًا. انظر: "روضة الناظر مع الشرح لبدران 1/ 91". 1 أي: المنقولتين عن الإمام أحمد -رضي الله عنه- وهو رأي الجمهور من الأصوليين، وقد وافق الجمهور الحنفية في التفرقة بين الفرض والواجب في بعض الفروع الفقهية، كما في باب الحج: فقالوا: إن الفرض إذا تركه الحاج بطل حجه كالوقوف بعرفة، أما الواجب: فإنه يجبر بدم كرمي الجمرات. 2 هذا هو دليل الجمهور، وقد أورد الإمام الطوفي من النصوص ما يدل على أن السقوط يأتي في اللغة بمعنى وقوع الشيء من أعلى إلى أسفل، كقولنا: سقط الحجر من الجبل، وقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سورة سبأ الآية: 9] ، كما يأتي بمعنى: وقوعه على المكلف من الله سبحانه وتعالى، الذي هو فوق عباده. "شرح مختصر الروضة جـ1 ص266". على أن علماء اللغة قد نصوا أن الوجوب يأتي بمعنى السقوط، كما يأتي بمعنى الثبوت واللزوم، على سبيل الاشتراك اللفظي، فيحمل هنا على اللزوم ليتناسب مع المعنى المراد من الواجب، وهي قرينة ترجح حمله على أحد معنييه كما هو الشأن في المشترك اللفظي. 3 هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي، أبو عبد الله، الإمام الجليل، صاحب المذهب المعروف، ولد بغزة سنة 150هـ من أشهر مؤلفاته: كتاب الأم، والرسالة، وأحكام القرآن. توفي في مصر سنة 204هـ. انظر: في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي "1/ 192"، شذرات الذهب "2/ 9"، وفيات الأعيان "3/ 305". وهذا الرأي ليس للشافعي وحده، وإنما هو رأي الإمام مالك، وكثير من الحنابلة: انظر: "العدة 2/ 376، المستصفى 1/ 65، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 228".

والثانية: الفرض آكد. فقيل: هو1 اسم لما يقطع بوجوبه، كمذهب أبي حنيفة2. وقيل: ما لا يتسامح في تركه عمدًا ولا سهوًا، نحو: أركان الصلاة، فإن الفرض في اللغة: التأثير، ومنه فُرضة النهر والقوس3. والوجوب: السقوط، ومنه: "وجبت الشمس والحائط" إذا سقطا، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} 4 فاقتضى تأكد الفرض على الواجب شرعا؛ ليوافق معناه لغة.

_ 1 الضمير عائد على الفرض، وهو تفريع على مذهب من يفرق بين الفرض والواجب. 2 هو: النعمان بن ثابت بن زوطي، أحد الأئمة الأربعة المشهورين، ولد عام 80هـ. كان فقيه العراق وإمام أهلها بلا منازع، قال عنه الشافعي: "الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه" توفى سنة 150هـ "وفيات الأعيان 5/ 39، الشذرات 1/ 227". 3 قال الجوهري في الصحاح "مادة فرض": الفرض: الحز في الشيء، وفرض القوس: هو الحز الذي يقع فيه الوتر، والفريض: السهم المفروض فوقه، والتفريض: التحزيز، والمفرض: الحديدة التي يحز بها، والفراض: فوهة النهر. قال الطوفي: "وإذا ثبت ذلك، فالفرض أخص من السقوط، إذ لا يلزم -مثلًا- من سقوط الحجر ونحوه على الأرض أن يحزّ ويؤثر فيها، ويلزم من حزّه وتأثيره في الأرض أن يكون قد سقط واستقر عليها، وإذا كان كذلك وجب اختصاص الفرض بقوة في الحكم، كما اختص بقوة في اللغة، حملًا للمسميات الشرعية على مقتضياتها اللغوية" "شرح مختصر الروضة 1/ 275". 4 سورة الحج من الآية: 36.

ولا خلاف في انقسام الواجب إلى، مقطوع ومظنون، ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعنى1.

_ 1 في هذا إشارة إلى أن الخلاف لفظي. قال الطوفي: "إن النزاع في المسألة إنما هو في اللفظ، مع اتفاقنا على المعنى، إذ لا نزاع بيننا وبينهم في انقسام ما أوجبه الشرع علينا وألزمنا إياه من التكاليف، إلى قطعي وظني، واتفقنا على تسمية الظني واجبًا، وبقي النزاع في القطعي، فنحن نسميه واجبًا وفرضًا بطريق الترادف، وهم يخصونه باسم الفرض، وذلك مما لا يضرنا وإياهم، فليسموه ما شاءوا" "شرح المختصر 1/ 276".

فصل: في تقسيم الواجب باعتبار ذاته

فصل: [في تقسيم الواجب باعتبار ذاته] والواجب ينقسم إلى معين، وإلى مبهم في أقسام محصورة، فيسمى واجبًا مخيرًا، كخصلة من خصال الكفارة. وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا: لا معنى للوجوب مع التخيير. ولنا: أنه جائز عقلًا وشرعًا: أما العقل2: فإن السيد لو قال لعبده: أوجبت عليك خياطة هذا القميص، أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم، أيهما فعلت اكتفيت به، وإن تركت الجميع عاقبتك، ولا أوجبهما عليك معًا، بل أحدهما لا بعينه، أيهما شئت، كان كلامًا معقولًا. ولا يمكن دعوى إيجاب الكل؛ لأنه

_ 1 في هذا إشارة إلى أن الخلاف لفظي. قال الطوفي: "إن النزاع في المسألة إنما هو في اللفظ، مع اتفاقنا على المعنى، إذ لا نزاع بيننا وبينهم في انقسام ما أوجبه الشرع علينا وألزمنا إياه من التكاليف، إلى قطعي وظني، واتفقنا على تسمية الظني واجبًا، وبقي النزاع في القطعي، فنحن نسميه واجبًا وفرضًا بطريق الترادف، وهم يخصونه باسم الفرض، وذلك مما لا يضرنا وإياهم، فليسموه ما شاءوا" "شرح المختصر 1/ 276". 2 المصنف استدل على الجواز من وجهين: الأول: قوله "فلأن السيد لو قال لعبده ... إلخ". والوجه الثاني: قوله بعد ذلك: "ولأنه لا يمتنع في العقل ... إلخ" ومعناه: أن الشارع قد يقصد عدم التعيين تخفيفًا وتيسيرًا على المكلفين، حتى يستطيع كل مكلف أن يأتي بما هو مقدور له، وهذا من محاسن التشريع الإسلامي.

صرح بنقيضه ولا دعوى أنه ما أوجب شيئًا أصلًا؛ لأنه عرضه للعقاب بترك الكل، ولا أنه أوجب واحدًا معينًا، لأنه صرح بالتخيير، فلم يبق إلا أنه أوجب واحدا لا بعينه. ولأنه لا يمتنع في العقل أن يتعلق الغرض بواحد غير معين، لكون كل واحد منهما وافيًا بالغرض حسب وفاء صاحبه، فيطلب منه قدر ما يفي بغرضه، والتعيين فضلة لا يتعلق بها الغرض، فلا يطلبه منه. وأما الشرع: فخصال الكفارة1، بل إعتاق الرقبة بالإضافة إلى إعتاق العبيد2، وتزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين، وعقد الإمامة لأحد الرجلين الصالحين لها، ولا سيبل إلى إيجاب الجميع، وأجمعت الأمة3 على أن جميع خصال الكفارة غير واجب.

_ 1 المراد: خصال كفارة اليمين الواردة في سورة المائدة آية 92 وهي قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} . 2 قصده من هذه العبارة: أن التخيير وارد في الرقبة التي سيكفّر بها، فيجزئ أي رقبة كانت، سواء أكانت مؤمنة أم كافرة. 3 قوله "أجمعت الأمة إلخ" جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال: الواجب جميع خصال الكفارة، فلو تركها عوقب على الجميع، ولو أتى بجميعها وقع الجميع واجبًا، ولو أتى بواحد سقط عنه الآخر، وقد يسقط الواجب بأسباب دون الأداء وذلك محال. فأجاب: أن هذا لا يطرد في الإمامين والكفؤين، فإن الجمع فيه حرام، فكيف يكون الكل واجبًا، ثم هو خلاف الإجماع في خصال الكفارة، إذ الأمة مجمعة على أن الجميع غير واجب. انظر: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص97".

فإن قيل1: إن كانت الخصال متساوية عند الله -تعالى- بالنسبة إلى صلاح العبد، ينبغي أن يوجب الجميع، تسوية بين المتساويات. وإن تميز بعضها بوصف ينبغي أن يكون هو الواجب عينًا. قلنا: ولمَ قلتم: إن للإفعال صفات في ذاتها لأجلها يوجبها الله -سبحانه- بل الإيجاب إليه، له أن يخصص من المتساويات واحدًا بالإيجاب، وله أن يوجب واحدًا غير معين. ويجعل مناط التكليف اختيار المكلف، ليسهل عليه الامتثال. جواب ثان2: أن التساوي يمنع التعيين؛ لكونه عبثًا، وحصول المصلحة بواحد يمنع من إيجاب الزائد، لكونه إضرارًا مجردًا حصلت المصلحة بدونه، فيكون الواجب واحدًا غير معين. فإن قيل3: فالله -سبحانه- يعلم ما يتعلق به الإيجاب، ويعلم ما يتأدى به الواجب، فيكون معينًا في علم الله -سبحانه-. قلنا: الله -سبحانه- إذا أوجب واحدًا لا بعينه علمه على ما هو عليه من نعته، ونعتُه أنه غير معين، فيعلمه كذلك، ويعلم أنه يتعين بفعل المكلف ما لم يكن متعينًا قبل فعله، والله أعلم.

_ 1 هذا هو الدليل الأول للمعتزلة، أورده المصنف في صورة اعتراض. 2 جواب آخر من المصنف على دليل المعتزلة المتقدم. 3 هذا هو الدليل الثاني للمعتزلة، أورده المصنف في صورة اعتراض. وخلاصة القول في الواجب المخير أن فيه ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أن الوجوب يتعلق بواحد مبهم من أمور معينة، وهو مذهب الجمهور. ويعبرون عنه بالأحد الدائر بينها، وتارة بواحد لا بعينه، وتارة بالقدر المشترك، فالذي تعلق به الإيجاب: هو الواحد المبهم، وليس فيه تخيير والذي حصل فيه التخيير: هو الأمور المعينة، ولم يتعلق به الإيجاب، فلا تعارض بين الإيجاب والتخيير، كما قد يتوهمه البعض.

فصل: في تقسيم الواجب باعتبار وقت الأداء

فصل: [في تقسيم الواجب باعتبار وقت الأداء] والواجب ينقسم -بالإضافة إلى الوقت- إلى مضيق وموسع. وأنكر أصحاب أبي حنيفة التوسع، وقالوا: هو يناقض الوجوب1. ولنا2: أن السيد لو قال لعبده: ابْن هذا الحائط في هذا اليوم: إما في أوله، وإما في وسطه، وإما في آخره وكيف أردت، فمهما فعلت امتثلت إيجابي، وإن تركت عاقبتك، كان كلامًا معقولًا. ولا يمكن دعوى أنه ما أوجب شيئًا أصلًا، ولا أنه أوجب مضيقًا؛

_ = المذهب الثاني: أن الأمر بالأشياء على التخيير يقتضي وجوب الكل، ويسقط بفعل واحد منها، وهو مذهب بعض المعتزلة، وهو قريب من مذهب الجمهور، فلا خلاف بينهما في المعنى. المذهب الثالث: أن الواجب معين عند الله تعالى دون الناس، وهو مذهب ضعيف ترويه المعتزلة عن الجمهور، ويرويه الجمهور عن المعتزلة، ولذلك يسمى بمذهب التراجم، لأن كل فريق يرجم به الآخر، فلا أصل له. انظر: "الإبهاج للسبكي جـ1 ص86، المعتمد لأبي الحسين البصري جـ1 ص87". 1 هذا هو الدليل الذي تمسك به الحنفية على أنكاء الواجب الموسع وخلاصته: أنه لو وجب الفعل فيما قبل الوقت الأخير لما جاز تركه، لكن التالي باطل، وهو أنه يجوز ترك الواجب، فبطل المقدم، وثبت نقيضه، وهو عدم الوجوب فيما قبل الجزء الأخير من الوقت. وأجيب عنه: بأن جواز ترك الفعل فيما عدا الجزء الأخير لا يقتضي عدم الوجوب، لأن الوجوب فيما عدا الجزء الأخير وجوب موسع، والذي ينافي الوجوب: هو الترك في جميع الأوقات، لا الترك في بعض الأوقات. 2 هذا هو الدليل العقلي للجمهور، وسيأتي -بعد ذلك- الدليل الشرعي.

لأنه صرح بضد ذلك، فلم يبق إلا أنه أوجب موسعًا. وقد عهدنا من الشارع تسمية هذا القسم واجبًا، بدليل أن الصلاة تجب في أول الوقت1. وكذلك انعقد الإجماع على أنه يثاب ثواب الفرض، وتلزمه نيته2، ولو كانت نفلًا لأجزأت نية النفل، بل لاستحالت نية الفرض من العالِمِ كونها نفلًا؛ إذ النية قصد يتبع العلم. فإن قيل3: الواجب ما يعاقب على تركه، والصلاة إن أضيفت إلى

_ 1 هذا هو الدليل الشرعي، وهو: أن الصلاة تجب في أول الوقت وجوبًا موسعًا والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى في سورة الإسراء من الآية 78: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل} وقوله تعالى في سورة طه من الآية 130: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وروي أن الله -تعالى- لما فرض الصلاة أرسل جبريل -عليه السلام- ليعلّم النبي -صلى الله عليه وسلام- كيفية الصلاة وأوقاتها، فأم جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- وصلى به الصلاة في أول يوم في أول الوقت، وفي اليوم الثاني صلاها في آخر الوقت، ثم قال له: "الوقت ما بين هذين" وهو حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه "1/ 101" وأبو داود في سننه "1/ 161"، وأحمد في مسنده "1/ 333" والنسائي في سننه "1/ 262". قال البخاري: "هو أصح شيء في المواقيت". وإذا كان الحديث قد قيد الوجوب بجميع الوقت، وهو صريح في هذا، فتخصيصه ببعض الأوقات دون البعض، تخصيص بلا دليل. 2 هذا هو الدليل الثالث للجمهور، وهو: أن الإجماع منعقد على أن من أدى الصلاة في أول وقتها أثيب عليها ثواب الفرض، وتلزمه النية، إذ النية تابعة لعلم المكلف وقصده، ولذلك يقول الآمدي في الإحكام "جـ1 ص108" "أجمع السلف على أن من فعل الصلاة في أول الوقت ومات، أنه أدى فرض الله عليه". 3 هذا دليل من أدلة المنكرين للواجب الموسع، أورده المصنف في صورة اعتراض وأجاب عليه بما قاله -بعد- من أن القسمة ثلاثية، مندوب، وواجب مضيق، =

أخر الوقت فيعاقب على تركها، فتكون واجبه حينئذ، وإن أضيقت إلى أوله، فخيّر بين فعلها وتركها، وفعلها خير من تركها، وهذا حد الندب. وإنما أثيب ثواب الفرض ولزمته نيته؛ لأن مآله إلى الفرضية، فهو كمعجّل الزكاة، والجامع بين الصلاتين في وقت أولاهما. قلنا: الأقسام ثلاثة: قسم: لا يعاقب على تركه مطلقًا، وهو: المندوب. وقسم: يعاقب على تركه مطلقًا، وهو الواجب المضيق. وقسم: يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت، ولا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت، وهذا القسم ثالث، يفتقر إلى عبارة ثالثة، وحقيقته لا تعدو "الواجب، والندب" وأولى عباراته: "الواجب الموسع". قالوا: ليس هذا قسمًا ثالثًا، بل هو بالإضافة إلى أول الوقت ندب، وبالإضافة إلى آخره واجب، بدليل أنه في أول الوقت يجوز تركه، دون آخره1.

_ وهذا القسم الثالث لا نستطيع أن نلحقه بالمندوب، لأن المندوب يجوز تركه مطلقًا، ولا نستطيع أن نلحقه بالواجب المضيق لأنه يخالفه، فلم يبق إلا أن نسميه باسم يختص به، وهو "الواجب" فهو واجب، لأن الشارع طلب فعله طلبًا جازمًا، وهو -أيضًا- موسع؛ لأن الشارع وسّع وقت الأداء، تيسيرًا على المكلفين، وما دام الشارع هو الذي رخص في ذلك فلا ينبغي المعارضة فيه، فلا اجتهاد مع النص، كما يقول العلماء. 1 خلاصة هذا الاعتراض: عدم التسليم بأن هذا قسم ثالث، بل هو داخل في القسمين، المندوب والواجب، فهو في أول الوقت ندب، لأنه يجوز تركه، وهذا هو الندب، وفي آخر الوقت واجب، لأنه لا يجوز تركه، وهذا هو حد الواجب. وأجاب المصنف على هذا الاعتراض: بأن الندب يجوز تركه مطلقًا، =

قلنا: بل حد الندب: ما يجوز تركه مطلقًا، وهذا لا يجوز إلا بشرط وهو: "الفعل بعده" أو: "العزم على الفعل"، وما جاز تركه بشرط فليس بندب، كما أن كل واحد من خصال الكفارة يجوز تركه إلى بدل. ومن أمر بالإعتاق فما من عبد إلا يجوز تركه بشرط عتق ما سواه، ولا يكون ندبًا، بل واجبًا مخيرًا، كذا هذا يسمى واجبًا موسعًا1. وما جاز تركه بشرط يفارق ما جاز تركه مطلقًا، وما لا يجوز تركه مطلقًا فهو قسم ثالث2. وإذا كان المعنى متفقًا عليه وهو: الانقسام إلى الأقسام الثلاثة، فلا معنى للمناقشة في العبارة. وأما تعجيل الزكاة: فإنه يجب بنية التعجيل، وما نوى أحد من السلف في الصلاة في أول الوقت غير ما نواه في آخره، ولم يفرقوا أصلًا فهو مقطوع به3.

_ = والواجب الموسع يجوز تركه في أول الوقت مع نية فعله بعد ذلك، فهو مخالف للمندوب من هذا الوجه. 1 أراد المصنف بذلك: التنظير للواجب الموسع بالواجب المخير، فكما أنه في الواجب المخير مخير بين أمور معينة كذلك هنا مخير بين الوقت الأول: وما بعده. وهذا لا ينافي أن الوقت الأول أفضل من غيره، فالأفضلية شيء، وجواز التأخير شيء أخر. 2 هو: الواجب الموسع -كما سبق توضيحه-. 3 هذا رد على من قال: إن أداء الصلاة في أول الوقت يعتبر تعجيلًا كتعجيل دفع الزكاة قبل حولان الحول. وخلاصة الرد: أن الصلاة تفعل في أول الوقت كما تفعل في آخره بنية واحدة، ولم يفرق السلف الصالح بين النيتين، أما الزكاة فلا تجب ولا يتوجه الأمر بها إلا بعد حولان الحول، فدفعها قبل ذلك لا بد فيه من نية التعجيل، فهذا قياس مع الفارق.

فإن قيل1. قولكم: "إنما جاز تركه بشرط العزم أو الفعل بعده" باطل، فإن لو ذهل أو غفل عن العزم ومات لم يكن عاصيًا". ولأن الواجب المخير: "ما خير الشارع فيه بين شيئين" وما خير بين العزم والفعل. ولأن قوله: "صل في الوقت" ليس فيه تعرض للعزم أصلًا، فإيجابه زيادة. قلنا: إنما لم يكن عاصيًا، لأن الغافل لا يكلف. فأما إذا لم يغفل، فلا يترك العزم على الفعل إلا عازمًا على الترك مطلقًا، وهو حرام، وما لا خلاص عن الحرام إلا به يكون واجبًا. فهذا دليل وجوبه، وإن لم تدل عليه الصيغة، والله أعلم.

_ 1 القائل: هم الذين لا يشترطون العزم على الفعل في الوقت اللاحق للوقت الذي لم تفعل فيه العبادة. وخلاصة ما حكاه المصنف عنهم: أنهم ردوا على مذهب القائلين باشتراط العزم بثلاثة أوجه. فيقول: "فإنه لو ذهل.... الخ" هذا هو الوجه الأول، وقوله: "ولأن الواجب المخير ... الخ" هو الوجه الثاني، وقوله: "ولأن قوله: صل الخ" هو الوجه الثالث. وقوله -بعد ذلك-: "قلنا" رد على الوجوه الثلاثة المتقدمة. وخلاصة ما قيل في الواجب الموسع: أن العلماء متفقون على ذلك، إلا أنهم مختلفون في جزء الوقت الذي يتعلق به الوجوب ويمثلون في الجملة اتجاهين: أ- اتجاه يعترف بالواجب الموسع. ب- اتجاه آخر ينكر ذلك. وتفرع على ذلك عد112 فإن قيل1. قولكم: "إنما جاز تركه بشرط العزم أو الفعل بعده" باطل، فإن لو ذهل أو غفل عن العزم ومات لم يكن عاصيًا". ولأن الواجب المخير: "ما خير الشارع فيه بين شيئين" وما خير بين العزم والفعل. ولأن قوله: "صل في الوقت" ليس فيه تعرض للعزم أصلًا، فإيجابه زيادة. قلنا: إنما لم يكن عاصيًا، لأن الغافل لا يكلف. فأما إذا لم يغفل، فلا يترك العزم على الفعل إلا عازمًا على الترك مطلقًا، وهو حرام، وما لا خلاص عن الحرام إلا به يكون واجبًا. فهذا دليل وجوبه، وإن لم تدل عليه الصيغة، والله أعلم.

....................................................................................................

_ = المذهب الأول: أن الوجوب يتعلق بالوقت كله وجوبًا موسعًا، فيجوز إيقاع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت، فيجوز ترك الفعل في أول الوقت بدون بدل، ولا يعتبر عاصيًا ولا يأثم بالتأخير، إلا إذا تضيق الوقت فيحرم التأخير. ومع ذلك فهم يقولون: إن أداء العبادة في أول الوقت أفضل، ففرق بين الأفضلية والجواز. وهو مذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين. واستدلوا على ذلك بدليلين: أحدهما من القرآن، وثانيهما من السنة. أولا- من القرآن الكريم: فقد استدلوا بقوله -تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] . ووجه الاستدلال بالآية: أن الأمر بإقامة صلاة الظهر المفهوم من قوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} عام في جميع الأوقات، ولم يقتصر على وقت معين، فلا دلالة في الآية على إيقاع الصلاة في وقت معين، فقصره على بعض الأوقات لا دليل عليه. "الإحكام للآمدي 1/ 99". ويؤكد هذا الفهم دليل السنة الآتي: ثانيًا: استدلوا من السنة بما تقدم من حديث جبريل -عليه السلام- والذي جاء فيه "الوقت ما بين هذين" وهو نص في الموضوع من جهة، ومفسر للآية الكريمة من جهة ثانية. المذهب الثاني: أن الإيجاب يقتضي إيقاع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت، لكن لا يجوز ترك الواجب في الجزء الأول إلا ببدل، وهو العزم على إيقاع الفعل في الجزء الذي يليه، ثم إذا لم يفعل في ذلك الوقت تجدد البدل، وهكذا، حتى يدخل الوقت الأخير فيتعين هذا الجزء للأداء، وإلا خرج الوقت. وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة من الأشاعرة والمعتزلة. =

..............................................................................................

_ = وهذا المذهب يتفق مع المذهب المتقدم في أن الإيجاب يتعلق بأول الوقت وجوبًا موسعًا، إلا أنهم يخالفونهم من حيث إنهم يوجبون العزم في الوقت الذي لم يحصل فيه الفعل. ومن هنا كان دليلهم على الشق الأول هو نفس أدلة أصحاب المذهب الأول. أما أنه يجب العزم فدليلهم على ذلك: أنه لو لم يجب العزم عند عدم الإتيان بالفعل للزم ترك الواجب بلا بدل: وترك الواجب بلا بدل باطل، لأنه يجعل الواجب غير واجب، ضرورة أن الواجب هو: ما لا يجوز تركه بلا بدل، وغير الواجب يجوز تركه بلا بدل، فثبت بذلك أنه لا بد من العزم عند عدم الفعل وهو المدّعي. وأجاب الجمهور على ذلك: بأن العزم لا يصلح أن يكون بدلًا عن الواجب، لأنه لو صح أن يكون بدلًا لتأدى به الواجب، لأن بدل الشيء يقوم مقامه، والكل متفق على أن العزم هنا لا يقوم مقام الفعل، ولترتب على ذلك أن من أخر الصلاة عن أول الوقت مع الغفلة عن العزم يكون عاصيًا، لأنه ترك الواجب وبدله، ولم تتعرض النصوص الدالة على إيجاب الصلاة لشيء من ذلك، فإيجاب العزم زيادة على مقتضى الأمر الوارد بالصلاة. يضاف إلى ذلك: أنه لو عزم على الفعل في الجزء الأول من أجزاء الوقت، فهل يجب العزم في الجزء الثاني والثالث وهكذا أو لا؟ فإن قلنا: إنه لا يجب فقد ترك الواجب بلا بدل، ولزم على ذلك تخصيص جزء من الوقت بدون مخصص، حيث أوجبنا العزم في الجزء الأول، دون بقية الأجزاء. وإن قلنا: يجب تعدد العزم لزم على ذلك تعدد البدل، والمبدل منه واحد، وهذا لا يجوز، لأن البدل -دائما- تابع للأصل وهو المبدل منه. ثانيًا- اتجاه المنكرين للواجب الموسع: وتفرع عن هذا الاتجاه ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أن الوجوب يختص بأول الوقت، فإن فعل في آخره كان قضاء. =

.................................................................................................

_ = وهو منقول عن بعض المتكلمين، ونسب خطأ إلى الشافعية، فهي نسبة غير صحيحة. واستدل القائلون بذلك بأدلة ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها. منها: ما روي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قال: "الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله" "رواه الترمذي والدراقطني: الترغيب والترهيب جـ1 ص256". وقالوا في وجه الدلالة: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبرنا بأن الصلاة في أول الوقت سبب رحمة الله ورضائه عن فاعلها، وأن فعلها في آخر الوقت يعد معصية، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "عفو الله" لأن العفو إنما يكون عن شيء فيه مخالفة. وأجيب عن هذا الاستدلال من وجهين: الوجه الأول: أن هذا الحديث ضعيف جدًّا. قال البيهقي في المعرفة: هذا الحديث كذبه أحمد بن حنبل، وقد روي بأسانيد كلها ضعيفة. "تحفة الأحوذي 1/ 517، سبل السلام 1/ 17". الوجه الثاني: أنه مع فرض التسليم بصحته فإنه لا يثبت المدّعي، لأن العفو الوارد في الحديث لا يدل على أن الصلاة في آخر الوقت معصية، لكنه يلج على أن المكلف قد تباطأ في أداء العبادة في أول وقتها، ولا شك أن الوقت الأول وقت فضيلة بلا خلاف، فإهمال لوقت الفضيلة يستحق العفو من الله تعالى. فغاية ما يدل عليه الحديث: هو حث المكلف على المبادرة بأداء العبادة في أول وقتها حتى يستحق رضا الله تعالى ومغفرته. بالإضافة إلى أن أن هذا الحديث مخالف لحديث جبريل المتقدم وهو حديث صحيح. المذهب الثاني: أن الوجوب يختص بآخر الوقت، فإن فعل أوله كان من قبيل التعجيل، وهو مروي عن بعض الحنفية. واستدلوا على ذلك: بأنه لو وجب الفعل فيما قبل الوقت الأخير لما جاز تركه لكن التالي باطل، وهو أنه لا يجوز ترك الواجب، فبطل المقدم، وثبت نقيضه، =

فصل: في تضييق الواجب الموسع

فصل: [في تضييق الواجب الموسع] إذا أخر الواجب الموسع فمات في أثناء وقته قبل ضيقه1 لم يمت عاصيًا، لأنه فعل ما أبيح له فعله، لكونه جُوِّز له التأخير2.

_ = وهو عدم الوجوب فيما قبل الجزء الأخير من الوقت. وأجيب عن هذا الدليل: بأن جواز ترك الفعل فيما عدا الجزء الأخير لا يقتضي عدم وجوب الفعل، لأن الوجوب فيما عدا الجزء الأخير وجوب موسع، والذي ينافي الوجوب هو الترك في جميع أوقات الفعل، لا الترك في بعض الأجزاء والإتيان به في البعض الآخر. والوجوب في الوقت الأخير أصبح مضيقًا، بحيث إذا لم يفعله فيه خرج وقته كله. المذهب الثاني: أن المكلف إذا أتى بالفعل في أول الوقت، فإن جاء آخر الوقت والمكلف على صفة التكليف، بأن كان بالغًا، عاقلًا، خاليًا من الموانع الشرعية، كان فعله في أول الوقت واجبًا. وإن جاء آخر الوقت وقد زالت عن المكلف صفة التكليف، بأن جن المكلف، أو حاضت المرأة مثلًا، كان الفعل الذي فعله في أول الوقت مندوبًا، وهذا المذهب مروي عن الإمام الكرخي من أئمة الحنفية. وهذا المذهب من الضعف بحيث لا يحتاج إلى استدلال أو مناقشة. فهو مذهب مخالف لما عليه عامة الفقهاء، كما أنه مخالف لظاهر الآيات، وللأحاديث الصحيحة التي تثبت أن الواجب الموسع يجوز فعله في أي جزء من أجزاء هذا الوقت، وإن كان الأداء في أول الوقت فضلية. 1 يريد: قبل تضييق وقته، فلو أخره حتى ضاق الوقت فإنه يموت عاصيًا، كما لو أخر الصلاة لوقت لا يكفي لأدائها. 2 هذا تعليل كونه لا يموت عاصيًا، وهذا الرأي هو الراجح عند المحققين من =

فإن قيل1: إنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة؟ قلنا: هذا محال؛ فإن العاقبة مستورة عنه2. ولو سألنا فقال: "عليّ صوم يوم فهل يحل لي تأخيره إلى غد" فما جوابه؟ إن قلنا: "نعم" فلم أثم بالتأخير؟ وإن قلنا: "لا" فخلاف الإجماع. وإن قلنا إن كان في علم الله أنك تموت قبل غدٍ، لم يحل، وإلا فهو يحل. فيقول: وما يدريني ما في علم الله، فلا بد من الجزم بجواب. فإذًا: معنى الوجوب وتحقيقه: أنه لا يجوز له التأخير، إلا بشرط العزم، ولا يؤخر إلا إلى وقت يغلب على ظنه البقاء إليه. والله أعلم.

_ = الأصوليين، حتى حكى بعضهم الإجماع على ذلك. 1 هذا يعتبر مذهبًا ثالثًا، وهو: أنه يجوز التأخير بشرط سلامة العاقبة، مثل: عدم المرض، أو كبر السن وما أشبه ذلك. 2 صحيح هي مستورة، لكن لها أمارات، والأحكام العملية يكتفى فيها بغلبة الظن. وتفرع على ذلك: أنه لو تخلف ظنه وعاش بعد الوقت الذي ظن أنه لن يعيش بعده، وأدى الفرض -بعد هذا الوقت-، فهل يعتبر أداء، باعتبار الواقع، لا عبرة بهذا الظن الذي تخلف. أو يعتبر قضاء باعتبار ظنه رأيان في المسألة.

فصل: في مقدمة الواجب وحكمها

فصل: [في مقدمة الواجب وحكمها] ما لا يتم الواجب إلا به ينقسم إلى: ما ليس إلا المكلف، كالقدرة واليد في الكتابة، وحضور الإمام والعدد في الجمعة، فلا يوصف بوجوب. وإلى ما يتعلق باختيار العبد، كالطهارة للصلاة، والسعي إلى الجمعة، وغسل جزء من الرأس مع الوجه، وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم، فهو واجب. وهذا أولى من قولنا: يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب؛ إذ قولنا: "يجب ما ليس بواجب" متناقض، لكن الأصل: وجب بالإيجاب قصدًا، والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود، فهو واجب كيف ما كان، وإن اختلفت علة إيجابهما1.

_ 1 خلاصة ذلك: أنه من المباحث المتعلقة بالواجب: ما يسمى بمقدمة الواجب، أو ما لا يتم الواجب إلا به، أو ما يتوقف عليه الواجب، أو الوسيلة، وكلها تنزل على معنى واحد. ومقدمة الواجب نوعان: 1- مقدمة وجوب: وهي ما يتوقف عليها وجوب الواجب، وقد تكون سببًا كملك النصاب للزكاة، وقد تكون شرطًا كالبلوغ، فإنه شرط للتكليف، وقد تكون مانعًا، كالدين، فإنه مانع من وجوب الزكاة. وهذا النوع لا خلاف بين العلماء في عدم التكليف به، لعدم قدرة المكلف على تحصيله. 2- مقدمة وجود: وهي ما يتوقف عليها وجود الواجب وإيقاعه على صفة الكمال، كما أراد الشارع. وهي أيضًا نوعان: أ- نوع غير مقدور للمكلف، مثل: حضور الإمام والعدد المشترط لصحة صلاة الجمعة. وهذا النوع متفق على عدم التكليف به أيضًا، لعدم قدرة المكلف على تحصيله. =

فإن قيل: لو كان واجبًا لأثيب على فعله، وعوقب على تركه، وتارك الوضوء والصوم لا يعاقب على ما ترك من غسل الرأس وصوم الليل1. قلنا: ومن أنبأكم أن ثواب القريب من البيت في الحج مثل ثواب البعيد وأن الثواب لا يزيد بزيادة العمل في الوسيلة؟ وأما العقوبة: فإنه يعاقب على ترك الوضوء والصوم، ولا يتوزع على أجزاء الفعل، فلا معنى لإضافته إلى التفصيل.

_ = ب- النوع الثاني: مقدمة مقدورة للمكلف. وهي محل خلاف بين العلماء في: هل إذا أمر الشارع أمرًا مطلقًا بفعل يتوقف وجوده على شرط أو سبب، يكون أمرًا بالمقدمة، أو أنها تكون بأمر آخر؟ وقد اختار المصنف أن الأمر بالشيء الواجب يقتضي وجوب المقدمة، ولذلك قال: "فهو واجب كيفما كان". 1 اعتاد المصنف: أن يورد المذهب المخالف ضمنًا في صورة اعتراض، يدل على المذهب وعلى دليله، وهذا هو دليل المذهب الثاني الذي يرى أن الأمر بالشيء ليس أمرًا بما يتوقف عليه، سواء أكان سببًا أم شرطًا. وهناك مذهبان آخران أغفلهما المصنف: أحدهما: أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يدل على إيجاب السبب، دون الشرط، وحجة أصحاب هذا المذهب: أن ارتباط السبب بالمسبب أقوى وأشد من ارتباط الشرط بالمشروط، ولذلك يلزم من وجود السبب وجود المسبب، بخلاف الشرط، فلا يلزم من وجوده الوجود. ثانيهما: أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يستلزم إيجاب ما يتوقف عليه إن كان شرطًا شرعيًّا، أما إن كان شرطًا عقليًّا أو عاديًّا، أو سببًا فلا يقتضي ذلك، وهذا الرأي منسوب لإمام الحرمين. ومن خلال استعراض هذه المذاهب الأربعة نرى رجحان ما ذهب إليه ابن قدامة، من أن الأمر بالشيء يستلزم وجوب ما يتوقف عليه مطلقًا، سواء أكان =

فصل: في بعض الفروع المخرجة على مقدمة الواجب

فصل: [في بعض الفروع المخرجة على مقدمة الواجب] وإذا اختلطت أخته بأجنبية1، أو ميتة بمذكاة حرمتا: الميتة بعلة الموت، والأخرى بعلة الاشتباه. وقال قوم: المذكاة حلال، لكن يجب الكف عنها. وهذا متناقض2، إذ ليس الحل والحرمة وصفًا ذاتيًّا لهما، بل هو متعلق بالفعل، فإذا حرم فعل الأكل فيهما فأي معنًى لقولنا: هي حلال؟! وإنما وقع هذا في الأوهام، حيث ضاهى الوصف بالحل والحرمة الوصف بالسواد والبياض، والأوصاف الحسية، وذلك وَهْم على ما ذكرناه. والله أعلم.

_ = سببًا أم شرطًا، لأنه لا يعقل أن يكلف الشارع بشيء يتوقف وجوده على شيء آخر بدون تكليف بهذا الشيء، ما دام مقدورًا للمكلف. انظر في هذه المسألة: الإبهاج للإمام السبكي "1/ 110"، مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد "1/ 244". 1 وكذا لو اختلطت زوجته بأجنبية، حرمتا أيضًا، الأجنبية حرام، لأنها أجنبية، وحرمت زوجته لاشتباهها بالأجنبية، ولا يمكن اجتناب الأجنبية إلا باجتناب الاثنتين، ويقال مثل ذلك في الميتة والمذكاة، الميتة حرام أصلًا، والمذكاة حرام لاشتباهها بالميتة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والواجب هنا هو الكف عن أخته فلا يتزوجها، وعن الأجنبية فلا يقربها، وعن الميتة فلا يأكلها، ولا يتحقق ذلك إلا بالكف عما اختلط بالمحرم، فاجتناب ما اشتبه بالمحرم بالأصالة واجب. 2 لأنه يؤدي إلى أنهما يباحان ويحرمان في وقت واحد. وهذا الرد من "ابن قدامة" فيه مبالغة، لأن المخالفين نظروا إلى الواقع ونفس الأمر, والواقع: أن الأجنبية =

فصل: في الواجب غير المحدد

فصل: [في الواجب غير المحدد] 1 الواجب الذي لا يتقيد بحد محدود، كالطمأنينة في الركوع والسجود، ومدة القيام والعقود، إذا زاد على أقل الواجب: فالزيادة ندب، واختاره أبو الخطاب2.

_ = حلال، والمذكاة حلال، لكنهما وجب الكف عنهما -مؤقتًا- لحين التمييز بينهما، ولم يقل أحد من العلماء إن التحريم متوجه إلى الذوات، وهذا ما قاله البيضاوي -تبعًا للإمام الرازي ومختصريه- قال: "لو اشتبهت المنكوحة بالأجنبية حرمتا: على معنى أنه يجب الكف عنهما" قال الإسنوي -شرحا على ذلك-: "المراد بتحريم الأجنبية: إنما هو الكف، لا تحريم ذاتها" انظر: نهاية السول على منهاج البيضاوي جـ1 ص212 وبهامشه سلم الوصول للشيخ المطيعي. 1 هذا فرع آخر من الفروع المخرجة على ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ووجه تخريجه عليه: أن غير الواجب فيه وهو الزيادة لاحق له من آخره، ومقدمة الواجب لاحقة له من أوله. وقد بين الطوفي في شرح مختصر الروضة "1/ 348" محل الخلاف فقال: "الزيادة على الواجب إما أن تكون متميزة عنه أو لا: فإن تميزت عنه: كصلاة التطوع بالنسبة إلى المكتوبات فهي -يعني الزيادة المتميزة- ندب اتفاقًا. إذ لا نص في وجوبها ولا إجماع، ولا جامع بينها وبين الواجب حتى تقاس عليه، ولا اشتدت ملابستها للواجب حتى تلحق به، ولا مدرك لثبوت الأحكام شرعًا إلا هذه الأدلة: النص والإجماع والقياس والاستدلال. وإن لم تتميز الزيادة على الواجب ولا تنفصل حقيقتها من حقيقته حسًّا، كالزيادة في الطمأنينة..... واجبة عند القاضي أبي يعلى، ندب عند أبي الخطاب وهو الصواب". 2 محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني الحنبلي. ولد سنة 432هـ، كان أحد =

وقال القاضي1: الجميع واجب؛ لأن نسبة الكل إلى الأمر واحد، والأمر في نفسه أمر واحد، وهو أمر إيجاب، ولا يتميز البعض عن البعض، فالكل امتثال. ولنا: أن الزيادة يجوز تركها مطلقًا من غير شروط ولا بدل، وهذا هو الندب. ولأن الأمر إنما اقتضى إيجاب ما تناوله الاسم فيكون هو الواجب، والزيادة ندب، وإن كان لا يتميز بعضه عن البعض، فيعقل كونه بعضه واجبًا، وبعضه ندبًا، كما لو أدى دينارًا عن عشرين"*".

_ = أئمة المذهب وأعيانه، صنف العديد من الكتب منها "التمهيد" في أصول الفقه. توفي سنة 510هـ. انظر في ترجمته: "المنهج الأحمد 2/ 198، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص211-239". 1 محمد بن الحسين بن محمد، أبو يعلى الفراء الحنبلي، كان عالم زمانه وفريد عصره، إمامًا في الأصول والفروع. ولد سنة 380هـ. وتوفي سنة 450هـ. من مؤلفاته في الأصول "العدة" "طبقات الحنابلة 2/ 193-230". "*" الواجب العيني والواجب الكفائي. ترك المصنف تقسيمًا من تقسيمات الواجب، وهو: تقسيمه إلى واجب عيني، وواجب كفائي، فلزم إضافة هذا التقسم هنا فنقول: الواجب العيني: هو ما توجه فيه الطلب إلى كل مكلف، أي طلب الشارع فعله من كل واحد من المكلفين، فلا يكفي فيه قيام البعض دون البعض الآخر، ولا تبرأ ذمة المكلف إلا بأدائه، ومن يأثم بالترك، ولا يغني عنه فعل غيره، ولذلك سمي بفرض العين، لأن المنظور إليه في هذا الواجب: الفعل نفسه، والفاعل نفسه، مثل: فرائض الصلاة، والصيام، والوفاء بالعقود، وإعطاء كل ذي حق حقه. والواجب الكفائي: هو ما طلب الشارع حصوله من جماعة المكلفين من غير =

..........................................................................................

_ نظر إلى فاعله، لأن مقصود الشارع حصول الفعل فقط، فإذا فعله البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يفعل نهائيًّا أثم الجميع، لتعلق الطلب بالكل. فالطلب هنا منصب على إيجاد الفعل في حد ذاته لا إلى الفاعل. ومن أمثلته: الجهاد، والقضاء، وأداء الشهادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيجاد الصناعات والحرف المختلفة والعلوم التي تحتاج إليها الأمة، وإعداد القوة بأنواعها ونحو ذلك مما يحقق مصلحة الأمة. ولا خلاف بين الأصوليين في أن الواجب الكفائي يتحقق المقصود منه بفعل بعض المكلفين، وعلى أن ترك الواجب الكفائي من جميع المكلفين يستوجب تأثيم الجميع، لأنهم فوّتوا ما قصد من الفعل، وكذلك لو قام به عدد أقل ممن يسد بهم الحاجة، فالفاعلون مثابون، وغيرهم آثمون. لكنهم مختلفون في الخطاب المتعلق بهذا الفعل، هل هو موجه إلى جميع المكلفين، ويسقط بفعل البعض، أو هو موجه إلى بعض غير معين؟ فالجمهور على أنه متعلق بجميع المكلفين، بمعنى أن القادر على الفعل عليه أن يقوم بنفسه، وغير القادر يحث غيره على القيام به. وذهب بعض الأصوليين ومنهم المعتزلة إلى أن فرض الكفاية يتعلق بطائفة غير معينة، لأنه لو تعلق بالكل لما سقط إلا بفعل الكل. وتظهر ثمرة هذا الخلاف: فيمن علم بشيء من فروض الكفايات، كتغسيل ميت وتكفينه، والصلاة عليه، وشك هل هناك من قام بهذا الواجب أو لا؟ فعلى رأي الجمهور يجب عليه السعي ليتبين حقيقة الأمر، لأن الأمر متعلق به على سبيل الوجوب المحقق، ولا يسقط بالشك. أما على الرأي الثاني فلا يلزمه ذلك، لأن الخطاب لم يتوجه إليه. وقد يصير الواجب الكفائي واجبًا عينيًّا، إذا انحصر الفعل المطلوب في شخص معين أو فئة معينة، كالجهاد، فإنه يصبح فرض عين على كل قادر عليه، إذا لم يحصل بعدد محدد. ومثل ذلك: إذا شهد المكلف القادر دون غيره منكرًا، فعليه إنكاره بقدر استطاعته. =

فصل: القسم الثاني: المندوب

فصل: القسم الثاني: المندوب ... القسم الثاني: المندوب 1 والندب في اللغة: الدعاء إلى الفعل. كما قال: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا2

_ = ومثله الطبيب في مكان ناء عن المدن، ولم يوجد غيره أصبح إسعاف المريض بالنسبة له فرض عين. أيهما أفضل: فرض العين أم فرض الكفاية؟ للعلماء في هذه المسألة رأيان: الرأي الأول: أن فرض العين أفضل، لشدة اعتناء الشارع به، ولذلك طلب فعله من كل مكلف ولذلك يكره ترك فرض العين لأداء فرض الكفاية، فلا يحسن ترك الطواف المفروض لصلاة الجنازة، لأن الأول فرض عين، والثاني فرض كفاية. وهذا هو رأي الشافعية وغيرهم. الرأي الثاني: أن فرض الكفاية أفضل، لأن فاعل الكفاية ساع في صيانة الأمة كلها عن المأثم، أما فرض العين فإنه يصان به الإثم عن الفاعل فقط، ولا شك أن ما يتعلق بالأمة كلها أهم، وأولى مما يتعلق بالبعض. وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وإمام الحرمين ووالده. انظر: "التمهيد اللإسنوي، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع جـ1 ص183، الإبهاج للسبكي 1/ 100 طبعة الكليات الأزهرية، نهاية السول للإسنوي 1/ 94، الوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان ص37، الطبعة الثانية. 1 القسم الثاني: من أقسام الحكم التكليفي: المندوب. ويسمى: سنة ومستحبًّا وتطوعًا وطاعة ونفلًا وقربة ومرغبًا فيه وإحسانًا. وهي اصطلاحات مستحدثة في المذاهب، والمتفق عليه بين المتقدمين: الفرض والسنة. 2 الشاعر هو: قريط بن أنيف العنبري، والبيت من القصيدة له يهجو بها قومه، ويمدح بني مازن الذين استنقذوا إبله بعد أن تخلى عنه قومه. انظر: شرح ديوان الحماسة للتبريزي "1/ 19".

وحده في الشرع: مأمور لا يلحق بتركه ذم، من حيث تركه من غير حاجة إلى بدل1. وقيل: هو ما في فعله ثواب، ولا عقاب في تركه. والمندوب مأمور [به] . وأنكر قوم كونه مأمورًا [به] قالوا: لأن الله -سبحانه- قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} 2. والمندوب لا يحذر فيه ذلك. ولأن3 النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"4. وقد ندبهم إلى السواك، علم أن الأمر لا يتناول المندوب.

_ 1 قوله: "مأمور" جنس يتناول الواجب والمندوب، وقوله: "لا يحلق بتركه ذم...." أعم من أن يكون تركه مطلقًا أو إلى بدل، فيشمل: الواجب الموسع، والمخير، وفرض الكفاية، لأن جميعها مأمورات يجوز تركها، لكن إلى بدل، فلما قال: "من غير حاجة إلى بدل" أخرج ذلك كله وأبقى المندوب. 2 سورة النور من الآية: 63 وهي الدليل الأول للقائلين بأن المندوب غير مأمور به. 3 هذا هو الدليل الثاني للقائلين بأن المندوب غير مأمور به. 4 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب التمني "887" ومسلم: كتاب الطهارة، باب السواك "252" وأبو داود: كتاب الطهارة، باب السواك "46" والنسائي: كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 12" والترمذي حديث رقم "23" وابن ماجه "287"، والطحاوي في شرح معاني الآثار "1/ 403" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. كما رواه عن زيد بن خالد الجهني: أحمد في مسنده "4/ 114، 116"، وأبو داود "47" والترمذي "23" وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أحمد والطحاوي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. ووجه الدلالة من الحديث -كما قال أصحاب هذا المذهب-: أن السواك مندوب، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر أمته =

ولأن1 الأمر: اقتضاء جازم لا تخيير معه، وفي الندب تخيير، ولم يسم تاركه عاصيًا. ولنا2 أن الأمر: استدعاء وطلب، والمندوب مستدعًى ومطلوب، فيدخل في حقيقة الأمر. قال الله تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} 3 وقال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} 4. ومن ذلك ما هو مندوب. ولأنه6: شاع في ألسنة الفقهاء: أن الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب وأمر استحباب.

_ = بالسواك، فلا يكون المندوب مأمورًا به. وقد أجاب المصنف على ذلك كما سيأتي. 1 هذا هو الدليل الثالث وخلاصته: أن الأمر طلب فعل جازم لا تخيير فيه، وتاركه يسمى عاصيًا، لقول الله تعالى -عن موسى عليه السلام لأخيه-: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] والمعنى: عصيتني بمخالفة أمري، والمندوب على عكس ذلك، فليس فيه طلب جازم، وإنما فيه تخيير بين الفعل والترك، كما أن تاركه لا يسمى عاصيًا، فدل ذلك على أن ليس مأمورًا به. 2 من هنا سيبدأ المصنف في إيراد الأدلة على أن المندوب مأمور به. 3 سورة النحل من الآية: 90. 4 سورة لقمان من الآية: 17. 5 ومثلهما قوله تعالى في سورة الحج الآية: 77: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . ووجه الدلالة من هذه الآيات: أن من المأمور به ما هو واجب، ومنه ما هو مندوب، فمن الإحسان وإيتاء ذي القربى ما هو على سبيل الجزم، ومنه ما هو على سبيل الاستحباب والندب، وكذلك الأمر بالمعروف، وفعل الخير، فثبت بذلك: أن الأمر يطلق على المندوب، كما يطلق على الواجب، وهذا هو الدليل الأول. 6 هذا هو الدليل الثاني.

ولأن1: فعله طاعة، وليس ذلك لكونه مرادًا، إذ الأمر يفارق الإرادة، ولا لكونه موجودًا؛ فإنه موجود في غير الطاعات "أو حادثًا، أو لذاته، أو صفة نفسه؛ إذ يجري ذلك في المباحات"2. ولا لكونه مثابًا؛ فإن الممتثل يكون مطيعًا وإن لم يثب، وإنما الثواب للتراغيب في الطاعات. وقولهم3: "إن الأمر ليس فيه تخيير" ممنوع.

_ 1 هذا هو الدليل الثالث. 2 ما بين القوسين من المستصفى، والذي في الروضة "فإنه في غير الطاعات" وهي توهم أن المندوب كما يكون في الطاعات يكون غير غيرها، وهو خطأ، فالمصنف بحذفه هذه العبارات جعل المعنى مختلًا. وخلاصة هذا الدليل: أن الندب أمر وفيه طاعة، وهذه العبارة ليست باعتبار كون الأمر مرادًا، لأن الأمر يفارق الإرادة، ولا باعتبار كونه موجودًا أو حادثًا أو لذاته أو صفة نفسه، فهذا كله موجود في المباحات، ولا باعتبار كونه مثابًا عليه، فإن المأمور يعتبر مطيعًا حتى ولو لم يثب، فإن الثواب للترغيب، فقد يحبط عمله بالفكر، فثبت بذلك كله أن المندوب داخل في الأمر. انظر: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص115". 3 بدأ المصنف ينافش أدلة المخالفين. فبدأ بمناقشة الدليل الأول: وهو: "أن الطلب والتخيير متنافيان" فقال: هذا غير صحيح، لأن الطلب قد يكون جازمًا وقد يكون غير جازم. ولو سلمنا -جدلًا- بأن الطلب والتخيير متنافيان، فنقول: إن الندب ليس تخييرًا مطلقًا، بدليل أن الفعل فيه أرجح من الترك، للثواب على فعله، وعدم الثواب في تركه. ولم يسم تاركه عاصيًا، لأن الله تعالى هو الذي أسقط عنه هذا، لأن الأمر فيه ليس جازمًا. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "..... لأمرتهم بالسواك...." لا يدل على مدّعاكم، لأن المنفي في الحديث: هو الأمر على سبيل الجزم والوجوب، بدليل أنه -صلى الله عليه وسلم- ندبهم إلى هذه السنة وأمرهم بها في بعض الأحاديث الأخرى، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: =

وإن سلمنا: فالمندوب كذلك، لأن التخيير عبارة عن التسوية، فإذا ترجح جهة الفعل ارتفعت التسوية والتخيير. ولم يسم تاركه عاصيًا، لأنه اسم ذم، وقد أسقط الله -تعالى- الذم عنه، لكن يسمى مخالفًا وغير ممتثل، ويسمى فاعله موافقًا ومطيعًا. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ".... لأمرتهم بالسواك....." أي: أمرتهم أمر جزم وإيجاب. وقوله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب، ونحن نقول به، لكن يجوز صرفه إلى الندب بدليل، ولا يخرج بذلك عن كونه أمرًا، كما ذكرناه في دليلنا. والله أعلم. القسم الثالث: المباح وحدّه: ما أذن الله في فعله وتركه، غير مقترن بذم فاعله وتاركه ولا مدحه1.

_ = "تسننوا ولا تدخلوا عليّ قُلْحًا بُخْرا" [رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من حديث عبد الله بن بشر المازني. والقلح: الذي أصفرت اسنانه حتى بخرت من باطنها] . والجمع بين الحديثين يكون بحمل الأول على الندب، والحديث الذي معنا الذي نفى الأمر على الإيجاب، حتى لا يكون هناك تعارض في الأدلة الشرعية، والرد على الاستدلال بالآية الكريمة واضح. 1 هذا أحد التعريفات الشرعية للمباح، وعرفه البعض بأنه: ما اقتضى خطاب الشرع التسوية بين فعله وتركه من غير مدح يترتب عليه ولا ذم. أما معناه في اللغة: فمأخوذ من الإباحة، وهي: الإظهار، يقال: باح بسره، إذا أظهره: وقيل: مأخوذ من باحة الدار وهي ساحتها، إذ فيه معنى السعة =

وهو من الشرع1.

_ وانتفاء العائق، لأن الساحة تتسع للتصرف فيها بالسعي والحركة بحسبها، والعائق من ذلك منتف فيها. انظر: "القاموس المحيط فصل الباء، باب الحاء، شرح مختصر الروضة 1/ 386". 1 وهذا هو رأي جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك: بأن الإباحة عبارة عن خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك، فمعنى الإباحة: قول الشارع: أبحت لكم هذا، أو أنتم مخيرون في فعله وتركه، وهذا يتوقف على خطاب الشارع، فتكون الإباحة حكمًا شرعيًّا. وذهب بعض المعتزلة ومنهم الكعبي: "عبد الله بن أحمد، رأس طائفة من المعتزلة تسمى الكعبية. توفي سنة 319هـ" ذهب إلى أن الإباحة حكم عقلي، إذ إنها عبارة عن انتفاء الحرج عن المكلف، وذلك ثابت قبل ورود الشرع. وأجاب الجمهور على ذلك: بأن الإباحة عبارة عن خطاب الشارع بالتخيير، وهذا متوقف على ورود الشرع. والخلاف بين الجمهور والمعتزلة في هذه المسألة متفرع على مسألة أخرى هي: الحسن والقبح في الأشياء، هل هي شرعية أو عقلية، فلا بد من بيان ذلك. معنى الحسن والقبح: يطلق الحسن والقبح على معان ثلاثة: المعنى الأول: أن الحسن: ما يلائم الفطرة الإنسانية المائلة إلى جلب المنافع ودفع المضار. والقبح: ما ينافر الفطرة: فإنقاذ الإنسان من تهلكة حسن، وترك إنقاذه قبيح. المعنى الثاني: أن الحسن: صفة كمال يستحق فاعله المدح من العباد في الدنيا. والقبح: صفة نقص يستحق فاعله الذم من العباد في الدنيا. فالعلم حسن، والجهل قبيح. وهذان المعنيان لا خلاف بين العلماء في أنهما عقليان أي أن الفعل يستقل بإدراك ما فيهما من حسن أو قبيح من غير توقف على الشرع.

........................................................................................................

_ = المعنى الثالث: الحسن: ما يستحق فاعله المدح من الله تعالى، والثواب في الآخرة، كالصدق والتواضع، والجود. والقبح: ما يستحق فاعله الذم من الله تعالى، والعقاب في الآخرة، كالكذب والتكبر، والبخل. وهذا النوع هو الذي جرى فيه الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة والجماعة. فالمعتزلة يرون أنهما عقليان، أي أن العقل يستطيع أن يدرك ما فيهما من حسن أو قبح، وأن الوقوف على حكم الله تعالى لا يفتقر إلى ورود الشرع، لاعتقادهم وجوب مراعاة المصالح والمفاسد، وهذا أمر يدركه العقل، والشرائع تأتي مؤكدة لذلك، وأن الله تعالى عليه أن يأمر وينهى على وفق ما في الأفعال من حسن أو قبح. أما أهل السنة: فإنهم يقولون: لا يعلم ذلك إلا من جهة الشرع، إذ لا حاكم إلا الله تعالى، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح، ما قبحه الشرع، وأما العقل فلا يحسّن، ولا يقبّح، ولا يوجب ولا يحرّم. سبب الخلاف: وسبب الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة: أن المعتزلة يرون أن حسن الأشياء أو قبحها ذاتي، وأهل السنة يرون أنهما تابعان لصفات قائمة بهما. ومن المؤكد أن رأي أهل السنة: هو الأرجح، وإلا لو كان حسن الأشياء أو قبحها ذاتيًّا، لكان الصدق حسنًا في كل الأحوال، ولكان الكذب قبيحًا في كل صوره، مع أن هذا مخالف للواقع. وقد أطال العلماء في الرد على مسلك المعتزلة ومن معهم، ومن أقوى الأدلة الدالة على بطلان مذهبهم: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فإن هذا النص الكريم يقتضي نفي التعذيب بمباشرة بعض الأفعال وترك بعضها قبل بعثة الرسل، ومذهب المعتزلة يستلزم تعذيب تارك الأفعال ومباشرة بعضها قبل بعثة الرسل، لأن الحسن والقبح -على مذهبهم- يتحقق قبل البعثة، والحسن في بعض الأفعال مستلزم لكونه واجبًا، والقبح في بعضها مستلزم لكونه حرامًا، فيكون بعض الأفعال قبل البعثة واجبًا، =

وأنكر بعض المعتزلة ذلك؛ إذ معنى الإباحة: نفي الحرج عن الفعل والترك، وذلك ثابت قبل ورود السمع، فمعنى إباحة الشيء: تركه على ما كان قبل السمع. قلنا1: الأفعال ثلاثة أقسام: قسم صرح فيه الشرع بالتخيير بين فعله وتركه، فهذا خطاب، ولا معنى للحكم إلا الخطاب. وقسم لم يرد فيه خطاب بالتخيير، لكن دل دليل السمع على نفي الحرج عن فعله وتركه، فقد عرف بدليل السمع، ولولا هو لعرف بدليل العقل نفي الحرج عنه، فهذا اجتمع عليه دليل العقل والسمع. وقسم لم يتعرض الشرع له بدليل من أدلة السمع، فيحتمل أن يقال: قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا ترك، فالمكلف فيه مخير. وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من الأفعال، فلا يبقى فعل لا مدلول عليه سمعًا، فتكون إباحته من الشرع. ويحتمل أن يقال: لا حكم له، والله أعلم.

_ = وبعضها حرامًا، وترك الواجب يقتضي استحقاق العقاب، كما أن فعل الحرام يستوجب العقاب أيضًا. فيؤدي ذلك في النهاية إلى إثبات أحكام شرعية، قبل البعثة وهو مخالف لمقتضى الآية الكريمة. انظر: "بيان المختصر للأصفاني جـ1 ص287 وما بعدها". 1 بدأ المصنف يرد على المعتزلة الذين قالوا: إن الإباحة حكم عقلي، فبين أن المسألة فيها عدة احتمالات، وبعضها للعقل فيه مجال، إلا أنها في النهاية ترجع إلى الشرع، وهي -كما سبق- راجعة إلى مسألة الحسن، والقبح هل هما عقليان أو شرعيان؟

فصل: في حكم الأشياء قبل ورود الشرع

فصل: [في حكم الأشياء قبل ورود الشرع] اختلف في الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع ما حكمها1: فقال التميمي2، وأبو الخطاب، والحنفية: هي على الإباحة: إذ

_ 1 وضح الشيخ الشنقيطي محال الاتفاق ومحل الخلاف في المسألة فقال: "الأعيان المنتفع بها لها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون فيها ضرر محض، ولا نفع فيها -ألبتة- كأكل الأعشاب السامة القاتلة. الحالة الثانية: أن يكون فيها نفع محض، ولا ضرر فيها أصلًا. الحالة الثالثة: أن يكون فيها نفع من جهة، وضرر من جهة أخرى. فإن كان فيها ضرر محض، ولا نفع فيها، أو كان ضررها أرجح من نفعها أو مساويا له، فهي حرام؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار" وإن كان نفعها خالصًا لا ضرر معه، أو معه ضرر خفيف، والنفع أرجح منه فأرجح الأقوال الجواز، وقد أشار المصنف إلى هذا التفصيل بقوله: "المنتفع بها" فمفهومه: أن ما لا نفع فيه لا يدخل في كلامه" انتهى ببعض تصرف. "مذكرة أصول الفقه ص20". وهذه المسألة مفرعة على مسألة: الحسن والقبح العقليين. وللعلماء فيها مذاهب كثيرة منها: ما رجحه المصنف، وهي أنها مباحة مطلقًا، وقيل: إنها على الحظر حتى يأتي الشرع بالإباحة، ومنهم من توقف في الجزم برأي معين. يراجع في ذلك: المستصفى "1/ 63"، والإحكام للآمدي "1/ 91". 2 هو: عبد العزيز بن حارث بن أسد، أبو الحسن التميمي، المولود سنة 317هـ. صحب أبا القاسم الخرقي وأبا بكر بن عبد العزيز، كان من أعيان علماء الحنابلة، له مؤلفات في الأصول والفروع. توفي سنة 371هـ. انظر: "طبقات الحنابلة جـ2 ص139، المنهج الأحمد جـ2 ص66".

قد علم انتفاعنا بها من غير ضرر علينا، ولا على غيرنا، فليكن مباحًا. ولأن الله -سبحانه- خلق هذه الأعيان لحكمة لا محالة، ولا يجوز أن يكون ذلك لنفع يرجع إليه، فثبت أنه لنفعنا. وقال ابن حامد1، والقاضي2، وبعض المعتزلة: هي على الحظر؛ لأن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح، والله -سبحانه- المالك ولم يأذن3. ولأنه4 يحتمل أن في ذلك ضررًا، فالإقدام عليه خطر5.

_ 1 هو: الحسن بن حامد بن علي بن مروان، إمام الحنابلة في عصره ومعلمهم ومفتيهم. من مؤلفاته: "الجامع" في الفقه وكتاب في أصول الفقه. توفي سنة 403هـ. انظر: "طبقات الحنابلة جـ2 ص171، شذرات الذهب جـ3 ص166". 2 تقدمت ترجمته قريبًا. 3 هذا هو الدليل الأول للقائلين بالحظر: قياس تصرف العبد في ملك الله -تعالى- على التصرف في ملك العباد، وهو ما يسميه الأصوليون: قياس أحكام الله تعالى على أحكام الخلق فيما بينهم، ونظم القياس هكذا: الواحد منا لا يجوز له أكل طعام غيره أو شرب شرابه، أو ركوب دابته، أو لبس ثوبه بغير إذنه، فكذلك أحكام الله تعالى، لا يجوز لنا التصرف فيها أن الحكم عليها بدون إذنه سبحانه. 4 هذا هو الدليل الثاني للقائلين بالحظر، وتقريره: أن الإقدام على هذا الانتفاع خطر، أي مخاطرة بالنفس، فالإمساك عنه أحوط لها في العقل. أما أنه خطر، فلأن بتقدير الحل في نفس الأمر أمَنَةً من العذاب، وبتقدير التحريم تكون معرضة له، فهذا وجه المخاطرة، وهو: ركوب أمر يلحق فيه الضرر على بعض الاحتمالات. وأما أن الإمساك عن الانتفاع المذكور يكون أحوط، فهو من القضايا الضرورية عقلًا وشرعًا وعرفًا. "شرح مختصر الروضة جـ1 ص395". 5 في الأصل "حظر" وصححناه من شرح مختصر الروضة.

وقال أبو الحسن الجزري1، وطائفة من الواقفية2: لا حكم لها؛ إذ معنى الحكم: الخطاب، ولا خطاب قبل ورود السمع. والعقل لا يبيح شيئا ولا يحرمه، وإنما هو معرف للترجيح والاستواء، وقبح التصرف في ملك الغير إنما يعلم بتحريم الشارع ونهيه. ولو حكمت فيه العادة [لقضت بأنه] إنما يقبح في حق من يتضرر بالتصرف في ملكه، بل يقبح المنع مما لا ضرر فيه، كالظل وضوء النار. وهذا القول هو اللائق بالمذهب، إذ العقل لا دخل له في الحظر والإباحة، على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى- وإنما تثبت الأحكام بالسمع. وقد دل السمع على الإباحة على العموم بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 3.

_ 1 هو: أحمد بن نصر بن محمد، أبو الحسن الجزري -نسبة إلى جزيرة ابن عمر بالعراق- من قدماء الحنابلة، ومن المبرزين في المناظرة، والجدل والأصول والفروع. توفي سنة 380هـ "طبقات الحنابلة 2/ 167". 2 هم الذين يقفون في المسائل المختلف فيها، ولا يجزمون فيها برأي معين، والتوقف له معنيان، أو سببان: إما لعدم الدليل أصلًا، وإما لتعارض الإدلة. 3 سورة البقرة من الآية: 29 وقد بين الشيخ "ابن بدران" وجه الاستدلال بالآية الكريمة فقال: "وجه الاستدلال: أنه سبحانه وتعالى أخبرهم -في معرض الامتنان عليهم وتذكيرهم النعمة- أنه خلق لهم ما في الأرض وسخره لهم، واللام للاختصاص أو الملك، إذا صادفت قابلًا له، والخلق قابلون للملك، وهو في الحقيقة: تخصيص من الله -سبحانه- لهم بانتفاعهم به؛ إذ لا مالك -على الحقيقة- إلا الله -سبحانه وتعالى- فاقتضى ذلك: أنهم متى اجتمعوا وما خلق لهم وسخر لهم في الوجود ملكوه، وإذا ملكوه جاز انتفاعهم به؛ إذ فائدة الملك: جواز الانتفاع". "نزهة الخطر جـ1 ص19".

وبقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِش} الآية1. وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 2. وبقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية3. ونحو ذلك. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "...... وما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه" 4 وقوله: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا: من سأل عن شيء لم

_ 1 سورة الأعراف من الآية: 33. 2 سورة الأنعام من الآية: 151. 3 سورة الأنعام من الآية: 145. ووجه الاستدلال بالآيات الثلاث: أن الله -تعالى- حصر المحرمات فيما ذكر فيها، فدل ذلك على أن غير المذكورات في الآيات على الإباحة. 4 رواه الترمذي في سننه حديث رقم "1726" وابن ماجه في سننه رقم "3367" والحاكم في المستدرك "4/ 115"، والبيهقي "9/ 320" عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال: ما أحل الله في كتابه، والحرام: ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه". والفراء: جمع "الفرا" بفتح: حمار الوحش. وقيل: جمع "الفرو" الذي يلبس. ويشهد لهذا القول: ما فعله الترمذي؛ فإنه ذكر في باب لبس الفرو وإنما سألوه عنه حذرًا من صنيع الكفر من اتخاذ الفرو من جلود الميتة غير مدبوغة. وفي سند الحديث مقال، حيث ضعف المحدثون أحد رواته وهو: "سيف بن هارون". قال الترمذي: وكأن الموقوف أصح. ومع ذلك فللحديث: ما يؤيده ويقويه من أحاديث أخرى تؤدي نفس المعنى، =

يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته"1. وفائدة الخلاف: أن من حرم شيئًا أو أباحه كفاه فيه استصحاب حال الأصل.

_ = منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تعالى- فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" انظر: "مجمع الزوائد 7/ 75". 1 حديث صحيح رواه البخاري: كتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ومسلم في الفضائل، وأبو داود في السنة، ووجه الدلالة من الحديث ظاهر.

فصل: هل المباح مأمور به

فصل: [هل المباح مأمور به] المباح غير مأمور به، لأن الأمر: استدعاء وطلب، والمباح مأذون فيه ومطلق له، غير مستدعى ولا مطلوب. وتسميته مأمورًا تجوّز2.

_ = منها قوله -صلى الله عليه وسلم-"إن الله -تعالى- فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" انظر: "مجمع الزوائد 7/ 75". 1 حديث صحيح رواه البخاري: كتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ومسلم في الفضائل، وأبو داود في السنة، ووجه الدلالة من الحديث ظاهر. 2 الخلاف في هذه المسألة بين علماء الأصول وبين عبد الله بن أحمد الكعبي من المعتزلة. فالجمهور يرون أن المباح غير مأمور به، لأن الأمر استدعاء وطلب والمباح ليس كذلك. بيانه أن الأمر يستلزم ترجيح إيجاد الفعل ولا ترجيح في المباح. وقوله: "وتسميته مأمورًا تجوز" جواب عن سؤال مقدر هو: كيف يكون غير مأمور به، وهو يسمى مأمورًا؟ فأجاب المصنف: أن هذا من قبيل الأمر المجازي لا الحقيقي. وذهب الكعبي إلى أن المباح مأمور به، محتجًّا: بأن المباح ترك الحرام، وترك الحرام واجب، فيكون المباح واجبًا. وأجاب المصنف على ذلك: بأن المباح يستلزم ترك الحرام ويحصل به، لا أن المباح هو ترك الحرام بعينه، وإلا فترك الحرام كما يحصل بالمباح يحصل بالواجب والمندوب إلى آخر التصورات التي ذكرها المصنف.

فإن قيل: ترك الحرام مأمور به، والسكوت المباح يترك به الكفر، والكذب الحرام، فيكون مأمورًا به. قلنا: فليكن المباح واجبًا إذًا، وقد يترك الحرام إلى المندوب فليكن واجبًا. وقد يترك الحرام بحرام آخر, فليكن الشيء حرامًا واجبًا، ولتكن الصلاة حرامًا إذا تحرّم بها من عليه الزكاة، وهذا باطل. فإن قيل: فهل الإباحة تكليف؟ قلنا: من قال التكليف: الأمر والنهي، فليست الإباحة كذلك. ومن قال: التكليف: ما كلف اعتقاد كونه من الشرع، فهذا كذلك. وهذا ضعيف؛ إذ يلزم عليه جميع الأحكام1. القسم الرابع: المكروه وهو: ما تركه خير من فعله2. وقد يطلق ذلك على المحظور3.

_ 1 خلاصة ذلك راجع إلى معنى "التكليف" فمن قال هو: طلب ما فيها كلفة ومشقة -وهم الجمهور- قال: المباح غير داخل فيه هو اعتقاد كونه مباحًا، قال: هو داخل في التكليف، وهو ضعيف كما قال المصنف. 2 اعترض بعض العلماء على هذا التعريف بأنه يتناول المحرم، لأن تركه خير من فعله، ولذلك أضافوا إلى التعريف قيدًا يخرج الحرام وهو: "من غير ذم". 3 وقد ورد في آيات القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} إلى أن قال سبحانه {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الآيات: 31-38 من سورة الإسراء] . =

وقد يطلق على ما نهي عنه نهي تنزيه1، فلا يتعلق بفعله عقاب. فصل: والأمر المطلق لا يتناول المكروه2؛ لأن الأمر: استدعاء وطلب، والمكروه غير مستدعى ولا مطلوب. ولأن الأمر ضد النهي، فيستحيل أن يكون الشيء مأمورًا ومنهيًّا. وإذا قلنا: إن المباح ليس مأمورًا، فالمنهي عنه أولى.

_ = كما أنه وارد في لغة الفقهاء: يقول الإمام الخرقي: "ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة" أي: يحرم. 1 الجمهور على أن المكروه قسم واحد: أما الحنفية فقسّموه إلى قسمين: أ- المكروه كراهة تحريم: وهو: ما نهى عنه الشرع نهيًا جازمًا بدليل ظني، كأخبار الآحاد والقياس. ومثلوا له بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" رواه مسلم وابن ماجه. وهو حديث آحاد، فهو ظني الثبوت. فالفارق -عندهم- بين الحرام والمكروه تحريمًا: أن الحرام ثابت بدليل قطعي، والمكروه ثابت بدليل ظني، وهو أقرب إلى الحرام، حتى عده بعضهم من الحرام، وإن كان لا يكفر جاحده. ب- المكروه تنزيهًا: وهو: ما طلب الشارع الكف عنه طلبًا غير جازم، وهو المقابل للمندوب، مثل: نهي الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أن يشبك الشخص بين أصابعه في المسجد. روى أبو داود وأحمد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبك بين أصابعه" انظر: نيل الأوطار "2/ 373". 2 وهو مذهب جمهور العلماء، وذهب بعض الحنفية، وبعض المالكية وبعض الحنابلة إلى أنه يتناوله.

فصل: القسم الخامس: الحرام

فصل: القسم الخامس: الحرام الحرام ضد الواجب1: فيستحيل أن يكون الشيء الواحد واجبًا حرامًا، طاعة معصية من وجه واحد، إلا أن الواحد بالجنس ينقسم إلى: واحد بالنوع، وإلى واحد بالعين، أي بالعدد. والواحد بالنوع يجوز أن ينقسم إلى واجب وحرام، ويكون انقسامه بالإضافة، لأن اختلاف الإضافات والصفات توجب المغايرة، والمغايرة

_ = وقد استدل المصنف لمذهب الجمهور: بأن تعريف الأمر لا يتناول المكروه، كما أن الأمر ضد النهي، فلو دخل المكروه في الأمر لكان جمعًا بين الضدين، وإذا كان الراجح في المباح أنه غير مأمور به، فكون المكروه غير مأمور به أولى. وتوضيح ذلك: أن المأمور به إذا كان بعض جزيئاته منهيًا عنه، نهي تنزيه أو تحريم، فلا يدخل المنهي عنه في المأمور به -كما يقول الجمهور- خلافًا لمن ذهب إلى دخوله فيه. ومن أمثلة ذلك: تحية المسجد، فهي سنة ومأمور بها، فلو دخل المصلي في وقت الكراهة، هل يصلي تحية المسجد أو لا؟ للفقهاء في ذلك خلاف مبني على هذه المسألة. هذا ما أفهمه في هذه المسألة، وإلا فلا يعقل أن يكون الشيء مأمورًا به ومنهيًّا عنه في وقت واحد، وبصفة واحدة، ولذلك قال المصنف: "فيستحيل أن يكون الشيء مأمورًا ومنهيًّا". 1 يعني: أنه تقدم في تعريف الواجب أنه: "ما توعد بالعقاب على تركه" أو "ما يعاقب تاركه" أو "ما يذم تاركه شرعًا" فإذا كان الحرام ضد الواجب فيكون تعريفه "ما توعد بالعقاب على فعله"، أو "ما يعاقب فاعله" أو "ما يذم فاعله شرعًا" وإن شئت قلت: ما طلب الشارع تركه جازمًا. هذا هو معناه شرعًا أما في اللغة: فهو الممنوع. قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْل....} [القصص: 12] مأخوذ من الحرمة، وهو: ما لا يحل انتهاكه.

تارة تكون بالنوع، وتارة تكون باختلاف في الوصف، كالسجود لله -تعالى- واجب، والسجود للصنم حرام، والسجود لله -تعالى- غير السجود للصنم. قال الله -تعالى- {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنّ} 2. والإجماع منعقد على أن الساجد للصنم عاص، بنفس السجود والقصد جميعًا، والساجد لله مطيع بهما جميعًا. وأما الواحد بالعين: كالصلاة في الدار المغصوبة من عمرو، فحركته في الدار واحد بعينه. واختلفت الرواية في صحتها: فروي أنها لا تصح، إذ يؤدي إلى أن تكون العين الواحدة من الأفعال حرامًا واجبًا، وهو متناقص؛ فإن فعله في الدار وهو: "الكون في الدار، وركوعه وسجوده وقيامه وقعوده" وأفعال اختيارية هو معاقب عليها، منهي عنها، فكيف يكون متقربًا بما هو معاقب عليه، مطيعًا بما هو عاص به؟! وروي أن الصلاة تصح؛ لأن هذا الفعل الواحد له وجهان متغايران، هو مطلوب من أحدهما، مكروه من الآخر، فليس ذلك محالًا، إنما المحال: أن يكون مطلوبًا من الوجه الذي يكره منه. ففعله من حيث إنه صلاة مطلوب. مكروه من حيث إنه غصب.

_ 1 سورة فصلت من الآية: 37.

والصلاة معقولة بدون الغصب، والغصب معقول بدون الصلاة1، وقد اجتمع الوجهان المتغايران. فنظيره: أن يقول السيد لعبده: خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار، فإن امتثلت أعتقتك، وإن ارتكبت النهي عاقبتك، فخاط الثواب في الدار، حسن من السيد عتقه وعقوبته. ولو رمى سهمًا إلى كافر فمرق منه إلى مسلم لاستحق سَلَب الكافر2، ولزمته دية المسلم؛ لتضمن الفعل الواحد أمرين مختلفين. ومن اختار الرواية الأولى3 قال: ارتكاب النهي متى أخل بشرط العبادة أفسدها بالإجماع، كما لو نهى المحدث عن الصلاة، فخالف وصلى، ونية التقرب بالصلاة شرط، والتقرب بالمعصية محال، فكيف يمكن التقرب به، وقيامه وقعوده في الدار فعل هو عاص به، فكيف يكون متقربًا بما هو عاص به؟! وهذا محال. وقد غلط من زعم أن في هذه المسألة إجماعًا4؛ لأن السلف لم

_ 1 أي يمكن وجود أحدهما بدون الآخر، كمن صلى ولم يغصب، أو غصب ولم يصل. 2 سلب الكافر: ما على القتيل من ثياب وحلى وسلاح وإن كثر، وفي دخول الدابة وآلتها في السلب روايتان. وكون السلب للقاتل ثابت بأحاديث صحيحة، منها ما رواه البخاري عن أبي قتادة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قتل قتيلًا فله سلبه ... " قالها ثلاثًا في حديث طويل رواه البخاري في باب من لم يخمس الأسلاب حديث رقم "3142" والمغازي رقم "4321". 3 وهي عدم صحة الصلاة في الدار المغصوبة. 4 حكى المصنف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة مذهبين: أحدهما: أنها صحيحة، وثانيهما: أنهما غير صحيحة. وفيها مذهب مروي عن أبي بكر الباقلاني وغيره: أنها غير صحيحة، ولكن يسقط بها الفرض. =

يكونوا يأمرون من تاب من الظلمة بقضاء الصلوات في أماكن الغصب، إن هذا جهل بحقيقة الإجماع، فإن حقيقته: الاتفاق من علماء أهل العصر، وعدم النقل عنهم ليس بنقل الاتفاق. ولو نقل عنهم أنهم سكتوا فيحتاج إلى أنه اشتهر فيما بينهم كلهم: القول بنفي وجوب القضاء فلم ينكروه. فيكون -حينئذ- فيه اختلاف هل هو إجماع أم لا؟ على ما سنذكره في موضعه.

_ قال الطوفي -عن هذا الرأي-: "وهذا مسلك ظاهر الضعف، لأن سقوط الفرض بدون أدائه شرعًا غير معهود، بل لو منع الإجماع المذكور لكان أيسر عليه، فإنه يبعد على الخصم أن يثبت أن ظالمًا في زمن السلف صلى في مكان مغصوب وعلم به أهل الإجماع، فضلًا عن أن يثبت ذلك في جميع الظلمة أو أكثرهم، ولو سلّم ذلك، لكن لا نسلم أنهم أقروا الظلمة على ذلك ولم يأمروهم بالإعادة، ولا يلزم من عدم نقل ذلك عدم وجوده، لجواز أن الأمر بالإعادة وجود لم ينقل، لاستيلاء الظلمة وسطوتهم، أو كون الحكم ليس من الأمور العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقل الإنكار فيه" "شرح مختصر الروضة جـ1 ص363". والصلاة في الدار المغصوبة مثال جاء به المصنف تطبيقًا على مسألة: أن الشيء الواحد يستحيل أن يكون واجبًا حرامًا في وقت واحد. وقد وضح الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- كلام المصنف فقال: "إيضاح معنى كلامه- رحمه الله- أن الوحدة ثلاثة أقسام: أ- وحدة بالجنس. ب- وحدة بالنوع. جـ- وحدة بالعين. أما الوحدة بالجنس أو النوع: فلا مانع من كون بعض أفراد الواحد بهما =

.................................................................

_ = حرامًا وبعضها حلالًا، بخلاف الوحدة بالعين فلا يمكن أن يكون فيها بعض الأفراد حرامًا وبعضها حلالًا. مثال الوحدة بالجنس: وحدة البعير والخنزير، لأنهما يشملهما جنس واحد هو "الحيوان" فكلاهما حيوان، فهما متحدان جنسًا، ولا إشكال في حرمة الخنزير وإباحة البعير. ومثال الوحدة بالنوع: السجود: فإنه نوع واحد، فالسجود لله والسجود للصنم يدخلان في نوع واحد هو: اسم السجود، ولا إشكال في أن السجود للصنم كفر، ولله قربة. كما قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . ومثال الوحدة بالعين: عند المؤلف -رحمه الله-: الصلاة في الدار المغصوبة، فلا يمكن عنده أن يكون بعض أفرادها حرامًا، وبعضها مباحًا. وإيضاح مراده أن المصلي في الدار المغصوبة إذا قام إلى الصلاة شغل بجسمه الفراغ الذي هو كائن فيه، وشغله الفراغ المملوك لغيره بجسمه تعدّيًا غصب، فهو حرام. فهذا الركن الذي هو القيام غصب فهو حرام، فإذا ركع شغل الفراغ الذي هو كائن فيه في ركوعه، وإذا سجد شغل الفراغ الذي هو كائن فيه في سجوده وهكذا. وشغل الفراغ المملوك لغيره تعديًا غصب، فلا يمكن أن يكون قربة، لامتناع كون الواحد بالعين واجبًا حرامًا، قربة معصية؛ لاستحالة اجتماع الضدين في شيء واحد، من جهة واحدة، فليزم بطلان الصلاة المذكورة. ومنع هذا القائلون بصحة الصلاة في الأرض المغصوبة وهم الجمهور. قالوا: الصلاة في الأرض المغصوبة فعل له جهتان، والواحد بالشخص يكون له جهتان: هو طاعة من إحداهما، ومعصية من إحداهما، فالصلاة في الأرض المغصوبة -من حيث هي صلاة- قربة، ومن حيث هي غصب معصية، فله صلاته وعليه غصبه. فيقول من قال ببطلانها: الصلاة في المكان المغصوب ليست من أمرنا، فهي رد، للحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" فيقول خصمه، الصلاة في نفسها من أمرنا، فليست برد، وإنما الغصب هو الذي ليس =

فصل: في أقسام النهي

فصل: [في أقسام النهي] مصححو الصلاة في الدار المغصوبة قسموا النهي ثلاثة أقسام: الأول: ما يرجع إلى ذات المنهي عنه، فيضاد وجوبه، كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى....} 1. وإلى ما لا يرجع إلى ذات المنهي عنه، فلا يضاد وجوبه، مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ} 2 مع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلبسوا الحرير" 3. ولم يتعرض في النهي للصلاة، فإذا صلى في ثوب حرير أتى بالمطلوب والمكروه4 جميعًا. القسم الثالث: أن يعود النهي إلى المنهي عنه دون أصله، كقوله -تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} 5 مع قوله -تعالى-: {لاََ

_ من أمرنا فهو رد" "مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص22-23" ط. دار القلم، بيروت. 1 سورة الإسراء من الآية: 23. 2 سورة الإسراء من الآية: 78. 3 حديث صحيح رواه البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في كتاب اللباس، باب: لبس الحرير "4/ 83" ومسلم: كتاب اللبس "4/ 140" بلفظ: "ولا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" كما رواه النسائي والترمذي وأحمد. 4 استعمل المصنف كلمة "المكروه" وقصده "المحرم" وهو وارد فقد جاء في القرآن الكريم إطلاق لفظ "المكروه" على بعض المقطوع بحرمتها، قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} إلى أن قال سبحانه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} اقرأ الآيات 31-38 من سورة الإسراء. 5 سورة البقرة الآيات: 43، 110 وفي سورة الأنعام {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاة وَاتَّقُوهُ

تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيل} 1 وقوله -عليه السلام-: "دعي الصلاة أيام أقرائك" 2، ونهيه عن الصلاة في المقبرة3، وقارعة الطريق، والأماكن السبعة4. ونهيه عنها في الأوقات الخمسة5.

_ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [72] . 1 سورة النساء من الآية: 34. 2 هذا جزء من حديث ورد في قصة فاطمة بنت حبيش بنت جحش، وحمنة بنت جحش، بألفاظ مختلفة: فرواه أبو داود: كتاب الطهارة باب: في المرأة المستحاضة، وأحمد في المسند "6/ 322" عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها استفتت النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت أبي حبيش فقال لها: "تدع الصلاة قدر أقرائها، ثم تغتسل وتصلي" وفي الموطأ والبخاري: " إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي". وللحديث روايات أخرى كثيرة. يراجع: "الموطأ 1/ 61، فتح الباري 1/ 409، جامع الأصول 7/ 360-368". 3 روى مسلم في صحيحه "97-972" عن أبي مرثد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". 4 عن ابن عمر، -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبع مواطن لا تجوز فيها الصلاة: ظهر بيت الله، والمقبرة والمزبلة، والمجزرة، والحمام، وعطن الإبل، ومحجة الطريق" حديث صحيح رواه الترمذي: أبواب الصلاة، باب: ما جاء في كراهية ما يصلي إليه وفيه، وابن ماجه: كتاب الطهارة، باب: المواضع التي تكره فيها الصلاة. والمراد ببيت الله: الكعبة المشرفة لإخلاله بالتعظيم وعدم احترامها بالاستعلاء عليها، والمزبلة: محل الزبل، ومثله كل نجاسة متيقنة. وعطن الإبل، المكان الذي تنحّى فيه ليشرب غيرها، ومحجة الطريق: وسطه "فيض القدير 4/ 88". 5 صحت الأحاديث الدالة على النهي في الأوقات الخمسة، ومنها: الحديث الذي =

فأبو حنيفة يسمي المأتي به على هذا الوجه فاسدا وغير باطل1. وعندنا: أن هذا من القسم الأول1، وهو قول الشافعي، فإن المكروه الصلاة في زمن الحيض3، لا الوقوع في الحيض مع بقاء الصلاة مطلوبة، إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن الإيقاع، ولذلك بطلت الصلاة في هذه المواضع كلها4.

_ = رواه البخاري ومسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس". وعن عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب" رواه مسلم. انظر: صحيح البخاري "1/ 352"، صحيح مسلم "1/ 567" الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل للمؤلف جـ1 ص122 ط. المكتب الإسلامي. 1 حيث يفرق الحنفية بين الفاسد والباطل فيقول: الفاسد: ما كان الخلل فيه راجعًا إلى وصف من أوصاف الفعل، أما الباطل: فما كان الخلل فيه راجعًا إلى أصل الفعل. انظر: أصول السرخسي ج1 ص80. 2 وهو: النهي الذي يرجع إلى ذات المنهي عنه. 3 يقصد بالمكروه هنا -المحرم- كما تقدم. وإلا فالصلاة في زمن الحيض حرام. 4 وضح الشيخ "الشنقيطي" ما أراده المصنف من هذا الفصل فقال: "اعلم أن حاصل كلام أهل الأصول في هذه المسألة: أن المنهي عنه إما أن تكون جهة النهي فيه منفردة، أعني: أنه لم تكن له جهة أخرى مأمور به منها، كالشرك بالله، والزنا، فإن النهي عنهما لم يخالطه أمر من جهة أخرى، وهذا النوع واضح لا إشكال في أنه باطل على كل حال. وإما أن يكون له جهتان: جهة مأمور به منها، وجهة منهي عنه منها، وهم يقولون في مثل هذا: إن انفكت جهة الأمر عن جهة النهي فالفعل صحيح، وإن لم تنفك عنها فالفعل باطل. لكنهم عند التطبيق يختلفون: فيقول الحنبلي: الصلاة في الأرض المغصوبة منهي عنها من جهة الغصب، =

فصل: الأمر بالشيء نهي عن ضده

فصل: [الأمر بالشيء نهي عن ضده] الأمر بالشيء نهي عن ضده من حيث المعنى، فأما الصيغة فلا؛ فإن قوله "قم" غير قوله لا "تقعد".

_ = مأمور بها من جهة الصلاة، إلا أن الجهة هنا غير منفكة، لأن نفس الحركة في أركان الصلاة عين شغل الفراغ المملوك لغيره تعديًا، وذلك عين الغصب، فأفعال الصلاة لا تنفك عن كونها غصبًا، والصلاة يشترط فيها نية التقرب، وتلك الأفعال التي هي شغل الفراغ المملوك لغيره غصب لا يمكن فيها نية التقرب، إذ لا يمكن أن يكون متقربًا بما هو عاص به. أما إذا انفكت الجهة فالفعل صحيح، كالصلاة بالحرير، فإن الجهة منفكة، لأن لبس الحرير منهي عنه مطلقًا، في الصلاة وغيرها، فالمصلي بالحرير صلاته صحيحة وعليه إثم لبسه الحرير. فيقول المالكي والشافعي -مثلًا-: لا فرق -ألبتة- بين الصلاة في المكان المغصوب وبين الصلاة بالحرير، فالغصب -أيضًا- حرام في الصلاة وفي غيرها، فصلاته صحيحة وعليه إثم غصبه. ويقول المالكي -مثلًا- مثال الجهة غير المنفكة: صوم العيد أو الفطر؛ لأن الصائم فيهما معرض عن ضيافة الله؛ لأن الصوم إمساك، وهذا الإمساك هو بعينه الإعراض عن ضيافة الله، لأن الإعراض عنهما هو: الامتناع عن الأكل والشرب، فلا يمكن انفكاك الجهة. فيقول الحنفي: الجهة منفكة أيضًا، لأن الصوم -من حيث إنه صوم- قربة، ومن حيث كونه في العيد منهي عنه، فالجهة منفكة ولذا: لو نذر أحد أن يصوم يوم العيد فنذره عنده صحيح منعقد، ويلزمه صيام يوم آخر غير يوم العيد بناء على انفكاك الجهة عنده. وقول المؤلف -رحمه الله- في هذا المبحث: "قسموا النهي إلى ثلاثة أقسام" إيضاح معناه: أن المنهي عنه: إما أن يكون المنهي عنه لذاته، أو لوصفه القائم به، أو لخارج عنه، زاد بعض المحققين قسمًا رابعًا: وهو أن المنهي عنه لخارج =

وإنما النظر في المعنى وهو: أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود1؟

_ = عنه قد تكون فيه جهة النهي غير منفكة عن جهة الأمر، وقد تكون منفكة عنها، فتكون الأقسام أربعة: مثال المنهي عنه لذاته: الشرك بالله والزنا. ومثال المنهي عنه لوصفه القائم به: الخمر بالنسبة إلى الإسكار. ومثل له المؤلف بالصلاة في حالة السكر، لأنها منهي عنها لوصف السكر القائم بالمصلي. ومثال المنهي عنه لخارج غير لازم: الصلاة بالحرير. ومثال المنهي عنه لخارج لازم: -عند المؤلف- الصلاة في المكان المغصوب، والنهي يقتضي البطلان في ثلاثة منها وهي: ما نهي عنه لذاته، أو لوصفه القائم به، أو الخارج عنه له لزومًا غير منفك. أما الرابع: فلا يقتضي البطلان، وهو ما كان النهي عنه لخارج غير لازم راجع: مذكرة أصول الفقه ص24-25. 1 وضح الشيخ الشنقيطي كلام المصنف في هذا الفصل فقال: "اعلم أن كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده فيه ثلاثة مذاهب: الأول: أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده وهذا قول جمهور المتكلمين، قالوا: أسكن مثلًا، السكون المأمور به فيه، هو عين ترك الحركة، فهو إذًا عين النهي عن الحركة أيضًا، فالأمر بالسكون هو النهي عن الحركة، قالوا وشغل الجسم فراغًا هو عين تفريغه للفراغ الذي انتقل عنه، والبعد من المغرب هو عين القرب من المشرق، وهو بالإضافة إلى المشرق قرب إلى المغرب بعد، قالوا ومثل ذلك طلب السكون فهو بالنسبة إليه أمر، وإلى الحركة نهي، والذين قالوا بهذا القول اشترطوا في الأمر كون المأمور به معينًا وكونه وقته مضيقًا ولم يذكر ذلك المؤلف، أما إذا كان غير معين كالأمر بواحد من خصال الكفارة فلا يكون نهيًا عن ضده، فلا يكون في آية الكفارة نهي عن ضد الإعتاق، مثلًا لجواز ترك الإعتاق من أصله والتلبس بضده والتكفير بالإطعام مثلًا، =

......................................................................................................

_ = وذلك بالنظر إلى ما صدقه، أي فرده المعين كما مثلنا لا بالنظر إلى مفهومه وهو الأحد الدائر بين تلك الأشياء. فإن الأمر حينئذ نهي عن ضد الأحد الدائر، وضده هو ما عدا تلك الأشياء المخير بينها، وكذلك الوقت الموسع فلا يكون الأمر بالصلاة في أول الوقت نهيًا على التلبس بضدها في ذلك الوقت، بل يجوز التلبس بضدها في أول الوقت وتأخيرها إلى وسطه أو آخره بحكم توسيع الوقت. ثم قال: الذي يظهر -والله أعلم- أن قول المتكلمين ومن وافقهم من الأصوليين أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، مبني على زعمهم الفاسد أن الأمر قسمان: نفسي ولفظي. وأن الأمر النفسي، هو المعنى القائم بالذات المجرد عن الصيغة، وبقطعهم النظر عن الصيغة، واعتبارهم الكلام النفسي، زعموا أن الأمر هو عين النهي عن الضد، مع أن متعلق الأمر طلب، ومتعلق النهي ترك، والطلب استدعاء أمر موجود، والنهي استدعاء ترك، فليس استدعاء شيء موجود، وبهذا يظهر أن الأمر ليس عين النهي عن الضد، وأنه لا يمكن القول بذلك إلا على زعم أن الأمر هو الخطاب النفسي القائم بالذات المجرد عن الصيغة، ويوضح ذلك اشتراطهم في كون الأمر نهيًا عن الضد أن يكون الأمر نفسيًا يعنون الخطاب النفسي المجرد عن الصيغة، وجزم ببناء هذه المسألة على الكلام النفسي صاحب الضياء اللامع وغيره، وقد أشار المؤلف إلى هذا بقوله من حيث المعنى، وأما الصيغة فلا، ولم ينتبه، لأن هذا من المسائل التي فيها النار تحت الرماد، لأن أصل هذا الكلام مبني على زعم باطل وهو أن كلام الله مجرد المعنى القائم بالذات المجرد عن الحروف والألفاظ، لأن هذا القول الباطل يقتضي أن ألفاظ كلمات القرآن بحروفها لم يتكلم بها رب السموات والأرض، وبطلان ذلك واضح وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاح في مباحث القرآن ومباحث الأمر. المذهب الثاني: أن الأمر بالشيء ليس عين النهي عن ضده، ولكنه يستلزمه، وهذا هو أظهر الأقوال: لأن قولك أسكن مثلًا يستلزم نهيك عن الحركة لأن المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده لاستحالة اجتماع الضدين وما لا يتم =

فقالت المعتزلة: ليس بنهي عن ضده، لا بمعنى أنه عينه ولا يتضمنه ولا يلازمه؛ إذ يتصور أن يأمر بالشيء من هو ذاهل عن ضده، فكيف يكون طالبا لما هو ذاهل عنه، فإن لم يكن ذاهلا عنه فلا يكون طالبًا له إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل المأمور به إلا بترك ضده، فيكون تركه ذريعة بحكم الضرورة، لا بحكم ارتباط الطلب به، حتى لو تصور -مثلًا- الجمع بين الضدين ففعل، كان ممتثلًا، فيكون من قبيل: ما لا يتم الواجب إلا به واجب، غير مأمور به. وقال قوم: فعل الضد: هو عين ترك ضده الآخر، فالسكون عين ترك الحركة، وشغل الجوهر حيزا عين تفريغه للحيز المنتقل عنه، والبعد من المغرب هو: عين القرب من المشرق وهو بالإضافة إلى المشرق قرب، وإلى المغرب بعد. فإذًا: طلب السكون بالإضافة إليه أمر، وإلى الحركة نهي. وفي الجملة: إنا لا نعتبر في الأمر الإرادة1، بل المأمور: ما اقتضى الأمر امتثاله.

_ = الواجب إلا به واجب كما تقدم، وعلى هذا القول أكثر أصحاب مالك، وإليه رجع الباقلاني في آخر مصفاته وكان يقول بالأول. المذهب الثالث: أنه ليس عينه ولا يتضمنه، وهو قول المعتزلة والأبياري من المالكية، وإمام الحرمين والغزالي من الشافعية، واستدل من قال بهذا بأن الآمر يجوز أن يكون وقت الأمر ذاهلًا عن ضده، وإذا كان ذاهلًا عنه فليس ناهيًا عنه إذ لا يتصور النهي عن الشيء مع عدم خطوره بالبال أصلًا، ويجاب عن هذا بأن الكف عن الضد لازم لأمره لزومًا لا ينفك، إذ لا يصح امتثال الأمر بحال إلا مع الكف عن ضده، فالأمر مستلزم ضرورة للنهي عن ضده لاستحالة اجتماع الضدين قالوا ولا تشترط إرادة الآمر كما أشار إليه المؤلف رحمه الله. "مذكرة أصول الفقه ص26-27". 1 علق الشيخ "الشنقيطي" على هذا بقوله: "قولهم هنا: "ولا تشترط إرادة الآمر". =

والأمر يقتضي ترك الضد؛ ضرورة أنه لا يتحقق الامتثال إلا به، فيكون مأمورا به، والله أعلم. فهذه أقسام أحكام التكليف1. ولنبين -الآن- التكليف، ما هو شروطه.

_ = غلط؛ لأن المراد بعدم اشترط الإرادة في الأمر: إرادة الآمر وقوع المأمور به، أما إرادته لنفس اقتضاء الطلب المعبر عنه الأمر، فلا بد منها على كل حال، وهي محل النزاع هنا. ومن المسائل التي تنبني على الاختلاف في هذه المسألة: قول الرجل لامرأته: إن خالفت نهيي فأنت طالق، ثم قال لها: قومي فقعدت، فعلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فقوله "قومي" هو عين النهي عن القعود، فيكون قعودها مخالفة لنهيه المعبر عنه بصيغة الأمر، فتطلق، وعلى أنه مستلزم له فيتفرع على الخلاف المشهور في لازم القول، هل هو أو لا، وعلى أنه ليس عين النهي عن الضد ولا مستلزمًا له، فإنها لا تطلق" مذكرة أصول الفقه ص28. 1 ذكره بعض العلماء قسمًا سادسًا سموه: مرتبة العفو ومعناها: أن الله -تعالى- لا يعذب عليها؛ لأنه قد عفا عن فاعلها، ولا يحاسبه عما فعل، ولا يمكن أن يطلق على هذه المرتبة اسم "المباح". والأصل في هذه المرتبة: ما رواه الحاكم وابن جرير والدراقطني من حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله فرض فرائض فلا يضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" حديث حسن كما قال النووي في أربعينه. =

..........................................................

_ = ويشمل ذلك: 1- ما كان عليه أهل الجاهلية، حيث كانوا يستبيحون ما لم يبحه الإسلام -بعد ذلك- كالتزوج بأزواج الآباء، وجمعهم بين الأختين، وقد جاءت آيات القرآن الكريم بتحريم ذلك، والإشارة إلى أن الله تعالى قد عفا عما سلف. يقول الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [سورة النساء الآية: 22] . ويقول -جل شأنه-: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَف} [سورة النساء الآية: 23] . 2- ومنه -أيضًا- ما تركه الإسلام في أول ظهوره من غير نص قاطع بالتحريم، ثم نزل النص القاطع بتحريمه، كما جاء في "الخمر والميسر". ولذلك ختمت الآيات الواردة في سورة المائدة بالتحريم النهائي في شأنهما، ختمت بها يفيد أن الله تعالى قد عفا عما مضى، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة المائدة الآيات 90-93] . ومن هذا القبيل: ما جاء في موضوع تحريم الربا قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] . 3- ومن هذا القبيل: عدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان والإكراه، فإن هذه الأمور لا تندرج تحت "المباح" بحيث يستوي فيها الفعل والترك، بل هي من مرتبة العفو التي تفضل المولى -سبحانه- بعدم المؤاخذة عليها. وهذا ما جاء واضحًا في قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وراه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب: المكره 1/ 659، والدارقطني في السنن 4/ 170، والبيهقي في سننه، كتاب الخلع، =

فصل: في معنى التكليف وشروطه

فصل: [في معنى التكليف وشروطه] التكليف في اللغة: إلزام ما فيه كلفة. أي: مشقة1. قالت الخنساء2 في صخر3: يكلفه القوم ما نابهم4 ... وإن كان أصغرهم مولدًا5

_ = باب: طلاق المكره 7/ 357، والحاكم في المستدرك، كتاب الطلاق 2/ 198. 4- ومنه: من ارتكب شيئًا ثبت تحريمه، ولكنه يجهل التحريم لعذر، كمن يتزوج امرأة محرمة عليه وهو لا يعلم، كأن تكون أخته من الرضاعة، وهو لا يعلم بذلك، فإذا تبين الإنسان ذلك بعد الزواج فرّق بينهما دون مؤاخذة، فلا حد عليهما. 1 جاء في القاموس المحيط "3/ 198": "والتكليف: الأمر بما يشق، وتكلفه: تجشمه". 2 هي: تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد، من بني سليم، من أهل نجد، أشهر شواعر العرب، وأشهرهن على الإطلاق، عاشت في الجاهلية، وأدركت الإسلام فأسلمت، ووفدت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قومها، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستنشدها ويعجبه شعرها، توفيت سنة 24هـ. "الشعر والشعراء لابن قتيبة ص213، أسد الغابة 7/ 88". 3 هو: صخر بن عمرو بن الحارث، قتل يوم كلاب، وقيل: يوم ذي الأثل، طعنه ربيعة بن ثعلبة الأسدي، وكان من فرسان العرب وشجعانهم. فلما قتل رثته أخته "الخنساء" بقصيدة طويلة مطلعها: أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندا 4 في ديوان الخنساء ص31 "ما عالهم". 5 انظر: ديوان الخنساء 31 ط. الأندلس.

وهو في الشريعة: الخطاب بأمر أو نهي1. وله شروط بعضها يرجع إلى المكلف، وبعضها يرجع إلى نفس المكلف به. أما ما يرجع إلى المكلف: فهو أن يكون عاقلا يفهم الخطاب2. فأما الصبي والمجنون: فغير مكلفين؛ لأن مقتضى التكليف: الطاعة والامتثال: ولا تمكن إلا بقصد الامتثال، وشرط القصد: العلم بالمقصود، والفهم للتكليف إذ من لا يفهم كيف يقال له افهم؟ "ومن لا يسمع الصوت كالجماد كيف يكلم؟ وإن سمع ولم يفهم كالبهيمة، فهو كمن لا يسمع"3. ومن يفهم فهما ما "لكنه لا يفهم ولا يثبت كالمجنون وغير المميز"4 فخطابه ممكن، لكن اقتضاء الامتثال منه -مع أنه لا يصح منه قصد صحيح- غير ممكن. ووجوب الزكاة5 والغرامات في مال الصبي

_ 1 اعترض على هذا التعريف بأنه لا يشمل المباح، فليس فيه أمر ولا نهي. وأجيب: بأنه ألحق بالأحكام التكليفية من قبيل التغليب، فأطلق عليه اسم التكليف تجوزًا، وقيل: إن المباح يجب اعتقاد إباحته، فهو داخل تحت الحكم التكليفي. 2 المصنف جمع بين العقل وفهم الخطاب، لأن الإنسان قد يكون عاقلًا ولا يفهم الخطاب كالصبي الناسي والسكران والمغمى عليه، فإنهم في حكم العقلاء من بعض الوجوه وهم لا يفهون. 3 ما بين القوسين من المستصفى ص"101" طبعة الجندي وهي في الأصل: "ومن لا يسمع لا يقال له: تكلم، وإن سمع ولم يفهم كالبهيمة فهو كمن لا يسمع". 4 ما بين القوسين من المستصفى ص"101" وهي في الأصل: "ومن لا يفهم فهمًا ما كغير المميز" وفيها نقص واضح. 5 هذا دفع لاعتراض قد يرد مفاده: إذا كان الصبي والمجنون غير مكلفين فكيف =

والمجنون ليس تكليفًا لهما، إذ يستحيل التكليف بفعل الغير1. وإنما معناه: أن الائتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمتهما، بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في الحال، وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ، وهذا ممكن، إنما المحال أن يقال لمن لا يفهم: افهم. وإنما أهلية ثبوت الأحكام في الذمة بالإنسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به يفهم التكليف في ثاني الحال. والبهيمة ليس لها أهلية فهم الخطاب، لا بالقوة ولا بالفعل، فلم يتهيأ ثبوت الحكم في ذمتها. والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكن الحصول على القرب فنقول: هو موجود بالقوة. كما أن شرط الملكية: الإنسانية، وشرط الإنسانية الحياة، والنطفة يثبت لها الملك مع عدم الحياة التي هي شرط الإنسانية؛ لوجودها بالقوة. فكذا الصبي مصيره إلى العقل، فصلح لثبوت الحكم في ذمته ولم يصلح للتكليف في الحال. فأما الصبي المميز: فتكليفه ممكن؛ لأنه يفهم ذلك، إلا أن الشرع حط التكليف عنه تخفيفا "لأن العقل خفي، وإنما يظهر فيه على التدريج"2 إذ لا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي يفهم به خطاب

_ = نوجب عليهما دفع الزكاة، وضمان المتلفات. فأجاب المصنف: بأن ذلك من قبيل خطاب الوضع، لوجود سببه، وليس من قبيل خطاب التكليف، والحكم الوضعي يتعلق بالمكلف وغيره. 1 لفظ "الغير" من المستصفى ص"101". 2 ما بين القوسين من المستصفى ص"102" وهي في الأصل: "ليظهر خفي التدريج" وفيها تحريف ظاهر.

الشارع، ويعلم الرسول والمرسِل، فنصب له علامة ظاهرة. وقد روي أنه مكلف1.

_ 1 وهناك رواية ثالثة -عن الإمام أحمد- أنه مكلف بالصلاة إذا بلغ عشرًا لكونه يعاقب على تركها، كما في الحديث: "..... واضربوهم عليها لعشر...." والواجب: ما عوقب على تركه. قال المصنف في الكافي "1/ 94": "والمذهب الأول" أي لا تجب على الصبي حتي يبلغ؛ للحديث ولأن الطفل لا يعقل.

فصل: في عدم تكليف الناسي والنائم والسكران

فصل: [في عدم تكليف الناسي والنائم والسكران] والناسي والنائم غير مكلف؛ فكيف يقال له: افهم؟ وكذا السكران الذي لا يعقل1.

_ 1 وهو الذي يسميه الفقهاء: السكران الطافح، وهو الذي لا يعقل شيئًا، وهذا رأي كثير من العلماء، منهم: الإمام أحمد. والرواية الثانية عنه: أنه مكلف ما دام قد استعمل المسكر مختارًا غير مكره، عالمًا بأنه يسكر، وهو مذهب الحنفية والشافعي وكثير من أهل العلم، لأنه ليس بمرفوع عنه القلم. حكى الإمام أحمد عن الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنهما- أنه كان يقول: وجدت السكران ليس بمرفوع عنه القلم. "القواعد والفوائد الأصولية ص37". ونص عليه في الأم "5/ 25". وقد روي عن الإمامين: الشافعي وأحمد -رضي الله عنهما- في حكم السكران أقوال كثيرة أخرى: فقيل: إنه كالمجنون، وقيل: إنه كالمجنون في أقواله وكالصاحي في أفعاله، وقيل: إنه في الحدود كالصاحي، وفي غيرها كالمجنون، وقيل: إنه فيما يستقل به -كالقتل والعتق ونحوهما- كالصاحي، وفيما لا يستقل به: كبيعه وشرائه ومعاوضاته كالمجنون. وقيل: التوقف في طلاقه وعتقه، أما بيعه وشراؤه فينفذ. وقيل: جميع تصرفاته تنفذ ما عدا الردة. وقال بعض المالكية: إن السكر يذهب بالإرادة والقدرة فتبطل جميع تصرفاته. =

وثبوت أحكام أفعالهم: من الغرامات، ونفوذ طلاق السكران، من قبيل ربط الأحكام بالأسباب، وذلك مما لا ينكر. فأما قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 1 فقد قيل: هذا كان في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر، والمراد منه: المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة، كيلا يأتي عليه وقت الصلاة وهو سكران، كما يقال: لا تقرب التهجد وأنت شبعان. معناه لا تشبع فيثقل عليك التهجد. وقال الله -تعالى-: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} 2. أي: الزموا الإسلام ولا تفارقوه، حتى إذا جاءكم الموت أتاكم وأنتم مسلمون. وقيل: هو خطاب لمن وجد منه مبادىء النشاط والطرب ولم يزل عقله؛ لأنه إذا ظهر بالبرهان استحالة توجه الخطاب: وجب تأويل الآية.

_ = ولا خلاف بين العلماء في وجوب قضاء ما فاته من العبادات، وضمان المتلفات، لأنها من قبيل خطاب الوضع وقد وجد سببها. وينبغي أن يكون معلومًا أن الخلاف في التكليف وعدمه: إنما هو في أداء الواجب، لا في الوجوب نفسه، وإلا فالناسي والنائم يجب عليهما قضاء الصلاة بعد التذكر واليقظة للحديث المشهور: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها". راجع في هذه المسألة: "القواعد والفوائد الأصولية ص37 وما بعدها، المسودة ص35، شرح الكوكب المنير جـ1 ص505 وما بعدها، كشف الأسرار 4/ 353، فواتح الرحموت 1/ 145، المستصفى ص102. 1 سورة النساء من الآية: 43. 2 سورة آل عمران من الآية: 102.

فصل: في حكم تكليف المكره

فصل: [في حكم تكليف المكره] فأما المكره1: فيدخل تحت التكليف؛ لأنه يفهم ويسمع ويقدر على تحقيق ما أُمر به وتركه.

_ 1 عادة المصنف عدم تحرير محل النزاع، وهذا قد يوقع القارئ في خطأ نتيجة لهذا التعميم. وقد قسم العلماء الإكراه إلى قسمين: أ- إكراه ملجئ: وهو الذي لا تبقى للمكلف معه قدرة ولا اختيار، كمن حلف ألا يدخل دار فلان. فقهره من هو أقوى منه، وكبّله بالحديد، وحمله قهرًا حتى أدخله الدار. ومثل ذلك غير مكلف باتفاق العلماء؛ إذ لا قدرة له على خلاف ما أكره عليه. ب- إكراه غير ملجئ: بحيث يبقى للإنسان قدرة واختيار على الفعل أو الترك -كما قال المصنف- كما إذا أكره الإنسان على شيء يكرهه ولا يرضاه، كما لو أمر الحاكم شخصًا بقتل إنسان ما، وإلا قتلناك، فهذا هو محل الخلاف وللعلماء في ذلك مذهبان -كما قال المصنف-. وجزم المصنف -في هذا النوع- بأنه مكلف فيه نظر: فقد فرّق العلماء بين الإكراه في حق الغير، والإكراه في حق النفس، فالذي يكره على قتل إنسان مسلم لا يجوز له قتله، وإن أدى ذلك إلى قتله هو. إما الإكراه في حق النفس، فالظاهر من الأيات والأحاديث أن الإكراه عذر يسقط التكليف، وهو ما يفيده قول الله تعالى: { ... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان ... } [النحل: 106] ويؤيد ذلك: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد روي بطرق متعددة: فقد رواه ابن حبان وصححه، والحاكم في المستدرك: كتاب الطلاق، باب: ثلاث جدهن جد وهزلهن جد 2/ 198، وحسّنه النووي في الأربعين النووية: باب التجاوز عن المخطئ والناسي والمكره، حديث رقم "39" ص58. ولا يطعن فيه ما نقله عبد الله بن أحمد عن أبيه أنه أنكر الحديث جدًّا، كما لا =

وقالت المعتزلة: ذلك محال؛ لأنه لا يصح منه فعل غير ما أكره عليه، ولا يبقى له خيرة. وهذا غير صحيح؛ فإنه قادر على الفعل وتركه، ولهذا يجب عليه ترك القتل إذا أكره على قتل مسلم، ويأثم بفعله. ويجوز أن يكلف ما هو على وفق الإكراه، كإكراه الكافر على الإسلام، وتارك الصلاة على فعلها، فإذا فعلها قيل: أدى ما كلف، لكن إنما تكون منه طاعة إذا كان الانبعاث بباعث الأمر، دون باعث الإكراه. فإن كان إقدامه للخلاص من سيف المكرِه لم تكن طاعة، ولا يكون مجيبا داعي الشرع. وإن كان يفعلها ممتثلًا لأمرالشارع، بحيث كان يفعلها لولا الإكراه فلا يمتنع وقوعها طاعة. وإن وجدت صورة التخويف.

_ = يطعن فيه نقل الخلال عنه أنه قال: "من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة" وقد جمع العلماء بين ما قاله الإمام وبين غيره: بأن المراد من رفع الخطأ والنسيان: رفع المؤاخذة بهما: لا رفع حكمهما، وإلا كيف يؤاخذ الناسي والمخطئ وقد قال الله -تعالى- في ختام سورة البقرة {.. رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وقد جاء في حديث مسلم حول هذه الآية "قال الله نعم" أي: أجبت دعاءكم "تفسير ابن كثير جـ1 ص324". قال الشيخ الشنقيطي: "والحديث وإن أعله أحمد وابن أبي حاتم، فقد تلقاه العلماء بالقبول، وله شواهد ثابتة في الكتاب والسنة" مذكرة أصول الفقه ص33.

فصل: في حكم تكليف الكفار بفروع الإسلام

فصل: [في حكم تكليف الكفار بفروع الإسلام] واختلفت الرواية1: هل الكفار مخاطبون بفروع الإسلام؟

_ أي عن الإمام أحمد. وهذه المسألة متفرعة عن قاعدة أصولية هي: هل حصول الشرط الشرعي شرط في صحة التكليف أو لا؟ ومعنى هذا: أنه هل يشترط الإسلام للتكليف بالعبادات ونحوها: أو أن الكفار يعتبرون مكلفين بها حتى ولو لم يدخلوا في الإسلام. ويتحرر محل النزاع فيما يأتي: أولًا- لا خلاف بين العلماء في أن الكفار مخاطبون بأصول العقيدة: من الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الأخر، حتى نقل القاضي أبو بكر الباقلاني الإجماع على ذلك، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم} أول سورة الحج: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "...... وبعثت إلى الناس كافة" حديث صحيح رواه البخاري ومسلم والنسائي. "الفتح الكبير ج1 ص199". ثانيًا- لا خلاف -أيضًا- أنهم مخاطبون بالعقوبات الشرعية، فتقام عليهم إذا وجدت أسبابها، وكذلك المعاملات المالية، لأنها أمور دنيوية. وقد وضح الإمام ابن السبكي محل الخلاف في المسألة فقال: "أطبق المسلمون على أن الكفار بأصول الشرائع مخاطبون، وباعتبارها مطالبون، ولا اعتداد بخلاف مبتدع يشبب بأن العلم بالعقائد يقع اضطرارًا فلا يكلف به، وأجمعت الأمة -كما نقله القاضي أبو بكر- على تكليفهم بتصديق الرسل، وبترك تكذيبهم وقتلهم وقتالهم، ولم يقل أحد إن التكليف بذلك متوقف على معرفة الله تعالى". ثم بعد أن نقل آراء العلماء في المسألة حرر محل الخلاف فقال: "..... وكشف الغطاء في ذلك أن الخطاب على قسمين: خطاب تكليف وخطاب وضع: =

فروي أنهم لا يخاطبون منها بغير النواهي؛ إذ لا معنى لوجوبها مع استحالة فعلها في الكفر، وانتفاء قضائها في الإسلام، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله؟ وهذا قول أكثر أصحاب الرأي1.

_ = فخطاب التكليف بالأمر والنهي هو محل الخلاف، وليس كل تكليف أيضًا، بل ما لم نعلم اختصاصه بالمؤمنين أو ببعض المؤمنين، وإنما المراد العامة التي شملهم لفظًا، هل يكون الكفر مانعًا من تعلقها بهم أو لا؟. وأما خطاب الوضع: فمنه ما يكون سببًا لأمر أو نهي، مثل كون الطلاق سببًا لتحريم الزوجة قال والدي -رحمه الله-: فهذا من محل الخلاف أيضًا". ثم قال: "ومن خطاب الوضع: كون إتلافهم وجناياتهم سببًا في الضمان، وهذا ثابت في حقهم إجماعًا، بل ثبوته في حقهم أولى من ثبوته في حق الصبي، وكون وقوع العقد على الأوضاع الشرعية سببًا في البيع والنكاح وغيرهما فهذا لا نزاع فيه، وفي ترتب الأحكام الشرعية عليه في حقهم كما في المسلم، وكذا كون الطلاق سببًا للفرقة، فإن الفرقة ثبتت إذا قلنا بصحة أنكحتهم. ومن هذا القبيل: الإرث والملك به، ولولا ذلك لما شاع بيعهم لمواريثهم وما يشترونه، ولا معاملتهم، وكذا صحة أنكحتهم إذا صدرت على الأوضاع الشرعية، والخلاف في ذلك لا وجه له". وقال: "ومن خطاب الوضع: ثبوت المال في ذمتهم في الديون والكفارات عند حصول أسبابها، ولا نزاع في ثبوت ذلك في حقهم، كما ثبت في حق المسلمين، وكذا تعلق الحقوق التي يطالبون بدائها بأموالهم مثل: تعلق أروش الجنايات برقاب الجناة ... ". ثم قال: "ومن خطاب الوضع: كون الزنا سببًا لوجوب الحد وذلك ثابت في حقهم، ولذلك رجم النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهوديين. وهو ثابت في الصحيحين "اللؤلؤ والمرجان 2/ 188" انظر: الإبهاج للسبكي جـ1 ص176-177 طبعة الكليات الأزهرية، والبحر المحيط للزركشي جـ1 ص410 طبعة الكويت. 1 قول المصنف: "إن هذا هو قول أكثر أصحاب الرأي" فيه نظر، فالمشهور عن =

وروي أنهم مخاطبون بها، وهو قول الشافعي1؛ لأنه جائز عقلًا وقد قام دليله شرعًا2.

_ = أكثر الحنفية: أنهم ليسوا بمكلفين مطلقًا، ولا أدري من أين نقل المصنف ذلك، وهذا المذهب، وإن قال به بعض العلماء، إلا أنه غريب وشاذ، قال الزركشي في البحر المحيط "1/ 402": "ولعله انقلب مما قبله، ويرده: الإجماع السابق على تكليفهم بالنواهي: ويقصد بقوله: "انقلب مما قبله" أن القائل به اختلط عليه مذهب القائلين بأنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر فعكس المسألة. انظر: "كشف الأسرار 1/ 128، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص325" ولذلك لم يذكره الطوفي في المختصر ولا في الشرح. 1 وعنه وعن الإمام أحمد -رضي الله عنهما- رواية ثانية: أنهم غير مكلفين، وهو المنقول عن أكثر الحنفية، واختاره أبو حامد الإسفراييني، والإمام فخر الدين الرازي, انظر: العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 13" وفي المسألة عدة مذاهب أخرى لم يتعرض لها المصنف: فقيل: هم مكلفون بالنواهي دون الأوامر، حتى نقل بعض العلماء إخراج هذا من محل الخلاف، وأن تكليفهم بالنواهي متفق عليه. وقيل: إن المرتد هو المكلف فقط، دون الكافر الأصلي. وقيل: إنهم مكلفون بما عدا الجهاد، حكاه القرافي عن بعض العلماء ولم ينسبه. وقيل: إن المكلف غير الحربي، أما الحربي فليس بمكلف. وقيل: بالتوقف. ولكل مذهب من هذه المذاهب أدلته، وعليها مناقشات كثيرة تراجع في مظانها. انظر: "فواتح الرحموت 1/ 154، تيسير التحرير 2/ 248، أصول السرخسي 2/ 341، البحر المحيط 1/ 402 وما بعدها". 2 فالمصنف بذلك قد اختار هذا المذهب واستدل على صحته بالعقل والنقل كما سيأتي توضيحه.

أما الجواز العقلي: فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع: بني الإسلام على خمس، وأنتم مأمورون بجميعها، وبتقديم الشهادتين من جملتها، فتكون الشهادتان مأمورا بهما لنفسهما، ولكونهما شرطا لغيرهما، كالمحدث يؤمر بالصلاة1. فإن منع مانع الحكم في المحدث وقال: إنما يؤمر بالوضوء، فإذا توضأ أمر بالصلاة؛ إذ لايتصور الأمر بالصلاة مع الحدث؛ لعجزه عن الامتثال. قلنا: فإذًا لو ترك الصلاة طول عمره لا يعاقب على تركها، وهو خلاف الإجماع2. وينبغي أن لا يصح أمره بالصلاة بعد الوضوء. بل بالتكبيرة الأولى، لاشتراط تقديمها3.

_ 1 أي: يؤمر بالصلاة وبما لا تصح الصلاة إلا به، كالطهارة، فإن: ما لا يتم الواجب إلا به واجب. 2 عبارة البلبل المطبوع "والإجماع على خلافه" ومعنى العبارة: أن الإجماع منعقد على خلاف أنه لا يعاقب إلا على ترك الوضوء، بل يعاقب على جميع الصلوات الفائتة طول عمره، وذلك يدل على أنه مكلف بها. 3 هذا تفريع على ما تقدم ومعناه: أن المحدث لو توضأ وترك الصلاة، يلزم أن لا يعاقب إلا على تكبيرة الإحرام، لاشتراط تقديمها. هذا معنى كلامه -رحمه الله تعالى-. قال "الطوفي" -معترضًا على هذا الإلزام-: "وهو إلزام غير جيد، لأن التكبيرة جزء الصلاة، وليست حقيقة مستقلة عنها، كالوضوء، اللهم إلا أن ينزِّلوا أجزاءها منزلة الحقائق المستقلة، مؤاخذة بما اقتضاه لفظ الخصم من اشتراط التقديم، وجزء الشيء يتقدمه، ويتوقف الشيء عليه. وبالجملة: هذا تدقيق ليس وراءه تحقيق، إنما هو من باب: إعنات الخصم". شرح مختصر الروضة "1/ 207-208".

وأما الدليل الشرعي: فعموم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... } 1 وإخبار الله -سبحانه- عن المشركين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين} 2. ذكر هذا في معرض التصديق لهم تحذيرًا من فعلهم، ولو كان كذبا لم يحصل التحذير منه، كيف وقد عطف عليه {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} 3 كيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه. وقال الله- تعالى-: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَر ... } الآية. لأنه نص في مضاعفة العذاب في حق من جمع بين المحظورات.

_ 1 سورة آل عمران من الآية: 97. 2 سورة المدثر الآيتان: 42، 43. 3 سورة المدثر الآية: 46. 4 سورة الفرقان الآيتان: 68، 69. ووجه الدلالة من ذلك: أن الله -تعالى- رتب الوعيد على مجموع ترك الأصل وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... } والفرع، وهو قوله تعالى: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُون} فكانت الفروع جزءًا من سبب الوعيد، وذلك يستلزم أنهم مكلفون بها. يضاف إلى ما أورده المصنف من الآيات: آيات أخرى صريحة ونص في محل النزاع خاصة بخطاب أهل الكتاب والمشركين، تحثهم على طاعة الله تعالى، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، مثل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة} إلى أن قول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاة} [سورة البينة: 1-5] . وقال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاة} [فصلت: 6، 7] قال القرطبي: "وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره مع منع وجوب الزكاة عليه". =

وفائدة الوجوب1: أنه لو مات عوقب على تركه، وإن أسلم سقط عنه؛ لأن الإسلام يَجُبّ ما قبله. ولا يبعد النسخ قبل التمكن من الامتثال، فكيف يبعد سقوط الوجوب بالإسلام3؟.

_ = ومن الأدلة الصريحة في مضاعفة العذاب: قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] . 1 هذا بيان لثمرة تكليف الكفار بفروع الإسلام. وقد ذكر العلماء ثمارًا أخرى منها: أنه إذا علم بمضاعفة العذاب فوق عذاب الكفر بادر بفعلها، طلبًا للتخفيف، فإنه من الثابت أن أهل النار متفاوتون في المنازل والدركات، بحسب أعمالهم، كما أن أهل الجنة متفاوتون في المنازل والدرجات. انظر: "شرح المختصر الطوفي جـ1 ص213-214". 2 وهو معنى ما جاء في صحيح مسلم: باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الحج والعمرة، في حديث طويل عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- ".... فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: أبسط يمينك فلأُبايعْك فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي. قال: "ما لك يا عمرو؟ " قلت: أردت أن أشترط. قال: "تشترط بماذا؟ " قلت: أن يغفر لي. قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله ... " الحديث. 3 معنى هذه الفقرة: أن الذين يقولون بعدم تكليفهم قالوا: كيف تقولون: أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام، مع أنه لا يجب قضاؤها عليهم؟. فأجاب المصنف: أن هذا مبني على مسألة أخرى هي: هل القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول؟ فإن قلنا: بأمر جديد سقط الاعتراض، لأن الإسلام أسقط عنهم القضاء، فليس هناك أمر جديد بالأداء. وإن قلنا: إنه بالأمر، فيكون القضاء قد سقط عنهم بدليل آخر ناسخ للمتقدم، وهو الحديث، وليس ببعيد أن يرد النسخ قبل التمكن من الفعل، =

فصل: شروط الفعل المكلف به

فصل: [شروط الفعل المكلف به] فأما الشروط المعتبرة للفعل المكلف به فثلاثة: أحدهما: أن يكون معلومًا للمأمور به، حتى يتصور قصده إليه، وأن يكون معلومًا كونه مأمورًا به من جهة الله -تعالى- حتى يتصور منه قصد الطاعة والامتثال. وهذا يختص بما يجب به قصد الطاعة والتقرب1.

_ = الدليل موجود وهو حديث "الإسلام يهدم ما كان قبله" أي: يقطع ما قبله من أحكام الكفر. 1 إيضاح معنى هذا الشرط: أن الفعل المكلف به يشترط في صحة التكليف به شرعًا أن يكون المكلف يعلمه، فيشترط لتكليفه بالصلاة علمه بحقيقة كيفية الصلاة لأن التكليف بالمجهول من تكليف ما لا يطاق، إذ لو قيل للمكلف افعل ما أضمره في نفسي أنك تفعله وإلا عاقبتك، فقد كلف بفعل ما لا طاقة له به لأن اهتداءه إلى الفعل المطلوب من غير علم ليس في طاقته كما هو واضح. واعلم أن الأحكام الشرعية قسمان: قسم منها تعبدي محض، وقسم معقول المعنى. فالتعبدي كالصلاة والزكاة والصوم، فيشترط في التكليف به العلم بحقيقة الفعل المكلف به كما بينا، ويزاد على ذلك العلم بأنه مأمور به من الله تعالى، إذ لا بد له من نية التقرب به إلى الله تعالى ونية التقرب إليه عز وجل لا تمكن إلا بعد معرفة أن الأمر المتقرب به إليه أمر منه جل وعلا، وأما معقول المعنى فلا يشترط في صحة فعله نية التقرب ولكن لا أجر له فيه البتة إلا بنية التقرب إلى الله تعالى. ومثال ذلك رد الأمانة، والمغصوب وقضاء الدين، والإنفاق على الزوجة. فمن قضى دينه وأدى الأمانة ورد المغصوب مثلًا لا يقصد بشيء من ذلك وجه الله بل لخوفه من عقوبة السلطان مثلًا ففعله صحيح دون النية وتسقط عنه المطالبة فلا يلزمه الحق في الآخرة بدعوى أن قضاءه في الدنيا غير صحيح لعدم نية التقرب بل القضاء صحيح والمطالبة ساقطة على كل حال ولكن لا أجر له إلا بنية التقرب، وهذا هو مراد المؤلف بقوله وهذا يختص بما يجب به قصد الطاعة والتقرب.

الثاني: أن يكون معدومًا، أما الموجود: فلا يمكن إيجاده، فيستحيل الأمر به1. الثالث: أن يكون ممكنًا، فإن كان محالًا، كالجمع بين الضدين ونحوه لم يجز الأمر به2.

_ 1 إيضاح معنى هذا الشرط: أنه يشترط في المطلوب المكلف به أن يكون الفعل المطلوب معدومًا، فالصلاة والصوم المأمور بهما وقت الطلب لا بد أن يكونا غير موجودين، والمكلف ملزم بإيجادهما على الوجه المطلوب، أما الموجود الحاصل فلا يصح التكليف به كما لو كان صلى ظهر هذا اليوم بعينه صلاة تامة من كل جهاتها، فلا يمكن أمره بإيجاد تلك الصلاة بعينها التي أداها على أكمل وجه لأن الأمر بتحصيلها معناه أنها غير حاصلة والفرض أنها حاصلة فيكون تناقضًا، ومن هنا قالوا تحصيل الحاصل محال لأن السعي في تحصيله معناه أنه غير حاصل بالفعل وكونه حاصلًا بالفعل ينافي ذلك فصار المعنى هو غير حاصل هو حاصل. وهذا تناقض واجتماع النقيضين مستحيل. "مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص35". 2 هذا الشرط مرتبط بمسألة أخرى هي: التكليف بما لا يطاق، أو التكليف بالمحال، وفيها تفصيل لأهل الأصول لم يتعرض له المصنف، وقد وضحه الشيخ "الشنقيطي" فقال: "اعلم أن حاصل تحقيق المقام في هذه المسألة عند أهل الأصول أن البحث فيها من جهتين: الأولى: من جهة الجواز العقلي، أي هل يجوز عقلًا أن يكلف الله عبده بما لا يطيقه أو يمتنع ذلك عقلًا. الثانية: هل يمكن ذلك شرعًا أو لا، أن أكثر الأصوليين على جواز التكليف عقلًا بما لا يطاق، قالوا وحكمته ابتلاء الإنسان، هل يتوجه إلى الامتثال ويتأسف على عدم القدرة ويضمر أنه لو قدر لفعل، فيكون مطيعًا لله بقدر طاقته، أو لا يفعل ذلك فيكون في حكم العاصي. ومنهم من يقول لا يلزم ظهور الحكمة في أفعال الله لأنهم يزعمون أن أفعاله لا تعلل بالأغراض والحكم =

.....................................................

_ = وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح إبطال ذلك في الكلام على علة القياس، وأكثر المعتزلة وبعض أهل السنة منعوا التكليف بما لا يطاق عقلًا، قالوا لأن الله يشرع الأحكام لحكم ومصالح، والتكليف بما لا يطاق لا فائدة فيه فهو محال عقلًا، أما بالنسبة إلى الإمكان الشرعي ففي المسألة التفصيل المشار إليه آنفًا وهو أن المستحيل أقسام. فالمستحيل عقلًا قسمان: قسم مستحيل لذاته كوجود شريك لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وكاجتماع النقيضين والضدين في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة. ويسمى هذا القسم المستحيل الذاتي، وإيضاحه أن العقل إما أن يقبل وجود الشيء فقط، أي ولا يقبل عدمه، أو يقبل عدمه فقط ولا يقبل وجوده أو يقبلهما معًا، فإن قبل وجوده فقط ولم يقبل عدمه بحال فهو الواجب الذاتي المعروف بواجب الوجود، كذات الله جل وعلا، متصفًا بصفات الكمال والجلال، وإن قبل عدمه فقط دون وجوده فهو المستحيل المعروف بالمستحيل عقلًا كوجود شريك لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. وإن قبل العقل وجوده وعدمه، فهو المعروف بالجائز عقلًا وهو الجائز الذاتي كقدوم زيد يوم الجمعة وعدمه. فالمستحيل الذاتي أجمع العلماء على أن التكليف به لا يصح شرعًا لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ونحو ذلك من أدلة الكتاب والسنة. القسم الثاني من قسمي المستحيل عقلًا: هو ما كان مستحيلًا لا لذاته بل لتعلق علم الله بأنه لا يوجد، لأن ما سبق في علم الله أنه لا يوجد مستحيل عقلًا أن يوجد لاستحالة تغير ما سبق به العلم الأزلي وهذا النوع يسمونه المستحيل العرضي، ونحن نرى أن هذه العبارة لا تنبغي لأن وصف استحالته بالعرض من أجل كونها بسبب تعلق العلم الأزلي لا يليق بصفة الله، فالذي ينبغي أن يقال: إنه مستحيل لأجل ما سبق في علم الله من أنه لا يوجد. ومثال هذا النوع إيمان أبي لهب، فإن إيمانه بالنظر إلى مجرد ذاته جائز عقلًا الجواز الذاتي لأن العقل يقبل وجوده، وعدمه، ولو كان إيمانه مستحيلًا عقلًا لذاته لاستحال شرعًا تكليفه بالإيمان مع أنه مكلف به قطعًا إجماعًا، ولكن هذا الجائز عقلًا الذاتي، مستحيل من جهة أخرى، وهى من حيث تعلق علم الله فيما سبق أنه لا يؤمن لاستحالة =

وقال قوم: يجوز ذلك 1: وبدليل قوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} 2. والمحال لا يسأل دفعه. ولأن الله -تعالى- علم أن أبا جهل 3 لا يؤمن، وقد أمره بالإيمان وكلفه إياه.

_ = تغير ما سبق به العلم الأزلي، والتكليف بهذا النوع من المستحيل واقع شرعًا وجائز عقلًا وشرعًا بإجماع المسلمين، لأنه جائز ذاتي لا مستحيل ذاتي، والأقسام بالنظر إلى تعلق العلم قسمان واجب ومستحيل فقط، لأن العلم إما أن يتعلق بالوجود فهو واجب أو بالعدم فهو مستحيل ولا واسطة، والمستحيل العادي كتكليف الإنسان بالطيران إلى السماء بالنسبة إلى الحكم الشرعي كالمستحيل العقلي. وهذا هو حاصل كلام أهل الأصول في هذه المسألة، والآية لا دليل فيها على جواز التكليف شرعًا بما لا يطاق لأن المراد بما لا طاقة به هي الآصار والأثقال التي كانت على مَن قبلنا، لأن شدة مشقتها وثقلها تنزلها منزلة ما لا طاقة به. "مذكرة أصول الفقه ص36-37". 1 اسم الإشارة هنا عائد على المحال لذاته، أي: أجاز قوم التكليف به، واستدل له المصنف بثلاثة أدلة: أولها: الآية الكريمة، والثاني: قوله: "ولأن الله -تعالى- علم أن أبا جهل لا يؤمن" إلخ. ووجه الاستدلال به: أن أبا جهل قد أمر بالإيمان بكل ما أنزله الله تعالى، ومن بعض ذلك: أنه لا يؤمن، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وأوضح من ذلك تمثيل بعض الأصوليين بأبي لهب، الذي نزلت في حقه صراحة سورة المسد، إذًا يكون هؤلاء مأمورون بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا، وبأنهم لا يؤمنون، وهو جمع بين النقيضين. وسيتأتى الرد على ذلك. 2 سورة البقرة من الآية: 286. 3 هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخرومي القرشي، كان شديد القرشي، كان شديد العداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر الإسلام، كان أحد سادات قريش وأبطالها ودهاتها =

ولأن تكليف المحال لا يستحيل لصيغته، إذ ليس يستحيل أن يقول: {كُونُوا قِرَدَة} 1. {كُونُوا حِجَارَة} 2. وإن أحيل طلب المستحيل للمفسدة، ومناقضة الحكمة: فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله -تعالى- محال؛ إذ لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه الأصلح. ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد فالسفه من المخلوق ممكن. ووجه استحالته3. قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 4 و {لا نُكَلِّف

_ = في الجاهلية، يقال له: أبو الحكم فدعاه المسلمون: أبا جهل. قتل في غزوة بدر الكبرى "عيون التاريخ 1/ 144". 1 سورة البقرة من الآية: 65. 2 سورة الإسراء من الآية: 50 وقول المصنف: "ولأن تكليف المحال...." هذا هو الدليل الثالث للمذهب الذي يجوّز التكليف بالمحال. وقد اختصره المصنف من "المستصفى" وبيانه: أنهم قالوا: لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته، أو لمعناه، أو لمفسدة تتعلق به، أو لأنه يناقض الحكمة. ولا يستحيل لصيغته؛ إذ لا يستحيل أن يقول: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وأن يقول السيد لعبده الأعمى: أبصر، وللزّمن: امش. وأما قيام معناه بنفسه، فلا يستحيل -أيضًا- إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه في حالة واحدة في مكانين ليحفظ ماله في بلدين. وهذا مما تركه المصنف -اختصارًا- وأشار إلى القسمين الأخيرين بقوله: "وإن أحيل طلب المستحيل إلخ" أي قالوا: محال أنه ممتنع للمفسدة ومناقضة الحكمة، فإن بناء الأمور في حق الله محال، إذ لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه الأصلح، ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد، والفساد والسفه من المخلوق ممكن، فلم يمتنع ذلك مطلقًا. "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص152-153". 3 بدأ المصنف يورد أدلة المذهب الذي اختاره وهو: استحالة التكليف بالمحال. 4 سورة البقرة من الآية: 286.

نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..} 1. ولأن الأمر: استدعاء وطلب، والطلب يستدعي مطلوبًا، وينبغي أن يكون مفهومًا بالاتفاق، ولو قال "أبجد هوّز" لم يكن ذلك تكليفا؛ لعدم عقل معناه. ولو علم الأمر دون المأمور: به لم يكن تكليفا، إذ التكليف: الخطاب بما فيه كلفة، وما لا يفهمه المخاطب ليس بخطاب، وإنما اشترط فهمه ليتصور منه الطاعة، إذ كان الأمر: استدعاء الطاعة، فإن لم يكن استدعاءً لم يكن أمرا، والمحال لا يتصور الطاعة فيه، فلا يتصور استدعاؤه، كما يستحيل من العاقل طلب الخياطة من الشجر. ولأن2 الأشياء لها وجود في الأذهان قبل وجودها في الأعيان، وإنما يتوجه إليه الأمر بعد حصوله في العقل، والمستحيل لا وجود له في العقل فيمتنع طلبه. ولأننا3 اشترطنا: أن يكون معدوما في الأعيان ليتصور الطاعة فيه، فلذلك يشترط أن يكون موجودا في الأذهان، ليتصور إيجاده على وفقه. ولأننا4 اشترطنا كونه معلومًا ومعدومًا، وكون المكلف عاقلا فاهما؛ لاستحالة الامتثال بدونهما، فكون الشيء ممكنا في نفسه أولى أن يكون شرطا.

_ 1 سورة الأنعام من الآية: 152 والآيتان هما الدليل الأول. 2 هذا هو الدليل الثاني، وهو وما بعده أدلة عقلية، أوردها بعد الأدلة النقلية، التي منها الآيتان السابقتان. 3 هذا هو الدليل الثالث. 4 هذا هو الدليل الرابع.

وقوله تعالى 1: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} فقد قيل: المراد به: ما يثقل ويشق، بحيث يكاد يفضي إلى إهلاكه، كقوله تعالى: {اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُم} 2. وكذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في المماليك: "لا تكلفوهم ما لا يطيقون" 3. وقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَة} تكون إظهارًا للقدرة4.

_ 1 من هنا سيبدأ المصنف في الرد على الأدلة التي استدل بها أصحاب المذهب الأول، وهم المجوّزون للتكليف بالمستحيل. وبيان ذلك: أن المستدلين بالآية قالوا: "بأن المحال لا يسأل دفعه، فإنه مندفع بذاته" فأجاب المصنف: بأن الآية لا تدل على جواز التكليف بما لا يطاق، إذ قد يقع السؤال بما لا يجوز على الله غيره نحو قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] . ولم يدل دليل على أن الله -سبحانه- يجوز أن يحكم بالباطل. وتمدح -سبحانه- بقوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} [ق: 29] مع أنه لا يجوز عليه الظلم. ولئن سلمنا أن المحال لا يسأل دفعه، فإنهم سألوا أن لا يكلفهم ما يشق عليهم، وهذا متعارف في اللغة أن يقول الشخص لما يشق عليه: لا أطيقه، لأنهم علموا جواز تكليف ما لا يطاق فسألوا نفيه" انظر: نزهة الخاطر "1/ 155". 2 سورة النساء من الآية: 66: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} . 3 حديث صحيح: رواه البخاري ومسلم ومالك وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بروايات مختلفة. ولفظ مسلم باب صحبة المماليك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". انظر: فيض القدير جـ5 ص292. 4 أي: لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه.

وقوله تعالى: {كُونُوا حِجَارَة} تعجيز، وليس شيء من ذلك أمرا1. وتكليف أبي جهل الإيمان غير محال؛ فإن الأدلة منصوبة، والعقل حاضر، وآلته تامة2. ولكن علم الله -تعالى- منه أنه يترك ما يقدر عليه، حسدا وعنادا، والعلم يتبع المعلوم ولا يغيره، وكذلك نقول: الله قادر على أن يقيم القيامة في وقتنا وإن أخبر أنه لا يقيمها الآن، وخلاف خبره محال لكن استحالته لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تؤثر فيه3.

_ 1 أي: لإظهار عجزهم، لا أنه أمرهم بذلك حتى يتم الاعتراض بالآية الكريمة. 2 عبارة المستصفى: "والأدلة منصوبة، والعقل حاضر، إذ لم يكن هو مجنونًا". 3 وبذلك يكون المستصفى قد أجمل الكلام في هذه المسألة ولم يفرق بين الجواز العقلي والوقوع الشرعي. وقد تقدم لنا توضيح ذلك بما نقلناه عن الشيخ الشنقيطي. وخلاصته أن في الجواز العقلي ثلاثة مذاهب: الأول: عدم الجواز مطلقًا. الثاني: جواز التكليف بما هو محال لغيره، دون المحال لذاته. الثالث: الجواز مطلقا، وهو رأي الجمهور. أما الوقوع الشرعي ففيه المذهبان اللذان ذكرهما.

فصل: في المقتضى بالتكليف

فصل: [في المقتضى بالتكليف] والمقتضى بالتكليف: فعل أو كف. فالفعل: كالصلاة. والكف: كالصوم وترك الزنا والشرب.

وقيل: لا يقتضي الكف، إلا أن يتناول التلبس1 بضد من أضداده، فيثاب على ذلك لا على الترك؛ لأن "لا تفعل" ليس بشيء، ولا تتعلق به قدرة، إذ لا تتعلق القدرة إلا بشيء. والصحيح: أن الأمر فيه مستقيم، فإن الكف في الصوم مقصود، ولذلك تشترط النية فيه. والزنا والشرب نهي عن فعلهما، فيعاقب على الفعل، ومن لم يصدر منه ذلك لا يثاب ولا يعاقب؛ إلا إذا قصد كف الشهوة عنه مع التمكن فهو مثاب على فعله. ولا يبعد أن "يكون مقصود الشرع"2 أن لا يتلبس بالفواحش، وإن لم يقصد أنه يتلبس بضدها3.

_ 1 في جميع النسخ "التلبيس" وهو خطأ واضح، وقد صححناها من المستصفى. 2 ما بين القوسين من المستصفى لتوضيح المعنى. 3 خلاصة هذا الفصل: أن الفعل المكلف به يتنوع إلى نوعين: فعل وكف، وقد اختلف العلماء فيما يقتضيه التكليف؟. فالجمهور على أن المقتضى به الإقدام أو الكف، وهو فعل أيضًا، ولذلك قالوا: لا تكليف إلا بفعل. فالكف معناه: كف النفس وصرفها عن المنهي عنه، وآيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- تؤيد ذلك. قال الله -تعالى-: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63] فسمى الله -تعالى- عدم نهي الربانيين والأحبار لهم صنعًا، فدل ذلك على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فعل. وقال تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] . فسمى عدم تناهيهم عن المنكر فعلًا وهو واضح. وفي السنة من هذا كثير، من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" فسمى ترك الأذي إسلامًا.

فصل: الضرب الثاني - من الأحكام ما يتلقى من خطاب الوضع والإخبار

فصل: الضرب الثاني - من الأحكام ما يتلقى من خطاب الوضع والإخبار ... الضرب الثاني - من الأحكام ما يتلقى من خطاب الوضع والإخبار 1 وهو أقسام أيضًا:

_ = وقال بعض المعتزلة: إن متعلق التكليف في النهي: هو العدم الأصلى؛ لأن تارك الزنا ممدوح حتى مع الغفلة عن ضدية ترك الزنى. وأجاب الجمهور عن ذلك: بأن المدح على كف النفس عن المعصية. انظر: الإحكام للآمدي "1/ 147"، شرح الكوكب المنير "1/ 492-493". 1 من هنا سيتكلم المؤلف عن الضرب الثاني من الأحكام الشرعية، وهو: الحكم الوضعي. وإذا كان قسيمه وهو: الحكم التكليفي: هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، كما تقدم. فإن الحكم الوضعي هو: خطاب الله تعالى المتعلق بجعل الشيء سببًا لشيء، أو شرطًا له، أو مانعًا منه، أو كونه صحيحًا أو فاسدًا، أو رخصة أو عزيمة، أو أداء أو إعادة أو قضاء. ومعنى الوضع: أن الشرع وضع: أي شرع أمورًا سميت أسبابًا وشروطًا وموانع إلخ تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي، فالأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط، وتنتفي لوجود الموانع. وأما معنى "الإخبار" فهو: أن الشرع بوضع هذه الأمور أخبرنا بوجود أحكامه، وانتفائها عند وجود تلك الأمور أو انتفائها، فكأنه قال مثلا-: إذا وجد النصاب الذي هو سبب وجوب الزكاة، والحول الذي هو شرطه، فاعلموا أني أوجبت عليكم أداء الزكاة، وإن وجد الدين الذي هو مانع من وجوبها، أو انتفى السوم الذي هو شرط لوجوبها في السائمة: فاعلموا أني لم أوجب عليكم الزكاة، وكذا الكلام في القصاص والسرقة والزنا وكثير من الأحكام بالنظر إلى وجود أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها وعكس ذلك. انظر: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص157". وأقسام خطاب الوضع هي: العلل، والأسباب، والشروط، والموانع، =

أحدهما- ما يظهر به الحكم: ثم اعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الشارع في كل حال، أظهر خطابه لهم بأمور محسوسة، جعلها مقتضية لأحكامها على مثال: اقتضاء العلة المحسوسة معلولها، وذلك شيئان: أحدهما: العلة. والثاني: السبب. ونصبهما مقتضيين لأحكامهما حكم من الشارع1. فلله -تعالى- في الزاني حكمان: أحدهما: وجوب الحد عليه.

_ = والصحة، والفساد، والعزيمة والرخصة، والأداء والإعادة والقضاء. وسوف يذكر المصنف هذه الأمور تباعًا. 1 جمهور العلماء لم يذكروا العلة من أقسام الحكم الوضعي، والمصنف مشى على رأي من يجعلها منه. والسبب في هذا الاختلاف: اختلاف العلماء في العلاقة بين العلة والسبب: فقيل: إنهما بمعنى واحد، وقيل: إنهما متغايران، فخصوا العلة بالأمارة المؤثرة التي تظهر فيها المناسبة بينها وبين الحكم، وخصوا السبب بالأمارة غير المؤثرة. وقال أكثر الأصوليين: إن السبب أعم من العلة، فكل علة سبب، ولا عكس، وأن السبب يشمل الأسباب التي ترد في المعاملات والعقوبات، ويشمل العلة التي هي ركن من أركان القياس. وفرقوا بينهما فقالوا: إن الصفة التي يرتبط بها الحكم إن كانت لا يدرك تأثيرها في الحكم بالعقل، وليست من صنع المكلف، كالوقت للصلاة المكتوبة فتسمى سببًا. أما أذا أدرك العقل تأثير الوصف في الحكم فيسمى علة، ويسمى سببًا، فالسبب يشمل القسمين، فهو أعم من العلة. "انظر: المحلى على جمع الجوامع 1/ 95، الإحكام للآمدي 1/ 128، شرح الكوكب المنير 1/ 438-439".

والثاني: جعل الزنا موجبا له. فإن الزنا لم يكن موجبا للحد لعينه، بل بجعل الشرع له موجبا، ولذلك يصح تعليله فيقال: إنما نصب علّة لكذا وكذا. فأما العلة: فهي في اللغة: عبارة عما اقتضى تغييرا، ومنه سميت علة المريض لأنها اقتضت تغيير الحال في حقه. ومنه العلة العقلية: وهي: عبارة عما يوجب الحكم لذاته، كالكسر مع الانكسار، والتسويد مع السواد. فاستعار الفقهاء1 لفظ "العلة" من هذا، واستعملوه في ثلاثة أشياء: أحدها: بإزاء ما يوجب الحكم لا محالة. فعلى هذا لا فرق بين المقتضى والشرط والمحل والأهل، بل العلة: المجموع، و"الأهل والمحل" وصفان من أوصافها؛ أخذًا من العلة العقلية2.

_ 1 يشير المصنف بذلك إلى العلاقة بين "العلة العقلية" والعلة عند الفقهاء والأصوليين. ومعناه: أنه إذا وجد هذا المجموع المركب من مقتضى الحكم وهو المعنى الطالب له، وشروطه، ومحله: وهو ما تعلق به الحكم، وأهله: وهو المخاطب بالحكم، وجد الحكم لا محالة. كوجوب الصلاة: فإنه حكم شرعي، ومقتضيه: أمر الشارع بالصلاة، وشرطه: أهلية المصلي لتوجه الخطاب إليه، بأن يكون بالغًا عاقلًا. ومحله الصلاة، وأهله المصلي، فإذا وجد هذا المجموع وجدت الصلاة، ويطلق على هذا المجموع: اسم العلة، تشبيهًا بالعلة العقلية. 2 قول المؤلف: "والأهل والمحل وصفان من أوصافها" غير مسلم، بل هما ركنان من أركانها، على هذا التفسير. انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص41.

والثاني: أطلقوه بإزاء المقتضي للحكم، وإن تخلف الحكم لفوات شرط، أو وجود مانع1. والثالث: أطلقوه بإزاء الحكمة2، كقولهم: المسافر يترخص لعلة المشقة. والأوسط أولى. الثاني- السبب: وهو في اللغة: عبارة عما حصل الحكم عنده لا به. ومنه سمي الحبل والطريق سببا3. فاستعار الفقهاء لفظة "السبب" من هذا الموضع واستعملوه في أربعة أشياء: أحدها: بإزاء ما يقابل المباشرة كالحفر مع التردية: الحافر يسمى صاحب سبب، والمردي صاحب علة. الثاني: بإزاء علة العلة، كالرمي، يسمى سببًا.

_ 1 مثال ذلك: اليمين مع عدم الحنث، بالنسبة لوجوب الكفارة، فاليمين علة الكفارة، وشرط وجوبها: الحنث، فتسمى اليمين دون الحنث علة، وهي: علة تخلف حكمها، وهذا المعنى هو الذي رجحه المؤلف. 2 ضابط الحكمة: أنها هي المعنى الذي من أجله صار الوصف علة، أو هي: المعنى المناسب الذي ينشأ عنه الحكم. فعلة تحريم الخمر: الإسكار، وحكمته: حفظ العقل، لأن حفظ العقل هو الذي صار من أجله الإسكار علة للتحريم في الخمر. وللعلماء خلاف طويل في جواز التعليل بالحكمة، أو عدم الجواز، سيأتي تحقيقه -إن شاء الله تعالى- في باب القياس. 3 جاء في القاموس المحيط: فصل السين، باب الباء: "والسبب: الحبل وما يتوصل به إلى غيره".

فصل: في الشرط وأقسامه

فصل: [في الشرط وأقسامه] ومما يعتبر للحكم: الشرط1. وهو: ما يلزم من انتفائه انتفاء الحكم، كالإحصان مع الرجم، والحول في الزكاة. فالشرط: ما لا يوجد المشروط مع عدمه، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده2.

_ 1 أي: مما يعتبر لإظهار الحكم الوضعي: الشرط. 2 هذا هو تعريف الشرط في اصطلاح الأصوليين، وهو الذي ذكره الغزالي في المستصفى، وله تعريفات أخرى أدق من هذا التعريف، منها ما ذكراه السرخسي في أصوله "2/ 303" والآمدي في الإحكام "1/ 130" من أنه: "ما يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته" وقالوا في علة زيادة لفظ "لذاته" إنه احتراز من مقارنة الشرط للسبب، فيلزم الوجود لوجود السبب، أو مقارنة الشرط للمانع، فإنه يلزم العدم لا لذاته، بل لوجود المانع. أما معناه: لغة: فهو العلامة. قال الله -تعالى-: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُم} [سورة محمد: 18] أي: علاماتها. قال الجوهري في الصحاح "مادة شرط": الشرط معروف -يعنى بالسكون- =

والعلة: يلزم من وجودها وجود المعلول، ويلزم من عدمها عدمه في الشرعيات1. والشرط: عقلي، ولغوي، وشرعي2. فالعقلي: كالحياة للعلم، والعلم للإرادة3. واللغوي: كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق4. والشرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم.

_ = والشرط -بالتحريك-: العلامة. وأشراط الساعة: علاماتها. وقال الطوفي: "قلت: ومع اتفاق المادة لا أثر لاختلاف الحركات، والكل ثابت عن أهل اللغة". "شرح مختصر الروضة جـ1 ص430". 1 هذا غير مسلم، فقد قرر العلماء: أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وسيأتي ذلك مفصلًا في القياس، إن شاء الله تعالى. 2 وهناك قسم رابع: وهو الشرط العادي: كالغذاء للحيوان، والغالب فيه: أنه يلزم من انتفاء الغذاء انتفاء الحياة، ومن وجوده وجودها إذ لا يتغذى إلا حي، فعلى هذا يكون الشرط العادي كاللغوي، في أنه مطرد منعكس، ويكونان من قبيل الأسباب لا من قبيل الشروط. ولهذا قال بعض الفضلاء: الشروط اللغوية أسباب؛ لأنه يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم، بخلاف الشروط العقلية. "شرح مختصر الروضة جـ1 ص432". 3 إذ لا يعقل عالم إلا وهو حي، فالحياة يلزم من انتفائها انتفاء العلم؛ إذ الجسم بدونها جماد، وقيام العلم بالجماد محال. وسمي عقليًا؛ لأن العقل هو الذي أدرك لزومه لمشروطه، وعدم تصور انفكاكه عنه، كما أدرك لزوم الحياة للعلم، ولزوم للإرادة. "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص163". 4 وجه كونه لغويًّا: أن دخول الدار شرط لوقوع الطلاق ولازم له من حيث اللغة، بحيث إذا لم تدخل لم يحصل طلاق.

وسمي شرطًا؛ لأنه علامة على المشروط، يقال: أشرط نفسه للأمر: إذا جعله علامة عليه، ومنه قوله -تعالى-: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا..} 1. أي علاماتها. وعكس الشرط: المانع: وهو: ما يلزم من وجوده عدم الحكم2. ونصب الشيء شرطا للحكم، أو مانعا له: حكم شرعي، على ما قررناه في المقتضي للحكم. والله أعلم. القسم الثاني: الصحة والفساد فالصحة: هو4 اعتبار الشرع الشيء في حق حكمه3.

_ 1 سورة محمد من الآية: 18. 2 ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته. كالحيض بالنسبة للصلاة والصوم، فإذا وجد امتنع الحكم، فإذا ارتفع الحيض، لا يلزم من ارتفاعه وجود الصلاة والصوم، فإن المرأة الطاهر قد تصلي وتصوم، وقد لا تفعل ذلك. 3 الصحة والفساد أو البطلان: أوصاف ترد على الأحكام الشرعية بصفة عامة، فتوصف الصلاة بالصحة: إذا استوفت أركانها، وشروطها وانتفت الموانع، وتوصف بالفساد أو البطلان: إذا فقدت ما تقدم، كما توصف العقود بأنها صحيحة وتترتب عليها آثارها إذا استوفت أركانها وشروطها وانتفت عنها الموانع، كما تكون فاسدة أو باطلة إذا فقدت ما تقدم. وقد جعلها المصنف قسمًا مستقلًّا -بعد أن تكلم على الأمور التي بها يظهر الحكم الوضعي: من العلة والسبب والشرط والمانع- وإن كانت من الحكم الوضعي، إلا أن الأمور السابقة تعتبر كالكليات، وهذه تعتبر كاللواحق الجزئية له، فجعلها قسمًا ثانيًا. 4 هكذا في جميع النسخ، والصواب "هي". 5 معناه: أن الشارع إذا اعتبر شيئًا وأقره وأعطاه حكمًا من الأحكام الشرعية: فهذه هي الصحة.

ويطلق1 على العبادات مرة وعلى العقود أخرى. فالصحيح من العبادات: ما أجزأ وأسقط القضاء2. والمتكلمون يطلقونه بإزاء ما وافق الأمر، وإن وجب القضاء، كصلاة من ظن أنه متطهر3. وهذا يبطل بالحج الفاسد، فإنه يؤمر بإتمامه وهو فاسد4.

_ 1 هكذا في الأصل والصواب "وتطلق" لأنها عائدة على الصحة. 2 هذا عند الحنفية: فالصحة عندهم في العبادات: هي الإجزاء وإسقاط القضاء. فالصلاة الواقعة بشروطها وأركانها مع انتفاء موانعها: مجزئة، ومسقطة للقضاء. والصحة في المعاملات: هي ترتب الأثر المقصود من العقد على العقد: فكل نكاح أباح ما يترتب على عقد النكاح من آثار فهو صحيح، وكل بيع أباح التصرف في المبيع فهو بيع صحيح وهكذا. أما المتكلمون: فلهم اصطلاح آخر سيذكره المصنف حالا. 3 أي أن ضابط الصحة عند المتكلمين عبارة عن موافقة أمر الشارع، بمعنى: أن كل فعل -سواء أكان عبادة أم معاملة- لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون موافقًا للوجه الشرعي: أي على الصفة التي أمر بها الشارع، وإما أن يكون مخالفًا له. فإن وقع الفعل موافقًا لأمر الشارع فهو الصحيح، وإن وقع مخالفًا فهو الفاسد أو الباطل، لأن كلًّا منهما بمعنى واحد، كما سيأتي. والموافقة قد تكون بحسب الواقع ونفس الأمر، وقد تكون بحسب ظن المكلف. فهل يشترط أن تكون الموافقة بحسب الواقع، أو يكفي أن تكون بحسب ظنه؟ اختار المصنف الثاني، وهو أن تكون بحسب ظن المكلف، ولذلك مثل لها بصلاة من ظن أنه متطهر، مع أنه على خلاف ذلك. وهناك من اشترط أن تكون الموافقة بحسب الواقع، ولا يكفي الظن. 4 هذا اعتراض على ما قاله المصنف خلاصته: أن قول المتكلمين: "إن الصحة موافقة أمر الشارع" يعارضه أن إتمام الحج الفاسد مأمور به، مع أنه غير صحيح. فأجاب المصنف: بأن الحج إنما فسد لأنه وقع مخالفًا لأمر الشارع =

وأما العقود: فكل ما كان سببًا لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه فهو صحيح، وإلا فهو باطل. فالباطل: هو الذي لم يثمر، والصحيح: الذي أثمر1. والفاسد مرادف الباطل، فهما اسمان لمسمى واحد2. وأبو حنيفة أثبت قسما بين الباطل والصحيح، جعل الفاسد3 عبارة عما كان مشروعًا بأصله، غير مشروع بوصفه4.

_ = بارتكاب ما يفسده أولًا، فلا يرد الاعتراض. انظر: "مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص45". 1 معناه: أن العقد إذا أفاد المقصود منه، بحيث يترتب حكمه عليه، فهو صحيح، وإن لم يفد ما قصد منه فهو الباطل أو الفاسد، وهذا معنى قوله: "أثمر" أو "لم يثمر". 2 الفاسد والباطل عند الجمهور سواء، إلا في بعض المسائل الفرعية: كالحج، والنكاح، والوكالة، والخلع، والإجارة. انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص111، التمهيد للإسنوي ص8. 3 بعدها في جميع النسخ جملة "عبارة عنه وزعم أنه" وأرى أنها من زيادات النساخ، لأن المعنى غير مترابط. 4 معنى كلام المصنف: أن الحنفية فرقوا بين الفاسد والباطل، فقالوا: إن الفاسد: ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه، ومن أمثلة ذلك في العبادات: صوم يوم الفطر أو النحر، فلو نذر صوم يوم العيد صح نذره، ويؤمر بالفطر والقضاء، لأن المعصية في فعله دون نذره، لأن النذر مشروع، ولو صامه خرج عن عهدة النذر، وإن كان يأثم لمخالفة النهي، والإعراض عن ضيافة الله تعالى في ذلك اليوم. ومثاله في المعاملات: بيع الدرهم بالدرهمين، فإنه بيع فاسد، لاشتماله على الزيادة، فيأثم به، ويفيد بالقبض: الملك الخبيث، فلو حذفت الزيادة صح البيع، لانتفاء الوصف المتقدم.

ولو صح له هذا المعنى لم ينازع في العبارة، لكنه لا يصح، إذ كل ممنوع بوصفه فهو ممنوع بأصله1.

_ = أما الباطل: فهو ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه، مثل: الصلاة بدون بعض الشروط أو الأركان، ومثل: بيع الملاقيح: وهي ما في بطون الأجنة، لانعدام المعقود عليه. هكذا أطلقها بعض العلماء، ومنهم المصنف، ولم يفرقوا بين العبادات والمعاملات. وإن كان البعض يرى أن الحنفية يفرقون بين الباطل والفاسد في المعاملات فقط، أما في العبادات فهم كالجمهور في عدم التفرقة وهذا هو المنصوص عليه عندهم، انظر: "كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/ 258، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص337". 1 معنى هذا: أن هذا التفرقة غير مسلمة؛ إذ إن كل ممنوع بوصفه ممنوع بأصله، فكل منهما لا يثمر.

فصل: في القضاء والأداء والإعادة

فصل: في القضاء والأداء والإعادة 1. الإعادة: فعل الشيء مرة أخرى2.

_ 1 هكذا في جميع النسخ، مع أن أصل الكتاب وهو "المستصفى" بدأ بالأداء، ثم الإعادة، ثم القضاء، كما هي عادة الأصوليين، فلا أدري لماذا بدأ المصنف بالإعادة قبل الأداء. ولذلك خالفه "الطوفي" في مختصره فبدأ بالأداء كما هو معهود. 2 أضاف بعض العلماء لذلك قيدًا فقالوا: "الإعادة: فعل المأمور به في وقته المقدر له شرعًا لخلل في الأول" أي في الفعل الأول، سواء أكان الخلل في الأجزاء: كمن صلى بدون شرط أو ركن، أو كان في الكمال، كمن صلى منفردًا فيعيدها جماعة في الوقت. إلا أن المصنف أطلق، ولم يذكر هذا القيد، لأن الإعادة قد تكون لخلل في العبادة، وقد تكون لغير خلل، فالذي يعيد الصلاة في جماعة، مع أن صلاته =

والأداء: فعلها في وقته. والقضاء: فعله بعد خروج وقتها المعين شرعًا. فلو غلب على ظنه -في الواجب الموسع- أنه يموت قبل آخر الوقت: لم يجز له التأخير، فإن أخره وعاش لم يكن قضاء، لوقوعه في الوقت1. والزكاة واجبة على الفور، فلو أخرها ثم فعلها لم تكن قضاء؛ لأنه لم يعين وقتها بتقدير وتعيين2.

_ = الأولى صحيحة يسمى معيدًا للصلاة. وقد رجح ذلك الطوفي حيث قال: "وهذا أوفق للغة والمذهب، أما اللغة: فإن العرب على ذلك تطلق الإعادة، يقولون: أعدت الكرّة، إذ كرّ مرة بعد أخرى، وأعدنا الحرب خُدعة. وإعادة الله سبحانه للعالم: هو إنشاؤه مرة ثانية. قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون} [الأعراف: 29] . وأما المذهب: فإن أصحابنا وغيرهم قالوا: من صلى ثم حضر جماعة، سن له أن يعيدها...." "شرح مختصر الطوفي جـ1 ص447-448". 1 أي: أنه وقع في وقته المحدد له شرعًا، ولا عبرة بالظن الذي بان خطؤه، وهو مذهب الجمهور. وقال القاضي أبو بكر البلاقاني: إنه يعتبر قضاء، بناء على ظنه؛ إذ كان يجب عليه المبادرة إلى فعل المأمور به باعتبار ظنه انظر: "التمهيد للإسنوي ص64". 2 والسبب في عدم وصف الزكاة بالقضاء يرجع لأمرين. الأول: أن وقتها غير محدد الطرفين -البداية والنهاية- كما في الصلاة. الأمر الثاني: أن كل وقت من الأوقات التي يؤخر أداؤها فيه هو مخاطب بإخراجها فيه، فإذا قلنا: إن أداءها في الوقت الثاني قضاء، لزم أن نقول مثل ذلك في الثالث والرابع وهكذا، وهذا يؤدي إلى تكرر الأمر بالقضاء. فنقول قضاء قضاء قضاء القضاء ... وهذا غير معهود.

ومن لزمه قضاء صلاة على الفور فأخر: لم نقل: إنه قضاء القضاء، فإذًا: اسم القضاء مخصوص بما عين وقته شرعًا، ثم فات الوقت قبل الفعل. ولا فرق بين فواته لغير عذر، أو لعذر كالنوم، والسهو، والحيض في الصوم والمرض والسفر. وقال قوم: الصيام من الحائض بعد رمضان ليس بقضاء؛ لأنه ليس بواجب؛ إذ فعله حرام؛ ولا يجب فعل الحرام فكيف تؤمر بما تعصي به1؟

_ = وقد رد الطوفي على هذين الوجهين فقال: "إن تحديد الوقت بطرفيه لا تأثير له ههنا، بل المؤثر أن يكون مقدار وقته معلومًا في الجملة، ووقت وجوب الزكاة معلوم المقدار، وهو بعد تمام الحول بقدر ما يتسع لأدائها. ثم أجاب عن الأمر الثاني: بأن العلماء لم يكرروا لفظ القضاء للتخفيف، استثقالًا لتكرار لفظ القضاء، وإلا فحقيقة القضاء: استدراك مصلحة فائتة، وهذا كذلك" انظر "شرح مختصر الروضة 1/ 454-455". وأضيف إلى ما قاله "الطوفي": بأن ما قاله المصنف منقوض بزكاة الفطر، فإنها محدودة، حتى جاء النص على أنها إذا فعلت في غير وقتها كانت صدقة من الصدقات. روي الشيخان وغيرهما -عن ابن عمر رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، أي صلاة العيد. وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. 1 هذا قول آخر في القضاء، يتضمن تفصيلًا بين فوات المأمور به في وقته لعذر أو لغير عذر: فإن كان لعذر لم يكن فعله بعد الوقت قضاء، كالحائض والمريض. =

ولا خلاف في أنها لو ماتت لم تكن عاصية1. وقيل -في المريض والمسافر- لا يلزمهما الصوم -أيضًا- فلا يكون ما يفعلانه بعد رمضان قضاء. وهذا فاسد لوجوه ثلاثة: أحدها: ما روي عن عائشة2 -رضي الله عنها- أنها قالت: "كنا نحيض على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"3. والآمر بالقضاء: إنما هو النبي -صلى الله عليه وسلم4- على ما نقرره فيما يأتي.

_ = والمسافر، يفوتهم صيام رمضان لعذر الحيض والمرض والسفر، فيستدركه بعده. أما إن كان لغير عذر فإنه يكون قضاء. وقد رد المصنف على ذلك كما سيأتي. 1 هذا كالاستدلال على أنه لا يسمى قضاء بالنسبة للحائض ومن في حكمها. وبيانه: أن القضاء يستدعي سبق الوجوب، وهذا غير موجود، إذ لو كان هناك وجوب لكانت عاصية إذا ماتت حال الحيض، وهناك إجماع على أنها لا تكون عاصية. 2 هي: الصديقة بنت الصديق: عائشة بنت أبي بكر، أم المؤمنين زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلمت صغيرة، وتزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة، ودخل بها بعد الهجرة، وكناها: "أم عبد" بابن أختها: عبد الله بن الزبير، كانت من أفقه الناس وأعلم الناس: توفيت -رضى الله عنها- سنة 75هـ. "الإصابة 4/ 359". 3 حديث صحيح رواه مسلم: كتاب الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، وأبو داود: كتاب الطهارة، والترمذي وحسنه. 4 يؤيده رواية ابن ماجه: "كنا نحيض على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم نطهر، فيأمرنا بقضاء الصيام، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة".

الثاني: لا خلاف بين أهل العلم في أنهم ينوون القضاء. الثالث: أن العبادة متى أمر بها في وقت مخصوص فلم يجب فعلها فيه: لا يجب بعده، ولا يمتنع وجوب العبادة في الذمة؛ بناء على وجود السبب، مع تعذر فعلها كما في النائم والناسي، وكما في "المحدث" تجب عليه الصلاة، مع تعذر فعلها منه في الحال، وديون الآدميين تجب على المعسر، مع عجزه عن أدائها1.

_ 1 خلاصة الوجه الثالث: أن ثبوت العبادة في الذمة غير ممتنع، كما أن ثبوت دين الآدمي في الذمة غير ممتنع وإذا كان ثبوتها في الذمة غير ممتنع، كان فعلها خارج وقتها بعد ثبوتها في الذمة قضاء، كدين الآدمي، والدليل على ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " ... فدين الله أحق أن يقضى" حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فدل ذلك على أن دين الله تعالى يثبت في الذمة، ويستدرك بالقضاء. انظر: "شرح مختصر الطوفي جـ1 ص452".

فصل: في العزيمة والرخصة

فصل: في العزيمة والرخصة 1 العزيمة في اللسان القصد المؤكد2. ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ نَجِد

_ 1 من العلماء من يجعل العزيمة والرخصة من الأحكام الوضعية، كالغزالي والآمدي والشاطبي، وعلى ذلك سار المصنف، لارتباطهما بالسبب والشرط والمانع. وقال بعض العلماء: هما من خطاب التكليف، لما فيهما من معنى "الاقتضاء" حيث ينتقل الحكم من النهي إلى الإباحة، ومن المطلوب فعله طلبًا جازمًا إلى جواز الفعل والترك وهكذا. ويبدو أن الخلاف لفظي؛ حيث إن الأحكام الوضعية ترجع في النهاية إلى الأحكام التكليفية، فالمآل واحد، وإن اختلفت طريقة كل منهما. 2 جاء في الصحاح للجوهري "5/ 1985": "عزمت على كذا عَزْمًا وعُزمًا =

لَهُ عَزْمًا} 1 {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 2. والرخصة: السهولة واليسر3، ومنه: رخص السعر: إذا تراجع وسهل الشراء. فأما في عرف حملة الشرع: فالعزيمة: الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي4. وقيل: ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى. والرخصة: استباحة المحظور، مع قيام الحاظر5.

_ = -بالضم- وعزيمة وعزيمًا، إذا أردت فعله وقطعت عليه". 1 سورة طه من الآية: 115. 2 سورة آل عمران من الآية: 159. 3 جاء في الصحاح "3/ 1104": "الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه، والتشديد لا يحصل إلا من الواجب فعلًا أو كفًّا". وفي المصباح المنير "1/ 342": "يقال: رخص الشارع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا، إذا يسّره وسهّله، وفلان يترخص في الأمر: إذا لم يستقص، وقضيب رَخْصٌ: أي: طري لين، ورخُص البدن -بالضم- رخاصة ورخوصة: إذا نعم ولان ملمسه، فهو رخص". 4 هذا التعريف لم أجده منسوبًا لأحد من علماء الأصول على حسب اطلاعي، ولذلك قال الشيخ الشنقيطي: "والتعريف الثاني الذي حكاه بقيل أجود من الأول" وهو الذي ذكره الغزالي. 5 ومن أمثلة ذلك: إباحة الميتة للمضطر، ففيها استباحة المحظور وهو أكل الميتة، مع قيام الحاظر، أي المانع وهو: خبث الميتة الذي حرمت من أجله دفعًا للضرر الذي يلحق الآكل. وينطبق هذا المثال على التعريف الثاني، فإن أكل الميتة ثابت على خلاف دليل شرعي، هو قول الله -تعالى- في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ =

وقيل: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح1. ولا يسمى ما لم يخالف الدليل رخصة، وإن كان فيه سعة، كإسقاط صوم شوال2، وإباحة المباحات. لكن ما حُطَّ عنا من الإصر الذي كان على غيرنا يجوز أن يسمى رخصة مجازا، لما وجب على غيرنا، فإذا قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق ذلك3.

_ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} لمعارض راجح مثل قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيم} في نفس آية سورة المائدة. 1 قول المصنف -في التعريف- لمعارض راجح: احتراز عما كان لمعارض مساوٍ أو قاصر، فإنه إذا كان المعارض مساويًا وجب التوقف والبحث عن مرجح خارجي. وإن كان قاصرًا عن مساواة الدليل الشرعي، فلا يؤثر، وتبقى العزيمة بحالها. انظر: "شرح الكوكب المنير جـ1 ص478". وقال العسقلاني: "أجود ما يقال في الرخصة: ثبوت حكم لحالة تقتضيه، مخالفة مقتضى دليل يعمها" وهو منقول عن "المقنع" لابن حمدان: شرح الكوكب المنير "1/ 479". 2 قوله: "كإسقاط صوم شوال" يقصد به عدم التكليف، لأن الإسقاط إنما يكون بعد الإيجاب، ولذلك عبر الغزالي عن هذا بقوله: "فإن ما لا يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوال، وصلاة الضحى لا يسمى رخصة، وما أباحه في الأصل: من الأكل والشرب لا يسمى رخصة". 3 يقصد بذلك ما جاء في ختام البقرة وهو قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ =

فأما إباحة التيمم: إن كان مع القدرة على استعمال الماء لمرض أو زيادة ثمن: سمي رخصة. وإن كان مع عدمه فهو معجوز عنه1، فلا يمكن تكليف استعمال الماء مع استحالته، فكيف يقال السبب قائم؟ فإن قيل2: فكيف يسمى أكل الميتة رخصة مع وجوبه في حال

_ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ... } أي ما ثقل علينا حمله من التكاليف التي كلف بها بنو إسرائيل: من قتل النفس هي التوبة، وإخراج ربع المال في الزكاة، وقطع موضع النجاسة من الثياب، وهي تكاليف شاقة تثقل كاهل الإنسان. ولذلك يروى أنه لما نزلت هذه الآية فقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيل له عقب كل كلمة: "قد فَعَلْتُ" رواه أحمد ومسلم من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ومعناه: أن الله تعالى قد استجاب الدعاء. ولما كان التخفيف في حقنا، والتشديد على غيرنا كان رخصة من قبيل المجاز. 1 خلاصة ذلك: أن إباحة التيمم إن كانت مع القدرة على استعمال الماء لمرض أو زيادة ثمن سميت رخصة، وإن كانت مع العجز عنه، كعدم الماء فلا يسمى رخصة، لأن سبب الحكم الأصلي وهو: وجود الماء زائل هنا، فلا تكليف بمعجوز عنه. 2 هذا اعتراض أورده بعض الأصوليين خلاصته: أنه كيف يقال: إن أكل الميتة رخصة مع أنه واجب في حال الضرورة. وأجاب المصنف على ذلك بما خلاصته: أن الواحد بالشخص قد تكون له جهتان مختلفتان كما في هذا المثال: فهو من جهة التوسيع وعدم التضييق رخصة وتيسير، ومن جهة وجوب الأكل عزيمة. هكذا فسرها الشيخ الشنقيطي في مذكرته ص51. وأرى أن هذا كله تكلف لا داعي له، وأوضح منه ما قاله بعض العلماء من أنها تنقسم إلى عدة أقسام: الأول: رخصة واجبة: كأكل الميتة للمضطر، لأنه سبب لإحياء النفس وإنقاذ لها من التهلكة.

الضرورة؟ قلنا: يسمى رخصة من حيث: إن فيه سعة؛ إذ لم يكلفه الله -تعالى- إهلاك نفسه، ولكون سبب التحريم موجودًا، وهو: خبث المحل ونجاسته. ويجوز أن يسمى من حيث: وجوب العقاب بتركه، فهو من قبيل الجهتين. فأما الحكم الثابت على خلاف العموم: فإن كان الحكم في بقية الصور لمعنى موجود في الصورة المخصوصة، كبيع العرايا المخصوص من المزاينة المنهي عنها: فهو حينئذ رخصة1.

_ = الثاني: رخصة مندوبة، كقصر الصلاة للمسافر إذا استوفت شروطه. الثالث: رخصة مباحة، يجوز الأخذ بها أو عدم الأخذ، كالجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر، وعند الأعذار الأخرى كالمطر، في غير عرفة ومزدلفة انظر: شرح الكوكب المنير "1/ 479". 1 العرية في الأصل: ثمر النخل دون الرقبة، كانت العرب في الجدب تتطوع بذلك على من لا تمر له، وقال مالك: العرية: أن يعري الرجل النخلة، أي: يهبها له، أو يهب له ثمرها، ثم يتأذى بدخوله عليه، ويرخص الموهوب له للواهب أن يشتري رطبها منه بتمر يابس. روى البخاري ومسلم ومالك وغيرهم عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن المزابنة، إلا أنه رخص في بيع العرية: النخلة والنخلتين يأخذهما أهل البيت برخصها تمرًا، يأكلونها رطبًا". والمزابنة: بيع التمر بالرطب، وخصت منه ال192 الضرورة؟ قلنا: يسمى رخصة من حيث: إن فيه سعة؛ إذ لم يكلفه الله -تعالى- إهلاك نفسه، ولكون سبب التحريم موجودًا، وهو: خبث المحل ونجاسته. ويجوز أن يسمى من حيث: وجوب العقاب بتركه، فهو من قبيل الجهتين. فأما الحكم الثابت على خلاف العموم: فإن كان الحكم في بقية الصور لمعنى موجود في الصورة المخصوصة، كبيع العرايا المخصوص من المزاينة المنهي عنها: فهو حينئذ رخصة1.

وإن كان لمعنى غير موجود في الصورة المخصوصة، كإباحة الرجوع في الهبة للوالد، المخصوص من قوله -عليه السلام-: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" 1 فليس برخصة؛ لأن المعنى الذي حرم لأجله الرجوع في الهبة غير موجود في الوالد2.

_ 1 حديث صحيح: رواه البخاري: كتاب الهبة، باب: هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها حديث رقم "2589، 2621، 2622، 6975" ومسلم: كتاب الهبات حديث "1622" وأبو داود: حديث "3538" والترمذي: حديث "1298" والنسائي "6/ 265". 2 اعترض الطوفي على التفرقة بين الصورتين -العرايا والهبة- وقال إن كلًّا منهما رخصة ودلل على ذلك فقال: "واعلم أن الفرق لا يؤثر، ولا يناسب اختلاف الحكم في الصورتين المذكورتين، بل الأشبه أنهما يسميان رخصة: أعني رجوع الأب في الهبة، وجواز العرايا لوجهين: أحدهما: أن معنى الرخصة لغة وشرعًا مشترك بينهما. أما لغة: فلأن الرخصة من السهولة -كما سبق- وفي تجويز الرجوع للأب في الهبة تسهيل عليه. وأما شرعًا: فلأن رجوعه على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وهذا هو حد الرخصة، فوجب أن يكون رخصة. الثاني: أن الرخصة تقابل العزيمة، ولا شك أن تحريم الرجوع في الهبة على الأجانب عزيمة، فوجب أن يكون جوازه للأب رخصة". "شرح مختصر الطوفي جـ1 ص463".

الباب الثاني: في أدلة الأحكام

الباب الثاني: في أدلة الأحكام مدخل ... باب: في أدلة الأحكام الأصول1 أربعة: كتاب الله تعالى. وسنه رسوله -صلى الله عليه وسلم-. والإجماع. ودليل العقل المبقي على النفي الأصلي.

_ 1 كلمة "الأصول" إما أن تعرب مبتدأ، خبره "أربعة" واللام في "الأصول" للعهد الذكري الذي تقدم في أول الكتاب عند الكلام على تعريف "أصول الفقه". وإما أن تعرب "أربعة": خبر لمبتدأ محذوف، وجملة المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر للمبتدأ الأول، وهو "الأصول" والتقدير: الأصول التي وعدنا بالكلام عليها: هي أربعة. والمؤلف تبع في تقسيمه للأدلة من حيث الاتفاق والاختلاف منهج الإمام الغزالي في المستصفى، وهو مسلك مخالف لما عليه جمهور العلماء من أن الأدلة المتفق عليه أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. جاء في مختصر ابن الحاجب: "الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال". قال الأصفهاني في بيان المختصر "1/ 454-455": "وإنما انحصر الدليل الشرعي في الخمسة المذكورة؛ لأن الدليل الشرعي إما أن يكون واردًا من جهة الرسول -عليه السلام- أو لا.

.....................................................

_ والأول: إما أن يكون معجزًا، وهو الكتاب، أو لا، وهو السنة، ويندرج فيها قول الرسول وفعله وتقريره. والثاني: وهو الذي لا يكون واردًا من جهة الرسول -عليه السلام- إما أن يكون صادرًا ممن لا يجوز عليه الخطأ، وهو الإجماع، أو لا. وحينئذ إما أن يكون حمل فرع على أصل لعلة مشتركة بينهما، وهو القياس، أو لا، وهو الاستدلال". وقد ذكر ذلك الآمدي، ونقله عنه "الطوفي" في شرح مختصر الروضة "2/ 6" حيث قال: "إن الدليل الشرعي، إما أن يرد من جهة الرسول أو لا من جهته، فإن ورد من جهة الرسول، فهو إما من قبيل ما يتلى: وهو الكتاب، أو لا: وهو السنة، وإن ورد لا من جهة الرسول، فإما أن نشترط فيه عصمة من صدر عنه أو لا، والأول: الإجماع، والثاني: إن كان حمل معلوم على معلوم بجامع مشترك، فهو القياس، وإلا فهو الاستدلال. فالثلاثة الأول -وهي الكتاب، السنة، والإجماع- نقلية، والآخران معنويان، والنقلي أصل للمعنوي، والكتاب أصل للكل. فالأدلة إذًا: خمسة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال. وعرفه الآمدي بأنه: دليل ليس بنص ولا إجماع ولا قياس" ا. هـ. وفي شرح الكوكب المنير "2/ 5 وما بعدها": "أدلة الفقه، المتفق عليها أربعة: الأول: الكتاب وهو القرآن وهو الأصل، والثاني: السنة، والثالث: الإجماع، والرابع: القياس على الصحيح، وعليه جماهير العلماء، وقال أبو المعالي، وجمع: ليس القياس من الأصول، وتعلقوا بأنه لا يفيد إلا الظن. قال في شرح التحرير: والحق هو الأول، والثاني ضعيف جدًّا؛ فإن القياس قد يفيد القطع -كما سيأتي- وإن قلنا: لا يفيد إلا الظن فخبر الواحد ونحوه لا يفيد إلا الظن، وهو: أي القياس مستنبط من الثلاثة التي هي الكتاب والسنة والإجماع" ا. هـ. وقول المصنف: "ودليل العقل المبقي على النفي الأصلي" أراد به: أن العقل يدل على براءة الذمة وعدم شغلها بأي واجب من الواجبات قبل مجيء دليل من =

.....................................

_ = الشرع يدل على التكليف، وعبارة الغزالي واضحة في ذلك حيث قال: "اعلم أن الأحكام السمعية لا تدرك بالعقل، لكن دلّ على براءة الذمة عن الواجبات، وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات، قبل بعثة الرسل -عليهم السلام- وتأييدهم بالمعجزات. وانتفاء الأحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع، ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع، فإذا ورد نبي وأوجب خمس صلوات، فتبقى الصلاة السادسة غير واجبة، لا بتصريح النبي بنفيها، لكن كان وجوبها منتفيًا، إذ لا مثبت للوجوب، فبقي على النفي الأصلي؛ لأن نطقه بالإيجاب قاصر على الخمسة، فبقي على النفي في حق السادسة، وكأن السمع لم يرد، وكذلك إذا أوجب صوم رمضان، بقي صوم شوال على النفي الأصلي، وإذا أوجب عبادة في وقت بقيت الذمة بعد انقضاء الوقت على البراءة الأصلية، وإذا أوجب على القادر بقي العاجز على ما كان عليه فإذًا: النظر في الأحكام إما أن يكون في إثباتها أو في نفيها، أما إثباتها فالعقل قاصر عن الدلالة عليه، وأما النفي: فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد الدليل السمعي بالمعنى الناقل من النفي الأصلي، فانتهض دليلًا على أحد الشطرين وهو النفي". انظر: المستصفى ص159 طبعة دار الكتب العلمية، بيروت. ولما كانت دلالة العقل على الأحكام قاصرة على جانبي النفي فقط قال الغزالي في موضع آخر: "فتسمية العقل أصلًا من أصول الأدلة تجوّز ... " انظر: المصدر السابق ص80. والخلاصة: أن الأدلة الشرعية نوعان: أدلة نقلية وأدلة عقلية، فالنقلية هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعرف، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي. والعقلية هي: القياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب، والذرائع. وكل من الأدلة النقلية والعقلية محتاج إلى الآخر، فالأدلة النقلية لا بد فيها من التعقل والتدبر والنظر الصحيح. كما أن الأدلة العقلية والتي أساسها الاجتهاد، لا تقبل إلا إذا كان لها مستند =

واختلف في قول الصحابي، وشرع من قبلنا1. وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وأصل الأحكام كلها من الله سبحانه2؛ إذ قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إخبار عن الله بكذا. والإجماع يدل على السنة3. فإذا نظرنا إلى ظهور الحكم عندنا فلا يظهر إلا بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإننا لا نسمع الكلام من الله -تعالى- ولا من جبريل -عليه السلام- وإنما ظهر لنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله. لكن إذا لم نحرر النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب فيها النظر منقسمة إلى ما ذكرنا.

_ = من النقل، لأن العقل المجرد لا يستقل بتشريع الأحكام، فالمشرع في الحقيقة هو الله تعالى، كما أشار إلى ذلك المصنف في قوله الآتي: "وأصل الأحكام كلها من الله سبحانه ... ". 1 ترك المصنف -تبعًا لأصله "المستصفى"- بعض الأدلة المختلف فيها 2 إذ إن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه، فالحكم له وحده -جل شأنه- قال تعالى: { ... إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] وقال تعالى: { ... فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] وقال جل شأنه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] . 3 جاء في المستصفى ص80: "والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى" ومعناه: أن الإجماع لا بد له من مستند، فإذا انعقد إجماع دل ذلك على أن له دليلًا وإن لم نعرفه. وعبارة "الطوفي": "والإجماع دال على النص" وهي أولى، لأن مستند الإجماع قد يكون نصًّا من القرآن الكريم، وقد يكون سنة، وقد يكون قياسًا على النص. انظر: "شرح مختصر الروضة جـ2 ص7".

فصل: في تعريف الكتاب والقرآن وأنهما بمعنى واحد

فصل: [في تعريف الكتاب والقرآن وأنهما بمعنى واحد] وكتاب الله -سبحانه- هو كلامه، وهو القرآن الذي نزل به جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال قوم: الكتاب غير القرآن وهو باطل. قال الله -تعالى-: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ... } إلى قوله -تعالى-: { ... إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ... } 1 وقالوا: { ... إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} 2. فأخبر الله -تعالى- أنهم استمعوا القرآن وسموه قرآنًا وكتابًا. وقال تعالى: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ... } 3. وقال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} 4. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} 5. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} سماه قرآنا وكتابا وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين.

_ 1 سورة الأحقاف الآيتان: 29، 30. 2 سورة الجن الآية الأولى. 3 سورة الزخرف الآيات 1-3. 4 سورة الزخرف الآية: 4. 5 سورة الواقعة الآيتان: 77، 78. 6 سورة البروج الآيتان: 21، 22.

وهو: ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا1.

_ 1 اعترض الطوفي علي هذا التعريف وقال: فيه دور. شرح مختصر الروضة جـ2 ص10. وبيانه: أن وجود المصحف ونقله فرع تصوّر القرآن، فلا يعرّف القرآن بهما. والأوضح من هذا التعريف ما ذكره "الطوفي" -أيضًا- حيث قال: وكتاب الله عز وجل: كلامه المنزل هو جنس للإعجاز بسورة منه وهو القرآن"..... ثم شرح ذلك فقال: فقوله "كلامه" هو جنس يتناول كل كلام تكلم الله به -سبحانه وتعالى- عربيًا كالقرآن، أو أعجميًا، كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من صحف الأنبياء، وما نزل للإعجاز أو لغيره، كما دل عليه قوله عليه السلام: "أوتيت القرآن ومثله معه" [حديث صحيح رواه أحمد، وأبو داود، والطبراني في الكبير، والدارقطني وغيرهم] . وإن جبريل يأتيني بالسنة كما يأتيني بالقرآن. وقوله: "المنزل" يحترز به ممن يثبت كلام النفس، لأنه لا يصح فيه التنزيل. وقوله "للإعجاز" احتراز مما نزل لغير الإعجاز، كسائر الكتب التي نزلت على الأنبياء السابقين فإنها لم تنزل للإعجاز، بل لبيان الأحكام، وإنما كانت معجزات أولئك الأنبياء -عليهم السلام- فعلًا لا صفات. وقوله: "بسورة منه" ليدخل في حد الكتاب كل سورة من سوره. انظر: المرجع السابق. وهناك تعريفات أخرى للقرآن الكريم، فيها بعض القيود والإضافات التي خلا عنها تعريف الطوفي، حيث خلا من لفظ "التواتر" وهو قيد لا بد منه، ولذلك فرّع المصنف -بعد هذا الفصل- فصلًا آخر يتعلق بالقراءة التي نقلت بطريق الآحاد، وهي التي يطلق عليها الشاذة. كما خلا من قيد "المتعبد بتلاوته" لتخرج الآيات منسوخة التلاوة، لأنها أصبحت غير قرآن، فلا يتعبد بها. وقد أورد الشوكاني عدة تعريفات للقرآن الكريم فقال: "والقرآن في اللغة: مصدر بمعنى القراءة، غلب في العرف العام على المجموع المعين من كلام الله سبحانه، المقروء بألسنة العباد" ... ثم قال: "وأما حد الكتاب اصطلاحًا: فهو الكلام المنزل على الرسول، المكتوب في =

.........................................

_ = المصاحف، المنقول إلينا نقلًا متواترًا ... ". .... وقيل قي حده: هو اللفظ العربي المنزل للتدبر والتذكر، المتواتر. وقيل: هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه. وقال جماعة في حده: هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف تواترًا. وقال جماعة: هو القرآن المنزل على رسولنا، المكتوب في المصاحف المنقول تواترًا بلا شبهة. وقيل: هو كلام الله العربي، الثابت في اللواح المحفوظ للإنزال. انظر: إرشاد الفحول جـ1 ص141-143 بتحقيقنا. وهذه التعريفات المختلفة للقرآن الكريم تصدق على قراءات الأئمة العشرة الذين نقلوا إلينا هذا القرآن بأسانيدهم الصحيحة المتصلة إلى سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقراءاتهم تعتبر جزءًا من الأحرف السبعة التي صحت بها الأحاديث، والتي منها ما رواه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف". والأئمة العشرة هم: 1- نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي، المتوفى سنة 199هـ وعنه راويان هما: أ- قالون: عيسى بن مينا بن وردان بن عبد الصمد. المتوفى سنة 220هـ. ب- ورش: عثمان بن سعيد بن عبد الله المصري. المتوفى سنة 197هـ. 2- عبد الله بن كثير بن عمر بن عبد الله بن زاذان المكي، المتوفى سنة 120هـ وعنه راويان هما: أ- أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع البزي. المتوفى سنة 250هـ.

...................................

_ ب- محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد الشهير بقنبل المتوفى سنة 291هـ. 3- أبو عمرو البصري: زبّان بن العلاء بن عمار بن العريان المازني التميمي، المتوفى سنة 254هـ، وعنه راويان هما: أ- حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبات بن عدي الدوري، المتوفى سنة 246هـ. ب- صالح بن زياد بن عبد الله بن إسماعيل بن الجارود السوسي. المتوفى سنة 261هـ. 4- عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة، إمام أهل الشام المتوفى سنة 118هـ وعنه راويان هما: أ- هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة السلمي المتوفى سنة 245هـ. ب- عبد الله بن أحمد بن بشر بن ذكوان المتوفى سنة 242هـ. 5- عاصم بن أبي النجود، إمام أهل الكوفة. المتوفى سنة 127هـ وعنه راويان هما: أ- شعبة بن عياش بن سالم الحنّاط الأسدي المتوفى سنة 193هـ. ب- حفص بن سليمان بن المغيرة بن أبي داود الأسدي المتوفى سنة 180هـ. 6- حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الكوفي. المتوفى سنة 156هـ وعنه راويان هما: أ- خلف بن هشام بن ثعلب الأسدي البغدادي. المتوفى سنة 229هـ. ب- خلاد بن خالد الشيباني الصيرفي الكوفي. المتوفى سنة 220هـ. 7- علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان الكسائي. المتوفى سنة 189هـ وعنه راويان هما: أ- الليث بن خالد المروزي البغدادي، وكنيته أبو الحارث. المتوفى سنة 240هـ. ب- حفص الدوري: الذي تقدمت ترجمته في تلاميذ أبي عمرو البصري. =

وقيدناه بالمصاحف؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- بالغوا في نقله وتجريده عما سواه، حتى كرهوا التعاشير1 والنقط، كيلا يختلط بغيره، فنعلم أن المكتوب في المصحف هو القرآن، وما خرج عنه فليس منه، إذ يستحيل في العرف والعادة، مع توفرالدواعي على حفظ القرآن أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه.

_ = 8- يزيد بن القعقاع المخزومي المدني، المكنى بأبي جعفر. المتوفى سنة 130هـ على الأصح. وعنه راويان هما: أ- عيسى بن وردان المدني، وكنيته أبو الحارث. المتوفى في حدود سنة 160هـ. ب- سليمان بن محمد بن مسلم بن جماز. المتوفى بعد سنة 170هـ. 9- يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله الحضرمي المصري. المتوفى سنة 205هـ. وعنه راويان هما: أ- رويس: محمد بن المتوكل اللؤلؤي البصري. المتوفى سنة 238هـ. ب- روح بن عبد المؤمن الهذلي البصري. المتوفى سنة 234، أو 235هـ. 10- خلف بن هشام البزار البغدادي. أحد الرواة عن حمزة. وأخذ عنه راويان هما: أ- إسحاق بن إبراهيم بن عثمان بن عبد الله المروزي، ثم البغدادي. المتوفى سنة 286هـ. ب- إدريس بن عبد الكريم الحداد الغدادي. المتوفى سنة 292هـ. انظر في ترجمتهم: غاية النهاية لابن الجزري، النشر في القراءات العشر لابن الجزري أيضًا، معرفة القراء الكبار للذهبي. فقراءة هؤلاء الأئمة العشرة ورواتهم هي التي جمعت شروط القراءة الصحيحة، وهي: التواتر، وموافقة أحد المصاحف التي نسخها سيدنا عثمان -رضي الله عنه- ووافقت وجهًا من وجوه اللغة العربية. والقراءة التي تفقد واحدًا من هذه الشروط تسمى شاذة، أو آحادية، وهي التي عقد لها المصنف الفصل الآتي. 1 التعاشير: أي جعل علامة عند آخر كل عشر آيات.

فصل: في حكم الاحتجاج بالقراءة الشاذة

فصل: [في حكم الاحتجاج بالقراءة الشاذة] فأما ما نقل نقلا غير متواتر، كقراءة ابن مسعود1 -رضي الله عنه-: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"2: فقد قال قوم: ليس بحجة3؛ لأنه خطأ قطعا؛ لأنه واجب على الرسول تبليغ القرآن طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم وليس له مناجاة الواحد به.

_ 1 هو: الصحابي الجليل: عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب، أحد السابقين إلى الإسلام، والمهاجرين إلى الحبشة والمدينة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، شهد مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدرًا وما بعدها من المشاهد، كان كثير الملازمة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي قرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة النساء حتى أتى إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال له: "حسبك الآن ... " توفى سنة 32هـ. انظر: "الإصابة 2/ 368، والاستيعاب 2/ 316". 2 سورة المائدة الآية: 89، والقراءت المتواترة ليس فيها لفظ "متتابعات" وقراءة ابن مسعود أخرجها عبد الرازق في المصنف "16102" عن ابن جريج قال: سمعت عطاء: يقول: بلغنا في قراءة ابن مسعود "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات" قال: وكذلك نقرؤها. وفي الباب عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ مثل ابن مسعود، عند الطبري "1497" و"1498" وسنن البيهقي "10/ 60". 3 القراءة الشاذة يتعلق بها مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز القراءة بها، سواء أكان ذلك في الصلاة، أم في غيرها؟ للعلماء في ذلك خلاف طويل، بين مجيز ومانع، والذي رجحه جمهور المسلمين -سلفًا وخلفًا- عدم جواز القراءة بما هو شاذ من القراءات، ولا تصح بها الصلاة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء. =

وأن لم ينقلة [على أنه] من القرآن: احتمل أن يكون مذهبًا، واحتمل أن يكون خبرًا، ومع التردد لا يعمل به. والصحيح: أنه حجة1، لأنه يخبر أنه سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن

_ = قال الإمام النووي: "لا تجوز القراءة في الصلاة ولا في غيرها بالقراءة الشاذة، لأنها ليست قرآنا؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والقراءة الشاذة ليست متواترة، ومن قال غيره فغالط أو جاهل، فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه قراءته في الصلاة وغيرها، وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ. ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا يجوز القراءة بالشواذ، ولا يصلى خلف من يقرأ بها. انظر: التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص47. المسألة الثانية: في حكم الاحتجاج بها، واستنباط الأحكام الشرعية منها. وللعلماء فيها مذهبان: أحدهما: أنها ليست حجة، وهو رأي مالك والشافعي، وجمهور الأصوليين، ورواية عن الإمام أحمد واستدل المصنف لهذا المذهب بوجهين: الأول: أنه على تقدير أن الناقل نقله على أنه قرآن، فإنه يكون خطأ قطعًا لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجب عليه تبليغ الوحي لجماعة يحصل العلم بخبرهم، ولا يخرج عن عهدة التبليغ بتبليغ الواحد، وحينئذ نعلم قطعًا أن الناقل أخطأ على الرسول في نقله الآحاد على أنها قرآن، وما دامت ليست قرآنًا فلا يصح الاحتجاج بها. الثاني: نقله لها على أنها ليست قرآنًا، وحينئذ تكون مترددة بين الخبر، وبين أن تكون مذهبًا له، ومع التردد في جواز الاحتجاج بها لا تكون حجة، استصحابًا للحال فيها، وهو عدم الاحتجاج. انظر: الإحكام للآمدي "1/ 230-231" شرح مختصر الروضة "2/ 26". 1 وهو مذهب الحنفية ورأي للإمام الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد. انظر: فواتح الرحموت "2/ 16" نهاية السول "2/ 333" القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص155. =

لم يكن قرآنا: فهو خبر، فإنه ربما سمع الشيء من النبي -صلى الله عليه وسلم- تفسيرًا، فظنه قرآنًا. وربما أبدل لفظة بمثلها ظنًّا منه أن ذلك جائز، كما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يجوز مثل ذلك، وهذا يجوز في الحديث دون القرآن. ففي الجملة: لا يخرج عن كونه مسموعًا من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومرويًّا عنه فيكون حجة كيف ما كان. وقولهم: "يجوز أن يكون مذهبا له": قلنا: لا يجوز ظن مثل هذا بالصحابة -رضي الله عنهم- فإن هذا افتراء على الله -تعالى- وكذب عظيم؛ إذ جعل رأيه ومذهبه الذي ليس هو عن الله -تعالى- ولا عن رسوله قرآنًا، والصحابة -رضي الله عنهم- لا يجوز نسبة الكذب إليهم في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في غيره، فكيف يكذبون في جعل مذاهبهم قرآنا؟ هذا باطل يقينًا1.

_ = واستدل أصحاب هذا المذهب: بأن القراءة الشاذة، وإن لم يثبت كونها قرآنًا، إلا أنها تنزل منزلة خبر الآحاد، وهو حجة عند الجمهور. وقد احتج بها بعض العلماء في كثير من الأحكام الشرعية، مثل: الاستدلال على قطع يمين السارق بقراءة ابن مسعود "فاقطعوا أيمانهما"، ووجوب التتابع في صيام كفارة اليمين بقراءة ابن مسعود -أيضًا-: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات". قال أبو عبيد في فضائل القرآن: "فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن، وقد كان يروى مثل هذا عن التابعين في التفسير فيستحسن فكيف إذا روي عن كبار الصحابة، ثم صار في نفس القراءة، فهو أكثر من التفسير وأقوى، فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف: معرفة صحة التأويل" الإتقان للسيوطي "1/ 227-228". 1 خلاصة هذا الرد: أن كون الصحابي ينسب رأي نفسه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كذب من =

فصل: في اشتمال القرآن على الحقيقة والمجاز

فصل: [في اشتمال القرآن على الحقيقة والمجاز] والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز: وهو: اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي على وجه يصح. كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} 1 {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} 2، {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضّ} 3، {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ ... } 4، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 5 {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} 6 {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّه} أي: أولياء الله. وذلك كله مجاز، لأنه استعمال اللفظ في غير موضوعه.

_ = الصحابي وافتراء على النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث ينقل عنه ويقول ما لم يقل، وذلك لا يليق نسبته إلى الصحابة، مع تحريهم في الصدق عليه، فمن باب أولى لا يكذبون على الله تعالى، في جعل مذاهبهم قرآنًا. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 26". 1 سورة الإسراء من الآية: 24. قال الطوفي: والجناح: حقيقة للطائر من الأجسام، والمعاني والجمادات لا توصف به. "شرح المختصر 2/ 28". 2 سورة يوسف من الآية: 82. أي: أهلها؛ لأن الجمادات لا تفهم ولا تجيب. 3 سورة الكهف من الآية: 77. قال الطوفي: "والجدار لا إرداة له، إذ الإرادة حقيقة من خصائص الحيوان أو الإنسان، وإنما هو كناية عن مقاربته الانقضاض لأن من أراد شيئًا قاربه، فكانت المقارنة من لوازم الإرادة فتجوّز بها عنها". 4 سورة النساء الآية: 43، والمائدة: 6. وهو في الأصل: المكان المنخفض، فتجوّز به عن قضاء الحاجة. 5 سورة الشورى الآية: 40، والمراد بالسيئة الثانية: المجازاة. 6 سورة البقرة من الآية: 194. 7 سورة الأحزاب من الآية: 57.

ومن منع ذلك فقد كابر. ومن سلم وقال: لا أسميه مجازًا: فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه1. والله أعلم.

_ 1 خلاصة ما يريد أن يقوله المصنف: أن القرآن يوجد فيه كثير من الآيات المشتملة على المجاز، وأتى بأمثله لذلك، وأن من منع ذلك فقد كابر وعاند؛ لأنه ينكر شيئًا موجودًا ومحسًّا، ثم أشار إلى أن هناك من لا يسميه مجازًا، وإنما يطلق عليه إطلاقات أخرى، قال المصنف، فالخلاف مع هذا خلاف لفظي، قائم على الاصطلاح، ولا مشاحة فيه. هذا معنى كلامه. وقد نقل الطوفي عدة أوجه للمحتجين بأنه ليس في القرآن مجاز، نلخص منها: أولًا: أنه يلزم عليه أن يكون الله -تعالى- متجوزًا، أي: مستعيرًا؛ لأن مستعمل المجاز يسمى في اللغة متجوزًا، والتجوز: استعارة اللفظ لغير موضوعه، فيلزم: أن يسمى الله -تعالى- كذلك، لكنه لا يسمى بذلك، فلا يكون المجاز واقعًا في القرآن. ثانيا: أن المجاز لا ينبئ بنفسه عن معناه، فوقوعه في القرآن يوقع في اللبس والإشكال وعدم البيان، ومقصود القرآن البيان. ثالثًا: أن العدول إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، أو يدل عليه، والعجز على الله -تعالى- محال. ثم أجاب -رحمه الله تعالى- عن هذه الأدلة -بما ملخصه. أما عن الدليل الأول، فأجيب عنه بجوابين: أحدهما: صحة تسميته -سبحانه- متجوزًا بمعنى: أنه مستعمل للمجاز وليس فيه نقص ولا محذور، كما يسمى متكلمًا باستعماله للكلام. ثانيهما: عدم التسليم بأنه -سبحانه وتعالى- لو تكلم بالمجاز، لزم أن يسمى متجوزًا للفرق بينه -سبحانه- وبين خلقه؛ فإن أسماءه -سبحانه- وصفاته توقيفية، بخلاف غيره. =

....................................................

_ = ثم أجاب عن الدليل الثاني فقال: "إن البيان يحصل بالقرينة فلا إلباس". وقال ردًّا على الدليل الثالث: "وجوابه: بمنع ذلك، بل المجاز له فوائد سبق ذكره بعضها". ومنها: أن كلام الله -تعالى- حق، بمعنى أنه صدق، ليس بكذب ولا باطل، لا بمعنى أن جميع ألفاظه مستعملة في موضوعها الأصلي، وكونه له حقيقة معناه: أنه موجود له في نفسه بناء وتأويل، وأنه ليس بخيال لا وجود له في الخارج كالمنام. وأيضًا: فإنه كلام عربي، فهو مشتمل على المجاز، وقابل لوقوع المجاز، فالقرآن كذلك، وإلا لم يكن عربيًّا". راجع: شرح مختصر الروضة "2/ 30، 31". هذا: وقد نقل الشيخ "ابن بدران" -رحمه الله تعالى- مذاهب العلماء في المسألة، وحاول أن يجعل الخلاف فيها خلافًا لفظيًّا، فقال: "قوله: ومن منع فقد كابر": أي أن قومًا منعوا جواز وقوع المجاز في القرآن ونسب الطوفي المنع إلى الظاهرية. وحكى برهان الدين: إبراهيم بن مفلح في طبقاته: أن أبا الحسن الجزري البغدادي الحنبلي له اختيارات منها: أنه لا مجاز في القرآن، وأنه يجوز تخصيص الكتاب والسنة بالقياس. وحكى شيخ الإسلام "ابن تيمية" في كتاب "الإيمان" أن أبا الحسن هذا، وأبا عبد الله بن حامد، وأبا الفضل التميمي بن أبي الحسن التميمي منعوا أن يكون في القرآن مجاز. ومنع ذلك -أيضًا- محمد بن خويز منداد وغيره من المالكية. ومنع منه داود بن علي، وابنه: أبو بكر، ومنذر بن سعيد اللوطي، وصنف فيه مصنفًا. ولما كان هؤلاء من العلم بمكان معروف، تردد المصنف في الأمر، فجعل ذلك إما مكابرة، وإما نزاعًا في عبارة. وأقول: لا مكابرة، وإنما الصواب الثاني. =

.................................

_ وبيانه: أن تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز، هو اصطلاح حادث، بعد انقضاء القرون الثلاثة، وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز: أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه: "مجاز القرآن". وقد بين هذا ابن السبكي في "عروس الأفراح" ولكن لم يعنِ بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية: ما يعين به عن الآية. والمانعون قالوا: إنكم تقولون: المجاز: الكلمة المستعلمة في غير ما وضعت له، وهذا يقتضي العلم: بأن هذه الكلمة وضعت أولًا لكذا، ثم استعملت في غيرها، أو فيها، فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال، وهذا إنما يصح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية، فيدعي أن قومًا من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا، وهذا بكذا، وبجعل هذا عامًا في جميع اللغات. قال الإمام "ابن تيمية": وهذا القول لا نعرف أحدًا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم الجبائي، فإنه تنازع هو أبو الحسن الأشعري في مبدأ اللغات، فقال أبو هاشم: هي اصطلاحية وقال الأشعري: هي توقيفية، ثم خاض الناس بعدهما في هذه المسألة. قال الإمام: والمقصود هنا: أنه لا يمكن أحدًا أن ينقل عن العرب، بل ولا عن أمة من الأمم: أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة، ثم استعملوها بعد الوضع، وإنما المعروف المنقول بالتواتر: استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها، فإن ادعى مدع أنه يعلم وضعًا يتقدم ذلك فهو مبطل، فإن هذا لم ينقل عن أحد من الناس. وقد أطال الإمام النفس في هذه المسألة في كتابه: "الإيمان". وحاصل الأمر: تعذر معرفة تقدم وضع على وضع، فلا مجاز بالمعنى الذي قالوه، بل الكل موضوع، فرجع إلى أنه نزاع في العبارة" نزهة الخاطر "1/ 182-184" طبعة مكتبة المعارف بالرياض.

فصل: ليس في القرآن ألفاظ غير عربية

فصل: [ليس في القرآن ألفاظ غير عربية] قال القاضي: ليس في القرآن لفظ بغير العربية؛ لأن الله -تعالى- قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ... } 1. ولو كان فيه لغة العجم: لو يكن عربيًّا محضًا، وآيات كثيرة في هذا المعنى. ولأن الله -سبحانه- تحداهم بالإتيان بسورة من مثله، ولا يتحداهم بما ليس من لسانهم ولا يحسنونه2.

_ 1 سورة فصلت من الآية: 44. 2 انظر: العدة "3/ 707" وما قاله القاضي أبو يعلى هو رأي كثير من العلماء، منهم الإمام الشافعي، وأبو عبيدة: معمر بن المثنى، وابن جرير الطبري، وأبو بكر الباقلاني، وأحمد بن فارس، وأبو بكر: عبد العزيز بن جعفر الحنبلي، وأبو الخطاب، وابن عقيل وغيرهم. انظر: التمهيد "2/ 278" شرح الكوكب المنير "1/ 192، 193". وهذا الخلاف إنما هو في غير الأعلام، أما الأعلام: فمتفق على وجودها مثل: إسرائيل، جبريل، عمران، نوح، إلخ. قال الإمام الشافعي: "وقد تكلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له -إن شاء الله- فقال منهم قائل: إن في القرآن عربيًّا وأعجميًّا، والقرآن يدل على أن ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب". ثم قال: "إن جهل بعض العرب ببعض ما في القرآن من ألفاظ غريبة عنهم ليس دليلًا على عجمة القرآن. ويحتمل أن بعض الأعاجم تعلم بعض الألفاظ العربية، وانتشرت في لغاتهم، فتوافقت بعض كلمات القرآن القليلة مع تلك الألفاظ.

وروي عن ابن عباس1، وعكرمة2 -رضي الله عنهما- أنهما قالا: فيه ألفاظ بغير العربية3.

_ = وربما تكون بعض الكلمات الأعجمية قد سرت إلى العرب فعربوها، فصار بذلك عربي الشكل والصيغة والمخارج، وإن كان أصله أعجميًّا". وبعد أن أورد الآيات الصريحة في أن القرآن كله عربي، ختم كلامه بقوله: "فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح" الرسالة ص40-44 تحقيق الشيخ شاكر. وقال أبو عبيد: القاسم بن سلام: "والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعًا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية، كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعرِّبت بألسنتها، وحوّلتها عن ألفاظ العجم، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال أعجمية فصادق" شرح الكوكب المنير "1/ 194-195". 1 هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- حبر الأمة، وترجمان القرآن، دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". توفي بالطائف سنة 68هـ. "الإصابة 2/ 330 والاستيعاب "2/ 350". 2 هو: عكرمة بن عبد الله، مولى ابن عباس، أحد فقهاء مكة من التابعين، أصله بربري من أهل المغرب. توفي سنة 104هـ على أرجح الروايات. "وفيات الأعيان 2/ 427، معجم الأدباء 12/ 181". 3 وهو منقول -أيضًا- عن كثير من العلماء، منهم: مجاهد، وابن جبير، وعطاء وغيرهم. انظر: "الإحكام للآمدي "1/ 50 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 212، المزهر 1/ 266 وما بعدها، شرح الكوكب المنير 1/ 194".

قالوا: {نَاشِئَةَ اللَّيْل} 1 بالحبشية، و"مشكاة"2 هندية، و"استبرق"3 فارسية. وقال من نصر هذا4: اشتمال القرآن على كلمتين ونحوهما أعجمية، لا يخرجه عن كونه عربيًّا، وعن إطلاق هذا الاسم عليه، ولا يمهد للعرب حجة، فإن الشعر الفارسي يسمى فارسيًّا، وإن كان فيه آحاد كلمات عربية. ويمكن الجمع بين القولين، بأن تكون هذه الكلمات أصلها بغير العربية، ثم عرّبتها العرب، واستعملتها، فصارت من لسانها بتعريبها واستعمالها لها وإن كان أصلها أعجميًّا5.

_ 1 من قوله تعالى في سورة المزمل الآية 6: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} . 2 من قوله تعالى في سورة النور الآية: 35: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ... } الآية. قال صاحب مسلم الثبوت -وهو هندي-: "ثم كوة المشكاة هندية غير ظاهر. فإن البراهمة العارفين بأنحاء الهند لا يعرفونه، نعم "المسكاة" بضم الميم والسين المهملة بمعنى التبسم هندي وليست في القرآن بهذا المعنى" انظر: فواتح الرحموت "1/ 212". وجاء في لسان العرب "المشكاة هي الكوة، وقيل هي بلغة الحبش، ثم قال: والمشكاة من كلام العرب". 3 من مثل قوله تعالى في سورة الكهف آية: 31: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ... } . 4 أي: رأي ابن عباس ومن معه. 5 وهذا ما نقلناه -قبل ذلك- عن الإمام الشافعي، وعن أبي عبيد القاسم بن سلام.

فصل: في المحكم والمتشابه

فصل: [في المحكم والمتشابه] وفي كتاب الله -سبحانه- محكم ومتشابه1، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ... } 2. قال القاضي: المحكم: المفسر، والمتشابه: المجمل؛ لأن الله -سبحانه- سمى "المحكمات" "أم الكتاب" وأم الشيء: الأصل الذي لم يتقدمه غيره، فيجب أن يكون المحكم غير محتاج إلى غيره، بل هو أصل بنفسه وليس إلا ما ذكرنا.

_ 1 المحكم: معناه المتقن، يقال أحكمت الشيء، أحكمه إحكامًا، فهو محكم، إذا أتقنته، فكان في غاية ما ينبغي من الحكمة، ومنه: بناء محكم: أي ثابت يبعد انهدامه، وذلك كالنصوص والظواهر، لأنه من البيان في غاية الإحكام والإتقان "المصباح المنير 1/ 145، شرح الكتاب المنير 2/ 140-141" ولذلك وصف الله -تعالى- كتابه بذلك، فقال جل شأنه {الر، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} مطلع سورة هود. والمتشابه: مأخوذ من الشبه، أو الشبه، أو الشبيه، وهو ما بينه وبين غيره أمر مشترك، فيتشتبه به. "المصباح المنير 1/ 304". وقد وصف الله -تعالى- كتابه الكريم بأنه متشابه. فقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ... } [الزمر: آية 23] : يشبه بعضه بعضًا في إعجازه وتناسبه وتناسقه. وهذا المعنى لكل من المحكم والمتشابه يسمى بالإحكام العام، والتشابه العام. وأما بالمعنى الخاص الذي يبحثه الأصوليين: فهو ما يأتي بعد ذلك، وهو الذي تضمنته آية سورة آل عمران -كما سيأتي حالًا-. 2 سورة آل عمران من الآية: 7.

وقال ابن عقيل1: المتشابه هو الذي يغمض علمه على غير العلماء والمحققين، كالآيات التي ظاهرها التعارض، كقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُون} 2. وقال -تعالى- في آية أخرى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} 3. ونحو ذلك. وقال آخرون: المتشابه: الحروف المقطعة في أوائل السور، والمحكم: ما عداه5. وقال آخرون: المحكم: الوعد والوعيد، والحرام والحلال،

_ 1 هو: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الحنبلي، المقرئ الفقيه الأصولي الواعظ المتكلم، أحد الأئمة الأعلام، له مؤلفات كثيرة تدل على سعة علمه وفضله، منها: "الواضح" في أصول الفقه قال عنه الشيخ ابن بدران: "أبان فيه عن علم كالبحر الزاخر، وفضل يفحم من في فضله يكابر، وهو أعظم كتاب في هذا الفن، حذا فيه حذو المجتهدين". توفي ابن عقيل سنة 513هـ. "ذيل طبقات الحنابلة 1/ 142-166، المنهج الأحمد 2/ 215-232". 2 سورة المرسلات الآية: 35. 3 سورة يس من الآية: 52. 4 أي: من الآيات التي ظاهرها التعارض، وهي في الواقع ليست كذلك، قال الواحدي: قال المفسرون: في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها يتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون. وقيل في تفسير آية سورة المرسلات: إن هذا إشارة إلى وقت دخولهم النار وهم عند ذلك لا ينطقون؛ لأن مواقف السؤال والحساب قد انقضت. وقال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. انظر: فتح القدير للشوكاني "5/ 416" طبعة دار الخير. وبناء على تفسير ابن عقيل للمتشابه: بأنه الذي يغمض علمه على غير العلماء، يكون المحكم هو: ما لا يغمض علمه ولا فهمه. 5 انظر: الإتقان للسيوطي "2/ 2".

والمتشابه: القصص والأمثال1. والصحيح: أن المتشابه: ما ورد في صفات الله -سبحانه- مما يجب الإيمان به، ويحرم التعرض لتأويله، كقوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} 3، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} 4، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك} 5 {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 6، ونحوه7. فهذا اتفق السلف -رحمهم الله- على الإقرار به، وإمراره على وجهه وترك تأويله. فإن الله -سبحانه- ذم المبتغين لتأويله، وقرنهم -في الذم- بالذين يبتغون الفتنة، وسماهم أهل زيغ.

_ 1 انظر: الإحكام للآمدي "1/ 166". 2 سورة طه الآية: 5. 3 سورة المائدة من الآية: 64. 4 ص من الآية: 75 وهي قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} . 5 سورة الرحمن من الآية: 27. 6 سورة القمر من الآية: 14. 7 من الآيات والأحاديث مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يد الله ملأى لا تغيضها النفقة" وهو حديث صحيح: أخرجه البخاري "4684" ومسلم "993" وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك" وقال: "يد الله ملأي لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار". قال الطوفي: "ونحو ذلك، مما هو كثير في الكتاب والسنة، لأن هذا اشتبه المراد منه على الناس، فلذلك قال قوم بظاهره، فجسموا وشبهوا، وفر قوم من التشبيه، فتأولوا وحرفوا، وتوسط قوم، فسلموا، وأمرُّوه كما جاء، مع اعتقاد التنزيه، فسلموا، وهم أهل السنة" شرح المختصر "2/ 44، 45".

وليس في طلب تأويل ما ذكروه من المجمل1 وغيره ما يذم به صاحبه، بل يمدح عليه؛ إذ هو طريق إلى معرفة الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام. ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله -سبحانه- منفرد بعلم تأويل المتشابه، وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله} 2 له لفظًا ومعنى. أما اللفظ: فلأنه لو أراد عطف "الراسخين" لقال: "ويقولون آمنا به" بالواو. وأما المعنى: فلأنه ذم مبتغي التأويل، ولو كان ذلك للراسخين معلومًا: لكان مبتغيه ممدوحًا لا مذمومًا. ولأن قولهم {آمَنَّا بِهِ} يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه. سيما إذا اتبعوه بقولهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فذكرهم ربهم -ههنا- يعطي الثقة به، والتسليم لأمره، وأنه صدر منه، وجاء من عنده كما جاء من عنده المحكم. ولأن لفظة "أما" لتفصيل الجمل، فذكره لها في {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغ} مع وصفه إياهم لابتغاء المتشابه، وابتغاء تأويله، يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم "الراسخون" ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل.

_ 1 أي: الآراء التي عرضها الأول. 2 آل عمران: 7.

وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد: فلا يجوز حمله على غير ما ذكرناه؛ لأن ما ذكر من الوجوه لا يعلم تأويله كثير من الناس. فإن قيل: فكيف يخاطب الله الخلق بما لا يعقلونه، أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله؟ قلنا: يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله؛ ليختبر طاعتهم، كما قال -تعالي-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين} 1 {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَم ... } الآية2، {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس} 3. وكما اختبرهم بالإيمان بالحروف المقطعة مع أنه لا يعلم معناها4. والله أعلم.

_ 1 سورة محمد من الآية: 31. 2 سورة البقرة من الآية: 143. 3 سورة الإسراء من الآية: 60. 4 قال الشوكاني: "لا شك أن لها معنى لم تبلغ أفهامنا إلى معرفته...." انظر في ذلك: فتح القدير "1/ 314 وما بعدها، وإرشاد الفحول 1/ 150" الطبعة المحققة.

الباب الثالث: النسخ

الباب الثالث: النسخ فصل: تعريف النسخ النسخ في اللغة: الرفع والإزالة، ومنه: "نسخت الشمس الظل" ونسخت الريح الأثر1. وقد يطلق لإرادة ما يشبه النقل، كقولهم: "نسخت الكتاب"2. فأما النسخ في الشرع: فهو بمعنى الرفع والإزالة لا غير.

_ 1 أي: رفعته وأزلته؛ لأن الشمس إذا قابلت موضع الظل ارتفع وزال، والريح إذا مرت على آثار المشي، ارتفعت وزالت. انظر: مختصر الطوفي وشرحه "2/ 251". 2 قال الطوفي: "..... فإن نسخ الكتاب ليس نقلًا لما في المنسوخ منه حقيقة؛ لبقائه بعد النسخ، وإنما هو مشبه للنقل من جهة أن ما في الأصل صار مثله في الفرع لفظًا ومعنى". ومن هذا الباب: تناسخ المواريث، وهو: انتقال حالها بانتقالها من قوم إلى قوم، مع بقاء المواريث في نفسها". ثم قال: "اختلف في النسخ في أي المعنيين هو حقيقة، هل هو حقيقة في الرفع والإزالة، أو في النقل وما يشبهه؟ وفيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك، وهو قول القاضي أبي بكر والغزالي وغيرهما. =

وحدّه: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه. ومعنى الرفع: إزالة الشيء على وجه لولاه لبقي ثابتًا على مثال: "رفع حكم الإجارة بالفسخ" فإن ذلك يفارق زوال حكمها بانقضاء مدتها. وقيدنا الحد بالخطاب المتقدم؛ لأن ابتداء العبادات في الشرع مزيل لحكم العقل من براءة الذمة، وليس بنسخ. وقيدناه بالخطاب الثاني؟ لأن زوال الحكم بالموت والجنون ليس بنسخ. وقولنا: "مع تراخيه عنه"؛ لأنه لو كان متصلًا به، كان بيانًا وإتمامًا لمعنى الكلام، وتقديرًا له بمدة وشرط1.

_ = والثاني: أنه حقيقة في الرفع والإزالة، مجاز في النقل، وهو قول أبي الحسين البصري وغيره. والثالث: عكس هذا، وهو أنه حقيقة في النقل، مجاز في الإزالة، وهو اختيار القفال. ذكر هذه الأقوال وأصحابها الآمدي. والأظهر من هذه الأقوال أن النسخ حقيقة في الرفع، مجاز في النقل". شرح المختصر "2/ 252" وانظر: المستصفى "2/ 35" وما بعدها، الإحكام للآمدي "2/ 236". 1 هذه كلها احترازات أراد المصنف أن يخرجها عن كونها نسخًا. فقوله: "رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم" احتراز من زوال حكم النفي الأصلي، فإن الأصل براءة الذمة، فإذا أثبتنا حقًّا من الحقوق، فقد رفعنا حكم براءة الذمة، وشغلناها بهذا الحق، وهو ليس بنسخ، لأن الحكم المرفوع لم يكن ثابتًا بخطاب متقدم. وقوله: "بخطاب" احتراز من زوال الحكم بالموت أو المجنون، لأن من مات أو جن، انقطعت عنه أحكام التكليف، وليس ذلك بنسخ. =

وقال قوم: النسخ كشف مدة العبادة بخطاب ثان1. وهذا يوجب أن يكون قوله -تعالى-: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ... } 2 نسخًا وليس فيه معنى الرفع3، فإن قوله: {إِلَى اللَّيْلِ} إذا لم يتناول إلا النهار متباعدًا عن الليل بنفسه، فأي معنى لنسخه؟! وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول، وما ذكروه تخصيص. على أن نسخ العبادة قبل وقتها والتمكن من امتثالها جائز، وليس فيه بيان لانقطاعها.

_ = وقوله: "مع تراخيه عنه" احتراز من زوال الحكم بخطاب متصل، كالشرط والاستثناء، فهذا ليس نسخًا، وإنما يعتبر تخصيصًا، والتخصيص معناه -عند بعض الأصوليين-: بيان المراد بالعام، ولذلك قال المصنف: "لأنه لو كان متصلًا به كان بيانًا" يعني: تخصيصًا لا نسخًا. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 258" إرشاد الفحول "1/ 510". 1 وهو منقول عن الحنفية حيث قالوا: "النسخ بيان لمدة الحكم المنسوخ في حق الشارع، وتبديل لذلك الحكم بحكم آخر في حقنا على ما كان معلومًا عندنا لو لم ينزل الناسخ" انظر: أصول السرخسي "2/ 54" وقريب منه ما ذهب إليه الإمام الرازي في المحصول "جـ1 ق3 ص428" والبيضاوي في المنهاج، على ما في نهاية السول "2/ 162"، وابن حزم في الإحكام "4/ 438". 2 سورة البقرة من الآية "187". 3 هذا رد من المصنف على التعريف خلاصته: أن انتهاء مدة الصوم بظهور الليل ليس رفعًا للحكم، وإنما هو مغيًّا بغاية معينة، ينتهي بوجودها. ثم بين أن هذا التعريف ينطبق على التخصيص، لا على النسخ. كما بين أن نسخ العبادة قبل دخول وقتها جائز عند جمهور العلماء، ومنهم أكثر الفقهاء، إلا أن أكثر الحنفية والمعتزلة منعوا ذلك.

فصل: معنى النسخ عند المعتزلة

فصل: [معنى النسخ عند المعتزلة] وحدّ المعتزلة النسخ بأنه: الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا1. ولا يصح؛ لأن حقيقة النسخ الرفع، وقد أخلوا الحد عنه2. فإن قيل: تحديد النسخ بالرفع لا يصح لخمسة أوجه: أحدها: أنه لا يخلو: إما أن يكون رفعًا لثابت، أو لما لا ثبات له،

_ 1 انظر: المعتمد "1/ 396". 2 قوله: "ولا يصح" يريد أن هذا التعريف المنقول عن بعض المعتزلة غير صحيح، لأن النسخ في الشرع إنما هو الرفع، وقد عدلوا عنه إلى قولهم: "الخطاب الدال ... الخ" فكان الحد للناسخ لا للنسخ، والمطلوب: تعريف النسخ لا الناسخ الذي هو اسم فاعل، وذلك أن الخطاب ليس المراد به مصدر خاطب خطابًا، حتى يكون تعريف مصدر بمصدر، وإنما المراد بالخطاب: القول الدال على شيء. انظر: نزهة الخاطر "1/ 192". جاء في العدة لأبي يعلى "3/ 768-769" -بعد أن عرّف النسخ- أن النسخ يفتقر إلى وجود خمس شرائط: 1- أن يكون الناسخ متأخرًا عن المنسوخ. 2- أن يكون الحكم المنسوخ قد ثبت بالشرع. 3- أن يكون الرافع دليلًا شرعيًّا. 4- أن لا يكون للعبادة المنسوخة مدة معينة. 5- أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله، ولا يكون أضعف منه. انتهى ملخصًا من العدة، وهي مأخذوة من التعريفات المتقدمة. وأما كونه أقوى أو مساو فسيأتي ذلك قريبًا.

فالثابت لا يمكن رفعه، وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه. الثاني: أن خطاب الله -تعالى- قديم، فلا يمكن رفعه. الثالث: أن الله -تعالى- إنما أثبته لحسنه، فالنهي يؤدي إلى أن ينقلب الحسن قبيحًا. الرابع: أن ما أمر به، إن أراد وجوده، كيف ينهى عنه، حتى يصير غير مراد؟ الخامس: أنه يدل على "البداء" فإنه يدل على أنه بدا له مما كان حكم به وندم عليه، وهذا محال في حق الله -تعالى-1.

_ 1 خلاصة هذه الاعتراضات: أولًا: أن الحكم قبل النسخ إما أن يكون ثابتًا أو غير ثابت، فإن كان ثابتًا لم يمكن رفعه بالناسخ، لأن ارتفاع الحكم الثابت بالحكم الطارئ ليس بأولى من العكس؛ لاستقرار الثابت وتمكنه. وأما إذا كان غير ثابت فلا يحتاج إلى النسخ، لأنه مرتفع بنفسه. ثانيًا: أن حكم الله -تعالى- قديم، فلا يمكن رفعه وإزالته، لأن ذلك يعتبر تغييرًا له، وهو محال على القديم. ثالثًا: أن الله -تعالى- إنما أثبت الحكم المرفوع لما فيه من حسن، فإذا رفعه كان هذا الرفع قبيحًا، وهذا لا يجوز. رابعًا: أن الرفع فيه تناقض، لأن إثباته يدل على إرادته، ورفعه يدل على قدم إرادته، وهو تناقض لا يليق بالله تعالى. خامسًا: أن الرفع أو النسخ يدل على نسبة الجهل إلى الله تعالى، وهو محال، لأنه يدل على أن الشارع قد بدا له ما كان خافيًا عنه، على حد قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] هذا معنى كلامه، وسيأتي رده على هذه الاعتراضات.

قلنا: أما الأول: ففاسد؛ فإنا نقول: بل هو رفع لحكم ثابت لولاه لبقي ثابتًا، كالكسر في المكسور، والفسخ في العقود. إذ1 لو قال قائل: إن الكسر إما أن يرد على معدوم أو موجود: فالمعدوم لا حاجة إلى إعدامه، والموجود لا ينكسر2، كان غير صحيح؛ لأن معناه: أن له من استحكام البنية ما يبقى لولا الكسر، وندرك تفرقته بين كسره، وبين انكساره بنفسه، لتناهي الخلل فيه، كما ندرك تفرقته بين فسخ الإجارة، وبين زوال حكمها: لانقضاء مدتها3. وبهذا فارق "التخصيص" "النسخ"؛ فإن التخصيص يدل على أنه أريد باللفظ: البعض3. وأما الثاني: فإنه يراد بالنسخ: رفع تعلق الخطاب بالمكلف، كما يزول

_ 1 لفظ "إذ" من المستصفى لتوضيح المعنى. 2 عبارة المستصفى: "والوجود لا سبيل إلى إزالته". 3 خلاصة الرد: أن ارتفاعه غير ممتنع؛ لأنه إما أن يرتفع بانتهاء مدته، وإما بالناسخ مع إرادة الشارع، قياسًا على كسر آنية من الأواني: فيقال: إن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائمًا، لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر، فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية دائمًا، لولا الكسر. ومثل ذلك: فسخ عقد الإجارة، فإن الفسخ يقطع حكم العقد، ولولاه لدام العقد، فالفسخ قاطع لحكم العقد الدائم. وبهذا فارق النسخ التخصيص، فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ يدل على البعض لا الكل، والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد الدلالة عليه. انظر في ذلك: المستصفى "2/ 40، 41".

تعلقه به؛ لطريان العجز والجنون، ويعود بعودة القدرة والعقل، والخطاب في نفسه لا يتغير1. وأما الثالث: فينبني على التحسين والتقبيح في العقل، وهو باطل2. وقد قيل: إن الشيء يكون حسنًا في حالة، وقبيحًا في أخرى، لكن لا يصح هذا العذر؛ لجواز النسخ قبل دخول الوقت، فيكون قد نهي عما أمر به في وقت واحد. والرابع: ينبني على أن الأمر مشروط بالإرادة وهو غير صحيح3. وأما الخامس: ففاسد؛ فإنهم إن أرادوا أن الله -تعالى- أباح ما حرم، ونهى عما

_ 1 خلاصة الرد: أن الحكم مقتضى الخطاب وأثره، لا نفس الخطاب حتى يرد عليه ما قلتم، فالمرتفع بالنسخ مقتضى الخطاب القديم، لا نفس الخطاب، بدليل أن الخطاب يرتفع بالعجز والجنون، ثم يعود بعد القدرة والعقل. 2 يريد أن يقول: إن هذا مبنى على مسألة أخرى: هي التحسين والتقبيح العقليين اللذين يقول بهما المعتزلة، بينما أهل السنة يقولون: إن الحسن والقبح شرعيان، فالحسن: ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع. 3 معناه: أن اعتراضكم مبني على أن الأمر مشروط بالإرادة، وهو يؤدي إلى التناقض، فيكون المنسوخ مرادًا وغير مراد، وهذا غير صحيح، لأن الإرادة تعلقت بوجوده قبل النسخ، وبعدمه بعده، فلا تناقض، لأن التناقض إنما يكون مع اتحاد وقت التعلق، أما إرادة شيء في وقت، وعدم إرادته في وقت آخر فلا تناقض فيه، لانفكاك الجهة.

أمر به: فهو جائز؛ {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 1، ولا تناقض كما أباح الأكل ليلًا، وحرمه نهارًا. وإن أرادوا: أنه انكشف له ما لم يكن عالمًا به: فلا يلزم من النسخ، فإن الله -تعالى- يعلم أنه يأمرهم بأمر مطلق، ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم يقطع فيه التكليف بالنسخ2. فإن قيل: فهم مأمورون به في علم الله -تعالى- إلى وقت النسخ، أو أبدًا؟ إن قلتم: إلى وقت النسخ: فهو بيان مدة العبادة. وإن قلتم: أبدًا، فقد تغير علمه ومعلومه. قلنا: بل هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع للحكم، المطلق الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله البيع المطلق مفيدًا لحكمه،

_ 1 سورة الرعد من الآية: 39. 2 وضح الطوفي هذا الرد بقوله: "واجب عن الخامس -وهو لزوم البداء- فإنه غير لازم للقطع، أي: لأنا نقطع بكمال علم الله -تعالى- والبداء ينافي كمال العلم، لأنه يستلزم الجهل المحض؛ لأنه ظهور الشيء بعد أن كان خفيًّا.... وإذا ثبت استحالة البداء على الله سبحانه وتعالى، فتوجيه النسخ: هو أن الله سبحانه وتعالى، علم المصلحة في الحكم تارة، فأثبته بالشرع، وعلم المفسدة فيه تارة، فنفاه بالنسخ. ولذلك فائدتان: إحداهما: رعاية الأصلح للمكلفين تفضلًا من الله عز وجل لا وجوبًا. الفائدة الثانية: امتحان المكلفين بامتثالهم الأوامر والنواهي، خصوصًا في أمرهم بما كانوا منهيين عنه، ونهيهم عما كانوا مأمورين به، فإن الانقياد له أدل على الإيمان والطاعة". شرح المختصر "2/ 264".

إلى أن ينقطع بالفسخ، ولا يعلمه في نفسه قاصرًا، ويعلم أن الفسخ سيكون، فينقطع الحكم به، لا لقصوره في نفسه.

فصل: الفرق بين النسخ والتخصيص

فصل: [الفرق بين النسخ والتخصيص] فإن قيل: فما الفرق بين النسخ والتخصيص؟ قلنا: هما مشتركان من حيث: إن كل واحد يوجب اختصاص بعض متناول اللفظ. مفترقان من حيث: إن التخصيص: بيان أن المخصوص غير مراد باللفظ. والنسخ يخرج ما أريد باللفظ الدلالة عليه كقوله: "صم أبدًا" يجوز أن ينسخ ما أريد باللفظ في بعض الأزمنة. كذلك افترقا في وجوه ستة: أحدها: أن النسخ يشترط تراخيه، والتخصيص يجوز اقترانه1. والثاني: أن النسخ يدخل في الأمر بمأمور واحد، بخلاف التخصيص. والثالث: أن النسخ لا يكون إلا بخطاب، والتخصيص يجوز بأدلة العقل والقرائن. والرابع: أن النسخ لا يدخل في الأخبار، والتخصيص بخلافه2.

_ 1 كما يجوز أن يتقدم أو يتأخر. 2 وهو مذهب جمهور العلماء، وهناك من أجاز ذلك، كالإمام الرازي وغيره. انظر: المحصول "جـ1 ق3 ص9". =

والخامس: أن النسخ لا يبقى معه دلالة اللفظ على ما تحته، والتخصيص لا ينتفي معه ذلك. والسادس: أن النسخ في المقطوع به لا يجوز إلا بمثله، والتخصيص فيه جائز بالقياس وخبر الواحد وسائر الأدلة.

_ = وقد أورد الشوكاني عشرين فرقًًا بين النسخ والتخصيص، ونسبها لقائليها، تراجع في الجزء الأول ص510 وما بعدها الطبعة المحققة.

فصل: ثبوت النسخ بالأدلة العقلية والنقلية

فصل: [ثبوت النسخ بالأدلة العقلية والنقلية] وقد أنكر قوم النسخ1. وهو فاسد؛ لأن النسخ جائز عقلًا وقد قام دليله شرعًا.

_ 1 الخلاف في النسخ دائر بين الجواز العقلي أو الشرعي، والوقوع. قال الشيخ الطوفي: "اختلف الناس في النسخ، والخلاف إما في جوازه أو في وقوعه. والخلاف في جوازه، إما عقلًا، أو شرعًا. وقد اتفق أهل الشرائع على جوازه عقلًا، ووقوعه سمعًا، إلا الشمعونية من اليهود، فإنهم أنكروا الأمرين، وأما العنانية منهم، وأبو مسلم الأصفهاني من المسلمين، فإنهم أنكروا جواز النسخ شرعًا، لا عقلًا شرح مختصر الروضة "2/ 266، 267". وأبو مسلم الذي أشار إليه الطوفي: هو: محمد بن بحر الأصفهاني، مفسر، نحوي، متكلم معتزلي، له كتاب في التفسير على مذهب المعتزلة يسمى "جامع التأويل لمحكم التنزيل" ولد الأصفهاني سنة 254هـ، وتوفي سنة 322هـ. وهو غير الجاحظ، خلافًا لما ذكره الإسنوي في نهاية السول "2/ 149": انظر: "معجم الأدباء 18/ 35، بغية الوعاة 1/ 59". والنقول عن هذا الرجل -في قضية النسخ- متضاربة، والذي توصل إليه المحققون أن خلافه مع الجمهور خلاف لفظي، وأنه لا ينكر النسخ، كما هو =

أما العقل: فلا يمتنع أن يكون الشيء مصلحة في زمان دون زمان، ولا بُعْدَ في أن الله -تعالى- يعلم مصلحة عباده في أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له فيثابوا، ويمتنعوا -بسبب العزم عليه- عن معاص وشهوات، ثم يخففه عنهم. فأما دليله شرعًا: فقال الله -تعالى-: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ... } 1، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة....} 2.

_ = مشهور، فهو يسميه تخصيصًا لا نسخًا, قال المحلي في شرح جمع الجوامع "2/ 88": "النسخ واقع عند كل المسلمين، وسماه أبو مسلم الأصفهاني من المعتزلة تخصيصًا؛ لأنه قصر للحكم على بعض الأزمان، فهو تخصيص في الأزمان، كالتخصيص في الأشخاص. فقيل: خالف في وجوده حيث لم يذكره باسمه المشهور، فالخلف الذي حكاه الآمدي وغيره عنه من نفيه وقوعه لفظي لما تقدم من تسميته تخصيصًا". 1 سورة البقرة من الآية: 106 وقد اعترض بعض العلماء على الاستدلال بهذه الآية على وقوع النسخ فقالوا: إن الآية تفيد صدق التلازم الحاصل بين الشرط والجزاء، وصدق هذا التلازم، لا يتوقف على وقوع الشرط والجزاء ولا على وقوعهما، بل إن التلازم يصدق ولو كان الشرط محالًا، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِين} [الزخرف: 81] . وقد أجاب الإسنوي على ذلك بما حاصله: أن الآية مع قطع النظر عن سبب نزولها لا دلالة فيها على الجواز كما تقولون، ولكن إذا نظرنا إلى سبب النزول: وهو أن اليهود عابوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحوله عن بيت المقدس إلى البيت الحرام، فقالوا: إن محمدًا يأمر بالشيء، ثم ينهى عنه، فأنزل الله تعالى -ردًا عليهم-: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ... } انظر: نهاية السول "2/ 557" بهامشه سلم الوصول. 2 سورة النحل من الآية: 110.

وقد أجمعت الأمة على أن شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- قد نسخت ما خالفها من شرائع الأنبياء قبله. وقد كان يعقوب -عليه السلام- يجمع بين الأختين. وآدم -عليه السلام- كان يزوج بناته من بنيه، وهو محرم في شرائع من بعدهم من الأنبياء عليهم السلام1.

_ 1 هذه أمثلة لوقوع النسخ بين الشرائع المختلفة، وهناك أمثلة كثيرة لوقوع النسخ في شريعتنا، منها: 1- نسخ اعتداد المتوفى عنها زوجها حولًا كاملًا، بالاعتداد بأربعة أشهر وعشر، فقد كانت المرأة في صدر الإسلام تعتد سنة كاملة، عملًا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ... } [البقرة: 240] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ... } [البقرة: 234] فهذه الآية الأخيرة ناسخة للاعتداد بالحول، وهي وإن كانت متقدمة على الثانية في التلاوة، والأصل: أن يكون المتأخر هو الناسخ، إلا ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول، فالآية الناسخة نزلت بعد المنسوخة، وإن كانت قد وضعت قبلها. على أن من العلماء من قال: إنها ليست منسوخة، وإنما خص من الحول بعضه فجعل عدة واجبة على المرأة، وبقي البعض وصية لها إن شاءت مكثت ولها المتعة من تركة زوجها، وإن شاءت خرجت وسقط حقها في المتعة. وقد أخرج ذلك البخاري "4531" وابن جرير الطبري عن مجاهد، إلا أن الجمهور على أنها منسوخة: انظر: فتح القدير للشوكاني "1/ 258". 2- نسخ الوصية للوالدين بآية المواريث. وأمثلة كثيرة لا تخفى على أهل العلم، وكلها تدل على وقوع النسخ، والوقوع دليل على الجواز وزيادة.

فصل: في وجوه النسخ في القرآن

فصل: [في وجوه النسخ في القرآن] يجوز نسخ الآية دون حكمها، ونسخ حكمها دون تلاوتها، ونسخهما معًا. وأحال قوم نسخ اللفظ؛ فإن اللفظ إنما نزل ليتلى، ويثاب عليه، فكيف يرفع؟ ومنع آخرون نسخ الحكم دون التلاوة، لأنها دليل عليه، فكيف يرفع المدلول مع بقاء الدليل؟ قلنا: هو متصور عقلًا، وواقع: أما التصور: فإن التلاوة، وكتابتها في القرآن، وانعقاد الصلاة بها، من أحكامها، وكل حكم فهو قابل للنسخ. وأما تعلقها بالمكلف في الإيجاب وغيره: فهو حكم -أيضًا- فيقبل النسخ1.

_ 1 حاصل ذلك: أن التلاوة، والكتابة في المصحف، وانعقاد الصلاة بها، كل ذلك حكم من أحكام اللفظ، وكل حكم منها قابل للنسخ، والتلاوة حكم من هذه الأحكام، فيقبل النسخ كغيره من الأحكام. قال الطوفي: "اللفظ والحكم عبادتان متفاصلان، أي تنفصل إحداهما في التعبد بها عن الأخرى فعلًا، فجاز نسخ إحداهما دون الأخرى، كسائر العبادات المتفاصلة. وبيان تفاصل اللفظ والمعنى: هو أن اللفظ متعبّد بتلاوته، والحكم متعبد بامتثاله، وهذا هو مرادنا بتفاصلهما، لا أن إحداهما يمكن انفصاله عن الآخر حسًّا" شرح المختصر "2/ 273".

وأما الدليل على وقوعه: فقد نسخ حكم قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ... } 1 وبقيت تلاوتها2.

_ 1 سورة البقرة من الآية: 184. 2 وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام مخيرين بين أن يصوموا، وبين أن يفطروا، ويطعموا مسكينًا عن كل يوم، فنسخ ذلك التخيير بتعيين الصوم للقادر عليه بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... } وبقيت الرخصة في حق العاجز عن الصوم، لكبر، أو مرض، أو حمل، أو رضاع. روى ابن جرير الطبري "2752" وأبو داود "8/ 23" والبيهقي "4/ 230" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصوم، رخّص لهما أن يفطرا إن شاءا، ويطعما لكل يوم مسكينًا، ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... } وثبت ذلك للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم، وللحبلى والمرضع إذا خافتا، وإسناده صحيح. قال الشوكاني: "وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة، فقيل: إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام، لأنه شق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك الصوم، وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك، وهذا قول الجمهور. وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ، والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهذا يناسب قراءة التشديد، أي: يكلفونه كما مر. "فتح القدير 1/ 198". وقراءة التشديد التي أشار إليها، هي قراءة شاذة رويت عن بعض الصحابة، "يُطَوِّقُونَهُ" بفتح الطاء مخففة، وتشديد الواو مبنيًا للمفعول، بمعنى يكلّفونه فلا يطيقونه: انظر: زاد المسير "1/ 186".

وكذلك الوصية للوالدين والأقربين1. وقد تظاهرت الأخبار بنسخ آية الرجم، وحكمها باق2.

_ 1 الوصية للوالدين والأقربين في صدر الإسلام واجبة، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] وقد اختلف في هذه الآية: هل هي منسوخة أو محكمة، وإذا كانت منسوخة، فهل هي منسوخة بآية المواريث، أو بالحديث "لا وصية لوارث" قال الشوكاني في فتح القدير "1/ 195": "وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة، قالوا: وهي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص، والمراد بها من الوالدين: من لا يرث كالأبوين الكافرين، ومن هو في الرق، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم. قال: ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال كثير من أهل العلم: إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا وصية لوارث" وهو حديث صححه بعض أهل الحديث وروي من غير وجه. وقال بعض أهل العلم: إنه نسخ الوجوب وبقي الندب". 2 روى البخاري في كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى من الزنا، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال عمر: "لقد خشيت أن يطول بالناس، زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحمل أو الاعتراف". قال الحافظ ابن حجر في الفتح "12/ 142": وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر الفرياني عن علي بن عبد الله شيخ البخاري وفيه: فقال بعد قوله: "أو الاعتراف": "وقد قرأناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما -ألبتة- وقد رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده" وقد جاءت هذه الزيادة في الموطأ "2/ 824" عن سعيد بن المسيب قال: "لما صدر عمر من الحج وقدم المدينة =

.............................................

_ = خطب الناس فقال: أيها الناس، قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض وتُركتم على الواضحة.... ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل: لا نجد حدّين في كتاب الله، قد رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة" قال مالك: الشيخ والشيخة: الثيب والثيبة. وللحديث رويات أخرى متعددة عند مسلم، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي وغيرهم. وأخرجه أحمد في المسند "5/ 183" عن كثير بن الصلت، قال: كان ابن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف، فمروا على هذه الآية: فقال زيد: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة" فقال عمر: لما نزلت هذه الآية أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا لم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم؟ قال الحافظ ابن حجر -تعليقًا على هذا الحديث-: "فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها، لكون العمل على غير الظاهر من عمومها". انظر: فتح الباري "12/ 142". هذا في الثيب، أما البكر، فقد نسخ حكمه بما جاء في سورة النور وهو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة} . ومع صحة الأحاديث السابقة إلا أن أبا جعفر النحاس يرى أن الحكم بالنسبة للبكر نسخ بآية النور، وبالنسبة للثيب فهو ثابت بالسنة الصحيحة، وليس من قبيل القرآن المنسوخ التلاوة، حيث قال: "وإسناد الحديث صحيح، إلا أنه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله جماعة عن جماعة، ولكنه سنة ثابتة، وقد يقول الإنسان: كنت أقرأ كذا، لغير القرآن، والدليل على هذا أنه قال: "ولولا أن أكره أن يقال: زاد عمر في القرآن لزدته" الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ص8. ورجح أبو الحسين البصري ما قاله أبو جعفر النحاس فقال: "ويحتمل أن =

وقولهم: كيف ترفع التلاوة1؟ قلنا: لا يمتنع أن يكون المقصود الحكم دون التلاوة، لكن أنزل بلفظ معين. وقولهم: كيف يرفع المدلول مع بقاء الدليل2؟

_ = يكون ذلك مما أنزل وحيًا ولم يكن ثابتًا في المصحف" المعتمد "1/ 418". والسنة التي يشير إليها أبو جعفر النحاس هي: ما روي من حديث عبادة بن الصامت -رضى الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الرجم". رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم. قال الطوفي: "قلنا هذا مقرر لحكم تلك الآية، ومعرّف أنه لم ينسخ، ويضعف هذا بوجهين: أحدهما: أن حمل الحديث على التأسيس، وإثبات الرجم ابتداء، أولى من حمله على تأكيد حكم الآية المنسوخة. الوجه الثاني: أن الحديث ورد مبينًا للسبيل المذكور في قوله تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] فدل على أنه غير متعلق بآية الرجم، بل هو إما مستقل بإثبات الرجم، أو مبين للسبيل في الآية الأخرى". شرح مختصر الروضة "2/ 277". وبذلك يكون الطوفي مع الذين يرون ثبوت الحكم بالسنة وليس بالآية المنسوخة، وإن لم يصرح بذلك. 1 وهم المانعون لنسخ التلاوة مع بقاء الحكم. 2 وهم المانعون من نسخ الحكم وبقاء التلاوة. وقد أجاب المصنف عن ذلك: بأن اللفظ إنما كان دليلًا على الحكم قبل النسخ، أما بعد النسخ فلم يعد دليلًا، والدليل إنما هو النسخ، فلا يلزم على ذلك ما قلتموه: من أنه كيف يرفع المدلول ويبقى الدليل؟

قلنا: إنما يكون دليلًا عند انفكاكه عما يرفع حكمه، والناسخ مزيل لحكمه، فلا يبقى دليلًا والله أعلم.

فصل: في نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال

فصل: في نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال ... وقد اعتاص1 هذا على2 القدرية2 حتى تعَسَّفوا3 في تأويله من ستة أوجه: أحدها: أنه كان منامًا. الثاني: أنه لم يؤمر بالذبح، وإنما كُلِّف العزم على الفعل؛ لامتحان سرِّه في صبره. الثالث: أنه لم ينسخ، لكن قلب الله عنقه نحاسا، فانقطع التكليف عنه لتعذره. الرابع: أن المأمور به: الاضطجاع، ومقدمات الذبح، بدليل {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} . الخامس: أنه ذبح امتثالًا، فالتأم الجرح واندمل، بدليل الآية4. السادس: أنه إنما أخبر أنه يؤمر به في المستقبل، فإن لفظه لفظ الاستقبال لا لفظ الماضي.

_ 1 جاء في المصباح المنير "2/ 438": "اعتاص: صعب، فهو عويص، وكلام عويص: يعسر فهم معناه". 2 فرقة من المعتزلة سموا بذلك، لأنهم يقولون: إن الله -تعالى- غير خالق لأفعال الناس، ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وأن الناس هم الذين يقدرون أعمالهم، ولذلك سماهم العلماء بالقدرية. انظر في هذه الفرقة وآرائها: الفرق بين الفرق ص94. 3 أي: تكلفوا في تأويله. 4 أي قوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} .

والجواب من وجهين: أحدهما: يعم جميع ما ذكروه1. والثاني: أنا نفرد لكل وجه مما ذكروه بجواب: أما الأول2: فلو صح شيء من ذلك: لم يحتج إلى فداء، ولم يكن بلاءً مبينًا في حقه. والجواب الثاني2: أما قولهم: "كان منامًا لا أصل له". قلنا: منامات الأنبياء -عليهم السلام- وحي4، وكانوا يعرفون الله -تعالى- به. ولو كان منامًا لا أصل له: لم يجز له قصد الذبح، والتل للجبين. ويدل على فساده: قول ولده -عليه السلام-: {افْعَلْ مَا تُؤْمَر} ولو لم يؤمر: كان ذلك كذبًا. والثاني: فاسد لوجهين:

_ 1 أي: أن الجواب الأول يعم جميع الأوجه التي ذكروها. 2 وهو الجواب الذي يعم جميع ما تقدم. 3 وهو التفصيلي. 4 روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أول ما ابتدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النبوة الرؤيا الصادقة، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح". قال الطوفي: "إن رؤيا آحاد الأمم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة على ما شهدت به السنن الصحيحة، فرؤيا الأنبياء أولى أن تكون نبوة".

أحدهما: أنه سماه ذبحًا بقوله {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} والعزم لا يسمى ذبحًا. والآخر1: أن العزم لا يجب ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه، ولو لم يكن المعزوم عليه واجبًا، كان إبراهيم -عليه السلام- أحق بمعرفته من القدَرية. والثالث: لا يصح عندهم؛ لأنه إذا علم الله أنه يقلب عنقه حديدًا، يكون آمرًا بما يعلم امتناعه2. والرابع: فاسد؛ لكونه لا يسمى ذبحًا. والخامس: فاسد؛ إذ لو صح كان من آياته الظاهرة، فلا يترك نقله، ولم ينقل، وإنما هو اختراع من القدرية3. ومعنى قوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} أي: عملت عمل "مصدق بالرؤيا"4. والتصديق غير التحقيق والعمل5. وقولهم: "إنه أخبر أنه يؤمر به في المستقبل"6 فاسد؛ إذ لو أراد

_ 1 أي الوجه الثاني من رده على الوجه الثاني للمعتزلة. 2 معناه: أن ذلك لا يصح على حسب أصول المعتزلة، لأن الأمر بالمشروط لا يصح عندهم، فإذا علم الله أنه سيقلب عنقه حديدًا، يكون آمرًا بما يعلم امتناعه، فلا يحتاج إلى الفداء، ولا يكون بلاء في حقه -عليه السلام-. 3 قال الغزالي في توضيح هذا الرد: "وأما الخامس: وهو أنه فعل والتأم: فهو محال؛ لأن الفداء كيف يحتاج إليه بعد الالتئام، ولو صح ذلك لاشتهر، وكان ذلك من آياته الظاهرة، ولم ينقل ذلك قط، وإنما هو اختراع من القدرية". 4 ما بين القوسين من المستصفى، وهي في الأصل: "صدق". 5 لفظ "والعمل" من المستصفى لتمام المعنى. 6 وهذا هو الوجه السادس، وإن لم يعنون له.

ذلك: لوجد الأمر به في المستقبل؛ كيلا يكون خلفًا في الكلام. وإنما عبر بالمستقبل عن الماضي، كما قال: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَان} 1، و {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} 2. أي: قد رأيت.

_ 1 سورة يوسف من الآية: 43. 2 سورة يوسف من الآية: 36. قال الطوفي -ردًّا على هذا الوجه-: "قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: لا نسلم أن المراد به المستقبل، بل معنى قوله: {مَا تُؤْمَرُ} افعل ما أمرت به، وضعا للمضارع موضع الماضي، وهو كثير في اللغة. الوجه الثاني: أن معنى قوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: ما تؤمر به في الحال، استصحابًا لحال الأمر الماضى. وبيان ذلك: أن كل مأمور بفعل، فالأمر به متوجه إليه ما لم يفعله، استصحابًا لحال الأمر في آخر الوقت، فإبراهيم -عليه السلام- لما أمر في الليل بذبح ولده، ثم أصبح فأخبر ولده بذلك، فهو في حال إخباره ولده مأمور بما أمر به في الليل، بذبح ولده، لأن الأمر لم يسقط عنه بعد، فأمره بالذبح في الماضي مستصحب إلى حال إخباره ولده، وقوله: {مَا تُؤْمَرُ} أي: ما أنت مأمور به في الحال، بناء على استصحاب الأمر الماضي، والفعل المضارع يصلح للحال والاستقبال، وهو في الحال أظهر. وإذا حملنا قوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} على الحال، عملًا بظاهر لفظه، وبما ذكرناه من دليلنا، فلا استقبال فيه، وحينئذ يبطل قولكم: "إنه أخبر أنه سيؤمر بذبحه في المستقبل". ثم قال: ولو صح ما ذكرتموه من أن المراد به: سيؤمر بذبحه في المستقبل، إلا أنه أُمر به في الماضي، لما احتاج إلى الفداء؛ لأن الفداء يكون عن ترك مأمور وعلى قولكم: هو إلى الآن لم يؤمر بشيء، فضلًا عن أن يكون قد أُمر وترك، وأيضًا: لو صح ذلك لأمر به في المستقبل، لئلا يقع الخلف في خبر المعصوم، فلما لم يقع، دل على بطلان ما تأولوه" شرح مختصر الروضة "2/ 287، 288".

وقال الشاعر1: وإذا تكونُ كريهةً أُدْعَى لَها ... وَإذَا يُحاس الحيسُ يُدعى جُندب وقولهم: "إنه يفضي إلى أن يكون الشيء مأمورًا منهيًّا" فلا يمتنع أن يكون مأمورا من وجه، منهيا عنه من وجه آخر، كما يؤمر بالصلاة مع الطهارة وينهى عنها مع الحدث. كذا ههنا: يجوز أن يجعل بقاء حكمه شرطا في الأمر، فيقال: "افعل ما آمرك به، إن لم يزل حكم أمرنا عنك بالنهي". فإن قيل: فإذا علم الله -سبحانه- أنه سيُنهى عنه: فما معنى أمره بالشرط الذي يعلم انتفاءه قطعًا؟ قلنا: يصح إذا كان عاقبة الأمر ملتبسة على المأمور، لامتحانه

_ 1 الشاعر هو: ضمرة بن ضمر بن جابر النهشلي، من بني دارم، شاعر جاهلي، من الشجعان الرؤساء، كان يقال له: "شقة بن ضمرة" فسماه النعمان "ضمرة" الأعلام "3/ 311". والبيت من قصيدة له يشكو فيها من أهله أنهم يقدمون عليه أخًا له يسمى "جندبًا" مع أنه كان أبرّ بهم منه. والحيس: تمر ينزع نواه ويدق مع أقط ويعجنان بالسمن، ثم يدلك باليد حتى يبقى كالثريد، وربما جعل معه سويق، وهو مصدر في الأصل، يقال: حاس الرجل حيسًا، من باب باع، إذا اتخذ ذلك. المصباح المنير "1/ 159". ومعنى البيت: أنه إذا ألم بهم مكروه دعوا ضمرة لينقذهم منه، فإذا جاء موعد الطعام والأكل: دعوا أخاه جندبًا. ومحل الشاهد من البيت: أنه عبر بالمستقبل عن الماضي.

بالعزم، والاشتغال بالاستعداد المانع له من أنواع اللهو والفساد، وربما يكون فيه لطيفة واستصلاح لخلقه. ولهذا جوّزوا الوعد والوعيد بالشرط من العالم بعاقبة الأمور فقالوا: يجوز أن يَعِدَ الله -سبحانه- على الطاعة ثوابًا بشرط عدم ما يحبطها، وعلى المعصية عقابا بشرط عدم ما يكفرها من التوبة، والله -سبحانه- عالم بعاقبة أمره. جواب ثان: أنه يجوز أن يكون الشيء مأمورًا منهيًّا في حالين؛ إذ ليس المأمور حسنًا في عينه لوصف هو عليه قبل الأمر به، ولا المأمور مرادًا ليتناقض ذلك. وقولهم: "إن الكلام قديم، فيكون أمرًا بالشيء ونهيًا عنه في حال واحد".

_ 1 خلاصة هذا الرد من وجهين: الوجه الأول: أن المعتزلة ينكرون ثبوت الأمر بالشرط، مع أنهم يجوّزون الوعد بالشرط من العالم بعواقب الأمور فقالوا: يجوز أن يعد الله -تعالى- بالثواب على الطاعة بشرط عدم وجود ما يحبطها كالردة، كما يجوز أن يوعد بالعقاب على المعصية بشرط عدم وجود ما يكفرها من التوبة، مع أن الله -تعالى- عالم بعاقبة أمر من يموت على الردة أو التوبة. فإذا جاز ذلك عندكم فلا معنى للاعتراض. الوجه الثاني: ما تقدم أكثر من مرة، من أنه لا مانع أن يكون الشيء مأمورًا به في وقت، ومنهيًّا عنه في وقت آخر. وقوله: "إذ ليس المأمور حسنًا في عينه الخ" إشارة إلى ما يعتقده المعتزلة من أن حسن الأشياء وقبحها ذاتي لا ينفك عنها، وهذا التفسير هو الذي يترتب عليه التناقض، أما أهل السنة: فيرون أن حسن الأشياء وقبحها تابع لصفات قائمة بالمأمور، وليست ذاتية.

قلنا: يتصور الامتحان به إذا سمعه المكلف في وقتين، ولذلك اشترطنا التراخي في النسخ، ولو سمعهما في وقت واحد لم يجز. فأما جبريل: فيجوز أن يسمعهما في وقت واحد، ويؤمر بتبليغ الأمة في وقتين1؛ فيأمرهم بمسالمة الكفار مطلقًا، وباستقبال بيت المقدس، ثم ينهاهم عنه بعد ذلك. والله سبحانه أعلم.

فصل: هل الزيادة على النص نسخ؟

فصل: [هل الزيادة على النص نسخ؟] والزيادة على النص ليست بنسخ2. وهي على ثلاث مراتب: أحدهما: أن لا تتعلق الزيادة بالمزيد عليه، كما إذا أوجب الصلاة، ثم أوجب الصوم. فلا نعلم فيه خلافًا، لأن النسخ: رفع الحكم وتبديله، ولم يتغير حكم المزيد عليه، بل بقي وجوبه وإجزاؤه.

_ 1 لأنه -عليه السلام- ليس داخلًا في التكليف، بل هو مكلف بالتبليغ فقط. 2 معنى كلام المصنف: أن الزيادة على النص ليست بنسخ في جميع المراتب التي سيذكرها، وأن النوع الأول -على ما سيأتي- ليس فيه خلاف، والمرتبتان الأخيرتان فيهما خلاف، إلا أن المصنف حسم المسألة -من وجهة نظره- مبدئيًّا.... قال الطوفي -مبينًا محل الاتفاق ومحل الخلاف-: "الزيادة على النص إما أن لا تتعلق بحكم النص أصلًا، أو تتعلق به، فإن لم تتعلق به، فليست نسخًا له إجماعًا، وذلك كزيادة إيجاب الصوم، بعد إيجاب الصلاة، فإنه ليس نسخًا لإيجاب الصلاة بالإجماع.

الرتبة الثانية: أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه تعلّقًا ما، على وجه لا يكون شرطًا فيه، كزيادة التغريب على الجلد في الحد1، وعشرين سوطًا على الثمانين في حد القذف.

_ = وإن تعلقت الزيادة بحكم النص المزيد عليه، فتلك الزيادة إما جزء له، أو شرط، أو لا جزء ولا شرط: مثال كونها جزءًا له: زيادة ركعة في الصبح، أو عشرين سوطًا في حد القذف، فتصير الصبح ثلاث ركعات، والركعة الثالثة جزء منها، وحد القذف مائة سوط، والعشرون الزائدة جزء منها. ومثال كونها شرطًا: نية الطهارة، هي شرط لها، وقد زيدت بالحديث والاستدلال على باقي آية الوضوء من أفعاله، بناء على أن النية ليست مستفادة من الآية، على خلاف فيه. ومثال كون الزيادة لا جزءًا ولا شرطًا: التغريب على الجلد في زنى البكر، إذ الجلد لا يتوقف على التغريب توقف الكل على جزئه، ولا توقف المشروط على شرطه، وليس شيء من ذلك نسخًا عندنا، خلافًا للحنفية. وحكى الآمدي عن القاضي عبد الجبار، والغزالي، في المثالين، أنهما وافقا الحنفية في أنه نسخ". شرح المختصر "2/ 291-292". 1 يقصد بذلك: حد الزاني غير المحصن، فإن قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ... } يفيد أن هذا هو الحد فقط، ثم زيد على هذا النص تغريب عام بما رواه مسلم: في كتاب الحدود، باب حد الزنا، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وأحمد في مسنده "3/ 476" من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- مرفوعًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". أما زيادة عشرين سوطًا في حد القذف، فهو مثال افتراضي كمثال زيادة ركعة في صلاة الصبح. =

فذهب أبو حنيفة إلى أنه نسخ؛ لأن الجلد كان هو: الحد كاملًا، يجوز الاقتصار عليه، ويتعلق به التفسيق، ورد الشهادة، وقد ارتفعت هذه الأحكام بالزيادة. ولنا: أن النسخ: هو رفع حكم الخطاب، وحكم الخطاب بالحد: وجوبه وإجزاؤه على نفسه، وهو باق، وإنما انضم إليه الأمر بشيء آخر فوجب الإتيان به، فأشبه الأمر بالصيام بعد الصلاة. فأما صفة الكمال: فليس هو حكمًا مقصودًا شرعيًّا، بل المقصود: الوجوب والإجزاء، وهما باقيان. ولهذا لو أوجب الشرع الصلاة -فقط- كانت كلية ما أوجبه الله وكماله، فإذا أوجب الصوم، خرجت الصلاة عن كونها كلية1 الواجب، وليس بنسخ اتفاقا2. وأما الاقتصار عليه: فليس هو مستفادا من منطوق اللفظ؛ لأن وجوب الحد لا ينفي وجوب غيره. وإنما يستفاد من المفهوم، ولا يقولون به3.

_ = قال الشيخ ابن قدامة في المغني "12/ 386": "وحد القذف ثمانون، إذا كان القاذف حرًّا، للآية، والإجماع، رجلًا كان أو امرأة ... ". 1 في الأصل: "كل" وما أثبتناه من المستصفى. 2 خلاصة هذا الدليل: أن النسخ عبارة عن: رفع الحكم الثابت بالخطاب، والحكم ههنا باق لم يرتفع، وإنما زيد عليه شيء آخر، والزيادة عليه لا تقتضي رفعه، فثبت أن الزيادة ليست نسخًا، انظر: شرح المختصر "2/ 292". 3 هذا رد لقول الحنفية: إن الجلد كان هو الحد فقط، فيجوز الاقتصار عليه. فأجاب المصنف: بأن دعواكم هذه ليست مستفادة من منطوق اللفظ، وإنما هو =

ثم رفع المفهوم كتخصيص العموم، فإنه رفع بعض مقتضى اللفظ، فيجوز بخبر الواحد. ثم إنما يستقيم هذا: أن لو ثبت حكم المفهوم واستقر، ثم ورد التغريب بعده، ولا سبيل إلى معرفته، بل لعلة وردتنا بالإسقاط المفهوم متصلًا به أو قريبًا منه1. وأما التفسيق، ورد الشهادة، فإنما يتعلق بالقذف، لا بالحد. ثم لو سلّم بتعلقه بالحد: فهو تابع غير مقصود، فصار كحل النكاح بعد العدة، ثم تصرف الشرع في العدة بردها من حول إلى أربعة أشهر وعشر، ليس تصرفًا في حل النكاح، بل في نفس العدة2.

_ = مستفادة من المفهوم، وأنتم لا تقولون به، فإنكم لا تعتبرون دلالة المفهوم حجة. 1 هذا رد آخر من المصنف على عدم تسليم المدعي، حاصله: أن ما ذكره الحنفية من أن الحد كان الجلد فقط، والتغريب زيادة عليه فكانت نسخًا، قولهم هذا غير مستقيم؛ إلا إذا علم أن الحكم كان قد استقر وثبت، ثم جاءت الزيادة بعد ذلك، لأنه من المتفق عليه بيننا وبينهم أن من شرط النسخ أن يتأخر الناسخ عن المنسوخ، وهنا لم يتحقق هذا الشرط، لاحتمال أن يكون التغريب جاء بيانًا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- مقارنًا للآية، أو بعدها بقليل، وهذا يجعله خارجًا عن النسخ. 2 توضيح ذلك: أن الحنفية قالوا -في دليلهم السابق-: "إن الجلد قبل زيادة التغريب كان حدًّا كاملًا مستقلًّا بعقوبة الزاني، يتعلق به أن المحدود صار فاسقًا لا تقبل شهادته، وبعد زيادة التغريب لم يبقَ حدًّا تامًّا مستقلًّا صالحًا لتعلق الأحكام به، بل جزءًا أولًا للحد، والتغريب جزءًا ثانيًا له، فارتفعت الأحكام التي أنيطت بالجزء الأول واستقرت بتمام الجزئين، وهذا هو معنى النسخ. فأجاب المصنف عن ذلك: بأن التفسيق ورد الشهادة لا يتعلقان بالحد، وإنما بالقذف، ومع التسليم بذلك، فهما تابعان وليسا مقصودين أصليين، شأنهما شأن حل النكاح بعد عدة الوفاة.

فإن قيل: قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم} 1 يقتضي أن لا يحكم بأقل منهما، والحكم بشاهد ويمين2 نسخ له. قلنا: هذا إنما استفيد من مفهوم اللفظ، وقد أجبنا عنه3. الرتبة الثالثة: أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه تعلق الشرط بالمشروط، بحيث يكون المزيد عليه وعدمه واحدًا، كزيادة النية في الطهارة، وركعة في الصلاة فذهب بعض من وافق في الرتبة الثانية إلى أن الزيادة ههنا نسخ؛ إذ كان حكم المزيد عليه: الإجزاء والصحة، وقد ارتفع4. وليس بصحيح؛ لأن النسخ: رفع حكم الخطاب بمجموعه، والخطاب اقتضى: الوجوب والإجزاء، والوجوب باقٍ بحاله، وإنما ارتفع الإجزاء، وهو بعض ما اقتضى اللفظ، فهو كرفع المفهوم، وتخصيص العموم.

_ 1 سورة البقرة من الآية: 282. 2 يشير إلى الحديث الذي رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قضى بيمن وشاهد". أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، وأبو داود: كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد وابن ماجه: كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين، والشافعي: كتاب القضاء والشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد. 3 وهو أن الحنفية لا يرون حجية دلالة المفهوم. 4 ظاهر العبارة أن بعض العلماء الذين يرون أن الزيادة على النص ليست نسخًا في المرتبة الثانية انضموا في المرتبة الثالثة إلى الحنفية فقالوا: إنها تعتبر نسخًا، ولذلك جاء في بعض النسخ "فذهب بعض الشافعية إلى أن الزيادة ههنا نسخ". ويؤيد هذا التفسير قول المصنف -بعد ذلك-: "ثم لا يصح هذا من أصحاب الشافعي؛ فإنهم اشترطوا النية للطهارة، والطهارة للطواف بالسنة، وأصلها ثابت بالكتاب".

ثم إنما يستقيم أن لو ثبت الإجزاء واستقر، ثم وردت الزيادة بعده ولم يثبت. بل ثبوت الزيادة بالقياس المقارن للفظ، أو لخبر يحتمل أن يكون متصلًا بيانًا للشرط، فلا معنى لدعوى استقراره بالتحكم1. ثم لا يصح هذا من أصحاب الشافعي؛ فإنهم اشترطوا النية للطهارة2، والطهارة للطواف3 بالسنة، وأصلها ثابت بالكتاب. فإن قيل: فالطهارة المنْوية غير الطهارة بلا نية، وإنما هي نوع آخر، فاشتراط النية يوجب رفع الأولى بالكلية.

_ 1 خلاصة ذلك: أن دعوى النسخ تستقيم أن لو ثبت الحكم واستقر، ثم جاءت الزيادة متأخرة عنه، لأن من شروط النسخ تأخر الناسخ عن المنسوخ، وهذا غير مسلم، فإن الزيادة إما أن تكون ثابتة بقياس مقارن لنزول اللفظ، أو بخبر متصل به -أيضًا- فدعوى استقرار الحكم تحكم لا دليل عليه. 2 للحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: في باب كيف كان بدء الوحي، وفي كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاق والطلاق، وفي كتاب الإيمان، باب النية في الإيمان، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مرفوعًا، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..". كذلك أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنية" وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي وغيرهم. 3 للحديث الذي أخرجه البيهقي والحاكم وابن حبان والدارمي عن ابن عباس مرفوعًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام" وفي رواية: "الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير" وله طرق أخرى كثيرة. انظر: فيض القدير "4/ 293"، التلخيص الحبير "1/ 129".

قلنا: هذا باطل؛ فإنها لو كانت غيرها: لوجب أن لا تصح الطهارة المنوية، عند من لا يوجب النية؛ لكونها غير مأمور بها1.

_ 1 خلاصة ذلك: أن المنسوخ هل يشترط أن يكون مقصودًا بالرفع أو لا؟ فإن اشترط أن يكون مقصودًا، لم يكن رفع استقلال المزيد عليه بالحكم نسخًا، لأنه حاصل بالاقتضاء الضروري. وإن لم يشترط ذلك، بل يكفي في المنسوخ أن يكون مرتفعًا بالقصد أو الاقتضاء الضروري، كان رفع الاستقلال نسخًا. انظر: نزهة الخاطر العاطر "1/ 214".

فصل: في نسخ جزء العبادة أو شرطها

فصل: [في نسخ جزء العبادة أو شرطها] ونسخ جزء العبادة المتصل بها، أو شرطها، ليس بنسخ لجملتها. وقال المخالفون في المرتبة الثانية من الزيادة: هو نسخ1، لأن الركعات الأربع غير الركعتين وزيادة، بدليل: ما لو أتى بصلاة الصبح أربعًا فإنها لا تصح. ولأن الركعتين كانتا لا تجزئان، فصارتا مجزئتين، وهذا تغيير وتبديل. وليس بصحيح؛ لأن الرفع والإزالة إنما يتناول الجزء والشرط خاصة، وما سوى ذلك باق بحالة، فهو كالصلاة، كانت إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك إلى الكعبة فلم يكن نسخًا للصلاة. وقولهم: "هي غيرها" قد سبق جوابه2.

_ 1 جاء في شرح الكوكب المنير "3/ 584" بيان لهؤلاء المخالفين حيث قال: "وعن بعض المتكلمين والغزالي، وحكى عن الحنفية: أنه نسخ لأصل العبادة". 2 وهو قوله في الرد على المخالفين في الرتبة الثالثة: "وليس بصحيح؛ لأن النسخ =

وإنما لا تصح الصبح إذا صلاها أربعًا؛ لإخلاله بالسلام والتشهد في موضعه. وقولهم: "كانت مجزئة" معناه: أن وجودها كعدمها، وهذا حكم عقلي ليس من الشرع، والنسخ: رفع ما ثبت بالشرع. وكذلك وجوب العبادة مزيل لحكم العقل في براءة الذمة، وليس بنسخ.

_ = رفع حكم الخطاب بمجموعه.." ومعناه: أن الرفع إنما تناول الجزء والشرط فقط، وما سوى ذلك من العبادة باق على حاله، فهو من باب التخصيص وليس من النسخ.

فصل: في جواز نسخ العبادة إلى غير بدل

فصل: [في جواز نسخ العبادة إلى غير بدل] يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل1. وقيل: لا يجوز2، لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا....} 3. ولنا أنه متصور عقلًا، وقد قام دليله شرعًا:

_ 1 وهو رأي الجمهور. 2 وهو مروي عن أكثر المعتزلة، وبعض أهل الظاهر، كما أنه رأي الإمام الشافعي، حيث قال في الرسالة ص109: "وليس ينسخ فرض أبدًا، إلا أثبت مكانه فرض، كما نسخت قبلة بيت المقدس، فأثبت مكانها الكعبة". 3 سورة البقرة من الآية: 106.

أما العقل: فإن حقيقة النسخ: الرفع والإزالة، ويمكن الرفع من غير بدل. ولا يمتنع أن يعلم الله -تعالى- المصلحة في رفع الحكم، وردّهم إلى ما كان من الحكم الأصلي1. وأما الشرع: فإن الله -سبحانه- نسخ النهي عن ادّخار لحوم الأضاحي2، وتقديم الصدقة أمام المناجاة3 إلى غير بدل.

_ 1 وضح ذلك الشيخ الطوفي -رحمه الله تعالى- فقال: "لنا: الرفع لا يستلزم البدل إلى آخره. هذا دليل الجواز وهو من وجهين: أحدهما: أن النسخ رفع الحكم، والرفع لا يستلزم البدل، بل يمكن وجوده بدون بدل، واعتبر ذلك بالمحسوسات، فإنه ليس من ضرورة رفع الحجر من مكانه أنه يضع مكانه غيره، بل ذلك على الجواز، وكذلك وقع النسخ في الشريعة، تارة إلى البدل، وتارة لا إلى بدل. وأيضًا: لا يمتنع أن يعلم الله تعالى مصلحة المكلف في نسخ الحكم عنه لا إلى بدل، ورده إلى ما قبل الشرع من إباحة أو حظر أو وقف على ما سبق من الخلاف.. "شرح المختصر "2/ 296-297". 2 النهي عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث روي عن عائشة وعلي وغيرهما مرفوعًا بألفاظ متقاربة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي، فكلوا وادّخروا ما شئتم" وهو حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه حديث "5423"، "5438"، "5570"، "6687"، ومسلم "1971" وأبو داود "3812" والترمذي "1511" والنسائي "7/ 235" ومالك في الموطأ "2/ 484" وأحمد في المسند "6/ 51" وانظر: فيض القدير "5/ 45 وما بعدها". 3 جاء في كتاب التفسير عن ابن عباس وقتادة: أن قوما من شباب المؤمنين كثرت =

فأما الآية: فإنها وردت في التلاوة، وليس للحكم فيه ذكر. على أنه يجوز أن يكون رفعها خيرًا منها في الوقت الثاني؛ لكونها لو وجدت فيه كانت مفسدة.

_ = مناجاتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- في غير حاجة، إلا لتظهر منزلتهم، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمْحًا لا يرد أحدًا، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ... } [المجادلة: 12] ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها. روى الحاكم في المستدرك "2/ 481، 482" عن علي -رضي الله عنه- قال: "إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى ... قال: كان عندي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فناجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فكنت كلما ناجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قدمت بين يدي نجواي دراهمًا، ثم نسخت، فلم يعمل بها أحد، فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ... } الآية. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. انظر: الدر المنثور "6/ 158" تفسير ابن كثير "4/ 327".

فصل: في النسخ بالأخف والأثقل

فصل: [في النسخ بالأخف والأثقل] يجوز النسخ بالأخف والأثقل1.

_ 1 هكذا أطلق المصنف الكلام في المسألة، لكن ينبغي تحديد محل النزاع، وقد بينه الأصفهاني في بيان المختصر "2/ 523" فقال: "القائلون بجواز النسخ اتفقوا على جواز النسخ ببدل أخف، مثل: نسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليلة رمضان، ببدل حله، وهو الأخف. وببدل مساو، مثل: نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس، بوجوب التوجه إلى الكعبة. واختلفوا في جواز النسخ ببدل أثقل: فذهب الجمهور إلى جوازه، وذهب بعض الشافعية إلى عدم جوازه".

وأنكر بعض أهل الظاهر جواز النسخ بالأثقل1، لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ... } 2. وقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُم ... } 3، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ... } 4. ولأن الله -تعالى- رءوف، فلا يليق به التثقيل والتشديد5. ولنا: أنه لا يمتنع لذاته. ولا يمتنع أن تكون المصلحة في التدريج والترقي من الأخف إلى الأثقل، كما في ابتداء التكليف6.

_ 1 انظر: الإحكام لابن حزم "4/ 466". 2 سورة البقرة من الآية: 185. 3 سورة الأنفال من الآية: 66. 4 سورة النساء من الآية: 28. 5 هذا هو الدليل الثاني للمانعين خلاصته: أن النسخ إلى الأثقل تشديد على المكلف، وذلك لا يليق برأفة الله -عز وجل- ورحمته، لأن شأنه التسهيل على خلقه، لا التشديد عليهم. والدليل الأول: النصوص الدالة على التخفيف والتيسير، وهي: الآيات التي أوردها المصنف. 6 بدأ المصنف يستدل لمذهب الجمهور، وقد أورد دليلين، أحدهما: دليل عقلي، والثاني دليل شرعي بوقوع مثل ذلك في صور كثيرة سيذكرها. وخلاصة الدليل الأول: أن امتناع ذلك إما أن يكون عقلًا أو شرعًا، فإن كان شرعًا فسيأتي الرد عليه من الوقوع في كثير من الأحكام الشرعية، والوقوع دليل الجواز وزيادة. وأما إن كان عقلًا، فلا يمتنع لذاته، لأنه لو قدر وقوعه لم يلزم منه محال =

وقد نسخ التخيير بين الفدية والصيام، بتعين الصيام1، وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف إلى وجوب الإتيان بها2.

_ = لذاته بدليل أنه قد وقع -كما سيأتي- ولم يلزم منه، فدل على أنه لا يمتنع لذاته، أي لكونه نسخًا من الأخف إلى الأثقل، وإنما قلنا: أنه لا يمتنع؛ لأنه يتضمن مصلحة عظيمة، وهي: تدرج المكلف من الأخف إلى الأثقل، فيسهل عليه الامتثال، والتدرج في التشريع من أهم الخصائص التي تميز بها التشريع الإسلامي، لأن الناس لو أخذوا بالأحكام دفعة واحدة لأدى ذلك إلى نفرتهم من الإسلام، خاصة في الأمور التي ألفوها وشبوا عليها. فالحاصل: أن النسخ من الأخف إلى الأثقل، لا يعتبر مستحيلًا لذاته، ولا لغيره. فضلًا عن الأدلة الشرعية التي وقعت، وهي خير دليل على ذلك -كما سيأتي-. 1 التخيير بين الفدية والصيام كان ثابتًا بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ... } [البقرة: 184] وقد نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وقد قدم الكلام على الآثار الواردة في ذلك. 2 جاء في تفسير ابن كثير "1/ 519" "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخر صلاة الظهر والعصر يوم الأحزاب فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب والعشاء". كما روى البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من الأحزاب قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بلى نصلي، لم يرد ذلك منا، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدًا منهم. انظر: نيل الأوطار "3/ 368" طبعة الحلبي. فلما نزل قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ... } [البقرة: 239] نسخ تأخير الصلاة، وصلوا على أي حال، ثم جاء بيان كيفية الخوف في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] .

وحرم الخمر1، ونكاح المتعة، والحمر الأهلية2. وأمر الصحابة بترك القتال والإعراض عنه، ثم نسخ بإيجاب الجهاد3.

_ 1 تحريم الخمر أخذ أطوارًا متعددة حتى حرم تحريمًا نهائيًّا، بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وإن كان بعض العلماء يرى أن التدرج في التشريع لا يعتبر نسخًا. 2 النهي عن النكاح صحت فيه الأحاديث براويات مخلتفة، منها: ما أخرجه مسلم: باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح، وأبو داود: كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، والنسائي: كتاب النكاح، باب تحريم المتعة، وأحمد في المسند "3/ 404، 405" وابن ماجه: كتاب النكاح، باب في نكاح المتعة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة". وأخرج مالك في الموطأ: كتاب النكاح، باب في نكاح المتعة، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية. كما أخرجه البخاري: في باب غزوة خيبر، من كتاب المغازي، وفي باب نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نكاح المتعة آخرًا، من كتاب النكاح، وفي باب لحوم الحمر الإنسية، من كتاب الذبائح، ومسلم، في باب نكاح المتعة، وفي باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية من كتاب الصيد، والترمذي: باب ما جاء في تحريم نكاح المتعة، والنسائي: كتاب النكاح، باب تحريم المتعة، وفي باب: تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، من كتاب الصيد. كما رواه ابن ماجه، والدارمي، وأحمد في المسند "1/ 79". 3 معناه: أن القتال كان ممنوعًا منه في أول الإسلام بآيات كثيرة منها: قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ... } [النساء: 81] {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ... } [النساء: 13] ، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] ثم نسخ ذلك بمشروعية القتال ونزل في ذلك =

والآيات التي احتجوا بها وردت في صور خاصة أريد بها التخفيف، وليس فيه منع إرادة التثقيل1. وقولهم: "إن الله رءوف" فلا يمنع من التكليف بالأثقل، كما في التكليف ابتداء، وتسليط المرض والفقر وأنواع العذاب لمصالح يعلمها.

_ = قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ... } [التوبة: 14] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم: 9] ومثل ذلك كثير، ولا شك أن وجوب القتال أثقل من تركه، ولذلك يقول -جل شأنه- {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ... } [البقرة: 216] . 1 بدأ المصنف يرد على الأدلة التي استدل بها المخالفون، فبين أن الآيات التي وردت في التيسير والتخفيف في صور خاصة تقتضي ذلك، وليست عامة حتى يحتج بها في منع النسخ إلى الأثقل: فقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر} وردت في سياق تخفيف الصوم عن المريض والمسافر، فاللام في "اليسر" و"العسر" وإن كانت محتملة للعموم والاستغراق، إلا أنها محمولة على المعهود، وهو اليسر الحاصل بالإفطار للمريض، والمسافر، والعسر الحاصل لهما بالصوم في حالة المرض والسفر. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ... } وردت في سياق نكاح الأمة لمن لم يجد صداق الحرة، فلا تصلح أن تكون دليلًا على ما ذكرتم. كما رد على قولهم: "إن الله تعالى رءوف بعباده، فلا يليق به التشديد" فقال: كونه -سبحانه- رءوفًا بعباده لا يمنع من التكليف بالأثقل، فإن ذلك منقوض بابتداء التكليف، فإنه تشديد، لمصالح العباد، وكذلك وقوع المرض، والفقر، وأنواع الآلام، والمؤذيات على الخلق، كل ذلك تشديد، لكنه وقع، لمصالح لا يعلمها إلا الله تعالى.

فصل: في حكم من لم يبلغه النسخ

فصل: [في حكم من لم يبلغه النسخ] إذا نزل الناسخ، فهل يكون نسخًا في حق من لم يبلغه؟ قال القاضي: ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- أنه لا يكون نسخًا؛ لأن أهل قباء بلغهم نسخ الصلاة، إلى بيت المقدس وهم في الصلاة فاعتدوا بما مضى من صلاتهم1. وقال أبو الخطاب: يتخرج أن يكون نسخا؛ بناء على قوله2 في الوكيل: "ينعزل بعزل الموكل وإن لم يعلم"؛ لأن النسخ بنزول الناسخ، لا بالعلم، إذ العلم لا تأثير له إلا في نفي العذر، ولا يمتنع وجوب القضاء على المعذور كالحائض، والنائم. والقبلة يسقط استقبالها في حق المعذور، فلهذا لم يجب على أهل قباء الإعادة3.

_ 1 قصة تحويل القبلة: أخرجها البخاري في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم: كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، من حديث البراء بن عازب وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم جميعًا- ولفظ ابن عمر قال: "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه الليلة، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة". 2 أي: على قول الإمام أحمد في انعزال الوكيل، إلا أنه -رحمه الله تعالى- رويت عنه رواية أخرى أنه لا ينعزل، وتصرفاته نافذة، كما في المغني "7/ 234" ويرد على هذا التنظير: أن مسألة الوكيل فرع فقهي، فلا يكون أصلًا يقاس عليه، لأنه يلزم عليه الدور، حيث يكون الفرع متوقفًا على الأصل، والأصل متوقفًا على الفرع. 3 هذا رد من أبي الخطاب على أصحاب المذهب الأول.

وقال من نصر الأول1: النسخ بالناسخ، لكن العلم شرط؛ لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابًا في حق من لم يبلغه.

_ 1 هذا جواب عن دليل ابن الخطاب.

فصل: في وجوه النسخ بين القرآن والسنة

فصل: [في وجوه النسخ بين القرآن والسنّة] يجوز نسخ القرآن بالقرآن. والسنة المتواترة بمثلها. والآحاد بالآحاد2. والسنة بالقرآن، كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس3 وتحريم

_ 1 هذا جواب عن دليل ابن الخطاب. 2 خلاصة ذلك: أن نسخ القرآن بالقرآن، والسنة المتواترة بالسنة المتواترة، والآحاد بالآحاد، هذه الوجوه الثلاثة لا خلاف في وقوعها؛ لوجود التماثل بينها، فجاز أن يرفع بعضه ببعض. أما نسخ السنة بالقرآن: فالجمهور من العلماء على جوازه، خلافًا للإمام الشافعي فعنه في المسألة روايتان. قال الآمدي في الإحكام "3/ 146": "هو جائز عقلًا، وواقع سمعًا عند الأكثر من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء، وممتنع في أحد قولي الشافعي". 3 بيانه: أن التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسنة، فنسخ ذلك بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... } [البقرة: 144] والوقوع دليل على الجواز وزيادة. والسنة التي يشير إليها المصنف: هي ما جاء في صحيح البخاري "1/ 82" حاشية السندي، ومسلم "1/ 374" تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبلة البيت، وإنه صلى =

المباشرة في ليالي رمضان1، وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف بالقرآن، وهو في السنّة1. فأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة: فقال أحمد -رحمه الله-: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده3 قال القاضي: ظاهره أنه منع منه عقلًا وشرعًا4.

_ = أول صلة صلاها: صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قِبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت..". وروي مثله عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "تفسير ابن كثير 1/ 180". 1 روى البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله -تعالى-: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ... } [البقرة: 187] انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي "1/ 103" أحكام القرآن للجصاص "1/ 226"، فتح القدير للشوكاني "1/ 187". 2 فقد صح عنه -صلى الله عليه- أنه قال يوم الخندق، وقد أخر الصلاة: "حشا الله قبورهم نارًا". حديث صحيح أخرجه البخاري "1/ 168" بحاشية السندي، ومسلم "1/ 437". وقد تقدم الكلام على مشروعية صلاة الخوف وعدم تأخير الصلاة أثناء القتال. 3 وهو المنقول عن الإمام الشافعي في الرسالة ص106 وما بعدها، كما أنه رأي أكثر الشافعية، وأكثر الظاهرية على ما في الإحكام للآمدي "3/ 153" وانظر: شرح مختصر الطوفي "2/ 320". 4 عبارة أبي يعلى في العدة "3/ 788": "لا يجوز نسخ القرآن بالسنة شرعًا، ولم يوجد ذلك، نص عليه أحمد -رحمه الله- في رواية الفضل بن زياد، وأبي الحارث، وقد سئل: هل تنسخ السنة القرآن، فقال: لا ينسخ القرآن إلا قرآن =

وقال أبو الخطاب وبعض الشافعية: يجوز ذلك1؛ لأن الكل من عند الله، ولم يعتبر التجانس. والعقل لا يحيله؛ فإن الناسخ -في الحقيقة- هو الله -سبحانه- على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بوحي غير نظم القرآن. وإن جوزنا له النسخ بالاجتهاد2، فالإذن في الاجتهاد من الله -تعالى-. وقد نسخت الوصية للوالدين والأقربين بقوله: "لا وصية لوارث" 3.

_ = يجيء بعده، والسنة تفسر القرآن، وبهذا قال الشافعي". 1 ونص عبارته في التمهيد "2/ 369": "فأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة: فقال شيخنا: لا يجوز ذلك شرعًا، ويجوز عقلًا، إلا أن أحمد قال في رواية الفضل بن زياد وأبي الحارث: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، والسنة تفسر القرآن، فظاهره أنه منع من نسخه شرعًا وعقلًا وبه قال الشافعي. وقال أكثر الفقهاء، والحنفية، والمالكية، وعامة المتكلمين: يجوز ذلك وهو الأقوى عندي. وقد قال أحمد في رواية صالح فيما خرجه في الحبس: "بعث الله نبيه وأنزل عليه كتابه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه" وهذا يدل على أنه ينسخه بقوله، إلا أن قوله ذلك لا يكون إلا صادرًا عن الوحي، فيعلم به أن الله -تعالى- الناسخ على لسان نبيه". وبذلك يظهر أن النقل عن الإمام أحمد مختلف، وعنه روايتان في المسألة، والذي يرجحه أبو الخطاب الجواز، حيث قال: "وهو الأقوى عندي" واعتبر أن الكل وحي من عند الله تعالى، وإن كان القرآن وحيًا باللفظ والمعنى، والسنة وحيًا بالمعنى دون اللفظ. 2 الضمير في "له" للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومعناه: أن ما كان منه -صلى الله عليه وسلم- عن اجتهاد فهو من الله -تعالى- لأن الله قد أذن له فيه. 3 الوصية للوالدين والأقربين كانت واجبة بقوله تعالى في سورة البقرة آية: 180: =

ونسخ إمساك الزانية في البيوت1 بقوله: "قد جعل الله لهن سبيلًا البكر بالبكر مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم"2. ولنا3: قول الله -تعالى-: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}

_ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وقد تقدم الكلام عليها وعلى الناسخ لها في فصل وجوه النسخ في القرآن. وأما حديث "لا وصية لوارث" فهو حديث صحيح روي من عدة طرق مشهورة، جاء في بعضها: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" أخرجه أبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث عن أبي أمامة الباهلي، والترمذي: كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، كما أخرجه عن عمرو بن خارجة: ثم قال: حديث حسن صحيح. كما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة وعمرو بن خارجة أيضًا، وأخرجه النسائي عن عمرو بن خارجة. وللحديث -كما قلت- طرق أخرى كثيرة، وهو وإن كان حديث آحاد، إلا أن الأمة مجمعة على العمل به كما في الأحكام للآمدي "3/ 217". 1 وهو قوله تعالى في سورة النساء الآية 15: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} . 2 الحديث أخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب حد الزنا، وأبو داود: كتاب الحدود، باب في الرجم، والترمذي: كتاب الحدود باب في الرجم على الثيب، وابن ماجه: كتاب الحدود، باب حد الزنا، وأحمد في المسند "3/ 476"، والشافعي: كتاب الحدود، باب رجم الزاني المحصن وجلد البكر وتغريبه، من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا وأوله: "خذوا عني، خذوا عني ... " إلى آخر الحديث. 3 بدأ المصنف يورد الأدلة على أن السنة لا تنسخ القرآن.

أَوْ مِثْلِهَا..} والسنة لا تساوي القرآن، ولا تكون خيرًا منه. وقد روى الدارقطني2 في سننه عن جابر3 أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "القرآن ينسخ حديثي، وحديثي لا ينسخ القرآن"4. ولأنه لا يجوز نسخ تلاوة القرآن وألفاظه بالسنة، فكذلك حكمه5.

_ 1 سورة البقرة من الآية: 106. 2 هو: الإمام الحافظ: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن البغدادي، روى عن البغوي وغيره، كما روى عنه الحاكم وأبو حامد الإسفراييني، من مؤلفاته "السنن" و"العلل" ولد سنة 306هـ وتوفي سنة 385هـ. "تذكرة الحفاظ 3/ 558، شذرات الذهب 3/ 116". 3 هو: الصحابي الجليل: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب الأنصاري السلمي، كان من علماء الصحابة، وشهد معظم المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي سنة 70هـ وقيل: سنة 77هـ. "الإصابة 1/ 434". 4 أخرجه الدارقطني في نوادره "4/ 145". قال الذهبي عنه: "إنه موضوع، آفته جبرون بن واقد "أحد رواته" فإنه متهم وليس بثقة، فكيف يكزن خبره نصًّا في المسألة. كما أن فيه محمد بن داود القنطري، وهو متهم أيضًا. انظر: "الميزان للذهبي 1/ 388". قال الطوفي: "وأما الحديث فلا تقوم الحجة بمثله ههنا؛ لأنه أصل كبير، ومثله لا يخفى في العادة، لتوفر الدواعي على نقل ما كان كذلك عادة، فلو ثبت لاشتهر، ثم لم يخالفه أحد من العلماء لشهرته ودلالته. سلمنا صحته، لكنه ليس نصًّا في محل النزاع، بل هو ظاهر؛ لأن لفظه عام، ودلالة العام ظاهرة، لا قاطعة، فيحمل على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن، يبقى المتواتر، لا دليل على المنع فيه من ذلك" شرح المختصر "2/ 322-323". 5 خلاصة ذلك: أن المصنف استدل على عدم جواز نسخ القرآن بالسنة بثلاثة أدلة، أحدها: الآية، وثانيها: الحديث، وثالثها: أن السنة لا تنسخ لفظ القرآن، وهو =

وأما الوصية: فإنها نسخت بآية المواريث، قاله ابن عمر1، وابن عباس2. وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا بقوله: "إن الله قد أعطى كل ذي

_ = متفق عليه، فكذلك لا تنسخ حكمه؛ لاشتراك لفظ القرآن وحكمه في القوة والتعظيم وصيانته عن أن يرفع بما هو دونه. وأجاب المجوزون عن الآية: بأن المراد: نأت بخير منها في الحكم ومصلحته، والسنة تساوى القرآن في ذلك؛ إذ المصلحة الثابتة بالسنة قد تكون أضعاف المصلحة الثابتة بالقرآن، إما في عظم الأجر، بناء على نسخ الأخف بالأثقل، أو في تخفيف التكليف، بناء على نسخ الأثقل بالأخف. "شرح مختصر الروضة 2/ 322". قال الغزالي في المستصفى "2/ 104": "ليس المراد: الإتيان بقرآن آخر خير منها؛ لأن القرآن لا يوصف بكون بعضه خيرًا من البعض.... بل معناه: أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل، لكونه أخف منه، أو لكونه أجزل ثوابًا". وقد تقدم الرد على الاستدلال وما فيه. وأما قولهم: "السنة لا تنسخ لفظ القرآن، فكذلك لا تنسخ حكمه". فجوابه: أن هناك فرقًا بين لفظ القرآن وبين حكمه، إذ إن لفظ القرآن معجز، والسنة ليست معجزة، فلا تقوم مقامه في الإعجاز، فلا تقوى على نسخ لفظه، أما الحكم: فالمراد منه تكليف الخلق به، والسنة تقوم مقامه في ذلك. قال الطوفي -رحمه الله- مبينًا السبب في هذا الخلاف: "تلخيص مأخذ النزاع في المسألة: أن بين القرآن ومتواتر السنة جامعًا وفارقًا: فالجامع بينهما: ما ذكرناه من إفادة العلم، وكونهما من عند الله -تعالى-. والفارق: إعجاز لفظ القرآن، والتعبد بتلاوته، بخلاف السنة، فمن لاحظ الجامع، أجاز النسخ، ومن لاحظ الفارق منعه" شرح المختصر "2/ 323". 1 هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، صحابي جليل، هاجر إلى المدينة وعمره عشر سنوات، كان من أهل العلم والورع والعبادة، وكان شديد الاتباع لآثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أحد الستة المكثرين من الرواية. توفي بمكة سنة 73هـ على الراجح. انظر: "الإصابة 2/ 347، تذكرة الحفاظ 1/ 37". 2 تقدمت ترجمته.

حق حقه، فلا وصية لوارث" وأما الآية الآخرى: فإن الله -سبحانه- أمر بإمساكهن إلى غاية يجعل لهن سبيلًا، فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله جعل لهن السبيل. وليس ذلك بنسخ. والله أعلم.

فصل: في حكم نسخ القرآن ومتواتر السنة بالآحاد

فصل: [في حكم نسخ القرآن ومتواتر السنة بالآحاد] فأما نسخ القرآن، والمتواتر من السنة، بأخبار الآحاد: فهو جائز عقلًا؛ إذ لا يمتنع أن يقول الشارع: تعبدناكم بالنسخ بخبر الواحد. وغير جائز شرعًا1. وقال قوم من أهل الظاهر: يجوز2. وقالت طائفة: يجوز في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يجوز بعده3؛ لأن أهل قباء قبلوا خبر الواحد في نسخ القبلة.

_ 1 وهذا هو رأي جمهور العلماء. وقد نقل الغزالي في المستصفى "2/ 107" عدم جواز نسخ القرآن بالمتواتر والآحاد عن الخوارج. 2 انظر: الإحكام لابن حزم "4/ 617". 3 وهو الذي رجحه الغزالي حيث قال: "المختار: جواز ذلك عقلًا لو تعبّد به، ووقوعه سمعًا في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدليل: قصة قباء". وحكاه الشوكاني عن بعض العلماء: كأبي بكر الباقلاني، وأبي الوليد الباجي، والقرطبي، انظر: إرشاد الفحول "2/ 79" والعجب من العلماء الذين قالوا بهذا الرأي، كيف غاب عنهم أنه لا نسخ بعد عصر النبوة، والأعجب منه ما ذهب إليه الظاهرية من جوازه مطلقًا مع ما اتفق عليه الجميع من أن الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به، لأن الإجماع لا يكون إلا بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟! =

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث آحاد الصحابة إلى أطراف دار الإسلام، فينقلون الناسخ والمنسوخ. ولأنه يجوز التخصيص به، فجاز النسخ به كالمتواتر. ولنا: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على أن القرآن والمتواتر لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه، حتى قال عمر -رضي الله عنه-: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة: لا ندري أصدقت أم كذبت"1.

_ = ومن الغريب أن "الطوفي" يميل إلى مذهب الظاهرية وينصره، ويورد العديد من الأدلة على ذلك، مع أنه قال -بعد ذلك- في المسألة السابعة: "الحكم الثابت بالإجماع لا ينسخ، أي: لا يكون منسوخًا. وتقريره، أن النسخ لا يكون إلا في عهد النبوة، والإجماع لا يكون إلا بعد عهد النبوة، ويلزم من ذلك أن حكم الإجماع لا ينسخ. أما أن النسخ لا يكون إلا في عهد النبوة؛ فلأن النسخ رفع للحكم، وإبطال له وتغيير، وذلك إنما يكون في عهد النبوة، لأنه زمن الوحي الرافع للأحكام، وبعد انقراض عهد النبوة يستقر الشرع، فلا يجوز تغيير شيء منه، ولا يبقى إلا اتباع ما انقرض عليه عصر النبوة" شرح المختصر "2/ 330-331". 1 أخرجه مسلم: كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، والترمذي: كتاب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها ولا سكنى، وأحمد في المسند "6/ 415" عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: طلقني زوجي ثلاثًا فلم يجعل لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سكنى ولا نفقة، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [سورة الطلاق: 1] .

فصل: الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به

فصل: [الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به] فأما الإجماع: فلا ينسخ: لأنه لا يكون إلا بعد انقراض زمن النص، والنسخ لا يكون إلا بنص. ولا ينسخ بالإجماع: لأن النسخ إنما يكون لنص، والإجماع لا ينعقد على خلافه، لكونه معصومًا عن الخطأ، وهذا يفضي إلى إجماعهم على الخطأ2.

_ 1 ما قاله المصنف من أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق الذي ينبغي عدم التعويل على غيره، وقد نقل الآمدي عن بعض المعتزلة، وعيسى بن أبان من الحنفية أنهم أجازوا النسخ بالإجماع، كما نقل عن بعض العلماء القول بنسخ الحكم الثابت بالإجماع. انظر الإحكام "3/ 160-161". 2 خلاصة الاستدلال على أن الإجماع لا ينسخ: أن النسخ لا يكون إلا في عهد النبوة، والإجماع لا يكون إلا بعد عهد النبوة، فيلزم من ذلك: أن حكم الإجماع لا ينسخ، لأن النسخ لا يكون إلا بنص. وأما الاستدلال على أن الإجماع لا ينسخ به: فلأن الإجماع لو كان ناسخًا، لكان دليل الحكم المنسوخ إما نصًّا، أو إجماعًا، أو قياسًا، فإن كان نصًّا، فالإجماع الناسخ لا بد له من مستند، وإلا كان خطأ، وذلك المستند هو الناسخ، لا نفس الإجماع. وإن كان دليل الحكم المنسوخ إجماعًا، فلو نسخ بالإجماع، لزم تعارض الإجماعين، فأحدهما باطل، فلا نسخ. وإن كان دليل الحكم المنسوخ قياسًا، فهو إما غير صحيح، فلا عبرة به، فلا نسخ، وإن كان صحيحًا، فالإجماع الناسخ، إن استند إلى نص، فالنص هو =

فإن قيل: فيجوز أن يكونوا ظفروا بنص كان خفيًّا هو أقوى من النص الأول، أو ناسخ له. قلنا: فيضاف النسخ إلى النص الذي أجمعوا عليه لا إلى الإجماع.

_ = الناسخ، والإجماع دل عليه كما سبق. انظر: الإحكام للآمدي "3/ 161" وشرح مختصر الروضة "2/ 331-332".

فصل: في نسخ القياس والنسخ به

فصل: [في نسخ القياس والنسخ به] ما ثبت بالقياس: إن كان منصوصًا على علته: فهو كالنص، ينسخ وينسخ به. وما لم يكن منصوصًا على علته: فلا ينسخ، ولا ينسخ به، على اختلاف مراتبه. وشذت طائفة فقالت: ما جاز التخصيص به: جاز النسخ به. وهو منقوض بدليل العقل، وبالإجماع، وبخبر الواحد. والتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ فكيف يتساويان؟ والتخصيص بيان، والنسخ رفع، والبيان تقرير، والرفع إبطال.

_ 1 المصنف اختصر الكلام في هذه المسألة ولم يبين مذاهب العلماء فيها، والذي في المستصفى "2/ 109": "لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد، على اختلاف مراتبه، جليًّا كان أو خفيًّا. هذا ما قطع به الجمهور.

.................................................

_ = إلا شذوذ منهم قالوا: ما جاز التخصيص به جاز النسخ به وهو منقوض.... الخ". ثم قال: وقال بعض أصحاب الشافعي: يجوز النسخ بالقياس الجلي، ونحن نقول: لفظ الجلي مبهم، فإن أرادوا المقطوع به، فهو صحيح. وأما المظنون فلا" ا. هـ. وقد وضح الطوفي وجه عدم جواز النسخ فقال: "الحكم الثابت بالقياس: إما أن يكون منصوص العلة، أو لا. كالنص، ينسخ وينسخ به، أي: يكون ناسخًا ومنسوخًا، كما أن النص كذلك؛ لأن القياس لا بد وأن يستند إلى نص، فإذا كانت علة القياس منصوصًا عليها في ذلك النص، صار حكم القياس منصوصًا عليه بواسطة القياس، فيكون نصًّا يصح أن يكون ناسخًا ومنسوخًا. مثال ذلك: لو قال الشارع: حَرَّمْت الخمر المتخذ من العنب؛ لكونه مسكرًا فإذا قسنا عليه نبيذ التمر المسكر في التحريم، كان تحريم هذا النبيذ حكمًا منصوصًا على علته، حتى كأنه قال: حرّمت نبييذ التمر المسكر، فلو فرض أن الشرع قال: أبحت نبيذ الذرة المسكر، جاز أن يكون تحريم نبيذ التمر المسكر، المستفاد من القياس، ناسخًا لذلك، إذا ثبت تأخره عن إباحة نبيذ الذرة، ومنسوخًا بإباحة نبيذ الذرة إذا ثبت تقدم تحريم نبيذ التمر، وذلك لأن تحريم نبيذ التمر، وإباحة نبيذ الذرة حكمان متضادان مع اتحاد علتهما، وهي الإسكار، فكان المتأخر منهما ناسخًا للمتقدم، كما لو قال: أبحت الخمر، ثم قال: حرمتها، أو بالعكس. وأما إن لم يكن الحكم الثابت بالقياس منصوصًا على علته، لم يجز أن يكون ناسخًا ولا منسوخًا، لأن العلة إذا لم تكن منصوصة، فهي مستنبطة، واستنباطها هو باجتهاد المجتهد، واجتهاد المجتهد عرضة للخطأ، فلا يقوى على رفع الحكم الشرعي، بخلاف النص على العلة، فإنه حكم الشارع المعصوم من الخطأ، فهو يقوى على ذلك. =

فصل: في نسخ التنبيه والنسخ به

فصل: [في نسخ التنبيه والنسخ به] والتنبيه ينسخ، وينسخ به1.

_ = فإذا قسنا الذرة على البر والشعير، في تحريم التفاصل، بجامع الكيل، بناء على أنه العلة فيهما، ثم قال الشارع: أبحت التفاضل في السمسم، لم يجز لنا أن نجعل الإباحة في السمسم ناسخة للتحريم في الذرة ولا التحريم في الذرة ناسخًا للإباحة في السمسم؛ لأن النسخ لا بد فيه من تضاد الناسخ والمنسوخ، ونحن لا نعلم أن إباحة التفاضل في السمسم، وتحريمها في الذرة متضادان، لجواز عدم اختلاف العلة فيهما، أو كون الحكم في أحدهما، أو في البر والشعير غير معلل، فينتفي التضاد، فينتفي النسخ" ثم بين بطلان قياس النسخ على التخصيص فقال: "إن النسخ إبطال للحكم؛ لأنه رفع له، والتخصيص تقرير وبيان له، لأنه عبارة عن بيان المراد من اللفظ، فإذا بان المراد منه، واستقر الحكم عليه، ورفع الحكم وتقريره متناقضان، فيمتنع استواؤهما، حتى يقال: إن ما جاز التخصيص به، جاز النسخ به، لأن ذلك يصير كقولنا: ما جاز أن يبين الحكم ويقرره، جاز أن يرفعه ويبطله، وهو باطل؛ لأنه ترتيب لحكمين متناقضين على علة واحدة" شرح مختصر الروضة "2/ 333-335". 1 المقصود بالتنبيه هنا: مفهوم الموافقة؛ لأن اللفظ إما أن يدل على الحكم بمنطوقه، وإما أن يدل عليه بمفهومه، وتسمى دلالة المفهوم. والمفهوم: إما أن يكون حكمه موافقًا لحكم المنطوق، ويسمى بمفهوم الموافقة، أو فحوى الخطاب، أو تنبيه الخطاب. وأن كان حكمه مخالفًا لحكم المنطوق، سمي بمفهوم المخالفة، أو دليل الخطاب، أو لحن الخطاب. وقد اتفق الأصوليون على جواز نسخ حكم المنطوق والمفهوم الموافق دفعة واحدة، لما بينهما من التلازم. لكن اختلفوا في نسخ أحدهما مع بقاء الآخر على أربعة أقوال: =

لأنه يفهم من اللفظ، فهو كالمنطوق وأوضح منه. ومنع منه بعض الشافعية وقالوا: هو قياس جلي. وليس بصحيح؛ وإنما هو مفهوم الخطاب. ولأنه يجري مجرى النطق في الدلالة، فلا يضر تسميته قياسًا. وإذا نسخ الحكم في المنطوق: بطل الحكم في المفهوم، وفيما يثبت بعلته أو بدليل خطابه. وأنكر ذلك بعض الحنفية؛ لأنه نسخ بالقياس1.

_ = الأول: لا يجوز نسخ أحدهما بدون نسخ الآخر، فلا ينسخ المنطوق ويبقى المفهوم، ولا ينسخ المفهوم، ويبقى المنطوق، بل نسخ أحدهما يستلزم نسخ الآخر. القول الثاني: أنه يجوز نسخ أحدهما مع بقاء الآخر. القول الثالث: أن نسخ المفهوم يستلزم نسخ المنطوق، وأما نسخ المنطوق فلا يستلزم نسخ المفهوم، وهو مختار ابن الحاجب. القول الرابع: إن جعل مفهوم الموافقة من باب القياس الجلي، كان نسخ أصله نسخًا له، وإن جعل من باب الدلالة اللفظية، فلا يلزم من نسخ أحدهما نسخ الآخر، بل يجوز نسخ المنطوق وبقاء المفهوم، كما يجوز نسخ المفهوم وبقاء المنطوق. وهو مختار الآمدي. انظر: مختصر ابن الحاجب ص119، الإحكام للآمدي "3/ 152" تيسير التحرير "3/ 215". وقول المصنف: "ومنع منه بعض الشافعية الخ": هو مبني على الخلاف في التنبيه، أو مفهوم الموافقة، هل هو قياس جلي، كما يقول الشافعية، أو دلالته لفظية. 1 المصنف يرجح أن نسخ الحكم الثابت بالمنطوق نسخ للمفهوم، ثم نقل عن =

وليس بصحيح؛ لأن هذه فروع تابعة لأصل، فإذا سقط حكم الأصل: سقط حكم الفرع.

_ = بعض الحنفية أنهم خالفوا في ذلك، وقالوا: يختص النسخ بالمنطوق وحده، وما خرج عن محل النطق فهو حكم مستقل لا يلزم من نسخه نسخه. ورد عليهم المصنف: بأنه إذا سقط حكم الأصل، سقط حكم الفرع، لأنه تابع له. قال الطوفي. "معنى هذا الكلام: أن المنطوق -وهو مدلول اللفظ بالمطابقة أو التضمن- إذا نسخ، بطل حكم ما تفرع عليه من مفهومه، ومعلوله، ودليل خطابه، لأنها توابع له، وإذا بطل المتبوع، بطل التابع، وإذا انتفى الأصل، انتفى فرعه" شرح المختصر "2/ 337".

فصل: فيما يعرف به النسخ

فصل: فيما يعرف به النسخ اعلم أن ذلك لا يعرف بدليل العقل، ولا بقياس: بل بمجرد النقل، وذلك من طرق1: أحدها: أن يكون في اللفظ: كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور" 2، "كنت

_ 1 معنى ذلك: أن النسخ إما رفع للحكم الشرعي المتأخر، أو بيان مدة انتهائه وكلاهما لا طريق للعقل إلى معرفته، ولو كان للعقل طريق إلى معرفة النسخ بدون النقل، لكان له طريق إلى معرفة ثبوت الأحكام ابتداء بدون النقل، وليس كذلك. وإذا ثبت أن العقل لا مجال له في معرفة الناسخ، فلم يبق إلا النقل، وله طرق كثيرة، سيأتي ذكرها. 2 هذا جزء من حديث روي عن بريدة -رضي الله عنه- بلفظ: "كنت نهتيكم عن زيارة القبور، فقد أُذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تذكر الآخرة" أخرجه مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه عز وجل في زيارة =

رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا بها"1. الثاني: أن يذكر الراوي تاريخ سماعه فيقول: سمعت عام الفتح، ويكون المنسوخ معلومًا بقدمه. الثالث: أن تجمع الأمة على أن هذا الحكم منسوخ وأن ناسخه متأخر. الرابع: أن ينقل الراوي الناسخ والمنسوخ، فيقول: "رخص لنا في المتعة فمكثنا ثلاثًا، ثم نهانا عنها"2.

_ = قبر أمه حديث "977" وأبو داود: كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور والترمذي: كتاب الجنائز، باب الرخصة في زيارة القبور، وقال: حديث حسن صحيح. كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "5/ 350، 356، 357، 359، 361" بلفظ "نهيتكم عن زيارة القبور فزورها". 1 هذا الحديث روي من عدة طرق: فقد أخرجه أبو داود: كتاب اللباس، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة، والترمذي: كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، والنسائي: كتاب الفرع، باب ما يدبغ به جلود الميتة، وابن ماجه: كتاب اللباس، باب من قال: لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب، وأحمد في المسند "4/ 310". كما أخرجه البيهقي "1/ 25، 26" والطحاوي "1/ 468" عن عبد الله بن عكيم قال: حدثني أشياخ جهينة قالوا أتانا كتاب من رسول الله -صلى الله عيله وسلم- أو قرئ إلينا كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء". وللحديث -كما قلت- روايات عدة تراجع في: نصب الراية "1/ 120 وما بعدها" وتلخيص الحبير "1/ 46 وما بعدها". 2 تقدم تخريج حديث المتعة قريبًا، وهذه الرواية "رخص لنا ... " أخرجها مسلم حديث "1405" من حديث سلمة بن الأكوع، قال: "رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام أوطاس في المتعة ثلاثًا، ثم نهى عنها".

الخامس: أن يكون راوي أحد الخبرين أسلم في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- والآخر لم يصحب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا في أول الإسلام. كرواية طلق بن علي الحنفي1، وأبي هريرة2 في الوضوء من مس الفرج والله تعالى أعلم.

_ 1 هو: طلق بن علي بن طلق بن عمرو السحيمي الحنفي اليمامي، صحابي جليل روى عنه ابنه قيس، وعبد الرحمن بن علي بن شيبان. انظر في ترجمته: "الاستعياب 2/ 776". روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "..... هل هو إلا بضعة منك". أخرجه عنه أبو داود: كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، أي: في ترك الوضوء من مس الذكر. كما أخرجه الترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر وقال فيه: "هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب"، والنسائي كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من ذلك. كذلك أخرجه ابن ماجه، والبيهقي، وأحمد في المسند، والدارقطني وغيرهم. وقد ضعف الحديث الإمام الشافعي، والبيهقي، وأبو حاتم، والدارقطني، وابن الجوزي. انظر: تلخيص الحبير "1/ 125" والفتح الرباني "2/ 88 وما بعدها". 2 هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة سنة سبع وأسلم، وشهد خيبر، وكني بأبي هريرة، لأنه وجد هرة فحملها في كمه، ولزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغبة في العلم وطلب الحديث، حتى دعا له -صلى الله عليه وسلم- بالحفظ، روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل، توفي بالمدينة سنة 57هـ. انظر: الاستيعاب "4/ 202"، الإصابة "4/ 202". وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ومن أفضى بيده إلى ذكره، ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء". =

الباب الرابع: الأصل الثاني من الأدلة سنة النبي -صلى الله عليه وسلم

الباب الرابع: الأصل الثاني من الأدلة سنة النبي -صلى الله عليه وسلم مدخل ... الأصل الثاني من الأدلة سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-1 وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة؛ لدلالة المعجز على صدقه، وأمر الله -سبحانه- بطاعته، وتحذيره من مخالفة أمره.

_ = رواه الإمام أحمد في مسنده "2/ 88" والشافعي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في نواقض الوضوء، والدارقطني: كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القبل والدبر والذكر، والبيهقي: كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر بلفظ "من مس ذكره فليتوضأ"، والحاكم في المستدرك: كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر وقال: "حديث صحيح". وأخرجه ابن حبان في صحيحه وقال: "هذا حديث صحيح سنده، وعدول نقلته". وذكر الزيلعي في نصب الراية "1/ 56" أن البيهقي أخرجه من طريق البخاري موقوفًا على أبي هريرة، كما نقل ذلك عن الذهبي في مختصره. وللعلماء في ترجيح أحد الحديثين على الآخر، أو نسخ حديث أبي هريرة لحديث طلق خلاف طويل. قال أبو يعلى في العدة "3/ 833": "وكان خبر أبي هريرة متأخرًا، لأن أبا هريرة أسلم بعد وفاة طلق بن علي، وقبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربع سنين". وقال الطوفي -تعقيبًا على حديث "هل هو إلا بضعة منك"- قال: "فإن في بعض ألفاظه: "جئت وهم يؤسسون المسجد" وكان ذلك أول الإسلام، وحديث أبي هريرة وبسرة وأم حبيبة في نقض الوضوء بمس الذكر بعد ذلك، لأن أبا هريرة متأخر الإسلام أسلم سنة سبع، وبناء المسجد كان في أول السنة الأولى من الهجرة". شرح المختصر "2/ 343، 344". 1 لم يذكر المصنف تعريف السنة في اللغة ولا في الاصطلاح، كعادة علماء الأصول، وسوف نذكر ذلك بإيجاز ونحيل القارئ إلى المصادر التي استوفت ذلك: فالسنة في اللغة: الطريقة والسيرة المستمرة، سواء أكانت حسنة أم سيئة. قال =

................................................................

_ = الله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77] . وروى مسلم في صحيحه: كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة -والترمذي وحسنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا". وخصها بعض العلماء بالطريقة الحسنة دون غيرها. انظر: "لسان العرب جـ14 ص225، تهذيب اللغة جـ4 ص298". وأما في الاصطلاح: فلها تعريف عام، وتعريفات خاصة، بحسب اصطلاح أهل كل فن أو علم من العلوم: فهي في الاصطلاح العام: تطلق على كل ما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم. وهو ما جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ". أخرجه أبو داود حديث رقم "4607" والترمذي: باب الأخذ بالسنة، وابن ماجه "1/ 15-16". وهي بهذا المعنى تقابل البدعة. وأما تعريفها في الاصطلاحات الخاصة، فإنها تختلف باختلاف اصطلاح أهل كل فن: فالسنة عند المحدثين: هي ما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أقوال وأفعال وتقريرات، وصفاته الخَلْقية والخُلُقية، سواء أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها. وعند الفقهاء: هي ما طلب الشارع فعله طلبًا غير جازم، أو ما في فعلها ثواب، وليس في تركها عقاب، باعتبار أن الفقهاء يبحثون عن حكم أفعال العباد، من الوجوب والندب، والإباحة والحرمة والكراهة إلى آخر صفات أفعال العباد. أما علماء الأصول فقد عرفوا السنة بتعريف يتفق مع طبيعة منهجهم من =

وهو دليل قاطع على من سمعه منه شفاهًا، فأما من بلغه بالإخبار عنه: فينقسم في حقه قسمين: تواترًا وآحادًا1.

_ = البحث في الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام منها -على وجه الإجمال- ولذلك قالوا في تعريفها: هي ما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، وزاد بعضهم جملة "مما ليس بقرآن" وقال بعضهم: "تطلق السنة على ما صدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأفعال والأقوال التي ليست للإعجاز". وأدخلوا التقريرات في الأفعال، باعتبار أن التقرير عبارة عن الكف عن الإنكار، والكف فعل، فكان التقرير داخلًا في الأفعال. انظر: في ذلك: الإبهاج للسبكي "2/ 170" نهاية السول "2/ 170" الإحكام للآمدي "1/ 169" شرح الكوكب المنير "2/ 160" شرح مختصر الروضة "2/ 623" وما بعدها إرشاد الفحول ص "1/ 155"، الحدود للباجي ص56. 1 خلاصة هذا الكلام: أن المصنف أراد أن يستدل على أن السنة حجة من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن المعجز دل على صدقه -عليه الصلاة والسلام- وكل من دل المعجز على صدقه فهو صادق، فهو -صلى الله عليه وسلم- صادق، وكل صادق قوله حجة، فقوله -عليه الصلاة والسلام- حجة. والوجه الثاني: أن الله -تعالى- أمر بتصديقه، وكل من أمر الله بتصديقه كان قوله حجة. أما أن الله -تعالى- أمر بتصديقه -عليه الصلاة والسلام- فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... } [النساء: 136] أي: صدقوا؛ لأن الإيمان هو التصديق، ولا معنى للتصديق بالرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا اعتقاد صدقه، وقبول ما جاء به. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] والمتابعة فرع على التصديق، وملزوم له، والأمر بالفرع والملزوم أمر بالأصل واللازم. أما أن كان من أمر الله -تعالى- بتصديقه يكون له قوله حجة؛ فلأن تصديقه إياه يقتضي أن قوله حق وصدق، والحق والصدق حجة. =

............................................................

_ الوجه الثالث: أن الله -تعالى- حذر من مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وكل من حذر الله -سبحانه وتعالى- من مخالفته وجبت موافقته ومتابعته؛ لأن المخالفة سبب لنزول العذاب، وسبب العذاب -وهو المخالفة- حرام، وترك الحرام واجب، فترك المخالفة واجب، وترك المخالفة يستلزم المتابعة والموافقة، فتكون واجبة، وهذا هو المطلوب. انظر: شرح مختصر الروضة جـ2 ص66، 67. هذا معنى ما قاله ابن قدامة. وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها الغزالي في المستصفى، ما عدا الوجه الثالث فلم يذكره، ولكنه قال: "ولأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى" لكن بعض الوحي يتلى، فيسمى "كتابًا" وبعضه لا يتلى وهو "السنة" المستصفى جـ2 ص120 تحقيق الدكتور حمزة بن زهير حافظ. والواقع أن ما ذكره الغزالي أورده بعض العلماء في الاستدلال على حجية السنة، وما ذكره "ابن قدامة" وارد أيضًا، وهناك آيات أخرى كثيرة في الدلالة على حجية السنة، من أوضحها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . قال ابن كثير: "أطيعوا الله: أي اتبعوا كتابه، وأطيعوا الرسول: أي خذوا بسنته، وأولي الأمر منكم: أي فيما أمروكم به من طاعة الله، لا في معصية الله، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" تفسير القرآن العظيم "1/ 518". وقال ميمون بن مهران: "الرد إلى الله: هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول: هو الرجوع إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته" جامع بيان العلم وفضله "2/ 190". وكما دل القرآن الكريم على حجية السنة، فقد دلت السنة نفسها على أن سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حجة يجب الالتزام بما جاءت به من أحكام، والأحاديث الواردة في هذا الشأن كثيرة، منها: 1- عن مالك -رضي الله عنه- أنه بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: "تركت فيكم =

.........................................................

_ = أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله تعالى وسنة رسوله". 2- روى البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- كتاب الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا: ومن يأب يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى". 3- عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع.." الحديث. رواه أحمد في مسنده "4/ 130-131" وأبو داود في سننه حديث "4604" ورواه الترمذي بلفظ "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حرم الله" انظر: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي ص11. كذلك دل الإجماع على حجيّة السنة، منذ عصر الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين، والأئمة المجتهدين، وإلى يومنا هذا، لم يشذ عن ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام. فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- إذا عرضت عليهم مسألة بحثوا عن حكمها في كتاب الله تعالى، فإذا لم يجدوا حكمها في القرآن بحثوا عنها في السنة، هكذا كانت سياسة الخليفة الأول: أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وكذلك عمر بن الخطاب، ومن جاء بعدهما من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين. روى الدارمي عن ميمون بن مهران قال: "كان "أبو بكر" ‘إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به، قضي به بينهم، وإن لم يجد في كتاب الله، نظر: هل كانت من النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه سنة؟ فإن علمها قضى بها، فإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا ... فنظرت في =

.........................................................................

_ = كتاب الله، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم أجد في ذلك شيئًا، فهل تعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام إليه الرهط فقالوا: نعم، قضى فيه بكذا وكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول -عند ذلك-: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. وإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به". وكتب "عمر" -رضي الله عنه- إلى "شريح" لما ولاه قضاء الكوفة كتابًا قال له فيه: "انظر ما تبين لك من كتاب الله فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك فاتبع فيه سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما لم يتبين لك من السنة فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح" انظر: إعلام الموقعين جـ1 ص84 وما بعدها. وهكذا كان التابعين -رضي الله عنهم- والأئمة المجتهدون، يرجعون إلى السنة النبوية بعد القرآن الكريم، بل كانوا يرجعون إلى السنة لبيان ما جاء به القرآن مجملًا، باعتبارها الشارحة والمفسرة للقرآن الكريم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ".... وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين -عند الأمة قبولًا عامًّا- يتعمد مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقًًا على وجوب اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه" رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص3-4. والمراد بالمعجز: القرآن الكريم، حيث عجز العرب جميعًا عن أن يأتوا بمثله، أو بمثل أقل سورة منه، بل عجز الإنس والجن جميعًا عن الإتيان بمثله، كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] . وفي بعض النسخ المطبوعة "المعجزة" وهي أعم من أن تكون قرآنًا أو غيره، =

فصل: في ألفاظ الرواية

فصل: في ألفاظ الرواية ... فصل: [ألفاظ الرواية] وألفاظ الرواية في نقل الأخبار خمسة1: فأقواها: أن يقول سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[يقول كذا] ، أو أخبرني، أو حدثني، أو شافهني. فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال، وهو الأصل في أمر الرواية، قال -صلى الله عليه وسلم-: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها" 2 الحديث.

_ = فمعجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرة، منها المعنوية، ومنها الحسيّة، وكلها تدل على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أمر بتبليغه عن الله -عز وجل- وقال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15] . وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3-5] . وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-46] . إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة كما أمره ربه جل وعلا. وقول المصنف: "وهو دليل قاطع على من سمعه منه شفاها ... " معناه: أن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إن كان مسموعًا منه مباشرة بدون واسطة، فهو حجة قاطعة على من سمعه منه، لا يسوغ مخالفته بوجه من الوجوه، إلا بنسخ، أو جمع بين متعارضين بتأويل صحيح. وإن كان منقولًا بواسطة، فهو ينقسم إلى قسمين: متواتر وآحاد، ولكل منهما حكم خاص سيأتي قريبًا. 1 هذه المراتب خاصة بالصحابة -رضي الله عنهم- وقد صرح بذلك الغزالي في المستصفى. 2 للحديث عدة طرق: فأخرجه من حديث زيد بن ثابت، أحمد في مسنده =

الرتبة الثانية: أن يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا، فهذه ظاهرة النقل1، وليس نصًّا صريحًا؛ لاحتمال أن يكون قد سمعه من غيره عنه، كما روى أبو هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أصبح جنبًا فلا صوم له"2. فلما استكشف قال: حدثني الفضل بن عباس3.

_ = "5/ 183" وأبو داود "3643" والترمذي "2794" وابن ماجه "230" والطبراني في الكبير "4891" وابن حبان وصححه حديث "72، 73". كما أخرجه من حديث عبد الله بن مسعود، أحمد، والترمذي "2657" وابن ماجه "1/ 85" والشافعي في الرسالة ص411، وفي المسند "1/ 14" وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله "1/ 40"، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص322، وابن حبان "1/ 227" وغيرهم. 1 قوله: "فهذا ظاهره النقل" أي: إذا صدر ذلك من الصحابي لم يكن صريحًا؛ لاحتمال أن يكون قد قال ذلك اعتمادًا على ما بلغه عن طريق التواتر، أو على لسان من يثق به. 2 حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك وابن ماجه. انظر: فتح الباري "4/ 143"، صحيح البخاري حاشية السندي "1/ 329" ومسلم مع شرح النووي "2/ 779" مسند الإمام أحمد "6/ 84" الموطأ "1/ 290"، سنن ابن ماجه "6/ 84". وقد روت عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصبح جنبًا من غير احتلام في رمضان، ثم يغتسل ويصوم ذلك اليوم" أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب اغتسال الصائم، وأبو داود: كتاب الصوم، باب فيمن أصبح جنبًا في شهر رمضان حديث "2388" ومسلم: كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب حديث "78/ 1109". فلما علم أبو هريرة بذلك قال: هما أعلم بذلك، وأن الحديث الذي رواه إنما نقله عن: الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة وثبت يوم حنين، توفي سنة 13هـ على بعض الأقوال. انظر: طبقات ابن سعد "4/ 37"، الأعلام "5/ 355".

وروى ابن عباس قوله: "إنما الربا في النسيئة" 1. فلما روجع أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد2. فهذا حكمه حكم القسم الذي قبله؛ لأن الظاهر أن الصحابي لا يقول ذلك إلا وقد سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن قوله ذلك يوهم السماع، فلا يقدم عليه إلا عن سماع، بخلاف غير الصحابي3. ولهذا اتفق السلف على قبول الأخبار، مع أن أكثرها هكذا4.

_ = قال الخطابي: فأحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة أن يكون ذلك محمولًا على النسخ، وذلك أن الجماع كان محرمًا في أول الإسلام على الصائم في الليل بعد النوم، كالطعام والشراب، فلما أباح الله -تعالى- الجماع إلى طلوع الفجر، جاز للجنب، إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم؛ لارتفاع الحظر المتقدم. انظر: "معالم السنن للخطابي 2/ 115". 1 حديث صحيح أخرجه البخاري "3/ 98" بلفظ "لا ربا إلا في النسيئة" ومسلم: حديث رقم "1596" من طريق أبي صالح قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، مثلًا بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى. فقلت له: إن ابن عباس يقول هذا. فقال: لقد لقيت ابن عباس فقلت له: أرأيت هذا الذي يقول، أشيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو وجدته في كتاب الله عز وجل؟ فقال: لم أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم أجده في كتاب الله، ولكن حدثني أسامة بن زيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الربا في النسيئة". 2 هو: أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، أبو زيد الكلبي، كان حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي في خلافة معاوية -رضي الله عنه- سنة 54هـ. "الاستيعاب 1/ 75، تهذيب الأسماء 1/ 113". 3 مقصوده من ذلك: أن قرينة حاله تدل على أنه لم يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف الصحابي. هذا معنى كلامه، وفيه نظر: فإن الحديثين المتقدمين منقولان عن بعض الصحابة، ولم يسمعوا منه -صلى الله عليه وسلم- ولذلك لا نسلم للمصنف جعل هذه الرتبة مثل السابقة، لهذا الاحتمال. 4 أي: أن أكثر الأخبار تروى هكذا: قال أبو بكر، قال عمر -رضي الله عنهما-.

ولو قدّر أنه مرسل فمرسل الصحابة حجة على ما سيأتي. الرتبة الثالثة: أن يقول الصحابي: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا، أو نهى عن كذا. فيتطرق إليه احتمالان: أحدهما: في سماعه، كما في قوله: [قال] 1. والثاني: في الأمر2؛ إذ قد يرى ما ليس بأمر أمرًا؛ لاختلاف الناس فيه، حتى قال بعض أهل الظاهر: لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ3. والصحيح: أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم أنه أمر [بذلك] 4. وأما احتمال الغلط: فلا يحمل عليه أمر الصحابة؛ إذ يجب حمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة مهما أمكن. ولهذا لو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو شرط شرطًا أو وقَّت وقتًا، فيلزمنا اتباعه5.

_ 1 أي: الاحتمال الأول في سماعه شفاهًا أو بواسطة، كما في الرتبة الثانية، ولذلك نقلت لفظ "قال" من المستصفى لتوضيح المعنى. 2 الاحتمال الثاني: أن يظن ما ليس بأمر أمرًا وما ليس بنهي نهيًا. وهذا الاحتمال بعيد، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا على دراية تامة بقواعد اللغة وأساليبها المختلفة، فلا يعقل أن يشتبه عليهم ذلك، وهم أهل الفصاحة والبيان. 3 هذا النقل عن أهل الظاهر فيه نظر، فلم أجده في كتبهم، فلا أدري من أين نقله المصنف. انظر: الإحكام لابن حزم "2/ 205" فليس فيه ما يشير إلى ذبلك. 4 ما بين القوسين من المستصفى. 5 قال الغزالي: "ولا يجوز أن نقول: لعله غلط في فهم الشرط والتأقيت، ورأى ما ليس بشرط شرطًا".

ثم هذا إنما يستقيم أن لو كان الخلاف في الأمر مبنيًّا على اختلاف الصحابة فيه، ولم يثبت ذلك. والظاهر: أنه لم يكن بينهم فيه اختلاف؛ إذ لو كان لنقل، كما نقل اختلافهم في الأحكام، وأقوالهم في الحلال والحرام. وليس من ضرورة الاختلاف في زماننا أن يكون مبنيًّا على اختلافهم، كما أنهم اختلفوا في الأصول، وفي كثير من الفروع، مع عدم اختلاف الصحابة فيه، فإذا قال الصحابي: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو نهى، لا يكون إلا بعد سماعه ما هو أمر حقيقة1. الرتبة الرابعة: أن يقول: "أُمرنا بكذا" أو "نُهينا" [عن كذا] فيتطرق إليه من الاحتمالات ما مضى3.

_ 1 قال الغزالي في المستصفى "2/ 125-126" تحقيق الدكتور حمزة حافظ: "ويتطرق إليه احتمال ثالث في عمومه وخصوصه، حتى ظن قوم: أن مطلق هذا يقتضي أمر جميع الأمة. والصحيح: أن من يقول بصيغة العموم -أيضًا- ينبغي أن يتوقف في هذا؛ إذ يحتمل أن يكون ما سمعه أمرًا للأمة، أو لطائفة، أو لشخص بعينه، وكل ذلك يبيح له أن يقول: "أمر" فيتوقف فيه على الدليل. لكن يدل عليه: أن أمره للواحد أمر للجماعة، إلا إذا كان لوصف يخصه، من سفر أو حضر، ولو كان كذلك لصرح به الصحابي، كقوله: "أمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن". نعم، لو قال: أمرنا بكذا" وعلم من عادة الصحابي أنه لا يطلقه إلا في أمر الأمة، حمل عليه، وإلا احتمل أن يكون أمرًا للأمة أو له، أو لطائفة". وسيأتي لذلك توضيح أكثر في باب العموم. 2 ما بين القوسين من المستصفى. 3 أي: احتمال أنه سمعه بواسطة، واحتمال اعتقاد ما ليس بأمر أمرًا، وما ليس =

واحتمال آخر: وهو أن يكون الآمر غير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأئمة والعلماء. وذهبت طائفة إلى أنه لا يحتج به، لهذا الاحتمال1. وذهب الأكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله -تعالى- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه يريد به إثبات شرع، وإقامة حجة، فلا يحمل على قول من لا يحتج بقوله. وفي معناه: قوله" "من السنة كذا" و"السنة جارية بكذا". فالظاهر: أنه لا يريد إلا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون سنة غيره، ممن لا تجب طاعته. ولا فرق بين قول الصحابي ذلك في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بعد موته. وقول الصحابي والتابعي2 والصحابي في ذلك سواء، إلا أن الاحتمال في قول التابعي أظهر3.

_ = بنهي نهيًا، واحتمال أن يكون الآمر غير النبي -صلى الله عليه وسلم- والذي أشار إليه بقوله: "واحتمال آخر....". 1 أي: كون الآمر غير النبي -صلى الله عليه وسلم-. 2 أي قوله: "أمرنا وبكذا، أو نهينا عن كذا". 3 في جميع النسخ المطبوعة "إلا أن الاحتمال في قول الصحابي أظهر" ما عدا النسخة التي حققها الدكتور: عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد -يحفظه الله- ففيها "التابعي" وهو الموافق لما في المستصفى "2/ 127" حيث قال: "ولا فرق بين أن يقول الصحابي ذلك في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو بعد وفاته". أما التابعي إذا قال: "أُمرنا" احتمل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر الأمة بأجمعها، والحجة حاصلة به، ويحتمل أمر الصحابة. لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك إلا وهو يريد من تجب طاعته، ولكن الاحتمال في قول التابعي أظهر منه في قوله الصحابي".

الرتبة الخامسة: أن يقول: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون [كذا] فمتى أضيف [ذلك] إلى زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو دليل على جوازه؛ لأن ذكره ذلك في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- فسكت عنه؛ ليكون دليلًا [على الجواز] مثل قول ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كنا نفاضل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنقول: [خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم] 1 أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، فيبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينكره"2. وقال: "كنا نخابر [على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده] 3 أربعين سنة [حتى روى لنا رافع بن خديج4" الحديث] 5.

_ 1 ما بين القوسين من المستصفى، وهو موافق لما في كتب السنة. 2 حديث صحيح رواه البخاري، غير أنه لم يرد فيه "فيبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينكره" راجع: صحيح البخاري مع حاشية السندي "2/ 389". 3 ما بين القوسين من المستصفى، وهو موافق لما في كتب السنة. 4 هو: أبو عبد الله: رافع بن خديج الأوسي الحارثي، عُرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر فاستصغره، وأجازه يوم أحد، استوطن المدينة وكان عريف قومه فيها حتى توفي سنة 74هـ. "الإصابة 2/ 495". 5 ما بين القوسين من المستصفى، وهو موافق لما في كتب السنة. والمخابرة: المزراعة على نصيب معين مما تخرجه الأرض، كالثلث والربع، وقيل: هي من الخبار، وهي الأرض اللينة، وقيل: مأخوذة من "خيبر" لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل: خابرهم، أي عاملهم في خيبر. وحديث المخابرة رواه أحمد في المسند "1/ 234، 2/ 11" والنسائي "7/ 48" وابن ماجه "2450" بلفظ "كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا". وعند البخاري حديث "2343" ومسلم "1547/ 109" "أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان، =

وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "كانوا لا يقطعون في الشيء التافه"1. فإن قال الصحابي: كانوا يفعلون: فقال أبو الخطاب: يكون نقلًا للإجماع؛ لتناول اللفظ إياه2. وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يدل ذلك على فعل الجميع، ما لم يصرح بنقله عن أهل الإجماع3. قال أبو الخطاب: وإذا قال الصحابي "هذا الخبر منسوخ" وجب قبول قوله، ولو فسره بتفسير وجب الرجوع إلى تفسيره.

_ = وصدرًا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-". وحديث النهي عن المخابرة أخرجه الشافعي في المسند "2/ 169"، ومسلم في البيوع حديث رقم "1536" وأبو داود عن جابر -رضي الله عنه- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المخابرة والمحاقل والمزابنة" والمخابرة تقدم معناها. والمحاقلة: كراء الأرض بالطعام، والمزابنة: شراء التمر بالتمر في رءوس النخل. 1 أخرج ابن أبي شيبة في المصنف "9/ 476" من طريق عبد الرحيم بن سليمان الكناني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم يكن يقطع على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشيء التافه" وإسناده صحيح كما قال الزيلعي في نصب الراية "3/ 360". 2 انظر: التمهيد "3/ 184". 3 انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي جـ2 ص89.

فصل: في حد الخبر وأقسامه

فصل: [في حد الخبر وأقسامه] وحد الخبر: هو الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب1. وهو قسمان: تواتر وآحاد2.

_ 1 أي: ما صح أن يقال في جوابه: صدق أو كذب، فيخرج بذلك الإنشاء، من الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والدعاء، فلا يصح أن يقال في جواب شيء من ذلك: صدق أو كذب. قال الغزالي في المستصفى "2/ 131": " ... وهو أولى من قولهم: "يدخله الصدق والكذب" إذ الخبر الواحد لا يدخله كلاهما، بل كلام الله -تعالى- لا يدخله الكذب أصلًا، والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلًا". 2 التواتر في اللغة: التتابع، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] أصلها: وترا، أبدلت الواو تاء. واصطلاحًا: إخبار قوم يمتنع تواطؤهم على الكذب لكثرتهم. والآحاد: جمع أحد، كأبطال جمع بطل، وهمزة أحد مبدلة من الواو، وأصل آحاد: أأحاد، بهمزتين، أبدلت الثانية ألفًا للتخفيف. أما في الاصطلاح: فله تعريفات كثيرة، وجمهور الأصوليين يعرفونه: بأنه ما عدا المتواتر. وقال الطوفي في شرح مختصر الروضة "2/ 103": "الثاني: الآحاد، وهو ما عدم شروط التواتر أو بعضها". وخبر الآحاد -عند الجمهور- ينقسم إلى عدة أقسام: منها: خبر الواحد، ومنها: الخبر المستفيض، وهو ما زاد نقلته على ثلاثة أو على واحد، أو على اثنين -على خلاف في ذلك- ومنها: المشهور: وهو ما اشتهر ولو في القرن الثاني أو الثالث: وكان رواته في الطبقة الأولى واحدًا أو أكثر. وقسم القرافي الأخبار إلى متواتر وآحاد، وما ليس بمتواتر ولا آحاد. وجمهور الحنفية يقسمون السنة إلى ثلاثة أقسام: متواتر، ومشهور، وآحاد. =

فالمتواتر يفيد العلم، ويجب تصديقه، وإن لم يدل عليه دليل آخر، وليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرده إلا المتواتر، وما عداه إنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر، خلافًا للسمنية1، فإنهم حصروا العلم في الحواس، وهو باطل، فإننا نعلم استحالة كون الألف أقل من الواحد، واستحالة اجتماع الضدين. بل حصرهم العلم في الحواس -على زعمهم- معلوم لهم، وليس مدركًا بالحواس، ولا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى "بغداد" "وإن لم يدخلها"2 ولا نشك في وجود الأنبياء، بل في وجود الأئمة الأربعة ونحو ذلك.

_ = انظر "الكفاية للخطيب البغدادي ص16، شرح تنقيح الفصول ص349 كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 2/ 360". 1 معنى ذلك: أنه يحصل العلم بالخبر المتواتر من نفس الخبر، دون أن ينضم إليه دليل آخر، بخلاف الأخبار الأخرى فإنها تحتاج إلى ما يقويها من قرائن وأدلة آخرى، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الفرق، فقالوا: يفيد الظن، ومنهم: الفرقة الضالة التي تسمى "السمنية" بضم السين وفتح الميم، حصروا مدارك العلم في الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس. والسمنية: فرقة من الفرق الضالة التي كانت تسكن الهند، وتعبد الأصنام؛ دهريون يقولون بتناسخ الأرواح، وسموا بذلك نسبة إلى اسم بلد تسمى "سومنات" أو نسبة إلى صنم كانوا يعبدونه يسمى "سمن" أو "سوسان" كانوا يعتقدون فيه أنه يحيي ويميت، كسره القائد الإسلامي، السلطان محمود الغزنوي، المجاهد العالم الفقيه، أحد كبار القادة المسلمين، كانت عاصمته "غزنة" بين خراسان والهند، وامتدت سلطنته من أقاصي الهند إلى نيسابور، توفي سنة "421هـ" ينظر في ترجمته: "وفيات الأعيان 2/ 84، والأعلام 8/ 47، 48". وقد رد عليهم المصنف بعدة ردود واضحة لا تحتاج إلى شرح. 2 ما بين القوسين من المستصفى، وبه يستقيم الكلام، وهو محل الشاهد حيث إن =

فإن قيل: لو كان معلوما -ضرورة- لما خالفناكم؟ قلنا: إنما يخالف في هذا معاند يخالف بلسانه، مع معرفته فساد قوله، أو من في عقله خبط1. ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل عنادهم. ثم لو تركنا ما علمناه لمخالفتكم لزمنا ترك المحسوسات، لمخالفة السوفسطائية2.

_ = العلم حصل بدون مشاهدة، وإلا لكان للمخالف أن يقول: إن العلم حصل بدخولها: فيكون ثابتًا بالحواس. 1 الخبط: الاضطراب والفساد. 2 خلاصة ذلك الاعتراض والرد عليه: أنه لو أفاد التواتر العلم، لاشتركنا نحن وأنتم فيه بالضرورة -خصوصًا على رأي من يقول: إنه يفيد العلم الضروري، ولو اشتركنا جميعًا في حصول العلم الضروري من جهة التواتر لما خالفناكم فيه، لكنا خالفناكم ولم نشارككم في ذلك، ولما لم نشارككم في العلم التواتري دل على أنه لا يفيد الظن. وأجاب المصنف على ذلك: بأن مخالفتكم لنا عناد منكم ومكابرة، أو اضطراب في عقولكم، شأنكم في ذلك شأن من يخالف في المحسوسات لاضطراب عقله ومزاجه، أو مرض في حواسه، كالمريض الذي ينكر حلاوة العسل، كما قال الشاعر: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم ثم لو تركنا ما علمناه لمخالفتكم، لزمنا ترك المحسوسات -أيضًا- لمخالفته السوفسطائية فيها. والسفسطة: قياس مركب من الوهميات، الغرض منه: تغليظ الخصم وإسكاته. والسوفسطائية: فرقة يونانية تنكر حقائق الأشياء وتزعم أنه لا حقيقة لها وهم ثلاث فرق: =

فصل: فيما يفيده الخبر المتواتر

فصل: [فيما يفيده الخبر المتواتر] قال القاضي: العلم الحاصل بالتواتر ضروري، وهو صحيح؛ فإننا نجد أنفسنا مضطرين إليه، كالعلم بوجود مكة، ولأن العلم النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك، وتختلف فيه الأحوال، فيعلمه بعض الناس دون بعض، ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من أهل النظر، ولا من ترك النظر قصدًا. وقال أبو الخطاب: هو نظري؛ لأنه لم يفد العلم بنفسه، ما لم ينتظم في النفس مقدمتان: إحداهما: أن هؤلاء -مع اختلاف أحوالهم وكثرتهم- لا يجمعهم على الكذب جامع، ولا يتفقون عليه. الثانية1: أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة، فينبني العلم بالصدق على المقدمتين.

_ = الأولى: تسمى اللاأدرية، سموا بذلك لأنهم يقولون: لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه، بل نحن متوقفون. الثانية: تسمى العنادية، تنكر حقائق الأشياء وتزعم أنها أوهام. الثالثة: تسمى العندية، لأنهم يقولون: إن أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس، فكل من اعتقد شيئًا فهو في الحقيقة كما اعتقد، فالعالم قديم عند من يعتقد أنه قديم، وحادث عند من يعتقد أنه حادث وهكذا. قال الشيخ "ابن بدران": "هذه فرق السوفسطائية ومقالاتهم، ومن يناظرهم يبقى في حيرة من أمره، لأنهم ينكرون حقيقة الدليل ومقدماته وسائر الأشياء، فلا يقطعهم إلا الضرب حتى يجدوا حقيقة ألمه، والإلقاء في النار حتي يقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَر} .. "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص247". 1 في جميع النسخ "الثاني" وما اثبتناه من المستصفى.

ولا بد من إشعار النفس بهما، وإن لم يتشكل فيها بلفظ منظوم، فقد شعرت به حتى حصل التصديق. ورب واسطة حاضرة في الذهن لا يشعر الإنسان بتوسطها كقولنا: "الاثنان نصف الأربعة" فإنا لا نعلم ذلك إلا بواسطة: أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر، والاثنان كذلك، فقد حصل العلم بواسطة لكنها جلية في الذهن. ولهذا لو قيل: "ستة وثلاثون نصف اثنين وسبعين" افتقر فيه إلى تأمل ونظر. والضروري عبارة عن الأوّلي الذي يحصل بغير واسطة، كقولنا: "القديم ليس محدثا" "والمعدوم ليس موجودًا" لأننا نجد أنفسنا مضطرين إليه، وهو ما يحصل دون تشكل واسطة في الذهن، كالعلوم المحسوسة، والعلم بالتجربة، كقولنا: الماء مروٍ، والخمر مسكر. والصحيح الأول؛ فإن اللفظ يدل عليه؛ لاشتقاقه منه. والقول الآخر: مجرد دعوى، لا دليل عليها1.

_ 1 في بعض النسخ "مجرد اختيار لا دليل عليه". هذا. والمصنف قدم وأخر في كلام الإمام الغزالي فأصبح غير واضح، وسوف أنقل هنا عبارة المستصفى حيث تعتبر خلاصة لما هو ضروري أو نظري. قال: "وتحقيق القول فيه أن الضروري: إن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة، كقولنا: "القديم لا يكون حديثًا" و"الموجود لا يكون معدومًا" فهذا ليس بضروري: فإنه حصل المقدمتين المذكورتين. وإن كان عبارة عما يحصل بدون تشكل الواسطة في الذهن فهذا ضروري. ورب واسطة حاضرة في الذهن، لا يشعر الإنسان بوجه توسطها، وحصول العلم بواسطتها، فيسمى "أوليًّا" وليس بأولى "أي يعتقد أنه أولى وهو ليس =

...................................................

_ = كذلك" كقولنا: "الاثنان نصف الأربعة" فإنه لا يعلم ذلك إلا بواسطة، وهو: أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر، والاثنان أحد الجزءين المساوي للباقي من جملة الأربعة، فهو إذا نصف. فقد حصل العلم بواسطة، لكنها جلية في الذهن حاضرة، ولهذا لو قيل: "ستة وثلاثون هل هو نصف اثنين وسبعين"؟ يفتقر فيه إلى تأمل ونظر، حتى يعلم أن هذه الجملة تنقسم بجزءين متساوين، أحدهما ستة وثلاثون. فإذًا: العلم بصدق خبر التواتر يحصل بواسطة هذه المقدمات وما هو كذلك فليس بأوّلي، وهل يسمى ضروريًا؟ ربما يختلف فيه الاصطلاح. والضروري -عند الأكثرين- عبارة عن الأولى، لا عما نجد أنفسنا مضطرين إليه؛ فإن العلوم الحسابية كلها ضرورية، وهي نظرية, ومعنى كونها نظرية: أنها ليس بأولية. وكذلك العلم بصدق التواتر. ويقرب منه: العلم المستفاد من التجربة، التي يعبر عنها بـ"اطراد العادات" كقولنا: "الماء مرو" و"الخمر مسكر" المستصفى جـ2 ص136 تحقيق الدكتور حمزة حافظ. أما الطوفي: فقد جعل الخلاف بين الفريقين نظريًّا، فبعد أن أورد أدلة كل مذهب قال: ".... لأن القائل بأنه ضروري لا ينازع في توقفه على النظر في المقدمات المذكورة، والقائل بأنه نظري لا ينازع في أن العقل يضطر إلى التصديق به، وإذا وافق كل واحد من الفريقين صاحبه على ما يقوله في حكم هذا العلم وصفته، لم يبق النزاع بينهما إلا في اللفظ، وهو: أن الأول سمى ما يضطر العقل إلى التصديق به -وإن توقف على مقدمات نظرية- ضروريًّا. والثاني سمى ما يتوقف على النظر في المقدمات -وإن كانت بينة- نظريًّا، وخص الضروري بالبديهي، وهو الكافي في حصول الجزم به: تصور طرفيه، كقولنا: الواحد نصف الاثنين؛ فإن من تصور حقيقة الواحد، وتصور حقيقة الاثنين حصل له العلم بأن الواحد نصف الاثنين. =

فصل: ي أن ما حصل العلم في واقعة أفاده في غيرها

فصل: ي أن ما حصل العلم في واقعة أفاده في غيرها ... فصل: [في أن ما حصل العلم في واقعة أفاده في غيرها] ذهب قوم إلى أن ما حصل العلم في واقعة يفيده في كل واقعة، وما حصله لشخص يحصله لكل شخص يشاركه في السماع، ولا يجوز أن يختلف.

_ = وهذا معنى قوله: "إذ مراد الأول بالضروري: ما اضطر العقل إلى تصديقه" أي سواء توقف على مقدمات بينة أو لا. "والثاني": أي: ومراد الثاني بالضروري: "البديهي الكافي في حصول الجزم به" أي: التصديق الجازم به "تصور طرفيه" أعني: الموضوع والمحمول، وإن شئت: المحكوم والمحكوم عليه، نحو: العالم موجود، والمعدوم لا يكون موجودًا حال عدمه، والقديم لا يكون حادثًا، وبالعكس فيهما، بخلاف قولنا: العالم حادث، أو ليس بقديم، فإنه لا بد في التصديق به من واسطة، فنقول: العالم مؤلف، وكل مؤلف محدث، أو ليس بقديم. ثم قال: العلم الضروري منقسم إلى البديهي، الذي يدرك بالبديهية، من غير احتياج إلى واسطة نظر، وإلى ما اضطر العقل إلى التصديق به بواسطة النظر. فدعوى كل واحد من الفرقين غير دعوى الآخر، لأن الأول يقول: هو ضروري متوقف على الوساطة البينة، والآخر يقول: ليس بديهيًّا غنيًّا عن الواسطة مطلقًا. وقد بينا أن كل واحد منهما موافق للآخر على قوله. أي: كل واحد من الخصمين يقول: إن التواتر يفيد العلم الجازم، لكن تنازعا في تسميته ضروريًّا أو نظريًّا. قلت: قد سبق عند ذكرنا للعلم: أنه الحكم الجازم المطابق لموجب، وأن ذلك الموجب إما عقل، أو سمع، أو مركب منهما، وهو التواتر، لتركبه من نقل النقَلَة، ونظر السامع في المقدمتين الممذكورتين، فصار التواتر كالواسطة بين القسمين، فلذلك وقع فيه النزاع، وعلى هذا يترتب العلم إلى قطعي وظني، والقطعي: إما بديهي محض، أو نظري محض، أو متوسط بينهما، وهو =

وهذا إنما يصح: إذا تجرد الخبر عن القرائن. فإن اقترنت به قرائن: جاز أن تختلف به الوقائع والأشخاص؛ لأن القرائن قد تورث العلم، وإن لم يكن فيه أخبار، فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الأخبار، فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين1. ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة القرائن، وكيفية دلالتها فنقول: لا شك أنا نعرف أمورًا ليست محسوسة؛ إذ نعرف من غيرنا حبّه لإنسان، وبغضه إياه، وخوفه منه، وخجله، وهذه أحوال في النفس لا يتعلق بها الحس، قد يدل عليها دلالات، آحادها ليست قطعية، بل يتطرق إليها الاحتمال، لكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف، ثم الثاني والثالث يؤكده، ولو أفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال، إلى أن يحصل القطع باجتماعها.

_ = التواتري، كما رأيت، والله أعلم" شرح مختصر الروضة جـ2 ص81-82. 1 خلاصة ذلك: أن ما أفاد العلم اليقيني من الأخبار في واقعه معينة وجب أن يفيده -أيضًا- في كل واقعة أخرى، وأن من أفاد العلم بالنسبة لشخص من الناس، وجب أن يفيده لكل شخص غيره، إذا شاركه في سماع ذلك الخبر، ولا يجوز أن تختلف واقعة عن واقعة، أو شخص عن شخص. وإلى ذلك ذهب بعض العلماء، كأبي بكر الباقلاني، وأبي الحسين البصري وغيرهما. أما جمهور العلماء -ومنهم ابن قدامة- فقد فرقوا بين الخبر الذي تجرد عن القرائن، والخبر الذي اقترنت به القرائن، فإن تجرد الخبر عن القرائن، فلا يجوز أن يختلف كما قال الأولون، وهذا معنى قوله: "وهذا إنما يصح إذا تجرد الخبر عن القرائن". أما إذا اقترنت بالخبر قرائن، فلا شك أن حصول اليقين به يتفاوت؛ لأن القرائن الخفية يدركها البعض وتخفى على البعض الآخر، فتقوم القرائن -عند من يدركها- مقام عدد من المخبرين. وسوف يبدأ المؤلف ببيان هذه القرائن.

كما أن قول كل واحد من عدد التواتر محتمل منفردًا، ويحصل القطع بالاجتماع: فإنا نعرف محبة الشخص لصاحبه بأفعال المحبين من خدمته، وبذل ماله له، وحضوره مجالسه لمشاهدته، وملازمته في تردداته، وأمور من هذا الجنس، وكل واحد منها إذ انفرد يحتمل أن يكون لغرض يضمره، لا لمحبته، لكن تنتهي كثرة هذه للدلالات إلى حد يحصل لنا العلم القطعي بحبه. وكذلك نشهد الصبي يرضع مرة بعد أخرى، فيحصل لنا علم بوصول اللبن إلى جوفه، وإن لم نشاهد اللبن، لكن حركة الصبي في الامتصاص، وحركة حلقه، وسكوته عن بكائه، مع كونه لا يتناول طعامًا آخر، وكون ثدي المرأة الشابة لا يخلو من لبن، والصبي لا يخلو من طبع باعث على الامتصاص ونحو ذلك من القرائن. فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص، مع قرائن تنضم إليه. ولو تجرد عن القرائن لم يفد العلم، والتجربة تدل على هذا. وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة1 الملك وسياسة إظهاره، والمخبرون من [رؤساء] 2 جنود الملك، فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة بالاتفاق على الكذب، ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم، فهذا يؤثر في النفوس تأثيرًا لا ينكر3.

_ 1 في القاموس المحيط، فصل الهمزة باب اللام: "آل الملك رعيته إيالًا ساسهم، وعلى القوم أولًا وإيالًا وإيالة: ولي". 2 ما بين القوسين من المستصفى. 3 خلاصة ذلك كله: أن القرائن إذا احتفت بالخبر قامت مقام آحاد المخبرين في =

فصل: في شروط التواتر

فصل: [في شروط التواتر] وللتواتر ثلاثة شروط: الأول: أن يخبروا عن علم ضروري مستند إلى محسوس1؛ إذ لو

_ = إفادة الظن وتزايده، لأنا نجد تأثيرها في أنفسنا بالضرورة، إذا كانت القرائن بمثابة المخبرين، جاز -بالضرورة- أن يحصل العلم بخبر الواحد منها، لأن مخبرًا واحدًا مع عشرين قرينة ينزل واحد وعشرين مخبرًا، بل ربما أفادت القرينة الواحدة ما لا يفيده خبر جماعة، إذا احتفت قرائن تنفي اليقين: كأن يجتمع رؤساء الجند -مع كثرتهم- فيذيعون خبرًا عن أمر تكون إذاعته سياسة ودهاء للحاكم، فهذا لا يحصّل اليقين، مع أنهم لو كانوا متفرقين خارجين عما هم فيه من الانضمام إلى الحاكم لحصل اليقين بخبرهم. انظر: المستصفى جـ2 ص145-146. قال العزالي بعد ذلك: "ولا أدري لم أنكر القاضي ذلك، وما برهانه على استحالته، فقد بان بهذا: أن العدد بجوز أن يختلف بالوقائع والأشخاص، فرب شخص انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق ببعض الأسماء، فيقوم ذلك مقام القرائن، وتقوم تلك القرائن مقام خبر بعض المخبرين، فينشأ من ذلك: أن لا برهان على استحالته" المصدر السابق ص146. 1 أي: أن يكون الإخبار عن مشاهدة أو سماع يحصل بواحد منهما العلم الضروري، بأن القول: رأينا مكة وبغداد، ورأينا موسى وقد ألقى عصاه فصارت حية تسعى، ورأينا المسيح وقد أحيا الموتى، ورأينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وقد انشق له القمر، وسمعناه يتلو القرآن ويتحدى به العرب، فعجزوا عن معارضته. ومن تمام هذا الشرط: أن لا تكون المشاهدة والسماع على سبيل غلط الحس، كما في إخبار النصارى بصلب المسيح -عليه السلام- وأن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم، فلو كانوا متلاعبين أو مكرهين لم يوثق بخبرهم. انظر: نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص254.

فصل: مذاهب العلماء في عدد التواتر

فصل: [مذاهب العلماء في عدد التواتر] واختلف الناس فيه: فمنهم من قال: يحصل باثنين، ومنهم من قال: يحصل بأربعة. وقال قوم بخمسة، وقال قوم بعشرين، وقال آخرون بسبعين، وقيل غير ذلك1.

_ 1 فقيل: أربعون، وقيل: ثلاثمائة، وقيل: عشرة، عدد أهل بيعة الرضوان. قال =

والصحيح: أنه ليس له عدد محصور، فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود "مكة" ووجود الأنبياء -عليهم السلام- ولا سبيل إلى معرفته؛ فإنه لو قتل رجل في السوق، وانصرفت جماعة فأخبرونا بقتله، فإن قول الأول يحرك الظن، والثاني يؤكده، ولا يزال يتزايد حتى يصير ضروريًّا ولا يمكننا تشكيك أنفسنا فيه. فلو تصور الوقوف على اللحظة التي حصل فيها العلم ضرورة، وحفظ حساب المخبرين، وعددهم: لأمكن الوقوف عليه، ولكن إدراك تلك اللحظة عسير؛ فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدًا خفيّ التدريج، كتزايد عقل الصبي المميز، إلى أن يبلغ حد التكليف، وتزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال، فلذلك: تعذّر على القوة البشرية إدراكه. فأما ما ذهب إليه المخصصون بالأعداد، فتحكم فاسد، لا يناسب الغرض، ولا يدل عليه، وتعارض أقوالهم يدل على فسادها. فإن قيل: فكيف تعلمون حصول العلم بالتواتر، وأنتم لا تعلمون أقل عدده؟ قلنا: كما نعلم أن الخبز مشبع، والماء مرو، وإن كنا لا نعلم أقل

_ = الطوفي: وهو وهم لأن أهل بيعة الرضوان، وهي بيعة الحدبيبة تحت الشجرة، كانوا ألفًا وخمسمائة. شرح مختصر الروضة جـ2 ص89، 90. جاء في صحيح البخاري "4150" عن البراء بن عازب: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع عشر مائة" وجاء فيه أيضًا "4151" عن البراء: "أنهم كانوا خمس عشرة مائة" وفيه روايات أخرى بأعداد مخالفة. والخلاصة: أن الضابط في حصول عدد التواتر: حصول العلم بالخبر، فمتى حصل العلم بالخبر المجرد عن القرائن علمنا حصول التواتر. أما إذا وجدت قرائن، فهذه تزيد الخبر قوة، حتى ولو كان من خبر الآحاد.

مقدار يحصل به ذلك، فنستدل بحصول العلم الضروري على كمال العدد لا أنَّا نستدل بكمال العدد على حصول العلم. فصل ليس من شرط التواتر: أن يكون المخبرون مسلمين، ولا عدولًا؛ لأن إفضاءه إلى العلم، من حيث إنهم مع كثرتهم لا يتصور اجتماعهم على الكذب وتواطؤهم عليه، ويمكن ذلك في الكفار، كإمكانه في المسلمين2.

_ 1 حاصل ذلك: أن المصنف أورد اعتراضًا خلاصته: أن حصول العلم فرع عن حصول العدد، فلو عرف حصول العدد بحصول العلم لكان دورًا، أي: يتوقف معرفة أحدهما على معرفة الآخر. وحاصل ما أجاب به المصنف: أنا لا نسلم وجود الدور، لأن الدور يتحقق إذا كانت الجهة متحدة، وهذا غير موجود فيما نحن فيه، لأن حصول العلم معلول الإخبار ودليله، فالإخبار علة حصول العلم ومدلول له، والاستدلال على وجود العلة بوجود المعلول لا دور فيه، وإلا لما صح الاستدلال على وجود الصانع -جل جلاله- بوجود العلم، لأنه علته، والموجد له، ولأن العلة لازم المعلول، والاستدلال على وجود اللازم بوجود الملزوم لا خلاف في صحته، وهذا كما نقول في الشبع: هو معلول الطعام المشبع، ودليله: أنه لا شبع إلا بمشبع، والري معلول الشراب المروي، ودليله: أنه لا ري إلا بمروٍ، وإن كنا لا نعلم القدر الكافي من المشبع والمروي ابتداء، لكن إذا شبعنا وروينا علمنا أننا تناولنا من الطعام أو الشراب قدرًا مشبعًا أو مرويًا، فكذلك ما نحن فيه، لا نعلم مقدار العدد المحصل للعلم ما هو؟ فإذا حصل العلم بالخبر علمنا حصول العدد المحصل للعلم، لأنه لازم لحصول العلم وشرط له، والمشروط والملزوم يدلان على وجود اللازم والشرط. "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص256-257". 2 هذا هو رأي جمهور العلماء. قال الطوفي: لأن مناط حصول العلم كثرتهم، =

ولا يشترط -أيضًا- ألا يحصرهم عدد، ولا تحويهم بلد؛ فإن الحجيج إذا أخبروا بواقعة صدتهم عن الحج، وأهل الجمعة إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت من الصلاة، علم صدقهم مع دخولهم تحت الحصر وقد حواهم مسجد، فضلًا عن البلد1.

_ = بحيث لا يجوز عادة تواطؤهم على الكذب، لا العدالة والإسلام وسائر أوصاف الرواية؛ لأن ذلك إنما يشترط في الشهادات، وأخبار الآحاد، لأنها إنما تفيد الظن، أما التواتر: فهو يفيد للعلم الضروي أو النظري -كما سبق- فهو مستغن عن اعتبار أوصاف المخبرين المراد لتقوية الظن وغلبته. "شرح مختصر الروضة 2/ 94". 1 ومعناه: أن الناس المجتمعين في الحج، لو أخبروا بأنه عرض لهم مانع منعهم من أداء الحج في ذلك العام، كعدو صدهم عن دخول البيت، أو غور عيون الماء في الطريق، ونحو ذلك؛ لحصل لنا العلم بخبرهم، مع أنهم محصورون تحت عدد يمكن، معرفته، وكذلك أهل الجامع -يوم الجمعة- لو أخبروا بوجود مانع منعهم من صلاة الجمعة، كعدم وجود الإمام، أو هجوم عدو جعلهم يخرجون من المسجد، حصل لنا العلم بخبرهم، مع أنهم محصورون في عدد معين، وفي مسجد، فضلًا عن بلد. وخالف في ذلك بعض العلماء، واشترطوا الإسلام والعدالة في المخبرين. كما أورد الغزالي آراء آخرى في المسألة. انظر: التمهيد لأبي الخطاب "3/ 33" المستصفى "2/ 156 وما بعدها".

فصل: لا يجوز على أهل التواتر كتمان ما يحتاج إليه

فصل: [لا يجوز على أهل التواتر كتمان ما يحتاج إليه] ولا يجوز على أهل التواتر كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته، وأنكر ذلك الإمامية1.

_ 1 الإمامية فرقة من الشيعة، تقول: "إن الإمامة لعلي -رضي الله عنه- ولأولاده من =

وليس بصحيح؛ لأن كتمان ذلك يجري -في القبح- مجرى الإخبار عنه بخلاف ما هو به، فلم يجز وقوع ذلك منهم وتواطؤهم عليه. فإن قيل: قد ترك النصارى نقل كلام عيسى في المهد1؟

_ = بعده، فهي منصب إلهي، والتصديق به ركن من أركان الإيمان عندهم. وادعوا أن هناك نصوصًا تدل على إمامة علي كتمها الصحابة -رضي الله عنهم- مع كثرتهم، ووقوع ذلك منهم يدل على جواز كتمان الخبر المتواتر، واستندوا في ذلك إلى أحاديث بعضها صحيح، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- في شأن "علي" -رضي الله عنه-: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي" وهو حديث صحيح: أخرجه البخاري حديث رقم "3706" و"4416" عن سعد بن أبي وقاص، ومسلم: حديث رقم "2404" والترمذي حديث رقم "3731" وأحمد في المسند"1/ 173" والحديث وإن كان صحيحًا إلا أنه ليس صريحًا. وأجاب المصنف على ذلك بقوله: وليس بصحيح؛ فإن كتمان ما يحتاج إلى النقل، يجري مجرى الكذب، والكذب محال في حق الصحابة -رضي الله عنهم- حيث أثنى عليهم الخالق -جل وعلا- في العديد من الآيات، كما أثنى عليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتواطؤهم على الكذب محال، وكذلك تواطؤهم على الكتمان. قال الشيخ: "ابن بدران": "وللجمهور أن يعارضوا الإمامية بالمثل، بأن يقولوا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نص على إمامة أبي بكر نصًّا جليًّا متواترًا.." "نزهة الخاطر جـ1 ص259". ومن هذه النصوص: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" وهو حديث صحيح وصريح، أخرجه أحمد في المسند "5/ 382، 385، 399، 402" كما أخرجه الترمذي حديث "3663"، وابن ماجه حديث "79" وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله "2/ 223" وصححه ابن حبان "2193" والحاكم "3/ 75". 1 هذه شبهة: أوردها الإمامية دعمًا لرأيهم -في جواز كتمان الخبر المتواتر-، خلاصتها: أن النصارى تركوا كلام عيسى -عليه السلام- في المهد، مع أنه =

قلنا: لأن كلامه في المهد كان قبل ظهوره واتباعهم له. القسم الثاني، أخبار الآحاد وهي: ما عدا المتواتر1 اختلفت الرواية عن إمامنا -رحمه الله- في حصول العلم بخبر الواحد:

_ = مما يحتاج إلى نقله، وتتوفر الدواعي عليه، فهذه صورة من صور الدعوى قد وقعت، وهي تدل على الجواز. وأجاب المصنف على هذه الشبهة: بأن ذلك كان قبل نبوته، والدواعي تتوفر على نقل أعلام النبوة. قال الطوفي: "وهذا ضعيف؛ لأن كلامه في المهد كان من خوارق العادات قبل نبوته، والدواعي تتوفر على نقل مثله عادة، وإن لم يكن الناقلون أتباعا للمنقول عنه". ثم ذكر وجوهًا أخرى للرد عليهم فقال: الوجه الثاني: أنه قد نقل أن حاضري كلام المسيح في المهد لم يكونوا كثيرين، بحيث يحصل العلم بخبرهم، بل إنما كانوا زكريا وأهل مريم ومن يختص بهم، فلذلك لم ينقل متواترًا، ولا يلزم من عدم تواتره عدم نقله مطلقًا، لجواز أنهم نقلوه ولم يتواتر. الوجه الثالث: أنَّا لا نسلم أنهم لم ينقلوه، بل نقلوه وهو متواتر عندهم في "إنجيل الصَّبْوَة" يعني: الذي ذكر فيه أحوال عيسى -عليه السلام- في صبوته، منذ ولد إلى أن رفع، وإنما لم يتوافر نقلهم لذلك عندنا لعدم مشاركتنا لهم في سببه، أو لاستغنائنا عنه بتواتر القرآن". "شرح المختصر جـ2 ص101، 102". 1 قوله: وهي ما عدا المتواتر، أي: أن خبر الواحد ما فقدت فيه شروط المتواتر أو بعض منها، بأن كان إخبارًا عن غير محسوس، أو رواية ممن يجوز الكذب عليه عادة، أو جماعة لا يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة، أو كانوا ممن يستحيل =

فروى: أنه لا يحصل به. وهو قول الأكثرين والمتأخرين من أصحابنا؛ لأنَّا نعلم -ضرورة- أنا لا نصدق كل خبر نسمعه. ولو كان مفيدًا للعلم: لما صح ورود خبرين متعارضين؛ لاستحالة اجتماع الضدين. ولجاز نسخ القرآن والأخبار المتواترة به، لكونه بمنزلتهما في إفادة العلم، ولوجب الحكم بالشاهد الواحد، ولاستوى في ذلك العدل والفاسق كما في المتواتر1. وروي عن أحمد أنه قال: -في أخبار الرؤية- يقطع على العلم بها. وهذا يحتمل أن يكون في أخبار الرؤية وما أشبهها، مما كثرت

_ = منهم الكذب عادة، لكن في بعض طبقاته دون البعض. 1 نقل المصنف عن الإمام أحمد -رضي الله عنه- روايتين فيما يفيده خبر الآحاد: الرواية الأولى: أنه لا يفيد العلم، واستدل على هذا الرأي بخمسة أوجه: الوجه الأول: أنه لو أفاد العلم لصدقنا كل خبر نسمعه، لكنا لا نصدق كل خبر نسمعه، فدل ذلك على أنه لا يفيد العلم. الوجه الثاني: لو أفاد خبر الواحد العلم لما تعارض خبران، لأن العلمين لا يتعارضان، لكن التعارض موجود كثيرًا في أخبار الآحاد، فدل ذلك على أنه لا يفيد العلم. الوجه الثالث: أنه لو أفاد العلم لجاز نسخ القرآن والسنة المتواترة به، لكنه لا يجوز نسخ القرآن والسنة المتواترة بالآحاد، فدل على أنه لا يفيد العلم. الوجه الرابع: أنه لو أفاد العلم لجاز الحكم بشاهد واحد، ولم يحتج إلى شاهد آخر ولا إلى اليمين عند عدمه، ولو كان مفيدًا للعلم لما احتاج لذلك. الوجه الخامس: أنه لو أفاد العلم لاستوى خبر العدل والفاسق، كما في المتواتر، لكن الفاسد والعدل لا يستويان في خبر الواحد -بالإجماع- فدل ذلك على أنه لا يفيد العلم.

رواته، وتلقته الآمة بالقبول، ودلت القرائن على صدق ناقله، فيكون إذًا من المتواتر؛ إذ ليس للمتواتر عدد محصور. ويحتمل أن يكون خبر الواحد عنده مفيدًا للعلم. وهو قول جماعة من أصحاب الحديث وأهل الظاهر. قال بعض العلماء: إنما يقول أحمد بحصول العلم بخبر الواحد فيما نقله الأئمة الذين حصل الاتفاق على عدالتهم وثقتهم وإتقانهم، ونقل من طرق متساوية، وتلقته الأمة بالقبول، ولم ينكره منهم منكر؛ فإن الصديق والفاروق -رضي الله عنهما- لو رويا شيئا سمعاه أو رأياه، لم يتطرق إلى سامعهما شك ولا ريب، مع ما تقرر في نفسه لهما، وثبت عنده من ثقتهما وأمانتهما. ولذلك: اتفق السلف في نقل أخبار الصفات، وليس فيها عمل، وإنما فائدتها: وجوب تصديقها، واعتقاد ما فيها. لأن اتفاق الأمة على قبولها إجماع منهم على صحتها، والإجماع حجة قاطعة1.

_ 1 هذه هي الرواية الثانية المنقولة عن الإمام إحمد. وللعلماء في تخريجها عدة احتمالات: الاحتمال الأول: أنها خاصة بأحاديث الرؤية وما أشبهها من الأمور العقدية. الاحتمال الثاني: أن ذلك خاص بما وجدت معه قرائنه تقويه. الاحتمال الثالث: أن هذا هو رأي الإمام أحمد في خبر الآحاد عمومًا، وهو رأي المحدثين وأهل الظاهر. وهناك احتمال رابع -حكاه المصنف- عن بعض أهل العلم: أن ذلك خاص بما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم وثقتهم وتلقي الأمة لما نقل عنهم بالقبول والرضا، مثل ما نقل عن الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-. وقد لخص محمد الأمين الشنقيطي آراء العلماء في هذه المسألة فقال: =

............................................

_ "حاصل كلام أهل الأصول في هذه المسألة: أن فيها للعلماء ثلاثة مذاهب: الأول: وهو مذهب جماهير الأصوليين: أن أخبار الآحاد إنما تفيد الظن فقط، ولا تفيد اليقين. المذهب الثاني: أنه يفيد اليقين إن كان الرواة عدولًا ضابطين. وهو رواية عن الإمام أحمد، وحكاه الباجي عن ابن خويز منداد من المالكية، وهو مذهب الظاهرية. المذهب الثالث: هو التفصيل: بأنه إذا احتفت به قرائن دالة على صدقه أفاد اليقين، وإلا أفاد الظن. ومن أمثلة ذلك: أحاديث الشيخين -البخاري ومسلم- لأن القرائن دالة على صدقهما، لجلالتهما في هذا الشأن وتقديمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق، كما قاله غير واحد. واختار هذا القول: ابن الحاجب، وإمام الحرمين، والآمدي، والبيضاوي، وممن اختار هذا القول: أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى-. وحمل بعضهم الرواية عن أحمد: على ما قامت القرائن على صدقه خاصة دون غيره. ا. هـ ملخصًا من مذكرة الشيخ الشنقيطي ص103. [خبر الآحاد في العقيدة] ثم تطرق -رحمه الله تعالى- إلى قضية أخرى مهمة، وهي: أن أخبار الآحاد متى صحت، يجب قبولها في الأصول، كما يجب في الفروع، فقال: "اعلم أن التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه: أن أخبار الآحاد الصحيحة كما تقبل في الفروع، تقبل في الأصول، فما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأسانيد صحيحة من صفات الله يجب إثباته واعتقاده على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله على نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم من أن أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد ولا ثبت بها شيء من صفات الله زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين وأن العقائد لا بد فيها من اليقين باطل لا يعول عليه. ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمجرد تحكيم العقل.

..............................................

_ والعقول تتضاءل أمام عظمة صفات الله، وقد جرت عادة المتكلمين أنهم يزعمون أن ما يسمونه الدليل العقلي وهو القياس المنطقي الذي يركبونه من مقدمات اصطلحوا عليها أنه مقدم على الوحي. وهذا من أعظم الباطل لأن ما يسمونه الدليل العقلي ويزعمون أن إنتاجه للمطلوب قطعي، هو جهل وتخبط في الظلمات. ومن أوضح الأدلة، وأصرحها في ذلك أن هذه الطائفة تقول مثلًا: إن العقل يمنع كذا من الصفات ويوجب كذا منها، وينفون نصوص الوحي بناء على ذلك فيأتي خصومهم من طائفة أخرى ويقولون: هذا الذي زعمتم أن العقل يمنعه كذبتم فيه بل العقل يوجبه. وما ذكرتم بأنه يجيزه كذبتم فيه بل هو يمنعه وهذا معروف في الكلام في مسائل كثيرة معروفة، كاختلافهم في أفعال العبد وجواز رؤية الله بالأبصار، وهل العرض يبقى زمانين إلى غير ذلك. فيجب على المسلم أن يتقبل كل شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بسند صحيح، ويعلم أنه إن لم يحصل له الهدي والنجاة باتباع ما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يحصل له ذلك بتحكيم عقله التائه في ظلمات الحيرة والجهل. وعلى كل حال فإثبات صفات الله بأخبار الآحاد الصحيحة واعتقاد تلك الصفات كالعمل بما دلت عليه من أوامر الله ونواهيه، كما أنها تثبت بها أوامره ونواهيه وكذلك تثبت بها صفاته. "المصدر السابق ص104، 105". والذي قاله الشيخ الشنقيطي هو ما نقل عن المحققين من العلماء، منهم الأئمة: مالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو الحسين الكرابيسي، وابن خويز منداد، وابن كج، وابن حزم، وابن قيم الجوزية، وبدر الدين الزركشي، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، فقد ألف رسالة في ذلك بعنوان: "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والرد على شبه المخالفين". وهو ما توصلت إليه في بحث بعنوان: "حجية خبر الآحاد في العقيدة". تحت الطبع. ومن الأدلة التي استندت إليها في هذا البحث:

..............................................................................

_ = الدليل الأول: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا -رضي الله عنه- على اليمن قال: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإن عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم واتق كرائم أموال الناس". أخرجه البخاري: 24- كتاب الزكاة: 41، باب وجوب الزكاة 3/ 261، وباب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة: 3/ 322، وباب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا: 3/ 357، وفي المظالم، باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم: 5/ 101، وفي المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن 8/ 64، وفي التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى: 13/ 347، ومسلم في الإيمان 1/ 50. فقد أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغهم قبل كل شيء عقيدة التوحيد، وأن يعرفهم بالله عز وجل، وما يجب له وما ينزه عنه، فإذا عرفوه تعالى بلغهم ما فرض الله عليهم، وذلك ما فعله معاذ يقينًا، فهو دليل على أن العقيدة تثبت بخبر الواحد، وتقوم به الحجة على الناس، ولولا ذلك لما اكتفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإرسار معاذ وحده. ومن لم يسلم بما ذكرنا لزمه أحد أمرين لا ثالث لهما: 1- القول بأن رسله عليهم السلام ما كانوا يعلمون الناس العقائد، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمرهم بذلك، وإنما أمرهم بتبليغ الأحكام فقط، وهذا باطل لمخالفته لحديث معاذ المتقدم. 2- أنهم كانوا مأمورين بتبليغها، وأنهم فعلوا ذلك، فبلغوا الناس كل العقائد الإسلامية ومنها هذا القول المزعوم: "لا تثبت العقيدة بخبر الآحاد" فإنه في نفسه عقيدة كما سبق، وعليه فقد كان هؤلاء الرسل رضوان الله عليهم يقولون للناس: آمنوا بما نبلغكم إياه من العقائد، ولكن لا يجب عليكم أن تؤمنوا بها لأنها خبر آحاد، وهذا باطل أيضًا كالذي قبله، وما لزم منه باطل فهو باطل، =

........................................................

_ فثبت بطلان هذا القول، وثبت وجوب الأخذ بخبر الآحاد في العقائد. وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة للشيخ الألباني ص11، 12. الدليل الثاني: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] وقال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة: 99] ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بلغوا عني" متفقعليه. وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة: "أنتم تسألون عني فما أنتم قائلون"، قالوا: "نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت" رواه مسلم في الحج "147": وأبو داود "1905" وابن ماجه "311". ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ، ويحصل به العلم، فلو كان خبر الواحد، لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العبد، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه، فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسنته، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو دون عدد التواتر. وهذا من أبطل الباطل. فيلزم من قال: إن أخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا تفيد العلم أحد أمرين: 1- إما أن يقول: إن الرسول لم يبلغ غير القرآن، وما رواه عنه عدد التواتر، وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ. 2- وإما أن يقول إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علمًا ولا يقتضي عملًا. وإذا بطل هذان الأمران بطل بأن أخباره -صلى الله عليه وسلم- التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علمًا. وهذا ظاهر لا خفاء به. مختصر الصواعق المرسلة "2/ 396".

فأما التعارض -فيما هذا سبيله- فلا يسوغ إلا كما يسوغ في الأخبار المتواترة وآي الكتاب1. وقولهم: "إنا لا نصدق كل خبر نسمعه" فلأننا إنما جعلناه مفيدًا للعلم؛ لما اقترن به من قرائن زيادة الثقة، وتلقي الأمة له بالقبول2. ولذلك اختلف خبر العدل والفاسق3. وأما الحكم بشاهد واحد: فغير لازم؛ فإن الحاكم لا يحكم بعلمه، وإنما يحكم بالبينة التي هي مظنة الصدق4. والله أعلم.

_ 1 المصنف بعد أن أورد الرأي الثاني المنقول عن الإمام أحمد وما فيه من احتمالات بدأ يرد على الوجوه التي استدل بها على أن خبر الآحاد يفيد الظن، وتقدم أنها خمسة، لكنه هنا لم يلتزم الترتيب، كما لم يرد على الوجه الثالث منها. وقوله: "فأما التعارض ... إلخ" هذا هو الرد على الوجه الثاني الذي خلاصته: أن خبر الآحاد لو أفاد العلم لما وقع تعارض بين الأدلة المتعارضة القطعية من السنة المتواترة وآي القرآن الكريم، وذلك بالجمع بين الدليلين إن أمكن، أو يعتبر المتأخر ناسخًا للمتقدم، أو حمل المطلق على المقيد، إلى آخر وجوه الجمع بين المتعارضات. 2 هذا هو الرد على الوجه الأول: وهو أن التفرقة بين خبر وخبر، إنما جاءت من القرائن، كزيادة الثقة في الراوي، أو تلقي الأمة له بالقبول. 3 هذا رد على الوجه الخامس: وهو أنه لو أفاد العلم لاستوى خبر العدل والفاسق، كالمتواتر، فإنه لا يشترط فيه أن يكون المخبرون عدولًا. فرد على ذلك: بأن التفرقة جاءت من القرينة. 4 هذا رد على الوجه الرابع: وهو أنه لو أفاد العلم لجاز الحكم بشاهد واحد، ولم يحتج إلى شاهد آخر، أو اليمين عند عدمه. فأجاب عن ذلك: بأن هذا ليس =

فصل: في حكم التعبد بخبر الواحد عقلا

فصل: [في حكم التعبد بخبر الواحد عقلًا] وأنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلًا1؛ لأنه يحتمل أن يكون كذبًا، والعمل به عمل بالشك، وإقدام على الجهل، فتقبح الحوالة على الجهل. بل إذا أمرنا الشرع بأمر فليعرفناه؛ لنكون على بصيرة، إما ممتثلون، وإما مخالفون2. والجواب: أن هذا إن صدر من مقر بالشرع فلا يتمكن منه؛ لأنه تعبد بالحكم

_ = بلازم، أي لا يلزمنا ذلك، للفرق بين الشهادة والرواية، ولذلك لا يحكم القاضي بمقتضى علمه، وإنما يحكم بناء على البينة التي هي مظنة الصدق، فقياس الرواية على الشهادة قياس مع الفارق. 1 معنى التعبد بخبر الواحد: أي يجوز أن يتعبد الله -تعالى- خلقه بخبر الواحد، بأن يقول لهم: اعبدوني بمقتضى ما يبلغكم عني وعن رسولي على ألسنة الآحاد. وهو قول الجمهور: الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء والأصوليين. وأنكر ذلك جماعة: منهم الجبائي وبعض المتكلمين. انظر: "العدة جـ3 ص857، شرح اللمع جـ1 ص583، شرح مختصر الروضة جـ2 ص112، 113". 2 هذه حجة المنكرين لجواز التعبد بخبر الواحد عقلًا، خلاصتها: أن خبر الواحد يحتمل الكذب، فالعمل به عمل بالجهل، وهو قبيح عقلًا، والعقل لا يجيز القبيح؟ وأيضًا: فإن امتثال أمر الشرع والدخول فيه؛ يجب أن يكون بطريق علمي؛ ليكون المكلف منه على يقين وبصيرة، وأمان من الخطأ. انظر: شرح المختصر جـ1 ص115.

بالشهادة، والعمل بالفتيا، أو التوجه إلى الكعبة بالاجتهاد عند الاشتباه، وإنما يفيد الظن، كما يفيد بالعمل بالمتواتر، والتوجه إلى الكعبة عند عدم معاينتها، فلِمَ يستحيل أن يلحق المظنون بالمعلوم؟ وإن صدر من منكر للشرع: فيقال له: أي استحالة في أن يجعل الله -تعالى- الظن علامة للوجوب، والظن مدرك بالحس، فيكون الوجوب معلومًا؟ فيقال له: إذا ظننت صدق الشاهد، والرسول، والحالف: فاحكم به، ولست متعبدًا بمعرفة صدقه، بل بالعمل به عند ظن صدقه، وأنت ممتثل مصيب صدق أم كذب. كما يجوز أن يقال: إذا طار طائر ظننتموه غرابًا: أوجبت عليكم كذا، وجعلت ظنكم علامة، كما جعل زوال الشمس علامة على وجوب الصلاة1.

_ 1 خلاصة ما أجاب به المصنف على هؤلاء المنكرين: أن المنكر إما أن يكون مقرًّا بالشرع أو لا؟ فإن كان مقرًّا فنقول له: إن الشرع ورد فيه ما ينقض قولك، كالحكم بالشهادة، والعمل بقول المفتي، وهو واحد، والاجتهاد في القبلة إذا اشتبهت على المصلي، فإنه يجب عليه أن يصلي إلى الجهة التي ظنها القبلة، وكل هذا من قبيل الظنون. وإن كان المنكر ممن ينكر الشرع فيقال له: أي استحالة في أن يجعل الله -تعالى- الظن علامة للوجوب، كما لو قال: إذا طار بكم طائر وظننتموه غرابًا أوجبت عليكم كذا وكذا، وجعلت ظنكم علامة على وجوب العمل، كما جعلت زوال الشمس علامة على وجوب الصلاة، والظن وجوده مدرك بالحس، فيكون الوجوب معلومًا، فمن أتى بالواجب عند الظن فقد امتثل قطعًا، وهكذا العمل في الشاهد والحالف، لسنا متعبدين بالعلم بصدقه، لكن بالعمل بالظن الذي نحسه من أنفسنا. انظر: "شرح ابن بدران جـ1 ص264، 265".

فصل1 وقال أبو الخطاب: العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد لأمور ثلاثة: أحدها: أنا لو فرضنا العمل على القطع تعطلت الأحكام؛ لندرة القواطع، وقلة مدارك اليقين. الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى الكافة، ولا يمكنه مشافهة جميعهم، ولا إبلاغهم بالتواتر. الثالث: أنا إذا ظننا صدق الراوي فيه ترجح وجود أمر الله -تعالى- وأمر رسوله -عليه السلام- فالاحتياط: العمل بالراجح. وقال الأكثرون: لا يجب التعبد بخبر الواحد عقلًا، ولا يستحيل ذلك. ولا يلزم من عدم التعبد به تعطيل الأحكام؛ لإمكان البقاء على

_ 1 هذا الفصل تابع للمسألة السابقة، وهي: حكم التعبد بخبر الواحد عقلًا، والفصل الآتي لحكم التعبد به سمعًا، فلا أدري لماذا جعله المصنف فصلًا مستقلًّا؟! والخلاصة: أن المسألة فيها ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: إنكار التعبد بخبر الواحد -وهو الذي حكاه المصنف في الفصل السابق-. المذهب الثاني: وجوب التعبد، للأدلة الثلاثة التي ساقها المصنف -نقلًا عن أبي الخطاب-، وهي في الواقع للغزالي. المذهب الثالث: الجواز، وهو الذي عبر عنه المصنف بقوله: "وقال الأكثرون: لا يجب التعبد بخبر الواحد عقلًا، ولا يستحيل ذلك" هذا ما فهمته في هذه المسألة. والله أعلم.

البراءة الأصلية والاستصحاب. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يكلف تبليغ من أمكنه من أمته تبليغه، دون من لا يمكنه، كمن في الجزائر ونحوها.

فصل: في التعبد بخبر الواحد سمعا

فصل: [في التعبد بخبر الواحد سمعًا] فأما التعبد بخبر الواحد سمعًا1: فهو قول الجمهور. خلافًا لأكثر القدرية2 وبعض أهل الظاهر. ولنا دليلان قاطعان: أحدهما: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على قبوله: فقد اشتهر ذلك عنهم في وقائع لا تنحصر، إن لم يتواتر آحادها حصل العلم بمجموعها.

_ 1 معنى "سمعًا" أي: من جهة دليل الشرع، وما تقدم كان من جهة العقل. قال الطوفي: "وفي المسألة تفصيل، وهو: أن القائلين بجواز التعبد به عقلًا، منهم من نفى كونه حجة شرعًا، كالشيعة، والقاشاني، وابن داود [الظاهري] ، ومنهم من أثبت ذلك، ثم هؤلاء اتفقوا على دلالة السمع عليه، واختلفوا في دلالة العقل عليه، فأثبته أحمد والقفال وابن سريج، ونفاه الباقون وقال أبو عبد الله البصري: هو حجة فيما لا يسقط بالشبهة، واختار الآمدي أنه حجة مطلقًا، وهو المذكور في المختصر". "شرح المختصر جـ2 ص119". وانظر: الإحكام للآمدي "2/ 45" والإحكام لابن حزم "1/ 94". 2 القدرية: فرقة من المعتزلة بالغت في القول بالقدر، بمعنى أنهم يكذبون بالقدر، ويبالغون في إنكار إضافة الخير والشر إلى القدر، وهم عشرون فرقة، كل فرقة منها تكفر الأخرى. الفرق بين الفرق ص24.

منها: أن الصديق -رضي الله عنه- لما جاءته الجدة تطلب ميراثها نشد الناس: من يعلم قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها؟ فشهد له محمد بن مسلمة1، والمغيرة بن شعبة2 أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاها السدس، فرجع إلى قولهما، وعمل به "عمر" بعده3. وروي عن "عمر" -رضي الله عنه- في وقائع كثيرة: منها: قصة الجنين حين قال: "أذكر الله امرأ سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنين"؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة4 وقال: "كنت بين جاريتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح5 فقتلتها

_ 1 هو: محمد بن مسلمة بن خالد الأنصاري الحارثي، صحابي جليل، شهد بدرًا وما بعدها، استخلفه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المدينة في بعض غزواته، مات بالمدينة سنة 43هـ. انظر في ترجمته: "الاستعياب 3/ 1377، الخلاصة ص359". 2 هو: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أسلم عام الخندق، أحد دهاة العرب، ولاه "عمر" البصرة، ثم عزله عنها وولاه الكوفة، وأقره "عثمان" عليها، ثم عزله، ولما تم الأمر لمعاوية أعاده عليها، حتى توفي سنة 50هـ. انظر: "الاستيعاب 4/ 1445، الإصابة القسم السادس ص197". 3 أخرجه أبو داود: كتاب الفرائض، باب في الجدة، والترمذي: كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة، وابن ماجه: كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة. 4 هو: حمل بن مالك بن النابغة بن جابر الهذلي، البصري، استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدقات "هذيل" وعاش إلى خلافة "عمر" -رضي الله عنهما-. انظر في ترجمته: "الإصابة 1/ 355، الاستيعاب 1/ 366". 5 المسطح: بكسر الميم عود من أعواد الخباء.

وجنينها، فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنين بغرة"1 فقال عمر: "لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره"2. وكان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك3: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه: أن يورث امرأة أَشْيَم الضبابي4 من دية زوجها"5.

_ 1 الغرة: بضم الغين: عبد أو أمة. 2 الحديث رواه أبو داود: كتاب الديات، باب دية الجنين، والدراقطني: كتاب الحدود والديات، كما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه والشافعي في الرسالة ص427. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن دية الجنين خفيت على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حتى سأل الناس ... الحديث. وفي رواية لأبي داود: فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنينها بغرة وأن تقتل" أي القاتلة. 3 هو: الضحاك بن سفيان بن عوف بن أبي بكر بن كلاب الكلابي، من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان شجاعًا مقدامًا، ولاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع الصدقات من قومه. انظر: في ترجمته: "الإصابة 3/ 477، الخلاصة ص197". 4 أشيم -بوزن أحمد-: الضبابي -بكسر المعجمة بعدها باء موحدة-، قتل مسلمًا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمر -صلى الله عليه وسلم- الضحاك بن سفيان أن يورث امرأته من ديته. انظر: الإصابة مع الاستيعاب "1/ 97"، أسد الغابة "1/ 197". 5 أخرجه أبو داود: كتاب الفرائض، باب المرأة ترث من دية زوجها، والترمذي كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها، وقال: "حديث حسن صحيح". كما أخرجه ابن ماجه: كتاب الديات، باب الميراث من الدية، ومالك في الموطأ: كتاب العقول، باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه، والشافعي: كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها، والدارقطني: كتاب الفرائض.

ورجع إلى حديث عبد الرحمن بن عوف1 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"2. وأخذ عثمان بخبر "فريعة بن مالك"3 في السكنى، بعد أن أرسل إليها وسألها4.

_ 1 هو: عبد الرحمن بن عوف بن الحارث، القرشي الزهري، أبو محمد، ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل فترة دار الأرقم، جمع بين الهجرتين، هجرة الحبشة، وهجرة المدينة. شهد بدرًا وما بعدها، كان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر المشورة فيهم في الخلافة. مات بالمدينة سنة 31هـ. "الإصابة 4/ 346". 2 رواه البزار في مسنده، والدارقطني في سننه، وابن أبي شيبة في مسنده، ومالك في الموطأ: كتاب الزكاة عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لا أدري ما أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: "أشهد لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" أعله ابن عبد البر بالانقطاع؛ لأن محمد بن علي بن الحسين لم يلق عمر، وأعله غيره بالإرسال، لكن يشهد له ما جاء في البخاري من حديث مجالد قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذها من مجوس هجر. كما يشهد له -أيضًا- ما رواه البخاري من أخذ الجزية من البحرين التي صالح أهلها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وولى عليها العلاء بن الحضرمي، وهم من المجوس. انظر: "فتح الباري جـ6 ص259". 3 هي: فريعة بنت مالك بن سنان الخدرية، أخت أبي سعيد الخدري، وهي التي قتل زوجها في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن تمكث في بيتها حتى تنتهي عدتها -كما سيأتي تخريج الحديث-. انظر: في ترجمتها: "الإصابة 8/ 66، والاستيعاب 4/ 1903". 4 أخرجه أبو داود: كتاب الطلاق، في المتوفى عنها تنتقل، والترمذي: كتاب =

وعلي كان يقول: كنت إذا سمعت من النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته. وحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عبد يذنب، فيتوضأ، ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له" 1.

_ = الطلاق، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها ولفظه: "أنها -أي فريعة- جاءت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تسأله أن ترجع إلى أهلها في "بني خدرة" وأن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كان بطرف القدوم -موضع بضاحية المدينة- لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أرجع إلى أهلي؛ فإن زوجي لم يترك لي مسكنًا يملكه، ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم". قالت: ما انصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة، أو في المسجد، ناداني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أمر بي، فنوديت له، فقال: "كيف قلت؟ " قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، قال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا. قالت: فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، وقضى به". والحديث أخرجه أيضًا: النسائي: باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، وابن ماجه: باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها، والدارمي: باب خروج المتوفى عنها زوجها، والشافعي: كتاب النفقات، باب اعتداد المتوفى عنها في بيت زوجها. 1 الحديث رواه أبو داود: كتاب الصلاة، باب في الاستغفار بلفظ: "كنت رجلًا إذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، قال: وحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وما من =

ولما اختلف الأنصار في الغسل من المجامعة: أرسلوا أبا موسى1 إلى "عائشة" فروت لهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مس الختان الختان وجب الغسل"2. فرجعوا إلى قولها. واشتهر رجوع أهل قباء إلى خبر الواحد في التحول إلى الكعبة3. وروى أنس4 قال: كنت أسقي أبا عبيدة5، وأبا طلحة6.

_ = عبد يذنب ذنبًا، فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له" ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135] . كما أخرجه ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة؛ باب ما جاء في أن الصلاة كفارة، وأحمد في مسنده "1/ 2" وابن حبان حديث "2454" وصححه. 1 هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر الأشعري، أسلم قديمًا بمكة، ثم رجع إلى قومه، ثم قدم جماعة من الأشعريين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حين فتح خيبر، ولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- اليمن، ثم ولاه عمر البصرة ... مات بالكوفة وقيل: بمكة سنة 44هـ. "الإصابة 4/ 211". 2 أخرجه مسلم: كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، وأبو داود: كتاب الطهارة، باب في الإكسال، والترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء إذا التقى الختانان، وجب الغسل، وابن ماجة: كتاب الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان. 3 تقدم تخريجه في باب النسخ. 4 هو: أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم البخاري الخزرجي الأنصاري، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخادمه. توفي سنة 93هـ. "صفة الصفوة 1/ 298، الأعلام 1/ 365". 5 هو: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال الفهري القرشي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين إلى الإسلام. توفي بالطاعون سنة 18هـ. "حلية الأولياء 1/ 100، والأعلام 4/ 21". 6 هو: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو الأنصاري الخزرجي، كان فارسًا =

وأبي بن كعب1 شرابًا من فضيخ2، إذ أتانا آت فقال: إن الخمرة قد حرمت. فقال أبو طلحة: يا أنس "قم إلى هذه الجرار فاكسرها" فكسرتها3. ورجع ابن عباس إلى حديث أبي سعيد4 في الصرف5.

_ = شديدًا، وقى النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدره من قبل المشركين في أحد، تصدق بحديقة كانت له لما نزل قوله الله -تعالى-: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} توفي سنة 50هـ. "الإصابة 2/ 607". 1 هو: أبي بن كعب بن قيس بين عبيد بن النجار الأنصاري، سيد القراء، من أصحاب العقبة الثانية، شهد بدرًا وما بعدها، وكان من كتاب الوحي. توفي سنة 20هـ. وقيل غير ذلك. انظر: "الإصابة 1/ 27، البداية والنهاية 7/ 97". 2 الفضيخ: هو أن يجعل التمر في إناء ثم يصب عليه الماء الحار، فيستخرج حلاوته، ثم يغلى ويشتد. التعريفات للجرجاني ص167. 3 حديث صحيح، رواه البخاري "3/ 321" بحاشية السندي، ومسلم "13/ 151" مع شرح النووي، ومالك في الموطأ "3/ 155" مع المنتقى. 4 هو: سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة، الخزرجي، الأنصاري، الخدري، من علماء الصحابة، وحفاظها المكثرين. توفي سنة 74هـ. انظر: "الاستيعاب 4/ 1671، تاريخ بغداد 1/ 180". 5 حديث ابن عباس: "إنما الربا في النسيئة" تقدم الحديث عنه. أما حديث أبي سعيد الذي رجع إليه ابن عباس فهو: ما أخرجه البخاري: كتاب البيوع، باب بيع الفضة، وأحمد في مسنده "3/ 9" ومسلم: كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، ولفظه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر وبالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء".

ورجع ابن عمر إلى حديث رافع بن خديج في المخابرة1. وكان زيد بن ثابت2 يرى أن لا تصدر الحائض حتى تطوف3. فقال له ابن عباس سل فلانة الأنصارية، هل أمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك؟ فأخبرته، فرجع زيد يضحك وقال لابن عباس: "ما أراك إلا قد صدقت". والأخبار في هذا أكثر من أن تحصى. واتفق التابعون عليه أيضا4. وإنما حدث الاختلاف بعدهم.

_ 1 تقدم قريبًا. 2 هو: زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري، كان من كتاب الوحي وهو الذي تولى جمع القرآن في عهد أبي بكر -رضى الله عنه- وهو أعلم الصحابة بالفرائض فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أفرضكم زيد" توفي سنة 42هـ. "الإصابة 2/ 594، الاستيعاب 1/ 551". 3 أي: لا ترجع إلى بلدها إلا إذا طافت طواف الوداع. وكان زيد بن ثابت يفتي بذلك، حتى علم بخبر ابن عباس، الذي أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت "أي: طافت طواف الإفاضة". ولفظه: عن عكرمة قال: إن أهل المدينة سألوا ابن عباس -رضي الله عنهما- عن امرأة طافت، ثم حاضت؟ قال لهم: تنفر. قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد. قال: إذا قدمتم المدينة فسلوا. فقدموا المدينة فسألوا، فكان فيمن سألوا "أم سليم" فقالت: إن صفية بنت حيي -زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- حاضت فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أحابستنا هي؟ " قالوا: إنها أفاضت. قال: "فلا إذن". أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب وجوب طواف الوادع وسقوطه عن الحائض، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الحج، باب ترك الحائض الوداع. 4 أي: أن التابعين اتفقوا على العمل بخبر الواحد، كما اتفق الصحابة -رضي الله عنهم- وما وقع الاختلاف إلا بعد عصر التابعين.

فإن قيل: لعلهم عملوا بأسباب قارنت هذه الأخبار، لا بمجردها، كما أنهم أخذوا بالعموم، وعملوا بصيغة الأمر والنهي، ولم يكن ذلك نصًّا صريحًا فيها1. قلنا: قد صرحوا بأن العمل بالأخبار؛ لقول عمر: "لولا هذا لقضينا بغيره". وتقدير قرينة وسببها هنا كتقدير قرائن مع نص الكتاب والأخبارالمتواترة وذلك يبطل جميع الأدلة. وأما العموم، وصيغة الأمر والنهي، فإنها ثابتة، يجب الأخذ بها، ولها دلالات ظاهرة، تعبدنا بالعمل بمقتضاها، وعملهم بها دليل على صحة دلالاتها فهي كمسألتنا2. وإنما أنكرها من لا يعتد بخلافه، وأعتذروا بأنه لم ينقل عنهم في صيغة الأمر والعموم تصريح3.

_ 1 هذا اعتراض حاصله: أنهم ربما عملوا بخبر الواحد لأسباب وقرائن قارنت الأخبار لا بمجردها، كما أنهم عملوا بالعمومات، والأمر والنهي، وكلها نصوص غير صريحة، فعملوا بها مع القرائن أيضًا. وأجاب المصنف عن ذلك: بأنه لم ينقل عنهم إلا الأخذ بالأخبار، كما في خبر حمل بن مالك المتقدم. ولو قدر وجود قرائن هنا لقدر ذلك مع آيات القرآن الكريم والأحاديث المتواترة، وهذا يؤدي إلى إبطال جميع الأدلة، لأنه لا يستدل بها منفردة عن القرائن، وهذا غير صحيح. 2 هذا رد من المصنف على أولئك الذين قالوا: إن العمل بالأخبار والألفاظ العامة، والأوامر والنواهي، بناء على قرائن احتفت بها، وليس منها مجردة. وخلاصته: بأن صيغ العموم، والأمر والنهي لها دلالات ظاهرة وواضحة، كلفنا بالعمل بمقتضاها، والسلف الصالح عملوا بها مجردة عن القرائن وعملهم بها دليل على صحة دلالاتها كما في الأخبار. 3 هذا كالحجة لمن ينكر دلالة الأخبار، والعمومات، والأمر والنهي. =

فإن قيل: فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة1. فلم يقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر ذي اليدين2,

_ = مضمونها: أنه لم ينقل عن السلف: أنهم عملوا بها مجردة، وفي هذا إشارة إلى أنه كانت هنالك قرائن لم يذكروها. هذا معنى كلام المصنف، والواقع أن هذه الجملة ليس محلها هنا، وإنما كانت تأتي عند حكاية مذهبهم، كما فعل الغزالي، إلا أن المصنف دأب على اختصار العبارات، وعلى التقديم والتأخير مما جعل المعنى غير مترابط، وإلا فجملة: "واعتذروا" ليس لها محل هنا. يوضح ذلك عبارة الغزالي حيث قال: "فإن قيل: لعلهم عملوا بها [يقصد الأخبار] مع قرائن أو بأخبار أخر صاحبتها، أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها، لا بمجرد هذه الأخبار -كما زعمتم-. كما قلتم بالعموم وصيغة الأمر والنهي ليس نصًّا صريحًا على أنهم عملوا بمجردها، بل بها مع قرائن قارنتها ... ". 1 هذا اعتراض على قول المصنف -في أول المسألة: ولنا دليلان قاطعان، أحدهما: إجماع الصحابة على قبوله إلى آخر الأمثلة التي تقدمت، فكأن المخالف يقول: كيف تدعون الإجماع على القبول، مع أن هناك أدلة آخرى كثيرة، بلغت حد الإجماع -أيضًا- برد العمل بخبر الواحد، ثم بدأ يذكر أمثلة لذلك. 2 ذو اليدين: هو الخرباق بن عمرو، من بني سليم، قيل له: ذو اليدين؛ لأنه كان في يديه طول، فسماه -صلى الله عليه وسلم-: ذا اليدين، عاش بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى روى عنه بعض المتأخرين من التابعين. انظر في ترجمته: "الإصابة 1/ 489، تهذيب الأسماء 1/ 185". وحديثه -في السهو في الصلاة- حديث صحيح: رواه البخاري: كتاب الصلاة، باب من لم يتشهد في سجدتي السهو، ومسلم: كتاب الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب السهو في السجدتين، والترمذي: كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين =

ولم يقبل "أبو بكر" خبر "المغيرة" وحده في ميراث الجدة1. و"عمر" لم يقبل خبر "أبي موسى" في الاستئذان2. ورد "علي" خبر معقل بن سنان الأشجعي3 في "بروع"4.

_ = من الظهر والعصر، كما أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما. ولفظ مسلم -عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: صلى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر، فسلم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال: -صلى الله عليه وسلم-: "كل ذلك لم يكن" قال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله. فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم. 1 تقدم تخريجه قريبًا. 2 عن عمر -رضي الله عنه- أن أبا موسى استأذن عليه ثلاثًا، فلم يؤذن له، فانصرف، فأرسل إليه "عمر": لم انصرفت؟ فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثًا، فلم يؤذن له فلينصرف". فقال من يشهد ذلك؟ فمضى أبو موسى إلى الأنصار، فقالوا: نبعث معك بأصغرنا: أبي سعيد الخدري، فمضى فسمع "عمر" منهما. روى هذه القصة: البخاري في كتاب الاستئذان، باب: التسليم والاستئذان ثلاثًا، ومسلم في كتاب الآداب، باب: الاستئذان، وأبو داود: كتاب الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان، والترمذي: كتاب الاستئذان، باب ما جاء في الاستئذان ثلاثة، وابن ماجه: كتاب الأدب، باب الاستئذان، والدارمي: كتاب الاستئذان، باب: الاستئذان ثلاثًا. 3 هو: معقل بن سنان بن مظهر بن غطفان الأشجعي، كان يحمل لواء قومه يوم الفتح ويوم حنين، قتله عقبه بن مسلم سنة 63هـ. 4 هي: بروع -بكسر الباء أو فتحها وسكون الراء وفتح الواو- بنت واشق =

..........................................................

_ = الأشجعية، زوج هلال بن مرة، روت أن رجلًا عقد عليها ولم يفرض لها مهرًا، وفوضت إليه ذلك، فتوفي قبل أن يدخل بها، فقضى لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصداق نسائها: انظر: الإصابة "4/ 251". وأما الخبر الذي رده "علي" -رضي الله عنه- فهو ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 447" وأبو داود في كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات حديث رقم "2114" والترمذي في كتاب النكاح، باب "44" حديث رقم "1145" والنسائي في سننه "6/ 121" وابن ماجه في كتاب النكاح، باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها حديث رقم "1891" ولفظه: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض فيها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات. فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها، ولا وكسَ ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بروع بنت واشق -امرأة منا- مثل الذي قضيت، ففرح بها ابن مسعود. وكان "علي" -رضي الله عنه- لا يرى ذلك ويقول: "لا ندع كتاب ربنا لقول أعرابي بوال على عقبيه". ورواية البيهقي في سننه "7/ 247": "لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله". وقد ضعف بعض المحدثين عبارة "بوال على عقبيه" وأن ذلك لا يصح عن "علي" وفي إسناد هذه الرواية: أبو إسحاق الكوفي. قال عنه الأزدي: ليس بثقة. انظر: ميزان الاعتدال "4/ 488"، تخريج أحاديث اللمع ص221، 222. وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه "6/ 293": أن عليًّا -رضي الله عنه- كان يجعل لها الميراث وعليها العدة، ولا يجعل لها صداقا، ويقول: "لا نصدق الأعراب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

وردت "عائشة" خبر "ابن عمر" في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه1. قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا حجة عليهم؛ فإنهم قد قبلوا الأخبار التي توقفوا عنها بموافقة غير الراوي له، ولم يبلغ بذلك رتبة التواتر، ولا خرج عن رتبةالآحاد إلى رتبة التواتر. والثاني: أن توقفهم كان لمعان مخصصة بهم. فتوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في خبر "ذي اليدين" ليعلمهم: أن هذا الحكم لا يؤخذ فيه بقول الواحد1.

_ 1 روى يحيي بن عبد الرحمن عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فقالت عائشة -رضي الله عنها-: يرحمه الله، لم يكذب، ولكنه وهم، إنما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل مات يهوديًّا: "إن الميت ليعذب، وإن أهله ليبكون عليه". حديث صحيح: رواه البخاري حديث "1288" ومسلم حديث "391" والترمذي حديث "100" والنسائي "4/ 17" ومالك في الموطأ "1/ 234" بلفظ: "أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ". 1 خلاصة الرد الثاني: أن هذه الأخبار كان لها ظروف خاصة اقترفت بها: فخبر ذي اليدين، كان الناس كثيرين خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيهم من هو أضبط لأفعال الصلاة من ذي اليدين، فلذلك أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتأكد بوقوع ذلك. وأما خبر "المغيرة" فلعل أبا بكر -رضي الله عنه- قد غلب فيه جانب الشهادة على المال، وهو يثبت حقًّا ماليًّا مؤبدًا، وهو ميراث الجدة، فكان ذلك مناسبًا للتوقف والتأكد. وأما رد سيدنا عمر لخبر أبي موسى، فواضح الدلالة، حيث كان -رضي الله عنه- شديد الحرص على عدم دخول شيء في السنة ليس منها. وأما حديث "ابن عمر" الذي ردته "عائشة" -رضي الله عنها- فإنما ردته لا من =

وأما أبو بكر -رضي الله عنه-: فلم يرد خبر "المغيرة" وإنما طلب الاستظهار بقول آخر، وليس فيه ما يدل على أنه لا يقبل قوله لو انفرد. وأما عمر -رضي الله عنه- فإنه كان يفعل ذلك سياسة؛ ليتثبت الناس في رواية الحديث، وقد صرح به فقال: "إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وعائشة -رضي الله عنها- لم ترد خبر "ابن عمر" وإنما تأولته. الدليل الثاني1: ما تواتر من إنفاذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمراءه ورسله وقضاته وسعاته إلى الأطراف؛ لتبليغ الأحكام، والقضاء، وأخذ الصدقات وتبليغ الرسالة. ومن المعلوم: أنه كان يجب عليهم تلقي ذلك بالقبول، ليكون مفيدًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- مأمور بتبليغ الرسالة، ولم يكن ليبلغها بمن لا يكتفى به. دليل ثالث2: أن الإجماع انعقد على وجوب قبول قول المفتي فيما يخبر به عن ظنه فما يخبر به عن السماع الذي لا يشك فيه أولى، فإن تطرق الغلط

_ = حيث الكذب، وإنما من حيث الوهم، أو الخطأ والنسيان. وكل هذه الملابسات لا تقوى على الطعن في العمل بخبر الآحاد. 1 هذا هو الدليل الثاني على وجوب التعبد بخبر الواحد.... حيث قال في أول الفصل: ولنا دليلان قاطعان: أحدهما: إجماع الصحابة، وهذا هو الثاني. 2 هذا دليل ثالث على وجوب العمل بخبر الواحد. ولما لم يكن في قوة الدليلين السابقين لم يضمه إلى الدليلين السابقين. وخلاصة هذا الدليل: قياس خبر الواحد على ما يفتي به المفتي، بجامع =

إلى المفتي كتطرق الغلط إلى الراوي؛ لأن المجتهد -وإن كان مصيبًا- فإنما يكون مصيبا إذا لم يفرط. وربما ظن أنه لم يفرط، ويكون قد فرط، وهذا عند من يجوز تقليد مقلد بعض الأئمة أولى، فإنه إذا جاز أن يروي مذهب غيره، لم لا يجوز أن يروي قول غيره. فإن قيل: هذا قياس لا يفيد إلا الظن، وخبر الواحد أصل لا يثبت بالظن. ثم الفرق بينهما: أن هذا حال ضرورة، فإنا لو كلفنا كل أحد الاجتهاد تعذر1. قلنا: لا نسلم أنه مظنون، بل هو مقطوع بأنه في معناه؛ فإنا إذا قطعنا بخبر الواحد في البيع، قطعنا به في النكاح، ولم يختلف باختلاف المروي فيه، ولم يختلف ههنا إلا المروي عنه، فإن هذا يروي عن ظنه، وهذا يروي عن غيره2.

_ = حصول الظن فيهما؛ أما في الفتيا: فإنه يغلب على ظن المفتي والمستفتي أن ما أفتى به هو حكم الله تعالى. وأما في الراوي: فلأنه يغلب على ظن السامع أن ما رواه ثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجب أن يقبل؛ قياسًا على الفتيا: انظر: "شرح مختصر الروضة ج2 ص131-132". 1 خلاصة هذا الاعتراض: أن هذا القياس ظني؛ فلا يثبت به العمل بخبر الواحد؛ لأنه أصل قوي، فلا يثبت بمثل هذا القياس. 2 خلاصة الجواب على هذا الاعتراض: أن كون القياس المذكور ظنيًّا محل النزاع، ونحن لا نسلم به، بل هو جلي قاطع، فإنه لا فارق بين الرواي والمفتي، إلا أن هذا يخبر عن غيره، وهذا يخبر عن ظنه. =

وقولهم: "إنه يفضي إلى تعذر الأحكام" ليس كذلك، فإن العامي يرجع إلى البراءة الأصلية، واستصحاب الحال، كما قلتم في المجتهد إذا لم يجد قاطعًا1. فصل: وذهب الجبائي2 إلى أن خبر الواحد إنما يقبل إذا رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنان، ثم يرويه عن كل واحد منهما اثنان إلى أن يصير في زماننا إلى حد يتعذر معه إثبات حديث أصلًا، وقاسه على الشهادة. وهذا باطل بما ذكرناه من الدليل على قبول خبر الواحد. ولا يصح قياسه على الشهادة؛ فإن الرواية تخالف الشهادة في أشياء كثيرة، وكذلك لا تعتبر الرواية في الزنى أربعة، كما يعتبر ذلك في الشهادة فيه3.

_ = قال الطوفي -مضيفًا ردًا آخر-: "وتحرير الجواب عن الاعتراض المذكور: إما بما ذكرناه من منع كون القياس المذكور ظنيًّا، أو بمنع كون محل النزاع -وهو جواز التعبد بخبر الواحد- قطعيًّا بل هو اجتهادي فيثبت بدلالته الظنية كالقياس المذكور وغيره". "شرح مختصر الروضة جـ2 ص132". 1 هذا رد على قولهم: "إن حالة الإفتاء حالة ضرورة، فلو كلفنا كل واحد بالاجتهاد لتعذرت الأحكام". خلاصته: أن ذلك لا يفضي إلى تعذر الأحكام، فإن العامي إذا لم يصل إلى الحكم بناء على دليل، استطاع أن يرجع إلى البراءة الأصلية، وهي عدم التكليف. هذا معنى كلامه، وفيه نظر، فإن العامي لا يعرف ذلك. 2 هو: أبو علي: محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي البصري، رأس المعتزلة وشيخهم، من أشهر مؤلفاته: "تفسير القرآن" و"متشابه القرآن" توفي سنة 303هـ. انظر: "الفرق بين الفرق ص183، فرق وطبقات المعتزلة ص85". 3 معنى كلام المصنف في هذا الفصل: أن أبا علي الجبائي يشترط في قبول خبر =

فصل: في شروط الراوي

فصل: [في شروط الراوي] 1 ويعتبر في الراوي المقبول روايته أربعة شروط: الإسلام، والتكليف، والعدالة، والضبط. أما الإسلام: فلا خلاف في اعتباره؛ فإن الكافر متهم في الدين2.

_ = الواحد أن يرويه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنان، ثم يرويه عن كل واحد اثنان، وهكذا إلى الحد الذي يتعذر معه إثبات حديث أصلًا، وقاس خبر الواحد على الشهادة. ورد عليه المصنف من وجهين: الأول: الأدلة المتقدمة التي دلت على وجوب العمل بخبر الواحد وهي صحيحة وكثيرة. الثاني: عدم صحة قياس خبر الواحد على الشهادة لأنها تفارق الخبر من أوجه كثيرة منها: أن الشهادة دخلها التعبد، ولذلك لا تقبل فيها النساء بدون الرجال، إلا في المواضع التي لا يصح اطلاع الرجال عليها. ومنها: أن الشهادة إنما تكون على معين من الناس، فاحتيط له أكثر من غيره، بخلاف الرواية فإنها تكون في جملة أحكام الناس، وينبني عليها قواعد كلية، فلا يتجرأ المسلم على الكذب فيها. 1 لما انتهى المصنف من بيان جواز التعبد بخبر الواحد عقلًا وسمعًا، أراد أن يبين أن الواحد الذي تقبل روايته له شروط لا بد من تحقيقها. 2 فلا يؤتمن عليه من خبر ديني، كالرواية، والإخبار عن جهة القبلة، ولا يقبل خبره في وقت الصلاة، وطهارة موضعها، وطهارة الماء، ووقت السحور والإفطار، والأصل في ذلك قوله سبحانه: {لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] وقوله -تعالى-: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ =

فإن قيل: هذا يتجه في كافر لا يؤمن بنبينا -صلى الله عليه وسلم- إذ لا يليق بالسياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه. أما الكافر المتأول: فإنه معظم للدين، يمتنع من المعصية، غير عالم أنه كافر، فلم لا تقبل روايته؟ قلنا: كل كافر متأول، فاليهودي -أيضًا- متأول؛ فإن المعاند هو الذي يعرف الحق بقلبه ويجحده بلسانه، وهذا يندر، بل تورّع هذا من الكذب كتورع اليهودي، فلا يلتفت إلى هذا، ولا يستفاد هذا المنصب بغير الإسلام1. وقال أبو الخطاب -في الكافر والفاسق المتأولين-: إن كان داعية فلا يقبل خبره؛ فإنه لا يؤمن أن يضع حديثًا على موافقة هواه، وإن لم يكن داعية: فكلام أحمد -رحمه الله- يحتمل الأمرين: من القبول وعدمه؛ فإنه قد قال: "احتملوا الحديث من المرجئة"2. وقال: يكتب عن القدري3 إذا لم يكن داعية.

_ = ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل} [الممتحنة: 1] أي لا تتولهم في الدين، وهذه الفروع من الدين: شرح المختصر "2/ 136". "وهذا ما أكده القرآن الكريم في العديد من آياته، يقول الله تعالى في سورة البقرة آية: 146: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . 2 المرجئة: طائفة من أهل الكلام، يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله والمحبة والخضوع، بالقلب والإقرار بالوحدانية، وما جاءت به الرسل ليس داخلًا في أصل الإيمان، فلا تضر مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الكفر طاعة، وهم فرق كثيرة. انظر في معتقداتهم: "الفرق بين الفرق ص203، والملل والنحل 1/ 186". 3 تقدم التعريف بالقدرية.

واستعظم الرواية عن سعد العوفي1 وقال: هو جهمي، امتحن فأجاب2. واختار أبو الخطاب: قبول رواية الفاسق المتأول، لما ذكرناه، وأن توهم الكذب منه كتوهمه من العدل؛ لتعظيمه المعصية وامتناعه منها، وهو مذهب الشافعي. ولذلك كان السلف يروي بعضهم عن بعض، مع اختلافهم في المذاهب والأهواء3.

_ 1 هو: سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعيد العوفي، ضعيف، قال فيه الإمام أحمد: "جهمي" وقال: "ولم يكن هذا -أيضًا- ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعًا لذاك" توفي سنة 276هـ. انظر: تاريخ بغداد "9/ 126". 2 وعبارة أبي يعلى في العدة "3/ 948": "امتحن فأجاب قبل أن يكون ترهيب". والجهمية: فرقة تنسب إلى "جهم بن صفوان" من الجبرية، وافق المعتزلة في نفي الصفات الأولية: ونفي عن الله -كل ما يوصف به خلقه: كالعلم والحياة، ويقول: إن الإنسان لا يقدر على شيء، وتنسب له الأفعال مجازًا، كما تنسب للجماد، ويقول بفناء الجنة والنار، وأن الإيمان هو المعرفة فقط، كما ينفي رؤية الله -تعالى- في الآخرة. انظر: في عقيدة هذه الفرقة "الملل والنحل جـ1 ص87". 3 أرى أن تعليل ابن قدامة في قبول رواية الفاسق المتأول بالقياس على اختلاف السلف الصالح، غير مقبول، وهو قياس مع الفارق، فاختلاف السلف كانت له أسباب ومبررات مشروعة، مثل: اختلاف الرواية، أو عدم اطلاع البعض على الدليل أصلًا، وما إلى ذلك من الأسباب التي تذكر في بيان سبب الخلاف. والذي نرجحه في هذه المسألة: عدم قبول رواية الفاسق، حتى لو كان متأولًا. وما نقله المصنف عن الشافعي يخالف ما نقل عنه في الأم، حيث رأى عدم انعقاد النكاح بشهادة الفاسق "الأم 5/ 22".

والثاني: التكليف: فلا يقبل خبر الصبي والمجنون، لكونه لا يعرف الله -تعالى- ولا يخافه، ولا يلحقه مأثم، فالثقة به أدنى من الثقة بقول الفاسق؛ لكونه يعرف الله -تعالى- ويخافه، ويتعلق المأثم به، ولأنه لا يقبل قوله فيما يخبر عن نفسه -وهو الإقرار- ففيما يخبر به عن غيره أولى1. أما ما سمعه صغيرًا، ورواه بعد البلوغ: فهو مقبول؛ لأنه لا خلل في سماعه ولا أدائه. ولذلك: اتفق السلف على قبول أخبار أصاغر الصحابة: كابن عباس، وعبد الله بن جعفر2، وعبد الله بن الزبير3،....

_ = وقال الغزالي: "ومذهب الشافعي: أن الكفر نقصان، والفسق يوجب الرد للتهمة". "المستصفى جـ2 ص242". وقال: "وتورع المتأول عن الكذب كتورع النصراني، فلا ينظر إليه، بل هذا المنصب لا يستفاد إلا بالإسلام، وعرف ذلك بالإجماع، لا بالقياس" المصدر السابق ص230. قال الشيخ الشنقيطي: "اعلم أن الكافر لا تقبل روايته على التحقيق ولو كان متأولًا معظمًا للدين؛ لأن منصب القبول لا يستفاد بغير الإسلام، وخلاف من خالف في هذا لا يعول عليه" مذكرة أصول الفقه ص112. 1 فرق بعض العلماء بين الصبي المميز وغير المميز، فقلبوا رواية المميز. قال القاضي أبو يعلى: "فأما تحمله الخبر، إن كان عاقلًا مميزًا، ورواه بعد بلوغه، فجائز؛ لإجماع السلف على عملهم بخبر ابن عباس وابن الزبير..... وغيرهم من أحداث الصحابة". "العدة جـ3 ص949". 2 هو: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، ولد بأرض الحبشة لما هاجر إليها أبواه: جعفر، وأسماء بنت عميس، التي تزوجها أبو بكر بعد وفاة جعفر، ثم علي -بعد أبي بكر-. كانت سنّه عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين توفي سنة 80هـ. انظر: "الإصابة 4/ 40". 3 هو: عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي الأسدي، ولد سنة اثنتين من الهجرة، =

والحسن1، والحسين2، والنعمان بن بشير3، ونظرائهم. وعلى ذلك درج السلف والخلف: في إحضارهم الصبيان مجالس السماع، وقبولهم لشهادتهم فيما سمعوه قبل البلوغ. والثالث: الضبط4: فمن لم يكن حاله السماع ممن يضبط، ليؤدي في الآخرة5 على

_ = وقيل في السنة الأولى، وأمه أسماء بنت أبي بكر، بويع بالخلافة سنة 64هـ عقب موت يزيد، ولم يتخلف عن مبايعته إلا أهل الشام، ثم قتل وصلب سنة 73هـ. "الاستيعاب 3/ 905". 1 هو: الحسن بن علي بن أبي طالب، ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السيدة فاطمة الزهراء ولد سنة 3 للهجرة، تولى الخلافة بعد مقتل أبيه، ثم تنازل عنها لمعاوية حقنًا لدماء المسلمين. توفي بالمدينة سنة 49هـ. "الإصابة 2/ 68". 2 هو: الحسين بن علي بن أبي طالب، سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن السيدة فاطمة الزهراء، سيد شباب أهل الجنة، قتل في كربلاء على يد عبيد الله بن زياد سنة 61هـ. "الإصابة 2/ 76". 3 هو: النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي، ولد قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بثمان سنين، تولى إمرة الكوفة في خلافة معاوية ستة أشهر، ثم تولى له إمرة حمص، ولابنه يزيد من بعده، ولما مات يزيد دعا لابن الزبير، فخالفه أهل "حمص" وقتلوه سنة 64هـ. "الاستيعاب 4/ 1496". 4 أصل الضبط: إمساك الشيء باليد، أو اليدين، إمساكًا يؤمن مع الفوات، ثم استعمل -مجازًا- في حفظ الوالي ونحوه البلاد بالحزم وحسن السياسة، وفي حفظ المعاني بألفاظها، أو بدونها بالقوة الحافظة. ويستعمل في اصطلاح المحدثين في التحري والتشديد في النقل، والمبالغة في إيضاح الخط بالإعراب، والشكل، والنقط. "شرح مختصر الروضة جـ2 ص144-145". 5 أي بعد البلوغ.

الوجه1، لم تحصل الثقة بقوله. الرابع: العدالة2: فلا يقبل خبر الفاسق؛ لأن الله -تعالى- قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3. وهذا زجر عن الاعتماد على قبول [قول] الفاسق. ولأن من لا يخاف الله -سبحانه- خوفًا يزعه4 عن الكذب لا تحصل الثقة بقوله.

_ 1 عبارة المستصفى: "على وجهه" أي: لم يغير اللفظ ولا المعنى. 2 قال الغزالي: "والعدالة: عبارة عن استقامة السيرة والدين. ويرجع حاصلها إلى: هيئة راسخة في النفس، تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه، فلا ثقة بقول من لا يخاف الله -تعالى- خوفًا وازعًا عن الكذب. ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي، ولا يكفي -أيضًا- اجتناب الكبائر، بل من الصغائر ما يرد به، كسرقة بصلة، وتطفيف حبة قصدًا. وبالجملة: كل ما يدل على ركاكة دينه، إلى حد يستجرئ على الكذب بالأغراض الدنيوية". "المستصفى جـ2 ص231". 3 سورة الحجرات من الآية: 6. 4 يزعه: أي يكفه ويمنعه.

فصل: في حكم خبر مجهول الحال

فصل: [في حكم خبر مجهول الحال] ولا يقبل خبر مجهول الحال في هذه الشروط، في إحدى الروايتين1.

_ 1 عن الإمان أحمد -رضي الله عنه-.

وهو مذهب الشافعي1. والأخرى يقبل مجهول الحال في العدالة خاصة، دون بقية الشروط. وهو مذهب أبي حنيفة2. ووجهه: أربعة أدلة3: أحدها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل شهادة الأعرابي برؤية الهلال، ولم يعرف منه إلا الإسلام4.

_ 1 بل مذهب أكثر الشافعية والمالكية والحنابلة، وبعض الحنفية. انظر: "المستصفى جـ2 ص233 وما بعدها، المسودة ص253، كشف الأسرار على أصول البزدوي جـ2 ص400". 2 اتفق العلماء على عدم قبول رواية مجهول الحال في: الإسلام، والتكليف، والضبط. واختلفوا في قبول خبر مجهول العدالة على مذهبين -كما قال المصنف-. وتحرير الخلاف في هذه المسألة متفرع على: هل شرط قبول الرواية العلم بعدالة الراوي، أو عدم العلم بالفسق؟ فإن قلنا: شرط القبول العلم بعدالته، لم تقبل رواية المجهول، لأننا لم نعلم بتحققها فيه. وإن قلنا: الشرط هو عدم العلم بالفسق، قبلت رواية المجهول؛ لعدم العلم بفسقه. انظر: "شرح مختصر الروضة جـ2 ص147". وقد فرق السرخسي في أصوله "1/ 352" بين مجهول الحال في القرون الثلاثة التي شهد لها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالخيرية، وبين غيره من القرون الأخرى فقال: "المجهول من القرون الثلاثة عدل بتعديل صاحب الشرع إياه، ما لم يتبين منه ما ينزل عدالته، فيكون خبره حجة ... " وهو تفصيل حسن. 3 أي أن صاحب المذهب الثاني، وهم القائلون بقبول رواية المجهول استدلوا بأربعة أدلة كما سيأتي. 4 حديث قبول شهادة الأعرابي: أخرجه الترمذي: كتاب الصوم، باب ما جاء في =

الثاني: أن الصحابة كانوا يقبلون رواية الأعراب، والعبيد، والنساء؛ لأنهم لم يعرفوهم بفسق. الثالث: أنه لو أسلم، ثم روى أو شهد: فإن قلتم: لا تقبل فبعيد. وإن قلتم: تقبل فلا مستند لذلك إلا إسلامه، مع عدم ظهور الفسق منه، فإذا مضى لذلك زمان، فلا يجوز أن يجعل ذلك مستندًا لرد روايته. الرابع: أنه لو أخبر بطهارة الماء، أو نجاسته، أو أنه على طهارة: قبل ذلك حتى يصلح للائتمام به. ولو أخبر بأن هذه الجارية المبيعة ملكه، أو أنها خالية عن زوج، قبل قولهم حتى ينبني على ذلك حل الوطء. ووجه الرواية الأولى1 خمسة أمور:

_ = الصوم بالشهادة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ولفظه: "جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني رأيت الهلال. قال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ " قال: نعم. قال: "يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدًا". قال الترمذي: "حديث ابن عباس فيه اختلاف، وروى سفيان الثوري وغيره عن سماك عن عكرمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا". كما أخرجه أبو داود: كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان. عن ابن عباس مسندًا، وعن عكرمة مرسلًا، بلفظ قريب من لفظ الترمذي. كذلك أخرجه النسائي: كتاب الصيام، باب في قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان بنحو ما أخرجه أبو داود، ومثله ابن ماجه عن ابن عباس مسندًا. 1 وهي: أن رواية المجهول لا تقبل.

أحدها: أن مستند قبول خبر الواحد الإجماع، والمجمع عليه: قبول رواية العدل، ورد خبر الفاسق. والمجهول الحال ليس بعدل، ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله. الثاني: أن الفسق مانع كالصبا والكفر، فالشك فيه كالشك في الصبا والكفر من غير فرق. الثالث: أن شهادته لا تقبل، فكذلك روايته. وإن منعوا في المال1: سلموا في العقوبات. وطريق الثقة في الرواية والشهادة واحدة، وإن اختلفا في بقية الشروط. الرابع: أن المقلد إذا شك في بلوغ المفتي درجة الاجتهاد: لم يجز تقليده، بل قد سلموا أنه لو شك في عدالته وفسقه: لم يجز تقليده. وأي فرق بين حكايته عن نفسه اجتهاده، وبين حكايته خبرًا عن غيره؟ الخامس: أنه لا تقبل شهادة2 الفرع ما لم يعين شاهد الأصل فَلِمَ يجب تعيينه إن كان قول المجهول مقبولًا؟ فإن قالوا: يجب تعيينه، لعل الحاكم يعرفه بفسق فيرد شهادته3.

_ 1 معناه: إن قالوا: لا نسلم عدم قبول شهادته في المال، فقد سلموا بعدم القبول في العقوبات. 2 في الأصل "رواية" وما نقلناه من المستصفى. 3 معنى هذا: أنه في حال الشهادة، لا تقبل الشهادة الثانية، والتي =

قلنا: إذا كانت العدالة هي: الإسلام من غير ظهور فسق، فقد عرف ذلك، فلم يجب التتبع1؟ وأما قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- قول الأعرابي، فإن كونه أعرابيًّا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بخبر عنده، أو تزكيته ممن عرف حاله، وإما بوحي، فمن سلم لكم أنه كان مجهولًا؟ وأما الصحابة: فإنما قبلوا قول أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وقول من عرفوا حاله ممن هو مشهود العدالة عندهم، وحيث جهلوا ردُّوا. جواب ثان: أن الصحابة -رضي الله عنهم- لا تعتبر معرفة ذلك فيهم؛ لأنه مجمع على عدالتهم بتزكية النص لهم، بخلاف غيرهم2. وأما الحديث العهد بالإسلام: فلا يسلم قبول قوله؛ لأنه قد يسلم الكاذب ويبقى على طبعه. وإن سلمنا قبول روايته فذلك لطراوة إسلامه، وقرب عهده بالإسلام.

_ = تسمى فرعًا، على الشهادة حتي يعين الأصل الذي شهد على شهادته، فلو كان قول المجهول مقبولًا لم يحتج للتعيين. 1 هذا مبني على الخلاف في العدالة والفسق: هل هما بحسب نفس الأمر وباطنه فيما بين المكلف وبين ربه، أو بحسب ما يظهر من أفعاله وحركاته الدالة -عادة- على باطنه، أو بحسب علمنا بحاله: عدالة أو فسقًا. فأهل العراق -من الحنفية- يقولون: العدالة عبارة عن إظهار الإسلام، مع سلامته عن فسق ظاهر، فكل مسلم مجهول الحال عندهم عدل. أما الجمهور فيقولون: لا تعرف عدالته إلا بخبرة باطنة، والبحث عن سيرته وسريرته. انظر: "المستصفى جـ2 ص233". 2 معناه: أن المجهول منهم عدل، بتزكية الشارع وتعديلهم جميعًا.

وشتان بين من هو في طراوة البداية وبين من نشأ عليه بطول الألفة. فإن قيل: إذا كانت العدالة لأمر باطن، وأصله الخوف، ولا يشاهد، بل يستدل عليه بما يغلب على الظن: فأصل ذلك الخوف: الإيمان، فإنه يدل على الخوف دلالة ظاهرة، فلنكتف به؟ قلنا: المشاهدة والتجربة دلت على أن فسّاق المسلمين أكثر من عدولهم فلا نشكك أنفسنا فيما عرفناه يقينًا. ثم هلّا اكتفى به في شهادة العقوبات، وشهادة1 الأصل، وحال المفتي، وسائر ما سلّموه. وأما قول العاقد: فهو مقبول رخصة مع ظهور فسقه، لمسيس الحاجة إلى المعاملات. وأما الخبر عن نجاسة الماء وقلته، فلا نسلمه2.

_ 1 في الأصل "شاهد" وما نقلناه عن المستصفى. 2 معناه: أن إخباره بنجاسة الماء وطهارته، وسائر الأمثلة التي ذكروها -غير مسلم، وإن سلّمنا بذلك، فلا تقاس عليه الرواية، لأن نجاسة الماء وطهارته، أحكام جزئية، ولا تعظم في قبولها منه، بخلاف الرواية، فإنها تثبت حكمًا شرعيًّا عامًّا، تعظم المفسدة بتقدير الكذب فيه. ففرق بين من يقول: أنا متطهر، فصلوا خلفي، فلو فرض كذبه لترتب على ذلك فساد هذه الصلاة فقط، في واقع الأمر، مع أنها صحيحة في ظاهر الحكم. أما من روي: أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، فعلى تقدير كذبه يبطل صلاة كثير من الناس. انظر في بيان ذلك: "شرح مختصر الروضة جـ2 ص155، 156".

فصل: فيما لا يشترط في الراوي

فصل: [فيما لا يشترط في الراوي] ولا يشترط في الرواية الذكورية؛ فإن الصحابة قبلوا قول عائشة وغيرها من النساء. ولا البصر1؛ فإن الصحابة كانوا يروون عن عائشة -رضي الله عنها- اعتمادًا على صوتها، وهم كالضرير في حقها. ولا يشترط كون الراوي فقيها2 لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" 3. وكانت الصحابة تقبل خبر الأعرابي الذي لا يروي إلا حديثًا واحدًا. ولا يقدح في الرواية: العداوة والقرابة، لأن حكمها عام، لا يختص بشخص فيؤثر فيه ذلك4 ولا يشترط معرفة نسب الراوي؛ فإن حديثه يقبل ولو لم يكن له

_ 1 فالضرير الضابط للصوت تقبل روايته، وإن لم تقبل شهادته. 2 خلافًا لمالك وأبي حنيفة وبعض العلماء، فإنهم يشترطون فقه الراوي ولذلك قدح أهل العراق في رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- لأنه لم يكن مشهورًا بالفقه، ويرد عليهم بالحديث الأتي. 3 لفظ الحديث: عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "نضر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" رواه أحمد في مسنده "5/ 183" وأبو داود في سننه حديث "3643" والترمذي حديث "2794" وابن ماجه "230" والطبري في الكبير "4891"، "4924"، "4925"والطحاوي في مشكل الآثار "2/ 232". 4 وهذا بخلاف الشهادة، فإن العداوة أو القرابة تمنع من قبولها، كما هو معروف.

نسب، فالجهل بالنسب أولى أن لا يقدح. ولو ذكر اسم شخص متردد بين مجروح وعدل فلا يقبل حديثه المتردد. فصل: في التزكية والجرح1 اعلم أنه يسمع الجرح والتعديل من واحد في الرواية2؛ لأن العدالة التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية، بخلاف الشهادة.

_ 1 هذا الفصل في "المستصفى" بعنوان: الجرح والتعديل، ولم يذكر التزكية. والتزكية: هي التعديل. والجرح: ضد التزكية. قال الطوفي: "وحقيقة الجرح -بفتح الجيم- هو القطع في الجسم الحيواني بحديد أو ما قام مقامه، والجرح -بالضم- هو أثر الجرح -بالفتح- وهو الموضع المقطوع من الجسم، ثم استعمله المحدثون والفقهاء فيما يقابل التعديل مجازًا، لأنه في الدين والعرض، كما أن الجرح الحقيقي تأثير في الجسم. والجرح -كما ذكر-: هو أن ينسب إلى الشخص ما يرد قوله لأجله، من فعل معصية كبيرة أو صغيرة، أو ارتكاب دنيئة. وبالجملة: ينسب إليه ما يخل بالعدالة التي هي شرط قبول الرواية ... ". ثم قال: "والتعديل خلافه، أي خلاف الجرح، فيكون إذن: نسبة ما يقبل لأجله قول الشخص، أي: أن ينسب إليه من الخير، والعفة والصيانة، والمروءة، والتدين، بفعل الواجبات، وترك المحرمات، ما يسوغ، قبول قوله شرعًا، لدلالة هذه الأحوال على تحري الصدق، ومجانية الكذب" شرح المختصر "2/ 162-163". 2 هذا هو مذهب الجمهور. قال الغزالي: ".... فشرط بعض المحدثين العدد في المزكي والجارح، كما في مزكي الشهادة. وقال القاضي: لا يشترط العدد في تزكية الشاهد، ولا في تزكية الراوي، وإن =

وكذلك تقبل تزكية العبد والمرأة، كما تقبل روايتها. واختلفت الرواية1 في قبول الجرح إذا لم يتبين سببه: فروي: أنه يقبل؛ لأن أسباب الجرح معلومة، فالظاهر أنه لا يجرح إلا بما يعلمه.

_ = كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكي. وقال قوم: يشترط في الشهادة دون الرواية. وهذه مسألة فقهية، والأظهر -عندنا- أنه يشترط في الشهادة دون الرواية، وهذا لأن العدد الذي تثبت به الرواية لا يزيد على نفس الرواية". "المستصفى جـ2 ص250-251". 1 عن الإمام أحمد. قال الطوفي: "مذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أن التعديل لا يشترط بيان سببه، استصحابًا لحال العدالة، وهو قول الشافعي. بخلاف سبب الجرح، فإنه يشترط بيانه في أحد القولين عن أحمد، وهو قول الشافعي؛ وذلك لاختلاف الناس في سبب الجرح، واعتقاد بعضهم ما لا يصلح أن يكون سببًا للجرح جارحًا، كشرب النبيذ متأولًا، فإنه يقدح في العدالة عند مالك، دون غيره، كمن يرى إنسانًا يبول قائمًا، فيبادر لجرحه بذلك، ولم ينظر أنه متأول، مخطئ أو معذور، كما حكى عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه بال قائمًا؛ لعذر كان به. فينبغي بيان سبب الجرح؛ ليكون على ثقة واحتراز من الخطأ، والغلو فيه". ثم قال: "والقول الثاني عن أحمد: لا يشترط بيان سبب الجرح -أيضًا- اكتفاءً بظهور أسبابه، فإنها ظاهرة مشهورة بين الناس، والظاهر من الجارح أنه إنما يجرح بما يعلمه صالحًا للجرح. والقول الأول أولى. ومذهب أبي بكر في عدم اشتراط بيان السبب فيهما حسن جيد، فينبغي للحاكم أو المحدث، أن لا يقبل إلا قول الجازم، المتوسط بين المفرّط والمفْرط، فمن غلا في الجزم بما يصلح وما لا يصلح، لا يقبل قوله، ومن أحسن ظنه بالناس، واطرح الجزم، حتى عدل من يصلح ومن لا يصلح، لا يقبل قوله، لأن الأول إفراط، والثاني تفريط، وكلاهما مذموم، والصواب التوسط". "شرح المختصر جـ2 ص164، 165".

وروي: أنه لا يقبل؛ لاختلاف الناس فيما يحصل به الجرح، من فسق الاعتقاد، والتدليس وغيره، فيجب بيانه ليعلم. وقيل: هذا يختلف باختلاف المزكِّي، فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه. ومن عرفت عدالته دون بصيرته فنستفصله.

فصل: تعارض الجرح والتعديل

فصل: تعارض الجرح والتعديل ... أما إذا تعارض الجرح والتعديل: قدمنا الجرح؛ فإنه اطلاع على زيادة خفيت على المعدل1.

_ 1 خلاصة ذلك: أنه إن كان عدد المجرحين أكثر من عدد المعدلين قدم الجرح بلا خلاف، فإن تساوي عدد المجرحين والمعدلين أو كان المعدلون أكثر، فالصحيح تقديم المجرحين؛ لأن مستند المعدل في تعديله: استحصاب حال العدالة الأصلية، وعدم الاطلاع على ما ينافيها. ومستند الجارح: الاطلاع على ما يقدح في العدالة، فقدم قوله، كراوي الزيادة في الحديث؛ لأنه سمع ما لم يسمعه غيره. والقول الثاني: أنه إذا زاد عدد المعدلين على عدد المجرحين قدم قول المعدلين؛ لأن الكثرة تقوي الظن، والمعدل بأقوى الظنين واجب، كما في تعارض الحديثن والأمارتين وغيرهما من المتعارضات. قال المصنف: وهو ضعيف، فإن سبب التقديم زيادة العلم، فلا ينتفي ذلك بكثرة العدد. قال الطوفي: "هذا إنما هو فيما إذا أمكن اطلاع الجارح على زيادة، أما إذا استحال ذلك، مثل أن قال الجارح: رأيت هذا قد قتل زيدًا في وقت كذا، وقال المعدل: رأيت زيداحيًّا بعد ذلك الوقت، فههنا يتعارضان، فيتساقطان، ويبقى أصل العدالة ثابتًا. قلت: ويحتمل هاهنا أن يقدم قول المعدل، لأن السبب الذي استند إليه =

فإن زاد عدد المعدل على الجارح فقد قيل: يقدم التعديل، وهو ضعيف، لأن سبب التقديم زيادة العلم، فلا ينتفي ذلك بكثرة العدد. فصل: في التعديل وذلك: إما بقول، وإما بالرواية عنه، بخبر، أو بالحكم به. وأعلاها: صريح القول، وتمامه: هو عدل، رضي، ويبين السبب1 الثاني: أن يروى عنه. وهل ذلك تعديل له؟ على روايتين2: والصحيح: أنه إن عرف من عادته، أو بصريح3 قوله: أنه لا يستجيز الرواية إلا عن العدل، كانت الرواية تعديلًا له. وإلا فلا؛ إذ من عادة أكثرهم الرواية عمن لو كلفوا الثناء عليه لسكتوا، فليس فيه تصريح بالتعديل. فإن قيل: لو روى عن فاسق كان غاشًّا في الدين.

_ = الجارح قد تبين بطلانه، فتبين به أن الجرح كأنه لم يكن، فيبقى التعديل مستقلًّا". "شرح المختصر جـ2 ص166". 2 أي: سبب التعديل: وإلا لم يقبل. 2 عن الإمام أحمد. 3 في الأصل "تصريح" وما نقلناه من المستصفى.

قلنا: لم يوجب على غيره العمل به، بل قال: سمعت فلانًا قال كذا، وقد صدق فيه. ثم لعله لم يعرفه بفسق ولا عدالة، فروى عنه ووكل البحث إلى من أراد القبول. الثالث: العمل بالخبر، إن أمكن حمله على الاحتياط، أو العمل بدليل آخر وافق الخبر، فليس بتعديل. وإن عرفنا يقينًا أنه عمل بالخبر فهو تعديل؛ إذ لو عمل بخبر غير العدل فَسَقَ. ويكون حكم ذلك حكم التعديل بالقول من غير ذكر السبب. الرابع: أن يحكم بشهادته، وذلك أقوى من تزكيته بالقول. أما تركه الحكم بشهادته فليس بجرح؛ إذ قد يتوقف في شهادته لأسباب سوى الجرح.

فصل: في عدالة الصحابة

فصل: [في عدالة الصحابة] والذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف: أن الصحابة -رضي الله عنهم- معلومة عدالتهم بتعديل الله وثنائه عليهم. قال الله -تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} 1.

_ 1 سورة التوبة الآية: 100 وتمام الآية: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} 1 وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار} 2. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "خير الناس قرني...." 3، وقال: "إن الله اختارني، واختار لي أصحابًا وأصهارًا وأنصارًا" 4. فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب، وتعديل رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ ولو لم يرد لكان فيما اشتهر وتواتر من حالتهم في طاعة الله -تعالى- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبذل المهج5 ما يكفي في القطع بعدالتهم. وهذا يتناول من يقع عليه اسم الصحابي، ويحصل ذلك بصحبته ساعة ورؤيته مع الإيمان به6.

_ 1 سورة الفتح من الآية: 18. 2 سورة الفتح من الآية: 29. 3 حديث صحيح رواه عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ... " أخرجه البخاري في أول كتاب فضائل الصحابة، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. حديث رقم "2535" وأبو داود: كتاب السنة، باب في فضل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، حديث "4657" والترمذي: كتاب الفتن، باب ما جاء في القرن الثالث. والنسائي: كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر، وأحمد في المسند "4/ 426، 436، 440". 4 أخرجه الحاكم في المستدرك "3/ 443" وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والخطيب في تاريخه "13/ 140" والطبراني في الكبير "17/ 140" بلفظ: "إن الله اختارني، واختار لي أصحابًا، فجعل لي بينهم وزراء وأنصارًا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناسب أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل" قال الهيثمي في مجمع الزوائد "10/ 17": "فيه من لم أعرفه". 5 المهج: جمع مهجة، وهي الدم، أو الروح والنفس. 6 هذا تعريف للصحابي الذي تقدمت الأدلة على أنهم جميعًا عدول، وأن مجهول =

ويحصل لنا العلم بذلك بخبره عن نفسه، أو عن غيره: أنه صحب النبي -صلى الله عليه وسلم-. فإن قيل: إن قوله: [أنا صحابي] شهادة لنفسه، فكيف يقبل؟ قلنا: إنما هو خبر عن نفسه بما يترتب عليه حكم شرعي يوجب العمل، لا يلحق غيره مضرة، ولا يوجب تهمة، فهو كرواية الصحابي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

_ = الحال منهم تقبل روايته. هذا هو مقصود المصنف. والذي ذكره في تعريف الصحابي هو رأي من الآراء التي قيلت في هذا المقام. وقد أجمل الغزالي هذه الآراء في المستصفى جـ2 ص261 فقال: "فإن قيل: القرآن أثنى عل الصحابة، فمن الصحابي؟ أمن عاصر رسول الله -صلي الله عليه وسلم-؟ أو من لقيه مرة؟ أو من صحبه ساعة؟ أو من طالت صحبته؟ وما حد طولها؟ قلنا: الاسم لا يطلق إلا على من صحبه، ثم يكفي للاسم -من حيث الوضع- الصحبة ولو ساعة. ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته" وهناك آراء آخرى كثيرة، وبيان المدة التي يجب أن يصحب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها تراجع في المطولات. 1 قال الطوافي: "بل يوجب تهمة، وهو تحصيل منصب الصحبة لنفسه، ويضر بالمسلمين، حيث يلزمهم قبول ما يرويه مع هذه التهمة" شرح المختصر "2/ 187" وقال ابن بدران: "والحق أنه لا بد من تقييد من قال بقبول خبره أنه صحابي: أن تقوم القرائن الدالة على صدق دعواه، وإلا لزم خبر كثير من الكذابين الذين ادعوا الصحبة".

فصل: في حكم خبر المحدود في القذف

فصل: [في حكم خبر المحدود في القذف] المحدود في القذف: إن كان بلفظ الشهادة: فلا يرد خبره؛ لأن نقصان العدد ليس من فعله1. ولهذا روى الناس عن أبي بكرة2، واتفقوا على ذلك، وهو محدود في القذف. وإن كان بغير لفظ الشهادة: فلا تقبل روايته حتى يتوب.

_ 1 خلاصة هذا الفصل: أن المحدود في القذف نوعان: أحدهما: أن يكون قذف غيره بلفظ الشهادة، مثل أن يشهد على إنسان بالزنا ولا تكتمل الشهادة فيحد لذلك، وهذا تقبل روايته، لأنه إنما يحد لعدم كمال نصاب الشهادة بالزنا وهو أربعة، وعدم كمال نصاب الشهادة ليس من فعله، فلا ترد شهادته. ثانيهما: القذف بغير لفظ الشهادة، بأن يقول لآخر: يا زاني، يا عاهر، ونحو ذلك، فهذا ترد شهادته حتى يتوب، لأن هذا الحد إنما كان بسبب فعله، فسلب منه منصب الشهادة حتى يتوب، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5] فإذا تاب قبلت روايته. 2 هو: نفيع بن الحارث الثقفي، ويقال: نفيع بن مسروح، المكنى بأبي بكرة، لأنه تدلى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من حصن الطائف وقت حصار النبي -صلى الله عليه وسلم- له بعد "حنين" ببكرة، فاشتهر بها. كان من فضلاء الصحابة الذين سكنوا البصرة، واعتزال الفتنة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- وكان عمر -رضي الله عنه- قد جلده حين شهد على المغيرة بن شعبة بالزنا ولم تكتمل الشهادة. توفي سنة 51هـ. انظر في ترجمته: "الإصابة 6/ 467".

فصل: في كيفية الرواية

فصل: في كيفية الرواية وهي على أربع مراتب: أعلاها: قراءة الشيخ عليه في معرض الإخبار ليروي عنه. وذلك يسلّط الراوي أن يقول: حدثني، وأخبرني، وقال فلان، وسمعته يقول. الثانية: أن يقرأ على الشيخ فيقول: نعم، أو يسكت، فتجوز الرواية به، خلافًا لبعض أهل الظاهر. ولنا: أنه لو لم يكن صحيحًا لم يسكت. نعم لو كان ثَمَّ مخيلة2 إكراه، أو غفلة لا يكتفى بسكوته. وهذا يسلط الراوي على أن يقول: أنبأنا أو حدثنا فلان قراءة عليه. وهل يجوز أن يقول: أخبرنا، أوحدثنا؟ على روايتين3: إحداهما: لا يجوز، كما لا يجوز أن يقول: سمعت من فلان. والأخرى: يجوز. وهو قول أكثر الفقهاء4. لأنه إذا أقر به كقوله: نعم. والجواب بنعم كالخبر، بدليل ثبوت أحكام الإقرار به. ولذلك يقول: أشهدني على نفسه5.

_ 1 هذه الكيفية لغير الصحابي، أما الصحابي: فقد تقدم حكمها. 2 مخيلة: مصدر خال الشيء يخاله: أي يظنه. 3 أي: عن الإمام أحمد. 4 ومنهم: أبو حنيفة ومالك وأكثر العلماء. 5 هذا تقوية للرواية الثانية: ومعناه: أن من قيل له: أََلِفلان عليك عشرة دراهم =

وكذلك إذا قال الشيخ: أخبرنا، أو حدثنا، هل يجوز للراوي عنه إبدال إحدى اللفظتين بالأخرى؟ على روايتين: وهل يجوز أن يقول سمعت فلانًا؟ فقد قيل: لا يجوز؛ لأنه يشعر بالنطق، وذلك كذب، إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة أنه يريد القراءة على الشيخ. الثالثة: الإجازة: وهي أن يقول: أجزت لك ان تروي عني الكتاب الفلاني، أو ما صح عندك من مسموعاتي1.

_ = فقال: نعم، كان للشاهد عليه أن يقول: أشهدني على نفسه بعشرة دراهم، مع أنه لا مستند له إلا قوله نعم، فكذا في الرواية، بل أولى. 1 العلماء يقسمون الإجازة إلى أربعة أقسام: الأول: الإجازة لمعين في غير معين، كقوله: أجزت لك أو لكم أن تروي أو ترووا عني الكتاب الفلاني. الثاني: الإجازة لمعين في غير معين، كقوله: أجزت لك أن تروي عني جميع مروياتي. الثالث: الإجازة لغير معين في معين، كأن يقول: أجزت للمسلمين أن يرووا عني الكتاب الفلاني. الرابع: الإجازة لغير معين من غير معين، كأن يقول: أجزت للمسلمين أن يرووا عني جميع مروياتي. وجمهور العلماء على جواز الرواية والعمل بالإجازة، حتى حكي الإجماع على ذلك. ومنع الرواية بالإجازة والمناولة جماعة من العلماء منهم: القاضي حسين والماوردي، وهي إحدى الروايتين عن الشافعي، وحكاه الآمدي عن أبي حنيفة =

الرابعة: المناولة: وهي أن يقول: خذ هذا الكتاب فاروه عني. فهو كالإجازة؛ لأن مجرد المناولة دون اللفظ لا يغني، واللفظ وحده يكفي، وكلاهما تجوزالرواية به، فيقول حدثني، أو أخبرني إجازة. فإن لم يقل: "إجازة" لم يجز. وجوَّزه قوم. وهو فاسد؛ لأنه يشعر بسماعه منه، وهو كذب. وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف1: أنه لا يجوز الرواية بالمناولة والإجازة، وليس بصحيح؛ لأن المقصود: معرفة صحة الخبر، لا عين الطريق2. وقوله: "هذا الكتاب مسموعي، فاروه عني" -في التعريف- كقراءته والقراءة عليه. وأما إن قال: "سماعي" ولم يقل: "اروه عني" فلا تجوز الرواية

_ = وأبي يوسف، ونقله القاضي عبد الوهاب عن مالك. وقال ابن حزم: إنها بدعة. انظر: الإحكام "2/ 100"، كشف الأسرار "3/ 45" المسودة ص287. 1 هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، صاحب أبي حنيفة، والذي ساعد على نشر مذهبه، من أهم مؤلفاته: "الخراج" توفي سنة 182هـ. "الفوائد البهية ص225". 2 طريق الحديث: هو قول الراوي: حدثنا فلان عن فلان إلى السند، وهو وسيلة إلى معرفة صحة الحديث، فمعرفة صحة الحديث هي المقصودة. والقاعدة: أن المقاصد إذا حصلت بدون الوسائل، سقطت الوسائل، لأنها ليست مقصودة لنفسها، ومعرفة صحة الخبر، حصلت بالإجازة أو المناولة؛ لأن المخبر عدل جازم بالإذن في الرواية، والظاهر أنه ما أذن إلا فيما هو عالم بصحته وروايته له. انظر: "شرح مختصر الروضة جـ2 ص209".

عنه؛ لأنه لم يأذن، فلعله لا يجوّز الرواية، لخلل يعرفه. وكذا لو قال: "عندي شهادة" لا يشهد بها ما لم يقل "أذنت لك أن تشهد على شهادتي". فالرواية شهادة، والإنسان قد يتساهل في الكلام، لكن عند الجزم بها1 يتوقف2. وكذلك لو وجد شيئًا مكتوبًا بخطه: لا يرويه عنه. لكن يجوز أن يقول: "وجدت بخط فلان". أما إذا قال العدل: "هذه نسخة من صحيح البخاري"3 فليس له أن يروي عنه.

_ 1 أي بالشهادة. 2 قوله: "والإنسان قد يتساهل إلخ" جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال: لو علم أن في روايته خللًا، لما قال له: خذ هذا الكتاب، أو هو سماعي؛ لأنه تغرير للسامع بالرواية عنه، فيكون غشًّا في الدين. والجواب: أن الإنسان قد يتساهل في الكلام، وعند العمل والجزم والتحقيق يتوقف، وحينئذ لا يمتنع أن يقول له: خذ هذا الكتاب ليستفيد به نظرًا، أو هو سماع، ترغيبًا له في الرواية عنه لغيره، أو لذلك الكتاب بعينه، بشرط أن يتحقق حال روايته له فيما بعد. "شرح مختصر الروضة جـ2 ص211". 3 البخاري: هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري، أبو عبد الله الإمام الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، وصاحب أصح كتاب بعد القرآن الكريم، جمع فيه سبعة آلاف ومائتين وخمسة وسبعين حديثًا، وقيل غير ذلك. ولد ببخارى سنة 194هـ وتوفي سنة 256هـ بقرية تسمى "خرتنك" على بعد ثلاثة فراسخ من سمرقند. انظر في ترجمته: "تذكرة الحفاظ 2/ 122، تهذيب التهذيب 9/ 47".

وهل يلزم العمل به؟ فقيل: إن كان مقلدًا: فليس له العمل به؛ لأن فرضه تقليد المجتهد1. وإن كان مجتهدًا: لزمه2؛ لأن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد، وكان الناس يعتمدون عليها بشهادة حاملها بصحتها، دون أن يسمعها كل واحد منه، فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن. وقيل: لا يجوز العمل بما لم يسمعه3. والله أعلم. فصل: إذا وجد سماعه بخط يوثق به، جاز له أن يرويه وإن لم يذكر سماعه، إذا غلب على ظنه أنه سمعه. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، قياسًا على الشهادة. ولنا: ما ذكرنا من اعتماد الصحابة على كتب النبي -صلى الله عليه وسلم-.

_ 1 لقصوره عن معرفة الحكم مع تعارض الأدلة. 2 أي: لزمه العمل به، لأن المحذور، في العمل بالحديث، إما من جهة ضعفه، أو من جهة الخطأ في دلالته، وكلاهما منتف ههنا. أما الضعف: فقد انتفى بقول العدل العارف: هذه نسخة صحيحة. وأما الخطأ في الدلالة فمنتف لأن المجتهد عارف بتنزيل الأدلة منازلها، وكيفية التصرف فيها، ولأن الصحابة كانوا يحملون صحف الصدقات وغيرها إلى البلاد، كما، قال المصنف. انظر: "شرح مختصر الروضة جـ2 ص212". 3 لعدم سماعه له.

ولأن مبنى الرواية على حسن الظن وغلبته، بناء على دليل، وقد وجد ذلك. والشهادة لا نسلمها على إحدى الروايتين. وعلى الأخرى: الشهادة آكد؛ لما علم بينهما من الفروق. والله أعلم1.

_ 1 خلاصة هذا الفصل: أنه إذا وجد سماعه بخط يغلب على الظن به أنه سمعه، مع أنه ناس للسماع، فهل له أن يرويه اعتمادًا على الخط، وهو ما اختاره المؤلف، وعزاه للشافعي، وعلل ذلك: بأن مبنى الرواية على حسن الظن وغلبته بناء على دليل، وقد وجد ذلك في هذه المسألة؛ لأن الثقة بالخط المذكور يغلب على الظن بها صحة السماع المذكور، وهذه هي الرواية الأولى عن الإمام أحمد. والرواية الثانية: لا يجوز له أن يروي ذلك اعتمادًا على الخط بسبب نسيانه للسماع، وهو مروي عن أبي حنيفة قياسًا للرواية على الشهادة. واعترض المصنف على قياس الرواية على الشهادة من جهتين: الأولى: أن الشهادة تصح اعتمادًا على الخط الموثوق به، وإن لم يتذكرها على إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. الثانية: أن الشهادة أضيق من الرواية، فهي آكد من الرواية، وأغلظ، فإذا وجد خطه ولم يذكر، لم يشهد به. انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص131، التمهيد لأبي الخطاب "3/ 974".

فصل: في حكم الشك في السماع

فصل: [في حكم الشك في السماع] إذا شك في سماع حديث من شيخه: لم يجز أن يرويه عنه؛ لأن روايته عنه شهادة عليه، فلا يشهد بما لم يعلم.

وإن شك في حديث من سماعه والتبس عليه: لم يجز أن يروي شيئًا منها مع الشك؛ لما ذكرنا. فإن غلب على ظنه في حديث أنه مسموع: فقال قوم: يجوز؛ اعتمادًا على غلبة الظن. وقيل: لا يجوز؛ لأنه يمكن اعتبار العلم بما يرويه، فلا يجوز أن يرويه مع الشك فيه كالشهادة1.

_ 1 خلاصة هذه المسألة في النقاط التالية: 1- إذا شك في سماع حديث من شيخه لا يجوز له أن يرويه عنه مع الشك. 2- إذا شك في حديث من سماعه، ثم التبس عليه ذلك الحديث المشكوك فيه فلم يميزه عن غيره، لم يجز له أن يروي عنه شيئًا مع ذلك الشك، لأن كل حديث رواه عنه محتمل أن يكون هو ذلك الحديث الذي شك في سماعه. 3- إذا غلب على ظنه أنه سمع منه حديثًا، ولم يجزم بذلك، فهل تكفي غلبة الظن فتجوز الرواية، أو لا تكفي فلا يجوز؟ حكى المصنف في ذلك روايتين ولم يرجح واحدة منهما، وقد رجح الغزالي الرأي الأول، وقال عن الرأي الثاني إنه بعيد؛ لأن الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن، بالنسبة للحاكم؛ لأنه لا يعلم صدق الشاهد. أما الشاهد: فينبغي أن يتحقق؛ لأن تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم -فيما تمكن فيه المشاهد- ممكن، وتكليف الحاكم أن لا يحكم إلا بصدق الشاهد محال. انظر: "المستصفى جـ2 ص270".

فصل: في حكم إنكار الشيخ للحديث

فصل: [في حكم إنكار الشيخ للحديث] إذا أنكر الشيخ الحديث وقال: "لست أذكره" لم يقدح ذلك في

الخبر في قول إمامنا1، ومالك، والشافعي، وأكثر المتكلمين2. ومنع منه الكرخي؛ قياسًا على الشهادة. وليس بصحيح، لأن الراوي عدل جازم بالرواية، فلا نكذبه، مع إمكان تصديقه، والشيخ لا يكذبه، بل قال "لست أذكره" فيمكن الجمع بين قوليهما: بأن يكون نسيه، فإن النسيان غالب على الإنسان، وأي محدث يحفظ جميع حديثه، فيجب العمل به، جمعًا بين قوليهما. والشهادة تفارق الرواية في أمور كثيرة.

_ 1 أي الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-. 2 هكذا أطلق المصنف الكلام في هذه المسألة، ولم يذكر ما إذا كان الشيخ جازمًا بعد الرواية، أو أنه لا يذكره، وهو ما وضحه الغزال بقوله: "إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع مكذب للراوي لم يعمل به، ولم يصر الراوي مجروحًا. ثم قال: أما إذا أنكر إنكار متوقف، وقال: لست أذكره، فيعمل بالخبر؛ لأن الراوي جازم أنه سمعه منه، وهو ليس بقاطع بتكذيبه، وهما عدلان، فنصدقهما إذا أمكن. وذهب الكرخي: إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث". "المستصفى جـ2 ص272". وما قاله الكرخي، هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف وأكثر الحنفية. انظر: أصول السرخسي "2/ 3". 3 هو: عبيد الله بن الحسن بن دلال، من أئمة الحنفية المجتهدين، كان تقيًّا ورعًا، ألّف العديد من الكتب في فقه الإمام أبي حنيفة مثل: "شرح الجامع الصغير والكبير" توفي سنة 340هـ. انظر: "تاج التراجم ص39".

منها: أن لا تسمع شهادة الفرع -مع القدرة- على الأصل. والرواية بخلافه1. فإن الصحابة -رضي الله عنهم- كان بعضهم يروي عن بعض، مع القدرة على مراجعة النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولهذا كان يلزمهم قبول قول رسله وسعاته من غير مراجعة. وأهل قباء تحولوا إلى القبلة بقول واحد من غير مراجعة2. وأبو طلحة وأصحابه قبلوا خبر الواحد في تحريم الخمر من غير مراجعة3. والله أعلم. وقد روى ربيعة بن عبد الرحمن4 عن سهل5 عن أبيه6 عن

_ 1 قول المصنف "والشهادة تفارق الرواية إلخ" جواب عن قول الكرخي: لو جاز العمل برواية الفرع مع نسيان الأصل، لجاز العمل بشهادة الفرع مع نسيان الأصل، والتالي باطل بالاتفاق. فأجاب المصنف: بأن هناك فروقًًا كثيرة بين الشهادة والرواية: منها ما ذكره المصنف. ومنها: أن الشهادة آكد من الرواية وأضيق، فيغتفر في الرواية ما لا يغتفر في الشهادة. 2 تقدم تخريجه. 3 تقدم تخريجه أيضًا. 4 هو: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، واسم أبيه فروخ المدني، مولى آل المنكدر، المعروف بربيعة الرأي، أحد التابعين، ثقة مشهور، وكان أحد شيوخ الإمام مالك. توفي سنة 136هـ. انظر: "تاريخ بغداد 8/ 420، تذكرة الحفاظ 1/ 157". 5 هو: سهيل بن أبي صالح، ذكوان السمان، أبو يزيد المدني، اختلف في توثيقه وضعفه، روى عن أبيه وسعيد بن المسيب، توفي في خلافة المنصور. "ميزان الاعتدال 2/ 243". 6 هو: ذكوان أبو صالح السمان المدني، ثقة، روى عن أبي هريرة وأبي الدرداء =

أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد1، ثم نسيه سهيل، فكان بعده يقول: "حدثني ربيعة عني أني حدثته" فلا ينكره أحد من التابعين2.

_ = وعائشة وغيرهم. توفي سنة 101هـ. "تذكرة الحفاظ 1/ 89". 1 تقدم تخريجه في مبحث الزيادة على النص، هل هي نسخ أو لا؟ قال أبو داود: أحد رواة الحديث -عقب روايته للحديث-: "وزادني الربيع بن سليمان المؤذن هذا الحديث، قال: أخبرني الشافعي، عن عبد العزيز، قال: فذكرت ذلك لسهيل، فقال: أخبرني ربيعة -وهو عندي ثقة- أني حدثته إياه، ولا أحفظه، قال عبد العزيز: وقد كانت أصابت سهيلًا علة أذهبت بعض عقله، ونسي بعض حديثه، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة، عنه، عن أبيه" يراجع: العلل لابن أبي حاتم جـ1 ص463، 469. 2 فكان ذلك إجماعًا على قبوله. قال الطوفي: "فإن قيل: لعل سهيلًا تذكر الحديث برواية ربيعة عنه، ومراجعته له في ذلك، فتخرج قصته عن الاحتجاج بها في محل النزاع. قلنا: لو كان كذلك، لما رواه بعد ذلك عن ربيعة عنه، بل كان يرويه كما لو لم ينس، عن أبيه، عن أبي هريرة، والنسيان متسلط على الإنسان فيحمل الحال عليه". "شرح المختصر جـ2 ص217".

فصل: في حكم انفراد الثقة بزيادة في الحديث

فصل: [في حكم انفراد الثقة بزيادة في الحديث] انفراد الثقة في الحديث بزيادة مقبول، سواء كانت لفظًا أو معنى1

_ 1 أي سواء أكانت هذه الزيادة في اللفظ فقط ولا تغير المعنى، أم كانت زيادة في اللفظ والمعنى. ومن أمثلة الأول: لفظ "ربنا لك الحمد"، "ربنا ولك الحمد" في الرفع من =

لأنه لو انفرد بحديث لقبل1، فكذلك إذا انفرد بزيادة. وغير ممتنع أن ينفرد بحفظ الزيادة؛ إذ إن المحتمل أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر ذلك في مجلسين، وذكر الزيادة في أحدهما، ولم يحضرها الناقص. ويحتمل أن راوي الناقص دخل أثناء المجلس، أو عرض له -في أثنائه- ما يزعجه2 أو ما يدهشه عن الإصغاء3، أو ما يوجب له القيام قبل التمام، أو سمع الكل ونسي الزيادة. والراوي للتمام عدل جازم بالرواية، فلا نكذبه مع إمكان تصديقه.

_ = الركوع للمؤتم، فإن الواو زيادة في اللفظ ولا تغير المعنى، وكلاهما وارد ومن أمثلة الزيادة التي تغير المعنى: قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه أحمد "1/ 466" وأبو داود "3511" و"3512" والنسائي "7/ 303" وابن ماجه "2186" وغيرهم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، تحالفا وترادًا" فإن جملة "والسلعة قائمة" وردت في بعض الروايات، وهي زيادة في اللفظ تفيد معنى زائدًا. 1 معناه: أن الرواي الثقة إذا روى حديثًا كاملًا قبل منه ذلك، فمن باب أولى إذا روى زيادة في حديث. 2 مثل ما روي عن عمران بن حصين قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعقلت ناقتي بالباب، فأتى ناس من أهل اليمن فقالوا: يا رسول الله، جئنا لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: "كان الله ولم يكن معه شيء، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء" قال عمران: ثم أتاني رجل فقال: يا عمران، أدرك ناقتك فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها، فإذا السراب يتقطع دونها، وأيم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم". 3 أي يشغله ويجعله ينصرف عن الاستماع.

فإن علم أن السماع كان في مجلس واحد: فقال أبو الخطاب: يقدم قول الأكثرين، وذوي الضبط، فإن تساووا في الحفظ والضبط، قدّم قول المثبت1. وقال القاضي: إذا تساووا فعلى روايتين2.

_ 1 انظر: "التمهيد جـ3 ص153، 154". 2 أي عن الإمام أحمد، إحداهما: الأخذ بالزيادة، كما يقول الجمهور، لما تقدم في الأدلة التي أوردها المصنف، والثانية: لا تقبل الزيادة. وقد أورد القاضي أبو يعلى أدلة في كتابه "العدة جـ3 ص1007 وما بعدها" ومما أورده للقائلين برفض الزيادة قال: "واحتج المخالف: بأنه إذا نقله الكل وانفرد واحد بالزيادة، كان ما تفرد به سهوًا، لأنهم ما حفظوه حين قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- مرارًا سمعوه كلهم، فلو كان ما تفرد به صحيحًا لقال الزيادة، كما قال المزيد عليه، ولو قال سمعوه كما سمع، ونقلوه كما نقل. ثم رد عليه بالاحتمالات التي ذكرها ابن قدامة، وقال: واحتج -أي المخالف أيضًا- بأن الأصل متحقق، والزيادة مشكوك فيها، فلا تترك الحقيقة بالمشكوك فيه. والجواب: أنا لا نسلم أنها مشكوك فيها، لأن غالب الظن فيه التصديق فيما تفرد به، للاحتمال الذي ذكرنا".

فصل: في حكم رواية الحديث بالمعنى

فصل: [في حكم رواية الحديث بالمعنى] وتجوز رواية الحديث بالمعنى للعالم المفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والأظهر، والعام والأعم عند الجمهور1. فيبدل لفظًا مكان لفظ فيما لا يختلف الناس فيه: كالألفاظ المترادفة.

_ 1 ومنهم الأئمة الأربعة. وتفصيل القول في هذه المسألة: أن الراوي للحديث: إن =

مثل: القعود والجلوس، والصب والإراقة، والحظر والتحريم، والمعرفة والعلم، وسائر ما لا يشك فيه، ولا يتطرق إليه الاستنباط والفهم. ولا يجوز إلا فيما فهمه قطعًا، دون ما فهمه بنوع استنباط، واستدلال يُختلف فيه. ولا يجوز -أيضًا- للجاهل بمواقع الخطاب، ودقائق الألفاظ. ومنع منه بعض أصحاب الحديث مطلقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع" 2.

_ = كان غير عالم بمقتضيات الألفاظ، والفرق بينها من جهة الإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص، فلا يجوز له الرواية بالمعنى، لأنه قد يبدل لفظًا بلفظ يساويه -في ظنه- وهو ليس كذلك، فيترتب على ذلك خلل في المعنى. أما إن كان عالمًا بما تقدم، فإن كان المعنى غير متطابق فلا يجوز. وإن كان مطابقًا: فقد جوزه جمهور العلماء، بشروط يأتي بيانها. ومنعه جماعة، منهم: محمد بن سيرين "ت110هـ" وبعض السلف. وشروط الجمهور لجواز نقل الحديث بالمعنى كما يلي: 1- أن يكون الناقل عالمًا باللسان العربي، لا تخفى عليه النكت الدقيقة التي يحصل بها الفرق بين معاني الألفاظ. كما مثل المنصف. 2- أن يكون جازمًا بمعنى الحديث، وليس عن طريق الاستنباط أو الاستدلال بمختلف فيه. 3- أن لا يكون اللفظ الذ نقل به الراوي معنى الحديث أخفى من لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال القرافي: "يجوز بثلاثة شروط: أن لا يزيد الترجمة، ولا ينقص، ولا يكون أخفى من لفظ الشارع" شرح تنقيح الفصول ص164. قال الطوفي: "هذا هو معنى المطابقة" شرح المختصر "2/ 245". 1 وهذا ما سبق توضيحه. 2 تقدم تخريجه.

ولنا: الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال كلمة عربية بأعجمية ترادفها، فبعربية أولى. وكذلك كان سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- يبلغونهم أوامره بلغتهم. وهذا لأنا نعلم أنه لا يعتد1 باللفظ، وإنما المقصود فهم المعنى، وإيصاله إلى الخلق. ويدل على ذلك: أن الخطب المتحدة والوقائع، رواها الصحابة بألفاظ مختلفة. ولأن الشهادة آكد من الرواية، ولو سمع الشاهد شاهدًا يشهد بالعجمية: جاز أن يشهد على شهادته بالعربية. ولأنه تجوز الرواية عن غير النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمعنى، فكذلك عنه؛ فإن الكذب فيهما حرام2. والحديث حجة لنا3؛ لأنه ذكر العلة، وهو اختلاف الناس في الفقه والفهم ونحن لا نجوّزه لغير من يفهم.

_ في الأصل "تعتد" وما أثبتناه من المستصفى. قال العلماء: هذا في غير الألفاظ المتعبد بلفظها، كالأذان والإقامة والتكبير، والتشهد في الصلاة، فلا يجوز نقله بالمعنى؛ لأننا متعبدون بلفظه، ومثل ذلك ما كان من جوامع الكلم التي اختص بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز نقله بالمعنى. 2 وأقول: قياس الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على غيره قياس مع الفارق؛ فقد روى مسلم في مقدمة صحيحه عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يقول: "إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" انظر: صحيح مسلم بشرح النووي "14/ 57" طبعة الشعب. 3 هذا رد على دليل المخالف وهو الحديث المتقدم. قال الغزالي: "وهذا الحديث =

جواب آخر: أن من روى بالمعنى فقد روى كما سمع، ولهذا لا يعد كذبًا. قال أبو الخطاب: لا يجوز أن يبدل لفظًا بأظهر منه؛ لأن الشارع ربما قصد إيصال الحكم باللفظ الجلي تارة، وبالخفي أخرى1.

_ = بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد، وإن أمكن أن تكون جميع الألفاظ قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أوقات مختلفة، لكن الأغلب أنه حديث واحد، ونقل بألفاظ مختلفة، فإنه روى: "رحم الله امرأ"، "نضر الله امرأ"، وروى: "رب حامل فقه لا فقه له" وروى: "رب حامل فقه غير فقيه". المستصفى "2/ 280". 1 انظر: التمهيد "3/ 162". قال الطوفي -معللًا لذلك-: "لأن الشارع ربما قصد إيصال الحكم إلى المكلفين باللفظ الجلي تارة؛ تسهيلًا للفهم عليهم، وباللفظ الخفي أخرى؛ تكثيرًا لأجرهم بإجالة النظر فيه". شرح مختصر الروضة "2/ 248".

فصل: في حكم مراسيل الصحابة

فصل: [في حكم مراسيل الصحابة] مراسيل1 أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مقبولة عند الجمهور.

_ 1 المرسل في اللغة: المطلق، فهو اسم مفعول من أرسل بمعنى: أطلق. وعند المحدثين: هو أن يترك التابعي الواسطة بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا. أما جمهور أهل الأصول: فيطلقون المرسل على قول من لم يلق النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا" سواء أكان من التابعين أم من تابعي التابعين أم ممن بعدهم. فالمرسل عند علماء الأصول يشمل المنقطع، وهو: ما حذف من إسناده رجل في أثنائه، كما يشمل المعضل وهو: ما سقط من إسناده اثنان فصاعدًا في أي موضع كان. والمراد بالمرسل -في مقامنا هذا-: ما رواه صحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- =

وشذ قوم فقالوا: لا يقبل مرسل الصحابي إلا إذا عرف بصريح خبره، أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي، وإلا فلا، لأنه قد يروي عمن لم تثبت لنا صحبته. وهذا ليس بصحيح، فإن الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من أصاغر الصحابة مع إكثارهم، وأكثر روايتهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مراسيل. قال البراء بن عازب1: "ما كل ما حدثنا به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعناه منه، غير أننا لا نكذب"2.

_ = بلفظ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لم يسمع منه مباشرة، وإنما سمعه من صحابي آخر لم يسمه. كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أصبح جنبًا فلا صوم له" ولما سئل عنه قال: رويته عن الفضل بن العباس. وهو حجة عند جمهور العلماء، منهم: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وجمهور المعتزلة، وهو الذي رجحه الآمدي. وقد حكى أبو الخطاب الإجماع على ذلك، وفيه نظر، فكيف ينقل الإجماع مع أن فيه خلافًا كما سيذكر المصنف وغيره. انظر: الإحكام للآمدي "2/ 112" التمهيد "3/ 134" الإحكام لابن حزم "1/ 143" إرشاد الفحول جـ1 ص258 وما بعدها تحقيق الدكتور شعبان إسماعيل. 1 هو: البراء بن عازب بن حارث بن عدي، أبو عمارة الأنصاري الحارثي الخزرجي، صحابي جليل، شهد الخندق وما بعدها، توفي بالكوفة سنة 71هـ وقيل: 72هـ. انظر في ترجمته: "الاستيعاب 1/ 155، الإصابة 1/ 142". 2 ذكره الآمدي "2/ 179" بلفظ "ما كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن سمعنا بعضه، وحدثنا أصحابنا ببعضه".

وكثير منهم كان يرسل الحديث، فإذا استكشف قال: حدثني به فلان: كأبي هريرة وابن عباس1 وغيرهما. والظاهر أنهم لا يروون إلا عن صحابي، والصحابة معلومة عدالتهم. فإن رووا عن غير صحابي، فلا يروون إلا عمن علموا عدالته. والرواية عن غير عدل وهم بعيد، لا يلتفت إليه ولا يعول عليه.

_ = وأورده الخطيب البغدادي في الكفاية "ص548": عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقول: ليس كلنا سمع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت لنا ضيعة "العقار والأرض المغلة" وأشغال، وكان الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب" وروي مثله عن أنس. 1 كما تقدم في حديث "من أصبح جنبًا" وحديث "إنما الربا في النسيئة".

فصل: في حكم مراسيل غير الصحابة

فصل: [في حكم مراسيل غير الصحابة] فأما مراسيل غير الصحابة، وهو أن يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من لم يعاصره، أو يقول: قال أبو هريرة من لم يدركه: ففيها روايتان1: إحداهما: تقبل، اختارها القاضي2. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وجماعة من المتكلمين3.

_ 1 أبو يعلى في العدة جـ3 ص906. 2 يراجع: المستصفى جـ2 ص281 وما بعدها، الإحكام للآمدي جـ2 ص133 وما بعدها، شرح مختصر الروضة جـ2 ص230 وما بعدها.

والأخرى: لا تقبل، وهو قول الشافعي1، وبعض أهل الحديث وأهل الظاهر2. ولهم دليلان3: أحدهما: أنه لو ذكر شيخه ولم يعدّله وبقي مجهولًا عندنا: لم نقبله، فإذا لم يسمه فالجهل أتم، إذ من لا يعرف عينه كيف نعرف عدالته؟! الثاني: أن شهادة الفرع لا تقبل ما لم يعين شاهد الأصل، فكذا الرواية. وافتراق الشهادة والرواية في بعض التعبدات لا توجب فرقًا في هذا المعنى، كما لا توجب فرقًا في قبول رواية المجروح المجهول.

_ 1 النقول عن الإمام الشافعي -في حجية المراسيل- متعارضة ومتضاربة، فالبعض يروي عنه أنها حجة، والبعض الآخر ينكر، والذي عليه المحققون: أنه اشترط لقبول الحديث المرسل بعض الشروط التي تؤدي إلى غلبة الظن بصحة الحديث، وخلاصة ذلك: أن الحديث إن كان من مراسيل الصحابة، أو كان قد أسنده غير من أرسله، أو أرسله راو آخر من غير طريق الأول، بمعنى أنه اختلفت طرق الإرسال، فيعضد بعضها بعضًا، أو يكون المرسل قد عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل، أو عضده قول صحابي، أو قول أكثر أهل العلم، فهو حجة، وإلا فلا. فإطلاق المصنف النقل عن الإمام الشافعي تبعًا للغزالي ليس بجيد. يراجع في ذلك: الرسالة تحقيق الشيخ شاكر ص461 وما بعدها، نهاية السول للإسنوي جـ2 ص324، شرح مختصر الروضة جـ2 ص230. 2 انظر: الإحكام لابن حزم جـ1 ص135. 3 أي: القائلون بعدم حجية المرسل.

ووجه الرواية الأولى: أن الظاهر من العدل الثقة: أنه لا يستجيز أن يخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بقول، ويجزم به، إلا بعد أن يعلم ثقة ناقله وعدالته. ولا يحل له إلزام الناس عبادة، أو تحليل حرام، أو تحريم مباح، بأمر مشكوك فيه، فيظهر أن عدالته مستقرة عنده، فهو بمنزلة قوله: "أخبرني فلان وهو ثقة عدل". ولو شك في الحديث: ذكر من حدّثه؛ لتكون العهدة عليه دونه. ولهذا قال إبراهيم النخعي2: "إذا رويتُ عن عبد الله3 وأسندت: فقد حدثني واحد عنه، وإذا أرسلت فقد حدثني جماعة عنه"4. وأما المجهول5: فإن الرواية عنه ليست بتعديل له -في إحدى الروايتين-.

_ 1 وهي: رواية قبول المرسل. 2 هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أحد أعلام التابعين، رأى جماعة من الصحابة، ولم يسمع منهم مباشرة، فكان يرسل عنهم، ومنهم عبد الله بن مسعود. مات بالكوفة سنة 96هـ. "ميزان الاعتدال 1/ 74". 3 يقصد: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- تقدمت ترجمته. 4 أخرج هذا الأثر: البيهقي في سننه "1/ 48" والدراقطني "3/ 174". 5 بعد أن ذكر أدلة الفريقين، بدأ يناقش أدلة المنكرين لحجية مراسيل غير الصحابة. وخلاصة ما استدل به النافون للحجية: أن الواسطة المحذوفة في المرسل لا تعرف عينها، ومن لا تعرف عينه لم تعرف عدالته، ورواية مجهول العدالة مردودة -كما تقدم- ولأن شهادة الفرع لا تقبل على شهادة الأصل فكذلك الرواية، وافتراق الشهادة والرواية في بعض الأحكام لا يستلزم افتراقهما في هذا المعنى، كما أنه لا فرق بينهما في عدم قبول رواية المجروح والمجهول. =

وفي الأخرى: تكون تعديلًا، على ما مضى، ولا كذلك ههنا. والرواية تفارق الشهادة في أمور كثيرة: منها: اللفظ، والمجلس، والعدد، والذكورية، والعجز عن شهود الأصل، والحرية -عندهم- وأنه لا يجوز لشهود الفرع الشهادة حتى تحملهم إياها شهود الأصل، فيقولوا: اشهدوا على شهادتنا. والرواية تخالف هذا. فجاز اختلافهما في هذا الحكم.

_ = فرد المصنف على ذلك: بأن الرواية عن الجمهور ليست تعديلًا له في إحدى الروايتين، وفي الرواية الأخرى تكون تعديلًا، لكن لا يقاس عليها ما نحن فيه، لعدم معرفة الساقط، والاكتفاء بعدالة الرواي وثقته. هذا هو الرد على الدليل الأول. ثم رد على الدليل الثاني: بأن الرواية تخالف الشهادة في أمور كثيرة ذكر منها ما هو موجود في الأصل، ثم بنى على ذلك: جواز اختلاف الرواية عن الشهادة، وأن الرواية المرسلة مقبولة.

فصل: في حكم خبر الواحد فيما تعم به البلوى

فصل: [في حكم خبر الواحد فيما تعم به البلوى] ويقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى1: كرفع اليدين في الصلاة، ومس الذكر، ونحوه، في قول الجمهور2.

_ 1 معنى "تعم به البلوى" أي يكثر التكليف به، كرفع اليدين في الصلاة، ونقض الوضوء بمس الذكر، ونحو ذلك من أخبار الآحاد التي يكثر التكليف بها، ولا تخص أحدًا دون أحد. 2 انظر: العدة لأبي يعلى "3/ 885" والتمهيد لأبي الخطاب "3/ 86" وشرح مختصر الروضة "2/ 233 وما بعدها".

وقال أكثر الحنفية: لا يقبل؛ لأن ما تعم به البلوى كخروج النجاسة من السبيلين يوجد كثيرًا، وتنتقض به الطهارة، ولا يحل للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يشيع حكمه؛ إذ يؤدي إلى إخفاء الشريعة، وإبطال صلاة الخلق، فتجب الإشاعة فيه، ثم تتوفر الدواعي على نقله، فكيف يخفى حكمه، وتقف روايته على الواحد؟! ولنا: أن الصحابة -رضي الله عنهم- قبلوا خبر عائشة في الغسل من الجماع بدون الإنزال1، وخبر رافع بن خديج في المخابرة2. ولأن3 الراوي عدل جازم بالرواية، وصدقه ممكن، فلا يجوز تكذيبه، مع إمكان تصديقه. ولأن4 ما تعم به البلوى يثبت بالقياس، والقياس مستنبط من الخبر وفرع له، فلأن يثبت بالخبر الذي هو أصل أولى. وما ذكروه يبطل بالوتر، والقهقهة، وخروج النجاسة من غير السبيلين، وتثنية الإقامة، فإنه مما تعم به البلوى، وقد أثبتوه بخبر الواحد5.

_ 1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه والكلام على معنى "المخابرة" وهذا هو الدليل الأول للجمهور. 3 هذا هو الدليل الثاني. 4 هذا هو الدليل الثالث للجمهور. 5 بعد أن ذكر أدلة الجمهور، وأدلة الحنفية، بدأ يرد عليهم ويناقشهم في هذه الأدلة فقال: إنهم قبلوا خبر الواحد فيما يعم به البلوى مثل: وجوب الوتر، وإبطال الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة، واختاروا تثنية الإقامة في الصلاة، وأوجبوا الوضوء بخروج النجاسة من غير السبيلين، وكل ذلك مما تعم به البلوى، وقد أثبته الحنفية بخبر الواحد. ثم رد على قولهم: "يجب إشاعة ما تعم به البلوى ... " بقوله: إنه -صلى الله عليه وسلم- =

ولم يكلف الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- إشاعة جميع الأحكام، بل كلفه إشاعة البعض، ورد الخلق -في البعض- إلى خبر الواحد. كما ردهم إلى القياس في قاعدة الربا، وكان يسهل عليه أن يقول: لا تبيعوا المكيل بالمكيل، والمطعوم بالمطعوم؛ حتى يستغني عن الاستنباط من الأشياء الستة. فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما يقتضي مصلحة الخلق: أن يرد فيه إلى خبر الواحد.

_ = مكلف بإشاعة البعض، ورد البعض الآخر إلى خبر الواحد، فالذي لا يكفي فيه الظن تجب فيه الإشاعة، والذي يكفي فيه الظن لا تجب فيه الإشاعة، ولذلك رد الناس إلى القياس فيما تعم به البلوى في الأصناف الستة وهي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، فيقاس عليها ما يماثلها، والخبر أولى من القياس ومقدم عليه. فإذا جاز ذلك في القياس، فلأن يجوز في خبر الواحد من باب أولى، ويكون في ذلك مصلحة للخلق، أرادها المشرع.

فصل: في حكم خبر الواحد في الحدود

فصل: [في حكم خبر الواحد في الحدود] ويقبل خبر الواحد في الحدود، وما يسقط بالشبهات1. وحكي عن الكرخي2: أنه لا يقبل؛ لأنه مظنون فيكون ذلك شبهة، فلا يقبل، لقوله -عليه السلام-: "ادرءوا الحدود بالشبهات" 3.

_ 1 وهو قول جمهور العلماء. 2 وبه قال أبو عبد الله البصري من المعتزلة انظر: المعتمد "2/ 570". 3 رواه بهذا اللفظ: الحارثي في مسند أبي حنيفة من حديث مقسم عن ابن عباس =

وهذا غير صحيح، فإن الحدود حكم شرعي، يثبت بالشهادة، فيقبل فيه خبر الواحد، كسائر الأحكام. ولأن ما يقبل فيه القياس المستنبط من خبر الواحد: فهو بالثبوت بخبر الواحد أولى. وما ذكروه يبطل الشهادة والقياس، فإنهما مظنونان ويقبلان في الحدود.

_ = مرفوعًا، كما في المقاصد الحسنة ص344، وابن عساكر في تاريخه. كما روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا بلفظ: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم؛ فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" أخرجه الترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحد، ورواه -أيضًا- موقوفًا وقال: الموقوف أصح، والدراقطني: في أوائل كتاب الحدود، والبيهقي، والحاكم في المستدرك: كتاب الحدود، باب، إن وجدتم لمسلم مخرجًا فخلوا سبيله وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ومدار هذا الحديث على "يزيد بن زيادة" أحد رواة هذا الحديث، قال عنه البخاري: "منكر الحديث" وقال النسائي: "متروك الحديث" وضعفه الترمذي وغيره انظر: المغني في الضعفاء "2/ 749" وله روايات أخرى كثيرة مرفوعة وموقوفة انظر: تلخيص الحبير "4/ 56".

فصل: في حكم الواحد إذا خالف القياس

فصل: [في حكم الواحد إذا خالف القياس] ويقبل خبر الواحد فيما يخالف القياس1. وحكي عن مالك: أن القياس يقدم عليه2.

_ 1 وهو قول الشافعية والحنابلة وكثير من الفقهاء، وهو الذي رجحه ابن قدامة. 2 المنقول عن الإمام مالك رأيان. والذي حكاه المصنف بقوله: "وحكي...." هو =

وقال أبو حنيفة: إذا خالف الأصول، أو معنى الأصول، لم يحتج به1. وهو فاسد؛ فإن معاذًا2 قدم الكتاب والسنة على الاجتهاد، فصوبه

_ = المشهور من مذهبه. انظر: "شرح تنقيح الفصول ص387". 1 الفرق بين مخالفة الأصول، أو معنى الأصول: أن مخالفة القياس أخص من مخالفة الأصول؛ لأن القياس أصل من الأصول، فكل قياس أصل، وليس كل أصل قياسًا، فما خالف القياس خالف أصلًا خاصًّا، وما خالف الأصول يصدق بما خالف قياسًا أو نصًّا أو إجماعًا، أو استصحابًا أو غير ذلك. فوجوب الوضوء بالنوم موافق للقياس؛ من حيث إنه تعليق حكم بمظنته كسائر الأحكام المعلقة بمظانها، مع أنه مخالف لبعض الأصول، وهو: استصحاب العدم الأصلي في خروج الحدث حتى يعلم أمر ناقل عن الاستصحاب. فالمراد بمعنى الأصل: نفي الفارق بين الأصل والفرع. هذا معنى ما ذكره المصنف في مذهب الحنفية، والذي في كتبهم غير هذا وخلاصة ما ورد في كتبهم: 1- المتقدمون يرون تقديم خبر الآحاد على القياس مطلقًا، وهو رأي الإمام وصاحبيه. 2- تقديم القياس إذا كان الراوي لخبر الواحد غير فقيه، ولا مجال للاجتهاد في الحديث. 3- يقدم القياس على الصحابي الذي لم يعرف إلا بحديث أو حديثين، واختلف الثقات في قبوله، أو لم يشتهر بين السلف. 4- تقديم خبر الواحد إذا كان الراوي ضابطًا غير متساهل فيما يرويه. 5- تقديم القياس إذا كان الراوي من غير الخلفاء الأربعة والعبادلة، وهو رأي البزدوي. انظر في ذلك: "أصول السرخسي 1/ 343، كشف الأسرار 2/ 379". 2 هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، كان =

النبي -صلى الله عليه وسلم-1. وقد عرفنا من الصحابة -رضي الله عنهم- في مجاري اجتهاداتهم أنهم كانوا يعدلون إلى القياس عند عدم النص. ولذلك قدم عمر -رضي الله عنه- حديث حمل بن مالك في غرة الجنين2.

_ = أعلم الناس بالحلال والحرام، شهد المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- قضاء اليمن، كما في الحديث الذي معنا. توفي سنة 18هـ "أسد الغابة 4/ 376، حلية الأولياء 1/ 228". 1 يشير إلى حديث معاذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن قال له: "كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ " قال: أقضى بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله ورسوله". أخرجه أبو داود: كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي، وقال: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل" وأخرجه الطيالسي في كتاب القضاء والدعاوي والبينات، باب آداب القضاء والقاضي كيف يقضي. والحديث وإن كان في سنده مقال، إلا أن المحققين من العلماء حكموا بقبوله والعمل به. قال عنه إمام الحرمين، كما نقله ابن حجر في تلخيص الحبير "4/ 183" "إنه حديث مدون في الصحاح متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل". وقال الغزالي: "تلقته الأمة بالقبول، ولم يظهر أحد فيه طعنًا، فلا يقدح فيه كونه مرسلًا" كما قواه ابن عبد البر، وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير. انظر: المستصفى "2/ 254" والمعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر. 2 سبق تخريجه.

وكان يفاضل بين ديات الأصابع ويقسمها على قدر منافعها، فلما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "في كل إصبع عشر من الإبل" 1: رجع عنه إلى الخبر، وكان بمحضر من الصحابة2. ولأن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كلام المعصوم وقوله، والقياس استنباط الراوي، وكلام المعصوم أبلغ في إثارة غلبة الظن. ثم أصحاب أبي حنيفة قد أوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر. وأبطلوا الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة، دون خارجها، وحكموا في القسامة بخلاف القياس، وهو مخالف للأصول3.

_ 1 روى البيهقي في سننه الكبرى: كتاب الديات، باب الأصابع كلها سواء، عن سعيد بن المسيب قال: قضى عمر -رضي الله عنه- في الأصابع: في الإبهام بثلاث عشر، وفي التي تليها باثنتي عشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست، حتى وجد كتاب عند آل عمرو بن حزم يذكرون أنه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيما هنالك من الأصابع "عشر، عشر" قال سعيد: فصارت الأصابع إلى عشر، عشر. وحديث عمرو بن حزم أخرجه النسائي: كتاب القسامة، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له. وللحديث روايات أخرى عن أبي موسى الأشعري عند أبي داود، والنسائي وابن ماجه، والحاكم وصححه. وأخرجه أحمد بلفظ "الأصابع سواء، والأسنان سواء". 2 قال أبو يعلى في العدة "3/ 890": "وكان بمحضر من الصحابة -رضي الله عنهم- فلم ينكر ذلك منكر، ولم يخالفه فيه مخالف، فدل على أنه إجماع عنهم". 3 تقدم أن أبا حنيفة يرى: أن خبر الواحد إذا خالف الأصول، أو معنى الأصول لا يحتج به، وأورد المصنف العديد من الأدلة التي تدل على رفض ما قاله أبو حنيفة. ثم أورد على مذهب الحنفية بعض الأمثلة التي أخذوا فيها بما يخالف =

باب: الأصل الثالث: الإجماع

باب: الأصل الثالث: الإجماع فصل: معنى الاجماع ... باب: الأصل الثالث: الإجماع فصل: ومعنى الإجماع في اللغة: الاتفاق، يقال: أجمعت الجماعة على كذا: إذا اتفقوا عليه. ويطلق بإزاء تصميم العزم، يقال: أجمع فلان رأيه على كذا: إذا صمم

_ = القياس؛ فقال: فقد أوجبتم الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر، مع مخالفة ذلك لسائر المائعات استنادًا إلى ما رواه أبو داود "84" والترمذي "88" وابن ماجه "84" وأحمد "1/ 49، 150". عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له ليلة الجن: "ما في إداوتك؟ " قال: نبيذ قال: "تمرة طيبة وماء طهور" وقد نص العلماء على ضعف الحديث من عدة طرق، منها: أن ابن مسعود لم يكن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الليلة: انظر: "نصب الراية 1/ 138-141". كما أبطلتم الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة دون خارجها، بما روي عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: ".... بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلى بالناس، إذ دخل رجل، فتردى في حفرة كانت في المسجد، وكان في بصره ضرر، فضحك كثير، من القوم وهم في الصلاة، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ضحك أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة" أخرجه الطبراني، والهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 246". وهو حديث في إسناده ثلاثة رواة متكلم فيهم. "نصب الراية 1/ 47". كما أخذتم بحديث القسامة، وهي عبارة عن أيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم وليس لهم بينة، وهو حديث صحيح أخرجه البخاري في الديات، ومسلم في كتاب القسامة، كما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهم. وحديث القسامة مخالف لسائر الدعاوى، لأن اليمين يبدأ فيها بالمدعي قبل المدعى عليه. ومعنى هذا كله: أن الحنفية بذلك أخذوا بخبر الواحد فيما يخالف الأصول.

عزمه عليه1. قال الله -تعالى-: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُم} 2. ومعنى الإجماع في الشرع: اتفاق علماء العصر من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على أمر من أمور الدين3. [إمكان وجود الإجماع وتصوره] ووجوده متصور:

_ 1 انظر: القامو س المحيط "3/ 15" والمصباح المنير "1/ 171". 2 سورة يونس من الآية: 71. 3 جمهور الأصوليين يقولون في تعريفه: "اتفاق مجتهدي العصر من هذه الأمة على أمر ديني بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-". وعرفه الآمدي بقوله: "هو اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر ما على حكم واقعة من الوقائع". وقريب منه تعريف القرافي. والمراد بالاتفاق: الاشتراك في القول، أو الفعل، أو الاعتقاد. والمراد بأهل الحل والعقد: المجتهدين -كما قال الجمهور-. وقول الآمدي: "اتفاق جملة أهل الحل والعقد: فيه احتراز من اتفاق البعض فلا يكون إجماعًا. وفائدة قولهم: "من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-" إخراج اتفاق بقية الأمم، فإنه ليس إجماعًا معتبرًا، لأنهم قد يتفقون على الباطل، ومن هنا جاءت الأحاديث في عصمة هذه الأمة من الاتفاق على الباطل أو الخطأ. كما سيأتي في حجية الإجماع. انظر: في تعريف الإجماع: "العضد على ابن الحاجب 2/ 29، شرح تنقيح الفصول ص322، الإحكام للآمدي 1/ 196، شرح مختصر الروضة 2/ 6".

فإن الأمة مجمعة على وجوب الصلوات الخمس، وسائر أركان الإسلام. وكيف يمتنع تصوره؛ والأمة كلها متعبدة بالنصوص والأدلة القواطع، معرضون للعقاب بمخالفتها؟ وكما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب: لا يمتنع اتفاقهم على أمر من أمور الدين. وإذا جاز اتفاق اليهود -مع كثرتهم- على باطل: فلم لا يجوز اتفاق أهل الحق عليه1.

_ 1 مسألة إمكان وقوع الإجماع للعلماء فيها ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أنه يمكن انعقاده، بل ووقع فعلًا في كل العصور، وهو مذهب جمهور العلماء. المذهب الثاني: أنه غير ممكن عادة، لا عقلًا، وهو رأي النظام وبعض الشيعة وبعض المعتزلة. المذهب الثالث: أنه ممكن الوقوع باعتبار ذاته، ولكنه متعذر باعتبار نقله، وهو مروي عن الإمام أحمد، كما روي عنه إمكان ذلك ووقوعه في عصر الصحابة فقط، لإمكان الاطلاع عليه ونقله. وقد استدل المصنف للمذهب الأول: بأن الإجماع قد وقع، والوقوع يستلزم الجواز، أي يدل عليه، ومثل لذلك بالإجماع على الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام، فإنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب ذلك، وكيف يمتنع تصور ذلك والأمة كلها متعبدة باتباع النصوص والأدلة القاطعة، ومعرضون للعقاب إذا خالفوها. فكما لا يمتنع اتفاقهم واجتماعهم على أمر من أمور الدنيا، كالأكل والشرب لا يمتنع اتفاقهم على أمر من أمور الدين، وإذا جاز اتفاق أهل الباطل على شيء، فمن باب أولى اتفاق أهل الحق.

[كيف يعرف الإجماع] ويعرف الإجماع بالإخبار، والمشافهة، فإن الذين يعتبر قولهم في الإجماع: هم العلماء المجتهدون، وهم مشتهرون معروفون، فيمكن تعرف أقوالهم من الآفاق1. [موقف العلماء من حجية الإجماع] والإجماع حجة قاطعة عند الجمهور2.

_ هذا رد على سؤال مقدر يمكن أن يرد من المنكرين لإمكان وقوع الإجماع، مفاده: أن الإجماع يتعذر وجوده لعدة أسباب: أولًا: انتشار المجتمعين شرقًا وغربًا، وجواز خفاء بعضهم، بأن يكون أسيرًا أو محبوسًا، أو أن يكون خامل الذكر غير معروف. ثانيًا: احتمال الكذب، فإن البعض قد يفتي على خلاف ما يعتقد خوفًا من سلطان جائر، أو بقصد التقرب إليه للوصول إلى منصب مرموق. ثالثًا: احتمال رجوع بعضهم قبل الإجماع. فأجاب المصنف على هذه الاحتمالات: بأن ذلك يعرف بالأخبار التي تنقل عن العلماء، أو المشافهة، خاصة وأن الذين يصلون إلى درجة الاجتهاد قليلون ومشهورون. هذا معنى ما قاله المصنف وغيره. وقد نقل "ابن بدران" عن أبي المعالي أنه قال: "والإنصاف أنه لا طريق لنا إلى معرفة الإجماع إلا من زمن الصحابة" ولعل هذا هو الذي جعل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يقول: "من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، وما يدريه، ولم ينته إليه، فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا". انظر: إعلام الموقعين "1/ 30" نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص335، أصول مذهب الإمام أحمد ص322. 2 للعلماء في نوع حجية الإجماع ثلاثة مذاهب: =

وقال النظام1: ليس بحجة2. وقال: "الإجماع: كل قول قامت حجته" ليدفع عن نفسه شناعة قوله، وهذا خلاف اللغة والعرف3.

_ = المذهب الأول: أنه حجة قطعية تحرم مخالفته، وهو رأي الجمهور كما قال المصنف. المذهب الثاني: أنه حجة ظنية، وهو رأي بعض العلماء، كالإمام الرازي، والآمدي وغيرهما. المذهب الثالث: أنه حجة قطعية إذا اتفق عليه المعتبرون، أما إذا لم يتفقوا، بأن كان إجماعًا سكوتيًّا، أو يندر مخالفه كان حجة ظنية. انظر: "فواتح الرحموت 2/ 213، التقرير والتحبير 3/ 83، الإحكام للآمدي 1/ 144". 1 هو: إبراهيم بن يسار بن هانئ، أبو إسحاق البصري، المعتزلي، كان أديبًا متكلمًا، وهو أستاذ الجاحظ، تنسب إليه اقوال غريبة، كما كان شديد الحفظ، حفظ القرآن والتوراة والإنجيل، وطالع كتب الفلاسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، من مؤلفاته "النكت" في عدم حجية الإجماع. توفي سنة 231هـ. انظر: فرق وطبقات المعتزلة ص59، تأريخ بغداد "6/ 97". 2 وهو رأي بعض الشيعة وبعض المعتزلة. وقالت الإمامية: إن كان فيه قول الإمام المعصوم فهو حجة، وإلا فلا. وهذا في الواقع خارج عن الإجماع، لأن الحجة عندهم في قول الإمام، باعتبار أنه معصوم حسب عقيدتهم. انظر: المعتمد "2/ 458". 3 يعنى: أن النظام لما أحس بشناعة رأيه عرف الإجماع بما ذكره المصنف، وهو تعريف غير صحيح من ناحية اللغة والعرف الشرعي.

فصل: الأدلة على حجية الإجماع

فصل: [الأدلة على حجية الإجماع] ولنا دليلان1:

_ 1 أي طريقان أو مسلكان، أحدهما من القرآن، والثاني من السنة.

أحدهما: قول الله -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1 وهذا يوجب اتباع سبيل المؤمنين، ويُحرِّم مخالفتهم.

_ 1 سورة النساء الآية: 115. والمصنف لم يكمل الآية، وقد أكملتها تبعًا للغزالي حتى يظهر وجه الشاهد من الآية وهو: الوعيد على مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أي مخالفته، واتباع غير سبيل المؤمنين. قال الشوكاني: "ووجه الدلالة من الآية: أن الله -تعالى- جمع بين مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحًا، لما جمع بينه وبين المحظور، فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن: متابعة قول أو فتوى يخالف قولهم أو فتواهم، وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة" "إرشاد الفحول جـ1 ص293، 294". والغزالي -كغيره من العلماء- أورد العديد من الآيات الدالة على حجية الإجماع هي: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ... } [البقرة: 143] . وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... } [آل عمران: 110] . وقوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181] . وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ... } [آل عمران: 103] . وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه ... } [الشورى: 10] . وقوله تعالى: { ... فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . ثم قوله: فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض، بل لا تدل -أيضًا- دلالة الظواهر. وأقواها قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ.....} الآية. انظر: "المستصفى جـ2 ص298، 299".

فإن قيل1: إنما توعّد على مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وترك اتباع سبيل المؤمنين معًا، أو على ترك أحدهما بشرط ترك الآخر، فالتارك لأحدهما بمفرده لا يلحق به الوعيد. ومن وجه آخر: وهو أنه إنما ألحق الوعيد لتارك سبيلهم إذا بان له الحق فيه؛ لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} والحق -في هذه المسألة- من جملة "الهدى" فيدخل فيها. ويحتمل: أنه توعد على ترك سبيلهم فيما صاروا فيه مؤمنين. ويحتمل: أنه أراد بالمؤمنين: جميع الأمة إلى قيام الساعة، فلا يحصل الإجماع بقول أهل عصر. ولأن المخالف من جملة المؤمنين، فلا يكون تاركًا لاتباع سبيلهم بأسرهم. ولو قدر أنه لم يرد شيء من ذلك، غير أنه لا ينقطع الاحتمال، والإجماع أصل لا يثبت بالظن2. قلنا3: التوعد على الشيئين يقتضي أن يكون الوعيد على كل واحد منهما منفردًا، أو بهما معًا. ولا يجوز أن يكون لاحقًا بأحدهما معينًا، والآخر لا يلحق به

_ 1 بدأ المصنف يورد الاعتراضات التي قالها المخالفون على الاستدلال بالآية الكريمة. 2 خلاصة هذا الاعتراض: أن النص ليس بقاطع، لأن قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِين} يحتمل وجوهًا كثيرة، منها ما ذكره، إذا وجد الاحتمال لم يكن النص قطعيًّا، وإنما كان ظنيًّا، والإجماع أصل من الأصول العامة فلا يثبت بطريق الظن. 3 بدأ المصنف يرد على الاعتراضات السابقة.

وعيد، كقول القائل: "من زنا أو شرب ماء عوقب". وهذا لا يدخل في القسم الثاني1 لأن مشاقة الرسول بمفردها تثبت العقوبة، فثبت أنه من القسم الأول2. وأما الثاني3: فلا يصح؛ فإنه توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين مطلقًا من غير شرط. وإنما ذكر تبين الهدي عقيب قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} وليس بشرط لإلحاق الوعيد على مشاقة الرسول اتفاقًا، فلأن لا يكون شرطًا لترك اتباع سبيل المؤمنين -مع أنه لم يذكر معه- أولى. وأما الثالث4: فنوع تأويل، وحمل اللفظ على صورة واحدة. "وأما الرابع5: فإن مطلق الاحتمال لا يؤثر في نفس كونه من الأدلة

_ 1 وهو: أن يكون على كل منهما معًا. 2 وهو: أن يكون الوعيد على كل منهما منفردًا. 3 أي الرد على الاعتراض الثاني وهو قوله: "أنه إنما ألحق الوعيد لتارك سبيلهم إذا بان له الحق" وخلاصة الرد بوجهين: أحدهما: لا نسلم أن كل ما كان شرطًا في المعطوف عليه أن يكون شرطًا في المعطوف، لأن العطف لا يقتضى سوى التشريك في مقتضى العامل إعرابًا ومدلولًا. ثانيهما: لو سلمنا أن الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف، فإن ذلك لا يضرنا، فإنه لا نزاع في أن "الهدى" المشروط في تحريم المشاقة إنما هو دليل التوحيد والنبوة، لا أدلة الأحكام الفرعية، فيكون "الهدى" شرطًا في اتباع غير سبيل المؤمنين ونحن نسلم به. 4 أي الاعتراض الثالث: وهو: "ويحتمل أنه توعد على ترك سبيلهم فيما صاروا به مؤمنين". 5 أي الاعتراض الرابع وهو قوله "ولو قدر أنه لم يرد شيء من ذلك".

الأصلية؛ إذ ما من دليل إلا ويتطرق إليه الاحتمال، فإن النص يحتمل أن يكون منسوخًا، والعام يجوز أن يكون مخصوصًا، وهذا وشبهه لم يمنع كونه من الأصول، كذا ههنا"1. الدليل الثاني: من السنة2: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا تجتمع أمتي على ضلالة" 3. وروي: "لا تجتمع على خطأ". وفي لفظ "لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على خطأ".

_ 1 ما بين القوسين من النسخة التي حققها الدكتور عبد الكريم النملة -يحفظه الله-. 2 المسلك الثاني على حجية الإجماع: أن الإجماع صادر عن مجموع الأمة، والأمة معصومة، والمعصوم لا يصدر عنه إلا الصواب. أما أن الأجماع صادر عن مجموع الأمة، فلما سبق في تعريفه، من أنه اتفاق مجتهدي الأمة إلخ. والمجتهدون قائمون مقام الأمةإ إذ إليهم إبرام أمورهم ونقضها، ولذلك جاء في بعض التعريفات أنه: "اتفاق أهل الحل والعقد". وأما أن الأمة معصومة عن الخطأ، أو الضلال: فلأن الأخبار النبوية في عصمتها بلغت حد التواتر المعنوي، لاختلاف ألفاظها، واشتراكها في الدلالة على أمر واحد، وهو: نفي الخطأ عنها. انظر: شرح المختصر "3/ 18، 19". 3 هذا الحديث روي بألفاظ مختلفة مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أخرجه عنه الترمذي: كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة بلفظ: "إن الله لا يجمع أمتي، أو قال: أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار" ثم قال: هذا الحديث غريب من هذا الوجه. كما رواه الحاكم في المستدرك: كتاب العلم "1/ 115، 116". وأخرجه أبو داود: كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها عن أبي مالك الأشعري. وابن ماجه في كتاب الفتن، باب السواد الأعظم، من حديث أنس بن مالك. =

وقال: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح"1. وقال: "من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة2 الإسلام من عنقه"3

_ = كما روي بأسانيد أخرى كثيرة بعضها مرفوع وبعضها موقوف، وبعضها ضعيف. يراجع في ذلك: مجمع الزوائد "1/ 177" و"5/ 217" ونصب الراية "4/ 133". 1 هذا جزء من حديث موقوف على عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 379" ولفظه: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد في قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسنًا فهوعند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيّء" وأخرجه عنه الحاكم -موقوفًا- في كتاب معرفة الصحابة، باب فضائل أبي بكر -رضي الله عنه-. ثم قال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرجه البزار بسنده في باب الإجماع من كتاب كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي "1/ 88". قال الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 177، 178": "رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون". والحديث وإن كانت له روايات متعددة، إلا أن الصحيح أنه موقوف على ابن مسعود -رضي الله عنه-. انظر: المقاصد الحسنة ص367". 2 قال ابن الأثير في النهاية "2/ 62": "الربقة في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام، يعني: ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام: أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه". 3 هذا الحديث رواه أبو ذر -رضي الله عنه- مرفوعًا: أخرجه عنه أبو داود: كتاب =

و "من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية"1. وقال: "عليكم بالسواد الأعظم". وقال: "ثلاث لا يغل3 عليهن قلب المسلم: إخلاص العمل لله، والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين"4.

_ = السنة، باب قتل الخوارج، وأحمد في المسند "5/ 180" كما أخرجه عن الحارث الأشعري -رضي الله عنه- مرفوعًا بلفظ قريب منه، وأخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الصوم، عن الحارث- أيضًا- وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. 1 حديث صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الفتن، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سترون بعدي أمورًا تنكرونها" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ولفظه: "من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبرًا فمات، إلا مات ميتة جاهلية" كما أخرجه في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام، ما لم يكن معصية. كما أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين. وهو مخرج -أيضًا- عند أحمد والدارمي والنسائي وغيرهم. 2 المراد بالسواد الأعظم: جملة الناس ومعظمهم الذين يجتمعون على طاعة السلطان، وسلوك النهج السليم "النهاية لابن الأثير 2/ 191" والحديث تقدم تخريجه ضمن روايات حديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة". 3 يغل: بضم الياء وكسر الغين، من الإغلال وهو الخيانة، وروي "يغل" بفتح الياء، من الغل وهو الحقد. كما روي "يغل" بفتح الياء وكسر الغين وتخفيف اللام من الوغول، وهو الدخول في الشيء. "النهاية 3/ 168". 4 هذا جزء من حديث أخرجه الترمذي: كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا بسند صحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن ... " ورواه أحمد في المسند "4/ 80" والحاكم في =

ونهى عن الشذوذ1 وقال: "مَن شَذًٌ شَذٌ فلي النٌار" 2. وقال: "لا تزال طائفة من أمتى على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله" 3. وقال: "من أراد بحبوحة4 الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" 5.

_ = المستدرك وابن ماجه: كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر: "3056" عن جبير بن مطعم، كما رواه أبو داود وابن ماجه عن زيد بن ثابت. انظر: مشكاة المصابيح "1/ 78" ومجمع الزوائد "1/ 139". 1 الشذوذ: الانفراد والمقارنة، والمقصود: مفارقة جماعة المسلمين. 2 تقدم تخريجه. 3 حديث صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزل طائفة من أمتى ظاهرين على الحق" عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- ولفظه: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون". كما أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين. وأخرجه أبو داود في أول كتاب الفتن عن ثوبان -رضي الله عنه-، وكذلك الترمذي وأحمد في المسند "5/ 278". 4 بحبوحة الجنة: أي وسطها. يقال: بحبوحة الدار: وسطها، ويقال: تبحبح الرجل، وبحبح: إذا تمكن من الحلول والمقام وتوسط المنزل. 5 حديث صحيح أخرجه الشافعي في الرسالة ص474، وأحمد في المسند "14/ 18، 26" والترمذي حديث "2166" وابن ماجه "2363" وابن حبان "2282" والحاكم "1/ 18، 4/ 1" من حديث عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وأبي الدرداء مرفوعًا بألفاظ مختلفة. انظر: شرح البغوي "3/ 347".

وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهورة في الصحابة والتابعين، لم يدفعها أحد من السلف والخلف. وهي وإن لم تتواتر آحادها، حصل لنا بمجموعها العلم الضروري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عظم شأن هذه الأمة، وبين عصمتها عن الخطأ1. وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى تصديق شجاعة "علي" وسخاء "حاتم" 2 وعلم "عائشة"، وإن لم يكن آحاد الأخبار فيها متواترًا، بل يجوز على كل واحد منها الكذب لو جرّدنا النظر إليه، ولا يجوز على المجموع. ويشبه ذلك: ما يحصل فيه العلم بمجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال، ويحصل بمجموعها العلم الضروري. ومن وجه آخر3.

_ خلاصة ما يريده المصنف من ذلك: أن هذه الأخبار الكثيرة التي أوردها على حجية الإجماع ظاهرة ومشهورة عند الصحابة والتابعين، وهي وإن كانت لم تبلغ حد التواتر اللفظي، إلا أنها إذا انضم بعضها إلى بعض وصلت إلى التواتر المعنوي، كتواتر شجاعة "علي" -رضي الله عنه- وجود "حاتم الطائي" وعلم السيدة "عائشة" أم المؤمنين -رضي الله عنها- فهذه الأخبار لو كانت منفردة لجاز عليها الكذب، بخلاف ما لو كانت مجتمعة فإنها تفيد العلم الضروري. 2 هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج، المشهور بحاتم الطائي، نسبة إلى قبيلة "طيئ" كان جوادًا مشهورًا بالكرم، شاعرًا جيد الشعر، مات سنة 45 قبل الهجرة. انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة "1/ 241" تهذيب ابن عساكر "3/ 320 وما بعدها". 3 خلاصة ذلك: أن المصنف يريد أن يقول: إن دلالة الأحاديث المتقدمة على حجية الإجماع من ثلاثة وجوه:

أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع، ولا يظهر فيه أحد خلافًا إلى زمن النظام. ويستحيل في مطرد العادة ومستقرها توافق الأمم في أعصار مطردة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته، مع اختلاف الطباع، وتباين المذاهب في الرد والقبول. ولذلك: لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف، وإبداء تردد فيه. ومن وجه آخر: أن المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا بها أصلًا مقطوعًا به وهو: الإجماع الذي يحكم على كتاب الله وسنة رسوله. ويستحيل في العادة التسليم بخبر يرفعون به، الكتاب المقطوع به إلا إذا استند إلى سند مقطوع به. أما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلومًا، حتى لا يتعجب

_ = الوجه الأول: ما تقدم من أن هذه الأحاديث ظاهرة الدلالة على حجية الإجماع منذ عصور الصحابة والتابعين، وهي وإن لم تتواتر لفظيًّا إلا أنها تفيد التواتر المعنوي كما تقدم. الوجه الثاني: أن هذه اأحاديث تمسك بها الصحابة والتابعون، ولم يظهر أحد فيها خلافًا إلى زمن النظام، فهو الذي بدأ في إنكار حجية الإجماع، ويستحيل اطراد مثل ذلك إلا إذا كان حجة. الوجه الثالث: أن المحتجين بهذه الأحاديث أثبتوا بها أصلًا مقطوعًا به يحكم به على كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا بد وأن يكون مستندًا، إلى دليل قطعي. هذا معنى كلامه، وفيه نظر يطول شرحه.

متعجب، ولا يقول قائل: كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستنده إلى خبر غير معلوم الصحة؟! وكيف يذهل عنه جميع الأمة إلى زمن النظام فيختص بالتنبيه له؟ هذا وجه الاستدلال1. فصل: ولا يشترط في أهل الإجماع أن يبلغوا عدد التواتر؛ لأن الحجة في قولهم، لصيانة الأمة عن الخطأ بالأدلة المذكورة، فإذا لم يكن على الأرض مسلم سواهم، فهم على الحق يقينًا، صيانة لهم عن الاتفاق على الخطأ2.

_ 1 أي وجه الاستدلال بالأحاديث المتقدمة على حجية الإجماع، وهي من ثلاثة أوجه -كما تقدم-. 2 خلاصة ذلك: أنه لا يشترط لصحة الإجماع أن يبلغ المجمعون عدد التواتر كما لا يشترط ذلك في الدليل السمعي، لأن المقصود اتفاق مجتهدي العصر، وقد حصل، ولا دخل للعدد فيه. ونقل عن بعض العلماء أنه يشترط التواتر، ومنهم: أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين، وابن السبكي. هكذا ورد في بعض الكتب مثل: شرح تنقيح الفصول ص341، شرح الكوكب المنير "2/ 252". إلا أن الغزالي وغيره من العلماء يفرقون بين من أخذ حجية الإجماع من دليل العقل، وبين من أخذ من الدليل السمعي. فإذا كان من دليل العقل فيلزم اشتراط التواتر، وإذا كان من السمع ففيه مذهبان: أحدهما: اشتراط ذلك. وثانيهما: عدم الاشتراط. =

فصل: في المعتبرين في الإجماع

فصل: [في المعتبرين في الإجماع] ولا اختلاف في اعتبار علماء العصر من أهل الاجتهاد في الإجماع وأنه لا يعتد بقول الصبيان والمجانين. فأما العوام: فلا يعتبر قولهم عند الأكثرين. وقال قوم: يعتبر قولهم؛ لدخولهم في اسم "المؤمنين" ولفظ الأمة1.

_ = وأورد أدلة كل فريق ورجح عدم الاشتراط كما يقول الجمهور. راجع في هذه المسألة: "البرهان 1/ 680، 691، المستصفى 2/ 351 وما بعدها، بيان المختصر للأصفهاني 1/ 573-575". 1 خلاصة هذا الفصل: أن كل واحد من الأمة، إما أن يكون مجتهدًا أو لا، فإن كان مجتهدًا فلا خلاف في اعتبار موافقته، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، فإما أن يكون غير مكلف، وإما أن يكون مكلفًا، فإن كان غير مكلف فلا خلاف في عدم اعتبار، وموافقته كالصبي والمجنون. وإن كان مكلفًا كالعوام، وطلبة العلم الذين لم يصلوا إلى درجة الاجتهاد، فهؤلاء لا يعتبر قولهم من الإجماع، وهذا هو رأي جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة: وذهب بعض العلماء إلى اعتبار قولهم في الإجماع، كأبي بكر الباقلاني والآمدي. ومنهم من قال: يعتبر قولهم في المسائل المشهورة والمعلومة من الدين بالضرورة. ومن الأدلة التي استند إليها هؤلاء: أن اسم "المؤمنين" و"الأمة" يشمل العوام، كما يشمل المجتهدين. وأجيب عنه: بأن العامي خص من هذا العموم، كما خص الصبي والمجنون. =

وهذا القول يرجع إلى إبطال الإجماع؛ إذ لا يتصور قول الأمة كلهم في حادثة واحدة. وإن تصوّر: فمن الذي ينقل قول جميعهم، مع كثرتهم وتفرقهم في البوادي والأمصار والقرى؟! ولأن العامي ليس له آلة هذا الشأن1، فهو كالصبي في نقصان الآلة، ولا يفهم من عصمة الأمة عن الخطأ: إلا عصمة من تتصور منه الإصابة لأهليته. والعامي إذا قال قولًا: علم أنه يقوله عن جهل، وليس يدري ما يقول. ولهذا انعقد الإجماع على أنه يعصي بمخالفة العلماء، ويحرم عليه ذلك. ولذلك ذم النبي -صلى الله عليه وسلم- الرؤساء الجهال الذين أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا2. وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء، وتحريم الفتوى بالجهل والهوى3.

_ = انظر: "آراء العلماء وأدلتهم في: شرح الكوكب المنير 2/ 252، شرح مختصر الروضة 3/ 31 وما بعدها، العدة 4/ 113". 1 وهي أهليته للنظر والاجتهاد. 2 يشير بذلك إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم -أو لم يُبق عالمًا- اتخذ الناس رؤساء -وفي بعض الروايات رءوسًا- جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا". 3 مثل قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] =

فصل: فيمن يعتبر في الإجماع من أصحاب العلوم

فصل: [فيمن يعتبر في الإجماع من أصحاب العلوم] ومن يعرف من العلم ما لا أثر له في معرفة الحكم، كأهل الكلام، واللغة، والنحو ودقائق الحساب: فهو كالعامي لا يعتد بخلافه، فإن كل أحد عامي بالنسبة إلى ما لم يحصل علمه، وإن حصل علمًا سواه1. فأما الأصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع، والفقيه الحافظ لأحكام الفروع، من غير معرفة بالأصول، أو النحوي إذا كان الكلام في

_ و [الأنبياء: 7] وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... } [النساء: 83] . وروى جابر بن عبد الله قال: "خرجنا في سفر، فأصاب رجلًا منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بذلك، فقال: "قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتمم ويعصر -أو يعصب- على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" أخرجه أبو داود "336" وابن ماجه "572" والدارمي "1/ 157" وأحمد "3056" والطبراني "11472" وله طرق أخرى كثيرة. 1 وهو رأي الجمهور العلماء. قال الطوفي: "ويعتبر في إجماع كل فن قول أهله، كالفقيه في الفقه، والأصولي في الأصول، والنحوي في النحو، والطبيب في الطب، إذ غير أهل ذلك الفن، بالإضافة إلى ذلك الفن عامة". ثم قال: "وعلى قول القاضي أبي بكر ينبغي أن يعتبر في الإجماع في فن إجماع أهل سائر الفنون؛ لأن أسوا أحوالهم أن يكونوا كالعامة، وهو يعتبر قولهم" شرح المختصر "3/ 36".

مسألة تنبني على النحو: فلا يعتد بقولهم -أيضًا-. وقال قوم: لا ينعقد الإجماع بدونهم؛ لأن الأصولي -مثلًا- العارف بمدارك الأحكام، وكيفية تلقيها من المفهوم والمنطوق، وصيغة الأمر والنهي، والعموم: متمكن من درك الأحكام إذا أراد، وإن لم يحفظ الفروع1. وآية ذلك2: أن "العباس"3........................................

_ 1 قوله "فأما الأصولي ... إلخ" هذا متفرع على مسألة تجزؤ الاجتهاد، فمن أجاز ذلك أجاز أن يكون قول هؤلاء معتبرًا، لأن كلًّا منهم وإن لم يكن أهلًا للاجتهاد في جميع المسائل، لكنه أهل للاجتهاد في بعضها، مثل: أن يبني الأصولي وجوب الزكاة على أن الأمر للفور، ويبني النحوي مسائل الشرط في الطلاق على باب الشرط والجزاء. ومن منع تجزؤ الاجتهاد منع ذلك. قال الطوفي: "والأشبه بالصواب، وما دل عليه الدليل، اعتبار قول الأصولي والنحوي فقط، دون الفقيه الصرف؛ لتمكّنهما من إدراك الحكم بالدليل، هذا بقواعد الأصول، وهذا بقواعد العربية، لأن علمهما من مواد الفقه وأصوله، فيتسلطان به عليه، ولأن مباحث الأصول والعربية عقلية، وفيهما من القواطع كثير، فيتنقح بهما الذهن، ويقوى بهما استعداد النفس لإدراك التصورات والتصديقات حتى يصير لها ذلك ملكة، فإذا توجهت إلى الأحكام الفقهية أدركتها". المصدر السابق ص39. 2 يقصد بذلك: الاستدلال على أنه يعتد بخلاف من لم يصل إلى درجة من العلم كما وصل بعض الصحابة، وأجرى مقارنة بين العباس، وطلحة، والزبير، وبين العبادلة: كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، وبعضهم كان من أهل الشورى الذين عينهم عمر بن الخطاب، كعبد الله بن عمر وغيره. 3 هو: العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، كان من أكابر قريش في =

و "طلحة"1 و"الزبير" ونظراءهم ممن لم ينصب نفسه للفتيا نصب العبادلة، وزيد بن ثابت ومعاذ: يعتد بخلافهم. وكيف لا يعتد بهم وهم يصلحون للإمامة العظمى، وقد سمّي بعضهم في الشورى، ولم يكونوا يحفظون الفروع، بل لم تكن الفروع موضوعة بعد. لكن عرفوا الكتاب والسنة، وكانوا أهلًا لفهمهما. والحافظ للفروع قد لا يحفظ دقائق مسائل الحيض والوصايا، فأصل هذه الفروع لأصل هذه الدقائق. ولنا3: أن من لا يعرف الأحكام لا يعرف النظير فيقيس عليه.

_ = الجاهلية، وفي الإسلام. توفي سنة 32هـ "صفة الصفوة 1/ 203". 1 هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، القرشي، التيمي، شهد أحدًا وما بعدها، أحد العشرة والمبشرين بالجنة، قتل في وقعة الجمل سنة 36هـ. "الإصابة 3/ 290". 2 هو: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي، ابن عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- أول من سل سيفًا في الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. قتل سنة 36هـ. "الاستيعاب 2/ 510-516". 3 بدأ المصنف يذكر ما يرجح مذهب القائلين بعدم تجزؤ الاجتهاد، فبين أن من لا يعرف الأحكام الشرعية لا يستطيع معرفة نظائرها، ومن يعرف النصوص الشرعية، ولا يعرف كيف تؤخذ منها الأحكام، والتي تسمى بكيفية استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، كل هؤلاء لا يمكنهم معرفة الأحكام. ثم رد على استشهاد المخالفين بالصحابة، بأن هؤلاء الصحابة كانوا على علم بالأدلة الشرعية وبكيفية استنباط الأحكام منها. ثم أورد استفهامًا على هذه المسألة، هل هي اجتهادية أو قطعية؟ فأجاب: بأنها اجتهادية، ومعنى هذا: أننا إذا اعتبرنا قول العوام ومن في حكمهم في =

ومن لا يعرف الاستنباط، مع عدم معرفته ما يستنبط منه: لا يمكنه الاستنباط. وكذلك من يعرف النصوص، ولا يدري كيف يتلقى الأحكام منها: كيف يمكنه تعرف الأحكام؟ وأما الصحابة الذين ذكروهم: فقد كانوا يعلمون أدلة الأحكام، وكيفية الاستنباط، وإنما استغنوا بغيرهم، واكتفوا بمن سواهم. فإن قيل: فهذه المسألة اجتهادية أم قطعية؟ قلنا: هي اجتهادية، فمتى جوزنا أن يكون قول واحد من هؤلاء معتبرًا فخالف: لم يبق الاجماع حجة قاطعة.

_ = الإجماع، فخالف بعضهم، لم يكن الإجماع حجة قطعية، لمخالفة البعض، وإذا لم نعتبره كان الإجماع حجة قطعية، لأن مخالفتهم كمخالفة الصبيان فلا أثر لها.

فصل: في عدم الاعتداد بقول الكافر والفاسق في الإجماع

فصل: [في عدم الاعتداد بقول الكافر والفاسق في الإجماع] ولا يعتد في الإجماع بقول كافر، سواء بتأويل أو بغيره1.

_ 1 ينقسم الكافر إلى معاند ومتأول، فالمعاند: كاليهود والنصاري ومن ارتد عن الإجماع بلا خوف. أما المتأول: وهو المستند إلى شبهة، كمبتدعة المسلمين من الخوارج والمعتزلة ونحوهما، فهؤلاء للعلماء فيهم قولان: أحدهما: عدم قبول قولهم مطلقًا. والثاني: أنهم كالكفار عند من يكفرهم، فلا يقبل قولهم بالنسبة له، ومن لا يكفرهم يقبل قولهم.

فأما الفاسق باعتقاد، أو فعل1 فقال القاضي: لا يعتد بهم2 وهو قول جماعة3؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 4. أي: عدولًا. وهذا غير عدل، فلا تقبل روايته، ولا شهادته، ولا قوله في الإجماع. ولأنه لا يقبل قوله منفردًا فكذلك مع غيره. وقال أبو الخطاب. يعتد بهم5؛ لدخولهم في قوله تعالى: { ... وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِين} . وقوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ".

_ 1 مثال الفسق بالاعتقاد: الرفض والاعتزال، والفسق بالفعل: كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما في شرح الكوكب المنير "2/ 227" وقال الطوفي: "المختار أن من كان من أهل الشهادتين فإنه لا يكفر ببدعة على الإطلاق، ما استند فيها إلى تأويل يلتبس فيه الأمر على مثله، فيقبل قول جميع مبتدعة المسلمين الذين هم كذلك، إذا عرف منهم الصدق والعدالة في بدعتهم، كما قلنا: إن الكافر العدل في دينه يلي مال ولده الصغير والمجنون؛ لأنه إذا اجتمعت العدالة مع الكفر، فمع البدعة أولى، وقد ثبت أن أئمة الحديث نقلوا أخبار كثير من أهل البدع الغليظة، لصدقهم وعدالتهم في بدعتهم. "الشرح 3/ 44". 2 انظر: العدة لأبي يعلى "4/ 1139". 3 منهم: الجصاص: والجرجاني، وكثير من علماء الحنفية وغيرهم. 4 سورة البقرة من الآية: 143. 5 هذا النقل مخالف لما في التمهيد "3/ 253" حيث قال: "والصحيح عندي أنه إذا كان من أهل الاجتهاد وارتكب بدعة كفّر بها لم يعتد بخلافه، وإن لم يكفّر بها اعتد بخلافه" وفي المسألة آراء أخرى ذكرها أيضًا، كما ذكرها أبو يعلى في العدة "4/ 1040".

فصل: في الاعتداد بقول التابعي المجتهد في إجماع الصحابة

فصل: في الاعتداد بقول التابعي المجتهد في إجماع الصحابة ... مسألة: [في الاعتداد بقول التابعي المجتهد في إجماع الصحابة] وإذا بلغ التابعي رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة اعتد بخلافه في الإجماع عند الجمهور، واختاره أبو الخطاب1. وقال القاضي وبعض الشافعية: لا يعتد به، وقد أومأ أحمد -رضي الله عنه- إلى القولين2. وجه قول القاضي: أن الصحابة شاهدوا التنزيل، وهم أعلم بالتأويل، وأعرف بالمقاصد، وقولهم حجة على من بعدهم، فهم مع التابعين كالعلماء مع العامة، ولذلك قدمنا تفسيرهم3.

_ 1 انظر: التمهيد "3/ 267" وهو رأي الحنفية والمالكية وجمهور الشافعية، وهو ما اختاره ابن عقيل، والقاضي أبو الطيب الطبري، وأبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، وابن السمعاني. وقال القاضي عبد الوهاب، الفقيه المالكي: الحق التفصيل، وهو: أن الواقعة إن حدثت للصحابة بعد أن صار التابعي من أهل الاجتهاد، كان كأحدهم لا إجماع لهم بدونه، وإن حدثت قبل أن يصير من أهل الاجتهاد، فأجمعوا على حكمها، أو اختلفوا، أو توقفوا، لم يعتد بقوله. قال الطوفي: "قلت: ونحوه اختار الآمدي، والأشبه: أنه متى أدرك الخلاف فيها، أو التوقف، اعتبر قوله فيها، اختلافًا أو اتفاقًا" شرح المختصر "3/ 62". 2 الروايتان عن الإمام أحمد ذكرهما القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1153، 1157" وأبو الخطاب في التمهيد "3/ 267، 268". 3 ذكر القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1160" عدة وجوه تأييدًا لمذهبه، وأورد أدلة المخالفين وردّ عليها، وخلص من ذلك كله: أن للصحابة -رضي الله عنهم- مزايا لا توجد في التابعين، فلا يشاركهم التابعون في هذا الفضل.

وأنكرت عائشة -رضي الله عنها- على أبي سلمة1 حين خالف ابن عباس، قالت: "إنما مثلك مثل الفروج، سمع الديكة تصيح فصاح لصياحها"2. ووجه الأول3: أنه إذا بلغ رتبة الاجتهاد: فهو من الأمة، فإجماع غيره لا يكون إجماع كل الأمة، والحجة إجماع الكل. نعم لو بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم: فهو مسبوق بالإجماع، فهو كمن أسلم بعد تمام الإجماع. ولا خلاف أن الصحابة -رضي الله عنهم- سوّغوا اجتهاد التابعين: ولهذا ولى عمر -رضي الله عنه- "شريحًا"4 القضاء وكتب إليه:

_ 1 هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته. كان ثقة كثير الحديث، روى عن أبيه وعن عثمان بن عفان وطلحة وعائشة وغيرهم. توفي سنة 94هـ. وقيل: سنة 104هـ. "تهذيب التهذيب 12/ 115". 2 مخالفة أبي سلمة لابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها سيأتي تخريجها قريبًا، وليس فيها كلام السيدة عائشة -رضي الله عنها- والذي ورد فيه ذلك هو: ما رواه مالك في الموطأ: كتاب الطهارة، باب واجب الغسل إذا التقى الختانان وفيه: "قال أبو سلمة: سألت عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يوجب الغسل؟ فقالت: هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة؟ مثل الفروج يسمع الديكة تصرخ، فيصرخ معها، إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل". 3 أي المذهب الأول وهو مذهب جمهور العلماء، من أن التابعي إذا بلغ رتبة الاجتهاد اعتد برأيه في الإجماع. 4 هو: شريح بن الحارث بن قيس، أبو أمية الكندي، الكوفي، القاضي المشهور، تولى القضاء ستين سنة مات سنة 78هـ وقيل غير ذلك بعد أن عمر طويلًا. =

"ما لم تجد في السنة فاجتهد رأيك"1. وقد علم أن كثيرًا من أصحاب عبد الله2، كعلقمة3، والأسود4، وغيرهما، وسعيد بن المسيب5، وفقهاء المدينة6 كانوا يفتون في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- فكيف لا يعتد بخلافهم؟!

_ = انظر: "تذكرة الحفاظ 1/ 58، شذرات الذهب 1/ 85". 1 كتاب عمر -رضي الله عنه- إلى شريح أخرجه وكيع في كتابه: أخبار القضاة "2/ 189" بسنده إلى الشعبي ولفظه: "عن الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح: ما في كتاب الله وقضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فاقض به، فإذا أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يقض به النبي -عليه السلام- فما قضى به أئمة العدل، وما لم يقض به أئمة العدل فأنت بالخيار، إن شئت أن تجتهد رأيك، وإن شئت تؤامرني، ولا أرى في مؤامرتك إياي إلا أسلم ذلك". كما رواه بلفظ آخر قريب مما تقدم، جاء في آخره: ".. فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يسنه رسول الله، ولم يتكلم به أحد، فاختر أي الأمرين شئت، فإن شئت فتقدم واجتهد رأيك، وإن شئت فأخره، ولا أرى التأخير إلا خيرًا لك". 2 يعني: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وتقدمت ترجمته. 3 هو: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الهمداني، تابعي، كان يشبه ابن مسعود في هديه وسمته وفضله. توفي سنة 62هـ. "تأريخ بغداد 12/ 296". 4 هو: الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، الكوفي، تابعي، روى عن الخلفاء الأربعة، كما روى عن عائشة وغيرها. توفى سنة 75هـ. وقيل غير ذلك. "تذكرة الحفاظ 1/ 50، تهذيب التهذيب 1/ 321". 5 هو: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة. توفي سنة 94هـ. "حلية الأولياء 2/ 161". 6 فقهاء المدينة هم: الذين عينهم عمر بن عبد العزيز لأخذ رأيهم في أمور المسلمين كمجلس استشاري له -رضي الله عنه- حتى روى أنه قال لهم: "إنما =

وقد روى الإمام أحمد في الزهد أن أنسًا1 سئل عن مسألة فقال: "سلوا مولانا الحسن2، فإنه غاب وحضرنا، وحفظ ونسينا"3 "وإنما

_ = دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن اقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم" وكانوا عشرة هم: 1- عبد الله بن عامر بن ربيعة توفي سنة بضع وثمانين من الهجرة. 2- عروة بن الزبير. توفي سنة 94هـ. 3- أبو بكر بن عبد الرحمن. توفي سنة 94هـ. 4- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. توفي سنة 98هـ. 5- خارجة بن زيد. توفي سنة 100هـ. 6- عبد الله بن عبد الله بن عمرو. توفي سنة 105هـ. 7- سالم بن عبد الله بن عمر. توفي سنة 106هـ. 8- سليمان بن يسار. توفي سنة 107هـ. 9- القاسم بن محمد. توفي سنة 108هـ. 10- أبو بكر سليمان بن أبي حثْمة. انظر: "تأريخ الطبري 6/ 427-428" ط. دار المعارف، عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم، ماجدة فيصل زكريا ص73 ط مكتبة الطالب الجامعية مكة المكرمة". 1 يعنى: أنس بن مالك، تقدمت ترجمته. 2 هو: الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي عالم زاهد، ولد بالمدينة المنورة في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وتوفي سنة بالبصرة سنة 110هـ. "تذكرة الحفاظ 1/ 71". 3 هذا الأثر أخرجه ابن سعد في الطبقات "7/ 176" في ترجمة الحسن البصري وفيه:....... فقالوا: يا أبا حمزة نسألك وتقول: سلوا مولانا الحسن؟! فقال: إنا سمعنا وسمع، فحفظ ونسينا" وذكر مثله الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب "2/ 264".

يفضل الصحابي بفضيلة الصحبة"1 أليس فيكم أبو الشعثاء؟ يعني: جابر بن زيد2. وروى نحوه عن جابر بن عبد الله3. وإنما فضّل الصحابي بفضيلة الصحبة4، ولو كانت هذه الفضيلة تخصص الإجماع لسقط قول متأخري الصحابة بقول متقدميهم، وقول المتقدم منهم بقول العشرة5، وقول العشرة بقول الخلفاء، وقولهم بقول أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وإنكار عائشة على أبي سلمة مخالفة ابن عباس قد خالفها أبو هريرة7 فقال: "أنا مع ابن اخي"8 هي قضية في عين،

_ 1 يبدو أن هذه الجملة مكررة ولا محل لها هنا، وأن قوله "أليس فيكم أبو الشعثاء" من تمام الأثر. والله أعلم. 2 هو: جابر بن زيد الأزدي ثم الجوفي -نسبة إلى الجوف- محلة بالبصرة، فقيه ثقة، من مشاهير علماء التابعين. توفي سنة 93هـ. "البداية والنهاية 9/ 93". 3 تقدمت ترجمته. 4 هذه الجملة تؤكد أن الجملة السابقة مكررة. 5 يقصد العشرة المبشرين بالجنة، وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة الجراح، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد. رضي الله عنهم جميعًا. 6 يريد أن يرد على الاستشهاد بالأثر المروي عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- بأنه معارض بما روي عن ابي هريرة -رضي الله عنه- من أنه وافق أبي سلمة على رأيه -كما سيأتي-. 7 هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي، المقلب بأبي هريرة، كان أكثر الصحابة حفظًا للحديث ورواية له. توفي سنة 59هـ. "تهذيب الأسماء 2/ 270". 8 أخرج هذا الأثر البخاري في كتاب التفسير، سورة الطلاق، كما أخرجه مسلم، =

يحتمل أنها أنكرت عليه ترك التأدب مع ابن عباس، أولم تره بلغ رتبة الاجتهاد، أوغير ذلك من المحتملات. والله أعلم.

_ = والترمذي والنسائي وغيرهم ولفظه: "عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كنا نتذاكر أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدة المتوفى عنها زوجها، فقال ابن عباس: أبعد الأجلين، وقلت أنا عدتها: أن تضع حملها، وقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخى، فأرسل ابن عباس غلامه "كريبًا" إلى أم سلمة يسألها فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو السنابل فيمن خطبها".

فصل: في حكم انعقاد الإجماع بقول الأكثر

فصل: [في حكم انعقاد الإجماع بقول الأكثر] ولا ينعقد الإجماع بقول الأكثرين من أهل العصر في قول الجمهور1. وقال محمد بن جرير2، وأبو بكر الرازي3: ينعقد4.

_ 1 وهو: المنقول عن أكثر الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. وهو الذي رجحه الغزالي حيث قال: "والمعتمد عندنا: أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها، وليس هذا إجماع الجميع، بل هو مختلف فيه، وقد قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشوري: 10] وانظر: المستصفى "2/ 341". 2 وهو: محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبري، الإمام الجليل والمجتهد، المطلق، جمع من العلوم ما لا يشاركه فيه أحد من أهل عصره. توفي سنة 310هـ. "وفيات الأعيان 3/ 332، شذرات الذهب 2/ 260". 3 هو: أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص، الفقيه الحنفي المشهور، ولد سنة 305هـ وتوفي سنة 370هـ. "الدرر المضية 1/ 84". 4 ونقل أبو الحسن البصرى في "المعتمد" "2/ 486" هذا الرأي عن أبي الحسين الخياط. =

وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله-. ووجهه1: أن مخالفة الواحد شذوذ، وقد نهى عن الشذوذ. وقال -عليه السلام-: "عليكم بالسواد الآعظم". وقال: "الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد". ولنا2: أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها، وليس هذا إجماع الجميع بل هو مختلف فيه، وقد قال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه} 3. وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ... } 4. فإن قيل5:

_ = وفي أصول السرخسي "1/ 316": أن رأي أبي بكر الرازي فيه تفصيل: وهو أن الأكثرين إذا سوغوا للأقل ذلك الاجتهاد لم ينعقد الإجماع، وإن أنكروا عليهم رأيهم انعقد الإجماع. ونقل الغزالي رأيًا آخر في المسألة وهو: إن بلغ عدد الأقل عدد التواتر اندفع الإجماع، وإن نقص فلا يندفع. ونقل الشوكاني في إرشاد الفحول جـ1 ص341 عن القاضي أبي بكر أنه قال: إن هذا الرأي هو الذي صح عن ابن جرير. 1 أي دليل القائلين بانعقاد الإجماع بقول الأكثر. 2 بدأ المصنف يذكر أدلة الجمهور على أن الإجماع لا ينعقد بقول الأكثرين. 3 سورة النساء من الآية: 59. 4 سورة الشورى من الآية: 10. 5 هذا اعتراض أورده المصنف على لسان المخالفين للجمهور، خلاصته: أنه قد =

قد يطلق اسم الكل على الأكثر؟ قلنا: هذا مجاز؛ لأن الجمع المعرّف حقيقة في الاستغراق، ولهذا يصح أن يقال: إنهم ليسوا كل المؤمنين، ولا يجوز التخصيص بالتحكم. وقد وردت نصوص تدل على قلة أهل الحق وذم الأكثرين: كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1 ونحوها. وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ... } 2. وقال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} 3. وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 4 وقال -صلى الله عليه وسلم- "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء".

_ = يطلق اسم الأمة وهو الكل على الأكثر، كما يقال: بنو تميم يحمون الجار، ويكرمون الضيف، ويراد به الأكثر. وأجاب المصنف على ذلك: بأن هذا من قبيل المجاز، والمجاز لا بد له من دليل، ولا دليل هنا على التخصيص، ولا يجوز التخصيص بالتحكم من غير دليل. ثم أكمل الرد بقوله بعد ذلك: "وقد وردت نصوص إلخ" ومعناه: أنه كيف تصح دعواكم والحال أنه قد وردت نصوص كثيرة تدل على قلة أهل الحق". 1 سورة الأنعام الآية: 37. 2 سورة "ص" من الآية: 24. 3 سورة البقرة من الآية: 249. 4 سورة سبأ من الآية: 13. 5 الحديث رواه مسلم "146" من حديث عبد الله بن عمر بلفظ "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود -كما بدأ- غريبًا، فطوبى للغرباء". كما رواه أحمد في المسند "1604" عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت أبي =

دليل ثان1: إجماع الصحابة على تجويز المخالفة للآحاد:

_ = يقول سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود كما بدأ فطوبى يومئذ للغرباء، إذا فسد الناس، والذي نفس أبي القاسم بيده، ليأرز الإيمان بين هذين المسجدين، كما تأرز الحية في جحرها". ومعنى: يأرز: أي ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض. والمسجدان: هما المسجد الحرام، والمسجد النبوي بالمدينة المنورة. و"بدأ" بالهمز وبدونه، معناها: الابتداء، وبدون همز معناها الظهور، قال النووي: ضبطناه بالهمز ويؤيده المقابلة بالعود، فإن العود يقابل بالابتداء. قال ابن بدران: "ومعناه: أن الإسلاكم بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال، حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة -أيضًا- كما بدأ. وحاصل الاستدلال: أنه إذا لم يكن ضابط يضبط أهل الإجماع، ولا مرد يرجع إليه عند الاختلاف، فلا خلاص إلا بقول الجميع". "نزهة الخاطر 1/ 360". 1 هذا دليل ثان لمذهب الجمهور على أن الإجماع لا ينعقد بقول الأكثر، وصرح الغزالي بذلك فقال: "الدليل الثاني: إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد، فكم من مسألة انفرد فيها الآحاد بمذهب، كانفراد ابن عباس بالعول، فإنه أنكره "المستصفى 2/ 343". ووجه الدلالة من هذا الدليل: أن ابن عباس وغيره من الصحابة خالفوا جمهور الصحابة في مسائل كثيرة، وجوز الصحابة لهم هذه المخالفة، وهذا الانفراد ببعض الآراء، ولو انعقد إجماع الصحابة بدون ذلك، لاستحال ترك النكير عليهم، وإقرارهم على مخالفة الإجماع، فدل ذلك على أن الإجماع مع مخالفة الأقل لا ينعقد وهو المدعى.

فانفرد ابن عباس بخمس مسائل في الفرائض1، وانفراد ابن مسعود بمثلها2.

_ 1 وضح المصنف -رحمه الله تعالى- هذه المسائل في المغني فقال: "فصل: حصل خلاف ابن عباس للصحابة في خمس مسائل، اشتهر قوله فيها: أحدها: زوج وأبوان. والثانية: امرأة وأبوان، للأم ثلث الباقي عندهم، وجعل هو لها ثلث المال فيهما. والثالثة: أنه لا يحجب الأم إلا ثلاثة من الأخوة "يعنى من الثلث إلى السدس". والرابعة: لم يجعل الأخوات مع البنات عصبة. والخامسة: أنه لم يُعِل المسائل، فهذه الخمس صحت الرواية عنه فيها، واشتهر عنه القول بها، وشذت عنه روايات سوى هذه ذكرنا بعضها فيما مضى" المغني "9/ 30" طبعة هجر بتحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو. ومعنى قوله "لم يعد المسائل": أنه يرى إنكار القول بالعول في الفرائض. 2 في بعض النسخ "فانفرد ابن مسعود بخمس مسائل، وانفرد ابن عباس بمثلها". والمسائل التي انفرد بها عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في الفرائض كثيرة، أشار إليها المصنف في "المغني" وجمع منها ستة مسائل في فصل واحد فقال: "وإذا كانا ابني عم، أحدهما أخ لأم، فللأخ للأم السدس، وما بقي بينهما نصفين: هذا قول جمهور الفقهاء، يروى عن عمر -رضي الله عنه- ما يدل على ذلك، ويروى ذلك عن "علي" -رضي الله عنه- وزيد وابن عباس، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، ومن تبعهم. وقال ابن مسعود: المال للذي هو أخ من أم. ثم قال: وإن كان ابن عم لأبوين، وابن عم هو أخ لأم، فعلى قول الجمهور: للأخ السدس، والباقي للآخر، وعلى قول ابن مسعود: المال كله لابن العم =

فإن قيل1: فقد أنكروا على ابن عباس القول بالمتعة2، و"إنما الربا في

_ = الذي هو أخ لأم.... فإن كان ابنا عم، أحدهما أخ من أم، وبنت ابن، فللبنت أو بنت الابن النصف، والباقي بينهما نصفين، وسقطت الإخوة من الأم بالبنت، وإن كان الذي ليس بأخ ابن عم من أبوين، أخذ الباقي كله كذلك، وعلى قول ابن مسعود: الباقي للأخ في المسألتين، بدليل أن الأخ من الأبوين يتقدم على الأخ من الأب، بقرابة الأم، فإن كان في الفريضة بنت تحجب قرابة الأم....". ثم أشار إلى أن هذه الأمثلة كلها تمثل مسألة واحدة، فقال: "فصل: فحصل خلاف ابن مسعود في مسائل ست، هذه إحداهن. والثانية: في بنت وبنات ابن وابن ابن، الباقي عنده للابن دون أخواته. الثالثة: في أخوات لأبوين وأخ وأخوات لأب، الباقي عنده للأخ دون أخواته. الرابعة: بنت وابن ابن وبنات ابن، عنده لبنات الابن الأضر بهن من السدس أو المقاسمة. الخامسة: أخت لأبوين وأخ وأخوات لأب، للأخوات عنده الأضر بهن من ذلك. السادسة: كان يحجب الزوجين والأم بالكفار والعبيد والقاتلين، ولا يورثهم. المصدر السابق ص31، 32. 1 هذا يعتبر دليلًا آخر للخصم وردًّا على ما استدل به الجمهور من تجويز الخلاف للآحاد -كما نقل عن ابن مسعود وابن عباس-، وحاصله: أنهم أنكروا على ابن عباس إباحة زواج المتعة، وحصر الربا على النسيئة حتى رجع عنهما، وأنكرت عائشة -رضي الله عنها- على زيد بن أرقم بيع العينة، وهي شراء ما بيع بأقل مما بيع عليه، ومحل الشاهد: أنه لولا أن اتفاق الأكثر حجة، لما كان لهم الإنكار عليهم. 2 أخرج البخاري: كتاب الحيل، باب الحيلة في النكاح، عن محمد بن علي: "أن =

النسيئة"1، وأنكرت عائشة على "زيد بن أرقم"2 مسألة العينة3. وأنكر ابن عباس على من خالفه في العول والجد4.

_ عليًّا -رضي الله عنه- قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسًا، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية". وروى مثله الإمام أحمد في المسند "1/ 142" والطبراني في الأوسط، وابن أبي شيبة في المصنف "4/ 292-293". 1 سبق تخريجه وأن ابن عباس قال: "أخبرني به أسامة بن زيد". 2 هو: زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، شهد الخندق وما بعدها، وشهد موقعة "صفين" مع علي -رضي الله عنه- توفي بالكوفة سنة 66هـ. "الإصابة 2/ 589". 3 يشير إلى ما أخرجه أحمد في المسند، والدارقطني في سننه: كتاب البيوع، عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين، إني بعت غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته بستمائة درهم نقدًا، فقالت لها عائشة: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، إن جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بطل، إلا أن يتوب". وله طرق أخرى كثيرة عند البيهقي "5/ 330، 331" وعبد الرزاق في المصنف "8/ 184" وابن حزم في المحلى "9/ 688-693". 4 العول في اللغة: الميل إلى الجور، والرفع. وفي الشرع: زيادة السهام على الفريضة، فتعول المسألة إلى سهام الفريضة، فيدخل النقص عليهم بقدر حصصهم. "التعريفات للجرجاني ص159". وخلاف ابن عباس في العول أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الفرائض باب أول من أعال الفرائض عمر، والبيهقي في سننه: كتاب الفرائض، باب العول في الفرائض، بسنده إلى عتبة بن مسعود قال: "دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس -بعدما ذهب بصره-، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ترون الذي أحصى رمل عالج عددًا لم يحص ما في مال نصفًا ونصفًا =

............................................................

_ = وثلثًا، إذا ذهب نصف ونصف فأين موضع الثلث؟! فقال له زفر: يا ابن عباس من أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: ولم؟ قال: لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضًا، قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم، والله ما أدري أيكم قدّم الله، ولا أيكم أخّر، قال: وما أجد في هذا المال شيئًا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص. ثم قال: ابن عباس: وأيم الله لو قدم من قدم الله، وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقال له زفر: وأيهم قدم وأيهم أخر؟ فقال: كل فريضة لا تزول إلا إلى فريضة، فتلك التي قدم الله، وتلك فريضة الزوج، له النصف، فإن زال فإلى الربع، لا ينقص منه، والمرأة لها الربع، فإن زالت عنه صارت إلى الثمن، لا تنقص منه، الأخوات لهن الثلثان، والواحدة لها النصف، فإن دخل عليهن البنات كان لهن ما بقي، فهؤلاء الذين أخر الله، فلو أعطى من قدم الله فريضته كاملة، ثم قسم ما بقي بين من أخر الله بالحصص ما عالت فريضة. فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هبته والله. قال ابن إسحاق: فقال لي الزهري: وأيم الله لولا أن تقدمه إمام هدى كان أمره على الورع ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم". وأما إنكاره على من خالفه في الجد: فإن ابن عباس وأبا بكر وغيرهما من الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يرون أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات من جميع الجهات، كما يسقطهم الأب. وكان علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- يورّثونهم معه، ولا يحجبونهم به؛ لأن الأخ ذكر يعصّب أخته، فلم يسقطه الجد، كالابن، ولأن ميراثهم ثبت بالكتاب، فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع أو قياس، وما وجد شيء من ذلك، فلا يحجبون. ولأنهم تساووا في سبب الاستحقاق فيتساوون فيه؛ فإن الأخ والجد يدليان بالأب، الجد أبوه، والأخ ابنه، وقرابة النبوة لا تنقص عن قرابة الأبوة، بل ربما كانت أقوى؛ فإن الابن يسقط تعصيب الأب، ولذلك مثّله "علي" -رضي الله عنه- بشجرة أنبتت غصنًا، فانفرق منه غصنان، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب =

قلنا: إنما أنكروا عليهم لمخالفتهم السنة المشهورة، والأدلة الظاهرة. ثم هب أنهم أنكروا عليهم، والمنفرد منكر عليهم إنكارهم، فلم ينعقد الإجماع، فلا حجة في إنكارهم1. والشذوذ يتحقق بالمخالفة بعد الوفاق. ولعله أراد به: الشاذ من الجماعة، الخارج على الإمام، على وجه

_ = منه إلى أصل الشجرة، ومثّله زيد بواد خرج منه نهر، انفرق منه جدولان، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب منه إلى الوادي. ولابن عباس ومن معه من الصحابة أدلة أخرى كثيرة، تدل على أن الجد يسمى أبًا، ويحل محله في حجب الإخوة، ولذلك قال: "ألا يتقي الله زيد؟ يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الاب أبًا". أخرجه ابن عبد البر في كتابه: "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 131" وانظر: السنن الكبرى للبيهقي "6/ 247" والمغني لابن قدامة "9/ 65 وما بعدها" طبعة هجر، تحقيق الدكتور عبد الله عبد المحسن تركي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو. 1 هذا جواب عن الدليل المتقدم وهو: إنكار الصحابة على ابن عباس، في المتعة والربا، وإنكار السيدة عائشة على زيد بن أرقم، وإنكار ابن عباس على من خالفه في العول والجد. والجواب من وجهين: الأول: أن إنكار الصحابة إنما كان بسب مخالفتهم السنة المشهورة والأدلة الظاهرة، لا لكون اتفاقهم مع مخالفة هؤلاء إجماعًا. الثاني: سلمنا بإنكار الصحابة -رضي الله عنهم- لكن المخالفين أنكروا على الصحابة إنكارهم ... ولذلك روي عن ابن عباس أنه قال: "ألا يتقي الله زيد، يجعل ولد الولد بمنزلة الولد، ولا يجعل أب الأب بمنزلة الأب، إن شاء باهلته عند الحجر الاسود"، وإذا حصل الإنكار من الطرفين فلا إجماع بل هو مختلف فيه.

يثير الفتنة1، كفعل الخوارج. وهذا الجواب عن الحديث الآخر2، والله أعلم.

_ 1 هذا جواب عن قول ابن جرير: "إن مخالفة الواحد شذوذ وهو منهي عنه". وقد أجاب عنه المصنف: بأن المراد بالشذوذ: إما أن يكون ذلك بعد الاتفاق وانعقاد الإجماع، وإما أن يكون المراد به: الشذوذ الذي يشق به صاحبه عصا الطاعة، ويخرج عن حكم الإمام، ويثير الفتن والقلاقل، كما فعل الخوارج، وهم: كل من خرج على الإمام الحق، وكان أول ظهور هذه الفرقة في عهد علي بن أبي طالب، ومن معتقداتهم، التبري من عثمان وعلي، ويكفّرون أصحاب الكبائر، ويرون وجوب الخروج على الحاكم إذا خالف السنة وغير ذلك من معتقداتهم الفاسدة. 2 وهو قوله: -صلى الله عليه وسلم- "عليكم بالسواد الأعظم" و "الشيطان مع الواحد.." إلخ.

فصل: في حكم إجماع أهل المدينة

فصل: [في حكم إجماع أهل المدينة] وإجماع أهل المدينة ليس بحجة1. وقال مالك: هو حجة، لأنها معدن العلم، ومنزل الوحي، وبها أولاد الصحابة، فيستحيل اتفاقهم على غير الحق، وخروجه عنهم2.

_ 1 وهو رأي جمهور العلماء، ولم يخالف في ذلك إلا مالك -رحمه الله تعالى-. 2 ينبغي توضيح المذهب، كما هو وارد عندهم، لأن اعتبار إجماع أهل المدينة حجة مشروط بشرطين: أحدهما: أن يكون فيما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد. ثانيهما: أن يكون من الصحابة أو التابعين، دون من بعدهم، لأن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه في حكم المرفوع، فألحق بهم مالك التابعين =

ولنا1:

_ = من أهل المدينة، لتعلّمهم ذلك عن الصحابة. أما في مسائل الاجتهاد: فالصحيح عنه أنهم كغيرهم من الأمة، وإن كان قد نقل عنه الإطلاق. قال صاحب مراقي السعود: وأوجبنْ حجية للمدني ... فيما على التوقيف أمره بُني وقيل: مطلقًا..... انظر: نثر الورود على مراقي السعود "2/ 431". ومن الأدلة التي تمسك بها الإمام مالك: الأحاديث التي وردت في فضل المدينة، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة تنفي الناس، كما ينفي الكير خبث الحديد" أخرجه البخاري: كتاب فضائل المدينة، ومسلم: في كتاب الحج، باب: المدينة تنفي شرارها بلفظ "ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد". وقد أجاب المصنف على ذلك -فيما بعد- بأن ورود مثل ذلك لا يدل على أن اتفاق أهلها حجة، فالعصمة ليست للمكان، وإلا لكانت مكة أولى بذلك من المدينة، ومساوية لها، لأنها أفضل من المدينة عند الأكثرين، وإنما العصمة للأمة جميعها. كما أجاب الجمهور عن الاستدلال بالحديث المتقدم؛ بأن هذا الحديث ورد على سبب خاص، وهو: أن أعرابيًا دخل المدينة، وبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك، فخرج بغير إذنه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن المدينة كالكير، تنفي خبثها، ويتضيع طيبها" أخرجه البخاري ومسلم أيضًا. ومعنى "يتضيع طيبها" أي: يفوح وينتشر. كما أجيب عنه بوجه ثان: هو أن الخبث في عرف اللغة لا يفيد الخطأ مطابقة، ولا تضمنًا ولا التزامًا، فكيف يستدل بالحديث على نفي الخطأ؟ انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 105، 106". 1 هذا استدلال على أن إجماع أهل المدينة ليس حجة وهو من وجهين: أحدهما: أن العصمة تثبت للأمة كلها إلخ. =

أن العصمة تثبت للأمة بكليتها، وليس أهل المدينة كل الأمة. وقد خرج من المدينة من هو أعلم من الباقين بها: كعلي، وابن مسعود، وابن عباس، ومعاذ، وأبي عبيدة، وأبي موسى، وغيرهم من

_ = الثاني: أنه قد خرج من المدينة عدد كثير من الصحابة، وهم أعلم ممن بقي بها، فكيف ينعقد إجماع بدونهم، وهم من أهل الاجتهاد، ثم ناقش أدلة المالكية، وهي واضحة. إجماع أهل الحرمين والمصرين: من المسائل التي يوردها الأصوليون، وأغفلها المصنف ما يسمى بإجماع أهل الحرمين: مكة والمدينة، والمصرين: البصرة والكوفة. فقد زعم بعض أهل الأصول أن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة مع مخالفة غيرهم؛ لأن هذه المواطن كانت محلًا لإقامة الصحابة -رضي الله عنهم-. قال الزراكشي: "وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا في كل عصر، بل في عصر الصحابة فقط". وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرزي: "قيل: إن المخالف أراد زمن الصحابة والتابعين، فإن هذا مراده فمسلم لو اجتمع العلماء في هذه البقاع، وغير المسلم أنهم اجتمعوا فيها" فإن الصحابة -رضي الله عنهم- انتشروا في مدن أخرى، كاليمن، والشام، ومصر، والعراق. وقصر الإجماع على عصر الصحابة -رضي الله عنهم- يخالف الأدلة الكثيرة التي تدل على عدم انحصار الإجماع في عصر دون عصر. وبذلك يظهر أن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء، من عدم حجية إجماع أهل الحرمين والمصرين، لأن العصمة إنما ثبتت مجتمعة، وهؤلاء بعض الأمة وليس كلها. انظر في هذه المسألة: "الأحكام لابن حزم "4/ 566" شرح المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني "2/ 158" إرشاد الفحول جـ1 ص321 الطبعة المحققة.

الصحابة، فلا ينعقد الإجماع بدونهم. وقوله: "يستحيل خروج الحق عنهم" تحكم؛ إذ لا يستحيل أن يسمع رجل حديثا من النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، أو في المدينة، ثم يخرج منها قبل نقله. وفضل المدينة لا يوجب انعقاد الإجماع بأهلها، فإن مكة أفضل منها، ولا أثر لها في الإجماع. ولأن إجماعهم لو كان حجة، لوجب أن يكون حجة في جميع الأزمنة. ولا خلاف في أن قولهم لا يعتد به في زماننا فضلًا عن أن يكون إجماعًا.

_ 1 خلاصة هذا الفصل: أنه لو اتفق الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- على أمر من الأمور بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخالفهم غيرهم، لا يعد ذلك إجماعًا، وهذا هو رأي الجمهور. وحجتهم على ذلك: ما ذكره المصنف -قبل ذلك- من أن العصمة عن الخطأ =

فصل: في حكم إجماع الخلفاء الأربعة

فصل: [في حكم إجماع الخلفاء الأربعة] واتفاق الأئمة الخلفاء الأربعة ليس بإجماع. وقد نقل عن أحمد -رحمه الله- ما يدل على أنه لا يخرج من قولهم إلى قول غيرهم. والصحيح: أن ذلك ليس بإجماع؛ لما ذكرناه. وكلام أحمد -في إحدى الروايتين عنه- يدل على أن قولهم حجة، ولا يلزم من كل ما هو حجة ان يكون إجماعًا.

..............................................

_ = إنما تثبت للأمة كلها، والخلفاء الأربعة ليسوا كل الأمة، وهذا ما أشار إليه بقوله: "والصحيح أن ذلك ليس بإجماع لما ذكرناه". والمنقول عن الإمام أحمد عدة روايات. الأولى: كالجمهور، وهو أن اتفاقهم ليس إجماعًا. الثانية: أنه حجة وليس إجماعًا، ومعنى هذا: أنه لا يلزم من كونه حجة وجوب اتباعه، وإلزام الغير به، غاية الأمر أنه يجوز للمجتهد أن يعمل به وحده ولا يلزم غيره به. الرواية الثالثة: أنه حجة وإجماع، نقل ذلك الفتوحي وقال: "اختاره ابن البنا من أصحابنا وأبو خازم -بالمعجمتين- وكان قاضيًا حنفيًّا، وحكم بذلك زمن المعتضد "الخليفة العباسي ت289هـ" في توريث ذوي الأرحام، فأنفذ حكمه، وكتب به إلى الآفاق، ولم يعتبر خلاف زيد في ذلك، بناء على أن الخلفاء الأربعة يورثونهم ... "شرح الكوكب المنير "2/ 239-241" وانظر: تاريخ الخلفاء ص368. هذا، ولم يذكر المصنف هنا مسألتين توردهما كتب الأصول كلها وهما: المسألة الأولى: أبو بكر وعمر -رضي الله عنه- هل هو: إجماع أو لا؟. المسألة الثانية: هل ينعقد الإجماع بالعترة وهم: آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا؟ أما بالنسبة لاتفاق الخليفتين: أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فجمهور العلماء على أن اتفاقهما ليس إجماعًا، لأن العصمة إنما تثبت للأمة مجتمعة، وهما ليسا كل الأمة، وإذا لم نعتبر اتفاق الخلفاء الأربعة حجة، فمن باب أولى عدم اعتبار قول الشيخين -رضي الله عنهما-. وذهب بعض العلماء إلى أن اتفاقهما يعتبر إجماعًا، مستدلين بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" وراه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث حذيفة بن اليمان. انظر: "تلخيص الحبير 4/ 190". وأجاب الجمهور عن هذا الاستدلال: بأن المقصود من الحديث أنهم أهل للاقتداء بهم، لا على أن قولهم حجة على غيرهم، فإن المجتهد متعبد بالبحث =

.................................................

_ = عن الدليل حتى يظهر له ما يظنه حقًّا. كما أن الحديث معارض بأحاديث أخرى تفيد حجية قول بعض الصحابة منفردًا، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد" وهو: عبد الله بن مسعود، رواه الطبراني ورجاله ثقات "مجمع الزوائد 9/ 260". وقوله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي عبيدة بن الجراح: "إنه أمين هذه الأمة" رواه البخاري ومسلم. فلو كان الحديث الخاص بالشيخين دالًّا على أن قولهما يعتبر إجماعًا، لكان هذان الحديثان دالين على حجية قول ابن مسعود وحده، وقول أبي عبيدة وحده حجة، وهذا غير مسلم. انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 36" وشرح مختصر الروضة "3/ 102". إجماع آل البيت: أما مسألة إجماع العترة، وهم: آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-: علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء، بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحسن، والحسين -رضي الله عنهم جميعًا-، وهم الذين نزل فيهم قول الله -تعالى-: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] . فقد روي أنه لما نزلت هذه الآية أدار النبي -صلى الله عليه وسلم- الكساء وقال: "هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا" رواه الترمذي عن عمر بن أبي سلمة، ورواه أحمد والحاكم وصححه، وابن جرير الطبري عن أم سلمة، ورواه مسلم من حديث عائشة. انظر: مسند الإمام أحمد "6/ 296" صحيح مسلم "4/ 1883" تحفة الأحوذي "9/ 66". وجمهور العلماء على أن اتفاقهم ليس إجماعًا، لأنهم ليسوا كل الأمة، والعصمة إنما ثبتت للأمة مجتمعة، متمثلة في اتفاق مجتهديها. وذهبت الشيعة إلى أن اتفاقهم يعتبر إجماعًا، واستدلوا على ذلك بالآية المتقدمة، وقالوا: إن الله -تعالى- أخبر عن نفي الرجس عن أهل البيت، =

...............................................................

_ = والخطأ رجس، فيكون منفيًّا عنهم، وإذا انتفى عنهم الخطأ كان إجماعهم حجة. ورد عليهم: بأنه لم يقل أحد: إن الخطأ رجس، فالرجس -في اللغة- هو القذر أو العذاب، فلا دلالة في الآية على المدعي. كما استدلوا بأحاديث تدل على فضلهم وشرفهم، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إني تارك فيكم الثقلين، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي". أخرجه أحمد في المسند "3/ 17" والحاكم "3/ 148" والطبراني في الكبير "5/ 190، 205، 210" وفي الصغير "1/ 131" ورواه الترمذي بلفظ "إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي: أهل بيتي". وأجاب الجمهور على هذا: أولًا: أن هذا خبر آحاد، وليس حجة عند الشيعة. ثانيًا: ومع التسليم بأنه حجة، فلا نسلم أن المراد بالثقلين: القرآن والعترة وإنما المراد: القرآن والسنة، كما في الرواية الأخرى: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله" أخرجه مالك في الموطأ. وإنما خص -صلى الله عليه وسلم- العترة بالذكر؛ لأنهم أخبر بحاله -صلى الله عليه وسلم-. ثالثًا: على أن أقصى ما تدل عليه هذه الرواية: إنما هو بيان فضلهم وشرفهم، وهذا أمر لم ينازع فيه أحد، وفرق بين الفضيلة والحجية، على نحو ما سبق في إجماع الخلفاء الأربعة والشيخين. قال الطوفي: "أقرب ما يسلك في الرد على الإمامية في هذه المسألة:.... أن يقال: إذا خالف أهل البيت باقي الأمة في حكم، فإما أن يعتبر القولان، أو يلغيا جميعًا، وهو باطل باتفاق، أو يقدم قول أهل البيت، وهو ضعيف لوجهين: أحدهما: أنه مخالف لقوله عليه السلام: "اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار". الثاني: أن إصابة آحاد يسيرة، وخطأ الجم الغفير بعيد جدًّا. شرح مختصر الروضة "3/ 116". وبذلك يترجح قول الجمهور، وهذا هو الذي عليه العمل والله أعلم.

فصل: هل انقراض العصر شرط لصحة الإجماع

فصل: هل انقراض العصر شرط لصحة الإجماع ... مسألة: [هل انقراض العصر شرط لصحة الإجماع] ؟ ظاهر كلام أحمد -رحمه الله-: أن انقراض أهل العصر شرط في صحة الإجماع، وهو قول بعض الشافعية1. وقد أومأ إلى أن ذلك ليس بشرط، بل لو اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة واحدة: انعقد الإجماع. وهو قول الجمهور واختاره أبو الخطاب2.

_ 1 وهؤلاء اختلفوا في كيفية الانقراض: فمنهم من اشترط انقراض جميع أهل العصر، ومنهم من اشتراط انقراض الأكثر، وهو الماوردي، ومنهم من اشترطه في إجماع الصحابة دون غيرهم. انظر: التقرير والتحبير "3/ 87". 2 وهو رأي الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهو المنقول عن أكثر الحنفية والمتكلمين. وفي المسألة مذاهب أخرى: فقيل: يشترط ذلك في الإجماع السكوتي دون غيره، وهو مذهب أبي إسحاق الإسفراييني واختاره الآمدي؛ لاحتمال أن يكون السكوت من أجل التأمل والنظر، وإظهار الخلاف بعد سكوت دليل على هذا الاحتمال، بخلاف الإجماع القولي أو الفعلي، فليس فيهما هذا الاحتمال. وقيل: إن كان مستند الإجماع دليلًا قطعيًّا فلا يشترط فيه الانقراض، أما إن كان عن دليل ظني اشترط فيه ذلك. وهو مذهب إمام الحرمين. وقيل: إن كان المجمع عليه من الأحكام التي لا يتعلق بها إتلاف واستهلاك اشترط فيه انقراض العصر، وإن تعلق بها ذلك فوجهان، وهو مذهب الماوردي. وقيل: إن كان الإجماع مطلقًا لم يشترط الانقراض، وإن كان معلقًا على شرط اعتبر، مثل أن يقول المجمعون: هذا قولنا، ويجوز أن يكون الحق في غيره، فإذا وضح نظرنا إليه، وهو منقول عن بعض الشافعية. =

وأدلة ذلك أربعة: أحدها: أن دليل الإجماع: الآية والخبر1، وذلك لا يوجب اعتبار العصر. الثاني: أن حقيقة الإجماع: الاتفاق، وقد وجد، ودوام ذلك استدامة له، والحجة في اتفاقهم، لا في موتهم. الثالث: أن التابعين كانوا يحتجون بالإجماع في زمن أواخر الصحابة كأنس2 وغيره، ولو اشترط انقراض العصر: لم يجز ذلك. الرابع: أن هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع، "فإنه إن بقي واحد من الصحابة: جاز للتابعي المخالفة؛ إذ لم يتم الإجماع"3. وما دام واحد من عصر التابعي "باق بها"4 لا يستقر الإجماع منهم، فلتابعي التابعين مخالفتهم، وهذا خبط5.

_ = انظر في هذه المذاهب: البرهان "1/ 693" والإحكام للآمدي "1/ 231"، المسودة لآل تيمية ص320، أدب القاضي للماوردي "1/ 474"، التمهيد لأبي الخطاب "3/ 346-347". 1 أما الآية: فقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ... } . وأما الخبر: فالأحاديث الكثيرة التي دلت على عصمة الأمة عن الخطأ، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجتمع أمتي على خطأ". 2 أي: أنس بن مالك حيث توفي سنة 93هـ "صفة الصفوة 1/ 298". 3 ما بين القوسين من المستصفى "2/ 372" ومن النسخة التي حققها الدكتور: عبد الكريم النملة -يحفظه الله-. "2/ 483". 4 ما بين القوسين من المستصفى. 5 وعبارة الغزالي: "وهذا خبط لا أصل له" وفي هذا دلالة على أن ابن قدامة ينقل كلام الغزالي ويختصر منه بعض العبارات.

ووجه الأول: أمران: أحدهما: ذكره الإمام احمد: وهو أن أم الولد كان حكمها حكم الأمة بإجماع، ثم أعتقهن "عمر" وخالفه "علي" بعد موته1. وحد الخمر: كان في زمن أبي بكر أربعين، ثم جلد "عمر" ثمانين، ثم جلد "علي" أربعين2، ولو لم يشترط انقراض العصر لم يجز ذلك. الثاني: أن الصحابة لو اختلفوا على قولين: فهو اتفاق منهم على

_ 1 خلاصة الدليل الأول: أنه لو لم يشترط انقراض العصر، لما جاز للمجتهد الرجوع عما وافق عليه المجمعين، لاستقرار الإجماع قبل رجوعه، فيكون محجوجًا به، لكن ذلك جائز وواقع فعلًا، كالأمثلة التي ذكرها المصنف. ومنها: أن الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعوا في زمن عمر -رضي الله عنه- على أن أم الولد تعتق بموت سيدها ولا تباع، ثم خالف "علي" هذا الإجماع بعد موت "عمر" وأجاز بيعها كالأمة، كما كانت قبل الإجماع. والأثر المروي في ذلك: عن عبيدة السلماني قال: "سمعت عليًّا يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، قال: ثم رأيت بعد أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة". أخرجه عبد الرزاق في المصنف: باب بيع أمهات الأولاد، وابن أبي شيبة في مصنفه: كتاب البيوع والأقضية، باب في بيع أمهات الأولاد، والبيهقي في سننه الكبرى: كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الخلاف في أمهات الأولاد. 2 روى مسلم: كتاب الحدود، باب حد الخمر، "أن عثمان -رضي الله عنه- لما أراد إقامة الحد على الوليد بن عقبة- لما شرب الخمر- قال لعلي -رضي الله عنه-: قم فاجلده، فقال على: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولّ حارها من تولى قارّها، "فكأنه وجد عليه" فقال: يا عبد الله بن جعفر: قم فاجلده، فجلده، وعلي يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد =

تسويغ الخلاف، والأخذ بكل واحد من القولين فلو رجعوا إلى قول واحد صارت المسألة إجماعًا. ولو لم يشترط انقراض العصر: لم يجز ذلك؛ لأنه يفضي إلى خطأ أحد الإجماعين1. فإن قيل: لا نسلم تصور وقوع هذا، لكونه يفضي إلى خطأ أحد الإجماعين. ثم إن سلمنا تصوره، فلا نسلم أن اختلافهم إجماع على تسويغ الخلاف، بل كل طائفة تقول: الحق معنا والأخرى مخطئة، وإنما سوّغت للعامي أن يستفتي كل أحد حتى لا يتحرّج، فإذا اتفقوا زال القول الآخر، لعدم من يفتي به. الثالث2: لا نسلم أن إجماعهم بعد الاختلاف إجماع صحيح.

_ = النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سُنة، وهذا أحب إلي". 1 هذا هو الدليل الثاني لمذهب القائلين باشتراط انقراض العصر، خلاصته أنه لو لم يشترط انقراض العصر لما كان اتفاق المجمعين على أحد القولين في المسألة بعد اختلافهم فيها إجماعًا، إذ يلزم منه تعارض الإجماعين، وهو باطل، إذ إن اختلافهم في مسألة على قولين إجماع منهم على تسويغ الخلاف، فإذا رجعوا إلى أحد القولين واتفقوا عليه، صار ذلك إجماعًا على عدم تسويغ الخلاف، بل حصروا الحكم في أحد القولين، فصار الإجماع الثاني معارضًا للإجماع الأول، وتعارض الإجماعين باطل، لأن كلًّا منهما قاطع، والقواطع المعصومة لا تتعارض، لكن اتفاقهم على أحد القولين بعد اختلافهم في المسألة إجماع صحيح، ولا يلزم منه محال، وقد وقع، كاتفاق الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وعلى أن الأئمة من قريش بعد اختلافهم فيهما وفي أمثالهما. 2 الثالث من وجوه الاعتراض التي بدأها بقوله: "فإن قيل.." وكان على =

قلنا1. هذا متصور عقلًا، إذ لا يمتنع أن يتغير اجتهاد المجتهد، ولا نحجر عليه أن يوافق مخالفه، فمن ذهب إلى تصحيح النكاح بغير ولي، لِمَ لا يجوز أن يوافق من أبطله إذا ظهر له دليل بطلانه؟ وإذا انفرد الواحد عن الصحابة، كانفراد ابن عباس في مسألة العول، لم لا يجوز أن يرجع إلى قولهم؟ وقد أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على قتال مانعي الزكاة بعد الخلاف2.

_ = المصنف أن يقول: فإن قيل: هذا عليه اعتراض من ثلاثة وجوه: هي: كذا وكذا. 1 بدأ المصنف يرد على الاعتراضات المتقدمة، فبين أنها قائمة على تصور عقلي محض، وأن الواقع يكذبها ثم أتى بأمثلة تؤيد ذلك. 2 قصة اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في قتال مانعي الزكاة أخرجها مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتي يقولوا: لا إله إلا الله وأبو داود في سننه: كتاب الجهاد، باب علام يقاتل المشركون؟ والدراقطني في سننه، كتاب الزكاة، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله عز وجل" قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب: "فوالله ما هو إلا أن رأيت الله -عز وجل- قد شرح صدر أبي بكر للقتال قال: "فعرفت أنه الحق".

وعلى أن: "الأئمة من قريش". وعلى إمامة "أبي بكر" -رضي الله عنه- بعد الخلاف2. ولا خلاف في تجويز ذلك في القطعيات، فلمَ لا يجوز في الظنيات؟

_ 1 حديث: "الأئمة من قريش" أخرجه أحمد في المسند "3/ 129" والنسائي في سننه الكبرى حديث رقم "2525" والطبراني في المعجم الكبير حديث "725"، والبزار في كشف الأستار، كتاب الإمارة، باب الناس تبعًا لقريش حديث "1578" والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب قتال أهل البغي، باب الأئمة من قريش "8/ 144"، من حديث أنس بن مالك. ورواه الطبراني، والحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر فضائل قريش "4/ 75، 76" والبيهقي من حديث "علي" -رضي الله عنه-. واختلف في رفعه ووقفه على "علي" ونقل الحافظ عن الدراقطني أنه رجح في العلل الموقوفة. ورواه أحمد وأبو بكر بن أبي شيبة، من حديث أبي برزة، وإسناد الأخيرين حسن. كما قال الحافظ ابن حجر. وللحديث روايات أخرى بألفاظ مختلفة. 2 قصة اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- فيمن يتولى الخلافة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشهورة، أخرجها ابن سعد في طبقاته "3/ 183" وأبو يعلى في كتابه "المعتمد في أصول الدين" ص224. وجاء في هذه القصة: أن عليًّا -رضي الله عنه- قال: "ولكن إن نبيكم نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- لم يمت فجأة، ولم يقتل قتلًا، مرض أيامًا وليالي، يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة، فيقول: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" وهو يرى مكاني، فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرنا في أمرنا: أن الصلاة عضد الإسلام وقوام الدين، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا، فولينا الأمر أبا بكر".

ومنْع ذلك1؛ بناء على تعارض الإجماعين ينبني على أن الإجماع تم في بعض العصر، وهو محل النزاع، فكيف يجعل دليلًا عليه؟ والثاني باطل؛ إذ لا خلاف أن فرض المجتهد في مسائل الاجتهاد: ما يؤديه إليه اجتهاده. وفرض المقلد: تقليد أي المجتهدين شاء. والثالث: دليله: إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر، بعد الاختلاف، فدل على صحته.

_ 1 من هنا بدأ المصنف يناقش الاعتراضات الثلاثة المتقدمة، فقوله: "ومنع ذلك ... إلخ" رد على الاعتراض الأول، فبين أنه استدلال، بمحل النزاع فلا يصح أن يكون دليلًا. وقوله: "والثاني باطل.." رد على الاعتراض الثاني، وهو قوله -قبل ذلك- "ثم إن سلمنا تصوره إلخ". وقوله: "والثالث" رد على الاعتراض الثالث الذي قال فيه: "إن إجماعهم بعد الاختلاف إجماع غير صحيح" فرد عليه المصنف بأن ذلك وقع من الصحابة كثيرًا، فدل على أنه صحيح.

خلافًا لداود1، وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى نحو ذلك2، لأن الواجب: اتباع سبيل المؤمنين جميعهم، والصحابة وإن ماتوا: لم يخرجوا من المؤمنين ولا من الأمة. ولذلك: لو أجمع التابعون على أحد قولي الصحابة، لم يصر إجماعًا، ولا ينعقد الإجماع دون الغائب، فكذلك الميت3. ومقتضى هذا4 أن لا ينعقد الإجماع -أيضًا- للصحابة، لكن لو

_ 1 هو: داود بن على بن خلف، الأصبهاني أصلًا، الكوفي مولدًا، البغدادي نشأة ووفاة، إمام أهل المذهب الظاهري، ولد سنة 202هـ. من مؤلفاته "إبطال القياس" توفي سنة 270هـ. انظر: وفيات الأعيان "2/ 26" شذرات الذهب "2/ 158". 2 أي أن الرواية الثانية عن الإمام أحمد أنه مع أهل الظاهر في أن إجماع الصحابة فقط هو الحجة، وإن كانت الرواية ليست صريحة كالرواية الأولى، وإن كان يعتبر في الإجماع الغائب دون الميت، خلافًا للظاهرية. 3 انظر: الإحكام للآمدي "1/ 256" والمستصفى "1/ 192". 4 هذا اعتراض توقع الظاهرية وروده عليهم، فذكروه ثم ردوا عليه، وخلاصة الاعتراض: أن يقول لهم قائل: يلزم على دليلكم أن لا ينعقد إجماع بعد موت بعض الصحابة، مثل: سعد بن معاذ، وحمزة بن عبد المطلب وغيرهما ممن استشهدوا من المهاجرين والأنصار، ممن كانوا موجودين عند نزول قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن إجماع، من وراءهم ليس إجماع جميع المؤمنين، ولا إجماع كل الأمة، كما يلزم على ذلك -أيضًا- أن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزول الآية الكريمة. فأجابوا عن ذلك بقولهم: نعم لو اعتبرنا ذلك لم ينعقد إجماع قط، فلم ينتفع بالإجماع، لذلك نعتبر قول من دخل في الوجود دون من لم يوجد، بمعنى: أنهم فرقوا بين السابق وهو الميت، وبين اللاحق، فإن الميت ثبت قوله واستقر ورتبت عليه الأحكام، بخلاف اللاحق، فإنه لم يوجد بعد، فضلًا عن أن يكون له اجتهاد. انظر: نزهة الخاطر "1/ 373" والمستصفى "2/ 355 وما بعدها".

اعتبرنا ذلك: لم ينتفع بالإجماع، فاعتبرنا قول من دخل في الوجود، دون من لم يوجد. أو نقول: الآية والخبر تناولا الموجودين الذين كان وجودهم حين نزول الآية؛ إذ المعدوم لا يوصف بإيمان، ولا أنه من الأمة. ولأنه يحتمل: أن يكون لبعض الصحابة في هذه الحادثة قول لم نعلمه يخالف ما أجمع عليه التابعون، فلا ينعقد إجماعهم بخلافه. ولنا: ما ذكرناه من الأدلة على قبول الإجماع، من غير تفريق بين عصر وعصر. والتابعون إذا أجمعوا: فهو إجماع من الأمة، ومن خالفهم سالك غير سبيل المؤمنين. ويستحيل -بحكم العادة- شذوذ الحق عنهم -مع كثرتهم- كما سبق. ولأنه إجماع أهل العصر فكان حجة كإجماع الصحابة. وما ذكروه باطل: إذ يلزم على مساقه: أن لا ينعقد الإجماع بعد موت من مات من الصحابة في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده، بعد نزول الآية، كشهداء أحد، واليمامة، ولا خلاف في أن موت واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع. وكما بطل -على القطع- الالتفات إلى اللاحقين: بطل الالتفات إلى الماضين، فالماضي لا يعتبر، والمستقبل لا ينتظر. "فثبت أن وصف"1 كلية الأمة حاصل لكل الموجودين في كل

_ 1 ما بين القوسين من المستصفى "2/ 357" والذي في الأصل: "وكلية الأمة =

وقت، ويدخل في ذلك الغائب، لأنه ذو مذهب تمكن مخالفته وموافقته بالقوة، والميت لا يتصور في حقه وفاق ولا خلاف، لا بالقوة ولا بالفعل1. بل الطفل والمجنون لا ينتظر؛ لأنه بطل منه إمكان الوفاق والخلاف، فالميت أولى، وما ذكر من احتمال مخالفة واحد من الصحابة، يبطل بالميت الأول من الصحابة فإن إمكان خلافه لا يكون كحقيقة مخالفته. وهذا هو التحقيق "وهو أنه"2 لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج؛ إذ ما من حكم إلا ويتصور تقدير نسخه، "وانفراد الواحد بنقله وموته قبل أن ينقل إلينا"3. وإجماع الصحابة يحتمل أن يكون واحد منهم أضمر المخالفة وأظهر الموافقة لسبب، أو رجع بعد أن وافق. والخبر يحتمل أن يكون كذبًا، فلا يلتفت إلى هذه الاحتمالات.

_ = حاصلة" ومعناه: أن سائر خطابات التكليف تعم الحاضرين ومن بعدهم إلى يوم الدين، ولم يختص بمن كان حاضرًا. 1 يعني: أن الغائب يعتبر قوله كالحاضر؛ لأنه تمكن مراجعته واستعلام رأيه في الواقعة بالمراسلة، او انتظار رجوعه، فيؤخر الإجماع لحين عودته، بخلاف الميت. 2 ما بين القوسين من المستصفى "2/ 359" وفي المطبوعة "وهذا التحقيق لأنه ... ". 3 ما بين القوسين في المستصفى والذي في الأصل: "إذ ما من حكم إلا يتصور تقدير نسخه ولم ينقل".

فصل: هل اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة إجماع؟

فصل: [هل اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة إجماع؟] وإذا اختلف الصحابة على قولين، فأجمع التابعون على أحدهما1: فقال أبو الخطاب، والحنفية: يكون إجماعًا2. لقوله عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق" 3 وغيره من النصوص. ولأنه: اتفاق من أهل عصر، فهو كما لو اختلف الصحابة على قولين ثم اتفقوا على أحدهما.

_ 1 قال الطوفي في شرح المختصر "3/ 95": "وليس ذلك مخصوصًا بالتابعين مع الصحابة، بل أي عصر من الأعصار اختلف أهله، يصح اتفاق أهل العصر بعده على أحد القولين؟ ولا نزاع في إمكان تصور ذلك عقلًا، بل في صحته شرعًا". 2 وهو رأي كثير من المتكلمين والمعتزلة، وأكثر الحنفية، وليس الكل كما قال المصنف. انظر: التمهيد "3/ 297 وما بعدها" وأصول السرخسي "1/ 320". 3 حديث صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- مرفوعًا، بلفظ: "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون". كما أخرجه مسلم-: كتاب الإمارة، باب: لا تزال طائفة من أمتي. وأخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في الأئمة المضلين، عن ثوبان -رضي الله عنه- مرفوعًا، وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عن ثوبان -أيضًا- أبو داود في أول كتاب الفتن، وأحمد في المسند "5/ 278" كما أخرجه عن أبي أمامة -رضي الله عنه- "5/ 269".

وقال القاضي، وبعض الشافعية: لا يكون إجماعًا؛ لأنه فتيا بعض الأمة؛ لأن الذين ماتوا على القول الآخر من الأمة لا يبطل مذهبهم بموتهم1. ولذلك يقال: خالف أحمد، أو وافقه، بعد موته فأشبه ما إذا اختلفوا على قولين، فانقرض القائل بأحدهما. فإن قيل: إن ثبت نعت الكلية للتابعين، فيكون خلاف قولهم حرامًا، وإن لم يكونوا كل الأمة فلا يكون قولهم إجماعًا. أما أن يكونوا كل الأمة في شيء دون شيء فهذا متناقض. قلنا: الكلية2 تثبت بالإضافة إلى مسألة حدثت في زمنهم. أما ما أفتى به الصحابي: فقوله لا يسقط بموته3. ولو مات القائل "فأجمع الباقون على خلافه، لا يكون إجماعًا، ولو حدثت مسألة بعد موته"4 فأجمع عليها الباقون على خلافه كان إجماعًا. ومن وجه آخر: أن اختلاف الصحابة على قولين: اتفاق منهم على تسويغ الأخذ بكل منهما، فلا يبطل إجماعهم بقول من سواهم.

_ 1 انظر: العدة "4/ 1105" مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد "2/ 41". 2 أي: الأمة كلها، وهذا يصدق على من حدثت المسالة في زمنهم. 3 يقول الإمام الشافعي: "المذاهب لا تموت بموت أربابها". 4 ما بين القوسين من النسخة التي حققها الدكتور عبد الكريم النملة -سلمه الله- "2/ 466".

فصل: اختلاف الصحابة على قولين يمنع إحداث قول ثالث

فصل: [اختلاف الصحابة على قولين يمنع إحداث قول ثالث] إذا اختلف الصحابة على قولين: لم يجز إحداث قول ثالث في قول الجمهور1. وقال بعض الحنفية، وبعض أهل الظاهر: يجوز2؛ لأمور ثلاثة: أحدها: أن الصحابة خاضوا خوض مجتهدين، ولم يصرحوا بتحريم قول ثالث.

_ 1 ظاهر كلام المصنف قصر الخلاف في هذه المسألة على عصر الصحابة مع التابعين، والذي في كتب الأصول عدم التخصيص بعصر الصحابة، ولذلك يعبرون عنها بقولهم: "إذا اختلف أهل العصر على قولين امتنع على من بعدهم إحداث قول ثالث" فلا أدري ما السبب الذي جعل المصنف يقصر المسألة على عصر الصحابة وحدهم؟ قال ابن مفلح: "كما لو أجمعوا على قول واحد، فإنه يحرم إحداث قول ثان، ونص عليه الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في الرسالة". انظر: الرسالة ص596، شرح الكوكب المنير "2/ 264". 2 ومعهم الشيعة أيضًا، وهو رواية أخرى عن الإمام أحمد. انظر: التمهيد "3/ 311". وهناك رأي ثالث مروي عن الشافعي، واختاره المتأخرون من أصحابه، ورجحه كثير من الأصوليين، منهم: ابن الحاجب، والقراقفي، والرازي، وابن السبكي، والطوفي وغيرهم، وهو: أنه إن رفع حكمًا مجمعًا عليه حرم إحداثه، وإن لم يرفع حكمًا مجمعًا عليه جاز إحداثه: فمن أمثلة الأول: القول بأن الأخ يحجب الجد، فهذا لا يجوز؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في ذلك على قولين، فمنهم من جعله بمنزلة الأب، فيحجب الأخ، ومنهم من شرّك بينه وبين الإخوة -على خلاف بينهم في مقدار هذا التشريك- فكأن الصحابة -رضي الله عنهم- قد أجمعوا على أن للجد نصيب، فالقول بحجب الأخ له خرق لهذا الإجماع، فلا يجوز.

الثاني: أنه لو استدل الصحابة بدليل، وعللوا بعلة: جاز الاستدلال والتعليل بغيرهما؛ لأنهم لم يصرحوا ببطلانه، كذا هنا. الثالث: أنهم لو اختلفوا في مسألتين، فذهب بعضهم إلى الجواز فيهما، وذهب الآخرون إلى التحريم فيهما: فذهب التابعي إلى التجويز في إحدهما، والتحريم في الأخرى: كان جائزًا، وهو قول ثالث. ولنا: أن ذلك يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق، والغفلة عنه؛ فإنه لو كان الحق في القول الثالث: كانت الأمة قد ضيعته وغفلت عنه، وخلا العصر من قائم لله بحجته، ولم يبق منهم عليه أحد وذلك محال. وقولهم1: "لم يصرحوا بتحريم قول ثالث". قلنا: ولو اتفقوا على قول واحد، فهو كذلك، ولو لم يجوّزوا خلافهم. فأما إذا عللوا بعلة، فيجوز بسواها؛ لأنه ليس من فرض دينهم

_ = ومن أمثلة الثاني: اختلاف العلماء في جواز أكل متروك التسمية، فقال بعضهم: يحل أكله، سواء أكان عمدًا أم سهوًا، وقال البعض: لا يحل مطلقًا فالقول بأنه إن كان الترك عمدًا فلا يحل، وإن كان سهوًا فهو حلال، يعتبر قولًا ثالثًا، ولا حرج فيه. ويبدو -والله أعلم- رجحان هذا المذهب. يراجع في هذه المسألة: المحصول للرازي "2/ 1/ 179 وما بعدها" الإحكام للآمدي "1/ 269-270"، مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد "2/ 39"، المحلى على جمع الجوامع "2/ 198" شرح الكوكب المنير "2/ 264 وما بعدها" شرح مختصر الروضة "3/ 88 وما بعدها". 1 أي القول الثاني، وهو جواز إحداث قول ثالث.

الاطلاع على جميع الأدلة، بل يكفيهم معرفة الحق بدليل واحد، وليس على الاطلاع على علة أخرى نسبة إلى تضييع الحق، بخلاف مسألتنا. وأما إذا اختلفوا في مسألتين فإنهم: إن صرحوا بالتسوية بين المسألتين: فهو كمسألتنا، لا يجوز التفريق. وإن لم يصرحوا به: جاز التفريق، لأن قوله في كل مسألة موافق لمذهب طائفة. ودعوى المخالفة للإجماع ههنا جهل بمعنى المخالفة، إذ المخالفة: نفي ما أثبتوه، أو إثبات ما نفوه، ولم يتفق أهل العصر على إثبات أو نفي، في حكم واحد، ليكون القول بالنفي والإثبات مخالفًا، ولا يلتئم الحكم من المسألتين، بل نقول: لا يخلو الإنسان من خطأ ومعصية، والخطأ موجود من جميع الأمة، وليس محالًا، إنما المحال: الخطأ بحيث يضيع الحق حتى لا تقوم به طائفة. ولهذا: يجوز أن تنقسم الأمة في مسألتين إلى فريقين، فتخطئ فرقة في مسألة، وتصيب فيها الأخرى، وتخطئ في المسألة الأخرى، وتصيب فيها المخطئة الأولى2. والله أعلم.

_ 1 حاصل ذلك: الرد على ما استدل به أصحاب المذهب الثاني من قولهم: "الثاني: لو استدل الصحابة بدليل ... إلخ" وخلاصته: أن ما ذكروه قياس مع الفارق، فهناك فرق بين استنباط الحكم، وبين الدليل والتعليل، فإن الحكم يجوز إثباته بدليلين أو علتين، ويخفى أحدهما على أهل العصر الأول، ويظهر لأهل العصر الثاني، وليسوا متعبدين بالاطلاع على جميع الأدلة والعلل؛ لأنها وسائل لا مقاصد، وليس في اطلاعهم على علة أخرى، أو دليل آخر نسبة إلى تضييع الحق. انظر: شرح مختصر الطوفي "3/ 90". 2 خلاصة هذا كله: أن الأصوليين اختلفوا في انقسام الأمة إلى قسمين في =

......................................................

_ = مسأليتن، وكلاهما مخطئ في إحداهما: وحاصل ذلك في ثلاث حالات: الحالة الأولى: اتفاقهم على الخطأ في المسألة الواحدة من الوجه الواحد، فهذا لا يجوز إجماعًا. الحالة الثانية: اتفاقهم على الخطأ في مسألتين مختلفتين، كأن تكون إحداهما في المعاملات والأخرى في العبادات، فهذا جائز باتفاق. الحالة الثالثة: المسألة الواحدة ذات الوجهين، مثل: المانع من الميراث فإنه جنس واحد، إلا أنه ينقسم إلى نوعين، مثل: القتل والرق، فهل يجوز أن يقول بعضهم: القاتل يرث، والعبد لا يرث، ويقول البعض: بعكس ذلك، فيخطئ كل منهما فيما أصاب فيه الآخر، فقيل: هذا لا يمتنع، لأن الأمة لا تجتمع على خطأ في شيء معين واحد وقيل: يمتنع؛ نظرًا إلى خطأ المجموع في الجملة. انظر: مذكرة الشيخ الشنقيطي ص157. قال الطوفي -موضحًا ذلك-: "واعلم أن خطأ كل فرقة في مسألة هو واسطة بين طرفين، فلهذا خرج الخلاف فيه، وذلك لأن القسمة تقتضي أنه إما أن تخطئ كل واحدة من الفرقتين، في كل واحدة من المسألتين، أو تصيب كل واحدة في مسألة وتخطئ في الآخرى: فالأول ممتنع؛ لأنه خطأ كلي، والثاني جائز حسن؛ لأنه إصابة كلية، والثالث واسطة، لأنه خطأ من وجه دون وجه، فبالنظر إلى ما فيه من الخطأ ألحق بالطرف الأول، وهو الخطأ الكلي في الامتناع، وبالنظر إلى ما فيه من الصواب ألحق بالطرف الثاني، وهو الصواب الكلي في الجواز" شرح المختصر "3/ 92". هذا، وقد مثل الطوفي لذلك بأمثلة كثيرة، منها: خطأ الشافعية في إباحة البنت المخلوقة من الزني، وكراهة الماء المشمس، وإصابة الحنابلة في تحريمها "أي بنت الزنى" وعدم كراهة الماء المشمس. انظر: المصدر السابق.

فصل: في حكم الإجماع السكوتي

فصل: [في حكم الإجماع السكوتي] إذا قال بعض الصحابة1 قولًا، فانتشر في بقية الصحابة، فسكتوا: فإن لم يكن قولا في تكليف فليس بإجماع2. وإن كان: فعن أحمد -رضي الله عنه- ما يدل على أنه إجماع، وبه قال أكثر الشافعية. وقال بعضهم: يكون حجة، ولا يكون إجماعًا3. وقال جماعة آخرون: لا يكون حجة ولا إجماعًا4، ولا ينسب إلى ساكت قول، إلا أن تدل قرائن الأحوال على أنهم سكتوا مضمرين للرضا، وتجويز الأخذ به.

_ 1 تخصيص المصنف مسألة الإجماع السكوتي في الصحابة فقط، مخالف لما عليه جمهور الأصوليين من تعميمهما في كل الأعصار، إلا إذا كان مذهبه تخصيص حجية الإجماع بعصر الصحابة، إلا أن هذا يناقض ما قاله قبل ذلك في مسألة "إجماع أهل كل عصر حجة، كإجماع الصحابة"؟! 2 يريد بذلك ذكر شروط الإجماع السكوتي وهي: أن ينتشر ويشتهر، بحيث يبلغ جميع المجتهدين، وأن يكون من المسائل التكليفية، وليس من مسائل الأصول والعقائد، وأن يكون السكوت قبل استقرار المذاهب، لأنه إن كان بعدها لم يدل على الموافقة، وأن تمضي مدة كافية للنظر والتأمل، وأن توجد قرائن تدل على الرضا، وأن يكون الشخص الذي صدرت منه المسألة مجتهدًا، وهي من المسائل المجتهد فيها، وأن تنتفي الموانع التي تمنع من اعتبار السكوت موافقة. 3 بمعنى: أن يكون حجة ظنية يجوز العمل بها، وليس بإجماع تمتنع مخالفته وهو اختيار أبي هاشم الجبائي والآمدي. انظر: الأحكام "1/ 252". 4 وهو منقول عن الإمام الشافعي، ولذلك قال: "لا ينسب لساكت قول". وفي المسألة آراء آخرى كثيرة ذكرها الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول" وأوصلها إلى =

وقد يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب: أحدها: أن يكون لمانع في باطنه لا يطلع عليه. الثاني: أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب. الثالث: أن لا يرى الإنكار في المجتهدات، ويرى ذلك القول سائغًا لمن أداه اجتهاده إليه، وإن لم يكن هو موافقًا. الرابع: أن لا يرى البدار1 في الإنكار مصلحة؛ لعارض من العوارض ينتظر زواله، فيموت قبل زواله، أو يشتغل عنه. الخامس: أن يعلم أنه لو أنكر: لم يلتفت إليه، وناله ذل وهوان، كما قال ابن عباس حين سكت عن القول بالعول في زمن عمر -رضي الله عنه-: "كان رجلًا مهيبا فهبته"2. السادس: أن يسكت؛ لأنه متوقف في المسألة؛ لكونه في مهلة النظر. السابع: أن يسكت؛ لظنه أن غيره قد كفاه الإنكار، وأغناه عن الإظهار؛ لأنه فرض كفاية ويكون قد غلط فيه؛ وأخطأ في وهمه3.

_ = اثنى عشر قولًا. يراجعها من يريد معرفتها والوقوف على أدلة كل مذهب. انظر: إرشاد الفحول "1/ 326 وما بعدها". 1 أي: المبادرة بالإنكار، بل ينتظر مدة لسبب من الأسباب. 2 سبق تخريجه. 3 عبارة الغزالي: "أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الإنكار، وأغناه عن الإظهار ثم يكون قد غلط فيه، وترك الإنكار عن توهم، إذ رأى الإنكار فرض كفاية، وظن أنه قد كُفي، وهو مخطئ في وهمه" وهي أوضح من عبارة المصنف في الدلالة على المراد.

ولنا: أن حال الساكت لا يخلو من ستة أقسام1: أحدها: أن يكون لم ينظر في المسألة. الثاني: أن ينظر فيها فلا يتبين له الحكم. وكلاهما خلاف الظاهر؛ لأن الدواعي متوفرة، والأدلة ظاهرة، وترك النظر خلاف عادة العلماء عند النازلة، ثم يفضي ذلك إلى خلو الأرض عن قائم لله بحجته. الثالث: أن يسكت تقيَّة، فلا يُظهِر سَبَبها، ثم يظهر قوله عند ثقاته وخاصته، فلا يلبث القول أن ينتشر. الرابع: أن يكون سكوته لعارض لم يظهر. وهو خلاف الظاهر، ثم يفضي إلى خلو العصر عن قائم لله بحجته. الخامس: أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب. فليس ذلك قولًا لأحد من الصحابة. ولهذا: عاب بعضهم على بعض، وأنكر بعضهم على بعض مسائل انتحلوها. ثم العادة: أن من ينتحل مذهبًا يناظر عليه، ويدعو إليه، كما نشاهد في زمننا.

_ 1 في الأصل "سبعة" في الواقع ستة، إلا أن الطوفي أشار إلى وجه سابع فقال: "ووجه سابع: وهو أن ينكر الساكت، لكن لم ينقل إنكاره" شرح المختصر "3/ 82".

السادس: أن لا يرى الإنكار في المجتهدات. وهو بعيد لما ذكرناه. فثبت أن سكوته كان لموافقته. ومن وجه آخر1: أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة، فنقل إليهم قول صحابي منتشر وسكوت الباقين: كانوا لا يجوزون العدول عنه، فهو إجماع منهم على كونه حجة. ومن وجه آخر: أنه لو لم يكن هذا إجماعًا: لتعذر وجود الإجماع؛ إذ لم ينقل إلينا في مسألة قول كل علماء العصر مصرحًا به. وقول من قال: "هو حجة وليس بإجماع" غير صحيح؛ فإنا إن قدّرنا رضا الباقين كان إجماعًا، وإلا فيكون قول بعض أهل العصر، والله أعلم.

_ 1 أضاف المصنف إلى الحالات السابقة وجهان آخران، لإثبات أن الإجماع السكوتي حجة. إلا ان الطوفي استبدل الوجه الثاني هنا بدليل آخر قال فيه: "إن إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما سمعه أو يراه دليل على رضاه وتصويبه، فكذلك سكوت المجتهدين وإقرارهم؛ لأنهم شهداء الله في الأرض، بنص السنة الصحيحة" شرح المختصر "3/ 83". ويقصد بالسنة الصحيحة: ما رواه البخاري في صحيحه حديث رقم "1367، 2642" ومسلم "949 والترمذي "1058" والنسائي "4/ 59، 60" وأحمد في المسند "3/ 186، 211، 245" من حديث أنس بن مالك: أنه مر بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "وجبت" ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرًا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وجبت" فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".

فصل: في جواز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس

فصل: في جواز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس ... مسألة: [في جواز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس] يجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد وقياس، ويكون حجة1. وقال قوم: لايتصور ذلك2؛ إذ كيف يتصور اتفاق الأمة مع اختلاف طبائعها، وتفاوت أفهامها على مظنون؟ أم كيف تجتمع على قياس، مع اختلافهم في القياس؟ وقال آخرون: هو متصور، وليس بحجة؛ لأن القول بالاجتهاد يفتح باب الاجتهاد ولا يجب3. ولنا:

_ 1 وهو رأي جمهور العلماء. 2 وهو رأي ابن جرير الطبري كما في المستصفى "2/ 377" وأهل الظاهر كما في الإحكام لابن حزم "4/ 527" والشيعة كما في الإحكام للآمدي "1/ 264". 3 عبارة المستصفى "لأن القول بالاجتهاد يفتح باب الاجتهاد، ولا يحرمه" وقد وضحه الطوفي فقال: "إنه إذا تصور الاتفاق عن القياس، كان حجة بأدلة الإجماع السابقة؛ لأنه سبيل المؤمنين، فيحرم خلافه، وبقوله -عليه السلام-: "أمتى لا تجمتع على ضلالة ونحوه" ومعناه: انه إذا كان عن اجتهاد جاز مخالفته ولا يحرم، وهذا بالتالي يتعارض مع طبيعة الإجماع. وهناك رأي رابع حكاه الطوفي، وهو جواز انعقاده عن قياس جلي، لا عن قياس خفي. وقد أورد الطوفي -كذلك- رأي القائلين بالجواز بأنهم اختلفوا في الوقوع: فمنهم من قال: إنه قد وقع، مثل: إمامة أبي بكر -رضي الله عنه- وقتال مانعى الزكاة، وتحريم شحم الخنزير وغير ذلك كلها ثبتت بالرأي والاجتهاد. أما المانعون فقالوا: إن الصورة المذكورة مستفادة من نصوص معينة، وليست باجتهاد. انظر: شرح المختصر "3/ 124، 125".

أن هذا إنما يستنكر فيما يتساوى فيه الاحتمال. أما الظن الأغلب فيميل إليه كل واحد، فأي بُعْدٍ في أن يتفقوا على أن النبيذ في معنى الخمر في التحريم؛ لكونه في معناه في الإسكار؟ وأكثر الإجماعات مستندة إلى عمومات، وظواهر، وأخبار آحاد، مع تطرق الاحتمال. وإذا جاز اتفاق أكثر الأمم على باطل -مع أنه ليس لهم دليل قطعي ولا ظني- لِمَ لا يجوز الاتفاق على دليل ظاهر، وظن غالب؟! وأما منع تصوره بناء على الخلاف في القياس: فإنا نفرض ذلك في الصحابة، وهم متفقون عليه، والخلاف حدث بعدهم1. وإن فرض ذلك بعد حدوث الخلاف فيستند أهل القياس إليه، والآخرون إلى اجتهاد في مظنون ليس بقياس وهو في الحقيقة قياس، فإنه قد يظن غير القياس قياسًا وكذلك العكس. وإذا ثبت تصوره: فيكون حجة لما سبق من الأدلة على الإجماع2.

_ 1 هذا اعتراف من المصنف على أن المسألة خاصة بعصر الصحابة فقط، كما هو ديدنه في المسائل السابقة، بينما الجمهور على عدم التخصيص بعصر الصحابة -رضي الله عنهم-. 2 معناه: أن كثيرًا من المنكرين للقياس يستندون إليه في بعض الأحكام ويسمونه بغير اسمه، كالتنبيه وتنقيح المناط وما أشبه ذلك. قال الطوفي: ".... فإن كثيرًا من منكري القياس استندوا إليه في مواضع، وسموه بغير اسمه، كالتنبيه وتنقيح المناط، فبعضهم يقول: لا يقضي القاضي وهو جائع، وهو في الحقيقة قياس على الغضب بالجامع المعروف، ويقولون: نبّه بحالة الغضب على حالة الجوع وغيرها من الأحوال. والحنفية مع قولهم: لا قياس في الكفارات، أوجبوا الكفارة على الصائم =

فصل: الإجماع ينقسم إلى مقطوع ومظنون 1. فالمقطوع: ما وجد فيه الاتفاق مع الشروط التي لا تختلف فيه مع وجودها، ونقله أهل التواتر. والمظنون: ما اختل فيه أحد القيدين: بأن توجد مع الاختلاف فيه، كالاتفاق في بعض العصر، وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، أو يوجد القول من البعض والسكوت من الباقين، أو توجد شروطه لكن ينقله آحاد1.

_ = بالأكل والشراب، وهو في الحقيقة قياس على الوطء، بجامع الإفساد، وقالوا: هذا تنقيح المناط، اعتبارًا من حديث الأعرابي، لعموم الإفساد، لا لخصوص الجماع. فهكذا يجوز أن يستند المخالف في القياس عند الإجماع على ما لا يعتقده قياسًا، وهو قياس، فيتحد المستند ويتفرع عليه الإجماع، أو نفرض أن المخالف "يظن القياس غير قياس، كالعكس" أي: كما يجوز أن يظن غير القياس قياسًا، كالتنقيح، والتنبيه، ومفهوم الموافقة، كذلك يجوز أن يظن القياس غير قياس، فيستند إليه في الإجماع". شرح المختصر "3/ 122-123". 1 خلاصة ما قاله المصنف: أن الإجماع قسمان: مقطوع: وهو ما وجد فيه جميع الشروط التي لا يختلف فيها، مع وجودها، ونقل نقلًا متواترًا. ومظنون: وهو: ما اختل فيه أحد القيدين، بأن يوجد على وجه مختلف فيه متواترًا، أو متفقًا عليه، لكن بطريق الآحاد. مثال الأول: اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول، أو أن يكون الإجماع سكوتيًّا، أو يوجد الاتفاق في بعض العصر، ولم ينقرض حتى =

وذهب قوم إلى أن الإجماع لا يثبت بخبر الواحد1؛ لأن الإجماع دليل قاطع، يحكم به على الكتاب والسنة، وخبر الواحد لا يقطع به، فكيف يثبت به المقطوع؟ وليس ذلك بصحيح؛ فإن الظن متبع في الشرعيات، والإجماع المنقول بطريق الآحاد يغلب على الظن، فيكون ذلك دليلًا كالنص المنقول بطريق الآحاد. وقولهم: "هو دليل قاطع".

_ خولف إلى آخر المسائل التي وقع فيها الخلاف، هل هي إجماع أو لا؟. ومثال الثاني: وهو: المتفق عليه، لكنه نقل آحادًا: أن ينقل إجماع عن الصحابة بطريق الآحاد. هذا معنى كلامه. إلا أن جمهور الأصوليين يقسمونه إلى أربعة أقسام: وضحها الطوفي بقوله: "إن الإجماع إما نطقي، أو سكوتي، وكل واحد منهما: إما تواتر أو آحاد: فالنطقي: ما كان اتفاق مجتهدي الأمة، جميعهم عليه نطقًا، بمعنى: أن كل واحد منهم نطق بصريح الحكم في الواقعة، نفيًا أو إثباتًا. والسكوتي: ما نطق به البعض، وسكت البعض. وكل واحد من هذين إما أن ينقل تواترًا أو آحادًا. ثم قال: ومراتبها متفاوتة في القوة والضعف، وأقواها: النطقي المتواتر، ثم النطقي المنقول آحادًا، لضعف الآحاد عن التواتر، ثم السكوتي المتواتر، ثم السكوتي المنقول آحادًا". شرح مختصر الروضة "3/ 126، 127". 1 أي: أن الإجماع يكون مستنده خبر من أخبار الآحاد، وهو رأي جمهور العلماء. قال الآمدي: -بعد أن بين أن العلماء اختلفوا في ثبوت الإجماع عن خبر الآحاد-: "فأجازه الحنابلة، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية، وأنكره الباقون". انظر: الإحكام "1/ 281". =

قلنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- دليل قاطع -أيضًا- في حق من شافهه، أو بلغه بالتواتر، وإذا نقله الآحاد كان مظنونًا، وهو حجة، فالإجماع كذلك، بل هو أولى؛ فإنه أقوى من النص، لتطرق النسخ إلى النص، وسلامة الإجماع منه؛ فإن النسخ إنما يكون بنص، والإجماع لا يكون إلا بعد انقراض زمن النص1.

_ = وقال القرافي في شرح تنقيح الفصول ص332: "الإجماع المروي بأخبار الآحاد حجة، يعني عند مالك، خلافًا لأكثر الناس". 1 ولذلك قال العلماء: الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به، وقد تقدم توضيح ذلك في باب النسخ.

فصل: الأخذ بأقل ما قيل ليس إجماعا

فصل: [الأخذ بأقل ما قيل ليس إجماعًا] الأخذ بأقل ما قيل: ليس تمسكًا بالإجماع، نحو اختلاف الناس في دية الكتابي: فقيل: دية المسلم1. وقيل: النصف2. وقيل: الثلث3.

_ 1 وهو مذهب الحنفية. انظر: تيسير التحرير "3/ 258" شرح فتح القدير "8/ 307". 2 وهو ظاهر مذهب الحنابلة: انظر: المغني "8/ 398". 3 وهو ما ذهب إليه الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد. انظر: الأم "6/ 105" والمغني "8/ 398" وظن بعض العلماء أن الإمام الشافعي يعتبر ذلك إجماعًا. وهو غير صحيح، حتى قال الإمام الغزالي: "وهو سوء ظن بالشافعي رحمه الله" ثم بين وجهة نظر الإمام الشافعي -رضي الله عنه- فقال: =

فالقائل: إنها الثلث ليس هو متمسكًا بالإجماع؛ لأن وجوب الثلث متفق عليه، وإنما الخلاف في سقوط الزيادة، وهو مختلف فيه، فكيف يكون إجماعًا؟ ولو كان إجماعًا كان مخالفه خارقًا للإجماع، وهذا ظاهر الفساد. والله تعالى أعلم. الأصل الرابع استصحاب الحال ودليل العقل اعلم أن الأحكام السمعية لا تدرك بالعقل، لكن دل العقل على براءة الذمة من الواجبات، وسقوط الحرج عن الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل1.

_ = "وظن ظانون أنه تمسك بالإجماع، وهو سوء ظن بالشافعي -رحمه الله- فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر، فلا مخالف فيه "وهو الثلث" وإنما المختلف فيه: سقوط الزيادة، ولا إجماع فيه، بل لو كان الإجماع على الثلث إجماعًا على سقوط الزيادة، لكان موجب الزيادة خارقًا للإجماع، ولكان مذهبه باطلًا -على القطع-. لكن الشافعي أوجب ما أجمعوا عليه، وبحث عن مدراك الأدلة، فلم يصح عنده دليل على إيجاب الزيادة، فرجع إلى استصحاب الحال في البراءة الأصلية، التي يدل عليها العقل، فهو تمسك بالاستصحاب، ودليل العقل، لا بدليل الإجماع" انظر: المستصفى "2/ 404، 405". 1 المصنف جعل الاستصحاب ثلاثة أقسام، وهي: استصحاب العدم الأصلي، واستصحاب دليل الشرع، واستصحاب حال الإجماع في محل النزاع. أولًا: استصحاب العدم الأصلي بدليل العقل على براءة الذمة من أي تكليف حتى يرد دليل من الشرع بالتكليف، لأن الأصل براءة الذمة منه، فيستصحب الحال في ذلك، وهذا النوع هو الذي يعرف بالبراءة الأصلية، والإباحة العقلية. =

فالنظر في الأحكام: إما في إثباتها، وإما في نفيها. فأما الإثبات: فالعقل قاصر عنه.

_ وقد دل على هذا النوع آيات من القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] . ووجه الدلالة من الآية: أنه لما نزلت الآيات القاطعة في تحريم الربا، خاف الصحابة من الأموال التي اكتسبوها من الربا قبل التحريم، فبين الله -تعالى- لهم أن ما أكتسبوه قبل ذلك كان على البراءة الأصلية ولا حرج فيه. قال الشوكاني: "فله ما سلف: أي ما تقدم منه من الربا لا يؤاخذ به، لأن فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا" "فتح القدير 1/ 327". ومثلها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [سورة البقرة: 115] . ووجه الدلالة من الآية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استغفر لعمه أبي طالب -عند موته- وقال -كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم-: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" كما استغفر بعض المؤمنين لموتاهم من المشركين، فأنزل الله -تعالى-: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] فندموا على استغفارهم، وخشوا أن يعاقبوا على ذلك فنزلت الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} قال الشوكاني: "أي: أن الله -سبحانه- لا يوقع الضلال على قوم، ولا يسميهم ضلّالًا بعد أن هداهم إلى الإسلام، والقيام بشرائعه، ما لم يقدموا على شيء من المحرمات بعد أن يتبين لهم أنه محرم، وأما قبل أن يتبين لهم ذلك فلا إثم عليهم، ولا يؤاخذون به". فتح القدير "2/ 469". وهذا النوع من الاستصحاب حجة عند الجمهور. ثانيًا: استصحاب ما دل الشرع على ثبوته ودوامه، كاستصحاب النص وحكمه حتى يرد الناسخ، وكاستصحاب العموم من اللفظ العام حتى يرد دليل =

...............................................................

_ = على التخصيص، ودوام الملك حتى يثبت انتقاله إلى شخص آخر، ودوام شغل الذمة الثابت بدليل شرعي، حتى تثبت براءتها. وهذا النوع حجة أيضًا عند الجمهور. ثالثًا: استصحاب حال الإجماع، إذا وقع نزاع بعد، فيما تم الإجماع عليه. انظر: العدة "4/ 1262" والتمهيد "4/ 251" وإرشاد الفحول "2/ 248" إعلام الموقعين "1/ 378" التمهيد للإسنوي ص489، تيسير التحرير "4/ 177". ومن أمثلة ذلك: إجماع الفقهاء على صحة الصلاة بالتيمم عند فقد الماء، إذا استمر ذلك حتى دخل في الصلاة، فإذا رأى الماء أثناء الصلاة، أو سمع وهو يصلي بعض الناس يقولون: قد وجد الماء، فهل يستمر في صلاته، بناء على الإجماع المستصحب قبل الصلاة، وصلاته تكون صحيحة، أم أن الصلاة تبطل، ويستأنفها بالوضوء، ولا اعتبار بالإجماع المتقدم على صحة الصلاة قبل رؤية الماء؟ في هذا النوع خلاف بين العلماء. فقال بعضهم، ومنهم الإمام الشافعي: لا تبطل الصلاة، وقال البعض الآخر -ومنهم الإمام أبو حنيفة-: تبطل الصلاة، ولا اعتبار بالإجماع السابق؛ لتغير الحال، وهو الذي رجحه علماء الحنابلة. ولذلك سيأتي رد الشيخ "ابن قدامة" على القائلين بحجيته، حيث قال: "وهذا فاسد، لأن الإجماع إنما دل على دوامها حال العدم، فأما مع الوجود، فهو مختلف فيه، ولا إجماع مع الاختلاف، واستصحاب الإجماع عند انتفاء الإجماع محال". وقال الشوكاني مرجحًا ما ذهب إليه الإمام الشافعي-: "والقول الثاني هو الراجح؛ لأن المتمسك بالاستصحاب باق على الأصل، قائم في مقام المنع، فلا يجب عليه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذلك، فمن ادعاه جاء به". إرشاد الفحول "2/ 252". قلت: ويؤيده النهي عن إبطال العبادة على الدخول فيها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد: 33] .

وأما النفي: فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد دليل السمع الناقل عنه، فينتهض دليلًا على أحد الشطرين1. ومثاله: لما دل السمع2 على خمس صلوات، بقيت السادسة غير واجبة، لا لتصريح السمع بنفيها؛ فإن لفظه قاصر على إيجاب الخمسة، لكن كان وجوبها منتفيًا، ولا مثبت للوجوب، فيبقى على النفي الأصلي. وإذا أوجب عبادة على قادر، بقي العاجز على ما كان عليه، ولو أوجبها في وقت، بقيت في غيره على البراءة الأصلية. فإن قيل: إذا كان العقل إنما كان دليلًا بشرط أن لا يرد سمع، فبعد وضع الشرع لا يعلم نفي السمع، ومنتهاكم: عدم العلم بوروده، وعدم العلم ليس بحجة. ولو جاز ذلك، لجاز للعامي النفي مستندًا إلى أنه لم يبلغه دليل3.

_ 1 أي: إما الحكم المذكور أو إثباته. 2 وهو النوع الأول من أنواع الاستصحاب الذي أوضحناه قريبًا. 3 هذا اعتراض أورده المصنف على المنكرين لحجية الاستصحاب، خلاصته: أن دلالة العقل إنما تكون حجة قبل ورود الشرع، أما بعد وروده الشرع فغير مسلم، وإلا لجاز للعامي أن يستند إلى ذلك. بحجة أنه لم يبلغه. وأجاب عنه المصنف إجابة مختصرة شرحها الشيخ الطوفي فقال: "إن الناس إما عامي لا يمكنه البحث والاجتهاد في طلب الدليل، أو مجتهد يمكنه ذلك: فإن كان عاميًّا، فتمسكه بالاستصحاب مع عدم الدليل الناقل، هما مما ذكرتم من التمسك بالجهل، فهو لعدم أهليتها كالأعمى يطوف في البيت على متاع، وآلة البصر لا تساعده على إدراكه. أما المجتهد الذي يمكنه الوقوف على الدليل، فتمسكه بعد الجدّ والاجتهاد =

قلنا: انتفاء الدليل قد يعلم، وقد يظن؛ فإنا نعلم أنه لا دليل على وجوب صوم شوال، ولا صلاة سادسة؛ إذ لو كان لنقل وانتشر، ولم يخفَ على جميع الأمة، وهذا علم بعدم الدليل، لا عدم علم بالدليل، فإن عدم العلم بالدليل ليس حجة، والعلم بعدم الدليل حجة. وأما الظن: فإن المجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة، فلم يظهر له دليل مع أهليته. واطلاعه على مدارك الأدلة، وقدرته على الاستقصاء، وشدة بحثه، وعنايته، غلب على ظنه انتفاء الدليل، فنزل ذلك منزلة العلم في وجوب العمل؛ لأنه ظن استند إلى بحث واجتهاد، وهذا غاية الواجب على المجتهد. وأما العامي: فلا قدرة له؛ فإن الذي يقدر على التردد في بيته لطلب متاع، إذا فتش وبالغ، أمكنه القطع بنفي المتاع، والأعمى الذي لا يعرف البيت، ولا يدري ما فيه، لا يمكنه ادعاء نفي المتاع. فإن قيل: ليس للاستقصاء غاية محدودة، بل للمجتهد بداية ووسط ونهاية،

_ في طلبه، إنما هو بالعلم بعدم الدليل، لا بعدم العلم بالدليل، فهو كبصير اجتهد في طلب المتاع من بيت لا علة فيه مخفيّة له، أي: للمتاع، أي: ليس في ذلك البت أمر يستر المتاع، فيخفيه عن طالبه، فيجزم بعدمه عند ذلك. فكذلك المجتهد إذا بالغ في طلب الدليل، فلم يجده، جزم بعدمه، فإن لم يجزم به، غلب على ظنه، وهو كاف في العمل، لا سيّما وقواعد الشرع قد مهدت، وأدلته قد اشتهرت وظهرت، وفي الدواوين قد دوّنت، فعند استفراغ الوسع في طلب الدليل ممن هو أهل للنظر والاجتهاد، يعلم أنه لا دليل هناك. وحينئذ يكون الاستصحاب منه تمسكًا بالعلم بعدم الدليل الناقل، لا بعدم العلم به" شرح مختصر الروضة "3/ 153-154".

فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي، والبيت محصور، وطلب اليقين فيه ممكن، ومدارك الشرع غير محصورة، فإن الأخبار كثيرة، وربما غاب راوي الحديث. قلنا: مهما علم الإنسان أنه قد بلغ وسعه، فلم يجد فله الرجوع إلى دليل العقل؛ فإن الأخبار قد دونت، والصحاح قد صنّفت فما دخل فيها محصور، وقد انتهى ذلك إلى المجتهدين، وأوردوها في مسائل الخلاف. فإن قيل: لِمَ لا يكون واجبًا لا دليل عليه، أو له دليل لم يبلغنا؟ قلنا: أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال؛ لأنه تكليف ما لا يطاق، ولذلك نفينا الأحكام قبل ورود الشرع، والبحث يدلنا على عدم الدليل، على ما ذكرناه. [استصحاب دليل الشرع] وأما استصحاب دليل الشرع1: فكاستصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص، واستصحاب النص إلى أن يرد النسخ، واستصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه، كالملك الثابت، وشغل الذمة بالإتلاف أو الالتزام، وكذلك الحكم بتكرار اللزوم إذا تكررت الأسباب، كتكرر شهر رمضان، وأوقات الصلوات. فالاستصحاب إذن: عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي،

_ 1 وهو النوع الثاني من الأنواع الثلاثة التي سبق توضيحها.

وليس راجعًا إلى عدم الدليل، بل إلى دليل ظني مع انتفاء المغير1، أو العلم به. فصل: فأما استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف: فليس بحجة في قول الأكثرين2. وقال بعض الفقهاء: هو دليل3 واختاره أبو إسحاق بن شاقلا4.

_ 1 في الأصل: "بل إلى دليل ظن مع انتفاء المغير" والذي أثبتناه -تبعًا للمستصفى- هو الذي يدل عليه السياق. هذا، ولم يشر المصنف في هذين النوعين إلى آراء العلماء في حجيتهما. والمشهور في كتب الأصول أن فيهما أربعة مذاهب: المذهب الأول: أنهما ليسا بحجة، وهو مذهب أكثر الحنفية، وبعض المتكلمين. المذهب الثاني: أنه حجة، وهو رأي الجمهور. المذهب الثالث: أنه يصلح للترجيح دون الاستدلال، وهو منسوب لبعض المتكلمين. المذهب الرابع: أنه حجة للدفع لا للإثبات، وهو رأي أبي زيد الدبوسي، والسرخسي، والبزدوي من الحنفية. انظر: الإحكام للآمدي "4/ 127 وما بعدها" أصول السرخسي "2/ 323" تيسير التحرير "4/ 176". 2 من الحنفية والمالكية والحنابلة، وبعض الشافعية. 3 منهم: أبو ثور، والمزني، وأبو بكر الصيرفي، وداود الظاهري وبعض الحنابلة، وهو الذي اختاره الآمدي في الإحكام "4/ 136". 4 هو: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلًا، من العلماء المبرزين في =

مثاله: أن يقول في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة: الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها، فنحن نستصحب ذلك حتى يأتينا دليل يزيلنا عنه. وهذا فاسد؛ لأن الإجماع إنما دل على دوامها حال العدم. فأما مع الوجود: فهو مختلف فيه، ولا إجماع مع الاختلاف، واستصحاب الإجماع عند انتفاء الإجماع محال. وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل السمع، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع، وهذا لأن كل دليل يضاده نفس الخلاف، لا يمكن استصحابه معه، والإجماع يضاده نفس الخلاف. والعموم، والنص، ودليل العقل، لا يضاده نفس الاختلاف، فلذلك صح استصحابه معه4.

_ = مذهب الحنابلة، كان جليل القدر، كثير الرواية، حسن الكلام في الأصول والفروع توفي سنة "369هـ" "شذرات الذهب 2/ 683". 4 حاصل ذلك: أن القائلين بحجية هذ النوع من الاستصحاب يقولون إن الحكم الثابت قبل الخلاف بالإجماع، حاصل في كل متحقق دوامه، فيكون هذا الحكم دائم الثبوت، وهو المطلوب. وأجاب عنه المصنف بأن الأصل في كل متحقق دوامه، ما لم يوجد ما ينافيه، ومن المعلوم أن الخلاف الذي حدث ينافي الإجماع الأول، فلا يبقى الحكم مجمعًا عليه. كما اعترض القائلون بحجيته: بأن استصحاب حال الإجماع المذكور، يقاس على اللفظ العام، في أنه يصير حجة بعد التخصيص. فأجاب المصنف: بأن هذا القياس مع الفارق، وبيانه: أن الإجماع في صورة التيمم، إنما حصل حال عدم الماء، أما حال وجوده فهو مختلف فيه، والخلاف =

فصل: هل النافي للحكم يلزمه الدليل

فصل: [هل النافي للحكم يلزمه الدليل] والنافي للحكم يلزمه الدليل. وقال قوم في الشرعيات كقولنا، وفي العقليات لا دليل عليه. وقال قوم: لا دليل عليه مطلقًا لأمرين: أحدهما: أن المدّعى عليه الدَّين لا دليل عليه. والثاني: أن الدليل على النفي متعذر، فكيف يكلف ما لا يمكن؟ كإقامة الدليل على براءة الذمة1.

_ يضاد الإجماع، فلا يجتمعان، ولا يبقى الإجماع مع الخلاف حال عدم الماء، كما أن النفي الأصلي الدال على عدم الحكم لا يبقى مع الدليل السمعي الناقل عن الحكم النافي؛ لكونه يضاده، فالقياس على العموم قياس باطل؛ لأن العموم والنص، ودليل العقل، كالقياس من حيث الاختلاف في الحكم لا ينافيها، فيصح التمسك بها مع الاختلاف، ولا كذلك الإجماع، فإن الخلاف ينافيه، فلا يصح التمسك به معه. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 156 وما بعدها". وأقول: إن هذا الخلاف الذي نقله المصنف في هذه المسألة، والذي نقلناه في النوعين السابقين يؤكد ما قلناه في مقدمة هذ الكتاب من أن المصنف خالف جمهور العلماء في جعل الاستصحاب من الأدلة المختلف فيها، وليس الأصل الرابع من أصول الأدلة. 1 اتفق العلماء على أن المثبت للحكم يلزمه الدليل، والخلاف إنما هو في النافي هل يلزمه الدليل على النفي أو لا؟ في المسألة عدة مذاهب، ذكر المصنف منها ثلاثة: الأول: أن النافي يلزمه الدليل، وهو مذهب الحنفية وأكثر الشافعية وأكثر الحنابلة. =

ولنا قوله -تعالى-: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. ومن المعنى: يقال للنافي: ما ادعيت نفيه، علمته، أم أنت شاك فيه؟ فإن أقر بالشك فهو معترف بالجهل. وإن ادعى العلم: فإما أن يعلم بنظر أو تقليد: فإن ادعى العلم بتقليد، فهو -أيضًا- معترف بعمى نفسه، وإنما يدعي البصيرة لغيره. وإن كان ينظر: فيحتاج إلى بيانه.

_ = المذهب الثاني: أنه يلزمه الدليل في الشرعيات، ولا يلزمه في الأمور العقلية. وهذا غير مسلم للمصنف، فإن الذي قاله العلماء: عكس هذا، أي: يلزمه الدليل في العقليات دون الشرعيات. المذهب الثالث: أنه لا يلزمه الدليل مطلقًا. وهذا ما جاء واضحًا في عبارة الإمام الغزالي في المستصفى "2/ 521". قال: "اختلفوا في أن النافي هل عليه دليل؟ فقال قوم: لا دليل عليه. وقال قوم: لا بد من الدليل. وفرق فريق ثالث بين العقليات والشرعيات، فأوجبوا في العقليات دون الشرعيات". والذي قاله الغزالي هو ما جاء في العدة لأبي يعلى "4/ 1270". وقد أورد الشوكاني تسعة آراء في المسألة ونسبها لأصحابها، فراجع حـ2 ص276-279. 1 سورة البقرة الآية: 111.

ولأنه لو أسقط الدليل عن النافي: لم يعجز المثبت عن التعبير عن مقصود إثباته بالنفي فيقول: بدل قوله: "مُحدَث": "ليس بقديم" وبدل قوله: "قادر": "ليس بعاجز"1. وقولهم: "إن المدعى عليه الدين لا دليل عليه": عنه أجوبة2: أحدها: المنع؛ فإن اليمين دليل، لكنها قصرت عن الشهادة، فشرعت عند عدمها، واختصت بالمنكر؛ لرجحان جانبه باليد التي هي دليل الملك.

_ 1 من أول قول المصنف "ولنا" إلى هنا عبارة عن أدلة للقائلين بأن النافي يلزمه الدليل، وهي دليل نقلى، وآخر عقلي من وجهين: الدليل الأول: أن الله -تعالى- ألزم النافي الدليل في مقام المناظرة، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بمطالبة اليهود والنصارى بدليل على دعواهم النفي -كما في الآية الكريمة-. الدليل الثاني: من وجهين: الأول: عبارة عن عدة احتمالات توجه للنافي: هل ما تدعيه من علم أو شك، فإن كان عن شك فلا يطلب بدليل، لأنه معترف بجهله وعدم معرفته، وإن ادعى العلم، فيقال له: هل هو عن نظر واجتهاد، أو تقليد، فإن كان عن نظر وجب بيانه، وإن كان عن تقليد فلا يفيده، لأن الخطأ على المقلد جائز. الوجه الثاني: أن نافي الحكم لو لم يلزمه الدليل لضاع الحق بين الخصمين وتعطل؛ لأن كلًّا من الخصمين يمكنه أن يعبر عن دعواه بعبارة نافية، فيقول المدعي لحدوث العالم: "ليس بقديم" ويقول المدعي لقدمه: "ليس محدث" وإذا أسقط الدليل عنهما ضاع الحق، وعمت الجهالة. انظر: شرح المختصر "3/ 165". 2 هذه أجوبة على دليل أصحاب المذهب القائل: بأنه لا يطالب بإقامة الدليل على النفي.

واحتمال الكذب فيها لا يمنع كونها دليلًا، كاحتمال الكذب في الشهادة. الثاني: إنما لم يحتج المنكر إلى دليل؛ لوجود اليد التي هي دليل الملك؛ إذ الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه. الثالث: إنما لم يجب عليه الدليل لعجزه عنه؛ إذ لا سبيل إلى إقامة دليل على النفي، فإن ذلك إنما يعرف: بأن يلازمه الشاهد من أول وجوده إلى وقت الدعوى، فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولًا وفعلًا، بمراقبته للحظات، وهو محال. وشغل الذمة -أيضًا- لا سبيل إلى معرفته؛ فإن الشاهد لا يحصل إلا الظن بجريان سبب اللزوم، من إتلاف أو غيره، وذلك في الماضي. أما في الحال: فإنه يجوز براءتها بأداء، أو إبراء، فاكتفى بالشهادة على سبب اللزوم، واكتفى معها باليمين لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "البينة على المدّعي، واليمين على من أنكر"1. أما في مسألتنا: فيمكن إقامة الدليل إن كان النزاع في الشرعيات، فقد يصادف الدليل عليها من الإجماع، كنفي وجوب صلاة الضحى، وصوم شوال، أو النص، كقوله، -صلى الله عليه وسلم-: "لا زكاة في الحلي" 2، و "لا

_ 1 حديث صحيح: أخرجه البخاري في: باب إذا اختلف الراهن والمرتهن، كتاب الرهن، ومسلم: كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه، والترمذي: أبواب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وابن ماجه: كتاب الأحكام، باب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. 2 روى البيهقي في "المعرفة" من حديث عافية بن أيوب عن الليث عن أبي الزبير عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس في الحلى زكاة" كما رواه عنه الدراقطني =

زكاة في المعلوفة" 1، أو بمفهوم، أو بقياس، كقياس الخضروات على الرمان في نفي وجوب الزكاة2.

_ = مرفوعًا "2/ 107" وابن الجوزي في التحقيق. قال البيهقي: عافية مجهول، وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه جرحًا. وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: رأيت بخط شيخنا المنذري أنه قال: "عافية بن أيوب لم يبلغني فيه ما يوجب تضعيفه". انظر: نصب الراية "2/ 374-375". 1 وهو مستفاد من الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، عن أبي بكر -رضي الله عنه- من طريق محمد بن عبد الله بن المثنى عن أبيه عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، أن أنسًا حدثه: "أن أبا بكر -رضي الله عنه- كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين ... وذكر كتابًا طويلًا في صدقة الماشية وفيه: وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة. ورواه عنه -أيضًا- ابن ماجه: كتاب الزكاة، باب إذا أخذ المصدق سنًّا دون سن، أو فوق سن حديث رقم "1800". وله طرق أخرى عن عمرو بن حزم. 2 هذه المسألة فيها عدة وقفات: الوقفة الأولى: بيان ما ورد في الرمان من أحاديث أو آثار: ورى مالك في الموطأ، باب ما لا زكاة فيه من الفواكه والقضب والبقول، قال: "السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم، أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك والتين، وما أشبه ذلك وما لم يشبه إذا كان من الفواكه" والفرسك بكسر الفاء والسين: الخوخ. وروى البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الزكاة، من حديث معاذ بن جبل وفيه: "....... فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر فعفو عفا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". =

وإن عدم الأدلة: فيتمسك باستصحاب النفي الأصلي الثابت بدليل العقل. وأما العقليات: فيمكن نفيها، فإن إثباتها يفضي إلى محال، وما أفضى إلى المحال محال.

_ = الوقفة الثانية: قول المصنف: "كقياس الخضروات على الرمان في نفي وجوب الزكاة" فيه نظر؛ لأن الخضروات مخالفة للفواكه فلا تقاس عليها، ولذلك يقال فيها: قياس مع الفارق. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: أن المقيس عليه ليس محل اتفاق حتى يقاس عليه، فقد ذهب أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- إلى وجوب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض، واستدل على ذلك بأدلة كثيرة، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" إلى آخر ما ذكره الحنفية من أدلة في هذه المقام. الوقفة الثالثة: أن الخضروات وردت فيها أحاديث خاصة، فلا معنى للقياس ومن تلك الأحاديث: ما أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الخضروات عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أنه كتب إل النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الخضروات -وهي البقول- فقال: "ليس فيها شيء" ثم قال: إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء، وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا. كما أخرجه الدراقطني: كتاب الزكاة، باب ليس في الخضروات صدقة. وللحديث طرق أخرى كثيرة عن علي وطلحة وأنس بن مالك وعائشة -رضي الله عنهم جميعًا-. وقد تكلم الحافظ ابن حجر على هذه الطرق وضعفها كلها. انظر: تلخيص الحبير "2/ 165"، كتاب الزكاة.

ويمكن الدليل عليه بدليل التلازم؛ فإن انتفاء أحد المتلازمين دليل على انتفاء الآخر، كقوله -تعالى-: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1. فانتفاء الفساد دليل على انتفاء إله ثان2. هذا بيان أصول مختلف فيها، وهي أربعة الأول- شرع من قبلنا: إذا لم يصرح شرعنا بنسخه، هل هو شرع لنا؟ وهل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدًا بعد البعثة باتباع شريعة من قبله3؟

_ 1 سورة الأنبياء من الآية: 22. 2 من أول قول المصنف: "وأما العقليات ... " استدلال منه على أن النافي في العقليات يمكن أن يستدل بأحد أمرين: الأمر الأول: أن إثباتها يفضي إلى محال، وكل ما يفضي إلى المحال محال. مثال ذلك أن يقال: العالم ليس بقديم، لأنه لو كان قديمًا للزم تأثير إرادة الصانع وقدرته فيه، لكن تأثير القدرة والإرادة في القديم محال؛ لأنه يصير بذلك أثرًا، وكل أثر محدث، فيلزم أن ينقلب القدم محدثًا وهو محال. الأمر الثاني: الاستدلال عليه بدليل التلازم؛ فإن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] لكنهما لم تفسدا، فلزم أن لا إله فيهما إلا الله تعالى. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 165". 3 ينبغي قبل أن نعرض لمذاهب العلماء، أن نحرر محل النزاع فنقول: الشرائع السابقة على الإسلام ثلاثة أنواع: النوع الأول: ما قام الدليل -عندنا- على أنه كان خاصًا بهم، وأن الإسلام قد =

...........................................

_ نسخه، فهذا لا خلاف بين العلماء في أننا غير مكلفين به، مثل قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146] . النوع الثاني: أحكام كانت ثابتة في الشرائع السابقة، وجاء الإسلام فقررها، سواء أكانت في الكتاب أم في السنة، وهذا النوع لا خلاف -أيضًا- في أننا مكلفون بها بالنصوص التي في شريعتنا، لا نقلًا عن الشرائع السابقة، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] . ومثل ما أخرجه ابو داود وابن ماجه، عن جابر -رضي الله عنه- قال: ذبح النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الذبح -أي في يوم العيد- كبشين أقرنين أملحين مرجأين -أي: خصيين- فلما وجههما قال: "إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك وإليك عن محمد وأمته، بسم الله، والله أكبر" ثم ذبح "التاج: 3/ 113-114". النوع الثالث: ما ورد في شريعتنا عن الأمم السابقة ولم يقترن به ما يدل على أنه كان خاصًا بهم، كما لم يتقرن به ما يدل على أننا مكلفون به، فهذا هو محل الخلاف. وهذا الخلاف مبني على مسألة أخرى، وهي: هل الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان متعبدًا -قبل البعثة- بشرع أحد من الأنبياء السابقين أو لا؟ فيه أربعة مذاهب: المذهب الأول: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان متعبدًا بشرع من قبله من الأنبياء والمرسلين، وهو مذهب جمهور الحنفية والمالكية والشافعية، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد. المذهب الثاني: أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن متعبدًا بشرع أحد ممن قبله، وهو مذهب =

فيه روايتان1: إحداهما: أنه شرع لنا اختارها التميمي، وهو قول الحنفية. والثانية: ليس بشرع لنا. وعن الشافعية كالمذهبين. وجه أنه ليس بشرع لنا سبعة أدلة: الأول: قوله تعالى: لكل {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 2 فدل على أن كل نبي اختص بشريعة لم يشاركه فيها غيره. الثاني: قوله -عليه السلام-: "بعثت إلى الأحمر والأسود، وكل نبي بُعث إلى قومه" 3.

_ الأشاعرة، والمعتزلة، والرواية الثانية عن الإمام أحمد، وهو الذي اختاره الآمدي. المذهب الثالث: أنه جائز عقلًا، ولكنه ممتنع شرعًا، وهو اختيار الإمام فخر الدين الرازي واتباعه. المذهب الرابع: التوقف وعدم الجزم برأي معين. انظر في هذه المذاهب: الإبهاج للسبكي "2/ 303" الإحكام للآمدي "4/ 190"، المعتمد لأبي الحسين البصري "2/ 899"، والعدة لأبي يعلى "3/ 756"، والتمهيد "2/ 411"، أصول السرخسي "2/ 99"، تيسير التحرير "3/ 131". 1 أي: عن الإمام أحمد -رحمه الله- كما تقدم تقريبًا. 2 سورة المائدة من الآية: 48. 3 أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود" كما أخرجه الدرامي =

فدل على أن كل نبي يختص شرعه بقومه، ومشاركتنا لهم تمنع الاختصاص. الثالث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى يومًا بيد "عمر" قطعة من التوراة فغضب فقال: "ما هذا ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو أدركني موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي" 1. الرابع: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى اليمن قال: "بم تحكم" 2؟ فذكرالكتاب، والسنة، والاجتهاد ولم يذكر شرع من قبلنا، وصوبه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو كانت من مدارك الأحكام لم يجز العدول إلى الاجتهاد، إلا بعد العجز عنها. فإن قيل: اندرجت التوارة والإنجيل تحت الكتاب، فإنه اسم جنس، يعم كل كتاب.

_ = في سننه: كتاب الجهاد، باب أن الغنيمة لا تحل لأحد قبلنا من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- وأحمد في المسند "1/ 250"، "4/ 416" عن جابر وأبي ذر -رضي الله عنهما-. 1 حديث حسن أخرجه الإمام أحمد في المسند "3/ 470-471" من حديث عبد الله بن ثابت، الأنصاري، كما أخرجه عنه الطبراني والبزار، كما في مجمع الزوائد "1/ 173" وقال: رجاله الصحيح، إلا أن فيه "جابرًا الجعفي" وهو ضعيف. كذلك أخرجه أحمد في المسند "3/ 338" من حديث جابر بن عبد الله، وأبو يعلى والبزار، والبغوي في شرح السنة: كتاب العلم، باب حديث أهل الكتاب، وللحديث طرق أخرى كثيرة غير ما ذكرنا، يراجع فيها مجمع الزوائد "1/ 173 وما بعدها". 2 تقدم تخريجه.

قلنا: إطلاق اسم الكتاب لا يفهم منه المسلمون غير القرآن، كيف ولم يعهد من "معاذ" تعلم شيء من هذه الكتب، ولا الرجوع إليها؟ الخامس: لو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدًا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها، ولكان لا ينتظر الوحي، ولا يتوقف في الظهار والمواريث ونحوها. ولم يعهد منه ذلك إلا في آية الرجم، ليبين أنه ليس بمخالف لدينهم1. السادس: أنه لو كان مَدْرَكًا لكان تعلمها وحفظها ونقلها فرض

_ 1 روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن اليهود جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكروا له أن رجلًا وامرأة منهم زنيا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما تجدون في التوراة في شأن الزنا؟ " فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فجعل رجل منهم يده على آية الرجم، ثم قرأ ما بعدها وما قبلها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها، فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدَق يا محمد، إن فيها الرجم، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهما فرجما. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهما. وفي بعض الرويات أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "ائتوني بأعلم رجلين منكم" فجاءوا بابني صوريا، فنشدهما الله تعالى "كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ " قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رجما. قال: "فما يمنعكما أن ترجموهما؟ " قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل. فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- برجمهما". انظر: صحيح البخاري "8/ 205" صحيح مسلم "3/ 1326" وسنن أبي داود "2/ 463"، نيل الأوطار "7/ 104" تفسير القرطبي "6/ 178".

كفاية، ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الأحكام ولم يفعلوا. السابع: إطباق الأمة على أن هذه الشريعة: شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجملتها، ولو تعبد بشرع غيره، كان مخبرًا لا شارعًا. ووجه الرواية الأخرى: خمس آيات، وثلاثة أحاديث: أما الآيات: فقوله -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} 1. وقوله -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} 2. وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ... } 3. وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} 4. وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 5. فإن قيل: أما الآيات الثلاث6: فالمراد بها التوحيد، بدليل: أنه أمره باتباع هدى جميعهم، وما وصّى به جملتهم، وشرائعهم مختلفة، وناسخة

_ 1 سورة الأنعام من الآية: 90. 2 سورة المائدة من الآية: 44. 3 سورة النحل من الآية: 123. 4 سورة الشورى من الآية: 13. 5 سورة المائدة من الآية: 44. 6 الآيات الثلاث هي آيات سورة الأنعام، والنحل، والشورى.

ومنسوخة، فيدل على أنه أراد الهدى المشترك. والملة: عبارة عن أصل الدين، بدليل: أنه قال: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} 1. ولا يجوز تسفيه الأنبياء الذين خالفوا شريعة إبراهيم عليه السلام. والهدى والنور: أصل الدين والتوحيد2. قلنا: الشريعة من جملة الهدى، فتدخل في عموم قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وهي من جملة ما أوصى الله به الأنبياء -عليهم السلام-. قولهم: "في شرائعهم الناسخ والمنسوخ". قلنا: إنما يتّبع الناسخ دون المنسوخ، كما في الشريعة الواحدة. وأما الأحاديث: فمنها: أنه قضى في السن بالقصاص، وقال: "كتاب الله القصاص"3 وليس في القرآن قصاص في السن إلا في قوله تعالى: {السِّنَّ بِالسِّنِ} 4.

_ 1 سورة البقرة من الآية: 130. 2 يقصد بذلك ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} . 3 هذا الحديث وارد في قصة الربيع بنت النضر الأنصارية حين كسرت سن جارية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كتاب الله القصاص". أخرجه البخاري: كتاب الديات باب السن بالسن، وأبو داود كتاب الديات، باب القصاص في السن، والنسائي: كتاب القسامة، باب القصاص في السن، وابن ماجه: كتاب الديات باب القصاص في السن، من حديث أنس بن مالك. 4 سورة المائدة من الآية: 45.

الثاني: مراجعته التوراة في رجم الزانيين1. الثالث: قوله: "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"2 {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 3. وهذا خطاب لموسى عليه السلام. وقد أجيب عن الأول4: بأنه دخل في عموم قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 5. وعن الثاني6: بأنه راجع التوراة ليبين كذبهم، وأنه ليس بمخالف لشريعتهم. ومن المعنى7: أن شرع الله -تعالى- الحكم في حق أمة يدل على تعلق المصلحة به؛ فإنه حكيم لا يخلو حكمه عن مصلحة، ويدل على اعتبار الشرع له، فلا يجوز العدول عنه حتى يدل على نسخه دليل، كما في الشريعة الواحدة. وأما قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 7 فإن

_ 1 تقدم تخريجه قريبًا. 2 حديث صحيح: أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب من نام عن صلاة أو نسيها، كما رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا. 3 سورة طه من الآية: 14. 4 أي: الحديث الأول وهو القصاص في السن. 5 سورة البقرة من الآية: 194. 6 وهو حديث رجم الزانيين. 7 أي: الحجة العقلية على كون شرع من قبلنا شرع لنا. 8 سورة المائدة من الآية: 48.

المشاركة في بعض الشريعة لا تمنع نسبتها بكمالها إلى المبعوث بها؛ نظرًا إلى الأكثر. وبقية الأدلة تندفع بكون الشريعة الأولى لم تثبت بطريق موثوق به، بل قد أخبر الله -تعالى- بتحريف أهلها وتبديلهم، فلذلك أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على "عمر" كتاب التوراة، وصوب معاذًا في إعراضه عن كتبهم، ولم يلزمه ولا الصحابة الرجوع إليها، ولا البحث عنها. وإنما الواجب: الرجوع إلى ما ثبت منها بشرعنا، كآية القصاص1، والرجم، ونحوهما، وهو ما تضمنه الكتاب والسنة، فيكون منهما، فلا يجوز العدول إلى الاجتهاد مع وجوده.

_ 1 وهي قوله -تعالى- في سورة المائدة الآية: 45: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ... } . وبهذا يتضح أنه ليس المقصود بحجية "شرع من قبلنا" مراجعة كتبهم التي حرفوها، وإنما المقصود: الأحكام التي جاءت في شريعتنا منسوبة إليهم، أو حكاية عنهم، خاصة في القصص القرآني، دون أن يقترن بها ما يدل على أنها كانت خاصة بهم، أو أننا مكلفون بها، كما كانوا مكلفين -على نحو ما سبق في بيان محل النزاع أول المسألة-. قال أبو يعلى في العدة "3/ 753": "وإنما يثبت كونه شرعًا لهم بمقطوع عليه، إما الكتاب أو الخبر، من جهة الصادق، أو بنقل متواتر، فأما الرجوع إليهم وإلى كتبهم فلا". وقريب منه ما جاء في المسودة ص184. وقد اسنتبط العلماء العديد من الأحكام الشرعية المترتبة على هذا الأصل: كحرمة السحر، وصحة جعل المنفعة صداقًا للمرأة، والآداب التي ينبغي على القاضي أن يتحلى بها، أخذًا من قصة داود عليه السلام، وغير ذلك مما ورد في كتب تفسير آيات الأحكام، وقصص القرآن. =

الأصل الثاني من المختلف فيه قول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف1 فروي: أنه حجة يقدم على القياس، ويخص به العموم وهو قول مالك، والشافعي في القديم، وبعض الحنفية.

_ = وقد ذكرت أمثلة لذلك في بحث بعنوان: "الإسلام ومواقفه من الشرائع السابقة". 1 لا بد -قبل حكاية آراء العلماء- من تحرير محل الخلاف، فنقول: أولًا: لا خلاف بين العلماء في أن قول الصحابي لا يعتبر حجة على صحابي آخر؛ لاستوائها في الصحبة والمنزلة، بالنسبة للمجتهدين منهم. ثانيًا: أن قول الصحابي فيما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد، حكمه حكم المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيأخذ حكم السنة في الحجية، كما روي عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- أن الحمل لا يمكث في بطن أمه أكثر من سنتين. ثالثًا: قول الصحابي الذي اشتهر وذاع، ولم ينكره أحد، يدخل في الإجماع السكوتي، كما تقدم خلاف العلماء فيه. رابعًا: قول الصحابي لا يعتبر حجة بالاتفاق إذا ثبت رجوعه عنه، كما روي عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- في رجوعه عن القول بحل زواج المتعة. خامسًا: قول الصحابي يعتبر حجة على العوام مطلقًا، سواء أكان ذلك في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- أم في غيره من العصور. سادسًا: قول الصحابي فيما للرأي فيه مجال، ولم يشتهر؛ لكونه مما لا تعم به البلوى، هذا هو محل الخلاف. وقد حكى المصنف فيه أربعة مذاهب، وهناك مذهبان آخران: 1- أنه حجة إذا وافق القياس، وهو منسوب إلى الإمام الشافعي. 2- أنه حجة إذا خالف القياس، لأنه لم يخالف القياس، إلا لاطلاعه على خبر لم نعرفه. وقد نسب إلى بعض الحنفية وبعض الشافعية. انظر: البرهان "2/ 1358" المسودة ص276، 336، 470، الإحكام =

وروي1: ما يدل على أنه ليس بحجة. وبه قال عامة المتكلمين، والشافعي في الجديد، واختاره أبو الخطاب؛ لأن الصحابي يجوز عليه الغلط والخطأ والسهو، ولم تثبت عصمته. وكيف تتصور عصمة من يجوز عليهم الاختلاف؟ وقد جوز الصحابة مخالفتهم، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما. فانتفاء الدليل على العصمة، ووقوع الخلاف بينهم، وتجويزهم مخالفتهم: ثلاثة أدلة2. وقال قوم: الحجة قول الخلفاء الراشدين؛ لقوله -عليه السلام-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" 3. وذهب آخرون: إلى أن الحجة قول أبي بكر وعمر

_ للآمدي "4/ 149"، أصول السرخسي "2/ 105" شرح تنقيح الفصول ص445. 1 أي عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وهي الراوية الثانية عنه. 1 أي: أن القائلين بعدم حجية قول الصحابي استدلوا بثلاثة أدلة، هي انتفاء العصمة، ووقوع الخلاف بينهم، وتجويزهم للمخالفة، وقد تقدمت. 3 رواه أحمد في المسند "4/ 126" وأبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة حديث "4607" والترمذي: كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع حديث "2676" وابن ماجه: المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين حديث "42" وابن حبان: باب الاعتصام بالسنة، حديث5 والحاكم في المستدرك: كتاب العلم، باب عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، من حديث العرباض بن سارية.

-رضي الله عنهما- لقوله -عليه السلام-: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" 1. ووجه الرواية الأولى2. قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" 3. فإن قيل: هذا خطاب لعوام عصره؛ بدليل: أن الصحابي غير داخل فيه. قلنا: اللفظ عام، لكن خرج منه الصحابي بقرينة: أنهم الذين أُمِرَ بتقليدهم، وجعل الأمر لغيرهم. ومن وجه آخر: هو أن الصحابة أقرب إلى الصواب، وأبعد من الخطأ؛ لأنهم حضروا التنزيل، وسمعوا كلام الرسول منه، فهم أعلم

_ 1 رواه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن حذيفة: كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- حديث "3663" وقال: حديث حسن. كما رواه أحمد في المسند "5/ 385" وابن ماجه: في المقدمة حديث "97" وابن حبان، والحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة، باب أحاديث فضل الشيخين. قال البزار وابن حزم: لا يصح، وأعلّاه بأن فيه جهالة وانقطاعًا. ودفع ذلك الحافظ ابن حجر في التلخيص "4/ 190" حديث رقم "2096". 2 وهي: أن قول الصحابي حجة، يقدم على القياس، ويخص به العام. 3 رواه ابن عبد البر في كتاب العلم من طريق الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وقال: هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث مجهول، ورواه الدراقطني في غرائب مالك عن جابر أيضًا، ورواه عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة النصيبي عن نافع عن ابن عمر، وله روايات أخرى كثيرة كلها لا تصح. قال الحافظ في تلخيص الحبير "4/ 190-191": "إسناده واهٍ" وقال الذهبي في الميزان "2/ 605": "باطل".

بالتأويل، وأعرف بالمقاصد، فيكون قولهم أولى، كالعلماء مع العامة1.

_ 1 قال ابن القيم: "إن الصحابي له مدارك ينفرد بها عنا: ومدارك نشاركه فيها: فأما ما يختص به: فيجوز أن يكون سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- شفاهًا، أو من صحابي آخر، وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن ما انفردوا به من العلم أكثر من أن يحاط به..... ثم بين أن قوله لا يخرج عن الوجوه الآتية: أحدهما: أن يكون سمعها من النبي -صلى الله عليه وسلم-. الثاني: أن يكون سمعها ممن سمعها منه. الثالث: أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فهمًا خفي علينا. الرابع: أن يكون قد اتفق عليها ملؤهم، ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده. الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة، وشهود تنزيل الوحي، ومشاهدة تأويله بالفعل يكون فهم ما لم نفهمه. وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة يجب اتباعها. السادس: أن يكون فهم ما لم يرده الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخطأ في فهمه. وعلى هذا التقدير لا يكون له حجة. ومعلوم -قطعًا- أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين، وذلك يفيد ظنًّا غالبًا قويًّا على أن الصواب في قوله، دون ما خالفه، وليس المطلوب إلا الظن الغالب، والعمل به متعين. وأما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ، والأقيسة، فلا ريب أنهم كانوا أبرّ قلوبا، وأعمق علما، وأقرب إلى أن يوفقوا فيما لم نوفق له؛ لما خصهم الله -تعالى- به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدرك، فالعربية سليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرتهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث، والجرح والتعديل. وعلى هذا كانت آراؤهم حجة بالنسبة لغيرهم الذين لم تتوافر لهم مزاياهم =

وما ذكروه1 "من عدم العصمة": فلا يلزم؛ فإن المجتهد غير معصوم، ويلزم العامي تقليده. وقول من خص الأئمة2 بالاحتجاج بقولهم: لا يصح؛ لما ذكرناه من عموم الدليل في غيرهم3. وتخصيصهم بالأمر بالاقتداء بهم: يحتمل أنه أراد الاقتداء بهم في سيرتهم وعدلهم، ويحتمل: أنه ذكرهم؛ لكونهم من جملة من يجب الاقتداء بهم. فصل وإذا اختلف الصحابة على قولين: لم يجز للمجتهد4 الأخذ بقول بعضهم من غير دليل5. خلافًا لبعض الحنفية وبعض المتكلمين: أنه يجوز ذلك، ما لم ينكر

_ = ومشاهداتهم، والذين انتقلت إليهم النصوص والآثار سماعًا، وما راءٍ كمن سمعا". إعلام الموقعين "1/ 248 وما بعدها" ط. الكليات الأزهرية. 1 أي: ما ذكره النافون للحجية من عدم الدليل على عصمة الصحابي، غير ملزم؛ فإن قول المجتهد من غير الصحابة يلزم قبوله من العامي، فقول الصحابي أولى حتى ولو كان غير معصوم. 2 أي: الخلفاء الراشدين. 3 أي: أن من قال: الحجة في قول الخلفاء الراشدين فقط، عارضه عموم الأدلة الدالة على حجية قول جميعهم، مثل الحديث المتقدم: "أصحابي كالنجوم...." على ما فيه من كلام. 4 أي: من غير الصحابة. 5 وذلك لوجهين: =

على القائل قوله؛ لأن اختلافهم إجماع على تسويغ الخلاف، والأخذ بكل واحد من القولين. ولهذا رجع "عمر" -رضي الله عنه- إلى قول "معاذ" في ترك رجم المرأة1. وهذا فاسد؛ فإن قول الصحابة لا يزيد على الكتاب والسنة، ولو تعارض دليلان من كتاب أو سنة: لم يجز الأخذ بواحد منهما بدون الترجيح. ولأننا نعلم أن أحد القولين صواب، والآخر خطأ، ولا نعلم ذلك إلا بدليل. وإنما يدل اختلافهم على تسويغ الاجتهاد في كلا القولين، أما على الأخذ به: فكلَّا.

_ = أولًا: للقياس على تعارض دليلين من الكتاب أو السنة، فإنه لا يجوز الأخذ بواحد منهما إلا بمرجح. ثانيًا: أن أحد القولين خطأ قطعًا؛ لاستحالة كون الصواب في كل منهما، وإذا كان أحدهما خطأ، والآخر صواب، فلا سبيل إلى التمييز إلا بالدليل. انظر: شرح المختصر "3/ 188". 1 يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف "10/ 88، 89" في كتاب الحدود، باب من قال: إذا فجرت وهي حامل انتظر: "أن امرأة غاب عنها زوجها، ثم جاء وهي حامل، فرفعها إلى عمر، فأمر برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: احبسوها حتي تضع، فوضعت غلامًا له ثنيتان، فلما رآه أبوه قال: ابني، فبلغ ذلك عمر فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر".

وأما رجوع "عمر" -رضي الله عنه- إلى معاذ: فلأنه بان له الحق بدليله، فرجع إليه1. الثالث: الاستحسان ولا بد أولًا من فهمه. وله ثلاثة معان2:

_ 1 أي: أن رجوعه لم يكن تقليدًا، بل كان بسبب وجود الحجة التي استند إليها واقتنع بها. 2 هذه التعريفات في الاصطلاح، أما في اللغة: فقد قال ابن منظور في لسان العرب "13/ 117": "والحسن -محركة- ما حسن من كل شيء، فهو استفعال من الحسن، يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه، حسيًّا كان هذا الشيء أو معنويًا، وإن كان مستقبحًا عند غيره". وفي القاموس المحيط "4/ 215-216": "استحسن الشيء عده حسنًا". والمعاني الثلاثة التي ذكرها المصنف، الأول منها منقول عن الكرخي من الحنفية، وكذلك الغزالي، وغيره، والثاني والثالث منقولان عن الإمام الغزالي وغيره من المتكلمين، وله تعريفات أخرى كثيرة أوضح وأصح مما نقل عن الغزالي، نذكر منها: 1- عرّفه ابن العربي -من المالكية- بأنه: "إثبات ترك مقتضى الدليل، على طريق الاستثناء والترخيص لما يعارضه في بعض مقتضياته". "شرح تنقيح الفصول ص452". 2- وعرفه البزدوي -من الحنفية- فقال: "هو العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى، أو هو: تخصيص قياس بقياس أقوى منه" أصول البزدوي "4/ 6". 3- ذكر له السرخسي عدة تعريفات منها: "ترك القياس والأخذ بما هو أرفق للناس: كشف الأسرار "4/ 3". 4- وعرفه الطوفي -من الحنابلة- بأنه: "العدول بحكم المسألة عن نظائرها =

أحدها: أن المراد به: العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة. قال القاضي يعقوب1: القول بالاستحسان مذهب أحمد -رحمه الله- وهو: أن تترك حكما إلى حكم هو أولى منه. وهذا مما لا ينكر، وإن اختلف في تسميته، فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى.

_ = لدليل شرعي خاص" شرح مختصر الروضة "3/ 190" وهو قريب من تعريف المصنف. قال ابن السمعاني: "إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه الإنسان ويشتهيه من غير دليل فهو باطل، ولا أحد يقول به ... ثم قال: والذي يقولون به إنه العدول في الحكم من دليل أقوى منه، فهذا مما لا ينكره أحد عليه" إرشاد الفحول "2/ 262". وقد وضح ذلك الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه "مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه ص70" فقال: "إذا عرضت واقعة يقتضي عموم النص حكمًا فيها، أو يقتضي تطبيق الحكم الكلي حكمًا فيها، وظهر للمجتهد أن لهذه الواقعة ظروفًا وملابسات خاصة تجعل تطبيق النص العام، أو الحكم الكلي عليها، أو اتباع القياس الظاهر فيها يفوت المصلحة، أو يؤدي إلى مفسدة، فعدل فيها عن هذا الحكم إلى حكم آخر اقتضاه تخصيصها من العام، أو استثناؤها من الكلي، أو اقتضاه قياس خفي غير متبادر، فهذا العدول هو الاستحسان، وهو من طرق الاجتهاد برأيه؛ لأن المجتهد يقدر الظروف الخاصة لهذه الواقعة باجتهاده برأيه، ويرجح دليلًا على دليل باجتهاده برأيه". 1 هو: يعقوب بن إبراهيم البرزيني، أبو علي، قاض من فقهاء الحنابلة، من أهل "برزين" من قرى بغداد، تتلمذ على القاضي أبي يعلى، وولي قضاء "باب الأزج" وتوفي بها سنة "486هـ" من مؤلفاته: "التعليقة" في الفقه والخلاف انظر: اللباب "1/ 111" معجم البلدان "2/ 123" والأعلام "9/ 253".

الثاني: أنه يستحسنه المجتهد بعقله. وقد حكي عن أبي حنيفة أنه قال: هو حجة؛ تمسكًا بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1، وقوله: {اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 2. وبقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن"3. ولأن المسلمين استحسنوا دخول الحمام من غير تقدير أجرة، وكذلك نظائره؛ إذ التقدير في مثله قبيح، فاستحسنوا تركه. ولنا على فساده مسلكان: الأول: أن هذا لا يعرف من ضرورة العقل ونظره، ولم يرد من سمع متواتر، ولا نقل آحاد، ومهما انتفى الدليل وجب النفي4.

_ 1 سورة الزمر من الآية: 18. 2 سورة الزمر في الآية: 55. 3 تقدم تخريجه في باب الإجماع. والأصح وقفه على عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- انظر: المقاصد الحسنة ص367. 4 وضحه الطوفي في شرحه "3/ 194" فقال: "إن ما ذكروه من تعريف الاستحسان إما أن يكون عقليًّا، أو سمعيًّا، أي: معلومًا من جهة العقل، أو من جهة السمع، وكلاهما باطل، فما ذكروه من تعريف الاستحسان باطل، أما بطلان كونه عقليًّا أو سمعيًّا، فلأنه لو كان عقليًّا لكان إما ضروريًّا أو نظريًّا، لكنه ليس ضروريًّا؛ لأن الضروريات مشتركة بين العقلاء، ولا اشتراك فيما ذكروه، وليس نظريًّا؛ لأن النظر فيه ليس قاطعًا، وإلا لكان مشتركًا. ولا مظنونا؛ إذ لا دليل عليه في النظر، ولو كان سمعيًّا، لكان إما تواترًا، وهو مفقود، أو آحادًا، وهو كذلك، أي: مفقود أيضًا كالتواتر، وليس فيه تواتر ولا آحاد، وإن سلمنا أن فيه دليلًا =

الثاني أنا نعلم -بإجماع الأمة قبلهم- على أن العالم ليس له الحكم بمجرد هواه وشهوته من غير نظر في الأدلة. والاستحسان من غير نظر حكم بالهوى المجرد، فهو كاستحسان العامي، وأي فرق بين العامي والعالم غير معرفة الأدلة الشرعية، وتمييز صحيحها عن فاسدها؟ ولعل مستند استحسانه وهم وخيال، إذا عرض على الأدلة لم يحصل منه طائل. روي عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: "من استحسن فقد شرع"1. ولما بعث معاذ إلى "اليمن" لم يقل: إني أستحسن، بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط. وأما اتباع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا: فواجب، فليبينوا أن هذا أنزل إلينا، فضلًا عن أن يكون من أحسنه. والخبر2 دليل على أن الإجماع حجة، ولا خلاف فيه. ثم يلزمهم استحسان العوام والصبيان، فإن فرقوا بأنهم ليسوا أهلًا للنظر، قلنا: إذا كان لا ينظر في الأدلة، فأي فائدة في أهلية النظر؟ وما استشهدوا به من المسائل: لعل مستند ذلك: جريانه في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقريره عليه، من معرفته به؛ لأجل المشقة في تقدير الماء

_ = سمعيًا آحادًا، لكن الآحاد لا تفيد في هذا الباب، لأنها إنما تفيد ظنًّا ما، والاستحسان أصل قوي، فلا يثبت بمثل ذلك". 1 الرسالة ص507، والأم "7/ 270". 2 أي: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن".

المصبوب في الحمام، ومدة المقام، والمشقة سبب الرخصة. ويحتمل أن يقال: دخول الحمام مستباح بالقرينة، والماء متلف بشرط العوض، بقرينة حال الحمامي، ثم ما يبذله له إن ارتضى الحمامي، واكتفى به عوضًا، وإلا طالبه بالتسديد إن شاء، فهذا أمر يقاس، والقياس حجة. الثالث: قولهم: "المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه" وهذا هوس1؛ فإن ما لا يعبر عنه لا يدري أهو وهم أو تحقيق، فلا بد من إظهاره ليعتبر بأدلة الشريعة، فلتصححه أو تزيفه.

_ 1 في الأصل: "هو بين" وما أثبتناه من المستصفى "2/ 474" وفسره الجوهري بأنه: طرف من الجنون. وأقول: هذا الكلام فيه مبالغة من الغزالي، وممن تابعه كالمصنف؛ فإنه لم يقل أحد من المسلمين بجواز الاستحسان بالهوى والتشهي، فضلًا عن الأئمة المجتهدين الذين رضيهم المسلمون لأخذ الأحكام الشرعية عنهم؛ لثقتهم فيهم، ومن أولهم: الإمام أبو حنيفة النعمان الذي قال عنه الإمام الشافعي "الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة". وهو أول من أظهر القول بالاستحسان، وجاء تلاميذه من بعده فأصّلوه ووضعوا له التعريفات التي سبق ذكر بعضها، وقسموه تقسيمًا يتفق مع قواعد الشريعة ومقاصدها العامة. والإمام مالك -رحمه الله- تعالى إمام دار الهجرة يقول: عن الاستحسان "إنه تسعة أعشار العلم". والإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- مع إنكاره الشديد على من قال بالاستحسان، استعمل الاستحسان في كثير من المسائل الفقيهة ومنها: 1- استحسن في متعة المطلقة أن تكون على المتوسط ثلاثين درهمًا، وعلى الموسع خادم، وعلى المقتر مقنعة، وهي: ما تغطي به المرأة رأسها. =

...................................................

_ = 2- استحسن في الشفعة أن تؤجل ثلاثًا، وقال: "إنه استحسان مني وليس بأصل" الأم "3/ 232". 3- استحسن التحليف على المصحف، لما في ذلك من فضل الخوف من الله تعالى والتحرج من الكذب، قال: "وقد رأيت بعض الحكام يحلف بالمصحف، وذلك عندي حسن" الأم "6/ 289" وأمثلة أخرى كثيرة يضيق المقام عن حصرها. وإذا رجعنا إلى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- نجده -أيضًا- يستعمل الاستحسان في بعض المسائل منها: 1- قال في رواية صالح، في المضارب إذا خالف فاشترى غير ما أمره به صاحب المال: "فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب، وكنت أذهب إلى الربح لصاحب المال، ثم استحسنت" مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح "1/ 448" وانظر: العدة "5/ 1604". 2- قال في رواية الميموني: "أستحسن أن يتيمم لكل صلاة، ولكن القياس أنه بمنزلة الماء حتي يحدث، أو يجد الماء" العدة "5/ 1604" التمهيد "4/ 87". 3- وقال -في رواية بكر بن محمد- فيمن غصب أرضًا فزرعها: "الزرع لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا بشيء يوافق القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته" العدة "5/ 1605" والتمهيد "4/ 87" والمسوّدة ص452. وإذا كانت هذه هي نصوص أئمة الفقه، وهي صريحة في استعمال كلمة "الاستحسان" والاحتكام إليه، فلم يبق إلا أن نقول: إن الخلاف في المسألة خلاف لفظي، وأن المنكرين للاستحسان، إنما يقصدون القائم على الهوى والتشهي، وحين يحتكمون إلى الاستحسان، إنما يقصدون الاستحسان الذي يستند إلى أصل من أصول الشريعة، وقواعدها العامة، التي تهدف إلى جلب المصالح ودفع المفاسد. وقد بين القاضي أبو يعلى -رحمه الله تعالى- الفرق بين القول بالتشهي =

الاستصلاح، أو المصلحة المرسلة الرابع من الأصول المختلف فيها: الاستصلاح1: وهو: اتِّباع المصلحة المرسلة. والمصلحة: هي جلب المنفعة، أو دفع المضرة. وهي ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتبارها. فهذا هو القياس، وهو: اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع2.

_ = والقول بالاستحسان فقال: "فإن قيل: فما الفرق بين المستحسن وبين المشتهي؟ وهلّا أجزتم إطلاق المشتهي على ما سميتموه مستحسنًا؟ قيل: الفرق بينهما: أن الشهوة لا تتعلق بالنظر والاستدلال. ألا ترى أنها لا تختص من كمل عقله، وعرف الأصول، وطرق الاجتهاد في أحكام الشريعة، دون من ليست هذه صفته. وأما الاستحسان: فإنه يختص النظر والاستدلال على حسب ما بيّنا. يبين صحة الفرق بينهما: أنه قد يصح وصف الشيء بأنه مستحسن عند الله، ولا يصح وصفه بأنه مشتهى عنده، تعالى الله أن يوصف بذلك" العدة "5/ 1609". 1 الاستصلاح: استفعال، مأخوذ من "صَلَح يَصْلُح" سمي بذلك؛ لأن الشرع أو المجتهد يطلب صلاح المكلفين باتباع المصلحة ومراعاتها، لأن الشريعة -عامة- قائمة على جلب المصالح ودرء المفاسد، فما من خير إلا دعت إليه ورغبت فيه، وما من شر إلا حذرت منه ونهت عنه. 2 معنى "اقتباس الحكم...." أي: استفادته وتحصيله من معقول الشرع، سواء أكان نصًّا من كتاب أوسنة، أو إجماع: مثل: تحريم شحم الخنزير قياسًا على تحريم لحمه الذي في العديد من آيات القرآن الكريم، ومثل: وجوب الحل =

القسم الثاني: ما شهد ببطلانه: كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على الملك؛ إذ العتق سهل عليه فلا ينزجر، والكفارة وضعت للزجر، فهذا لا خلاف في بطلانه؛ لمخالفته النص، وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع1. الثالث- ما لم يشهد له بإبطال، ولا اعتبار معين: وهذا على ثلاثة ضروب: أحدها: ما يقع في مرتبة الحاجات: كتسليط الولي على تزويج الصغيرة، فذلك لا ضرورة إليه، لكنه محتاج إليه؛ لتحصيل الكفؤ؛ خيفة من الفوات، واستقبالًا للصلاح المنتظر في المآل. الضرب الثاني: ما يقع موقع التحسين والتزيين، ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات، كاعتبار الولي في النكاح؛ صيانة

_ = بوطء ذات المحرم بعقد النكاح، قياسًا على وطئها بالزنى، وهو محل اتفاق بين العلماء. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 205". 1 جاء في كتاب الاعتصام للشاطبي "2/ 114": "حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم أن وطئ في نهار رمضان، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى الليثي المالكي، تلميذ الإمام مالك: يكفر ذلك صيام شهرين متتبابعين، ثم علل فتواه -بعدم التخيير في الكفارة- لو فتحنا له هذا الباب، سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود". وعدم صحة ذلك راجع إلى مخالفته لصريح الحديث الذي رواه مسلم وغيره: في كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر رجلًا أفطر في رمضان أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينًا". انظر: نصب الراية "2/ 319".

للمرأة عن مباشرة العقد؛ لكونه مشعرًا بتوقان نفسها إلى الرجال، فلا يليق ذلك بالمروءة، ففوض ذلك إلى الولي؛ حملًا للخلق على أحسن المناهج. ولو أمكن تعليل ذلك بقصور رأي المرأة في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظاهر: لكان من الضرب الأول، ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها. فهذان الضربان لا نعلم خلافًا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل؛ فإنه لو جاز ذلك: كان وضعا للشرع بالرأي، ولما احتجنا إلى بعثة الرسل. ولكان العامي يساوي العالم في ذلك؛ فإن كل أحد يعرف مصلحة نفسه1. الضرب الثالث- ما يقع في رتبة الضروريات2:

_ 1 خلاصة ذلك: أن المصلحتين: الحاجية والتحسينية، لا يجوز التمسك بهما من غير وجود ما يشهد لهما من الشرع من جنسهما، لأسباب ثلاثة: الأول: أن ذلك يكون وضعًا للشرع بالرأي من غير دليل شرعي من نص أو إجماع. الثاني: أنه لو جاز ذلك لاستوى العامي والعالم، لأن كلًّا منهما يعرف مصلحة نفسه. الثالث: أنه لو صح ذلك، لاستغنى عن بعثة الرسل، باعتبار أن العقل كاف، وهذا غير صحيح. 2 الضروريات: هي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، وبفقدها يختل نظام الحياة، وتعم الفوضى، وتنتشر المفاسد بين الناس، وتفوت النجاة والنعيم في الآخرة. أما الحاجية: فهي المصالح التي يحتاج الناس إليها للتوسعة ورفع الحرج =

وهو ما عرف من الشارع الالتفات إليها. وهي خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسبهم، ومالهم. ومثاله: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى البدع، صيانة لدينهم1. وقضاؤه بالقصاص، إذ به حفظ النفوس. وإيجابه حد الشرب؛ إذ به حفظ العقول. وإيجابه حد الزنا، حفظًا للنسل والأنساب2. وإيجابه زجر السارق؛ حفظًا للأموال3. وتفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل.

_ = والمشقة، بحيث إذا فقدت لحق الناس ضيق ومشقة، لكنه لا يبلغ مبلغ الفساد الواقع أو المتوقع من فوات الضروريات. والتحسينات: هي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات فهي لا ترجع إلى ضرورة، ولا إلى حاجة، وإنما تقع موقع التحسين والتزيين والتوسعة والتيسير للمزايا والمراتب، ورعاية أحسن المناهج في العبادات والمعاملات، والحمل على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. انظر: الموافقات "2/ 8 وما بعدها"، المستصفى "1/ 290" شرح العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 241". 1 وكذلك قتل المرتد، والداعي إلى الردة. 2 وحفظ العرض بإيجاب حد القذف. 3 وذلك بتشريع حد السرقة، وهو القطع، أو حد الحرابة للمحاربين الذين يعيثون في الأرض فسادًا.

[آراء العلماء في اعتبار المصالح المرسلة] فذهب مالك، وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة؛ لأنا قد علمنا أن ذلك من مقاصد الشرع. وكون هذه المعاني مقصودة عرف بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال، وتفاريق الأمارات. فيسمى ذلك مصلحة مرسلة، ولا نسميه قياسًا؛ لأن القياس يرجع إلى أصل معين1. والصحيح: أن ذلك ليس بحجة؛ لأنه ما عرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق.

_ 1 الواقع أن هذا ليس مذهب الإمام مالك وبعض الشافعية، كما قال المصنف، ولكنه رأي جمهور العلماء، ومنهم الإمام الشافعي في القديم، وبعض الحنفية، كما أنه مروي عن الإمام أحمد وكثير من الحنابلة، غير أن الإمام مالكًا -رحمه الله تعالى- توسع في الأخذ بالمصالح المرسلة أكثر من غيره، ويليه في الأخذ بها الحنابلة، وهذا ما نص عليه العلماء في العديد من مؤلفاتهم: قال القرافي: "هي عند التحقيق في جميع المذاهب؛ لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهدًا بالاعتبار" شرح تنقيح الفصول ص445. وقال ابن دقيق العيد "الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحًا على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما" المصدر السابق وانظر: إرشاد الفحول "2/ 265". وقال الطوفي -تعليقًا على قول ابن قدامة-: "والصحيح أن ذلك ليس بحجة": "وقال بعض أصحابنا: ليست حجة، هذا إشارة إلى الشيخ أبي محمد. قال في الروضة: "والصحيح أن ذلك ليس بحجة" وإنما قلت: "قال بعض أصحابنا" ولم أقل: قال أصحابنا؛ لأني رأيت من وقفت على كلامه منهم، حتى الشيخ "أبا محمد" في كتبه إذا اسغرقوا في توجيه الأحكام، يتمسكون بمناسبات =

...........................................................

_ = مصلحية، يكاد الشخص يجزم بأنها ليست مرادة للشارع، والتمسك بها يشبه التمسك بحبال القمر، فلم أقدم على الجزم على جميعهم بعدم القول بهذه المصلحة خشية أن يكون بعضهم قد قال بها، فيكون ذلك تقوّلًا عليهم" شرح مختصر الروضة "3/ 210". وقد نسب إمام الحرمين القول بحجية المصالح إلى الإمام الشافعي، ومعظم الحنفية، والإمام مالك، والإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأنهم جميعًا يأخذون بالمصالح المرسلة، ويعتبرونها دليلًا، ما دامت قد اشتملت على ما دعا الشارع لحفظه. انظر: البرهان "2/ 1114" والاعتصام للشاطبي "2/ 111". ونختم الحديث في ذلك بما جاء عن الإمام ابن تيمية وتلميذه: الإمام ابن القيم: جاء في فتاوى ابن تيمية "3/ 338، 349، 394" في بحث قاعدة: الأصل في العقود والشروط. يقول -رحمه الله تعالى-: "فتبين أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم، لا أنه لا يصححه إلا بتحليل ... إلى أن قال: وإذا كان الملك يتنوع أنواعًا، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه، لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضًا إلى الإنسان، يثبت منه ما رأى فيه مصلحته، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة فيه، والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض، فإذا لم يكن فيه فساد، أو كان فساده مغمورًا بالمصلحة، لم يحظره أبدًا". ويقول ابن القيم في إعلام الموقعين "3/ 288": "وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات وغيرها بالشروط، أمر تدعو إليه الضرورة، أو الحاجة، أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف". هذا بالإضافة إلى الأحكام الفرعية المبثوثة في كتب الفقه الحنبلي، والتي بنيت على المصلحة، ومنها: 1- القول بتضمن الأجير المشترك وإن لم يتعدّ، وهو مروي عن الإمام أحمد -نفسه- وله قول آخر بتضمين كل شريك ولو كان خاصًّا، مستندًا إلى قول "علي" -رضي الله عنه- الذي رواه في مسنده "لا يصلح الناس إلا هذا" انظر: المغني "6/ 107". =

ولذلك لم يشرع المثلة، وإن كانت أبلغ في الردع والزجر، ولم يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر. فإذا ثبت حكمًا لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم، كان وضعًا للشرع بالرأي، وحكمًا بالعقل المجرد، كما حكي أن مالكا قال: "يجوز قتل الثلث من الخلق لاستصلاح الثلثين". ولا نعلم أن الشرع حافظ على مصلحتهم بهذا الطريق، فلا يشرع مثله.

_ = 2- روي عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنه جوز تخصيص بعض الأولاد بالهبة لمعنى يقتضي التخصيص؛ مثل: اختصاصه بحاجة أو زمانة، أو عمي، أو كثرة عائلة، أو اشتغاله بطلب العلم، أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يستعين بما أخذه على معصية الله، أو ينفقه فيها. المغني "6/ 265". 3- وجاء في كشاف القناع "2/ 177": "وضمان العهدة صحيح عند جماهير العلماء؛ لأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة.... ثم قال: ولأنه لو لم يصح لامتنعت المعاملات مع من لم يعرف، وفيه ضرر عظيم رافع لأصل الحكمة التي شرع البيع من أجلها". وينبغي أن يكون معلومًا أن ما يقوله جمهور العلماء في الأخذ بالمصالح المرسلة، إنما هو حدود ما تشهد له الشريعة في الجملة بالاعتبار، ما لم يخالف نصًّا أو إجماعًا، وهذا يخالف ما ذهب إليه الإمام الطوفي -رحمه الله تعالى- من اعتبار المصلحة، حتى ولو خالفت نصًّا أو إجماعًا، وهذا الرأي منه مخالف لما عليه أهل العلم، سلفًا وخلفًا، لأن مذهبه هذا يتعدى حدود المصالح المرسلة، إلى العمل بالمصالح التي ألغاها الشارع، وهو مرفوض تمامًا، ولا أحد يوافقه عليه، لأن المصلحة دائمًا مع الدليل الشرعي، ولا كلام في ذلك. والله أعلم.

باب: في تقاسيم الكلام والأسماء

باب: في تقاسيم الكلام والأسماء فصل: اختلاف في مبدأ اللغات ... باب: في تقاسيم الكلام والأسماء 1 فصل: اختلف في مبدأ اللغات: فذهب قوم إلى أنها توقيفية2؛ لأن الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة، ودعوة إلى الوضع، ولا يكون ذلك إلا عن لفظ معلوم قبل الاجتماع للاصطلاح.

_ 1 لما فرغ المصنف من الكلام على الأحكام الشرعية، والأصول التي تستقى منها الأحكام، بدأ يتكلم عن كيفية استنباط الأحكام من هذه الأصول. قال الطوفي: "واعلم أن الكلام في اللغات هو كالمدخل أو أصول الفقه من جهة أنه أحد مفردات مادته وهي: الكلام -أي علم العقيدة- والعربية، وتصّور الأحكام الشرعية. فأصول الفقه متوقفة على معرفة اللغة؛ لورود الكتاب والسنة بهما.... اللذين هما: أصول الفقه، وأدلته، فمن لا يعرف اللغة لا يمكنه استخراج الأحكام من الكتاب والسنة" شرح المختصر "1/ 468-469". 2 أي: عرفت بالتوقيف من الله -تعالى- بإلهام أو وحي، وهو مذهب أبي الحسن الأشعري وأتباعه، وابن فورك -من الشافعية- وابن الحاجب، وأبي الفرج المقدسي الحنبلي، وابن قاضي الجبل، والظاهرية، وهو الذي رجحه المصنف -كما سيأتي- كما اختاره الطوفي وغيره من الحنابلة. قال في المقنع: "وهو الظاهر عندنا". =

وقال آخرون: هي اصطلاحية1؛ إذ لا يفهم التوقيف ما لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفًا للمخاطب باصطلاح سابق. وقال القاضي: يجوز أن تكون توقيفية، ويجوز أن تكون اصطلاحية ويجوز أن يكون بعضها توقيفية وبعضها اصطلاحية، وأن يكون بعضها ثبت قياسًا، فإن جميع ذلك متصور في العقل2.

_ = انظر: المحصول "1/ 243" الإبهاج "1/ 196" العدة "1/ 191" شرح الكوكب المنير "1/ 285 وما بعدها". 1 وهو مذهب أبي هاشم الجبائي وأتباعه من المعتزلة. 2 قال القاضي -بعد أن حكى ما تقدم من الاحتمالات-: "والذي نختاره: ما ذكرناه أولًا، وهو كلام أبي بكر عبد العزيز من أصحابنا؛ لأنه فسر قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} بما نذكره فيما بعد، ولم يحمل الآية على عمومها". ثم قال: "وأما قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} : فذكر أبو بكر في كتاب التفسير فقال: وأولى بالصواب: أسماء ذريته وأسماء الملائكة، دون سائر أجناس الخلق، قال: وذلك أن الله -تعالى- قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} يعني بذلك: أعيان المسمين؛ إذ لا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، فأما إذا كنّت عن أسماء البهائم، وسائر الخلق، سوى من وصفها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف، أو بالهاء والنون، فقالت: "عرضهن" أو "عرضها" وكذلك تفعل إذا كنّت عن أصناف من الخلق والبهائم والطير، وسائر أصناف الأمم، وفيها أسماء بني آدم والملائكة، تكني عنها بما وصفنا نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] فكني عنها بالهاء والميم؛ لأنها أصناف مختلفة فيها الآدمي. "العدة 1/ 191-192" هذا، وفي المسألة آراء أخرى كثيرة فقيل: ما يحتاج إليه توقيف، وغيره محتمل أو اصطلاح. وقيل: عكسه. وقيل: بالتوقف وعدم الجزم برأي معين. يراجع في هذه المسألة: المزهر =

أما التوقيف: فإن الله -سبحانه- قادر على أن يخلق لخلقه العلم بأن هذه الأسماء قصدت للدلالة على المسميات. وأما الاصطلاح: فبأن تجتمع دواعي العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم من تعرف الأمورالغائبة، فيبتدئ واحد، ويتبعه آخر، حتى يتم الاصطلاح. أما الواقع منها: فلا مطمع في معرفته يقينًا؛ إذ لم يرد به نص، ولا مجال للعقل والبرهان في معرفته. ثم هذا أمر لا يرتبط به تعبّد عملي، ولا يرهق إلى اعتقاده حاجة، فالخوض فيه فضول، فلا حاجة إلى التطويل. والأشبه: أنها توقيفية، لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1.

_ = للسيوطي "1/ 16"، الخصائص لابن جني "1/ 40 وما بعدها"، الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس ص31 وما بعدها، شرح الكوكب المنير "1/ 285 وما بعدها"، إرشاد الفحول "1/ 80 وما بعدها". 1 سورة البقرة من الآية 31. قال الطوفي: "ووجه دلالته: أنه -سبحانه وتعالى- أخبر أنه علم آدم الأسماء باللام المستغرقة، وأكدها بلفظ "كل" وذلك يقتضي أنه وقفه عليها، ثم توارثت ذلك ذريته من بعده بالتلقي عنه، فلم يحتاجوا إلى اصطلاح آخر". شرح مختصر الروضة "1/ 474". وجاء في شرح الكوكب المنير "1/ 285-286": "ورُدَّ قول من قال: علمه بعضها، أو اصطلاحًا سابقًا: أو علمه حقيقه الشيء وصفته: بأن الأصل اتحاد العلم، وعدم اصطلاح سابق، وأنه علمه حقيقة اللفظ، وقد أكده بـ: "كلها". وفي الصحيحين في حديث الشفاعة: " ... وعلمك أسماء كل شيء" "أخرجه البخاري: كتاب التفسير، عن أنس -رضي الله عنه- مرفوعًا، ومسلم: بروايات أخرى قريبة من هذا اللفظ". =

فإن قيل1: يحتمل: أنه ألهمه وضع ذلك، ثم نسبه إلى تعليمه؛ لأنه الهادي إليه. ويحتمل: أنه كان موضوعًا قبل آدم بوضع خلق آخرين، فعلمه ما تواضع عليه غيره. ويحتمل: أنه أراد أسماء السماء والأرض، وما في الجنة والنار، دون الأسامي التي حدثت مسمياتها. قلنا: هذا نوع تأويل يحتاج إلى دليل.

_ = وبأنه: يلزم إضافة الشيء إلى نفسه في قوله {بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} فالتعليم للأسماء، وضمير {عَرَضَهُمْ} للمسميات. ولظاهر قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . ولقوله تعالى: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] . وقوله تعالى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] . وحمله على اللغة أبلغ من حمله على الجارحة، وحمله على اختلاف اللغات أولى من حمله على الإقدار عليها؛ لعلة الإضمار". فهذه كلها أدلة تؤيد رأي الجمهور في أنها توقيفية. 1 هذا اعتراض على دليل التوقيف، خلاصته: أن الآية الكريمة ليست نصًّا في الموضوع؛ إذ يحتمل: أن الله تعالى ألهم آدم -عليه السلام- وضع تلك الأسماء لمسمياتها، ثم نسب التعليم إلى نفسه -سبحانه- لأنه الهادي والمرشد إليه. كما يحتمل: أنه علمه لغة من كانوا قبله في الأرض، فقد قيل: إنه كان في الأرض أمم قبل آدم، ولا بد أن يكون لهم لغة يتحاطبون بها. ويحتمل: أنه -سبحانه- أوقفه على الأسماء الموجودة حينئذ، كالسماء والأرض، والملائكة، وما في الجنة والنار، لا ما حدث من أسماء المسميات =

فصل: هل تثبت الأسماء بالقياس

فصل: [هل تثبت الأسماء بالقياس] قال القاضي يعقوب: يجوز أن تثبت الأسماء قياسًا، كتسمية النبيذ خمرًا، لعلمنا: أن مسكر العنب إنما سمي خمرًا؛ لأنه يخامر العقل -أي: يغطيه- وقد وجد هذا المعنى في النبيذ فيسمى به، حتى يدخل في عموم قوله -عليه السلام-: "حرمت الخمر لعينها" 1. وبه قال بعض الشافعية2.

_ = بعد ذلك، فلا يكون التوقيف كليًّا، وبوجود هذه الاحتمالات لا يحصل المدعي. وأجاب عنه المصنف: بأن هذه الاحتمالات التي عارضتهم بها الآية المذكورة تخصيص لظاهر عمومها، وتأويل لا دليل عليه. انظر: شرح المختصر "1/ 474-475". كما يرد هذه الاحتمالات ما سبق نقله من شرح الكوكب المنير. 1 أخرجه النسائي: كتاب الأشربة، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب المسكر، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- بلفظ: "حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب" انظر: جامع الأصول "6/ 736". قال الصنعاني: "وتطلق -أي الخمر- على ما هو أعم من ذلك، وهو ما أسكر من العصير أو من النبيذ أو من غير ذلك..... قال صاحب القاموس: "العموم أصح؛ لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب، ما كان إلا البسر والتمر". سبل السلام "4/ 28" والبسر: الغض الطري من ثمر النخل. 2 حرر الطوفي -رحمه الله تعالى- محل الخلاف في هذه المسألة فقال: "وليس الخلاف في أسماء الأعلام، كزيد وعمرو، ولا في أسماء الصفات، كعالم وقادر؛ إذ هذا متفق على امتناع القياس فيه؛ لأن الأعلام ثابتة بوضع الواضع لها باختياره، فليس لها ضابط، وأسماء الصفات لأجل المعاني الصادرة منها، والقائمة بها، فليس لأحد أن يقول: زيد إنسان، فأنا أحكم على كل إنسان بأن =

وقال أبو الخطاب، وبعض الحنفية، وبعض الشافعية: ليس هذا بمرض؛ فإنا عرفنا أن أهل اللغة خصوا مسكر عصير العنب باسم "الخمر" فوضعه لغيره اختراع من عندنا، فلا يكون من لغتهم. وإذا علمنا أنهم وضعوه لكل مسكر: فاسم "الخمر" ثابت للنبيذ توقيفًا من جهتهم، لا قياسًا. وإن احتمل الأمرين، فَلِمع نتحكّم عليهم ونقول: لغتكم هذه؟ وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعانٍ ويخصصونها بالمحل، كما يسمون الفرس: أدهم؛ لسواده، وكميتًا1؛ لحمرته، والقارورة من الزجاج، لأنه

_ = اسمه زيد، ولا أن يقول: عمرو عالم، وهو رجل فأنا أحكم بأن كل رجل عالم، وإنما النزاع في الأسماء الكلية، أعني: أسماء الأجناس والأنواع التي وضعت لمعان في مسمياتها تدور معها وجودًا وعدمًا، كالخمر الذي دار اسمه مع التخمير، هل يجوز إطلاقه على النبيذ، قياسًا بعلة التخمير والإسكار؟ قال الآمدي: أثبت ذلك القاضي أبو بكر وابن سريج وجماعة من الفقهاء وأهل العربية. ونفاه أكثر أصحاب الشافعي والحنفية وجماعة من أهل الأدب، وهذا النقل كالتفصيل لنقل الشيخ أبي محمد" شرح مختصر الروضة "1/ 476". وتظهر ثمرة الخلاف في هذه المسألة في: أن من قال بالقياس اعتبر حكم المسميات الفرعية ثابتًا بالنص لا بالقياس، فيسمى "النباش" -وهو الذي يسرق أكفان الموتى- سارقًا، ويقام عليه الحد، كما يسمى "اللائط" زانيًا ويقام عليه الحد أيضًا. ويكون حكم النبيذ ثابتًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . ومن قال: إن القياس لا يجري في اللغات: أثبت حكم المسميات السابقة بالقياس لا بالنص. انظر: شرح العضد على المختصر "1/ 183" نهاية السول "3/ 41" الإحكام للآمدي "1/ 208". 1 جاء في المصباح المنير "2/ 540": "الكميت من الخيل بين الأسود والأحمر. =

يقر فيها المائعات، ولا يتجاوزون بهذه الأسماء محلها، وإن كان المعنى عامًّا في غيره. فإذًا: ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم لا سبيل إلى إثباته ووضعه1. قلنا: متى تحققنا أنهم وضعوا الاسم لمعنى استدللنا على أنهم وضعوه بإزاء كل ما فيه المعنى، كما أنه إذا نُص على حكم في صورة لمعنى، علمنا: أنه قُصد إثبات الحكم في كل ما وجد فيه المعنى. فالقياس: توسيع مجرى الحكم2. وإذا جاز قياس التصريف، فسموا فاعل الضرب: ضاربًا، ومفعوله: مضروبًا: فَلَِم لا يجوز فيما نحن فيه؟ وفيما استشهدوا به من الأسماء: وضع الاسم لشيئين: الجنس والصفة، ومتى كانت العلة ذات وصفين: لم يثبت الحكم بدونهما3.

_ = قال أبو عبيد: ويفرق بين "الكميت" و"الأشقر" بالعرف والذنب، فإن كانا أحمرين فهو "أشقر" وإن كانا أسودين فهو "الكميت" وهو تصغير "أَكْمَت" على غير قياس، والاسم "الكمتة". 1 انظر: التمهيد "3/ 454 ما بعدها". 2 أي: أن القول بالقياس في اللغة يوسع دائرة الحكم، حيث إن المسميات التي تلحق بالأصل على رأي من يقول بعدم القياس، تدخل تحت النص مباشرة دون حاجة إلى دليل آخر، كما تقدم توضيح ذلك في أن "النباش" يقام عليه الحد لأنه سارق. 3 معنى ذلك: أن ما معنا شبيه بالاشتقاق، حيث يوجد في المشتق خصوص المحل مع المعنى المشتق منه، كما سمي الأسد "ضيغمًا" مشتقًا من "الضغم" وهو العض الشديد، ولم يسم الجمل "ضيغمًا" وإن كان العض الشديد موجودًا =

فصل: في تقاسيم الأسماء وهي أربعة أقسام: وضعية. وعرفية. وشرعية. ومجاز مطلق1. أما الوضعية: فهي الحقيقة. وهو: اللفظ المستعمل في موضوعه الأصلي2.

_ = فيه، لأن خصوصية الأسدية مرادة في "الضغم" والبعير ليس بأسد، فكذلك خصوصية الفرسية موجودة في الأدهم مع السواد، فالعلة ذات وصفين، فلا يثبت الحكم بأحدهما دون الآخر. انظر: شرح مختصر الروضة "1/ 480". 1 الوضعية: أي الثابتة بالوضع، وهو: تخصيص الواضع لفظًا باسم، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ فهم منه ذلك المسمى، كما إذا أطلق لفظ "الأسد" فهم منه حد الحيوان المفترس. والعرفية: هي ما ثبتت بالعرف، وهو استطلاح المتخاطبين، سواء أكان ذلك عرفًا عامًّا أم خاصًّا. والشرعية: وهي ما ثبتت بوضع الشرع للمعاني الشرعية. والمجاز: هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له. وسيأتي الكلام عليه. وتقسيم المصنف للاسم إلى حقيقة ومجاز، إنما كان بسبب كثرة ذلك في الأسماء، وإلا فهذا التقسيم يجري في الأفعال والحروف أيضًا، انظر: شرح المختصر "1/ 484". 2 الحقيقة -على وزن فعيلة- مأخوذة من الحق، وهو الثابت، لأن نقيضه الباطل، =

وأما العرفية: فإن الاسم يصير عرفيًّا باعتبارين: أحدهما: أن يخصص عرف الاستعمال من أهل اللغة الاسم ببعض مسمياته الوضعية1. كتخصيص الدابة بذوات الأربع، مع أن الوضع لكل ما يدب. الاعتبار الثاني: أن يصير الاسم شائعًا في غير ما وضع له أولًا، بل هو مجاز فيه، كالغائط، والعذرة، والراوية2. وحقيقة الغائط: المطمئن من الأرض، والعذرة: فناء الدار، والراوية: الجمل الذي يستقى عليه. فصار أصل الوضع منسيًّا، والمجاز معروفًا، سابقًا إلى الفهم، إلا أنه ثبت بعرف الاستعمال، لا بالوضع الأول3. وأما الشرعية:

_ = وسمي اللفظ المستعمل في معناه الأصلي حقيقة؛ لأنه لم ينقل عنه إلى غيره. وقول المصنف "هو اللفظ المستعمل في موضوعه الأصلي" ليخرج المجاز؛ لأنه مستعمل في غير ما وضع له أولًا. 1 فهذه تسمى حقيقة لغوية. 2 المراد بالراوية: الوعاء الذي يوضع فيه الماء. 3 وتسمى بالحقيقة العرفية العامة، وهناك حقيقة عرفية، وهي التي يطلق عليها: الاصطلاحية، وهي: ما خصته كل طائفة من الأسماء بشيء من مصطلحاتهم: كمبتدأ وخبر، وفاعل ومفعول، ونعت وتوكيد، في اصطلاح النحاة ونقض وكسر وقلب في اصطلاح الأصوليين وغير ذلك مما اصطلح عليه أرباب كل فن. انظر: شرح الكوكب المنير "1/ 150".

فهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع، كالصلاة، والصيام والزكاة والحج1.

_ 1 وضح الطوفي -رحمه الله تعالى- هذه المسألة، وحرر محل النزاع فقال: "اعلم أن هذه المسألة تعرف بمسألة الحقيقة، أو الحقائق الشرعية. وتلخيص محل النزاع فيها يحتاج إلى كشف؛ فإن أكثر الفقهاء يتسلّمه تقليدًا، ولو سئل عن تحقيقه لم يفصح به. فنقول: أما إمكان وضع الشارع ألفاظًا من ألفاظ اللغة أو غيرها على المعاني الشرعية تعرف بها، فلا خلاف فيه، أعني: الإمكان؛ إذا لا يلزم من تقدير وقوعه محل لذاته، وإنما النزاع في أن هذه الألفاظ التي استفيدت منها المعاني الشرعية: هل خرج بها الشارع عن وضع أهل اللغة باستعمالها في غير موضوعهم؟ مثاله: أن الصلاة في اللغة: الدعاء، والزكاة: الطهارة أو النماء، والحج: القصد. وفي الشرع: الصلاة والحج: أفعال مخصوصة ذات شروط وأركان. والزكاة: إخراج جزء مقدّر من مقدار خاص ونوع خاص من المال، إلى قوم مخصوصين على وجه القربة. فهل خرج الشارع باستعمال هذه الألفاظ في هذه المعاني عن وضع اللغة؟ بمعنى: أنه أعرض فيها عن الموضوع اللغوي، فلم يلاحظه أصلًا، بل خطف -مثلًا- لفظ الصلاة فوضعه على الافعال المعروفة شرعًا، وأعرض عن الموضوع اللغوي الذي هو الدعاء، وهذا معنى قولنا: ما نقله الشرع، أي: معرضًا عن موضوعه في اللغة. أم لم يخرج بذلك عن موضوعهم، بل لاحظ في كل لفظ موضوعه اللغوي، لكنه زاد فيه شروطًا شرعية؟ مثلًا: إن موضوع الصلاة لغة -وهو الدعاء- مراد للشرع، وملاحظ في نظره، لكنه ضم إليه اشتراط الوضوء، والوقت، والسترة، والاستقبال، والنية، والتحريمة، والركوع، والسجود، والطمأنية، والتشهد، والتسليم. وهذا معنى قولنا: وقيل: لا، شرعية، أي: مستقلة مع الإعراض عن اللغة، بل اللغوية باقية، وزيدت شروطًا. فهذا تلخيص محل النزاع في المسألة. وعلى القول الأول: تكون الألفاظ الواردة، كالصلاة، والزكاة، والحج =

وقال قوم: لم ينقل شيء، بل الاسم باق على ما هو عليه في اللغة، لكن اشترط للصحة شروط، فالركوع أو السجود شرط للصلاة، لا من نفس الصلاة بدليل أمرين: أحدهما: أن القرآن عربي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- مبعوث بلسان قومه1.

_ = ونحوها، بالنسبة إلى الشرع واللغة: من باب المشترك، كالعين والقرء، لأن المدلول مختلف مطلقًا بأصل الوضع. وعلى القول الثاني: يكون من باب المتواطئ، كالحيوان، إذ بين الصلاة لغة وشرعًا قدر مشترك، وهو الدعاء، كما أن بين أنواع جنس الحيوان، كالفرس، والبعير، والشاة، ونحوها قدرًا مشركًا، وهو الحيوانية. وإذا عرفت ذلك، فالقول الأول -وهو إثبات الحقيقة الشرعية- هو مذهب الفقهاء، والخوارج، والمعتزلة، ثم قالت المعتزلة: هذه الأسماء الواردة في الشرع: إما جارية على الأفعال، كالصلاة، والزكاة، والصوم، ونحوها، فهي شرعية، أو جارية على الفاعلين، كالمؤمن، والفاسق، والكافر، فهي دينية، تفرقة بين القسمين، وإن استويا في أن الجميع عرف شرعي. ويلزم عليه أن يسموا المصلي والصائم والمزكي أسماء دينية؛ لجريانها على الفاعل، والإيمان والفسق والكفر أسماء شرعية، لجريانها على الفاعل. والصواب في ذلك أن يقال: إنها عملي، وهي الشرعية، أو اعتقادي، وهي الدينية.... وهذه القسمة وإن لم تخل عما يقال فيها، فهي أولى وأطرد من الأولى. والقول الثاني: -وهو نفي الحقيقة الشرعية- هو قول القاضي أبي بكر الطيب" شرح مختصر الروضة "1/ 490-492". 1 هذا هو الدليل الأول للقائلين بأنها لغوية، خلاصته، أنها لو لم تكن عربية، بل ابتدأ الشارع وضعها لهذه المعاني لكانت غير عربية، فلا يكون القرآن عربيًّا، لكن القرآن عربي، وكذلك لو قال القائل: "أكرموا العلماء" وأراد بالعلماء الفقراء لم يكن هذا من لسان العرب، وإن كان المنقول إليه عربيًّا، لأن العرب لم تضع لفظ الفقير للعالم.

ولو قال: "أكرموا العلماء" وأراد الفقراء: لم يكن هذا بلسانهم، وإن كان اللفظ المنقول إليه عربيًّا. والثاني: أنه لو فعل ذلك: للزمه تعريف الأمة ذلك بالتوقيف1. وهذا ليس بصحيح2؛ فإن ما تصوره الشرع من العبادات ينبغي أن يكون لها أسام معروفة، لا يوجد ذلك في اللغة إلا بنوع تصرف، إما النقل، وإما التخصيص. وإنكار أن الركوع والسجود والقيام والقعود الذي هو ركن الصلاة منها: بعيد حدًّا3. وتسليم أن الشرع يتصرف في ألفاظ اللغة بالنقل تارة، والتخصيص أخرى -على مثال تصرف أهل العرف- أسهل وأولى مما ذكروه؛ إذ للشرع عرف في الاستعمال كما للعرب. وقد سمى الله -تعالى- الصلاة إيمانًا بقوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 4. وهذا لا يخرج هذه الأسامي عن أن تكون عربية -كما قلنا في

_ 1 هذا هو الدليل الثاني لهم. خلاصته: أن الشارع لو وضع للمعاني الشرعية أسماء، لوجب أن تعرف الأمة ذلك بطريق التوقيف علي هذه المعاني، أما وأنه لم يعرّفهم ذلك فلا يكون الشرع قد وضع للمعاني الشرعية أسماء وضعًا مستقلًّا. 2 هذا رد على الدليلين السابقين. 3 ومع بعده، فإنه مخالف لما قاله العلماء في الفرق بين الشرط والركن. فالركن: ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا من حقيقته، كالركوع والسجود، أما الشرط: فهو ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان خارجًا عن حقيقته، كالوضوء فإنه شرط لصحة الصلاة، لكنه ليس داخلًا في حقيقتها، بل هو خارج عنها. 4 سورة البقرة من الآية: 143.

تصرف أهل اللغة- ولا تسلب الاسم العربي عن القرآن، كما لو اشتمل على مثلها من الكلمات الأعجمية على ما مضى1. وقوله: "كان يجب التوقيف على تصرفه" فهذا إنما يجب إذا لم يعلم مقصوده بالقرائن، والتكرير مرة بعد أخرى، فإذا فهم حصل الغرض2. [إذا أطلق اللفظ حمل على المعنى الشرعي] وعند إطلاق هذه الألفاظ في لسان الشرع، وكلام الفقهاء، يجب حمله على الحقيقة الشرعية، دون اللغوية، ولا يكون مجملًا، لأن غالب عادة الشارع استعمال هذه الأسامي على عرف الشرع لسائر الأحكام الشرعية. وحكي عن القاضي: أنه يكون مجملًا، وهو قول بعض الشافعية، والأولى: ما قلناه3.

_ 1 في موضوع: هل في القرآن ألفاظ غير عربية. 2 ومعناه: أنه يلزم تعريف الأمة بهذه الألفاظ لو لم توجد وسائل أخرى، فهناك طرق أخرى للتعريف، كتكرير استعمال الشرع لتلك الألفاظ في تلك المعاني مرة بعد أخرى، وكذلك وجود القرائن الدالة على المعنى، وهو كاف. 3 خلاصة ذلك: أن الشارع إن صدرت عنه، أو عن الفقهاء من مؤلفاتهم ألفاظ من هذا القبيل، هل تحمل على المعنى الشرعي أو اللغوي؟ ولا بد من تحديد محل النزاع، وهو: أنه إن علم بنص أو قرينة أن المراد المعنى اللغوي، أو الشرعي، فلا خلاف في حمله على ما دل عليه النص أو القرينة. أما إن كان مطلقًا، ولم يوجد ما يدل على معنى معين: فجمهور العلماء على حمله على المعنى الشرعي، لأن الشأن في الشارع أنه يريد بيان الأحكام الشرعية، فلا بد من حملها على هذه المعاني. =

....................................

_ = وحكي عن القاضي أبي يعلى، وبعض الشافعية أنها تكون مجملة، لترددها بين المعنى اللغوي والشرعي. قال المصنف: "والأولى: ما قلناه" لأن الأصل في الخطاب الشرعي بيان الأحكام الشرعية. ومن أمثلة ذلك: ما أخرجه مسلم "1431" وأبو داود "2461" والترمذي "780" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دعي إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصل". حمل بعضهم الصلاة على الصلاة الشرعية، أي: يتشاغل بالصلاة، تنبيهًا لهم على أنه صائم، لئلا يحتاج إلى تعريفهم ذلك خطابًا، وفيه ما فيه من الرياء. وحمله بعض العلماء على معناه اللغوي: وهو: أن يدعو لهم ولا يأكل. وكذلك ما أخرجه مسلم "352" وأبو داود "194" والترمذي "79" والنسائي "1/ 105" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "توضئوا مما مست النار". ومثله: ما أخرجه مسلم -أيضًا- "360" وأبو داود "184" والترمذي "81" وأحمد في المسند "4/ 288" أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "توضئوا من لحوم الجزور". حمل بعض العلماء الوضوء في الحديثين على الوضوء الشرعي، وحمله بعضهم على المعنى اللغوي، وهو غسل اليدين. انظر: المصباح المنير "2/ 663" شرح مختصر الروضة "1/ 502".

[المجاز وعلاقاته] وأما المجاز: فهو اللفظ المستعمل في غير موضوعه على وجه يصح. ثم إنه إنما يصح بأمور: أحدها: اشتراكهما1 في المعنى المشهور في محل الحقيقة، كاستعارة لفظ "الأسد" في الرجل الشجاع؛ لاشتهار الشجاعة في الأسد الحقيقي. ولا تصح استعارة "الأسد" في الرجل الأبخر، وإن كان البخر موجودًا في محل الحقيقة؛ لكونه غير مشهور به. والثاني: بسبب المجاورة غالبًا، كتسمية المزادة2: راوية، باسم الجمل الحامل لها؛ لتجاورهما في الأعم الأغلب.

_ 1 أي الحقيقة والمجاز. ومعنى ذلك: أنه يشترط وجود علاقة -بكسر العين- بين الحقيقة والمجاز، وهي: ما ينتقل الذهن بواسطتها عن محل المجاز إلى الحقيقة، كالشجاعة التي ينتقل الذهن بواسطتها عن الرجل الشجاع إلى السبع المفترس، إذ لولا هذه العلاقة لما صح التجوز. وقد أورد المصنف أربعة أنواع من العلاقات أولها: المشابهة بن الحقيقة والمجاز، واشترط لهذا النوع أن تكون هذه الصفة مشهورة وظاهرة يسرع الفهم إليها عند الإطلاق، حرصًا على سرعة التفاهم، كما في استعارة "الأسد" للرجل الشجاع؛ لأن الشجاعة صفة ظاهر في هذا الحيوان، بخلاف ما إذا كانت خفية كالبخر، وهو: الريح المنتنة؛ فإنها وإن كانت موجودة في الأسد، إلا أنها خفية، لا يكاد يعلمها إلا القليل من الناس، ولذلك لا تطلق على الإنسان الأبخر، لعدم شهرة ذلك. 2 المزادة: وعاء الماء.

وتسمية المرأة "ظعينة"1 باسم الجمل الذي تظعن عليه؛ للزومها إياه. وكذلك تسمية الفضلة المستقذرة: غائطًا وعذرة2. الثالث: إطلاقهم اسم الشيء على ما يتصل به، كقولهم "الخمر محرمة" والمحرم: شربها، "والزوجة محلّلة" والمحلل: وطؤها. وكإطلاقهم السبب على المسبب وبالعكس3. الرابع: حذفهم المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 4، {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} 5 أي: حب العجل.

_ 1 الظعينة في الأصل: وصف للمرأة في هودجها، ثم سميت بذلك وإن كانت في بيتها بسبب كثرة مجاورتها أثناء السفر. 2 أصل كلمة "الغائط" المكان المنخفض من الأرض. والعذرة في الأصل: فناء الدار، فأطلق لفظ "الفضلة المستقذرة" عليه لأنهم كانوا يلقونها فيه، فهو مجاز بسبب المجاورة، كما يطلق عليه: تسمية الظروف باسم المظروف. 3 معناه: أن من العلاقات، أو من أقسام التجوّز: إطلاق اسم الشيء على ما يتصل به بأي نوع من أنواع الاتصال، وتحته ثلاثة أنواع: النوع الأول: إطلاق اسم الشيء على ما أعد له، كما في قولهم: "الخمرة محرمة" و"الزوجة محللة" كما قال المصنف. النوع الثاني: إطلاق السبب على المسبب، وتحته أربعة أقسام: - سبب قابلي: مثل سال الوادي، والأصل: سال الماء في الوادي. - سبب فاعلي: مثل: نزل السحاب، أي: المطر. - سبب صوري: مثل: إطلاق اليد على القدرة. - سبب غائي: مثل: تسمية العصير خمرًا. النوع الثالث: إطلاق المسبب على السبب، مثل: إطلاق "الموت" على المرض الشديد. 4 سورة يوسف من الآية: 82. والتقدير: واسأل أهل القرية. 5 سورة البقرة من الآية: 93. =

[المجاز يستلزم الحقيقة دون العكس] وكل مجاز له حقيقة في شيء أخر، إذ هو عبارة عن [اللفظ] المستعمل في غير موضوعه، فلا بد أن يكون له موضوع1. ولا يلزم أن يكون لكل حقيقة مجاز؛ إذ كون الشيء له موضوع لا يلزم أن يستعمل فيما عداه.

_ = هذا، وعلاقات المجاز كثيرة تكلفت بها كتب البلاغة، ذكر الطوفي منها ما يزيد على عشرين نوعًا. انظر: شرح المختصر "1/ 506 وما بعدها". 1 ذهب بعض العلماء إلى أن المجاز لا يستلزم الحقيقة، إذ إن اللفظ قبل استعماله فيما وضع له أولًا، لا يوصف بالحقيقة، فلا مانع من أن يتجوز في اللفظ قبل استمعاله فيما وضع له أولًا. وأجاب عنه جمهور العلماء: بأن المجاز فرع عن الحقيقة، والحقيقة أصل، ومتى وجد الفرع وجد الأصل، بخلاف العكس، فإنه قد يوجد الأصل ولا يوجد الفرع. هذا معنى قول المصنف: "ولا يلزمك أن يكون لكل حقيقة مجاز". انظر: المحلى على جمع الجوامع وحاشية البناني "1/ 306 وما بعدها" شرح الكوكب المنير "1/ 189".

فصل: في تعارض الحقيقة والمجاز

فصل: [في تعارض الحقيقة والمجاز] متى دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز: فهو للحقيقة1، ولا يكون

_ 1 مسألة تعارض الحقيقة والمجاز تنقسم إلى أربعة أقسام: الأول: أن يكون المجاز مرجوحًا، لا يفهم إلا بقرينة، كالأسد للرجل الشجاع، وفي هذا القسم تقدم الحقيقة لرجحانها، لأنها الأصل. الثاني: أن يغلب استعماله حتى يتساوى مع الحقيقة، فتقدم الحقيقة أيضًا، لعدم رجحان المجاز. مثل كلمة "النكاح" فإنها تطلق على العقد والوطء إطلاقًا متساويًا، مع أنها حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر. الثالث: أن يكون المجاز راجحًا، والحقيقة مماتة لا تراد في العرف، فيقدم =

مجملًا، إلا أن يدل دليل على أنه أريد به المجاز1؛ إذ لو جعلنا كل لفظ أمكن التجوز فيه مجملًا: لتعذرت الاستفادة في أكثر الألفاظ، واختل مقصود الوضع، وهو التفاهم2. ولأن واضع الاسم لمعنًى إنما وضعه ليكتفي به فيه، فكأنه قال:

_ = المجاز؛ لأنه إما حقيقة شرعية، كالصلاة، أو عرفية كالدابة، فلا خلاف في تقديم المجاز على الحقيقة اللغوية. مثال ذلك: لو حلف: لا يأكل من هذه النخلة، فأكل من ثمرها، فإنه يحنث وإن أكل من خشبها لم يحنث، وإن كان الخشب هو الحقيقة؛ لأن الحقيقة هنا مهجورة. الرابع: أن يكون المجاز راجحًا والحقيقة تتعاهد في بعض الأوقات. مثال ذلك: لو حلف ليشربن من هذا النهر، فهو حقيقة في الكرع منه بفيه، ولو اغترف بكوز وشرب فهو مجاز؛ لأنه شرب من الكوز لا من النهر، لكنه مجاز راجح يتبادر إلى الفهم، فيكون أولى من الحقيقة. وهذا القسم هو محل الخلاف. انظر: القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص104، 105 شرح الكوكب المنير "1/ 195 وما بعدها". 1 وذهب بعض العلماء، كالإمام الرازي وأتباعه إلى أنه إذا تعارضت الحقيقة والمجاز الراجح، كان اللفظ مجملًا، ويحتاج إلى البيان. وذهب أبو يوسف والقرافي وابن حمدان وابن قاضي الجبل إلى أن المجاز الراجح أولى من الحقيقة المرجوحة. وذهب أبو حنيفة وابن الحاجب وابن مفلح إلى أن الحقيقة أولى من المجاز، ما لم تهجر. وقال الأصفهاني: محل ذلك إن منع حمل الكلام على الحقيقة والمجاز معًا. وقال ابن الرفعة: محله في إثبات وفي نفي يعمل بالمجاز قطعًا. انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص104 وما بعدها، شرح الكوكب المنير "1/ 195". 2 لأن الحكمة من وضع الألفاظ: إنما هي إفهام معانيها ودلالتها عليه، فلو جعلت =

"متى ما سمعتم هذه اللفظة: فافهموا ذلك المعنى" فيجب حمله عليه. إلا أن يغلب المجاز بالعرف، كالأسماء العرفية، فتصير -حينئذ- الحقيقة كالمتروكة؛ فإنه لو قال: "رأيت غائطا أو راوية" لم نفهم منه الحقيقة، فيصير الحكم للعرف ولا يصرف إلى الحقيقة، ولا يصرف إلى حقيقة إلا بدليل.

_ = مترددة بين حقائقها ومجازاتها لكانت مجملة، والمجمل شأنه أن يبقى معطلًا موقوفًا على ما يبينه.

فصل: في علامات الحقيقة والمجاز

فصل: [في علامات الحقيقة والمجاز] ويستدل على معرفة الحقيقة من المجاز بشيئين: أحدهما: أن يكون أحد المعنيين يسبق إلى الفهم من غير قرينة، والآخر لا يفهم إلا بقرينة، فيكون حقيقة فيما يفهم منه مطلقًا. أو يكون أحد المعنيين يستعمل فيه اللفظ مطلقًا، والمعنى الآخر لا يقتصر فيه على مجرد لفظه، فيكون حقيقة فيما يقتصر فيه على مجرد اللفظ1.

_ 1 معنى ذلك: أن مبادرة الذهن إلى فهم المعنى من اللفظ بلا قرينة يدل على أنه حقيقة. وبيانه: أن اللفظ المحتمل لمعنيين فأكثر، إما أن يتبادر فهمُ أهل اللغة عند إطلاقه بلا قرينة إلى جميع محتملاته، أو إلى بعضها، والأول هو المشترك، كلفظ العين والقرء. وأما الثاني: فالمتبادر إلى الفهم هو الحقيقة لأن السامع لو لم يضطر إلى أن الواضع وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى المتبادر، لما سبق إلى فهمه. وقول المصنف: "بلا قرينة" احتراز من مبادرة فهم اللفظ بقرينة، فإن هذا هو المجاز -كما تقدم-. =

الثاني: أن يصح الاشتقاق من أحد اللفظين، كالأمر في الكلام حقيقة، لأنه يصح منه: "أمر، يأمر، أمرًا" وليس بحقيقة في الشأن نحو قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} 1؛ لأنه لا يقال منه: "أمر، يأمر، أمرًا"2.

_ = فلو قال قائل: رأيت أسدًا، أو بحرًا، ولا قرينة حمل على المعنى الحقيقي، وهو: الحيوان المعروف، والماء الكثير. أما لو قال: رأيت أسدًا بيده سيف، أو بحرًا على فرس، عرفنا بهذه القرائن: أن المتكلم أراد الرجل الشجاع أو الكريم. من هذا القسم -أيضًا- ما إذا كان اللفظ يستعمل مطلقًا من غير قيد ولا قرينة، كما يستعمل مقرونًا بقرينة ما، فإن حمله على إطلاقه هو الأصل، فيكون ذلك علامة على أنه حقيقة. 1 سورة هود من الآية: 97. 2 وضح الشيخ الطوفي هذا الفرق فقال: "الوجه الثاني: أن يكون أحد اللفظين يصح فيه الاشتقاق والتصريف إلى الماضي والمستقبل، واسم الفاعل والمفعول، واللفظ الآخر لا يصح فيه ذلك فيكون، الأول حقيقة، والثاني مجازًا؛ لأن تصرف اللفظ يدل على قوته وأصالته، وعدم تصرفه يدل على ضعفه وفرعيته. وقد بينا أن الأصل هو الحقيقة، والمجاز فرع عليه، فكان التصريف دليلًا على الحقيقة دون المجاز، وذلك كلفظ "الأمر" يطلق على الصيغة الطلبية، نحو: اضرب، واجلس، ويطلق على الشأن والفعل، نحو قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: شأنه وفعله، فلما وجدناهم يصرفون الأمر اللفظي فيقولون: "أمر يأمر، أمرًا، فهو آمر، ومأمور" ولا يقولون ذلك في الأمر بمعنى الفعل، دل ذلك على أن الأول حقيقة، والثاني مجاز" شرح المختصر "1/ 518". وقد ذكر -رحمه الله تعالى- وجهًا ثالثًا للفرق بين الحقيقة والمجاز، وهو: أن يكون أحد اللفظين يستعمل وحده من غير مقابل، والآخر لا يستعمل إلا في المقابلة..... ومثل له بأمثلة كثيرة، منها: "النسيان" فإنه يطلق على المخلوق =

فصل: في تعريف الكلام وأقسامه

فصل: [في تعريف الكلام وأقسامه] الكلام: هو الأصوات المسموعة، والحروف المؤلفة1. وهو ينقسم إلى مفيد وغير مفيد. وأهل العربية يخصون الكلام بما كان مفيدًا، وهو: الجملة المركبة من مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، أو حرف نداء واسم. وما عداه: إن كان لفظة واحدة: فهي كلمة وقول. وإن كثر فهو كلم وقول.

_ = بدون مقابل، نحو قوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] . وفي حق فتى موسى -عليه السلام-: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63] . ولا يطلق على الله -سبحانه وتعالى- إلا مع المقابل، كقوله -سبحانه وتعالى-: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، { ... وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] . ثم قال: "وللفرق بين الحقيقة والمجاز علامات غير هذه، هذا الذي اتفق ذكره منها ههنا" المصدر السابق "1/ 519-521". 1 بدأ المصنف يذكر بعض الموضوعات المتعلقة باللغة، فعرف الكلام بأنه: الأصوات إلخ. والصوت عبارة عن عرض مسموع يحصل عن اصطكاك الأجرام، بسبب انضغاط الهواء بين المجرمين، فيتموج تموجًا شديدًا، فيخرج فيقرع صماخ الأذن، فتدركه قوة السمع، ولهذا تختلف الأصوات في الظهور والخفاء، تبعًا لاختلاف الأجسام المتصاككة في الصلابة والرخاوة. وصوت المتكلم عرض -أيضًا- حاصل على اصطكاك أجرام الفم، وهي مخارج الحروف، ودفع الهواء حتى يصل إلى أذان السامع. وقول المصنف -في تعريف الكلام-: "الأصوات المسموعة" ليخرج ما عدا =

والعرف: ما قلناه1، مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح. والكلام المفيد ينقسم ثلاثة أقسام: نص. وظاهر. ومجمل2. القسم الأول- النص3: وهو: ما يفيد بنفسه من غير احتمال، كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 4.

_ = العرَض الذي يدرك بالسمع، وهو الصوت. انظر: همع الهوامع "1/ 33" شرح مختصر الروضة "1/ 538 وما بعدها". 1 أي: أن الكلام هو الأصوات المسموعة والحروف المؤلفة، وأن المسألة مسألة اصطلاح فقط، ولا مشاحة في ذلك. 2 وجه الحصر فلي الأنواع الثلاثة: أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدًا، أو أكثر من معنى. فالأول: النص، والثاني -وهو ما يحتمل أكثلر من معنى- إما أن يترجح في أحد معنييه أو معانيه، أو لا يترجح، فإن ترجح فهو الظاهر، وإلا فهو المجمل. انظر: شرح المختصر "1/ 553". 3 النص قد يرد في مقابلة الأدلة العقلية التي تندرج تحت اسم الاجتهاد، ولذلك يقال: لا اجتهاد مع النص. وهذا يشمل جميع النصوص الشرعية من الكتاب أو السنة، سواء أكانت قطعية أم ظنية. وقد يرد في مقابلة الظاهر والمجمل. والنص هنا له تعريفات كثيرة، أورد المصنف بعضها. عرفه المجد بن تيمية بأنه: "ما أفاد الحكم يقينًا أوظاهرًا، وهو منقول عن أحمد والشافعي -رضي الله عنهما-" المسودة ص574. وقال القرافي: "للنص ثلاثة اصطلاحات: أحدها: ما لا يحتمل التأويل، والثاني: ما احتمله احتمالًا مرجوحًا كالظاهر، وهو الغالب في إطلاق الفقهاء، والثالث: ما دل على معنى كيف ما كان" "شرح تنقيح الفصول ص36 وما بعدها". 4 سورة البقرة من الآية: 196.

وقيل: هو الصريح في معناه. وحكمه: أن يصار إليه ولا يعدل عنه إلا بنسخ. وقد يطلق اسم النص على الظاهر1. ولا مانع منه؛ فإن النص في اللغة بمعنى الظهور، كقولهم: "نصت الظبية رأسها" إذا رفعته وأظهرته. قال امرؤ القيس2: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل ومنه سميت منصة العروس للكرسي الذي تجلس عليه لظهورها عليه.

_ 1 وهو ما يراه الإمام الشافعي -رضي الله عنه- وتبعه على ذلك بعض العلماء، كالقاضي أبي بكر الباقلاني. قال إمام الحرمين: "أما الشافعي فإنه يسمي الظواهر نصوصًا في مجاري كلامه، وكذلك القاضي، وهو صحيح في وضع الللغة؛ فإن النص معناه الظهور" البرهان "1/ 415-416". 2 هو: امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي، الشاعر الجاهلي المشهور، روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال فيه: "هو قائد الشعراء إلى النار". توفي سنة "545م". انظر في ترجمته: الشعر والشعراء "1/ 52 وما بعدها"، المزهر للسيوطي "2/ 443". 3 البيت من معلقته المشهورة، انظر: شرح المعلقات السبع لأبي عبد الله الزوزني، تحقيق الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد ص38. والجيد: العنق. والريم: الظبي الأبيض الخالص البياض. ونصته: أي رفعته، والمعطل: العنق الذي ليس عليه حلي.

إلا أن الأقرب تحديد النص بما ذكرناه أولًا1؛ دفعًا للترادف والاشتراك عن الألفاظ، فإنه على خلاف الأصل. وقد يطلق النص على: ما لا يتطرق إليه احتمال لا يعضده دليل2. فإن تطرق إليه احتمال لا دليل عليه: فلا يخرجه عن كونه نصًّا. القسم الثاني- الظاهر: وهو: ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى، مع تجويز غيره. وإن شئت قلت: ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر. فحكمه: أن يصار إلى معناه الظاهر، ولا يجوز تركه إلا بتأويل. والتأويل: صرف اللفظ عن الاحتمال الظاهر إلى احتمال مرجوح به لاعتضاده بدليل يصير به، أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر. إلا أن الاحتمال يقرب تارة ويبعد أخرى: وقد يكون الاحتمال بعيدا جدًّا فيحتاج إلى دليل في غاية القوة. وقد يكون قريبًا فيكفيه أدنى دليل.

_ 1 وهو قوله: "النص: وهو ما يفيد بنفسه من غير احتمال". 2 هذا احتراز مما لو تطرق إليه احتمال أن المراد من المسح الوارد في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} الغسل، فإنه احتمال لا دليل عليه. وقول الفقهاء: هل غسل الرأس يجزئ عن المسح أو لا، ليس مبنيًّا على هذا الاحتمال، بل على أمر آخر: هو هل مسح الرأس أمر تعبدي، أو تخفيف لمشقة غسله غالبًا؟ انظر: شرح مختصر الروضة "1/ 556".

وقد يتوسط بين الدرجتين، فيحتاج دليلًا متوسطًا. والدليل1 يكون قرينة. أو ظاهرًا آخر. ومهما تساوى الاحتمال وجب المصير إلى الترجيح.

_ 1 أي: الدليل الذي يتقوى به الظاهر والاحتمال تارة يكون بعيدًا، فيحتاج إلى دليل قوي يعضد ضعف الظاهر، وتارة يكون قريبًا فيحتاج إلى أدنى دليل، وتارة يكون متوسطًا فيحتاج إلى دليل متوسط وهكذا. وهذا الدليل قد يكون قرينة من القرائن مثل ما روي عن أحمد -رحمه الله تعالى- أنه قال: "كلمت الشافعي في أن الواهب ليس له الرجوع فيها وهب؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" فقال الشافعي -وهو يرى أن له الرجوع-: ليس بمحرم على الكلب أن يعود في قيئه. قال أحمد: فقلت له: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس لنا مثل السوء" فسكت. يعني الشافعي. فالشافعي تمسك بالظاهر، وهو أن الكلب لما لم يحرم عليه الرجوع في قيئه، فالظاهر أن الواهب إذا رجع مثله في عدم التحريم؛ لأن الظاهر من التشبيه: استواء المشبه والمشبه به من كل وجه، مع احتمال أن يفترقا من بعض الوجوه احتمالًا قويًّا جدًّا، فضعف -حيئذ- جانب أحمد في الاستدلال جدًّا؛ لأنه لم يبق معه إلا احتمال ضعيف جدًا فقواه بالقرينة المذكورة، وهي قوله -صلى الله عليه وسلم- في صدر الحديث المذكور: "ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" وهي دليل قوي، حيث إن الشرع اعتبر الرجوع في الهبة "مثل سوء" وقد نفاه صاحب الشرع، وما نفاه صاحب الشرع يحرم إثباته، فلزم من ذلك: أن جواز الرجوع في الهبة يحرم إثباته، فيجب نفيه. هذا مثال للقرينة. ومثال تقويته بظاهر آخر: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} =

...............................

_ = [المائدة: 3] ظاهر في تحريم جلدها، دبع أو لم يدبغ، مع احتمال أن الجلد غير مراد بالعموم احتمالًا مترددًا، من جهة أن إضافة التحريم تحمل على الأكل، والجلد غير مأكول، فيقتضي عدم تناول الجلد، ومن جهة أن عموم اللفظ قوي، متناول لجميع أجزائها، يقتضي تناول الجلد، فإذا نظرنا إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" وجدناه عامًّا يتناول إهاب الميتة، فكان هذا الظاهر مقويًا لاحتمال عدم إرادة جلد الميتة في الآية الكريمة. وإذا جازت التقوية بالظاهر -كما تقدم- فإنها تكون بالنص أقوى وأقوى. ومن أمثلة ذلك: قوله -عليه الصلاة والسلام- في شاة ميمونة: "ألا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ " فقالوا: إنها ميتة. قال: "إنما حرم من الميتة أكلها". فهذا نص في طهارة جلد الميتة. ومثال التقوية بالقياس: تركه -سبحانه وتعالى- ذكر الإطعام في كفارة القتل الخطأ في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَا وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إلى أن قال سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] فقد حددت الآية الكريمة الكفارة في تحرير الرقبة أو صيام شهرين متتابعين، ولم تذكر الإطعام كما في الظهار، فترك الإطعام ظاهر في عدم وجوبه، إذ لو كان واجبًا لذكر، هذا مع احتمال أن يكون مسكوتًا عنه، يستخرجه المجتهدون، ثم رأينا إثبات الطعام في كفارة القتل، بالقياس على إثباته في كفارة الظهار، والصيام، واليمين متجهًا؛ لأن الكفارات حقوق لله تعالى، وحكم الأمثال واحد، فثبوت الإطعام في تلك الكفارات تنبيه على ثبوته في كفارة القتل. انظر: شرح مختصر الروضة "1/ 564 وما بعدها". وأقول: في المثال الأخير نظر؛ فإن القياس في الكفارات مختلف فيه بين العلماء، وهو راجع إلى قضية حمل المطلق على المقيد، وأرى -والله أعلم بالصواب- أن الراجح هنا عدم حمل المطلق على المقيد، وأن التشديد في كفارة القتل ملحوظ =

[الأمور التي تلزم المتأول] وكل متأول يحتاج إلى: بيان احتمال اللفظ لما حمله عليه. ثم إلى دليل صارف له1. وقد يكون في الظاهر قرائن تدفع الاحتمال بمجموعها، وآحادها لا تدفعه2. مثاله: تأويل الحنفية قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لغيلان بن سلمة3 -حيث أسلم على عشر نسوة-: "أمسك منهن أربعا وفارق نت سواهن"4: بالانقطاع عنهن وترك نكاحهن، وعضدوه بالقياس.

_ = ومراعى من الشارع حتى يتناسب مع جريمة القتل، حتى ولو كان خطأ، ففيه نوع تقصير. انظر: تفسير القرطبي "5/ 328". 1 معنى ذلك: أن كل من أراد تأويل لفظ ظاهر لزمه أمران: الأول: بيان الاحتمال المرجوح مع الظاهر. الثاني: بيان الدليل الذي يقويه حتى يقدم على الظاهر. 2 يعني: أن الظاهر والاحتمال المرجوح إذا تقابلا، فقد يحتف بالظاهر هرائن تلغي ذلك الاحتمال وتبطله بالكلية، وقد تكون فيه قرائن عدة، كل واحدة منفردة لا تقوى على معارضة الاحتمال، أما إذا انضم بعضها إلى بعض قويت على معارضته. ومثل المصنف لذلك بالحديث الآتي. 3 هو: غيلان بن سلمة بن شرحبيل الثقفي، أسلم بعد فتح الطائف ولم يهاجركان شاعرًا محسنًا، توفي في آخر خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. انظر: الاستيعاب "3/ 1256". 4 أخرجه الترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة =

إلا أن في الحديث قرائن عضدت الظاهر، وجعلته أقوى من الاحتمال: أحدها: أنه لم يسبق إلى أفهام الصحابة إلا الاستدامة؛ فإنهم لو فهموه لكان هو السابق إلى أفهامنا. والثاني: أنه فوض الإمساك والمفارقة إلى اختياره، وابتداء النكاح لا يصح إلا برضاء المرأة.

_ = من حديث ابن عمر ولفظه "أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم، وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتخير منهن أربعًا". كما رواه ابن ماجه: كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، والشافعي، كتاب النكاح، باب أنكحة الكفار وإقرارهم عليها، والحاكم في المستدرك: كتاب النكاح، باب قصة إسلام غيلان الثقفي، وتخييره لأربع من النساء. قال ابن عبد البر: "طرقه كلها معلولة". كما أعله البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم. قال الترمذي: قال البخاري: هذا الحديث غير محفوظ. انظر: تلخيص الحبير "3/ 168"، سبل السلام "3/ 132". ومذهب الحنفية: أن من أسلم وتحته أكثر من أربع، فإن كان قد تزوجهن في عقد واحد، بطل نكاحهن جميعًا، وإن تزوجهن متعاقبات: اختار من الأول أربعًا، وترك الباقي، وهذا يعارض ظاهر الحديث الذي معنا، لذلك احتاجوا إلى التأويل، فحملوا الإمساك -في الحديث- على ابتداء النكاح، فكأنه قال: أمسك أربعًا: أي: ابتدئ نكاحهن من جديد، وفارق سائرهن، بأن لا تعقد عليهن. وعضدوا هذا بالقياس، فقالوا: إن بعض النسوة ليس بأولى الإمساك من البعض الآخر، فهو ترجيح بلا مرجح. أما الأئمة الثلاثة: فقالوا: يختار منهن أربعًا، وأيدوا ذلك بعدة قرائن، سيذكرها المصنف. انظر: شرح مختصر الروضة "1/ 569 وما بعدها".

والثالث: أنه لو أراد ابتداء النكاح: لذكر شرائطه؛ لئلا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، وما أحوج حديث العهد بالإسلام إلى معرفة شرائط النكاح. الرابع: أن ابتداء النكاح لا يختص بهن، فكان ينبغي أن يقول: "انكح أربعًا ممن شئت". ومثال التأويل في العموم القوي: قول الحنفية في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل"1. قالوا: هذا محمول على الأمة. فثناهم عن قولهم "فلها المهر بما استحل من فرجها"؛ فإن مهر الأمة للسيد فعدلوا إلى المكاتبة.

_ 1 أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه -جميعهم في كتاب النكاح- عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا، كما أخرجه أحمد في المسند "6/ 47" والحاكم في المستدرك، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". كما صححه أبو عوانة وابن حبان ويحيى بن معين وغيرهم. ولفظة: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي لها". ولما كان الحنفية يجيزون للمرأة البالغة أن تزوج نفسها بغير إذن وليها، قياسًا على تصرفاتها المالية، فقد أولوا الحديث وحملوه على الأمة، لأنها مملوكة لسيدها، وليست الحرة داخله في الحديث مع أنه عام. فلما عارض هذا التأويل تمام الحديث "فإن دخل بها فلها المهر" حيث أضاف المهر إليها بلام التمليك، والأمة لا تملك، حملوا الحديث على المكاتبة، ورد عليهم المصنف: "بإن هذا تعسف ظاهر" لمعارضته للعموم القوي كما تقدم.

وهذا تعسف ظاهر؛ لأن العموم قوي، والمكاتبة نادرة بالإضافة إلى النساء. وليس من كلام العرب إرادة الشاذ النادر باللفظ الذي ظهر منه قصد العموم إلا بقرينة تقترن باللفظ. وليس قياس النكاح على المال، والإناث على الذكور: قرينة تقترن باللفظ وتصلح لتنزيله على صورة نادرة1. ودليل ظهور قصد التعميم2 أمور: الأول: أنه صدر بأي، وهي من كلمات الشرط، ولم يتوقف في عموم أدوات الشرط جماعة ممن خالف في صيغ العموم. الثاني: أنه أكد بـ"ما" وهي من مؤكدات العموم. الثالث: أنه رتب بطلان النكاح على الشرط في معرض الجزاء. ولو اقترح على العربي الفصيح أن يأتي بصيغة دالة على العموم مع الفصاحة والجزالة: لم تسمح قريحته بأبلغ من هذه الصيغة. ونعلم أن الصحابة لم يفهموا من هذه الصيغة "المكاتبة" ولو سمعنا نحن هذه الصيغة: لم نفهم منها "المكاتبة". ولو قال القائل: أردت المكاتبة: لنسب إلى الأإغاز3.

_ 1 هذا رد على كلام الحنفية في قياس النكاح على المال، وقياس الإناث في تولي عقد النكاح على الرجال. 2 أي: العموم الوارد في الحديث الشريف كما سيأتي أن يبينه المصنف من أن "أي" من صيغ العموم التي لم يخالف فيها أحد. 3 الإلغاز: التعمية وصرف الشيء عن وجهه.

ولو أخرج "المكاتبة" وقال: "ما خطرت ببالي" لم يستنكر. فما لم يخطر على البال إلا بالإخطار كيف يجوز قصر العموم عليه؟ وقد قيل في تأويل قوله -عليه السلام-: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام بالليل" 1 -يحمله على القضاء- إنه من هذا القبيل2؛ لأن التطوع غير مراد، فلا يبقى إلا الغرض الذي هو ركن الدين، وهو صوم رمضان، والقضاء والنذر يجب بأسباب عارضة، فهو كالمكاتبة في مسألة النكاح.

_ 1 رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي ومالك في الموطأ، والطحاوي في شرح معانى الآثار، جميعهم في كتاب الصيام، من حديث حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنهها- مرفوعًا وموقوفًا. وقد رجح البخاري وأبو داود والترمذي عدم رفعه. انظر: تلخيص الحبير "2/ 188"، فتح الباري "4/ 142" ونصب الراية "2/ 432 وما بعدها". 2 أي: من قبيل التأويل الوارد في مسألة صحة زواج المرأة بدون ولي، كما قال الحنفية. وقد قال الحنفية -في الحديث الذي معنا-: إنه محمول على صوم القضاء والنذر، فإنه يجب تبييت النية لهما دون شهر رمضان؛ فإنه متعين ولا يحتاج إلى تبييت النية، باعتبار أن وقته مضيق لا يسع غيره معه، بخلاف القضاء والنذر. قال بعض العلماء: إن هذا التأويل في البعد والندرة كتأويل حديث النكاح بغير ولي على المكاتبة؛ وذلك لأنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا صيام" صيغة عموم، فيتناول الواجب والتطوع، خص منه التطوع بأدلة أخرى دلت على عدم اشتراط النية، وهو تأويل قريب، فإن التطوع إلى أنواع الصيام قليل، بخلاف ما إذا قصر على القضاء والنذر، فإنه يكون بعيدًا نادرًا، انظر: شرح المختصر "1/ 577 وما بعدها". وقد رد عليهم المصنف: بأن القضاء والنذر ليسا في الندرة والقلة كالمكاتبة كما سيأتي.

والصحيح: أنه ليس ندرة هذا كندرة المكاتبة1، وإن كان كالغرض أسبق إلى الفهم، فيحتاج هذا التخصيص إلى دليل قوي. وليس يظهر بطلانه كظهور التخصيص بالمكاتبة. وعند هذا يعلم: أن إخراج النادر قريب، والقصر على النادر ممتنع، وبينهما درجات تتفاوت في البعد والقرب. ولكل مسألة ذوق يجب أن تفرد بنظر خاص، ويليق ذلك بالفروع. القسم الثالث- المجمل: وهو: ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى2.

_ 1 وذلك لأن العموم هناك أقوى من العموم هنا، للأسباب التي تقدم ذكرها، أما صيغة "لا صيام" فالخلاف فيها مشهور؛ لأنه يحتمل نفي كمال الصيام، لا نفي صحته، ويحتمل نفي الصحة، وأصناف الصوم خمسة: صوم رمضان، والتطوع، والقضاء، والنذر، والكفارات، قصر الحديث على ثلاثة منها، وهي القضاء والنذر والكفارة، ولم يبق إلا التطوع وصوم رمضان، وليس نسبة ثلاثة إلى خمسة كنسبة نوع المكاتبة إلى جنس النساء. انظر: شرح مختصر الروضة "1/ 578". 2 المجمل في اللغة: ما جعل جملة واحدة، لا ينفرد بعض آحادها عن بعض. قال الجوهري: وقد أجملت الحساب: إذا رددته إلى الجملة. انظر: الصحاح مادة "جمل"، معجم مقاييس اللغة "1/ 481". وفي الاصطلاح: له عدة تعريفات، ذكر منها المصنف تعريفين، أحدهما "ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى". واعترض عليه الطوفي بأن ذلك يصدق على المهمل، فإنه لا يفهم منه معنى، أما المجمل: فإنه يفيد معنى، لكنه غير معين؛ إذ لو لم يكن له معنى، لما تعين المراد منه بالبيان؛ لأن البيان كاشف عن المراد بالمجمل؛ ولذلك أضاف إليه في مختصره لفظ "معين، فأصبح التعريف: "المجمل: ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين" انظر: الشرح "2/ 649".

وقيل: ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر1. وذلك مثل: الألفاظ المشتركة كلفظة "العين": المشتركة بين "الذهب" و"العين الناظرة" وغيرها2. و"القرء" للحيض والطهر3، والشفق للبياض والحمرة4. وقد يكون الإجمال في لفظ مركب، كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} 5، متردد بين الزوج والولي6.

_ 1 هذا التعريف قريب من تعريف الآمدي حيث قال: "المجمل: ما له دلالة على أحد معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه" انظر: الإحكام "3/ 8". 2 كما تطلق على: حرف الهجاء المعروف، وما نبع من الماء، والجاسوس، والمال الناض، ورئيس الجيش، وكبير القوم، وذات الشيء ونفسه، وعلى النفس من كل شيء، وغير ذلك. انظر: المزهر "1/ 369". 3 ولذلك وقع الخلاف في العدة، هل هي بالحيض أو بالطهر؟ 4 كما اختلف الفقهاء في دخول وقت العشاء: هل هو بغيبوبة حمرة الشفق، أو بغيبوبة البياض. 5 سورة البقرة من الآية: 237. 6 قال ابن عباس، وعلقمة، وطاووس، ومجاهد، وشريح، والحسن، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والزهري، ومالك، وغيرهم: هو الولي، الذي المرأة في حجره، فهو الأب في ابنته التي لم تملك أمرها، والسيد في أمته. وقال بعض العلماء: هو الزوج؛ قاله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وسعيد بن جبير، وكثير من فقهاء الأمصار، وقاله ابن عباس -أيضًا- ورجع إليه شريح. انظر: فتح القدير للشوكاني "1/ 279". قال الطوفي: "قلت: الصحيح من مذهب أحمد والشافعي أنه الزوج، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال مالك: هو الولي، الأب وسيد الأمة، والمختار الراجح في النظر: أنه الولي، وقد استقصيت أدلته اعتراضًا وجوابًا في التفسير بحمد الله تعالى ومنّه" شرح المختصر "2/ 654".

وقد يكون بحسب التصريف كالمختار، يصلح للفاعل والمفعول1. وقد يكون لأجل حرف محتمل: كالواو، تصلح عاطفة، ومبتدأة4. و"من" تصلح للتبعيض، وابتداء الغاية، والجنس، وأمثال ذلك. [حكم المجمل] فحكم هذا التوقف فيه حتى يتبين المراد منه4.

_ 1 فلفظ "المختار" متردد بين من وقع منه الاختيار، وبين من وقع عليه الاختيار، فالله تعالى مختار لنبيه -صلى الله عليه وسلم- حيث اختاره رسولًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- مختار، أي: وقع عليه اختيار الله عز وجل. 2 كما تكون بمعنى أو، ومعنى "مع" ومعنى "رب" وبمعنى الحال وغير ذلك. 3 وتكون للتبعيض، والتعليل، والبدل، وانتهاء الغاية، وبمعنى الباء وغير ذلك. 4 أي بدليل خارجي يبين المراد منه. قال الطوفي: "لأن الله -تعالى- لم يكلفنا العمل بما لا دليل عليه، والمجمل لا دليل على المراد به، لا نكلف بالعمل به ... ثم قال: والدليل على أنه لا يجوز ذلك -أيضًا-: هو أن في العمل به تعرضًا بالخطأ في حكم الشرع، والتعرض بالخطأ في حكم الشرع لا يجوز، وإنما قلنا: إن فيه تعرضًا بالخطأ؛ لأن اللفظ إذا تردد بين معنيين، فإما أن يرادا جميعًا، أو لا يراد واحد منهما، أو يراد أحدهما دون الآخر، فهذه أربعة أقسام، يسقط منها الثاني، وهو أن لا يراد واحد منهما؛ لأن ذلك ليس من شأن الحكماء، أن يتكلموا كلامًا لا يقصدون به معنى، يبقى ثلاثة أقسام، لا دليل على إرادة واحد منها. فإذا أقدمنا على العمل قبل البيان، احتمل أن يوافق مراد الشرع، فنصيب حكمه، واحتمل أن نخالفه، فنخطئ حكمه، فتحقق بذلك أن العمل بالمجمل =

[صور اختلف في إجمالها] فأما قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} 1 ونحوها2: فليس بمجمل، لظهوره من جهة العرف في تحريم الأكل، والعرف كالوضع. ولذلك قسمنا الأسماء إلى عرفية ووضعية3. ومن أنس بتعارف أهل اللغة: علم أنهم يريدون بقوله: "حرمت عليك الطعام": الأكل، دون اللمس والنظر، و"حرمت عليك الجارية": أي الوطء. ويذهبون في تحريم كل عين إلى تحريم ما هي معدة له. وهذا اختيار أبي الخطاب وبعض الشافعية4. وحكي عن القاضي أنه مجمل5؛ لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم حقيقة، وإنما يحرم فعل ما يتعلق بها، فلا يدري ما ذلك الفعل في الميتة:

_ = قيل البيان تعرض بالخطأ في حكم الشرع. وأما أن ذلك لا يجوز؛ فلأن حكم الشرع يجب تعظيمه، والتعرض بالخطأ فيه ينافي تعظيمه، فيكون ذلك ضربًا من الإهمال له، وقلة المبالاة والاحتفال به، وذلك لا يجوز" شرح المختصر "2/ 655". 1 سورة المائدة من الآية: 3. 2 مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وقوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتِ} وسائر الصور التي أضيف الحكم فيها إلى الأعيان. 3 أي: في أول هذا الفصل. 4 وهو رأي القاضي عبد الجبار وأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، وأبي الحسين البصري. انظر شرح المختصر "2/ 659". 5 ووافقه بعض العلماء، كأبي الحسن الكرخي -من الحنفية- وأبي عبد الله البصري -من المعتزلة- وبعض الشافعية.

أكلها، أم بيعها، أم النظر إليها أو لمسها؟ وهذا قول جماعة من المتكلمين. وقد ذكرنا أن هذا ظاهر من جهة العرف في الأكل، والصريح يكون بالوضع تارة، وبالعرف أخرى. وقوله الله -تعالى-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 1: ليس بمجمل، وإنما هو لفظ عام، فيحمل على عمومه2. وقال القاضي: هو مجمل3.

_ = انظر: العدة "1/ 145" وشرح مختصر الروضة "2/ 659". 1 سورة البقرة من الآية: 275. 2 أي: أن البيوع في الشرع كثيرة ومتعددة، منها الحلال، كالبيوع المستوفية لشروط الصحة، ومنها الحرام.... فبعض العلماء ادعى أن البيع في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} مجمل، لتردده بين ما هو جائز وما هو محرم، ثم ورد البيان من الشرع. ومنهم من قال: إنه عام في البيوع الجائزة وغيرها، ثم خص المحرم منها بأدلة أخرى، كالأحاديث التي جاءت بتحريم بعض البيوعات، كالنهي عن بيع الغرر، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع الإنسان ما ليس عنده وغير ذلك. وقد بين الطوفي الفرق بين القولين فقال: "والقولان متقاربان؛ لأن تخصيص العموم نوع من البيان. نعم، تظهر فائدة الخلاف في قوله -عز وجل-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} إن قلنا: هو مجمل بين، كان حجة بلا خلاف، وإن قلنا: هو عام خص، كان في بقائه حجة الخلاف السابق، في أن العالم -بعد التخصيص- حجة أم لا؟ وعلى كل حال، فكونه من باب المخصوص أولى، وأكثر وأشهر" شرح المختصر "2/ 661-662". 3 انظر: العدة "1/ 110".

فصل: نفي الذوات لا يقتضي الإجمال

فصل: [نفي الذوات لا يقتضي الإجمال] وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا صلاة إلا بطهور" 1 ليس بمجمل2. وقال الحنفية: هو مجمل3؛ لأن المراد به: نفي حكمه؛ إذ لا يمكن حمل اللفظ على نفي صورة الفعل، فيكون خلفا4، وليس حكم أولى من حكم5.

_ 1 أخرجه مسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا، كما أخرجه عند الترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور، وابن ماجه: كتاب الطهارة، باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور، والطيالسي في مسنده: كتاب الطهارة، باب ما جاء في فضل الوضوء، وأن الصلاة لا تقبل بدونه. وللحديث طرق أخرى كثيرة يراجع: فيض القدير "6/ 415". ومثل هذا الحديث كل ما جاء فيه نفي ذوات واقعة تتوقف الصحة فيها على إضمار شيء. مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" و "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب". 2 وهو مذهب جمهور العلماء. 3 وهو رأي أبي بكر الباقلاني وأبي عبد الله البصري "شرح المختصر 2/ 663". 4 خلفا -بضم الخاء وسكون اللام-: أي باطلًا، كما في القاموس، ولم يرتضه الزبيدي في شرحه، وقال: إنه بفتح الخاء، وهو الرديء من القول، وشبهه العلماء بمن ينطق من خلفه، وفي المثل: سكت ألفا ونطق خلفًا، أي: سكت عن ألف كلمة، ثم تكلم بخطأ. قال الزبيدي: "ولعلهما لغتان، وإلا فالقياس في اللغة لا يصح والأشهر الفتح" انظر: تاج العروس "6/ 96" مادة "خلف". 5 خلاصة دليل الحنفية ومن معهم: أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا صلاة إلا بطهور" ونحوه، =

قلنا: إذا حملناه على نفي الصلاة الشرعية: لم يحتج إلى إضمار الحكم، وإنما يصار إلى الإضمار: إذا لم يمكن حمل اللفظ على ما أضيف إليه اللفظ1. فإن قيل فالفاسدة تسمى صلاة. قلنا: ذلك مجاز؛ لكونها على صورة الصلاة، والكلام يحمل على حقيقته. والصحيح: أن يحمل ذلك على نفي الصحة.

_ = أما أن يحمل نفي صورة الصلاة أو نفي حكمها، والأول باطل؛ لأن صورة الصلاة يمكن وجودها بغير طهارة، فتعين أن يكون المراد: نفي حكم الصلاة ولكن الأحكام متعددة ومتساوية، فيحتمل: نفي الصحة والكمال والأجزاء فيبقى الكلام مترددًا بين هذه المعاني، ومن هنا جاء الإجمال. 1 أجاب المصنف على استدلال الحنفية ومن معهم: بأن دعواكم الإجمال مبني على جعل اللفظ مترددًا بين معناه اللغوي ومعناه الشرعي، والمصطلحات الشرعية غلبت في كلام الشارع على المعاني اللغوية، فأصبحت المعاني اللغوية مجازًا بالنسبة للمعاني الشرعية، وعلى ذلك يحمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا صلاة إلا بطهور" على المعنى الشرعي، أي: لا صلاة معتدًا بها شرعًا إلا بطهور، فلا نحتاج إلى إضمار حكم من الأحكام التي ترددتم فيها؛ لأن ذلك الإضمار إنما يحتاج إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على المعنى الحقيقي، وهو هنا: الصلاة المعهودة شرعًا من القيام والركوع والسجود وغير ذلك، وعلى ذلك يمكن حمل اللفظ على المعنى الشرعي، وإن حصلت صورته الظاهرة، إلا أنه منفي لفوات شرط من شروط صحة الصلاة، وهو الطهور. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه المصنف -بعد ذلك- في رده على قولهم: "فإن قيل: فالفاسدة تسمى صلاة" فأجاب: قلنا ذلك مجاز، لكونها على صورة الصلاة، والكلام يحمل على حقيقته. انظر توضيح ذلك في شرح مختصر الروضة "2/ 664-665".

وجهه1: أنه قد اشتهر في العرف نفي الشيء لنفي فائدته كقولهم: "لاعلم إلا ما نفع" و "لا عمل إلا بنية" و "لا بلدة إلا بسلطان" يراد به: نفي الفائدة والجدوى. ولو قضينا بالصحة لم تنتف الفائدة، فيكون على خلاف العرف. ولا يصح حمله على نفي الصلاة الشرعية؛ فإنه: إن أريد بالصلاة الشرعية: الصورة: لم يكن حمل اللفظ عليه لكونه خلفًا. وإن فسرت بالفعل مع الحكم: لم يصح؛ لأن الصلاة يؤمر بها وينهى عنها، والأمر والنهي إنما يتعلق بالفعل الذي يمكن الإتيان به وتركه. فصل وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا عمل إلا بنية" 2 يدل على نفي الأجزاء

_ 1 هذا جواب آخر على كلام الحنفية خلاصته: أنه اشتهر في العرف نفي الشيء لانتفاء فائدته، فيحمل الكلام في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا صلاة إلا بطهور" على نفي الصحة، لانتفاء الفائدة؛ لأن الصلاة بغير طهور، والصيام بغير تبييت نية لا يفيدان، فانتفت صحتها لانتفاء فائدتهما، إذ إن الصحة عبارة عن ترتيب الفوائد، والآثار المقصودة من الفعل. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 665". 2 جاء في كشف الخفاء "1/ 166" عن هذا الحديث: وورد بألفاظ مختلفة، بيناها في أوائل "الفيض الجاري" منها: العمل بالنية، ومنها: "لا عمل إلا بالنية". والرواية المشهورة التي رواها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". أخرجه البخاري في باب كيف كان بدء الوحي، وفي كتاب الأيمان، باب النية في الأيمان، وفي كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاق والطلاق ونحوه، كما اخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب قوله -صلى الله عليه وسلم- "إنما الأعمال بالنية" =

وعدمه؛ لما ذكرنا من العرف، فليس هذا من المجملات، بل هو من المألوف في العرف وكل هذا نفي لما لا ينتفي، وهو صدق، لأن المراد: نفي مقاصده لا نفي ذاته1.

_ = حديث "1907" وأبو داود "2201" والنسائي "1/ 58، 6/ 158، 7/ 13" والترمذي "1647" ومالك في الموطأ "983". 1 قال الطوفي في شرحه "2/ 667": "النزاع في قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" من هذا الباب، لأن "الأعمال" مبتدأ، وخبره محذوف، فاختلفوا: هل هو الصحة، فيكون التقدير: إنما الأعمال صحيحة، أو الكمال، فيكون تقديره: إنما الأعمال كاملة، والأظهر: إضمار الصحة لما سبق، والله -تعالى- أعلم".

فصل: رفع الخطأ رفع للحكم

فصل: [رفع الخطأ رفع للحكم] وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 1 المراد به رفع حكمه؛ فإنا علمنا أنه لم يرد رفع صورته؛ لأن كلامه يجل عن الخلف.

_ 1 أخرجه ابن ماجه: كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وعن أبي ذر -رضي الله عنه-. كما أخرجه عن ابن عباس -أيضًا-: الحاكم: كتاب الطلاق، باب ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". كذلك أخرجه ابن حبان في صحيحه، والطبراني في معجمه، وأبو نعيم في الحلية، وابن عدي في الكامل بلفظ "رفع عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ، والنسيان، والأمر يكرهون عليه". كما أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار": كتاب الطلاق، باب في طلاق المكره. =

وقيل: المراد: رفع حكمه الذي هو المؤاخذة، لا نفي الضمان ولزوم القضاء، لأنه ليس بصيغة عموم فيجعل عامًّا في كل حكم، كما لم يجعل قوله -تعالى- {حَرَّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} عامًّا في كل حكم. بل لا بد من إضمار فعل يضاف النفي إليه. فههنا لا بد من إضمار حكم يضاف الرفع إليه، ثم ينزل على ما يقتضيه عرف الاستعمال قبل الشرع. وقد1 كان يفهم من قولهم: "رفعت عنك الخطأ" المؤاخذة به والعقاب، والضمان لا يجب للعقاب خاصة، بل قد يجب امتحانًا، ليثاب عليه2، ولهذا يجب على الصبي والمجنون، وعلى العاقلة، ويجب على المضطر مع وجوب الإتلاف، ويجب عقوبة على قاتل الصيد. وأكثر ما يقال: إنه ينتفي الضمان الذي يجب عقوبة. قال أبو الخطاب: "وهذا لايصح؛ لأنه لو أراد نفي الإثم: لم يكن لهذه الأمة فيه مزية؛ فإن الناسي لا يكلف في كل شريعة"3.

_ = وفي كل طريق من طرقه مقال يقدح في صحته، إلا أن ابن الدييغ قال في كتابه "تمييز الطيب من الخبيث": "رواته ثقات" كما صححه ابن حبان في صحيحه. انظر: تلخيص الحبير "1/ 281 وما بعدها" كشف الخفاء "1/ 522". 1 معناه: أنه قد كان يفهم قبل الشرع من قول القائل: "رفعت عنك الخطأ والنسيان" رفع الحكم وهو الذم والمؤاخذة، وهو تأييد للمذهب الأول وهو: أن المراد من الحديث: رفع الحكم. 2 قول المصنف: "والضمان إلخ" رد على سؤال مقدر، تقديره: أن الضمان -أيضًا- عقاب، فكان يجب رفعه، فأجاب: ان الضمان قد يجب امتحانًا ليثاب عليه، لا للعقاب. 3 انظر: التمهيد: "2/ 236".

ولأنه لما أضاف الرفع إلى ما لا يرتفع ذاته: اقتضى رفع ما يتعلق به؛ ليكون وجوده وعدمه واحدًا. كما أنه لما أضاف النفي إلى ما لا تنتفي ذاته: انتفى حكمه؛ ليكون وجوده وعدمه واحدًا.

_ 1 خلاصة الكلام في ذلك: أن للعلماء في الحديث المذكور رأيين: الرأي الأول: أنه لا إجمال في الحديث، وأن المقصود من الرفع: رفع الحكم وهو المؤاخذة؛ لأن العرف جارعلى أن المراد به: المؤاخذة، ولا يلزم من رفع المؤاخذة رفع ضمان ما أتلفه المخطئ أو الناسي، لأن ضمان المتلفات وأروش الجنايات من خطاب الوضع، وليست من خطاب التكليف، ولذلك يجب الضمان على الصبي مع أنه غير مكلف، ويلزم وليه، وكذلك تجب الدية على العاقلة، مع أنهم لا علم لهم بالجناية. الرأي الثاني: أن الحديث فيه إجمال، وأن قصر الحكم على رفع المؤاخذة فقط لا يصح؛ لأنه لو أراد نفي الإثم فقط، لم يكن لهذه الأمة مزية على غيرها من الأمم؛ لأن الناسي والمخطئ غير مكلفين في جميع الشرائع -كما قال أبو الخطاب-. وقد أجاب الشيخ الشنقيطي عن ذلك فقال: "فيه عندي أمران: أحدهما: أن رفع إثم الناسي والمخطئ من غير هذه الأمة غير مسلم؛ لورود أدلة تدل على اختصاص هذه الأمة بعفو الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، منها: الحديث الذي نحن بصدده، فقوله: "عن أمتي" يفهم منه: أن غيرها ليس كذلك: ومنها: حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه لصنم، مع أنه مكره بالخوف من القتل، لأنهم قتلوا صاحبه لما أبى عن ذلك. ومنها: أن قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ... } [البقرة: 286] وقول الله: "قد فعلت" كما ثبت في صحيح مسلم، يدل على أن المؤاخذة بالخطأ والنسيان كانت معهودة على من قبلنا؛ إذ لو كانت مرفوعة عن كل أحد لما دعت ضرورة إلى هذا الدعاء، وإظهار الكرامة بالإجابة بقوله: "قد فعلت" =

فصل: في البيان

فصل: في البيان والمبيّن في مقابلة المجمل1.

_ = فظاهر الامتنان أنه خاص بنا. ويستأنس لهذا بما ذكره البغوي عن الكلبي من أن من قبلنا كانوا يؤاخذون بالخطأ والنسيان: وقد قال الله في آدم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121] فأضاف إليه العصيان والنسيان، فدل على المؤاخذة به. وأما على القول بأن "فنسي" بمعنى: "ترك" فلا دليل في الآية. ومن الأدلة على مؤاخذتهم في الإكراه: قوله تعالى -عن أصحاب الكهف-: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف: 20] فهذا صريح في الإكراه، مع أنهم قالوا: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} فدل على عدم عذرهم به. ثانيهما: هو أن نقول: متعلق الرفع في قوله: "رفع عن أمتى إلخ" لا بد أن يكون أحد أمرين، أو كليهما، وهما: الإثم والضمان؛ إذ لا وصف يتعلق به الرفع إلا الإثم والضمان، والإثم مرفوع قطعًا؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ} [الأحزاب: 5] وقوله في الحديث القدسي: "قد فعلت" كما تقدم. والضمان غير مرفوع إجماعًا، لتصريحه -تعالى- بضمان المخطئ في قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ... } [النساء: 92] فاتضح أن الإثم مرفوع، وأن الضمان غير مرفوع، فتعين كون المرفوع: متعلق الرفع في الحديث كما هو واضح" مذكرة أصول الفقه ص182-183. 1 في جميع النسخ المطبوعة: "البيان والمبين في مقابلة المجمل" وهو خطأ نشأ من جعل كلمة "البيان" مقرونة بالمبين والأصل أن تكون في العنوان، وإلا فليس البيان هو المبين حتى يكون في مقابلة المجمل، فمقابل البيان: الإجمال، ومقابل المبين: المجمل.

واختلف في البيان: فقيل: هو الدليل. وهو: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى علم أو ظن. وقيل: هو إخراج الشيء من الإشكال إلى الوضوح. وقيل: هو ما دل على المراد بما يستقل بنفسه في الدلالة على المراد. وقد قيل: هذان الحدان يختصان بالمجمل1. يقال لمن دل على شيء: "بينه" و"هذا بيان حسن" وإن لم

_ = فالإجمال: هو النطق باللفظ على وجه يقع فيه التردد بين معان مختلفة، والمجمل: هو اللفظ نفسه. والمصنف ذكر التعريفات الواردة في البيان، وأحال تعريف المبين إلى تعريف المجمل وقال: إنه في مقابلته: أي ضده. وهو قد أورد للمجمل تعريفين: أحدهما: ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى. وثانيهما: ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر. وعلى ذلك يكون تعريف المبين دائرًا بين معنيين أيضًا: أحدهما: ما يفهم منه عند الإطلاق معنى معينًا. وثانيهما: ما لا يحتمل أمرين، أو ما له محمل واحد. قال القرافي: الميين: هو اللفظ الدال بالوضع على معنى، إما بالإصالة، وإما بعد البيان. "شرح تنقيح الفصول ص274". وقال الآمدي: "المبين قد يراد به الخطاب المستغني بنفسه عن بيان، وقد يراد به ما يحتاج إلى البيان عند وروده عليه، كالمجمل وغيره" الإحكام "3/ 25". 1 هذا اعتراض وارد على التعريفين: الثاني والثالث:

يكن مجملًا، والنصوص المعربة عن الأحكام ابتداء: بيان، وليس ثم إشكال. ولا يشترط -أيضًا- حصول العلم للمخاطب؛ فإنه يقال: "بيّن له، غير أنه لم يتبيّن".

_ = خلاصته: أنهما ينطبقان على المجمل فقط، بينما البيان أشمل من ذلك. ولذلك قال الغزالي -عن التعريف الأول-: "إلا أن الأقرب إلى اللغة، وإلى المتداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي؛ إذ يقال -لمن دل غيره على الشيء- "بينه له" و"هذا بيان منك، لكنه لم يتبين" وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وأراد به القرآن" المستصفى "3/ 62" تحقيق الدكتور حمزة حافظ.

فصل: الأمور التي يحصل بها البيان

فصل: [الأمور التي يحصل بها البيان] ثم البيان يحصل: بالكلام1. وبالكتابة: ككتابة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عماله في الصدقات2.

_ = خلاصته: أنهما ينطبقان على المجمل فقط، بينما البيان أشمل من ذلك. ولذلك قال الغزالي -عن التعريف الأول-: "إلا أن الأقرب إلى اللغة، وإلى المتداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي؛ إذ يقال -لمن دل غيره على الشيء- "بينه له" و"هذا بيان منك، لكنه لم يتبين" وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وأراد به القرآن" المستصفى "3/ 62" تحقيق الدكتور حمزة حافظ. 1 والكلام قد يكون من الله -تعالى- كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69] فإنه مبين لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] . وقد يكون الكلام من الرسول -صلى الله عليه وسلم- كقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرِيًا [وهو الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر] العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر" فإنه مبين لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . 2 ومنها: حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- والذي جاء فيه عن أنس =

وبالإشارة، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الشٌَهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا وهَكَذَا" وأشار بأصابعه1. وبالفعل2، كتبيينه الصلاة والحج بفعله.

_ = رضي الله عنه- أن أبا بكر -رضي الله عنه- كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- فمن سئلها على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط: في أربع وعشرين فما دونها من الإبل في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى.... الحديث" أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده، كما أخرجه في باب زكاة الغنم، وفي باب: لا يؤخذ في الصدقة هرمة. كذلك أخرجه أبو داود: كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، والنسائي في باب زكاة الإبل، وابن ماجه: باب إذا أخذ المصدق سنًّا دون سن أو فوق سن، والدارقطني: باب زكاة الإبل والغنم. 1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الصيام، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا نكتب ولا نحسب" من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. كما أخرجه عنه مسلم: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، والنسائي: كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه، وأبو داود: كتاب الصيام، باب: الشهر يكون تسعًا وعشرين. 2 المراد به: فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو رأي جمهور العلماء. قال الفتوحي في شرح الكوكب المنير "3/ 442": "وخالف في ذلك شرذمة قليلون". والراجح: رأي الجمهور، فقد بين -صلى الله عليه وسلم- أعداد ركعات الصلاة، وأوصافها وهيآتها، ثم أكد ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم- "صلوا كما رأيتموني أصلي" فهو بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} [البقرة: 43، 110] وبين مناسك الحج بفعله، ثم =

فإن قيل: إنما حصل البيان بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1 و"خذوا عني مناسككم" 2. قلنا: هذا اللفظ لا تعلم منه الصلاة والمناسك، وإنما بان وعلم بفعله. والبيان بالفعل أدل على الصفة، وأوقع في الفهم من الصفة بالقول، لما في المشاهدة من المزيد عن الإخبار. وقد يتبين جواز الفعل بالسكوت عنه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقر على الخطأ. فكل مفيد من الشارع بيان3.

_ = أكد ذلك بقوله: "خذوا عني مناسككم" فإنه بيان لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] . وقد اعترض المخالفون بأن البيان إنما كان بهذه الأحاديث، وليس بالفعل، فأجاب المصنف على ذلك: بأن اللفظ لم تعلم منه الصلاة ولا المناسك، وإنما علمت بالفعل، والأحاديث إنما هي تأكييد للأخذ بالأفعال التي رآها الصحابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهذا معنى قوله الآتي: "فإن قيل إلخ". 1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، كما أخرجه في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، وفي باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، من حديث مالك بن الحويرث. كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 2 جزء من حديث أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، من حديث جابر عن عبد الله -رضي الله عنهما- مرفوعًا، كما اخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما في كتاب الحج. 3 هذه قاعدة عامة فيما يحصل به البيان، تشمل ما سبق، كما تشمل وجوهًا ثلاثة، ذكرها الطوفي في شرح المختصر "2/ 681-684" نلخصها فيما يلي: الوجه الأول: الاستدلال العقلي من الشارع، بأن يبين العلة، أو مأخذ =

.............................................

_ الحكم، او أي فائدة. كما قال تعالى في صفة ماء السحاب: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9] . وقال تعالى -في موضع آخر-: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11] . فبين سبحانه وتعالى لنا بذلك طريق الاستدلال على إمكان البعث والمعاد، ولولا هذا الطريق الذي فتحه الله تعالى للمؤمنين لما اجترأ متكلموهم أن يستدلوا عليه، ولا يتكلمون مع الفلاسفة المنكرين له فيه. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر -رضي الله عنه- حين قال له: قبلت وأنا صائم-: "أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ " فقال عمر: لا بأس بذلك. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ففيم؟ " "رواه أبو داود "2385" وأحمد "1/ 21، 52" وصححه ابن خزيمة "1999" وابن حبان "905" والحاكم "1/ 431" ووافقهم الذهبي". فقاس -صلى الله عليه وسلم- القبلة على المضمضة، وبين بذلك أن الفطر إنما يكون بما يجاوز الحلق إلى الجوف، أو بما يحصل منه مقصوده الموضوع له من المفطرات، والقبلة لم يحصل منها مقصود جنسها وهو الإنزال، كما أن المضمضة لم يحصل منها مقصود الشرب وهو الري. الوجه الثاني: الترك: مثل تركه -صلى الله عليه وسلم- لفعل أمر به تركه، أو سبق له فعله ثم تركه، فيكون تركه لهذا الفعل بيانًا له. ومن أمثلة الأول: الأمر بالإشهاد في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان بيايع ولا يشهد، بدليل الفرس الذي اشتراه من الأعرابي، ثم أنكر الأعرابي البيع، حتى جاء خزيمة بن ثابت فشهد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أنه لم يكن حاضرًا، وإنما شهد بناء على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعلم -بذلك- أن الإشهاد في البيع غير واجب. ومن امثلة الثاني: تركه -صلى الله عليه وسلم- لصلاة التروايح، بعد أن صلاها في رمصان، خشية أن تفرض على المسلمين، فدل ذلك على عدم وجوبها، لأن الواجب لا يجوز تركه. الوجه الثالث: السكوت بعد السؤال عن حكم الواقعة، فيعلم -بهذا السكوت- أنه لا حكم للشرع فيها، كما روي: أن زوجة سعد بن الربيع -رضي =

ويجوز تبيين الشيء بأضعف منه، كتبيين آي القرآن بأخبار الآحاد1.

_ = الله عنه- جاءت بابنتيها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد، قتل أبوهما معك يوم أحد، وقد أخذ عمهما مالهما، ولا ينكحان إلا بمال، فقال "اذهبي حتي يقضي الله فيك" فذهبت ثم نزلت آية الميراث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] فبعث خلف المرأة وابنتيها وعمهما، فقضى فيهم بحكم الآية. "رواه أبو داود "2891" والترمذي "292" وابن ماجه "2720" وأحمد "3/ 352" من حديث جابر بن عبد الله". فدل ذلك على أن المسألة لم يكن فيها حكم شرعي قبل نزول الآية، ومن هنا كان السكوت داخلًا تحت القاعدة المتقدمة. 1 المراد من قول المصنف: "بأضعف منه": الأضعف في الرتبة لا في الدلالة؛ لأن تبيين اللفظ بما هو أضعف إلى أن المراد هنا: الضعف في الرتبة بقوله: "كتبيين آي القرآن بأخبار الآحاد". وخلاصة آراء العلماء في مسألتنا: أنه لا خلاف بين العلماء في جواز البيان بما هو أقوى من المبين في الرتبة -وهذا وضح-. ثم اختلفوا بعد ذلك على عدة مذاهب: فذهب جمهور العلماء ومنهم أكثر الحنابلة إلى جواز البيان بالمساوي والأضعف، وهو ما رجحه ابن قدامة؛ ولذلك لم يذكره غيره. وذهب بعض العلماء إلى أنه لا بد من التساوي. ونقل عن بعضهم أنه لا بد وأن يكون أقوى من المبين. وقد رجح كثير من العلماء مذهب الجمهور واستدلوا على ذلك بأنه لا يلزم من ضعف الرتبة ضعف الدلالة؛ لجواز أن يكون الأضعف رتبة أقوى دلالة، كتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لأنه أخص منه، فيكون أدل على الحكم. انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 163"، فواتح الرحموت "2/ 48"، شرح الكوكب المنير "3/ 450-451".

فصل: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة

فصل: [لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة] ولا خلاف في: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة1. واختلف في تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة: قال ابن حامد والقاضي يجوز2. وبه قال أكثر الشافعية وبعض الحنفية3. وقال أبو بكر: عبد العزيز4، وأبو الحسن التميمي: لا يجوز

_ 1 صوّره بعض العلماء بقول الشارع: "صلوا غدًا" ثم لا يبن لهم في غد كيف يصلون، وهذا هو رأي جمهور العلماء، لأن تكليف الإنسان بما لا علم له به تكليف بما لا يطاق. وأجاز ذلك من أجاز تكليف المحال، وعلى ذلك المعتزلة. وقال بعض العلماء: إن القائلين بالجواز العقلي يوافقون الجمهور على عدم الوقوع. قال الشوكاني: "وأما من جوز التكليف بما لا يطاق، فهو يقول بجوازه فقط، لا بوقوعه، فكان عدم الوقوع متفقًا عليه بين الطائفتين، ولهذا نقل أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه". إرشاد الفحول "2/ 37" تحقيق الدكتور شعبان إسماعيل. وانظر: المعتمد "1/ 342"، والبرهان "1/ 166" الإحكام لابن حزم "1/ 75". 2 انظر: العدة "3/ 725" والتمهيد "2/ 290". 3 انظر: البرهان "1/ 166" وكشف الأسرار "3/ 108". 4 هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف، أبو بكر الحنبلي، المشهور بغلام الخلال، أصولي فقهيه من مؤلفاته: "المقنع" "توفي سنة 363هـ". =

ذلك، وهو قول أهل الظاهر والمعتزلة1. ووجهه ثلاثة أمور: أحدها: أن الخطاب يراد لفائدته، وما لا فائدة فيه وجوده كعدمه. ولا يجوز أن يقال: "أبجد هوز" يراد به: وجوب الصلاة، ثم يبينه فيما بعد. والثاني: أنه لا يجوز مخاطبة العربي بالعجمية؛ لأنه لا يفهم معناه، ولا يسمع إلا لفظه. والثالث: أنه لا خلاف أنه لو قال: "في خمس من الإبل شاة"2: يريد به: خمس من البقر: لم يجز؛ لأنه تجهيل في الحال3، وإيهام لخلاف المراد. وكذا قوله -تعالى-: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4 يوهم قتل كل مشرك، فإذا لم يبين التخصيص: فهو تجهيل في الحال. ولو أراد بالعشرة: سبعة: لم يجز إلا بقرينة الاستثناء. كذلك العام، لا يجوز أن يراد به الخصوص إلا بقرينة متصلة مبينة، فإن لم يكن بقرينة فهو تغيير للوضع. وقال آخرون: يجوز تأخير بيان المجمل، ولا يجوز تأخير بيان

_ = انظر: تاريخ بغداد "10/ 459" طبقات الحنابلة "2/ 199". 1 وكذلك أبو بكر الصيرفي وأبو إسحاق المروزي "شرح الطوفي 2/ 688". 2 جزء من كتاب أبي بكر -رضي الله عنه- في الصدقات. تقدم قريبًا. 3 أي: تجهيل للسامع، فلا يدري ما المراد. 4 سورة التوبة من الآية: 5.

التخصيص في العموم؛ فإنه يوهم العموم، فمتى أريد به الخصوص، ولم يبين مراده: أوهم ثبوت الحكم في صورة غير مرادة. والمجمل بخلاف هذا، فإنه لم يفهم منه شيء1. ولنا2 الاستدلال بوقوعه في الكتاب والسنة: قال الله -تعالى-: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} 4 وثم للتراخي5، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 6 ولم يفصّل إلا بعد السؤال7.

_ 1 وهو مذهب الكرخي من الحنفية. وهناك مذاهب أخرى، حكاها الطوفي في شرحه "2/ 688" فقال: "وذهب بعض الأصوليين إلى جواز تأخير الأمر دون الخبر، وذهب الجبائي وابنه، والقاضي عبد الجبار إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره، وقال أبو الحسن البصري: ما ليس له ظاهر، كالمجمل يجوز تأخير بيانه، وما له ظاهر، والمراد به غيره، يجوز تأخير بيانه التفصيلي، لا الإجمالي، بأن يقول وقت الخطاب مثلًا: هذا العموم مخصوص، ولا يجب تفصيل أحكام تخصيصه، ببيان غير المخصص، ومقدار ما يخص منه. ثم قال: والصحيح جوازه مطلقًا". 2 بدأ المصنف يستدل للمذهب الراجح، وهو الجواز مطلقًا. 3 سورة القيامة الآيتان: 18، 19. 4 سورة هود الآية: 1. 5 فقد رتب -سبحانه- بيان القرآن على القراءة، وتفصيل الآيات على إحكامها بـ"ثم" التي تفيد التراخي والمهلة، وقد تقدم أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلم يبق إلا جوازه عن وقت الخطاب. 6 سورة البقرة الآية: 67. 7 وهو: ما جاء في الآيات: 68-71 من نفس السورة.

وقال -في خمس الغنيمة-: { ... وَلِذِي الْقُرْبَى ... } 1 وأراد: "بني هاشم" و"بني المطلب" ولم يبينهم، فلما منع "بني نوفل" و"بني عبد شمس": سئل عن ذلك فقال: "إنا وبني عبد المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام"2. وقال لنوح: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} 3 فتوهم نوح -عليه السلام- أن ابنه من اهله، حتى بين الله -تعالى- له. وقال: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} 4. وبين المراد بصلاة جبريل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في اليومين5.

_ 1 سورة الأنفال من الآية: 41. 2 رواه البخاري من حديث جبير بن مطعم بلفظ: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد" ورواه أبو داود حديث رقم "2980" بلفظ: "إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد" وشبك بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم-. كما رواه أحمد "4/ 81" والنسائي "7/ 130، 131" بنحوه. انظر: صحيح البخاري "2/ 196" بحاشية السندي، نصب الراية "1/ 221". 3 سورة هود من الآية: 40. 4 سورة البقرة: 43، 110. 5 روى نافع بن حبير بن مطعم قال: أخبرني ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حيت زالت الشمس فكانت بقدر الشراك.. الحديث" رواه أحمد حديث رقم "3081" وأبو داود "393" والترمذي "149" وعبد الرزاق "2028" والشافعي "1/ 50" والطحاوي "1/ 146، 147" والطبراني "10753" وغيرهم. وله شاهد من حديث جابر عن أحمد والنسائي، وصححه الحاكم "1/ 195".

وبان المراد بقوله -تعالى-: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1 بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "في أربعين شاة شاة" 2 و "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" 3. وبان المراد بقوله {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 4 بفعله؛ لقوله: "خُذُوا عَنَي مَناَسِكَكَُمْ" 5. والنكاح، والإرث أصلهما في الكتاب وبينهما النبي -صلى الله عليه وسلم- متراخيا بالتدريج: من يرث، ومن لا يرث، ومن يحل نكاحه، ومن يحرم. وقوله -تعالى-: {وَجَاهِدُوا} 6 عام، ثم قال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} 7.

_ 1 سورة البقرة الآيات: 43، 110 وسورة النور الآية: 56 وسورة المزمل الآية: 20. 2 جزء من حديث طويل في الصدقات عن ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسًا حدثه أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله.... وفيه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين، ففيها شاة إلى عشرين ومائة" تقدم تخريجه قريبًا. 3 حديث صحيح: رواه البخاري "1484" ومسلم "979" ومالك في الموطأ "1/ 244" وأحمد في المسند "3/ 6، 30، 59، 60، 73، 73، 79، 96، 97" وأبو داود "1558" والترمذي "6261" والنسائي "5/ 17" وابن ماجه "1793" من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. 4 سورة آل عمران من الآية: 97. 5 تقدم تخريجه قريبًا. 6 سورة المائدة من الآية: 35 وسورة الحج من الآية: 78. 7 سورة التوبة من الآية: 91.

وكل عام أتى في الشرع ورد خصوصه بعده. وهذا لا سبيل إلى إنكاره. وإن تطرق الاحتمال إلى بعض هذه الاستشهادات، فلا يتطرق إلى الجميع. المسلك الثاني1: أنه لا يجوز تأخير النسخ، بل يجب، والنسخ: بيان للوقت فيجوز أن يرد بلفظ يدل على تكرار الفعل على الدوام، ثم ينسخ بعد حصول اعتقاد اللزوم في الدوام. أما قولهم2: "لا فائدة في الخطاب بمجمل": فغير صحيح؛ فإن قوله -تعالى-: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} 3 يعرف وجوب الإيتاء،

_ 1 بعد أن أورد المصنف أمثلة من القرآن والسنة تأخر فيها البيان عن المبين، أورد دليلًا آخر: هو: أن النسخ بيان في الزمان، وهذا بيان في الأعيان، وقد وجب التأخير في النسخ، فليجز ههنا. وهو حجة على من فرق بين النسخ وغيره في تأخير البيان؛ لأن تأخير النسخ يوهم ثبوت الحكم في زمن ليس ثابتًا في نفس الأمر، وتأخير تخصيص العام يوهم ثبوت الحكم في صورة التخصيص، وليس ثابتًا فيها في نفس الأمر، وكلاهما محذور، وقد التزم الخصم أحدهما، فيلزمه التزام الآخر. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 693". 2 بدأ المصنف يرد على أدلة مذهب المانعين من تأخير البيان عن وقت الخطاب، فبدأ بمناقشة الوجه الأول وهو قولهم: "لا فائدة في الخطاب بمجمل" فقال: إن له فوائد كثيرة: من وجوب الإيتاء وغير ذلك مما ذكره المصنف، والذي عبر عنه "الطوفي" بقوله: "الانقياد التكليفي" وهو يخالف عبارة "أبجد هوز" حيث لا تفيد معنى أصلًا. 3 سورة الأنعام من الآية: 141.

ووقته، وأنه حق المال، ويمكن العزم على الامتثال، والاستعداد له، ولو عزم على تركه: عصى. وقوله -تعالى-: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} 1 يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي. فهو كالأمر إذا لم يتبين أنه للإيجاب أو للندب، وأنه على الفور أم على التراخي، فقد أفاد اعتقاد الأصل، وإن خلا من كمال الفائدة، وليس ذلك مستنكرًا، بل واقع في الشريعة والعادة، بخلاف "أبجد هوز" فإنه لا فائدة فيه أصلًا. والتسوية2 بينه -أيضًا- وبين الخطاب بالفارسية لمن لا يفهمها، غير صحيحة لما ذكرنا3. ثم لا يمتنع أن يخاطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميع أهل الآرض بالقرآن، وينذر به من بلغه من الزنج4 وغيرهم، ويشعرهم اشتماله على

_ 1 سورة البقرة من الآية: 237. فإن قول تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} متردد بين الزوج أو ولي الزوجة. 2 هذا رد على دليلهم الثاني وهو قولهم: "لا يجوز مخاطبة العربي بالعجمية" فقال: هذه التسوية غير صحيحة. 3 من أن مخاطبة العربي بالعجمية لا يفيد شيئًا أصلًا، لعدم فهمه، أما المجمل: فإنه يفيد ما تقدم ذكره من: الانقياد التكليفي، والاستعداد للامتثال وغير ذلك. ثم على فرض وقوع ذلك، فليس في ذلك ما يمنع أن يبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يوحى إليه لغير العربي عن طريق الترجمة. 4 الزنج: طائفة من السودان تسكن تحت خط الاستواء وجنوبيه وليس وراءهم عمارة. قال بعضهم: وتمتد بلادهم من المغرب إلى قرب الحبشة، وبعض بلادهم على نيل مصر. "المصباح المنير 1/ 256".

أوامر يعرفهم المترجم "إياها"1. وكيف يبعد هذا، ونحن نجوز كون المعدوم مأمورًا على تقدير الوجود، فأمر الأعجمي على تقدير البيان أقرب، وههنا يسمى خطابًا؛ لحصول أصل الفائدة. وأما الثالث2: فإنما يلزم لو كان العام نصًّا في الاستغراق، وليس3 كذلك، بل هو ظاهر، وإرادة الخصوص به من كلام العرب4. فمن اعتقد العموم قطعًا: فذلك لجهله، بل يعتقد أنه محتمل للخصوص، وعليه الحكم بالعموم إن خلى والظاهر، وينتظر أن ينبه على الخصوص. أما إرادة السبعة بالعشرة، والبقرة بالإبل، فليس من كلام العرب، بخلاف ما ذكرناه.

_ 1 هذه الزيادة من المستصفى. 2 هذا هو الرد على الدليل الثالث وهو قولهم: "إنه لا خلاف أنه لو قال: "في خمس من الإبل شاة": يريد به: في خمس من البقر: لم يجز ... إلخ" فبين أن هذا إنما يلزم إذا كانت دلالة العام دلالة قطعية، وهو أمر غير مسلم، فدلالة العام دلالة ظنية -كما سيأتي-. 3 في الأصل "ولا" وما أثبتناه من المستصفى. 4 معناه: أن العربي قد يتكلم باللفظ العام ويريد به الخصوص، فيقول -مثلًا- "للبنت النصف من الميراث" فيقال له: فالبنت الرقيقة والكافرة لا ترث شيئًا فيقول: ما خطر ببالي هذا، وإنما أردت غير الرقيقة والكافرة. وأما إرادة السبعة بالعشرة، فليس من كلام العرب. انظر: المستصفى "3/ 77" تحقيق الدكتور حمزة حافظ.

باب: الأمر

باب: الأمر مدخل ... باب: الأمر الأمر: استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء1. وقيل: هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به2.

_ 1 معنى "استدعاء الفعل": أي طلبه، ومعنى "الاستعلاء": أن يكون الأمر على كيفية فيها ترفع وغلظة على المأمور، كالسيد مع عبده، وكالسلطان مع رعيته. وكون شرط الأمر على وجه الاستعلاء هو مذهب الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه، وأبي الحسن البصري، والآمدي وابن الحاجب وغيرهم. وقيل: يشترط العلو: وهو أن يكون الآمر أعلى منزلة من المأمور في الواقع ونفس الأمر، وهو مذهب المعتزلة وأبي إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ والسمعاني. وقيل: يشترط العلو والاستعلاء معًا، وهو مذهب القشيري والقاضي عبد الوهاب من المالكية. وقيل: لا يشترط فيه علو ولا استعلاء، فيصح من المساوي والأدون على غير استعلاء، وهو مذهب المتكلمين، واختاره كثير من متأخري الأصوليين. انظر: نهاية السول "2/ 7" المعتمد "1/ 49" المسودة ص41. وقد اختار المصنف كون الأمر على هيئة الاستعلاء. فقوله: "استدعاء الفعل" أي: طلبه، خرج به النهي؛ لأنه: استدعاء الترك. 2 وهو تعريف أبي بكر الباقلاني، واختاره إمام الحرمين والغزالي وأكثر الأشاعرة. انظر: البرهان "1/ 203" والمستصفى "3/ 119".

وهو فاسد؛ إذ تتوقف معرفة المأمور على معرفة الأمر، والحد ينبغي أن يعرف المحدود، فيفضي إلى الدور1. وللأمر صيغة مبينة فتدل بمجردها على كونها أمرًا إذا تعرت عن القرائن وهي: "افعل" للحاضر، "وليفعل" للغائب. هذا قول الجمهور2. وزعمت فرقة من المبتدعة: أنه لا صيغة للأمر، بناء على خيالهم: أن الكلام معنى قائم بالنفس3.

_ 1 وضح الطوفي هذا الدور في شرحه "2/ 348-349" فقال: "هذا التعريف دوري، يلزم منه الدور؛ لأنه تعريف للأمر بالمأمور، والمأمور به، المتوقف معرفتهما على الأمر، فصار تعريفًا للأمر بنفسه، بواسطة المأمور والمأمور به وهذا -كما سبق- في تعريف العلم بمعرفة المعلوم". 2 معناه: أن للأمر صيغة موضوعة له، تدل عليه حقيقة، كدلالة سائر الألفاظ الحقيقية على موضوعاتها. "شرح الطوفي 2/ 353-354". 3 أي: أن القائلين بأن الأمر لا صيغة له، بنوا ذلك على إثبات الكلام القائم بالنفس، فإنه معنى لا صيغة له. قال الآمدي: "وقد اختلف القائلون بكلام النفس: هل الأمر صيغة تخصه وتدل على دون غيره في اللغة أم لا؟ فذهب الشيخ أبو الحسن -رحمه الله-، ومن تابعه إلى النفي، وذهب ممن عداهم إلى الإثبات" الإحكام "2/ 12". قال الطوفي: "قلت قول الأشعري: ليس للأمر النفسي صيغة تدل عليه مع قوله: إن القرآن صيغ وعبارات مخلوقة؛ تدل على كلام الله -عز وجل- القائم بنفسه، تناقص. والأشهر عنه: أن للكلام والأمر صيغًا تدل على معناه، فلعل ما حكاه الآمدي عنه، قول مرجوع عنه، أن أن المراد به غير ما ظهر لي، والله سبحانه وتعالى أعلم" شرح مختصر الروضة "2/ 354". وقد رد المصنف على من قال: إنه لا صيغة للأمر بأنهم خالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف -كما سيأتي-.

فخالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف: أما الكتاب: فإن الله -تعالى- قال لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 1. فلم يسم إشارته إليهم كلامًا. وقال لمريم: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} 2. فالحجة فيه مثل الحجة في الأول. وأما السنة: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "إن الله عفا لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به" 3. وقال لمعاذ: "أمسك عليك لسانك" قال: وإنا لمؤاخذون بما نقول؟ قال: "ثكلتك أمك وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" 4.

_ 1 سورة مريم الآيتان: 10، 11 فلم يسم إشارته كلامًا، مع أنها تعبير عما في النفس. 2 سورة مريم الآية: 26. 3 حديث صحيح: رواه البخاري: كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكر أو الجنون من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا، كما رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، وأبو داود: كتاب الطلاق، باب في الوسوسة بالطلاق، وأحمد في مسنده "2/ 398-425، 474". 4 أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كلهم من رواية أبي وائل عن معاذ وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" كما رواه البيهقي وغيره عن =

وقال: "إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّين} فَقًُولُوا: آمين" 1 ولم يرد بذلك ما في النفس. وأما أهل اللسان2: فإنهم اتفقوا -عن آخرهم- على أن الكلام: اسم، وفعل وحرف2. واتفق الفقهاء -بأجمعهم- على أن من حلف لا يتكلم، فحّدث نفسه بشيء دون أن ينطق بلسانه: لم يحنث، ولو نطق: حنث. وأهل العرف -كلهم- يسمون الناطق: متكلمًا، ومن عداه: ساكتًا، أو أخرس3.

_ = ميمون بن أبي شيبة عن معاذ، كما في الترغيب والترهيب "5/ 165" طبعة دار الفكر، بيروت. 1 رواه مالك: كتاب النداء، باب ما جاء في التأمين خلف الإمام. الموطأ "1/ 87" والبخاري: كتاب الأذان، باب جهر المأموم بالتأمين، وباب جهر الإمام بالتأمين، ومسلم: كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب التأمين وراء الإمام، والنسائي، كتاب افتتاح الصلاة، باب جهر الإمام بآمين، وباب الأمر بالتأمين خلف الإمام، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب الجهر بآمين، وأحمد في المسند "2/ 233، 238، 270، 449، 450". 2 معناه: أن من قال: إن الكلام معنى قائم في النفس قد خالف أهل اللغة واللسان العربي؛ فإنهم قسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف، وما في النفس ليس واحدًا منها، فإنهم هم الحجة في هذا المقام. 3 أي: أن من قال بالكلام النفسي فقد خالف إجماع الفقهاء، فإن من حلف أن لا يتكلم، ثم حدثته نفسه بأشياء لم ينطق بها لا يحنث، بخلاف ما لو نطق، فإنه يحنث وتجب عليه الكفارة.

ومن خالف كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع الناس كلهم -على اختلاف طبقاتهم- فلا يعتد بخلافه. فأما الدليل على أن هذه صيغة الأمر: فاتفاق أهل اللسان على تسمية هذه الصيغة أمرًا. ولو قال رجل لعبده: "اسقني ماء" عُدَّ آمرًا، وعُدَّ العبد مطيعًا بالامتثال، عاصيا بالترك، مستحقا للأدب والعقوبة. [معاني صيغة الأمر] فإن قيل: هذه الصيغة مشتركة بين: الإيجاب كقوله-تعالى-: {أَقِمِ الصَّلاةَ} 1. والندب كقوله-تعالى-: {فَكَاتِبُوهُمْ....} 2. والإباحة كقوله-تعالى-: {فَاصْطَادُوا ... } 3. والإكرام كقوله-تعالى-: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} 4. والإهانة كقوله- تعالى-: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 5. والتهديد كقوله-تعالى-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ.....} 6.

_ 1 سورة الإسراء من الآية: 78. 2 سورة النور من الآية: 33. 3 سورة المائدة من الآية: 2. 4 سورة الحجر من الآية: 46. 5 سورة الدخان الآية: 49. 6 سورة فصلت من الآية: 40.

والتعجيز كقوله -تعالى-: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} 1. والتسخير كقوله -تعالى-: {كُونُوا قِرَدَةً} 2. والتسوية كقوله -تعالى-: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} 3. والدعاء -كقوله-: "اللهم اغفر لي"4. والخبر كقوله -تعالى-: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} 6. والتمني كقول الشاعر: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي7. فالتعيين يكون تحكمًا.

_ 1 سورة الإسراء الآية: 50. 2 سورة البقرة من الآية: 65. 3 سورة الطور من الآية: 16. 4 هذا مجرد تمثيل، وإلا فالوارد في القرآن الكريم بلفظ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف: 151] {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [إبراهيم: 41] {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28] . 5 سورة مريم من الآية: 38. 6 حديث صحيح: أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، وفي الأدب المفرد باب: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، من حديث أبي مسعود البدري، وأبو داود: في الأدب، باب في الحياء، وابن ماجه في الزهد، باب الحياء. كما أخرجه من حديث حذيفة: أحمد في المسند "5/ 383" وأبو نعيم في الحلية "4/ 371" والخطيب في تأريخ بغداد "12/ 135". 7 الشاعر: هو امرؤ القيس. تقدمت ترجمته. وهذا صدر بيت من قصيدته المشهورة من المعلقات العشر.

قلنا: هذا لا يصح لوجهين: أحدهما: مخالفة أهل اللسان؛ فإنهم جعلوا هذه الصيغة أمرًا، وفرقوا بين "الأمر" و"النهي" فقالوا: باب الأمر: "افعل"، وباب النهي: "لا تفعل"، كما ميزوا بين الماضي والمستقبل. وهذا أمر نعلمه بالضرورة من كل لسان: من العربية، والعجمية، والتركية، وسائر اللغات، لا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد ونحوه في نوادر الأحوال. الثاني: أن هذا يفضي إلى سلب فائدة كبيرة من الكلام، وإخلاء الوضع عن كثير من الفائدة. وفي الجملة: كالاشتراك على خلاف الأصل؛ لأنه يخل بفائدة الوضع، وهو: الفهم. والصحيح: أن هذه صيغة الأمر، ثم تستعمل في غيره مجازًا مع

_ = وعجز البيت: بصبح وما الإصباح منك بأمثل وروي: وما الإصباح فيك بأمثل ومعنى البيت: أن الشاعر يشكو من طول ليله، لأن ليل المحب كأنه مستحيل الانجلاء، ولذلك حمله الشاعر على التمني، بخلاف الرجاء، فإنه يكون في الممكنات. انظر: ديوان امرئ القيس ص8 الطبعة الثانية بدار المعارف بمصر. وهناك معان أخر لصيغة الأمر، أوصلها بعضهم إلى أكثر من ثلاثين معنى. انظر: أصول السرخسي "1/ 14"، المعتمد "1/ 49"، المحصول "جـ1 ق2 ص57 مختصر الطوفي ص84، شرح الكوكب المنير "3/ 17 وما بعدها".

القرينة، كاستعمال ألفاظ الحقيقة بأسرها في مجازها1.

_ 1 معنى ذلك: أن صيغة الأمر حقيقة في الطلب الجازم، مجاز في غيره من المعاني. وذكر الآمدي أنهم اتفقوا على أن صيغة "افعل" مجاز فيما سوى الطلب، والتهديد، والإباحة، واختلفوا في أنها مشتركة بين الثلاثة، أو حقيقة في الإباحة، مجاز فيما سواها، أو في الطلب، مجاز فيما سواه. قال: وهو المختار؛ لأن من قال لغيره: افعل كذا مجردًا عن جميع القرائن، تبادر إلى الفهم منه: الطلب، وذلك دليل الحقيقة. انظر: "الإحكام 2/ 142". قال الطوفي: "قلت: وإذا ثبت بهذا أنها حقيقة في الطلب، ثبت أنها للجزم ... " شرح مختصر الروضة "2/ 358".

فصل: لا يشترط الإرادة في الأمر

فصل: [لا يشترط الإرادة في الأمر] ولا يشترط في كون الأمر أمرًا: إرادة الآمر في قول الأكثرين. وقالت المعتزلة: إنما يكون أمرًا بالإرادة1.

_ 1 هذه المسألة ناشئة من الخلاف الذي بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة في: هل الطلب هو الإرادة، أو غيرها؟ وتحقيق القول في هذه المسألة: أن الإرادة نوعان: 1- إرادة كونية قدرية، وهي الإرادة الشاملة لجميع الموجودات. 2- إرادة دينية شرعية، وقد توجد وقد لا توجد. والأمر الشرعي إنما تلازمه الإرادة الشرعية، ولا تلازمه الإرادة الكونية، فالله -تعالى- أمر أبا لهب -مثلًا- بالإيمان، وأراده منه شرعًا، ولكنه لم يرده منه كونًا وقدرًا؛ إذ لو أراده -كونًا- لوقع والآيات في معنى ذلك كثيرة: قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137] وقال تعالى: =

وحده بعضهم: بأنه: إرادة الفعل بالقول على وجه الاستعلاء. قالوا: لأن الصيغة مترددة بين أشياء، فلا ينفصل الأمر منها مما ليس بأمر إلا بالإرادة. ولأن الصيغة إن كانت أمرا لذاتها: فهو باطل بلفظ التهديد، أو لتجردها عن القرائن، فيبطل بكلام النائم والساهي. فثبت أن المتكلم بهذه الصيغة على غير وجه السهو غرضه: المأمور به، وهو نفس الإرادة ولنا: أن الله أمر إبراهيم –عليه السلام- بذبح ولده، ولم يرده منه وأمر أبليس بالسجود، ولم يرده منه؛ إذ لو أراده لوقع؛ فإن الله -تعالى- فعال لما يريد. دليل ثان: أن الله -تعالى- أمر بأداء الأمانات بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 1. ثم لو ثبت أنه لو قال: "والله لأؤدين أمانتك إليك غدا إن شاء الله" فلم يفعل: لم يحنث2؛ فإن الله -تعالى- قد شاء ما أمره به من أداء أمانته.

_ = {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا....} [السجدة: 13] . وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة. أما المعتزلة فقالوا: إنه لا يكون أمرا إلا بإرادة وقوعه. فأدى بهم ذلك إلى القول: بأن معصية العاصي ليست بمشيئة الله تعالى؛ لأنه أمر بتركها، ولم يرد إلا التزام الذي أمر به، لأن الأمر لا يكون أمرا إلا بالإرادة. وقد رد المصنف على اتجاه المعتزلة كما سيأتي قريبا. 1 سورة النساء من الآية: 58. 2 في الأصل "يجب" وصححناه من النسخة التي حققها الدكتور "النملة" -سلمه الله-.

دليل آخر: أن دليل الأمر ما ذكرنا1 عن أهل اللسان، وهم لا يشترطون الإرادة. ودليل آخر: أنا نجد الأمر متميزا عن الإرادة؛ فإن السلطان لو عاتب رجلا على ضرب عبده، فمهد عذره بمخالفة أمره فقال له بين يدي الملك: "أسرج الدابة" وهو لا يريد أن يسرج؛ فيه من خطر الهلاك للسيد. ولأنه قصد تمهيد عذره، ولا يتمهد إلا بمخالفته، وتركه امتثال أمره، وهو أمر، لولاه لما تمهد العذر. وكيف لا يكون آمرا، وقد فهم العبد والملك والحاضرون منه الأمر2؟. فأما الاشتراك في الصيغة: فقد أجبنا عنه3. ولأننا قد حددنا الأمر بأنه: استدعاء الفعل بالقول، ومع التهديد لا يكون استدعاء. وهذا الجواب عن الكلام الثاني4، فإنا نقول: هي أمر؛ لكونها استدعاء على وجه الاستعلاء.

_ 1 في قوله -سابقا-: "وأما الدليل على أن هذه صيغة الأمر إلخ". 2 نقل أبو يعلى في العدة "1/ 215" عن الإمام أحمد -رضي الله عنه- أنه قال: "أمر الله -عز وجل- العباد بالطاعة، وكتب عليهم المعصية؛ لإثبات الحجة عليهم، وكتب الله على آدم يصيب الخطيئة قبل أن يخلقه". قال أبو يعلى: "وهذا يدل على أن الأمر يعتبر فيه الإرادة للآمر؛ لأن كتبه المعصية ضد الأمر بالطاعة، لأن ما كتبه حتم لا بد من وجوده، فعلم أن ما أمر به من الطاعة لم يكن مريدا له؛ لأنه كتب ضده". 3 في قوله: "قلنا: هذا لا يصح لوجهين ... ". 4 معناه: أن المعتزلة لما قالوا في دليلهم الثاني: "إن كانت الصيغة أمرا لذاتها، =

ويخرج من هذا النائم والساهي؛ فإنه لا يجد على وجه الاستعلاء1.

_ = فهو باطل بلفظ التهديد، وإن كانت أمرا نظرا لتجردها عن القرائن فهو باطل بكلام النائم ... " فأجاب عنه الجمهور: بأنا جعلنا صيغة "افعل" أمرا لكونها استدعاء لفعل متجردة على وجه الاستعلاء، لا للإرادة، فإذا جاءت متجردة اكتفينا في الحكم عليها بأنها "أمر" والذي يستعلمها في غير ذلك يحتاج إلى دليل، ويخرج عن هذا النائم والساهي لأنه لا استعلاء في صيغتهما 1 معناه: أن لفظ النائم والساهي بصيغة "افعل" مع أنه ليس أمرا لا يرد علينا؛ لأن انتفاء كونه أمرا ليس لعدم الإرادة، بل لعدم الاستعلاء فيه؛ إذ الاستعلاء لا يتصور من النائم والساهي، لأن الاستعلاء كيفية تصدر عن تصور الأمر واستشعاره أنه أعلى من المأمور، وذلك يستلزم صحة التصور والقصد، وهما ممتنعان في النائم والساهي، ولذلك قلنا: لا يتوجه الخطاب إليهما حال النوم والسهو. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 361-362".

فصل: مسألة: الأمر المجرد يدل على الوجوب

فصل: مسألة: الأمر المجرد يدل على الوجوب ... مسألة: [الأمر المجرد يدل على الوجوب] إذا ورد الأمر متجردا عن القرائن1: اقتضى الوجوب في قول الفقهاء وبعض المتكلمين. وقال بعضهم: يقتضى الإباحة لأنها أدنى الدرجات، فهي مستيقنة، فيجب حمله على اليقين2.

_ 1 أشار المصنف بذلك إلى تحرير محل النزاع وهو: ما إذا خلا الأمر عن أي قرينة تدل على أن المراد به الوجوب، أو الندب، أو الإباحة أو التهديد، وكذا سائر المعاني التي سبق ذكرها، فإنه إذا اقترنت به قرينة تدل على معنى حمل عليه بلا خوف. 2 وضحه الطوفي في شرحه: "2/ 366 فقال: "أي: أن الأمر قد استعمل في الوجوب والندب والإباحة، وهي المتيقنة، فليكن الأمر حقيقة فيها، ويقف

وقال بعض المعتزلة: يقتضي الندب؛ لأنه لا بد من تنزيل الأمر على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب وهو: طلب الفعل واقتضاؤه، وأن فعله خير من تركه، وهذا معلوم، أما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم، فيتوقف فيه1. ولأن الأمر طلب، والطلب يدل على حسن المطلوب لا غير، والمندوب حسن، فيصح طلبه، وما زاد على ذلك درجة لا يدل عليها مطلق الأمر، فيحمل على اليقين. وقالت الواقفية: هو على الوقف، حتى يرد الدليل ببيانه؛ لأن كونه موضوعا لأحد الأقسام: إما أن يعلم بنقل أو عقل، ولم يوجد أحدهما، فيجب التوقف فيه2. ولنا: ظواهر الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول أهل اللسان:

_ = حمله خصوصية الندب، أو الوجوب على الدليل؛ لأنهما مشكوك فيهما، فلا يحمل عليهما بالشك، ولأن جواز الإقدام هو القدر المشترك بين الثلاثة، فليكن الأمر حقيقة فيه، وهو الإباحة؛ دفعا للمجاز والاشتراك". 1 تقرير ذلك: أن الأمر ورد تارة للوجوب وتارة للندب، فلو جعل حقيقة في أحدهما كان مجازا في الآخر، ولو جعل حقيقة فيهما لزم الاشتراك، وكلاهما خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو مطلق رجحان الفعل. وأما العقاب على الترك: فينتفي بالاستصحاب، أي: استصحاب عدمه، وهو كون الأصل: براءة الذمة منه. انظر: شرح الطوفي "2/ 366. 2 وحجتهم: إبطال أدلة المخالفين والقدح فيها، فيجب التوقف.

أما الكتاب: فقوله –تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. حذر الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة الأمر، فلولا أنه مقتض للوجوب ما لحقه ذلك. وأيضا قول الله –تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2. وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} 3 ذمهم على ترك امتثال الأمر، والواجب: ما يذم يتركه. ومن السنة: ما روى البراء بن عازب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، فردوا عليه القول، فغضب، ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان، فقالت: "من أغضبك أغضبه الله"؟ فقال: "وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع" 4.

_ = قال الطوفي: "وهذه طريقة جيدة في المطالب القطعية، أما الظنية: فيكون فيها ظهور أحد الطرفين، وإن توجه إليه قادح ما". 1 سورة النور من الآية: 63. 2 سورة الأحزاب من الآية: 36. 3 سورة المرسلات من الآية: 48. 4 أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي، ومسلم: كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وأبو داود: كتاب الحج، باب إفراد الحج، كما أخرجه الشافعي والطيالسي. انظر: تلخيص الحبير "2/ 231".

فإن قيل: هذا أمر اقترن به ما دل على الوجوب. قلنا: النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما علل غضبه بتركهم اتباع أمره، ولولا أن أمره للوجوب، لما غضب من تركه. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 1. والندب غير شاق، فدل على أن أمره اقتضى الوجوب. وقوله -عليه السلام- لبريرة2: "لو راجعتيه؟ " قالت: أتأمرني يا رسول الله؟ فقال: "إنما أنا شافع" 3. فقالت: لا حاجة لي فيه.

_ 1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- كما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك والشافعي، كلهم في كتاب الطهارة. 2 هي: بريرة مولاة عائشة -رضي الله عنهما- اشترتها من رجل من بني هلال وأعتقتها. انظر: الاستيعاب "4/ 1795". 3 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زوج بريرة، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- بلفظ: "لو راجعتيه؛ فإنه أبو ولدك"، فقالت: بأمرك يا رسول الله؟ فقال: "إنما أنا شافع". كما أخرجه أبو داود: كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد، والترمذي: كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج، والنسائي: كتاب القضاء، باب شفاعة الحاكم للمحكوم قبل فصل الحكم، وابن ماجه وغيرهم. قال أبو يعلي في العدة "1/ 233-234": "فموضع الدليل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه شافع، وشفاعته تدل على الندب، ومن قال: الأمر على الندب يقول: هو بمنزلة الشفاعة، فلو كان الأمر والشفاعة سواء ما تبرأ من الأمر".

وإجابة شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- مندوب إليها، فدلنا ذلك على أن أمره للإيجاب. الثالث: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- فإنهم أجمعوا على وجوب طاعة الله -تعالى- وامتثال أوامره من غير سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- عما عنى بأوامره، وأوجبوا أخذ الجزية من المجوس بقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 1. وغسل الإناء من الولوغ بقوله " ... فليغسله سبعا" 2. والصلاة عند ذكرها بقوله: ".... فليصلها إذا ذكرها" 3. واستدل أبو بكر -رضي الله عنه- على إيجاب الزكاة بقوله

_ 1 حديث صحيح: رواه البخاري: كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، والترمذي: كتاب السير حديث رقم "1586" ومالك في الموطأ: باب جزية أهل الكتاب والمجوس. 2 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الوضوء -باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا –حديث "37 عن أبي هريرة، ومسلم: كتاب الطهارة باب حكم ولوغ الكلب حديث "90" من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ: "إذا" ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات". ورواه مثل رواية مسلم: الترمذي وقال: "حسن صحيح". كما روي من طريق مالك عن أبي الزناد وعن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم غسل سبعا أولاهن بالتراب". ورواه مثل رواية مسلم: الترمذي وقال: "حسن صحيح". كما روي من طريق مالك عن أبي الزناد وعن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات". 3 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها- من حديث أنس بن مالك –رضي الله عنه- مرفوعا. ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ولفظه: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".

- تعالى-: {.... وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1. ونظائر ذلك مما لا يخفى، يدل على إجماعهم على اعتقاد الوجوب. الرابع: أن أهل اللغة عقلوا2 من إطلاق الوجوب؛ لأن السيد لو أمر عبده، فخالفه، حسن -عندهم- لومه وتوبيخه وحسن العذر في عقوبته لمخالفتة الأمر، والواجب: ما يعاقب بتركه، أو يذم بتركه. فإن قيل: إنما لزمت العقوبة؛ لأن الشريعة أوجبت ذلك. قلنا: إنما أوجبت طاعته إذا أتى السيد بما يقتضي الإيجاب، ولو أذن له في الفعل، أو حرمه عليه: لم يجب عليه. ولأن مخالفة الأمر معصية. قال الله -تعالى-: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} 3، وقال: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} 4، ويقال: {أمرتك فعصيتني} . وقال الشاعر5: أمرتك أمرا جازما فعصيتني6 ... .............................

_ 1 سورة البقرة الآيات: 43-110، وسورة النور الآية: 56، والمزمل الآية 20. 2 أي: فهموا. 3 سورة التحريم من الآية: 6. 4 سورة طه من الآية: 93. 5 هو: الحصين بن المنذر الذهلي الرقاشي، من أهل البصرة، حامل راية بكر بن وائل في معركة "صفين" كان مع جيش علي، وكان شابا، ثم أصبح شريفا في قومه، وكان يكني نفسه بأبي ساسان، وكنيته في الحقيقة: أبو حفص. انظر: وفيات الأعيان "6/ 290". 6 هذا صدر بيت ضمن بيتين قالهما ليزيد بن المهلب لما أمره الحجاج بترك البصرة عام 85هـ فاستشار الحصين فأنشده

والمعصية موجبة للعقوبة؛ قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} 1. وأما قول من قال: "نحمله على الإباحة2؛ لأنه اليقين" فهو باطل؛ فإن الأمر: استدعاء وطلب، والإباحة ليست طلبًا ولا استدعاء، بل إذن له وإطلاق. وقد أبعد من جعل قوله: "افعل" مشتركًا بين الإباحة والتهديد، الذي هو: المنع وبين الاقتضاء؛ فإنا ندرك في وضع اللغات -كلها- قولهم: "افعل" و"لا تفعل" و"إن شئت فافعل" و"إن شئت فلا تفعل". حتى لو قدرنا انتفاء القرائن كلها يسبق إلى الأفهام اختلاف معاني هذه الصيغ، ونعلم -قطعًا- أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد، كما ندرك التفرقة بين قولهم: "قام" و"يقوم" في: أن هذا ماض، وذاك مستقبل، وهذا أمر يعلم ضرورة، ولا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد. وبالطريق الذي نعرف فإنه لم يوضع للتهديد: فعلم أنه لم يوضع للتخيير. وقول من قال: "هو للندب؛ لأنه اليقين"3: لايصح لوجهين:

_ = أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالما انظر: معجم الشعراء ص "193" شرح الحماسة للمرزوقي "2/ 814". 1 سورة الأحزاب من الآية: 36. 2 بدأ المصنف يرد على القائلين بأن صيغة "افعل" تدل على الإباحة. 3 هذا رد على القائلين بأنها للندب.

أحدهما: أنا قد بينا أن مقتضى الصيغة الوجوب بما ذكرنا من الأدلة. الثاني: أن هذا إنما يصح أن لو كان الوجوب ندبًا وزيادة، وليس1 كذلك؛ لأنه يدخل في حد الندب: جواز الترك، وليس بموجود في الوجوب. وأما أهل الوقف2: فغاية ما معهم: المطالبة بالأدلة، وقد ذكرناها. ثم قد سلموا أن الأمر اقتضى: ترجيح الفعل على الترك، فيلزمهم: أن يقولوا بالندب، ويتوقفوا فيما زاد، كقول أصحاب الندب. أما القول: بأن الصيغة لا تفيد شيئًا: فتسفيه لواضع اللغة، وإخلاء للوضع عن الفائدة بمجرده3. وإن توقفوا لمطلق الاحتمال: لزمهم التوقف في الظواهر كلها، وترك العمل بما لا يفيد القطع، واطراح أكثر الشريعة فإن أكثرها إنما ثبت بالظنون.

_ 1 في الأصل "ولا". 2 هذا رد على القائلين بالتوقف. 3 لم أطلع على مذهب يقول: بأن صيغة "افعل" لا تفيد شيئًا، فلا أدري من أين جاء المصنف بهذا المذهب الغريب؟!

فصل: فيما تفيده صيغة الأمر بعد الحظر

فصل: [فيما تفيده صيغة الأمر بعد الحظر] إذا وردت صيغة الأمر بعد الحظر: اقتضت الإباحة وهو ظاهر قول الشافعي1.

_ 1 قال ابن اللحام في القواعد ص138 "هذا قول جمهور أصحابنا".

وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين: تفيد ما كانت تفيده1 لولا الحظر؛ لعموم أدلة الوجوب. ولأنها صيغة أمر مجردة عن قرينة أشبهت ما لم يتقدمه حظر. ولأن صيغة الأمر اقتضت نسخ الحظر، وقد ينسخ بإيجاب، وينسخ بإباحة، وإذا احتمل الأمرين: بقي الأمر على مقتضاه في الوجوب. ولأن النهي بعد الأمر يقتضي ما كان مقتضيًا له، فكذلك الأمر بعد الحظر. وقال قوم: إن ورد الأمر بعد الحظر بلفظة "افعل": فكقولنا2. وإن ورد بغير هذه الصيغة كقولهم: "أنتم مأمورون بعد الإحرام بالاصطياد" كقولهم3؛ لأنه في الأول انصرف بعرف الاستعمال إلى رفع الذم -فقط- حتى رجع حكمه إلى ما كان. وفي الثاني لا عرف له في الاستعمال، فيبقى على ما كان4.

_ 1 وهو الوجوب. 2 في الأصل: كقولنا: أي: أنه يفيد الإباحة. 3 في الأصل: كقولهم: أي: كقول الفقهاء والمتكلمين، من أنه للوجوب. 4 وفي المسألة آراء أخرى كثيرة، من أرجحها: أن حكمه يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر، فإن كان قبل الحظر للوجوب، رجع إلى الوجوب، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمه بنت أبي حبيش: "دعي الصلاة أيام أقرائك، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". متفق عليه. أما إن كان للإباحة رجع إليها كما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} فإن الصيد كان مباحًا قبل الحظر وقت الإحرام...." قال ابن اللحام: "وهذا اختيار ابي العباس. قال: وهو المعروف عن السلف والأئمة ومعناه كلام المزني" "القواعد ص139".

ولنا: أن عرف الاستعمال في الأمر بعد الحظر الإباحة، بدليل: أن أكثر أوامر الشرع بعد الحظر للإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 1 {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} 2، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} 3. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأوعية كلها، ولا تشربوا مسكرا" 4. وفي العرف: أن السيد لو قال لعبده: "لا تأكل هذا الطعام" ثم قال: "كله" أو قال لأجنبي: "ادخل داري وكل من ثماري" اقتضى ذلك رفع الحظر دون الإيجاب. ولذلك: لا يحسن اللوم والتوبيخ على تركه.

_ 1 سورة المائدة من الآية: 2. 2 سورة الجمعة من الآية: 10. 3 سورة البقرة من الآية: 222. 4 رواه مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه -عز وجل- في زيارة قبر أمه، وفي كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه من حديث بريدة -رضي الله عنه- كما رواه عنه أبو داود: كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور، وفي كتاب الأشربة، باب في الأوعية، والترمذي: كتاب الجنائز، باب الرخصة في زيارة القبور، وقال: "حديث حسن صحيح". كذلك رواه النسائي وابن ماجه، والشافعي وغيرهم، من طريق بريدة وغيره. انظر: نصب الراية "4/ 218"، فيض القدير "5/ 55".

فإن قيل: فقد قال الله -تعالى-: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1. قلنا: ما استفيد وجوب القتل بهذه الآية، بل بقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 1، {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} 2. وأما أدلة الوجوب: فإنما تدل على اقتضائه مع عدم القرائن الصارفة له، بدليل المندوبات وغيرها وتقدم الحظر قرينة صارفة لما ذكرناه. وقولهم: "إن النسخ يكون بالإيجاب"3. قلنا: النسخ إنما يكون بالإباحة التي تضمنها الإيجاب، زائد لا يلزم من النسخ، ولا يستدل به عليه. وأما النهي4 بعد الإيجاب: فهو مقتض لإباحة الترك، كقوله -عليه السلام-: "توضئوا من لحوم الإبل ولا توضئوا من لحوم الغنم"5.

_ 1 سورة التوبة من الآية: 5. 2 سورة التوبة من الآية: 12. 3 هذا رد على الدليل الثالث للقائلين بأنها تفيد الوجوب. 4 هذا -أيضًا- رد على دليلهم الرابع وهو: قياس الأمر بعد الحظر، على النهي بعد الأمر. 5 رواه أحمد في المسند "4/ 352" عن أسد بن حضير، وابن ماجه: كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-. وفي رواية أخرى -عند أحمد-: "توضئوا من لحوم الإبل وألبانها". ورواية مسلم عن جابر بن سمرة أن رجلًا سأل سول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ". وللعلماء في وجوب الوضوء من أكل لحوم الإبل خلاف حكاه المصنف في =

وإن سلمنا: فالنهي آكد6.

_ = "المغني" فقال: "وجملة ذلك: أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل حال، نيئًا ومطبوخًا، عالمًا كان أو جاهلًا، وبهذا قال جابر بن سمرة ومحمد بن إسحاق وأبو خيثمة ويحيى بن يحيى وابن المنذر، وهو أحد قولي الشافعي. قال أبو الخطاب: ذهب إلى هذا عامة أصحاب الحديث. وقال الثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا ينقض الوضوء بحال؛ لأنه روي عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الوضوء مما يخرج، لا مما يدخل" أخرجه الدراقطني والبيهقي وغيرهما. وروي عن جابر قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ترك الوضوء مما مست النار" أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي. "المغني 1/ 250-251 تحقيق الدكتور عبد الله التركي والدكتور عبد الفتاح الحلو". 6 قوله: "وإن سلمنا: فالنهي آكد" هذا رد على قياس الأمر على النهي في قول الفقهاء والمتكلمين: "ولأن النهي بعد الأمر يقتضي ما كان مقتضيًا له، فكذلك الأمر" فأجاب المصنف على ذلك بجوابين. أحدهما: عدم التسيلم بأن النهي بعد الأمر يفيد ما كان يفيده قبل النهي. الجواب الثاني: لو سلمنا -جدلًا- بأنه يفيد ما كان يفيده قبل النهي، فلا يصح قياس الأمر عليه لأمرين: الأول: أن حمل النهي على التحريم يقتضي الترك وهو الأصل، لأن الأصل عدم الفعل، وحمل الأمر على الوجوب يقتضي الفعل، وهو خلاف الأصل. الأمر الثاني: أن النهي لدفع المفسدة المتعلقة بالمنهي عنه، والأمر لجلب المصلحة، ولا شك أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح. وهذا كله يندرج تحت قول المصنف: "فالنهي آكد".

فصل: الأمر المطلق هل يقتضي التكرار

فصل: [الأمر المطلق هل يقتضي التكرار] الأمر المطلق1: لا يقتضي التكرار في قول أكثر الفقهاء والمتكلمين. وهو اختيار أبي الخطاب2. وقال القاضي وبعض الشافعية: يقتضي التكرار3؛ لأن قوله: "صم" ينبغي أن يعم كل زمان، كما أن قوله -تعالى-: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4 يعم كل مشرك؛ لأن إضافة الأمر إلى جميع الزمان كإضافة لفظ المشترك إلى جميع الأشخاص. ولأن الأمر بالشيء: نهي عن ضده، وموجب النهي: ترك المنهي أبدًا، فليكن موجب الأمر: فعل الصوم أبدًا، فإن قوله: "صم" معناه: لا تفطر، وقوله: "لا تفطر" يقتضي التكرار أبدًا5.

_ 1 قوله: "المطلق" تحرير لمحل النزاع، فإن الأمر إذا قيد بالمرة أو بالتكرار حمل على ما قيد به بلا خلاف، كذلك إذا قيد بصفة أو شرط، عند وجود الصفة أو الشرط. 2 وهو رواية عن الإمام أحمد. انظر: "التمهيد 1/ 187". 3 انظر: العدة "1/ 264". 4 سورة التوبة من الآية: 5. 5 خلاصته: أن القائلين بأنه يدل على التكرار استدلوا على ذلك بوجهين. أحدهما: أن النهي نقيض الأمر، والنهي يقتضي التكرار بالاتفاق، فكذلك الأمر، يجب أن يقتضي التكرار. ثانيهما: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فإذا قال له: صم، فقد نهاه عن الفطر، والنهي عن الفطر يقتضي التكرار، فكذلك الأمر بالصوم. انظر: شرح الطوفي "2/ 376".

ولأن الأمر يقتضي العزم، والفعل ثمراته تقتضي العزم على التكرار، فكذلك الموجب الآخر1. وقيل: إن علق الأمر على شرط اقتضى التكرار، وإلا فلا يقتضيه2؛ لأن تعليق الحكم بالشرط كتعلقه بالعلة، ثم إن الحكم يتكرر بتكرر علته، فكذلك يتكرر بتكرر شرطه. ولأنه لا اختصاص له بالشرط الأول دون بقية الشروط، ودليل اعتباره: النهي المعلق على شرط. وقيل: إن كرر لفظ الأمر كقوله: "صل غدًا ركعتين" اقتضي التكرار؛ طلبًا لفائدة الأمر الثاني، وحملا له على مقتضاه في الوجوب والندب كالأول. وحكي هذا القول عن أبي حنيفة وأصحابه3. ولنا: أن الأمر خالٍ عن التعرض لكمية المأمور به؛ إذ ليس في نفس اللفظ

_ 1 وضحه أبو الخطاب في التمهيد "1/ 197" فقال: "إن الأمر يقتضي وجوب الفعل، ووجوب الاعتقاد والعزم، ثم الاعتقاد والعزم يجب استدامتها، كذلك الفعل". 2 حكاية المصنف لهذا الرأي خارجة عن محل النزاع، إذ سبق في تحرير محل الخلاف: أن الأمر المعلق على شرط أو صفة مثل المقيد بعدد معين، فهو مقيد، وليس مطلقا؛ ولذلك قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في مذكرته ص194: "اعلم -أولًا- أن ذكر القول بأنه: "إن علق على شرط: اقتضى التكرار" سهو من المؤلف -رحمه الله- لأن الكلام في الأمر المطلق خاصة، والمعلق على شرط غير مطلق". 3 انظر: "فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت جـ1 ص391".

تعرض للعدد، ولا هو موضوع لآحاد الأعداد وضع اللفظ المشترك، لكنه محتمل للإتمام ببيان الكمية، فهو كقوله: "اقتل"، لا نقول: هو مشترك بين زيد وعمرو، ولا فيه تعرض لهما، فتفسيره بهما، أو بأحدهما زيادة على كلام ناقص، فإتمامه بلفظ دل على تلك الزيادة، لا بمعنى البيان. فحصل من هذا: أن ذمته تبرأ بالمرة الواحدة؛ لأن وجوبها معلوم، والزيادة لا دليل عليها، ولم يتعرض اللفظ لها، فصار الزائد كما قبل الأمر؛ فإنا كنا نقطع بانتفاء الوجوب، فقوله: "صم" أزال القطع في مرة واحدة، فصار كما كان1. ويعتضد هذا باليمين، والنذر والوكالة، والخبر: بيانه: أنه لو قال: "والله لأصومن" أو: "لله علي أن أصوم" برّ بصوم يوم. ولو قال لوكيله: "طلق زوجتي" لم يكن له أكثر من تطليقة.

_ 1 عبارة الغزالي في المستصفى "3/ 160-161": "فإن قيل: بين مسألتنا وبين القتل فرق؛ فإن قوله: "اقتل" كلام ناقص، لا يمكن امتثاله، وقوله: "صم" كلام تام مفهوم، يمكن امتثاله. قلنا: يحتمل أن يقال: يصير ممتثلًا بقتل أي شخص كان، بمجرد قوله: "اقتل" كما يصير ممتثلًا بصوم أي يوم كان، إذا قال: "صم يومًا" بلا فرق ويكون قوله: "اقتل" كقوله: "اقتل شخصًا"؛ لأن الشخص القتيل من ضرورة القتل، وإن لم يذكر، كما أن اليوم من ضرورة الصوم، وإن لم يصرح به. فيتحصل من هذا: أنه تبرأ ذمته بالمرة الواحدة؛ لأن وجوبها معلوم، والزيادة لا دليل على وجوبها؛ إذ لم يتعرض اللفظ لها فصار كما كان قبل قوله "صم" وكنا لا نشك في نفي الوجوب، بل نقطع بانتفائه، وقوله "صم" دال على القطع في يوم واحد، فبقي الزائد على ما كان. هذا هو الظاهر من مطلق اللفظ المجرد عن الكمية".

ولو أمر عبده بدخول الدار، أو بشراء متاع: خرج عن العهدة بمرة واحدة، ولم يحسن لومه، ولا توبيخه. ولو قال: "صمت" أو "سوف أصوم": صدق بمرة واحدة. فإن قيل: فلم حصل الاستفسار عنه؟ قلنا: هذا يلزمكم إن كان يقتضي التكرار فلم حسن الاستفسار1؟ ثم يبطل بما ذكرناه من الأمثلة بحسن الاستفسار، مع انه لا يقتضي التكرار2. ثم إنه حسن الاستفسار؛ لأنه محتمل له، لما ذكرناه.

_ جاء في نزهة الخاطر العاطر "2/ 82": "قوله: "فإن قيل: فلم حسن الاستفسار عنه" أي: فإن قال من زعم بأن الأمر مشترك بين التكرار والمرة: إنه يحسن الاستفسار فيه فيقال: أردت الأمر مرة واحدة أو دائمًا؛ ولذلك قال سراقة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أحجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ مع أنه من أهل اللسان، وأقره عليه. فلو كان الأمر موضوعًا في لسان العرب للتكرار أو للمرة لاستغنى عنه الاستفسار؟ وأجيب عنه بالمنع بأن يقال: ما قلته ممنوع؛ فإنه قد يستفسر عن أفراد المتواطئ، فإذا قال: "أعتق رقبة: فيقول: أمنومنة أم كافرة، سليمة أم معيبة؟. وقد يتمسك بدليلهم –أيضا- من يقول: بأن الأمر للتكرار فيقال له: ما ألزمتنا به هو لازم لك، لا لنا؛ لأنه إن كان يقتضي التكرار، فلم حسن الاستفسار؟ وأيضا: ما ذكرناه من الأمثلة المتقدمة يحسن فيها الاستفسار ولا يقتضي التكرار باتفاق منا ومنكم، فليس كل ما حسن فيه الاستفسار يكون للتكرار". 2 يقصد بالأمثلة المتقدمة قوله: "والله لأصومن، وطلق زوجتي، وأمر عبده بدخول الدار إلخ" فإن يحسن الاستفسار فيها أيضًا.

وقولهم: "إن صم عام في الزمان": ليس بصحيح1؛ إذ لا يتعرض للزمان بعموم ولا خصوص، لكن الزمان من ضرورته كالمكان، ولا يجب عموم الأماكن بالفعل، كذا الزمان. وليس هذا نظير قوله -تعالى-: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، بل نظيره قولهم: "صم الأيام". ونظير مسألتنا قوله: "اقتل" مطلقًا، فإنه لا يقتضي العموم في كل من يمكن قتله. والفرق بين الأمر والنهي: أن الأمر يقتضي: وجود المأمور مطلقًا2. والنهي يقتضي: ألا يوجد مطلقًا، والنفي المطلق يعم، والوجود المطلق لا يعم، فكل ما وجد مرة فقد وجد مطلقًا، وما انتفى مرة فما انتفى مطلقًا. ولذلك افترقا في اليمين، والنذر، والتوكيل، والخبر3. ولأن الأمر يقتضي الإثبات، والنهي يقتضي النفي، والنفي في النكرة يعم، والإثبات المطلق لا يعم.

_ 1 هذا رد على دليلهم الذي جاء فيه: "أن صم و"فاقتلوا المشركين" كل منهما عام؛ لأن صم، وصل، ينبغي أن يعم كل زمان....". 2 هذا رد على قياسهم الأمر على النهي في قولهم: "ولأن الأمر نهي عن ضده، وموجب النهي ترك المنهي أبدًا، فيكن موجب الأمر فعل الصوم أبدًا" فأجاب المصنف: بأن هذا القياس مع الفارق. 3 فإذا قال: "والله لافعلن" برّ في يمينه بمرة واحدة، أما إذا قال: "والله لا أفعل" حنث ولو بمرة واحدة. وكذلك في الصيام.

وتحقيقه: أنه لو قال: لا تفعل مرة واحدة: اقتضى العموم. ولو قال: افعل مرة واحدة: اقتضى التخصيص بلا خلاف1. وقولهم: "إن الأمر بالشيء نهي عن ضده". قلنا: إنما هو نهي عما يعقب الامتثال، فكان النهي مقيدًا بزمن امتثال الأمر2. وقولهم: "إن الأمر يقتضي الاعتقاد على الدوام". قلنا: يبطل بما لو قال: افعل مرة واحدة. والفرق بين الفعل والاعتقاد: أن الاعتقاد: ما وجب بهذا الأمر، إنما وجب بإخباره أنه يجب اعتقاد أوامره، فمتى عرف الأمر، ولم يعتقد وجوبًا: كان مكذبًا. وقولهم: "إن الحكم يتكرر بتكرار العلة، فكذا الشرط"3.

_ 1 خلاصته: أن الأمر يقتضي فعل المأمور به، وهذا يحصل بفرد من أفراد المأمور به، في أي زمن كان، فإذا قال له: "صل" حصلت الصلاة بصلاة واحدة، أما النهي: فإنه يقتضي ترك ماهيته مطلقًا، وذلك لا يتحقق إلا بتركها في كل زمان. 2 وضحه الشيخ ابن بدران فقال: "وحاصل ما ذكره: أن اقتضاء النهي للأضداد دائمًا إنما هو فرع على تكرار الأمر، وذلك لأن النهي بحسب الأمر، فإذا كان أمرًا بالفعل دائمًا، كان نهيًا عن أضداده، وإذا كان أمرًا به في وقت كان نهيًا عن الأضداد في ذلك الوقت، فإذًا: كونه النهي الذي تضمنه الأمر للتكرار فرع كون الأمر للتكرار، فإثباته به دور. فقول المصنف: "إنما هو نهي عما يعقب الامتثال" إشارة إلى أن النهي مفرع على الأمر، فإذا كان الأمر مقيدًا، كان النهي مقيدًا، وإذا كان عاما، كان عاما" نزهة الخاطر "2/ 84". 3 قوله: "إن الحكم يتكرر بتكرر العلة" ليس على الإطلاق، بل قد تكرر العلة ولا يتكرر الأمر، كمن بال عدة مرات، ولم يتوضأ، فعليه وضوء واحد، وكذلك من =

قلنا: العلة تقتضي حكمها، فيوجد بوجودها. والشرط: لا يقتضي، وإنما هو بيان لزمان الحكم، فإذا وجد: ثبت عنده ما كان يثبت بالأمر المطلق، كاليمين، والنذر، وسائر ما استشهدنا به. وقولهم: "إن الواجب يتكرر بتكرر اللفظ": لا يصح؛ فإن اللفظ الثاني دل على ما دل عليه اللفظ الأول، فلا يصح حمله على واجب سواه. ولذلك لو كرر اليمين فقال: "والله لأصومن، والله لأصومن" بّر بصوم واحد. وقد نقل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "والله لأغزون قريشا –ثلاثا-" 1. ثم غزاهم غزوة الفتح. ولو كرر لفظ النذر: لكان الواجب به واحدًا. وفائدة اللفظ الثاني: تحصيل التأكيد، فإنه من سائغ كلام العرب.

_ = جامع أكثر من مرة ليس عليه إلا غسل واحد. فقضية تكرر الحكم بتكرر علته، إنما هي في الأعم الأغلب، وليست على إطلاقها. 1 أخرجه أبو داود: كتاب الأيمان والنذور باب الاستثناء في اليمن بعد السكوت من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، كما أخرجه عن عكرمة مرسلًا. وأخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ابن حبان في صحيحه، وأبو يعلى في مسنده، والبيهقي في سننه، وابن عدي في الكامل عن عبد الواحد بن صفوان عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا. انظر: تلخيص الحبير: كتاب الأيمان، حديث "2033" 4/ 166، الكامل في ضعفاء الرجال "5/ 1937".

فصل: الأمر المطلق: هل يقتضي الفور

فصل: الأمر المطلق: هل يقتضي الفور ... فصل: مسألة: [الأمر المطلق: هل يقتضي الفور] 1 الأمر يقتضي فعل المأمور به على الفور، في ظاهر المذهب2. وهو قول الحنفية3.

_ 1 محل الخلاف: إذا لم توجد قرينة تدل على أنه للفور أو التراخي. قال الإسنوي: "إن قلنا: إنه يدل على التكرار دل على الفور، وإن قلنا: لا يدل على التكرار، فهل يدل على الفور أم لا؟ حكى المصنف فيه أربعة مذاهب: أحدها: أنه لا يدل على الفور، ولا يدل على التراخي، بل يدل على طلب الفعل. قال في البرهان: وهذا ما ينسب إلى الشافعي وأصحابه. وقال في المحصول: إنه الحق: واختاره الآمدي وابن الحاجب وا لمصنف. والثاني: أنه يفيد الفور، أي: وجوبًا، وهو مذهب الحنفية. والثالث: أنه يفيد التراخي، أي: جوازًا. قال الشيخ أبو إسحاق: والتعبير بكونه يفيد التراخي غلط. وقال في البرهان: أنه لفظ مدخول؛ فإن مقتضى إفادته التراخي أنه لو فرض الامتثال على الفور لم يعتدّ به، وليس هذا معتقد أحد. نعم حكى ابن برهان عن غلاة الواقفية: أنا لا نقطع بامتثاله، بل يتوقف فيه إلى ظهور الدلائل، لاحتمال إرادة التأخير. قال: والمقتصدون منهم إلى القطع بامتثاله، وحكاه في البرهان أيضًا. والرابع: هو مذهب الواقفية: أنه مشترك بين الفور والتراخي" "نهاية السول جـ2 ص47 ط صبيح. 2 فيه إشارة إلى أن هناك رواية عن الإمام أحمد، فقد نقل عنه أن الحج على التراخي. قال الطوفي في شرحه "2/ 388: "قلت: فإن كان الخلاف في هذا الأصل استفيد من هذا القول في الحج، فلا حجة فيه، لأن القواعد والأصول يجوز تخصيصها بدليل أقوى منها عند المجتهد، وإن كان قد وجد عنه نص، بأن الأمر على التراخي فذاك". 3 في هذه النسبة نظر، فإن المنقول عنهم: أنه للتراخي، ولم يقل بأنه على الفور إلا الكرخي وبعض علماء الحنفية: انظر: أصول السرخسي "1/ 26".

وقال أكثر الشافعية: هو على التراخي1؛ لأن الأمر يقتضي فعل المأمور لا غير، أما الزمان: فهو لازم الفعل، كالمكان والآلة والشخص، فيما إذا أمره بالقتل، فلا يدل على تعيين الزمان، كما لا يدل على تعيين المكان والآلة. ولأن الزمان في الأمر إنما حصل ضرورة، والضرورة تندفع بأي زمان كان فالتعيين تحكم2. ويعتضد هذا بالوعد واليمين، لو قال: "سوف أفعل" فمتى فعل. كان صادقًا، وكذا اليمين. وقالت الواقفية: هو على الوقف في الفور والتراخي، والتكرار وعدمه. وهو بيّن البطلان؛ فإن المبادر ممتثل بإجماع الأمة، مبالغ في

_ 1 أي: جوازًا كما تقدم في كلام الإسنوي. 2 هذا دليل القائلين بأن الأمر المطلق للتراخي، وهو من عدة وجوه: الأول: أن الأمر يقتضي فعل الماهية المجردة، ولا يدل على غيرها من زمان ومكان، فإذا قلنا: إنه يدل على الفور، فقد زدنا فيه ما ليس منه، والزيادة عليه كالنقص منه، وكلاهما لا يجوز. الثاني: أنه نسبة الفعل إلى جميع الأزمنة سواء؛ لعدم دلالة اللفظ على بعضها دون بعض، ولصحة وقوعه في أي زمن منها، وإذا استوت نسبة الفعل إلى جميعها، كان تخصيصه بالفور تحكمًا، وترجيحًا بدون مرجح. الثالث: "أن تعلق الزمان بالفعل" أي: احتياج الفعل إلى الزمان ضروري، أي: لضرورة أن الفعل يمتنع وقوعه في غير زمان، وإذا كان تعلق الزمن به لهذه الضرورة، فهي تندفع بإيقاعه في أي زمن كان، تقدم أو تأخر، وهذا يدل على أن الفور لا يتعين، وأن التأخير جائز. الرابع: أن الزمان من لوازم الفعل، لا ينفك عنه، كما أن المكان، والآلة، =

الطاعة، مستوجب جميل الثناء. ولو قيل لرجل: "قم" فقام في الحال: عُدَّ ممتثلًا، ولم يُعدَّ مخطئًا باتفاق أهل اللغة. وقد أثنى الله -تعالى- على المسارعين فقال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} 1. ولنا أدلة2: أحدها: قوله -تعالى- {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} 4 أمر بالمسارعة، وأمره يقتضي الوجوب5.

_ = والمحل من لوازمه -أيضًا- والأمر المطلق لا يقتضي تعيين مكان، أو آلة، أو محل، دون غيره، فكذلك لا يقتضي تعيين زمان دون غيره. فلو قال شخص لآخر: "توضأ" جاز له أن يتوضأ في أي مكان شاء، بأي ماء طهور شاء، ولم يتعين للوضوء، مكان دون غيره، ولا ماء من المياه الطاهرة دون غيره. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 392-393". 3 سورة المؤمنون من الآية: 61. 4 سورة البقرة من الآية 148. 5 وقد اعترض الإسنوي على الاستدلال بهذه الآيات فقال: "لا نسلم أن الفورية مستفادة من الأمر، بل إيجاب الفور مستفاد من قوله تعالى: {وَسَارِعُوا} ، لا من لفظ الأمر، وتقرير هذا الكلم من وجهين: أحدهما: أن حصول الفورية ليس من صيغة الأمر، بل من جوهر اللفظ؛ لأن لفظ المسارعة دال عليه كيفما تصرف.

الثاني: أن مقتضاه عند أهل اللسان: الفور فإن السيد لو قال لعبده: "اسقني" فأخر: حسن لومه وتوبيخه وذمه. ولو اعتذر عن تأديبه على ذلك: بأنه خالف أمري وعصاني: لكان عذره مقبول1. الثالث: أنه لا بد [للأمر] من زمان، وأولى الأزمنة عقيب الأمر؛ ولأنه يكون ممتثلا يقينًا، وسالما من الخطر قطعًا. ولأن الأمر سبب للزوم الفعل، فيجب أن يتعقبه حكمه، كالبيع، والطلاق، وسائر الإيقاعات؛ ولذلك يعقبه العزم على الفعل والوجوب. الرابع: أن جواز التأخير غير مؤقت ينافي الوجوب؛ فإنه لا يخلو: إما أن يؤخر إلى غاية. أو إلى غير غاية. فالأول: باطل؛ لأن الغاية لا يجوز أن تكون مجهولة؛ لأنه يكون تكليفًا لما لا يدخل تحت الوسع. وإن جعلت الغاية: الوقت الذي يغلب على ظنه البقاء إليه: فباطل -أيضًا-؛ فإن الموت يأتي بغتة كثيرًا. ثم لا ينتهي إلى حالة يتيقن الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات.

_ = الثاني: وهو تقرير صاحب الحاصل: أن ثبوت الفور في المأمورات ليس مستفادًا من مجرد الأمر بها، بل من دليل منفصل، وهو قوله تعالى: {وَسَارِعُوا} نهاية السول "2/ 48". 1 اعترض بعض العلماء على هذا الدليل، بأن الفورية مستفادة من قرينة خارجية هي: أن قوله: "اسقني" دليل على عطشه، وهذا يقتضي المبادرة بإحضار الماء، ومحل الكلام فيما لم تقترن به قرينة.

لا سيما العبادات الشاقة، كالحج، لا سيما والإنسان طويل الأمل، يهرم ويشب أمله1. وإن قيل: يؤخر إلى غير غاية: فباطل -أيضًا-؛ لأنه لا يخلو من قسمين: إما أن يؤخر إلى غير بدل، فيلتحق بالنوافل والمندوبات2. أو إلى بدل: فلا يخلو البدل: إما أن يكون بالوصية به، أو العزم عليه: والوصية لا تصلح بدلًا؛ لأن كثيرا من العبادات لا تدخلها النيابة. ولأنه لو جاز التأخير للموصي: جاز للوصي -أيضًا- فيفضي إلى سقوطه. والعزم ليس ببدل؛ لأن العزم يجب قبل دخول الوقت، والبدل لا يجب قبل دخول وقت المبدل. ولأن وجوب البدل يحذو وجوب المبدل، والمبدل لا يجب على الفور، فكذلك البدل. ولأن البدل يقوم مقام المبدل، ويجزئ عنه، والعزم ليس بمسقط للفعل، وكيف يجب الجمع بين البدل والمبدل؟

_ 1 يشير إلى حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنان: الحرص والأمل" رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي. ولفظ البخاري: "يكبر ابن آدم...." ولفظ مسلم: "يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص والأمل" انظر: فيض القدير "6/ 465". 2 ومعلوم: أن المندوب يجوز تأخيره، وتركه بدون بدل، بخلاف الواجب، ولا يؤخر إلا إلى بدل، كالواجب الموسع.

ثم لا ينفعكم تسميته بدلًا، مع كون الفعل واجبًا، فما الذي يسقط وجوب الفعل ويقوم مقامه؟ فإن قيل: هذا يبطل بما إذا قال: "افعل أي وقت شئت، فقد أوجبته عليك" فإنه لا يتناقض. قلنا: يتناقض؛ إذ حقيقة الواجب: ما لا يجوز تركه مطلقًا، وهذا جائز الترك مطلقًا. وقولهم1: "إن الأمر لا يتعرض للزمان" فهي مطالبة بالدليل، وقد ذكرناه2. والفرق بين الزمان، والمكان، والآلة: أن عدم التعيين في الزمان يفضي إلى فواته، بخلاف المكان. ولأن المكانين سواء بالنسبة إلى الفعل، والزمان الأول أولى، لسلامته فيه من الحظر، والخروج من العهدة يقينًا، فافترقا2.

_ 1 أي: القائلون بأن الأمر يفيد التراخي. 2 وهو: أن تعلق الفعل بالزمان ضروري عقلًا، لاستحالة وقوعه في غير الزمان وكذلك شرعًا: فقد يتعلق به مصلحة يختار الشرع إيقاعه في بعض الأزمنة دون بعض، لأجل هذه المصلحة، فلا يكون تعلقه بالفعل حينئذ ضروريًا، بل اختياريًا. انظر: شرح الطوفي "2/ 393-394". 3 معناه: أن العبد الذي أمره سيده بأن يسقيه: لو أخر امتثال أمر سيده، جاز له عقوبته، ولو فعل ما أمر به في غير مكان الأمر، لم يجز له عقوبته، فبان الفرق بين الزمان والمكان.

فصل: الواجب المؤقت إذا فات وقته لا يحتاج إلى أمر جديد

فصل: [الواجب المؤقت إذا فات وقته لا يحتاج إلى أمر جديد] 1 الواجب المؤقت لا يسقط بفوات وقته، ولا يفتقر إلى أمر جديد. وهو قول بعض الفقهاء2. وقال الأكثرون: لا يجب القضاء إلا بأمر جديد. اختاره أبو الخطاب3. لأن تخصيص العبادة بوقت الزوال، وشهر رمضان، كتخصيص الحج: بعرفات، والزكاة: بالمساكين، والصلاة: بالقبلة، والقتل: بالكفار. ولا فرق بين الزمان، والمكان، والشخص؛ إذ جميع ذلك تقييد له بصفة، فالعاري عنها لا يتناوله اللفظ، بل يبقى على ما كان قبل الأمر. ولنا4: أن الأمر اقتضى الوجوب في الذمة، فلا تبرأ منه إلا بأداء أو إبراء، كما في حقوق الآدميين.

_ 1 تحرير المسألة: أن الشارع إذا أمر بعبادة مؤقتة بوقت معين، ولم يفعلها المكلف في هذا الوقت حتى خرج جميع وقتها. فهل هذه العبادة تسقط ولا تفعل إلا بأمر جديد، أو لا تسقط، ويجب قضاؤها بالأمر الأول؟ حكى المصنف فيها مذهبين. وهناك مذهب ثالث مروي عن أبي زيد الدبوسي: أنها تجب قياسًا. ووجهته في ذلك: أن الشرع لما عهد منه إيثار استدراك عموم المصالح الفائتة، عُلِمَ بذلك: أنه يؤثر استدراك الواجب الفائت في الزمن الأول، بقضائه في الزمن الثاني: "شرح الطوفي 2/ 395". 2 وعلى ذلك عامة الحنفية والمالكية وبعض الشافعية. 3 انظر: التمهيد "1/ 252". 4 هذا دليل القول بأن الواجب لا يسقط بفوات الوقت، ولا يحتاج إلى أمر جديد. وتقريره: أن الذمة إذا اشتغلت بواجب الشرع، أو لآدمي، لم تبرأ منه إلا =

وخروج الوقت ليس بواحد منهما. ويصير هذا كما لو اشتغل الحيز بجوهر، لا يزول الشغل إلا بمزيل. والفرق بين الزمان والمكان1: أن الزمن الثاني تابع للأول، فما ثبت فيه انسحب على جميع الأزمنة التي بعده، بخلاف الأمكنة والأشخاص.

_ = بالامتثال، وهو الأداء أو إبراء من المستحق للواجب، بأن القول الشرعي: نسخت عنك هذه العبادة، أو الآدمي: أبرأتك من هذا الدين، وإذا كانت الذمة مشغولة بالواجب، ما لم يوجد أداء له، أو إبراء من مستحقه، فقد أجمعنا على أن الذمة مشغولة بالواجب المؤقت في وقته، والأصل بقاء ما كان فيه على ما كان. والمكلف لم يوجد منه أداء، ولا من الشرع إبراء، فوجب القول ببقاء الواجب في الذمة، فتكون براءتها منه موقوفة على الأداء أو الإبراء، والإبراء بعد انقضاء زمن الوحي صار ممتنعًا، فتعين الأداء لبراءة الذمة، وهذا يقتضي أن يكون بالأمر الأول. وإذا كانت الذمة لا تبرأ بواحد من الأمرين السابقين، فإن خروج الوقت ليس واحدًا منهما، فلا يمنع القضاء بالأمر الأول. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 396". 1 هذا إبطال لقياس أصحاب الرأي الثاني: تعلق الفعل بالزمان على تعلقه بالمكان. خلاصته: أن الزمن حقيقة سيّالة غير مستقرة، فالمتأخر تابع للمتقدم، بخلاف الأمكنة والأشخاص، فإنها حقائق ثابتة، وليس بعضها تابعًا لبعض. المصدر السابق.

فصل: مقتضى الأمر: حصول الإجزاء بفعل المأمور به

فصل: [مقتضى الأمر: حصول الإجزاء بفعل المأمور به] 1 ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر يقتضي الإجزاء بفعل المأمور به.

_ 1 الخلاف في هذه المسألة مفرع على تفسير "الإجزاء": فمن فسره بحصول =

إذا امتثل المأمور بكمال وصفه وشرطه. وقال بعض المتكلمين: لا يقتضي الإجزاء، ولا يمتنع وجوب القضاء مع حصول الامتثال: بدليل المضي في الحج الفاسد، ويجب القضاء. ومن ظن أنه متطهر فإنه مأمور بالصلاة، إذا صلى فهو ممتثل مطيع، ويجب القضاء. ولأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، والأمر بالشيء لا يمنع إيجاب مثله1. يدل عليه: أن الأمر إنما يدل على اقتضاء المأمور وطلبه لا غير، والإجزاء أمر زائد لا يدل عليه الأمر ولا يقتضيه.

_ = الامتثال قال: إن الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي تحقق الأجزاء. ومن فسره بسقوط القضاء قال: لا يقتضي الإجزاء. 1 هذا هو دليل المذهب الثاني: وهو مكون من وجهين: الأول: أن الحج الفاسد مأمور بإتمامه، ولا يقع مجزئًا، وكذلك المحدث الذي يظن أنه متطهر، فإذا صلى لا تجزئه هذه الصلاة. الثاني: أن الإجزاء مفسر بسقوط القضاء، لكن القضاء بأمر جديد، وإذا كان كذلك، فالأمر بالشيء لا يمنع إيجاب مثله بعد وقته، فالأمر -مثلًا- بصلاة ركعتين بعد طلوع الفجر، لا يمنع الأمر بصلاة ركعتين بعد طلوع الشمس. انظر: شرح الطوفي "2/ 402". ويرد على ذلك: أن عدم الإجزاء فيما ذكر من الحج والصلاة لفوات مصححات هذه العبادات، فاختل ما قاله المصنف: "إذا امتثل المأمور بكمال وصفه وشروطه" ولذلك قال الغزالي: "الأمر يدل على إجزاء المأمور، إذا أُدًّيَ بكمال وصفه وشرطه، من غير خلل. وإن تطرق إليه خلل، كما في الحج الفاسد، والصلاة على غير طهارة، فلا =

ولنا: ما روي أن امرأة1 سنان بن مسلمة الجهني2 أمرت أن تسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أمها ماتت ولم تحج، أفيجزئ عنها أن تحج عنها؟ قال: "نعم لو كان على أمها دين فقضته ألم يكن يجزئ عنها؟ فلتحج عنها" 3. وهذا يدل على أن الإجزاء بالقضاء: كان مقررًا عندهم. ولأن الأصل براءة الذمة، وإنما اشتغلت بالمأمور به، وطريق

_ = يدل الأمر على إجزائه، بمعنى: منع إيجاب القضاء" وقال قبل ذلك: "إنما يسمى قضاء إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها، وإن لم يكن فيه فوات وخلل، استحال تسميته قضاء" المستصفى "3/ 179". على أن قولهم: "إن القضاء بأمر جديد" غير مسلم، فهي قضية خلافية فلا يصح الاحتجاج بها. 1 جاء في الإصابة "8/ 44": أن اسمها غائثة، وقيل: غاثية. 2 هو: سنان بن سلمة بن المحبق الهذلي، يكنى أبا عبد الرحمن، وقيل: أبو حبتر، وقيل: أبو بسر. روي عنه أنه قال: ولدت يوم حرب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسماني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سنانًا وقال أبو أحمد العسكري: ولد سنان يوم الفتح، فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنانا، وكان شجاعًا بطلًا. توفي آخر أيام الحجاج. انظر: الإصابة "3/ 344"، أسد الغابة "2/ 357-358" ط. المكتبة الإسلامية. 3 حديث صحيح: أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، ومسلم: كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت. والنسائي: في كتاب مناسك الحج، من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما. ولفظه: "يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها نذر حج، أفأحج عنها؟ قال: "أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قضيته؟ " قالت: نعم، قال: فحجي عن أمك، فالله أحق بالقضاء" ولفظ البخاري: "أحق بالوفاء". انظر: جامع الأصول "4/ 198".

الخروج عن عهدته: الإتيان به فإذا أتى به يجب أن تعود ذمته بريئة كما كانت كديون الآدميين. وفي المحققات: إذا اشتغل الحيز بجوهر، فبرفعه يزول الشغل. ولأنه لو لم يخرج عن العهدة: للزمه الامتثال أبدًا، فإذا قال له: "صم يومًا" فصامه، فالأمر يتوجه إليه بصوم يوم كما كان، قبل منه ذلك أبدًا، وهو خلاف الإجماع1. قولهم: "إن القضاء يجب بأمر جديد": ممنوع2. وإن سلم: فإن القضاء إنما سمي قضاء إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها. وإن لم يكن كذلك: استحال تسميته قضاء. والحج الفاسد، والصلاة بلا طهارة، أمر بها مع الخلل، ضرورة حاله ونسيانه، فعقل الأمر بتدارك الخلل.

_ 1 خلاصة ذلك في وجهين: أحدهما: أن الذمة كانت بريئة من المأمور به قبل التكليف، فلما شغلت به وجب الخروج منه، ولا طريق لذلك إلا الفعل، قياسًا على حق الآدمي، إذ لا تبرأ الذمة منه إلا بالأداء. الوجه الثاني: قياس ذلك على الأمور العقلية المحققة الثابتة، فإن الجوهر إذا شغل حيزًا، فإنه لا يزال شاغلًا له في جميع الأزمان، ولا يرتفع إلا برافع يزيل شغله، والمأمور به شبيه بالجوهر، فإذا لم تفرغ الذمة مما شغلها كان امتثال المكلف بفعل المأمور به مطالبًا به في جميع الأزمان، ولزوم الامتثال أبدًا خلاف الإجماع، فبراءة الذمة بمضي زمن المأمور به خلاف الإجماع. انظر: نزهة الخاطر العاطر "2/ 95". 2 إذ هو: استدلال بما هو مختلف فيه فلا يصح.

أما إذا أتى بها مع الكمال بلا خلل، فلا يعقل إيجاب القضاء. والمفسد لحجة لا يقضي الفاسد، وإنما هو مأمور بحج خال عن الفساد، وقد أفسده على نفسه، فيبقى في عهدة الأمر، ويؤمر بالمضي بالفاسد؛ ضرورة الخروج عن الإحرام1. وقولهم: "لا يقتضي الأمر إلا الامتثال": هو محل النزاع لا يقبل.

_ 1 سبق أن أوضحناه بما نقل عن الغزالي في المستصفى.

فصل: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا به

فصل: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا به ... فصل: مسألة: [الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا به] الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا به، ما لم يدل عليه دليل1. مثاله: قوله -عليه السلام- "مروهم بالصلاة لسبع" 2 ليس بخطاب من الشارع للصبي، ولا إيجابًا عليه، مع أن الأمر واجب على الولي.

_ 1 هذا هو رأي جمهور العلماء. وقال بعض أهل العلم: الأمر بالأمر أمر، فالأول مأمور مباشرة، والثاني مأمور بالواسطة. وهو مروي عن بعض الحنفية. ومحل الخلاف: إذا لم ينص الآمر على ذلك، أو تقم قرينة على أن الثاني مبلًّغ عن الأول: فإن الثالث يكون مأمورًا بالإجماع، كما في قصة عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- حين طلق زوجه وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "مره فليراجعها ... " متفق عليه. 2 أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، حديث "495"، والترمذي "2/ 445"، وأحمد في مسنده "2/ 187" والدراقطني "1/ 230" والحاكم "1/ 197".

لكن إذا كان المأمور بالأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كان واجبًا بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقيام الدليل على وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحريم مخالفته1 أما إذا كان المأمور بالأمر غيره: فلا يبعد أن يجب عليه الأمر؛ لحكمة فيه، مختصة به. ولهذا لا يمتنع أن يقال للولي الذي يعتقد أن لطفله على طفل آخر شيئًا: عليك المطالبة بحقه. ويقال لولي الطفل الآخر: إذا لم تعلم أن على طفلك شيئًا يجب عليك الممانعة، وليس لك التسليم.

_ 1 قال القرافي: "علم من الشريعة أن كل من أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأمره غيره، فإنما هو على سبيل التبليغ، ومتى كان على سبيل التبليغ صار الثالث مأمورًا إجماعًا" شرح تنقيح الفصول ص149. 2 سورة آل عمران من الآية: 104.

فصل: أمر الجماعة أمر لكل واحد منهم

فصل: [أمر الجماعة أمر لكل واحد منهم] الأمر لجماعة يقتضي وجوبه على كل واحد منهم، ولا يسقط الواجب عنهم بفعل واحد منهم، إلا أن يدل عليه دليل، أو يرد الخطاب بلفظ لا يعم، كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فيكون فرض كفاية1.

_ 1 وضحه الطوفي في شرحه "2/ 403، 404" فقال: "اعلم أن الأمر المتوجه إلى جماعة، إما أن يكون بلفظ يقتضي تعميمهم، نحو قوله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} [البقرة: 43، 110] فإما أن لا يعترض عليه دليل يدل على =

[فرض الكفاية] فإن قيل: ما حقيقة فرض الكفاية؟ أهو واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض؟ أم على واحد غير معين، كالواجب المخير؟ أم واجب على من حضر دون من غاب، كحاضر الجنازة -مثلًا-؟ قلنا: بل واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض، بحيث لو فعله الجميع: نال الكل ثواب الفرض، ولو امتنعوا: عم الإثم الجميع، ويقاتلهم الإمام على تركه1.

_ = اختصاص الخطاب ببعضهم، أو يعترض دليل على ذلك، فإن لم يعترض على العموم دليل؛ اقتضى وجوبه على كل واحد منهم؛ لأن الواو في "افعلوا" كالواو في "الزيدون" وكلاهما للجميع، ثم الواو في "الزيدان" تدل على أشخاص متعددة، نحو: زيد وزيد، فكذلك الواو في "افعلوا" تدل على عدة مخاطبين، فهي في قوة قوله: "افعل أنت وأنت" كذلك، حتى يستغرق المخاطبين. وإن اعترض على العموم دليل يقتضي اختصاصه ببعضهم، فالبعض إما معين، أو غير معين. فإن كان معينًا؛ فذلك هو العام المخصوص، سواء كان التعيين باسم، كقوله عز وجل: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِين} [الحجر: 58، 59] أو بصفة كقوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] . وإن كان ذلك البعض غير معين، أو كان الخطاب بلفظ لا يعم الجميع، وهو القسم الثاني من أصل التقسيم، نحو قوله عز وجلك {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104] ، فهذا هو فرض الكفاية". 1 الذي رجحه المصنف هو رأي جمهور العلماء، فالقادر عليه يقوم به بنفسه، =

وسقوط الفرض بدون الأداء ممكن: إما بالنسخ أو بسبب آخر. أما الإيجاب على واحد لا بعينه: فمحال؛ لأن المكلف ينبغي أن يعلم أنه مكلف، وإذا أبهم الوجوب لم يعلم. بخلاف إيجاب خصلة من خصلتين؛ فإن التخيير فيهما لا يوجب تعذر الامتثال1.

_ = وغير القادر يحث غيره على القيام به؛ لأن الخطاب موجه للكل، وأن الإثم يتعلق بالكل عند عدم الفعل، ويسقط هذا الإثم بفعل البعض، لأن المقصود منه: تحقيق مصلحة معينة، دون نظر إلى فاعلها، بخلاف فرض العين، فإن المقصود منه: تعبّد أعيان المكلفين، متى تحققت فيهم شروط التكليف. وقال بعض العلماء، كالإمام فخر الدين الرازي والبيضاوي وأتباعهما: إن فرض الكفاية يتعلق بطائفة غير معينة؛ لأنه لو تعلق بالكل لما سقط إلا بفعل الكل، ولا استحالة في الأمر بواحد مبهم، كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وهو منقول عن المعتزلة أيضًا. وفي مسألة أقوال أخرى تراجع في مظانها. انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص156، مناهج العقول للبدخشي "1/ 118"، شرح مختصر الطوفي "2/ 404 وما بعدها". 1 يريد المصنف أن يفرق بين الواجب الكفائي والواجب المخير؛ حيث إن المكلف مخير بين أمور معينة، كما هو واضح. وهناك فوائد وفروع متعلقة بالواجب الكفائي، أوردها الطوفي في شرحه "2/ 409، 110" نلخصها في الآتي: 1- لا يشترط في الخروج عن عهدة فرض الكفاية: تحقق وقوعه من بعض الطوائف، بل أي طائفة غلب على ظنها أن غيرها قام بها سقط عنها، وإن غلب على ظن كل من الطائفتين أو الطوائف أن الأخرى قامت به، سقط عن الجميع عملًا بموجب الظن. =

فصل: أمر الله تعالى للنبي أمر للأمة ما لم يوجد تخصيص

فصل: [أمر الله تعالى للنبي أمر للأمة ما لم يوجد تخصيص] إذا أمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بلفظ ليس فيه تخصيص، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْل} 1، أو أثبت في حقه حكمًا: فإن أمته يشاركونه في ذلك الحكم، ما لم يقم على اختصاصه به دليل. وكذلك إذا توجه الحكم إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره، ويدخل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو قوله: "إن الله فرض عليكم صيامه" 2.

_ = 2- أن القائم بفرض الكفاية أفضل من غيره؛ لأنه حصل مصلحته دون غيره، وإن كانا سيان في الخروج عن العهدة. 3- اختلف العلماء في المفاضلة بين فاعل فرض العين، وفاعل فرض الكفاية. فقال البعض: فرض العين أفضل، ولذلك وجب على كل مكلف. وقال البعض: إن فرض الكفاية أفضل؛ لأن نفعه أعم؛ إذ هو يسقط الفرض عن نفسه وعن غيره. 4- هل يتعين فرض الكفاية، ويجب إتمامه على من تلبس به أم لا؟ قال الطوفي: "والأشبه: أنه يتعين، كالمجاهد يحضر الصف، وطالب العلم يشرع في الاشتغال به، ونحو ذلك في صوره. ووجهه: أنه بالشروع تعلق به حق الغير، وهو انعقاد سبب براءة ذمته من التكليف بفرض الكفاية، وخروجه عن عهدته، فلا يجوز له إبطال ما تعلق به حق غيره، كما لو أقر بحق لم يجز له الرجوع عنه. ووجه القول الآخر: أن ما لا يجب الشروع فيه، لا يجب إتمامه في غير الحج، كصوم التطوع، وصلاته، ولأنه لو تعين بالشروع، لما جاز للقاضي أن يعزل نفسه، لكنه جائز باتفاق". 1 سورة المزمل الآية 1، 2. 2 يشير إلى ما روي عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: "خطبنا =

هذا قول القاضي، وبعض المالكية، وبعض الشافعية1. وقال أبو الحسن التميمي، وأبو الخطاب، وبعض الشافعية: يختص الحكم بمن توجه إليه الأمر؛ لأن السيد من أهل اللغة لو أمر عبدا من عبيده بأمر: لاختص به دون بقية عبيده. ولو أمر الله -تعالى- بعبادة، لم يتناول -بمطلقه- عبادة أخرى.

_ = رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر يوم من شعبان قال: "يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا ... الحديث" رواه ابن خزيمة في صحيحه ثم قال: "إن صح الخبر" كما رواه ابن خزيمة والبيهقي -مختصرًا- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وفي إسناده كثير بن زيد. "الترغيب 2/ 67" 1 حاصل ذلك: أن ما خوطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحكام يتناول أمته كذلك، ومثله ما إذا توجه خطاب من رسول الله –صلى الله عليه عليه وسلم- إلى واحد من الصحابة –رضي الله عنهم- فإنه يعم الجميع، حتى النبي -صلى الله عليه وسلم-. ما لم يدل دليل مخصص للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو لبعض الصحابة: كوجوب السواك والضحى والوتر على النبي -صلى الله عليه وسلم- دون الأمة، فقد وجد دليل يدل على هذا الاختصاص، ومثل ذلك: ما خوطب به -صلى الله عليه وسلم- صراحة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] . ومن أمثلة ما دل الدليل على اختصاصه ببعض الصحابة: قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بردة "تجزئك ولا تجزئ أحدًا بعدك". أخرجه البخاري "955" و"965"، "983"، "5545"، "5556"، "5757"، "5560"، "5563" كما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم. فإذا لم يقل دليل على التخصيص، كان الحكم عامًا عند القاضي أبي يعلى، وبعض المالكية وبعض الشافعية. انظر: العدة "1/ 318"، وشرح العضد "2/ 121"، وشرح الطوفي "2/ 411".

فقال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" 1. وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- في القبلة للصائم مثل ذلك. رواه مسلم2. فالحجة فيه من وجهين: أحدهما: أنه أجابهم بفعله، ولو اختص به الحكم، لم يكن جوابًا لهم. الثاني: أنه أنكر عليهم مراجعتهم له باختصاصه بالحكم، فدل على أن مثل هذا لا يجوز اعتقاده. ولأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يرجعون إلى أفعال

_ 1 رواه مسلم: كتاب الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، وأبو دواد في الصيام حديث "2389"، والنسائي في السنن الكبرى، في الصيام والتفسير، ومالك في الموطأ "1/ 289" من حديث عائشة -رضي الله عنها-. 2 هو: مسلم بن الحجاج بن مسلم، النيسابوري، أحد أئمة حفاظ الحديث، صاحب الصحيح المشهور الذي جمع فيه ثلاثمائة ألف حديث. وله مصنفات أخرى كثيرة، منها: "المسند الكبير" على أسماء الرجال، "الجامع الكبير" على الأبواب، وكتاب "العلل" و"الكنى" و"أوهام المحدثين". توفي -رحمه الله تعالى- سنة "261هـ" انظر: "طبقات الحفاظ ص260، تذكرة الحفاظ 2/ 588". وحديث القبلة للصائم: أخرجه مسلم، كتاب الصيام، من طريق عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك. فقال يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له". حديث رقم "1108".

النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يختلفون فيه من الأحكام: كرجوعهم إلى فعله في الغسل من التقاء الختانين من غير إنزال1، وإيجاب الوضوء من الملامسة2، وصحة الصوم ممن أصبح جنبًا3، وعدم ثبوت حكم الإحرام في حق من

_ 1 أخرجه مسلم: كتاب الحيض، باب: نسخ الماء، ووجوب الغسل من التقاء الخنانين من حديث عائشة -رضي الله عنها-، والترمذي: كتاب الطهارة، باب: ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل، وأبو داود: كتاب الطهارة، باب في الإكسال، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. كما أخرجه عنها وعن غيرها ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختاتان، وهو أظهر من محل الشاهد، حيث جاء فيه لفظ الفعل صريحًا. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلنا". 2 حديث الوضوء من مس المرأة: أخرجه الترمذي: كتاب التفسير، باب ومن سورة هود عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مرفوعًا. ولفظه "...... عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا لقى امرأة، وليس بينهما معرفة، فليس يأتي الرجل شيئًا إلى امرأته إلا وقد أتى هو إليها، إلا أنه لم يجامعها، قال: فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] فأمره أن يتوضأ ويصلي. قال معاذ: يا رسول الله، أهي له خاصة أم للؤمنين عامة؟ قال: بل للمؤمنين عامة". قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بمتصل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ". كذلك أخرجه عن معاذ -أيضًا- الدراقطني كتاب الطهارة، باب صفة ما ينقض الوضوء وما روي في الملامسة والقبلة. ثم قال: "حديث صحيح"، والحاكم في المستدرك، كتاب الطهارة، باب الدليل على أن اللمس ما دون الجماع والوضوء منه. كما أخرجه مالك والشافعي من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

بعث هديه وأقام في أهله1، حتى عدوا ذلك ناسخًا لما قبله، معارضًا لما خالفه من أمره ونهيه. ولأن الله -تعالى- أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقيام الليل2، ودخل فيه أمته، حتى نسخه بقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} 3.

_ 1 روى البخاري ومسلم وأبو دواد والترمذي والنسائي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أنا فتلت تلك القلائد من عهن كان عندنا وأصبح فينا حلالًا، يأتي ما يأتي الحلال من أهله، أو ما يأتي الرجل من أهله. وفي رواية: فتلت قلائد بُدنِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أشعرها وقلّدها، ثم بعث بها إلى البيت، فما حرم عليه شيء كان له حلالًا. انظر: جامع الأصول "4/ 165" والمنتقى من أخبار المصطفى ص423. 2 في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1-4] . 3 سورة المزمل من الآية: 20. روى ابن جرير الطبري عن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قاموا حولًا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَه} قال: فاستراح الناس. وروي عن زرارة بن أبي أوفى عن سعيد بن هشام قال: فقلت -يعني لعائشة- أخبرينا عن قيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: ألست تقرأ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قلت: بلى. قالت: فإنها كان قيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى انتفخت أقدامهم، وحبس آخرها في السماء ستة عشر شهرًا، ثم نزل. وروى الطبري عن سعيد بن جرير قال: لما أنزل الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قال: مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله -تعالى- عليه بعد عشر سنين {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} الآية. تفسير ابن كثير "4/ 437".

ولما عاتبه في تحريم ما أحل الله ما أحل الله له1، قال -عقيبه-: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} 2. وابتدأ الخطاب بمناداته وحده، ثم تممه بلفظ الجمع بقوله: {ياَ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ..} 3. وهذا يدل على أن حكم خطابه لا يختص به.

_ 1 في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} . 2 سورة التحريم من الآية: 2. وقد اختلف العلماء في سبب نزول ذلك على أقوال كثيرة، أشهرها -كما قال الواحدي والقرطبي- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في بيت حفصة، فزارت أباها، فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي -صى الله عليه وسلم- فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجه حفصه الغيرة، والكآبة قال لها: "لا تخبري عائشة ولك عليّ أن لا أقربها أبدًا" فأخبرت حفصة عائشة -وكانتا متصافيتين- فغضبت عائشة، ولم تزل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى حلف أن لا يقرب مارية، فأنزل الله هذه السورة. "فتح القدير للشوكاني 5/ 287". كما روى البخاري في كتاب التفسير، باب سورة التحريم، ومسلم في كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، من حديث حفصة وعائشة أنهما قالتا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: نشم منك رائحة مغافير "صمغ حلو له رائحة كريهة" قال: "لا، بل شربت عسلًا" -وكان قد شربه عند زينب بنت جحش- ولن أعود إليه" فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} . قال الشوكاني في فتح القدير "5/ 290": "والجمع ممكن بوقوع القصتين: العسل، وقصة مارية، وأن القرآن نزل فيهما جميعًا". 3 مفتتح سورة الطلاق. قال الشوكاني: "نادى النبي -صلى الله عليه وسلم- أولًا تشريفًا له، ثم خاطبه مع أمته، أو الخطاب له خاصة، والجمع للتعظيم، وأمته أسوته في ذلك". المصدر السابق ص377.

وقد أشار إليه -عليه السلام- بقوله: "إِنّمَا أََسْهُو لأَسُنًّ" 1. فإذا ثبت أن امته يشاركونه في حكمه: فلزم مشاركته لهم في أحكامهم؛ لوجود التلازم ظاهرًا؛ فإن ما ثبت في أحد المتلازمين ثبت في الآخر؛ فإنه لو ثبت في حقهم حكم انفردوا به دونه: لثبت نقيض ذلك الحكم في حقه دونهم، وقد أقمنا الدليل على خلافه. لذلك: قالت حفصة2 للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما شأن الناس حلُّوا ولم تحلل من عمرتك؟ قال، "إِنَّي لَبدَتُّ رَأْسِي3، وَقَلَّدتُّ، هَدْبِي، فَلاَ أُحِلَّ حَتىَّ أَنْحَرَ" 4. فلولا أنه داخل فيما ثبت لهم من الأحكام: ما استدعوا منه موافقتهم، ولا أقرهم على ذلك، وبين لهم عذره.

_ 1 أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الصلاة -باب العمل في السهو- قال: "بلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأنسى، أو أنسًّى لأسنّ". قال ابن عبد العزيز: "لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه، وهو أحد هذه الأحاديث الأربعة التي في الموطأ، لا توجد في غيرن مسنده ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول". شرح الزرقاني على موطأ مالك "1/ 205". شرح الزرقاني على موطأ مالك "1/ 205". 2 هي: أم المؤمنين: حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- تزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- سنة "3هـ" على أرجح الأقوال: توفيت -رضي الله عنها- سنة "41هـ" وقيل سنة "45هـ". انظر: الاستيعاب "4/ 1811". 3 في المصباح فيقال: لبّدت الشيء تلبيدًا: ألزقت بعضه ببعض حتى صار كاللبّد، ولبّد الحاج شعره بخطمى ونحوه كذلك حتى لا يتشعث". 4 أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب التمتع ولإقران والإفراد بالحج من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن حفصة -رضي الله عنها- كما أخرجه =

والدلالة على أن الحكم إذا ثبت في حق واحد من الصحابة دخل فيه غيره: قوله -عليه السلام-: "خطابي للواحد خطاب للجماعة" 1. ولأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانت ترجع في أحكامهم إلى قضايا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأعيان2: كرجوعهم في حد الزاني إلى قصة

_ = عنها في باب فتل القلائد للبدن والبقر، وفي باب من لبّد رأسه عن الإحرام وحلق. كما أخرجه عنها -أيضًا- أبو داود: كتاب الحج، باب في الإقران، والشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة. وفي بعض رواياته: "إني أهديت ولبّدت، فلا أحل حتى أنحر هديي". 1 هكذا يذكره الأصوليون في كتبهم، كما يروونه بلفظ "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" وهو بهذين اللفظين، لا أصل له، كما قال المزي، والذهبي، والعراقي، والسخاوي، لكن جاء في معناه ما وراه النسائي في سننه، كتاب البيعة، باب النساء، من طريق مالك، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في بيعة النساء، من طريق سفيان عن محمد بن المنكدر، سمعت أميمة بنت رقيقة تقول: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نسوة لنا: "فيما استطعتنّ وأطقتنّ" قلت: الله ورسوله أرحم منا بأنفسنا. فقلت: يا رسول الله بايعنا. قال سفيان: يعنى صافحنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة" قال الترمذي: حسن صحيح. ولفظ النسائي: "ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة". وأخرجه كذلك ابن حبان في صحيحه، والدرقطني في سننه. انظر: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان "ص34" المقاصد الحسنة "ص192" تحفة الطالب لابن كثير "ص286" الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج "ص110". 2 أي: الوقائع التي حكم فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أشخاص معينين.

ماعز1 وفي دية الجنين إلى حديث حمل بن مالك2، وفي "المفوضة" إلى قصة بروع بنت واشق، و"في السكنى والنفقة" إلى حديث فاطمة بنت قيس، وفريعة بنت مالك3، وإلى حديث صفية الأنصارية4 في: "سقوط طواف الوداع عن الحائض" وغير ذلك.

_ 1 هو: ماعز بن مالك الأسلمي، أبو عبد الله، صحابي جليل، يعد من المدنيين، روى عنه ابنه عبد الله حديثًا واحدًا. له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 1345" والإصابة "5/ 705". وقصة رجم ماعز: أخرجها البخاري: كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ومسلم: كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري: كما أخرجها أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم. 2 تقدمت ترجمته، وتخريج حديثه فصل "التعبد بخبر الواحد". 3 تقدمت هذه الأخبار في فصل "التعبد بخبر الواحد". 4 في أكثر النسخ المطبوعة "الأنصارية" بدون واو، حتى قال الطوفي في شرحه "2/ 415-416: "قال الشيخ أبو محمد: وإلى حديث صفية الأنصارية؛ في سقوط طواف الوداع عن الحائض. قلت: وإنما هي صفية بنت حيي، أم المؤمنين". والصواب إثبات الواو؛ لأن القصة نقلت عن السيدة حفصة، وامرأة أنصارية تسمى "أم سليم". وقد تقدم في "فصل التعبد بخبر الواحد سمعًا": عن عكرمة قال: إن أهل المدينة سألوا ابن عباس -رضي الله عنهما- عن امرأة طافت، ثم حاضت؟ قال لهم: تنفر. قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد "وكان زيد بن ثابت يفتي بخلاف ذلك" قال: -أي ابن عباس-: إذا قدمتم المدينة فسلوا. فقدموا المدينة فسألوا، فكان فيمن سألوا "أم سليم" فقالت: إن صفية بنت حيي زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أحابستنا هي؟ ". قالوا: إنها أفاضت. قال: "فلا إذن". أخرجه البخاري: كتاب الحج -باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت، =

ولأنه لو اختص به لما احتيج إلى التخصيص بقوله -لأبي بردة1- في التضحية بالجذع من المعز: "تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك" 2. دليل آخر: أن قول الراوي: "نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أمر، أو قضى" يعم، ولو اختص الحكم من شوفه به: لم يكن عامًا؛ لاحتمال أن يكون الراوي سمع نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أمره لواحد فلا يكون عامًا.

_ = ومسلم: كتاب الحج، باب وجوب طواف الوادع وسقوطه عن الحائض، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحج، باب ترك الحائض الوادع. 1 هو: الصحابي الجليل: هانئ بن نيار الأنصاري، خال البراء بن عازب، شهد أبو بردة بدرًا وما بعدها. توفي في أول خلافة معاوية بعد أن شهد مع علي -رضي الله عنه- حروبه كلها، وكان سنة "41هـ" وقيل "42هـ" وقيل "45هـ". انظر في ترجمته: الإصابة "4/ 18" تهذيب الأسماء واللغات "2/ 178". 2 الحديث رواه البراء بن عازب قال: ضحى خال لي يقال له: أبو بردة، قبل الصلاة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "شاتك شاة لحم" فقال: يا رسول الله، إن عندي داجنًا جذعة من المعز؟ قال: "اذبحها ولا تصلح لغيرك". وفي رواية أخرى عن البراء -أيضًا- قال: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر قال: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل أن نصلي، فإنما هو لحم عجله لأهله، ليس من النسك في شيء" فقام خالي أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله، أنا ذبحت قبل أن أصلي، وعندي جذعة خير من مسنة، قال: "اذبحها، ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك" وفي رواية: إن عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم، فقال: "هي خير نسيكتك، ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك". والعناق: أنثى المعز قبل أن تستكمل حولًا. أخرجه البخاري "955" ومسلم "1961" وأبو داود "2800" والترمذي "1508 وأحمد في المسند "4/ 281، 287، 297، 302" وغيرهم.

ولأن الخطاب بالكتاب والسنة إنما شوفه به أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا خلاف في ثبوت حكمه في حق أهل الأعصار1.

_ 1 هذه خمسة أدلة تدل على أن ما توجه إلى بعض الأمة يتناول غيره، ما لم يدل دليل على الاختصاص كما تقدم.

فصل: في تعلق الأمر بالمعدوم

فصل: [في تعلق الأمر بالمعدوم] الأمر يتعلق بالمعدوم، وأوامر الشرع قد تناولت المعدومين إلى قيام الساعة، بشرط وجودهم على صفة من يصح تكليفه. خلافًا للمعتزلة وجماعة من الحنفية1 قالوا: لا يتعلق الأمر به؛ لأنه يستحيل خطابه، فيستحيل تكليفه. ولأنه لا يقع منه فعل ولا ترك، فلم يصح أمره، كالعاجز والمجنون، ولأن المعدوم ليس بشيء، فأمره هذيان.

_ 1 تحرير محل النزاع في المسألة: أن توجه الأمر إلى المعدوم: إن كان بمعنى طلب إيقاع الفعل منه حال عدمه، فهو محال وباطل بالإجماع؛ لأن المعدوم لا يفهم إيقاع الفعل منه حال عدمه، فهو محال وباطل بالإجماع؛ لأن المعدوم لا يفهم الخطاب، فضلًا عن أن يعمل بمقتضاه، وشروط التكليف كلها منفية فيه. وإن كان بمعنى توجه الخطاب له عند وجوده، ووجود شروط التكليف فيه، فهذا هو محل النزاع. فالجمهور على جواز ذلك، ولهم على ذلك أدلة سيذكرها المصنف. والمعتزلة وبعض الحنفية، وبعض المتكلمين يرون عدم الجواز، للأدلة التي ذكرها المصنف. والواقع أن ما أوردوه من الأدلة لا ينطبق على محل النزاع، وسيأتي رد المصنف على هذه الأدلة. انظر: شرح الطوفي "2/ 419-420".

وكما أن من شرط القدرة: وجود المقدور، يجب أن يكون من شرط الأمر: وجود المأمور. ولنا: اتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين على الرجوع إلى الظواهر المتضمنة أوامر الله -سبحانه- وأوامر نبيه -عليه السلام- على من لم يوجد في عصرهم، لا يمتنع من ذلك أحد. ولأنه قد ثبت أن كلام الله –تعالى- قديم، وصفة من صفاته، لم يزل آمرا ناهيًا. وقال الله -تعالى-: {فَاتَّبِعُوه} 1 وهذا أمر باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا خلاف أنا مأمورون باتباعه ولم نكن موجودين. قولهم2: "إن خطاب المعدومين محال". قلنا: إنما يستحيل خطابه بإيجاد الفعل حال عدمه3. أما أمره بشرط الوجود: فغير مستحيل، بأن يفعل عند وجوده ما أمر به متقدمًا، كما يقول: الوالد يوجب على أولاده، ويلزمهم التصدق عنه إذا عقلوا وبلغوا، فيكون الإلزام حاصلا بشرط الوجود.

_ 1 سورة الأعراف من الآية: 158 {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وفي جميع النسخ: "فاتبعوه" وقد وردت في الآيتين: 153، 155 من سورة الأنعام. ولا تصلحان للاستشهاد هنا، حيث الضمير في الأولى يعود على صراط الله تعالى، وفي الثانية يعود على الكتاب. فتأمل ذلك. 2 بدأ المصنف يناقش الأدلة التي تمسك بها المعتزلة ومن معهم. 3 أي: حال عدم المأمور.

ولو قال لعبده: "صم غدًا" فهو أمر في الحال بصوم الغد، لا أنه أمر في الغد. وأما العاجز: فإنه يصح أمره بشرط القدرة، كمسألتنا بغير فرق. فإن قيل: هذا مخالف لقوله -عليه السلام-: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي ... " 1 قلنا: المراد به: رفع المأثم والإيجاب المضر، بدليل أنه قرن به النائم. ولا نسلم أن شرط القدرة: وجود المقدور؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- قادر قبل أن يوجد مقدور2.

_ 1 الحديث أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الحدود حديث "4403" وابن ماجه: كتاب الطلاق حديث "2041" وأحمد في المسند "6/ 100" عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" وإن كان في إسناده مقال، إلا أن الحاكم في المستدرك "2/ 59" قال: "هذا الحديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه: أي: البخاري ومسلم. 2 ترك مسلم الرد على قولهم: "ولأن المعدوم ليس بشيء، فأمره هذيان" وقد رد عليه الطوفي في شرحه "2/ 421-422" مبينا أن هذا قول بعضهم، لا كل المعتزلة: "قال بعضهم: هو عرض قائم بجوهر، وأن تأثير القدرة الإلهية ليست في إيجاد معدوم، بل في إظهار الأشياء من رتبة الخفاء إلى رتبة الجلاء، أي: أن الأشياء خفية في العدم، فيظهرها الله -عز وجل- ويجليها، كما قال -عز وجل- في الساعة التي نسميها الآن معدومة: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] فسماها شيئًا، وقال في موضع آخر: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] . ثم قال: وإذا كان معنى إيجاد المعدوم عندهم هو: إظهار أشياء بعد خفائها، فما المانع من توجه الخطاب الأزلي إلى تلك الأشياء، بشرط ظهورها وتأهلها للامتثال، هذا مما لا مانع منه، وهو لازم لمن قال به من المعتزلة، على ما حكيته عنهم في كتاب: "إبطال التحسين والتقبيح". ا. هـ.

فصل: في التكليف بغير الممكن

فصل: [في التكليف بغير الممكن] ويجوز الأمر من الله -سبحانه- لما في معلومه أن المكلف لا يتمكن من فعله. وعند المعتزلة: لا يجوز ذلك إلا أن يكون تعلقه بشرط تحققه مجهولا عند الآمر، أما إذا كان معلوما أنه لا يتحقق الشرط، فلا يصح الأمر به؛ لأن الأمر طلب، فكيف يطلب الحكيم ما يعلم امتناعه؟ وكيف يقول السيد لعبده: خط ثوبي إن صعدت السماء؟ وبهذا يفارق أمر الجاهل؛ لأن من لا يعرف عجز غيره عن القيام: يتصور أن يطلبه منه. أما إذا علم امتناعه: فلا يكون طالبًا، وإذا لم يكن طالبًا: لم يكن آمرا. ولأن إثبات الأمر بشرط يفضي إلى أن يكون وجود الشيء مشروطًا بما يوجد بعده، والشرط ينبغي أن يقارن، أو يتقدم أما أن يتأخر عن المشروط، فمحال. وهذه المسألة تنبني على النسخ قبل التمكن، وأن فيه فائدة، على ما مضى1.

_ 1 حاصل هذه المسألة: أن الآمر والمأمور إما أن يكونا عالمين بانتفاء شرط التكليف، أو جاهلين به، أو أحدهما عالم به والآخر جاهل به. فالقسمة العقلية رباعية. فإن كانا عالمين بانتفاء التكليف، فلا يصح التكليف؛ لانتفاء فائدته في حق المكلف. وإن كانا جاهلين بانتفائه، فيصح، لحصول فائدته في حق المكلف، وصحة =

ولنا: الإجماع على أن الصبي إذا بلغ يجب عليه أن يعلم ويعتقد أنه مأمور بشرائع الإسلام، منهي عن الزنا والسرقة، ويثاب على امتثال المأمورات، وترك المنهيات، ويكون متقربًا بذلك وإن لم يحضر وقت عبادة، ولا يتمكن1 من زنا ولا سرقة. وعلمه بأن الله -تعالى- عالم بعاقبة الأمر: لا ينفي عنه ذلك. وإن احتمل أن لا يكون مأمورا منهيًّا، لعدم مساعدة التمكن يجب أن يشك في كونه مأمورًا منهيًّا، وفي كونه متقربًا؛ إذ لا خلاف في أن العزم على امتثال ما ليس بمأمور، وترك ما ليس بمنهي ليس بقربة، وهذا لا يتيقن أنه مأمور ولا متقرب وهذا خلاف الإجماع. ودليل ثان: الإجماع على أن صلاة الفرض لا تصح إلا بنية الفرضية، ولا تقبل نية الفرضية، إلا بعد معرفة الفرضية والعبد ينوي في أول الوقت فرض الظهر، وربما مات في أثنائها، فتبين -عندهم2- أنها لم تكن فرضًا،

_ = الطلب من الآمر، إذ ما يعلم انتفاء شرطه لا يصح طلبه ممن يجوز جهله به. أما إذا كان الآمر عالمًا به دون المأمور: فيصح إذا كان المأمور عالمًا به دون المأمور: فيصح إذا كان الآمر هو الله تعالى؛ لابتلاء المكلف واختباره، بخلاف العكس: وهو ما إذا كان المأمور عالمًا به دون الآمر، فلا يصح؛ لانتفاء فائدته من جهة المكلف، وعدم صحة طلبه من الآمر، لجهله به. والمسألة مفرعة على مسألة: النسخ قبل التمكن من الامتثال، وقد تقدم ما فيها. انظر: شرح مختصر الطوفي "2/ 423-424". 1 في الأصل "لا يمكن" ولا يستقيم المعنى بذلك. 2 أي: عند المعتزلة.

فليكن شاكًّا في الفرضية، فتمتنع النية لأنها لا تتوجه إلا إلى معلوم. فإن قيل: فإذا مات في أثنائها كيف يقال: إن الأربع كانت فريضة على الميت؟ قلنا: هو قاطع بأنها فرض عليه، لكن بشرط البقاء، والأمر بشرط أمر في الحال، وليس بمعلق من عزم عليه يثاب ثواب العزم على الواجبات؛ فإن قول السيد لعبده: "صم غدًا" أمر في الحال بصوم الغد، لا أنه أمر في الغد. ولو قال: "فرضت عليك بشرط بقائك": فهو فارض في الحال، لكن بشرط. ولو قال لوكيله: "بع داري في رأس الشهر": كان وكيلًا في الحال، يصح أن يقال: وكّله، ويصح عزله. وإذا قال: وكّلني، وعزلني: كان صادقًا، فإن مات قبل رأس الشهر لم يتبين كذبه. بخلاف ما إذا قال: "إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي"، فإنه لا يكون وكيلًا في الحال. الثالث: الإجماع على لزوم الشروع في صوم رمضان، فإن كان الموت يتبين به عدم الأمر، والموت مجوّز1، فيصير مشكوكًا فيه، فكيف تلزمه العبادة؟. قالوا2: لأن الظاهر بقاؤه، والحاصل يستصحب، والاستصحاب أصل تنبني عليه الأمور، كما أن من أقبل عليه سبع: لم يقبح الهرب، وإن

_ 1 أي: جائز. 2 أي: المعتزلة.

كان من المحتمل موت السبع دونه، ولو فتح هذا الباب: لم يتصور امتثال أمر. قلنا: هذا يلزمكم، ومذهبكم يفضي إليه، وما أفضي إلى المحال محال1. وأما الهرب: فحزم، وأخذ بالأسوأ من الأحوال، ويكفي فيه الاحتمال البعيد والشك، فإن من شك في سبع في الطريق، أو لص: حسن منه الاحتراز عنه. وأما الوجوب: فلا يثبت بالشك والاحتمال، بل ينبغي أن من أعرض عن الصوم لم يكن عاصيًا؛ لأنه أخذ بالاحتمال الآخر. وقولهم2: "الأمر طلب، وطلب المستحيل من الحكيم محال". قلنا: الأمر إنما هو قول الأعلى لمن دونه: "افعل" مع تجردها عن القرائن، وهذا متصور مع علمه بالاستحالة3. وعلى أنا لو سلمنا أن الأمر طلب، فليس الطلب من الله -تعالى- كالطلب من الآدميين؛ وإنما هو استدعاء فعل لمصلحة العبد، وهذا يحصل مع الاستحالة؛ لكي يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال، أو الترك؛ لطفًا به في الاستعداد، والانحراف عن الفساد، وهذا متصور. ويتصور من السيد -أيضًا- أن يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه،

_ 1 خلاصة رد المصنف على المعتزلة: أن هذا يلزمكم، حيث قلتم: إن الظاهر بقاؤه، ونحن نقول بلزوم الشروع في نحو صوم رمضان، فما كان جوابًا لكم، فهو جواب لنا أيضًا. 2 أي: قول المعتزلة. 3 وتكون الحكمة: هي اختبار المأمور، هل سيأخذ في الأسباب أو لا؟ فيكون ذلك دليلًا على الامتثال أو المخالفة.

مع عزمه على فسخ الأمر قبل الامتثال؛ امتحانًا للعبد واستصلاحًا له. ولو وكل رجلًا في عتق عبده غدًا، مع عزمه على عتق العبد: صح، ويتحقق فيها المقصود من: استمالة الوكيل، وامتحانه في إظهار الاستبشار بأوامره، والكراهية له، وكل ذلك معقول الفائدة، فكذا ههنا. وقولهم1: "يفضي إلى تقدم المشروط على الشرط". قلنا: ليس هذا شرطًا لذات الأمر، بل الأمر موجود، وجد الشرط أم لم يوجد، وإنما هو شرط لوجوب التنفيذ، فلا يفضي إلى ما ذكروه.

_ 1 أي: المعتزلة في بعض أدلتهم السابقة.

فصل: في النهي

فصل: [في النهي] اعلم أن ما ذكرناه من الأوامر، تتضح به أحكام النواهي؛ إذ لكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي2 وعلى العكس، فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير.

_ 1 معنى ذلك: أن المسائل التى بحثت في الأمر هي التي تبحث في النهي، فما قيل هناك يقال هنا، والراجح هناك هو الراجح هنا إلا في بعض الأمور، كما سيأتي. فإذا كان الأمر عبارة عن: استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء، فالنهي عبارة عن استدعاء الترك بالقول على وجه الاستعلاء. وصيغة الأمر: "افعل" وصيغة النهي: "لا تفعل"، ولا يشترط إرادة الآمر والناهي. وإذا كان الأمر ظاهرًا في الوجوب، محتملًا للندب، فالنهي ظاهر في التحريم، مع احتمال الكراهة. وإذا كان الأمر يدل على التكرار والفور على خلاف في ذلك، فإن النهي يقتضي التكرار والفور بدون خلاف. =

من ذلك: أن النهي عن الأسباب المفيدة للأحكام يقتضي فسادها1. وقال قوم: النهي عن الشيء لعينه: يقتضي الفساد2، والنهي عنه لغيره لا يقتضيه؛ لأن الشيء قد يكون له جهتان هو مقصود من إحداهما، مكروه من الأخرى على ما مضى3. وقال آخرون: النهي عن العبادات يقتضي فسادها، وفي المعاملات

_ = والأمر يقتضي صحة المأمور به، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. 1 سواء أكان لعينه أم لغيره، في العبادات، أم في المعاملات. وهو رأي جمهور الأصوليين. قال الخطابي: هذا مذهب العلماء في قديم الدهر وحديثه؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" متفق عليه. والمذهب الثاني: أنه لا يدل على الفساد مطلقًا، نقله في المحصول عن أكثر الفقهاء، والآمدي عن المحققين. انظر: المحصول جـ1 ق2 ص486، والإحكام "2/ 188". والثالث: وهو المختار في المحصول والمنتخب وغيرهما أنه يدل على الفساد في العبادات دون المعاملات. وبه قال بعض المعتزلة. المذهب الرابع: أنه يدل على الفساد في العبادات، وفي المعاملات؛ إلا إذا رجع إلى أمر مقارن للعقد غير لازم له، كالبيع وقت النداء للجمعة، فإن النهي إنما هو لخوف تفويت الصلاة، فإنه لا يدل على الفساد، وإن كان يأثم بتفويت الصلاة. وهو منقول عن الشافعي وأكثر أصحابه. انظر: القواعد لابن اللحام ص160. 2 مثل: الكفر والظلم، والكذب، ونحو ذلك من الأمور المنهي عنها لذاتها. 3 كما تقدم ذلك في الصلاة في الدار المغصوبة، فلو نهى عنها لذاتها، أي: لكونها صلاة، اقتضى فسادها مطلقًا، وإذا نهى عنها لما لابسها من معصية الغصب، لم يقتض فسادها.

لا يقتضيه؛ لأن العبادة طاعة، والطاعة موافقة الأمر، والأمر والنهي يتضادان، فلا يكون النهي مأمورًا، فلا يكون طاعة ولا عبادة. ولأن النهي يقتضي التحريم وكون الشيء قربة محرمًا محال1. وحكي عن طائفة، منهم أبو حنيفة: أن النهي يقتضي الصحة؛ لأن النهي يدل على التصور، لكونه يراد للامتناع، والممتنع في نفسه، المستحيل في ذاته، لا يمكن الامتناع منه، فلا يتوجه إليه النهي، كنهي الزَّمِن2 عن القيام، والأعمى عن النظر. وكما أن الأمر يستدعي مأمورًا يمكن امتثاله: فالنهي يستدعي منهيًّا يمكن ارتكابه، إذا ثبت تصوره. فلفظات الشرع تحمل على المشروع، دون اللغوي فإذا نهى عن صوم يوم النحر، دل على تصوره شرعًا3.

_ 1 خلاصة ذلك: أن هناك فرقًا بين العبادات والمعاملات من وجهين: أحدهما: أن المقصود من العبادات: هو التقرب إلى الله تعالى، وارتكاب النهي معصية، فلا يجتمعان، بخلاف المعاملات، فإنها ليست للتقرب، فلا يناقضها ارتكاب النهي. الوجه الثاني: أن فساد المعاملات بالنهي، يضر بالناس، ويفضي إلى قطع معايش الناس أو تقليلها، فراعى الشرع مصلحتهم، وعليهم إثم ما ارتكبوا من المنهيات. أما العبادات: فإنها حق الله -تعالى- فتعطيلها بإفسادها بسبب النهي لا يضر به سبحانه، بل من أوقعها صحيحة كان مطيعًا، ومن لم يواقعها بسبب صحيح كان عاصيًا. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 433-434". 2 الزمانة: العاهة، ورجل زمن: أي مبتلى بمرض يدوم زمنًا طويلًا. 3 خلاصة دليل أبي حنيفة ومن معه: أنه لما استحال أن يقال للأعمى: لا تبصر، =

وقال بعض الفقهاء وعامة المتكلمين: لا يقتضي فسادًا ولا صحة؛ لأن النهي من خطاب التكليف، والصحة والفساد من خطاب الأخبار1، فلا يتنافى أن يقول: نهيتك عن كذا، فإذا فعلته رتبت عليك حكمه.

_ = وللزمن لا تَطِرْ، وللأخرس: لا تنطق، علمنا أن استحالة النهي عنه لعدم تصوره وذلك دليل على أن صحة النهي تعتمد على تصور المنهي عنه، فيكون صحيحًا ولذلك صححوا بيع درهم بدرهمين، ويثبت الملك في أحدهما، ويرد الآخر، لأن النهي دل على الصحة، والصحة عبارة عن ترتب الآثار والتمكن من التصرفات. انظر: شرح الطوفي "2/ 434". وقد ناقش الطوفي هذا الدليل وبين أنه يؤدي إلى التناقض فقال: "وتقريره: أن النهي يقتضي الصحة العقلية، وهي الإمكان الذي هو شرط الوجود، أي: كون المنهي عنه ممكن الوجود لا ممتنعه، فَنَعَمْ يصح ما قلتموه، وإن أردتم الصحة الشرعية، أي: المستفادة من الشرع، وهي: ترتب آثار الشيء شرعًا عليه، فذلك تناقض؛ إذ يلزم منه صحة كل ما نهى الشرع عنه، وقد أبطلوا هم منه أشياء، كبيع الحمل في البطن ونحوه، ولأن النهي يقتضي -في وضع اللغة، وعرف الشرع- إعدام المنهي عنه؛ لأن كل عاقل، بل وغير عاقل، إذا أراد عدم فعل ما، قال لمن خشي صدروه منه: لا تفعله، ولا يقول ذلك إذا أراد إيجاد ذلك الفعل، فدل على أن مقتضى النهي: إعدام المنهي عنه، وحينئذ ترتب آثاره مع إعدامه تناقض" المصدر السابق ص435. 1 أي: من قبيل الحكم الوضعى. وقد وضحه الطوفي فقال: "النهي خطاب تكليفي، أي: من قبيل خطاب التكليف اللفظي، والصحة والفساد من قبيل خطاب الوضع والإخبار -كما سبق- وليس بين القبيلين، أعنى: الخطاب التكليفي والوضعي رابط عقلي، حتى يقتضي أحدهما الآخر، وإنما تأثير فعل المنهي عنه في الإثم به، لا في صحته، كما يقول أبو حنيفة، ولا في فساده، كما يقول غيره، فإن اقترن بالإثم بفعل المنهي عنه صحة أو فساد، فذلك لدليل خارج". شرح مختصر الروضة "2/ 436".

فإن قيل: معناه: ليس بمقبول قربة ولا طاعة. قلنا: قوله: "مردود" يقتضي رد ذاته، فإن لم يكن1، اقتضى رد ما يتعلق به؛ ليكون وجوده وعدمه واحدًا. والثاني: أن الصحابة -رضي الله عنهم- استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها: فاستدلوا على فساد عقود الربا بقوله -عليه السلام-: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل" 2. واحتج ابن عمر -رضي الله عنه- في فساد نكاح المشركات بقوله

_ 1 في الأصل "يكن" ولعل الصواب ما أثبتناه، ليتسق المعنى، فإن المقصود من العبارة أن الرد يتجه إلى الذات، فإذا كانت الذات موجودة، توجه الرد إلى ما يتعلق بها من الصحة، أو الكمال، وما أشبه ذلك؛ لأن رد الذات بعد وجودها محال. 2 أخرجه مسلم: كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، والترمذي: كتاب البيوع، باب ما جاء أن الحنطة مثلًا بمثل وقال: "حديث حسن صحيح" وأبو داود: كتاب البيوع، باب في الصرف، وابن ماجه: كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد، والنسائي: كتاب البيوع، باب بيع البر بالبر، وباب بيع الشعير بالشعير. كما أخرجه الدرامي والدراقطني، والشافعي وغيرهم، من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد". 3 في بعض الروايات: "ابن عمر -رضي الله عنهما-". وفي أحكام القرآن لابن العربي "1/ 156" "لا يجوز العقد بنكاح على مشركة، كانت كتابية أو غير كتابية، قاله عمر في إحدى روايتيه" ثم قال: "كل كافر بالحقيقة مشرك، ولذلك يروى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية، =

-تعالى-: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} 1، وفي نكاح المحرم بالنهي4. وفي بيع الطعام قبل قبضه بالنهي3. وغير ذلك مما يطول. الثالث: أن النهي عن الشيء يدل على تعلق المفسدة به، أو بما يلازمه؛ لأن الشارع حكيم لا ينهى عن المصالح، إنما ينهى عن المفاسد، وفي القضاء بالفساد إعدام لها بأبلغ الطرق4. الرابع: أن النهي عنها مع ربط الحكم بها يفضي إلى التناقض في الحكمة؛ لأن نصبها سببًا تمكين من التوسل، والنهي منع من التوسل.

_ = وقال: أي شرك أعظم ممن يقول: عيسى هو الله أو ولده، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا". فيبدو أن ذلك منقول عنهما، ولذلك اختلفت الروايات. 1 سورة البقرة من الآية: 221. 2 روى مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته، عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح". كذلك أخرجه عنه: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدرامي والدراقطني ومالك وغيرهم. انظر: "المنتقى ص387". 3 حديث النهي عن بيع الطعام قبل قبضه: رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله". وأخرجه السبعة إلا الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" انظر: سبل السلام "3/ 15". 4 معنى ذلك: أن المفسدة ضرر على الناس في المعاملات، وشين يجب أن تنزه عنه العبادات، وإعدام الضرر مناسب عقلًا وشرعًا، عملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار" "رواه مالك في الموطأ 2/ 745 مرسلًا، ورواه الحاكم والبيهقي والدراقطني عن أبي سعيد الخدري موصلًا، وله طرق أخرى كثيرة. انظر: نصب الراية "4/ 386"، شرح الطوفي "2/ 438".

ولأن حكمها مقصود الآدمي، ومتعلق غرضه، فتمكينه منه حث على تعاطيه، والنهي منع من التعاطي ولا يليق ذلك بحكمة الشرع. ثم لا فرق بين كون النهي عن الشيء لعينه، أو لغيره، لدلالة النهي على رجحان ما يتعلق به من المفسدة، والمرجوح كالمستهلك المعدوم. وقولهم1: "إن النهي لا ينافي الصحة". قد بينا تناقضهما. وإن سلمنا أنه لا ينافيه، لكن يدل على الفساد ظاهرًا، ويكفي ذلك. وفي المواضع التي قضينا بالصحة2، خولف فيه الظاهر، فلا يخرجه عن أن يكون الأصل ما ذكرناه، كما لو خولف مقتضاه في التحريم. وقولهم: "إنه يدل على الصحة". بعيد جدًّا؛ فإنهم إذا لم يجعلوه دليلًا على الفساد مع قربه منه، كيف يجعلونه دليلًا على الصحة؟! قولهم: "إنه يدل على التصور".

_ 1 أي: أبو حنيفة ومن معه، حيث قالوا: "إن النهي يقتضي الصحة، لأن النهي يدل على التصور...." إلى آخر ما استدلوا به، وقد تقدم الرد عليه، كما قال المصنف في الدليل الرابع. 2 مثل: الطلاق حال الحيض، فإن الطلاق يقع وإن كان مخالفًا للنهي. قال المصنف في المغني "10/ 324": "أجمع العلماء في جميع الأمصار، وكل الأعصار على تحريمه، ويسمى طلاق البدعة؛ لأن المطلق خالف السنة، وترك أمر الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} [الطلاق: 1] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". ثم قال: "فإن طلق للبدعة، وهو أن يطلقها حائضًا، أو في طهر أصابها فيه، أثم ووقع طلاقه، في قول عامة أهل العلم. قال ابن المنذر، وابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال ... ".

قلنا: يدل على تصوره حسَّا، وهو الأفعال1. أما الصحة والفساد: فحكمان شرعيان، لا ينهى عنهما، ولا يؤمر بهما، ودليله: مناهي الشرع: كالمحاقلة والمزابنة، والمنابذة والملامسة2، وقوله -تعالى-: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} 3، {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} 4، وقوله -عليه السلام-: "دعي الصلاة أيام أقرائك" 5. إلى نظائره. قولهم: "إن الأسامي الشرعية تحمل على موضوع الشرع".

_ 1 خلاصة ذلك: أن النهي يدل على تصور المنهي عنه في الوجود، أي: كون المنهي عنه ممكن الوجود، ولا يدل على تصوره شرعًا، لأن مقتضى النهي شرعًا: إعدام المنهي عنه، فكونه يدل على تصوره شرعًا فيه تناقض واضح. 2 المحاقلة: هي بيع الطعام في سنبله، وقيل: هي أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من الحنطة، أو هي: اكتراء الأرض بالحنطة. أما المزابنة: فهي بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر. والمنابذة: بيع السلعة بالنبذ بدون رؤية وعلم بها. والملامسة: بيع الشيء بالشيء بمجرد اللمس بدون رؤية. وكلها بيوعات منهي عنها لما فيها من الجهالة، أو عدم التساوي. عن أنس -رضي الله عنه- قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة، والمخابرة "وهي بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحها" والملامسة والمنابذة والمزابنة" رواه البخاري. سبل السلام "3/ 20". 3 سورة النساء من الآية: 22. 4 سورة البقرة من الآية: 278. 5 لفظ الحديث: ما روته عائشة -رضي الله عنها- أن فاطمة بنت أبي حبيش جاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". أخرجه البخاري: كتاب =

عنه جوابان: أحدهما: أن الأصل تقرير الأوضاع اللغوية، إلا ما صرف عنه الاستعمال الشرعي1. وفي الأوامر: ألفنا من الشارع استعمال هذه الأسماء للموضوع الشرعي. أما في المنهيات فلم يثبت هذا العرف. الثاني: أنا نسلم استعماله في الموضوع الشرعي، لكن الصلاة الشرعية: هي الأفعال المنظومة، والصحة غير داخلة في حدها؛ لما ذكرناه2.

_ = الوضوء، باب غسل الدم، وفي كتاب الحيض، باب الاستحاضة، وفي باب إقبال المحيض وإدباره. كما أخرجه مسلم: كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، أبو داود: كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة، وكذلك أخرجه الترمذي وابن ماجه والنسائي وأحمد والدارمي وغيرهم. انظر: نصب الراية "1/ 199". 1 معناه: أن الأصل استعمال الألفاظ في معانيها اللغوية حتى يوجد دليل ينقلها من المعنى اللغوي إلى معنى اصطلاحي شرعي. 2 ذكر المصنف في دلالة النهي على الفساد خمسة مذاهب. الأول: أنه يقتضي الفساد مطلقًا، إلا الدليل، وهو الذي رجحه المصنف كما سبق. الثاني: أنه يقتضي الفساد إذا كان النهي عنه لعينه، أما إن كان لغيره فلا يقتضي الفساد. الثالث: أنه يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات. الرابع: أنه يقتضي الصحة، وهو منقول عن أبي حنيفة وغيره.

............................................ = الخامس: أنه لا يقتضي الصحة ولا الفساد. وقد أورد الطوفي مذهبًا سادسًا، ذكر أنه المختار، وأنه أقرب إلى التحقيق من الإطلاقات الواردة في المسألة خلاصته: أن النهي عن الفعل إما أن يكون لذاته، أو لوصف لازم له، لا ينفك عنه، أو لأمر خارج عنه، لا يتعلق به أصلًا، أو لوصف يتعلق به، لكنه غير لازم له. فإن كان النهي عنه لذاته، كالكفر والكذب والظلم، دل النهي على الفساد والبطلان. وكذلك إذا كان لوصف لازم له، كالنهي عن نكاح الكافر المسلمة. وإن كان لأمر خارج عنه لا يتعلق له به أصلًا، فلا يدل على الفساد، مثل: النهي عن غرس العنب خشية جعله خمرًا. وإن كان لوصف غير لازم: مثل النهي عن الصلاة وقت النداء للجمعة ففيه خلاف. قال: "والصحيح من مذهب أحمد أنه لا يصح، لظاهر النهي ... ". انظر: شرح الطوفي "2/ 439-441".

فهرس

فهرس موضوعات الجزء الأول: مقدمة الشارح 5 من خصائص الشريعة الإسلامية: حفظ أصولها من التحريف والتبديل 7 معجزتها مستمرة تخاطب العقل وتساير الفطرة 7 جمعها بين ما هو ثابت وما هو متغير 7 دور أصول الفقه في تحقيق ذلك 9 أهلية الاجتهاد كانت متحققة عند علماء العصور الأولى 9 تعليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه كيف يواجهون كل المستجدات 10 تطبيق الصحابة -رضي الله عنهم- للقواعد الأصولية 10 التابعون يسيرون على منهج الصحابة رضي الله عنهم 15 ظهور حوادث ووقائع لم تكن معروفة من قبل 16 اختلاف العلماء في التعامل مع هذه الوقائع 16 انقسام العلماء إلى اتجاهين: أهل الحديث وأهل الرأي 16 ظهور النزاع والخلاف بين الاتجاهين السابقين 16 الإمام الشافعي يدون علم الأصول لحسم هذا الخلاف 16 كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي ومنهجه فيها 17 دعوى سبق الإمام الشافعي في التأليف لا دليل عليها 17 اصول الفقه بعد الإمام الشافعي واتجاهات العلماء في ذلك 18 اتجاه المتكلمين وأهم الكتب المؤلفة في ذلك 18 اتجاه الفقهاء أو الحنفية وأهم الكتب المؤلفة في ذلك 19 اتجاه الجميع بين المنهجين السابقين وأول من بدأه 20 اتجاه تخريج الفروع على الأصول وأول من بدأه 21 اتجاه بناء القواعد الأصولية على مقاصد الشريعة 22 استمرار التأليف على غرار المناهج المتقدمة 22 التعريف بالإمام ابن قدامة اسمه ونسبه ونشأته 24 شيوخه 25 تلاميذه 26

عقيدته 26 مذهبه الفقهي 28 مكانته وثناء العلماء عليه 28 وفاته 29 مؤلفاته أولًا: في العقيدة 30 ثانيًا: في أصول الفقه 30 ثالثًا: في الفقه 31 رابعًا: في الكتاب والسنة 31 خامسًا: في الفضائل والأخلاق 31 سادسًا: في التاريخ والأنساب 32 منهج ابن قدامة في كتابه روضة الناظر وجنة المناظر جمع المذاهب المختلفة في كل مسألة وبيان الراجح منها 33 سلك مسلك الإمام الغزالي في كتابه: "المستصفى" مع مخالفته في بعض المسائل وفي ترتيب الكتاب من التقديم والتأخير 34 الإحالة على بعض المسائل المناظرة طلبًا للاختصار 35 اهتم بنقل أراء الحنابلة وخاصة رأي الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه36 غالبًا ما يبدأ بذكر المذهب الراجح -من وجهة نظره- ثم يختم المسألة بأدلة المذهب الذي رجحه، ومناقشة أدلة المخالفين37 قيمة الكتاب العلمية ومزاياه 38 اهتمام العلماء بشرحه واختصاره والتعليق عليه 39 ما يؤخذ على الكتاب 42 عملي في الكتاب 48 مقدمة ابن قدامة 51 معنى الفقه والأصول معنى الفقه لغة وشرعًا 53-54 معنى أصول الفقه 54 المقدمة المنطقية 56 مدارك العقول تنحصر في الحد والبرهان 56

فصل في أقسام الحدّ الحد الحقيقي وشروطه 58 تعريف الماهية 58 صيغ السؤال 58 تعريف الكيفية ومم تتركب 60 تعريف الوصف اللازم والوصف العارض 60 تقسيم الأوصاف الذاتية 61 الجنس وأقسامه 61 تعريف الفصل 62 شروط الحد 62 الحد الرسمي وشروطه 63 الحد اللفظي وشرطه 65 تعريف الحد الحقيقي 65 فصل في أن تعذر البرهان على الحد لا يمنع صحته أقل ما يتركب منه الحد 68 فصل في البرهان تعريف البرهان 69 الجهات التي يتطرق منها الخلل إلى البرهان 69 فصل في كيفية دلالة الألفاظ على المعاني دلالة المطابقة 71 دلالة التضمن 71 دلالة الالتزام 71 تقسيم اللفظ من حيث التعيين وعدمه معنى المعين وأمثلته 72

معنى المطلق وأمثلته 72 تقسيم الألفاظ المتعددة المعاني باعتبار مسمياتها المترادفة ومعناها 72 المتباينة ومعناها 73 المتواطئة ومعناها 73 المشتركة ومعناها 73 فصل في النظر في المعاني تقسيم المعاني المدركة إلى محسوسة ومتخيّلة ومعقولة 74 أمثلة على ذلك 75 فصل في تأليف مفرادت المعاني أنواع القضايا وأمثلتها 78 فصل في مقدمتي البرهان وأضربه الضرب الأول وشروطه 80 الضرب الثاني وشروطه 82 الضرب الثالث 83 الضرب الرابع 84 الضرب الخامس 85 فصل من أسباب مخالفة البرهان أو القياس قصور علم الناظر 86 إهمال إحدى المقدمتين 86

فصل في اليقين ومدراكه معنى اليقين 88 مدارك اليقين خمسة 90 الأول: الأوليات 90 الثاني: المشاهدات الباطنة 91 الثالث المحسوسات الظاهرة 91 الرابع: التجريبيات 91 الخامس: المتواترت 92 فصل في لزوم النتيجة من المقدمتين أمثلة على ذلك 92 فصل في تقسيم البرهان برهان العلة 94 برهان الدلالة 95 فصل في الاستدلال بالاستقراء معنى الاستقراء 95 الباب الأول في حقيقة الحكم وأقسامه معنى الحكم في اللغة 97 معنى الحكم في الاصطلاح 98 أقسام الحكم 98 الحكم العقلي: معناه وأمثلته 98 الحكم العادي: معناه وامثلته 98 الحكم الشرعي: معناه عند الفقهاء 98 معنى الحكم عند الأصوليين 98

الحكم الشرعي قسمان: تكليفي ووضعي 100 معنى الحكم التكليفي وأقسامه عند الجمهور 100 تقسيم الحكم التكليفي عند الحنفية 101 الفرق بين الحكم التكليفي والوضعي 101 الواجب وتقسيماته تعريف الواجب 102 هل الفرض والواجب مترادفان أو مختلفان؟ 103 الفرض والواجب بمعنى واحد عند الجمهور 103 الحنفية يفرقون بينهما 104 ابن قدامة يرى أن الخلاف لفظي 105 فصل في تقسيم الواجب باعتبار ذاته الواجب المعين والواجب المخير 105 إنكار المعتزلة للواجب المخير والرد عليهم عقلًا وشرعًا 105 فصل في تقسيم الواجب باعتبار وقت الأداء الواجب ينقسم إلى مضيق وموسع عند الجمهور 108 إنكار أصحاب أبي حنيفة للواجب الموسع والرد عليهم 108 أدلة المنكرين للواجب الموسع والرد عليهم 108 آراء العلماء في الوقت الذي يتعلق به الوجوب في الواجب الموسع 112 فصل في تضييق الواجب الموسع إذا آخر المكلف الواجب الموسع فمات قبل خروج الوقت هل يعتبر عاصيًا116 فصل في مقدمة الواجب وحكمها ما لا يتم الواجب إلا به إما أن يكون مقدورًا للعبد أو غير مقدور له 118 آراء العلماء في وجوب مقدمة الواجب 118-119

فصل في بعض الفروع المخرّجة على مقدمة الواجب اختلاط أخته بالأجنبية أو الميتة بالمذكاة يجعلهما محرّمتين 120 فصل في الواجب غير المحدد آراء العلماء في ذلك 122 الواجب العيني والواجب الكفائي 122 تعريف الواجب العيني وحكمه 122 تعريف الواجب الكفائي 122 آراء العلماء في من يتوجه إليه الخطاب في الواجب الكفائي 123 القسم الثاني: المندوب الندب في اللغة 124 الندب في الشرع 125 هل المندوب مأمور به؟ 125 آراء العلماء في المسألة 126 الأدلة على أنه مأمور به 126 القسم الثالث: المباح تعريف المباح شرعًا 128 المباح من الشرع عند الجمهور 129 إنكار بعض المعتزلة لذلك 131 أدلة الجمهور على أن المباح من الشرع 131 خلاف المعتزلة مبني على مسألة الحسن والقبح العقليين 131 معاني الحسن والقبح ومحل النزاع في ذلك 129-130 فصل في حكم الأشياء قبل ورود الشرع آراء العلماء وأدلتهم في المسألة 132

فصل هل المباح مأمور به آراء العلماء في المسألة 136 هل المباح تكليف 137 القسم الرابع: المكروه تعريف المكروه 137 إطلاقات المكروه 137-138 فصل: الأمر المطلق لا يتناول المكروه 138 الأدلة على ذلك 138 القسم الخامس: الحرام تعريف الحرام 139 الواحد بالجنس والواحد بالنوع وأقسامهما 139 أمثلة على ذلك 140 فصل: في أقسام النهي 144 المنهي عنه لذاته 144 المنهي عنه لغير ذاته 144 فصل: في الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أو لا؟ 147 آراء العلماء في المسألة 148 فصل في معنى التكليف وشروطه معنى التكليف لغة 153 معنى التكليف شرعًا 154 شروط التكليف التي ترجع إلى المكلف 154 فصل: في عدم تكليف الناسي والنائم والسكران 156 فصل: في حكم تكليف المكره 158 فصل: في حكم تكليف الكفار بفروع الشريعة 160 أراء العلماء وأدلتهم في المسألة 161-162 شروط الفعل المكلف به 166 آراء العلماء في تكليف ما لا يطاق 167 فصل في المقتضى بالتكليف 173

الضرب الثاني من الأحكام ما يتلقى من خطاب الوضع والإخبار أقسام الحكم الوضعي 175 العلة: معناها وأمثلتها 177 السبب: معناه واستعمالاته 178 فصل: في الشرط وأقسامه 179 الفرق بين السبب والمانع والعلة 179 أقسام الشرط 180 القسم الثاني: الصحة والفساد معنى الصحة 181 خلاف العلماء في المراد بالصحيح من العبادات 182 خلاف العلماء في المراد بالصحيح من العقود 183 الفاسد والباطل مترادفان عند الجمهور 183 خلاف الحنفية في ذلك 183 فصل في القضاء والأداء والإعادة تعريف القضاء 185 تعريف الاداء 185 تعريف الإعادة 185 تضييق الواجب الموسع باعتبار ظن المكلف 185 فصل في العزيمة والرخصة معنى العزيمة في اللغة 188 معنى الرخصة في اللغة 189 معنى العزيمة شرعًا 189 معنى الرخصة شرعًا 189 ما يسمى رخصة وما لا يسمى 190

باب في أدلة الأحكام الأصول أربعة: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل المبقي على النفي الأصلي 194 اعتراض بعض العلماء على هذا الحصر 197 أصل الأحكام كلها من الله تعالى 197 فصل في تعريف الكتاب والقرآن وأنهما بمعنى واحد كتاب الله تعالى: هو كلامه وهو القرآن 198 الأدلة على أن الكتاب هو القرآن 198 تعريف القرآن 199 فصل: في حكم الاحتجاج بالقراءة الشاذة 203 تعريف القراءة الشاذة 203 هل يصح القراءة بها؟ 203 هل يصح الاحتجاج بها؟ 204 بيان آراء العلماء وادلتهم في المسألة 205 فصل في اشتمال القرآن على الحقيقة والمجاز تعريف المجاز 206 أمثلة على المجاز من القرآن الكريم 206 فصل ليس في القرآن ألفاظ غير عربية آراء العلماء في المسألة 210 ما روي عن ابن عباس وعكرمة من وجود ألفاظ غير عربية 211 كيفية الجمع بين الآراء المختلفة في المسألة 212 فصل في المحكم والمتشابه تعريف المحكم والمتشابه عند أبي يعلى 213

تعريفهما عند ابن عقيل 214 آراء بعض العلماء في المراد بالمحكم والمتشابه 214 الصحيح عند ابن قدامة من هذه الآراء 215 باب النسخ النسخ في اللغة 218 النسخ في الشرع 218 الفرق بين النسخ والتخصيص 226 فصل في النسخ بين الإثبات والإنكار الدليل على النسخ عقلًا 228 الدليل على النسخ شرعًا 228 فصل: في وجوه النسخ في القرآن 230 الأدلة على وقوعه 231 فصل: في نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال 235 المعتزلة ينكرون ذلك 235 دليل المعتزلة 235 أدلة الجمهور على الجواز 235 تأويل المعتزلة لقصة إبراهيم عليه السلام في الأمر بذبح ولده 236 إجابة ابن قدامة على ذلك 237 فصل هل الزيادة على النص نسخ مراتب الزيادة وحكم كل مرتبة 242 أدلة الجمهور على أن الزيادة ليست نسخًا 244 بعض الاعتراضات من المخالفين والرد عليها 247 فصل في نسخ جزء العبادة أو شرطها آراء العلماء في نسخ جزء العبادة هل هو لجملتها أو لا؟ 248 أدلة الجمهور على أن ذلك ليس بنسخ 248

فصل في جواز نسخ العبادة إلى غير بدل آراء العلماء في المسألة 249 الأدلة على جواز ذلك عقلًا 250 الأدلة الشرعية على جواز ذلك 250 فصل في النسخ بالأخف والأثقل جمهور العلماء على جواز ذلك 251 بعض المعتزلة ينكرون جواز النسخ بالأثقل 251 رد ابن قدامة على المعتزلة 252 فصل في حكم من لم يبلغه النسخ ظاهر المذهب أنه لا يكون نسخًا 256 قال أبو الخطاب: يكون نسخًا 256 فصل في وجوه النسخ بين القرآن والسنة لا خلاف في جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بمثلها والآحاد بالآحاد عند القائلين بالنسخ 257 نسخ السنة بالقرآن جائزة عند جمهور العلماء 257 مخالفة الإمام الشافعي في ذلك 258 خلاف العلماء في نسخ القرآن بالسنة المتواترة 259 فصل: في حكم نسخ القرآن ومتواتر السنة بالآحاد 263 أراء العلماء في المسألة 263 الأدلة على عدم الجواز 264 فصل: الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به 265 فصل: في نسخ القياس والنسخ به 266 آراء العلماء في المسألة 266 فصل: في نسخ التنبيه والنسخ به 268

أراء العلماء في المسألة 268 فصل: فيما يعرف به النسخ 270 الأصل الثاني من الأدلة سنة النبي صلى الله عليه وسلم تعريف السنة لغة 273 تعريف السنة في الاصطلاح 274 الأدلة على حجية السنة 274 ألفاظ الرواية في نقل الأخبار 279 فصل في حد الخبر وأقسامه تعريف الخبر وأقسامه 287 المتواتر يفيد العلم 288 فصل: فيما يفيده الخبر المتواتر من العلم الضروري أو النظري 290 فصل: في أن ما حصّل العلم في واقعة أفاده في غيرها 293 فصل: في شرط التواتر 296 مذاهب: العلماء في عدد التواتر 297 فصل: ليس من شرط التواتر: كون المخبرين مسلمين ولا عدولًا ولا يحصرهم بلد أو عدد 299 فصل: لا يجوز على أهل التواتر كتمان ما يحتاج إليه 300 القسم الثاني: أخبار الآحاد تعريف خبر الآحاد 302 ما الذي يفيده خبر الواحد 303 فصل: في حكم التعبد بخبر الواحد عقلًا 310 فصل: قال أبو الخطاب: العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد 312 فصل: في التعبد بخبر الواحد سمعًا 313 آراء العلماء في المسألة 313 أدلة الجمهور على التعبد بخبر الواحد سمعًا 313 اعتراض المخالفين على هذه الأدلة 313 الدليل الأول: الإجماع 313 اعتراض المخالفين على هذا الدليل والرد عليه 320 الدليل الثاني: إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه ورسله وقضاته وسعاته إلى الأطراف لتبليغ الأحكام 326 اعتراض المخالفين على هذا الدليل والرد عليه 327 فصل: في مذهب الجبائي في أن خبر الواحد يقبل إذا رواه اثنان رد ابن قدامة على هذا المذهب 328

فصل في شروط الراوي الشرط الأول: الإسلام 329 آراء العلماء في هذا الشرط 330 الشرط الثاني: التكليف 332 الشرط الثالث الضبط 333 الشرط الرابع: العدالة 334 فصل: في حكم خبر مجهول الحال 334 آراء العلماء وأدلتهم في المسألة 334 فصل: فيما لا يشترط في الراوي من الذكورية والبصر والفقه إلخ 340 فصل في التزكية والجرح قبول الجرح والتعديل في الرواية 341 قبول تزكية العبد والمرأة 342 خلاف العلماء في قبول الجرح إذا لم يتبين سببه 342 تعارض الجرح والتعديل وآراء العلماء في أيهما يقدم؟ 343 فصل في التعديل طرق التعديل 344 الطريق الأول: صريح القول 344 الطريق الثاني: الرواية عنه 344 الطريق الثالث: العمل بالخبر 345 الطريق الرابع: الحكم بشهادته 345 فصل في عدالة الصحابة الأدلة على عدالة الصحابة رضي الله عنهم 345 فصل: في حكم خبر المحدود في القذف 348

فصل في كيفية الرواية لغير الصحابي المرتبة الأولى: قراءة الشيخ عليه 349 المرتبة الثانية: أن يقرأ على الشيخ فيقول: نعم 349 المرتبة الثالتة: الإجازة 350 المرتبة الرابعة: المناولة 351 فصل: إذا وجد سماعه بخط يوثق به جاز له أن يرويه 353 مخالفة أبي حنيفة في ذلك 353 الرد على مذهب أبي حنيفة 353 فصل: في حكم الشك في السماع 354 فصل: في حكم إنكار الشيخ للحديث 355 فصل: في حكم انفراد الثقة بزيادة في الحديث 358 فصل: في حكم رواية الحديث بالمعنى 360 شروط رواية الحديث بالمعنى 360 آراء العلماء وأدلتهم في المسألة 362 فصل في حكم مراسيل الصحابة تعريف المرسل عند المحدثين وعند علماء الأصول 363 آراء العلماء في قبول المرسل وأدلتهم على ذلك 364 فصل: في حكم مراسيل غير الصحابة 365 تعريف مرسل غير الصحابي 365 مذاهب العلماء وأدلتهم في قبول مرسل غير الصحابي 365 فصل في حكم خبر الواحد فيما تعم به البلوى جمهور العلماء على قبوله 368 أكثر الحنفية على عدم قبوله 369 أدلة الحنفية على دعواهم 369 أدلة الجمهور 369 مناقشة أدلة الحنفية 369

فصل في حكم خبر الواحد في الحدود جمهور العلماء على قبوله 370 ذهب الكرخي إلى عدم قبوله 370 دليل الكرخي 370 أدلة الجمهور 371 مناقشة أدلة الكرخي 371 فصل: في حكم خبر الواحد إذا خالف القياس 371 مذاهب العلماء وأدلتهم في المسألة 371-372 فصل الأصل الثالث: الإجماع تعريف الإجماع لغة 375 تعريف الإجماع في اصطلاح أهل الشرع 378 إمكان وجود الإجماع وتصوّره 378 كيف يعرف الإجماع 378 موقف العلماء من حجية الإجماع الإجماع حجة قاطعة عند الجمهور 378 مخالفة النظام في ذلك 379 الأدلة على حجية الإجماع 379 الأدلة من القرآن الكريم 380 الدليل الثاني: من السنة 383 فصل: هلا يشترط في أهل الإجماع أن يبلغوا عدد التواتر 389 فصل: في المعتبرين في الإجماع 390 خلاف العلماء في اعتبار العوام في الإجماع 390 فصل: في من يعتبر في الإجماع من أصحاب العلوم 392 فصل: في عدم الاعتداد بقول الكافر أو الفاسق في الإجماع 395 فصل: في الاعتداد بقول التابعي المجتهد في إجماع الصحابة 397 آراء العلماء وأدلتهم في المسألة 397 فصل: في حكم انعقاد الإجماع بقول الأكثر 402 آراء العلماء في المسألة 402

أدلة المذاهب 403 فصل في حكم إجماع أهل المدينة جمهور العلماء على أنه ليس حجة 411 الإمام مالك يرى أنه حجة 411 دليل الإمام مالك 411 أدلة الجمهور على عدم حجيته 412 مناقشة الجمهور لدليل الإمام مالك 413 فصل في حكم إجماع الخلفاء الأربعة آراء العلماء في المسألة 414 الصحيح أنه ليس بإجماع 414 مذاهب العلماء في حكم إجماع الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما414 مذاهب العلماء في إجماع العترة 415 مسألة: هل انقراض العصر شرط لصحة الإجماع؟ 418 المذهب الأول: أن ذلك شرط 418 المذهب الثاني: أنه لا يشترط ذلك 418 أدلة الجمهور على عدم اشتراط ذلك 419 أدلة المذهب الأول ومناقشتها 420 مسألة: إجماع أهل كل عصر حجة 424 مخالفة داود الظاهري في ذلك 425 الرد على هذا المذهب 425 أدلة الجمهور 426 فصل: هل اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة إجماع؟ 428 المذهب الأول: أنه إجماع 428 المذهب الثاني: لا يكون إجماعًا 429 فصل: اختلاف الصحابة على قولين يمنع إحداث قول ثالث عند الجمهور430 مخالفة بعض العلماء في ذلك وأدلتهم 430 أدلة الجمهور على عدم الجواز 430

فصل في حكم الإجماع السكوتي آراء العلماء في المسألة 434 أدلة المذاهب 435 مسألة: في جواز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس عند الجمهور 438 مذاهب أخرى في المسألة 438 أدلة الجمهور 439 فصل الإجماع ينقسم إلى مقطوع ومظنون الإجماع المقطوع 440 الإجماع المظنون 440 ذهب بعض العلماء إلى أن الإجماع لا ينعقد بخبر الواحد ودليلهم على ذلك441 رد ابن قدامة على ذلك 442 فصل: الأخذ بأقل ما قيل ليس إجماعًا عند الجمهور 442 الرد على المخالفين في ذلك 443 الأصل الرابع استصحاب الحال ودليل العقل الأحكام السمعية لا تدرك بالعقل إلا أن العقل يدل على براءة الذمة 443 النظر في الأحكام إما في إثباتها وإما في نفيها 444 لا مجال للعقل في الإثبات ومجاله في النفي 444 استصحاب دليل الشرع وأمثلة 448 تعريف الاستصحاب 448 فصل: في استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف 449 آراء العلماء فيه 449 أمثلة على ذلك 450 فصل: هل النافي للحكم يلزمه الدليل؟ 451 مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم 451

هذا بيان أصول مختلف فيها وهي أربعة الأول: شرع من قبلنا 457 تحرير محل النزاع في المسألة 457 مذاهب العلماء في المسألة 457-458 المذهب الأول: أنه شرع لنا 459 المذهب الثاني: أنه ليس شرعًا لنا وأدلته 459 أدلة المذهب الأول 462 مناقشة أدلة المذهب الأول 464 الأصل الثاني: قول الصحابي 466 مذاهب العلماء في المسألة 466 المذاهب الأول: أنه حجة 466 المذهب الثاني: أنه ليس حجة وأدلته 467 المذهب الثالث: أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين وأدلته 467 المذهب الرابع: أن الحجة في قول أبي بكر وعمر ودليله 467 أدله أصحاب المذهب الأول والرد على المخالفين 468 فصل إذا اختلف الصحابة على قولين: فهل يجوز للمجتهد الأخذ بقول بعضهم من غير دليل؟ 470 مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم 470 الثالث: الاستحسان 472 معاني الاستحسان 472 المعنى الأول: الذي اختاره القاضي يعقوب وبه قال الإمام أحمد 473 المعنى الثاني: وبه قال الإمام أبو حنيفة 474 الأدلة على ذلك 474 الأدلة على فساد المعنى الثاني للاستحسان 474 الرد على أدلة المذهب الثاني 474 المعنى الثالث: للاستحسان والرد عليه 475 الرابع من الأصول المختلف فيها: الاستصلاح 478 تعريف المصلحة وأقسامها 478 القسم الأول: ما شهد الشرع باعتباره 478 القسم الثاني: ما شهد الشرع ببطلانه وأمثلته 479 الثالث: ما لم يشهد له بإبطال ولا اعتبار معين وهو ثلاثة أضرب 479 الضرب الأول: ما يقع في مرتبة الحاجات 479 الضرب الثاني: ما يقع في مرتبة التحسين والتزيين 479

حكم هذين الضربين 480 الضرب الثالث: ما يقع في مرتبة الضروريات 480 تعريف الضروريات وأقسامها وأمثلتها 480 آراء العلماء في اعتبار المصالح المرسلة 482 باب في تقسيم الكلام والأسماء مذاهب العلماء: في مبدأ اللغات 485 المذهب الأول: أنها توفيقية وأدلته 485 المذهب الثاني: أنها اصطلاحية وأدلته 486 المذهب الثالث: التوقف ودليله 486 اعتراضات على التوقيف والرد عليها 487 فصل في القياس في اللغة المذهب الأول: يجوز أن تثبت الأسماء بالقياس ودليله 489 المذهب الثاني: عدم الجواز 490 ترجيح ابن قدامة للمذهب الأول والرد على المذهب الثاني 490 فصل في تقاسيم الأسماء تنقسم الأسماء إلى وضعية وعرفية وشرعية ومجاز مطلق 492 تعريف الوضعية وهي الحقيقة اللغوية 492 تعريف العرفية وكيف يصير الاسم عرفيًّا 493 الشرعية وأمثلتها 493 جمهور العلماء على أنها نقلت من المعنى اللغوي إلى معنى شرعي 495 المذهب الثاني: أنها لم تنقل وإنما أضيف إليها بعض الشروط 496 أدلة هذا المذهب 496 الاستدلال للمذهب الأول والرد على المخالفين 497 إذا أطلق اللفظ حمل على المعنى الشرعي 497 المجاز وعلاقاته تعريف المجاز 499

علاقات المجاز 499 المجاز يستلزم الحقيقة دون العكس 500 فصل: في تعارض الحقيقة والمجاز 501 فصل: في علامات الحقيقة والمجاز 503 فصل في تعريف الكلام وأقسامه تعريف الكلام وانقسامه إلى مفيد وغير مفيد 505 تقسيم الكلام المفيد إلى: نص وظاهر ومجمل 506 القسم الأول: النص 506 تعريف النص 506 حكمه 507 يطلق النص على الظاهر 507 القسم الثاني: الظاهر 508 تعريف الظاهر 508 حكمه 508 تعريف التأويل 508 ما الذي يحتاج إليه المتأول 511 القسم الثالث: المجمل 516 تعريف المجمل 518 صور اختلف في إجمالها 519 فصل: نفي الذوات يقتضي الإجمال 521 أمثلة على ذلك 521 فصل: قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا عمل إلا بنية" ليس من المجملات 522 فصل: رفع الخطأ رفع للحكم من قوله "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 524 فصل في البيان تعريف البيان 527 هل يشترط في البيان حصول العلم للمخاطب؟ 529 الأمور التي يحصل بها البيان الكلام 529 الكتابة وأمثلتها 529

الإشارة وأمثلتها 530 الفعل وأمثلته 530 الاعتراض على البيان بالفعل والرد عليه 531 يحصل البيان بالسكوت 531 جواز تبيين الشيء بأضعف منه في الرتبة 533 فصل: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة 534 مذاهب العلماء في جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة وأدلتهم 534 باب الأمر تعريف الأمر 542 للأمر صيغة تدل عليه عند الجمهور 543 بعض المبتدعة يزعمون أن لا صيغة للأمر 543 الرد عليهم من الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف 544 معاني صيغة الأمر 546 فصل: لا يشترط الإرادة في الأمر خلافًا للمعتزلة 549 مسألة: الأمر المجرد يدل على الوجوب عند الجمهور 552 المذهب الثاني: أنه يدل على الإباحة 552 المذهب الثالث: أنه يدل على الندب 553 المذه الرابع: التوقف ودليله 553 أدلة المذهب الأول وهم القائلون بأنه يدل على الوجوب 554 الأدلة من الكتاب 554 الأدلة من السنة 554 الأدلة من الإجماع 556 الأدلة من أهل اللغة 557 الرد على أصحاب المذهب الثاني 557 الرد على أصحاب المذهب الثالث 558 الرد على أصحاب المذهب الرابع 559 فصل فيما تفيده صيغة الأمر بعد الحظر مذاهب العلماء في المسألة 559 المذهب الأول: أنها تفيد الإباحة 559 المذهب الثاني: أنها تفيد الوجوب وأدلته 560 المذهب الثالث: التفصيل ودليله 560

أدلة أصحاب المذهب الأول 560 مناقشة أدلة المذهب الثاني 561 فصل الأمر المطلق هل يقتضي التكرار المذهب الأول: أنه لا يقتضي التكرار 564 المذهب الثاني: أنه يقتضي التكرار وأدلته 564 المذهب الثالث: إن علق على شرط اقتضى التكرار وأدلته 565 المذهب الرابع: إن كرر لفظ الأمر اقتضى التكرار وأدلته 565 أدلة المذهب الأول 565 مناقشة أصحاب المذهب الأول لأدلة المذاهب الأخرى 565 مسألة: الأمر المطلق هل يقتضي الفور؟ 571 المذهب الأول: أنه يقتضي الفور 571 المذهب الثاني: أنه يقتضي الترضي وأدلته 572 المذهب الثالث: أنه يقتضي التراضي وأدلته 572 المذهب الثالث: التوقف 572 بيان فساد المذهب الثالث 572 أدلة أصحاب المذهب الأول 573 مناقشة أدلة المذهب الثاني 575 فصل الواجب المؤقت إذا فات وقته لا يحتاج إلى أمر جديد المذهب الأول: أنه لا يحتاج إلى أمر جديد 577 المذهب الثاني: أنه يحتاج إلى أمر جديد وأدلته على ذلك 577 أدلة المذهب الأول 577 مناقشة أدلة المذهب الثاني 578 فصل مقتضى الأمر: حصول الإجزاء بفعل المأمور به عند الجمهور 578 المذهب الثاني: أنه لا يقتضي الإجزاء 579 أدلة المذهب الثاني 579 أدلة المذهب الأول 580 مناقشة أدلة المذهب الثاني 581 مسألة: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا به ما لم يدل على ذلك 582 مذاهب العلماء في المسألة 583 فصل: أمر الجماعة أمل لكل واحد منهم 583 حقيقة فرض الكفاية وهل هو واجب على الكل أو على غير معين 584

فصل: أمر الله تعالى للنبي أمر للأمة ما لم يوجد تخصيص 586 توجه الخطاب إلى واحد من الصحابة يدخل معه غيره عند الجمهور 586 بعض العلماء يرى عدم دخول غيره معه وأدلته 587 أدلة المذهب الأول 588 فصل: في تعلق الأمر بالمعدوم 597 المذهب الأول: أن الأمر يتعلق بالمعدوم 597 المذهب الثاني: أن الأمر لا يتعلق بالمعدوم 597 أدلة المذهب الثاني 597 أدلة المذهب الأول 598 مناقشة أدلة المذهب الثاني 598 فصل: في التكليف بغير الممكن 600 المذهب الأول: جواز ذلك 600 المذهب الثاني: عدم الجواز إلا بشرط 600 أدلة أصحاب المذهب الثاني 600 أدلة اصحاب المذهب الأول 601 مناقشة أدلة المذهب الثاني 602 فصل في النهي تعريف النهي 604 النهي يقتضي فساد المنهي عنه عند الجمهور 605 المذهب الثاني: الفرق بين النهي عن الشيء لذاته أو لغيره 605 أدلة المذهب الثاني 605 المذهب الثالث: أن النهي يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات605 أدلة هذا المذهب 606 المذهب الرابع: أن النهي يقتضي الصحة ودليله 606 بيان فساد هذا المذهب 606 المذهب الخامس: أنه لا يقتضي فسادًا ولا صحة 607 دليل هذا المذهب 607 أدلة المذهب الأول 608 مناقشة أدلة المذاهب الأخرى من أصحاب المذهب الأول 611

المجلد الثاني

المجلد الثاني باب: العموم مدخل ... باب: العموم أعلم أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة. وقد يطلق على غيرها، كقولهم: عمهم القحط، أو المطر والعطاء، لكنه مجاز، فإن عطاء زيد متميز عن عطاء عمرو، وليس في الوجود فعل -هو عطاء- نسبته إلى زيد وعمرو واحدة، وليس في الوجود معنى واحد مشترك بين اثنين. وعلوم الناس وقُدَرهم، وإن اشتركت في أنها: علم وقدرة، لا توصف بأنها عموم. والرجل له وجود في الأعيان، والأذهان، واللسان. فوجوده في الأعيان لا عموم له، إذ ليس في الوجود رجل مطلق، بل إما زيد، وإما عمرو. وأما وجوده في اللسان: فلفظة "الرجل" قد وضعت للدلالة عليهما1. ونسبتها في الدلالة عليهما واحدة، فسمي عامًّا لذلك

_ 1- بعدها في بعض النسخ "عليها" وفي بعضها "عليهما" ولا وجود لهما في المستصفى.

وأما الذي في الأذهان من معنى "الرجل" فيسمى "كليًّا"1، فإن العقل يأخذ من مشاهدة زيد: حقيقة الإنسان وحقيقة الرجل، فإن رأى عمرا: لم يأخذ منه صورة أخرى، وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو الحادث، كنسبته إلى زيد الذي عهده أولًا. فإن سمى عامًّا بهذا المعنى فلا بأس2.

_ 1 الكلي: هو ما لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه كالإنسان. 2 وضح الطوفى -رحمه الله تعالى- مسألة كون العموم من عوارض الألفاظ أو المعاني، ومذاهب العلماء في ذلك فقال: "وهذا البحث يوجد في أكثر كتب الأصوليين غير محقق، ووجه الكشف عنه: أنا إذا قلنا: هذا الشيء من عوارض هذا الشيء، أي: مما يعرض له ويلحقه، واشتقاقه من العَرَض، وهو المعنى الذي يذهب ويجيء، ولهذا سمي المال والمرض عرضًا؛ لأن كل واحد منهما يذهب ويجيء". ثم قال: "والعرض في اصطلاح المتكلمين: هو ما لا يدخل في حقيقة الجسم ومفهومه، سواء كان لازمًا لا يفارق، كسواد الغراب، أو مفارقًا يذهب ويجيء كالحركة والسكون. وبهذا المعنى قولنا: العموم من عوارض الألفاظ، أي: أنه يلحقها، وليس هو داخلًا في حقيقتها، وهو عرض لازم لما لحقه من الألفاظ لا ينفك عنه، وهو خاص ببعض الألفاظ، وهي التي وضعها الواضع لتدل على استغراق جميع ما وضعت له. ومعنى قولنا: العموم من عوارض الألفاظ حقيقة، أي: أنه في الحقيقة لا يعرض إلا لصيغة لفظية، كالمسلمين والمشركين، ونحو ذلك من صيغه.... وإذا أضفنا العموم إلى المعاني، كقولنا: هذا حكم عام، وخصب عام، أو جدب عام، أو بلاء أو رخاء عام، وهذه مصلحة عامة، كان ذلك مجازًا، أي: لا يستحق المعنى بحسب الأصل أن يوصف بالعموم، إنما هو بحسب الاستعارة، إما من اللفظ، أو نظرًا إلى شمول مجموع أفراد المعنى المذكور لمجموع =

فصل: تعريف العام

فصل: [تعريف العام] وحد العام: هو اللفظ الواحد الدال على شيئين فصاعدًا مطلقًا1. واحترزنا بالواحد عن قولهم: "ضرب زيد عمرًا" فإنه يدل على شيئين، لكن بلفظين. وبقولنا: "مطلقًا" عن قولهم: "عشرة رجال"، فإنه يدل على شيئين فصاعدًا، لكن ليس بمطلق، بل هو إلى تمام العشرة.

_ = محالِّه.... قال: وعبارة الشيخ أبي محمد ملخصة من كلام الشيخ أبي حامد. وحاصل ما ذكراه في معنى قولنا: "باعتبار وجوديها" اللساني والذهني" هو أن الرجل -مثلًا- له وجود في الأعيان، وفي اللسان، وفي الأذهان. أما وجوده في الأعيان، فلا عموم له، إذ ليس في الوجود الخارجي رجل مطلق، يعني كليًّا، بل إما زيد أو عمرو، أو غيرهما، فهو مقيد بقيد التشخص والعَلمية. وأما وجوده في اللسان: فلفظ الرجل وضع للدلالة على زيد وعمرو وبكر وغيرهم، ونسبته إليه واحدة، وهذا معنى العموم. وأما وجوده في الذهن فإن للرجل صورة كلية مطابقة له، تتناول زيدًا وعمرًا وبكرًا وغيرهم، وتدل عليهم دلالة واحدة، كدلالة لفظ الرجل عليهم، غير أن اللفظ يدل بالوضع، والذهن يدرك بالتصور. فقد ثبت أن معنى العموم والشمول موجود في اللساني والذهني، دون العيني الخارجي. ثم قال: وقال الآمدي: العموم من عوارض الألفاظ حقيقة اتفاقًا، واختلفوا في المعاني، هل هو من عوارضها حقيقة؟ فنفاه الأكثرون، وأثبته الأقلون. وقال ابن الحاجب: العموم من عوارض الألفاظ حقيقة، وفي المعاني أقوال: أصحها أنه حقيقة فيها، أيضًا. والثاني: ليس من عوارضها، شرح مختصر الروضة "2/ 449 وما بعدها". 1 اللفظ: جنس يتناول العام والخاص والمشترك والمطلق وغير ذلك، والقيود التي ذكرها المصنف -بعد ذلك- لإخراج ما عدا العام.

وقيل: العام كلام مستغرق لجميع ما يصلح له1.

_ 1 وهو تعريف أبي الحسين البصري، وتابعه على ذلك أبو الخطاب في التمهيد "2، 5، 6" واختاره الفخر الرازي وزاد عليه قوله: "بحسب وضع واحد" ورجحه الشوكاني. انظر: المعتمد "1/ 203"، المحصول حـ1 ق2 ص513، إرشاد الفحول "1/ 415". وقد أورد الطوفي للعام عدة تعريفات، غير ما ذكره المصنف، واعترض عليها كلها، واختار له تعريفًا مبنيًّا على التقسيم فقال: "اللفظ إن دل على الماهية من حيث هي هي فقط، فهو المطلق، أو على وحدة معينة، كزيد وعمرو، فهو العلم، أو غير معينة، كرجل فهو النكرة، أو على وحدات متعددة، فهي إما بعض وحدات الماهية، فهو اسم العدد كعشرين رجلًا، أو جميعها، فهو العام، فإذن: هو اللفظ الدال على جميع أجزاء ماهية مدلوله ... ثم فرق بين العام وبين المطلق، والعلَم، والنكرة، واسم العدد فقال: فالمطلق هو اللفظ الدال على الماهية المجردة عن وصف زائد. والعلَم: هو اللفظ الدال على وحدة معينة. والنكرة: هو اللفظ الدال على وحدة غير معينة. واسم العدد: هو اللفظ الدال على بعض وحدات ماهية مدلوله، والعام ما ذكرناه" انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 448 وما بعدها".

فصل: أقسام العام والخاص

فصل: [أقسام العام والخاص] ثم العام ينقسم إلى: عام لا أعم منه، يسمى عامًّا مطلقًا، كالمعلوم، يتناول الموجود والمعدوم وقيل: الشيء

وقيل: ليس لنا عام مطلق؛ لأن "الشيء" لا يتناول المعدوم، والمعلوم لا يتناول المجهول. والخاص ينقسم إلى خاص، لا أخص منه، يسمى خاصًّا مطلقًا، كزيد وعمرو، وهذا الرجل. وما بينهما عام وخاص بالنسبة، فكل ما ليس بعام ولا خاص مطلقًا: فهو عام بالنسبة إلى ما تحته، خاص بالنسبة إلى ما فوقه. فالموجود: خاص بالنسبة إلى المعلوم، عام بالنسبة إلى الجسم والجسم: خاص بالنسبة إلى الجوهر، عام بالنسبة إلى النامي. والنامي: خاص بالنسبة إلى الجسم، عام بالنسبة إلى الحيوان. وأشباه ذلك يسمى عامًّا، لشموله ما يشملهن خاصًّا من حيث قصوره عما شمله غيره1.

_ 1 خلاصة ذلك: أن كلًّا من العام والخاص ينقسم بحسب مراتبه إلى ثلاثة أقسام: علو ونزولًا وتوسطًا فاللفظ إما عام مطلق، وهو ما ليس فوقه أعم منه، أو خاص مطلق، وهو ما ليس تحته أخص منه، أو عام وخاص إضافي، وهو المتوسط. مثال العام المطلق: المعلوم أو الشيء؛ لأن المعلوم يتناول جميع الأشياء قديمها ومحدثها، ومعدومها وموجودها، لتعلق العلم بذلك كله. والشيء: أخص من المعلوم؛ لأن كل شيء معلوم، وليس كل معلوم شيئًا -عند أهل السنة والجماعة- أما المعتزلة فقالوا: المعدوم شيء. ولهذا أورد المصنف في كلامه "وقيل: الشيء" أي: أن العام المطلق كالشيء، لا كالمعلوم، لما تقدم من أن المعلوم يشمل الموجود والمعدوم، والعدم والمعدوم لا يتصفان بالعموم، لأنهما معنيان محتاجان إلى ما يقومان به، ولذلك يجب أن يكونا شيئًا. وعبارة الإمام الغزالي في هذا المعنى أوضح مما ذكره المصنف حيث قال: =

فصل: في ألفاظ العموم

فصل: [في ألفاظ العموم] 1 وألفاظ العموم خمسة أقسام:

_ "واعلم أن اللفظ إما خاص في ذاته مطلقًا، نحو: زيد، وهذا الرجل. وإما عام بالإضافة، كلفظ "المؤمنين" فإنه عام بالإضافة إلى آحاد المؤمنين، خاص بالإضافة إلى جملتهم، إذ يتناولهم دون المشركين، فكأنه يسمى عامًّا من حيث شموله للآحاد، خاصًّا من حيث اقتصاره على ما شملهن وقصوره عما لم يشمله، ومن هذا الوجه يمكن أن يقال: ليس في الألفاظ عام مطلق؛ لأن لفظ المعلوم لا يتناول المجهول، والمذكور لا يتناول المسكوت عنه" المستصفى "3/ 213" وانظر: شرح الطوفي "2/ 461" وما بعدها" 1 مذهب جمهور الأصوليين أن للعموم صيغ وألفاظ تخصه، حقيقة فيه، وذهب بعض العلماء إلى نفي ذلك. وقد وضحه الشوكاني فقال: "ذهب الجمهور إلى أن العموم له صيغة موضوعة له حقيقة، وهي: أسماء الشرط، والاستفهام، والموصولات، والجموع المعرفة تعريف الجنس، والمضافة، واسم الجنس، والنكرة المنفية، والمفرد المحلى باللام، ولفظ "كل" و"جميع" ونحوها. قال: لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة؛ لتعذر جمع الآحاد على المتكلم فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة حقيقة؛ لأن الغرض من وضع اللغة: الإعلام والإفهام". ثم بعد أن استوفى أدلة الجمهور قال: "وقال محمد بن المنتاب، من المالكية، ومحمد بن شجاع الثلجي، من الحنفية: إنه ليس للعموم صيغة تخصه، وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع في الخصوص، وهو أقل الجمع: إما اثنان، أو ثلاثة -على الخلاف في أقل الجمع- ولا يقتضي العموم إلا بقرينة. قال القاضي في التقريب، والإمام في البرهان: يزعمون أن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع محتملات فيما عداه، إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها عن أقل المراتب" إرشاد الفحول "1/ 425-426" وانظر: البرهان "1/ 322". =

الأول: كل اسم عرّف بالألف واللام لغير المعهود1. وهو ثلاثة أنواع: الأول: ألفاظ الجموع، كالمسلمين والمشركين، والذين. والنوع الثاني: أسماء الأجناس، وهو ما لا واحد له من لفظه، كالناس، والحيوان، والماء، والتراب. والنوع الثالث: لفظ الواحد2: كالسارق، والسارقة، والزاني، والزانية، و {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْر} 13. القسم الثاني: من ألفاظ العموم: ما أضيف من هذه الأنواع الثلاثة4 إلى معرفة، كعبيد زيد، ومال عمرو5.

_ = قال الشوكاني: "ولا يخفاك أن قولهم: موضوع للخصوص. مجرد دعوى ليس عليها دليل، والحجة قائمة عليهم لغة وشرعًا وعرفًا، وكل من يفهم لغة العرب واستعمالات الشرع لا يخفى عليه هذا". 1 لأن المعرف بلام العهد ليس عامًّا، وإنما يدل على ذات معينة، مثل: "لقيت رجلًا، فقلت للرجل". 2 ويعبر عنه: بالمفرد المحلى باللام غير العهدية، وكونه من صيغ العموم هو مذهب الشافعي وأحمد وابن برهان وأبي الطيب والبويطي ونقله الآمدي عن أكثر العلماء، ونقله الفخر الرازي عن الفقهاء والمبرد، وهو الذي رجحه البيضاوي وابن الحاجب. انظر القواعد والفوائد الأصولية ص194، نهاية السول "2/ 80"، شرح الكوكب المنير "3/ 133-134". 3 سورة العصر2. والدليل على أن اللام هنا للجنس: الاستثناء الوارد بعدها، وهو قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} . 4 وهي: ألفاظ الجموع، وأسماء الأجناس، والمفرد المحلى بالألف واللام. 5 المثال الأول: جمع منكر، مضاف إلى معرفة، والثاني: اسم جنس مضاف لمعرفة أيضًا. =

القسم الثالث: أدوات الشرط: كـ"مَن" فيمن يعقل، و"ما" فيما لا يعقل، و"أي" في الجميع1، و"أين" و"أيان" في المكان2 و"متى" في الزمان، ونحوه. كقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} 3 و {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاق} 4 و {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْت} 5، وقوله عليه السلام: "أيُّما امرأةٍ نكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَليِّهَا...." 6.

_ = ومثال المفرد المحلى بالألف واللام: السارق، والزانية. قال الطوفي: "وهو إذا أضيف إلى معرفة لا يقتضي العموم؛ لأنه لا جمع في لفظه، بخلاف عبيد، ومال؛ لأن فيهما جمعًا حقيقيًّا في نحو: عبيد زيد أو معنويًّا في نحو: مال زيد، والمال جنس يشمل أنواعًا، أما السارق والزاني ونحوهما، فلم يوضع لفظه ليدل على جمع لفظي ولا معنوي، بل ليدل على ذات متصفة بفعل صدر عنها، أو قام بها، وليس من لوازم ذلك: جمع ولا إفراد إلا بطريق الفرض". شرح الطوفي "2/ 467". 1 أي: تشمل من يعقل ومن لا يعقل. 2 هكذا في جميع النسخ، ولعل ذلك من تحريف النساخ، فإن "أيان" للزمان، دل على ذلك القرآن الكريم. قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187، والنازعات: 42] . قال الشيخ الطوفي: "وجعل الشيخ أبو محمد أين وأيان جميعًا للمكان، وهو سهو، بل أين وحدها للمكان، وأيان للزمان؛ لأن أصلها: أيَّ أوَانٍ يكون كذا، ثم ركبت الكلمتان بعد الحذف تخفيفًا، وجعلا كلمة واحدة...." شرح مختصر الروضة "2/ 471 وما بعدها". 3 سورة الطلاق من الآية "3". 4 سورة النحل من الآية "96". 5 سورة النساء من الآية "78". 6 أخرجه أبو داود: كتاب النكاح -باب الولي- من حديث عائشة، رضي الله عنها =

القسم الرابع: "كل" و"جميع": كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} 1، و {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} 2، و {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 3. القسم الخامس: النكرة في سياق النفي، كقوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَة} 4، {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 5.

_ = مرفوعًا بلفظ: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل". كما أخرجه عنها: الترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، وقال: "حديث حسن"، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، وأحمد في مسنده "6/ 47"، كما رواه الدارمي والدارقطني والحاكم وغيرهم. انظر: نصب الراية للزيلعي "3/ 184-185". 1 سورة آل عمران من الآية "185". 2 سورة الأعراف من الآية "34". 3 سورة الزمر من الآية "62". 4 سورة الأنعام من الآية "101" 5 سورة البقرة من الآية "255". أما النكرة في سياق الأمر: ففيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: تفيد العموم مثل النكرة في سياق النفي، ومنهم من قال: لا تفيد العموم، وهو رأي الجمهور. ومن أمثلته: "أعتق رقبة" فالجمهور يقولون: إنه لا يفيد العموم، لأنه مطلق، والمطلق ليس بعام، كما تقدم في تعريفه. وقال البعض: إنه يعم؛ لأنه لو لم يكن عامًّا، لما خرج المأمور عن عهدة الأمر بعتق أي رقبة كانت. قال الطوفي: "وفي هذا نظر؛ لأنه إنما خرج عن عهدة الأمر بذلك؛ لأنه مأمور برقبة مطلقة، والمطلق يكفي في امتثاله إيجاد فرد من أفراده؛ لأن الواجب فيه تحصيل الماهية، وهي حاصلة بفرد من أفراده، كما لو قال: صلِّ صلاةًَ، أو: صم يومًا. والله تعالى أعلم". شرح مختصر الروضة "2/ 473".

قال البستي1: الكامل في العموم: هو الجمع، لوجود صورته ومعناه، وما عداه قاصر في العموم؛ لأنه بصيغته إنما يتناول واحدًا، لكنه ينتظم جمعًا من المسميات معنى، فالعموم قائم بمعناها، لا بصيغتها. [هل للعموم صيغة تخصه حقيقة] 2 واختلف الناس في هذه الأقسام الخمسة: فقالت الواقفية: لا صيغة للعموم، بل أقل الجمع داخل فيه بحكم الوضع، وفيما زاد عليه، فيما بين الاستغراق وأقل الجمع: مشترك كاشتراط لفظ "النفر" بين الثلاثة والخمسة3. وحكي مثل ذلك عن محمد بن شجاع الثلجي4.

_ 1 هو: حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، من أهل "بست" من بلاد "كابول" فقيه محدث، من نسل زيد بن الخطاب "أخي عمر بن الخطاب" ولد سنة "319هـ". من مؤلفاته: معالم السنن في شرح سنن أبي داود، بيان إعجاز القرآن. توفي سنة "388هـ" انظر: وفيات الأعيان "1/ 166" والأعلام "2/ 304" وخلاصة رأيه: أن لفظ الجمع، كالمسلمين، والمشركين، أكمل في باب العموم من غيره من ألفاظ العموم الأخرى؛ لأن لفظ الجمع يفيد التعدد، كما أن معناه يفيد التعدد أيضًا، بخلاف غيره، فإن التعدد في مدلوله، لا في لفظه، انظر شرح ذلك بتوسع في شرح مختصر الروضة "2/ 474-475". 2 سبق أن أوضحنا مذاهب العلماء في هذه المسألة في أول فصل: ألفاظ العموم. 3 خلاصة رأي الواقفية: أن الصيغ المتقدمة لم توضع لعموم ولا لخصوص، بل موضوعة لأقل الجمع "على الخلاف في أقله كما سيأتي" وما زاد على أقل الجمع يكون مشتركًا بينه وبين الاستغراق. انظر: المستصفى "3/ 250"، وشرح مختصر الروضة "2/ 475" وما بعدها. 4 هو: محمد بن شجاع الثلجي البغدادي، أبو عبد الله، فقيه العراق في وقته، من =

قالوا1: لأن أقل الجمع مستيقن، وفيما زاد مشكوك، يحتمل أن يكون مرادًا، وأن لا يكون مرادًا، فيحمل على اليقين2. ولأن3 وضع هذه الصيغ للعموم: إما أن يعلم بعقل، أو بنقل. فالعقل لا مدخل له في اللغات. والنقل: إما تواتر، وإما آحاد: فالآحاد لا يحتج بها. والتواتر لا يمكن دعواه. ثم لو كان لأفاد علمًا ضروريًّا. ولأنا4 لما رأينا العرب تستعمل الألفاظ المشتركة في جميع مسمياتها: قضينا بأنها مشتركة، وأن من ادعى أنها حقيقة في أحدهما، مجاز في الآخر: كان متحكمًا. وهذه الصيغ تستعمل في العموم والخصوص، بل استعمالها في الخصوص أكثر في الكتاب والسنة، وليس أحدهما أولى من الآخرن فهما قولان متقابلان، فيجب تدافعهما، والقول والاعتراف بالاشتراك. ولأنه5 يحسن الاستفهام، فلو قال: "من دخل داري فأعطه درهمًا"

_ = أصحاب أبي حنيفة، شرح فقه الإمام أبي حنيفة، واحتج له، كان يميل إلى الاعتزال، ولد سنة "181هـ" وتوفي سنة "266هـ" انظر: الوافي بالوفيات "3/ 148" والأعلام "6/ 157". 1 أي: الواقفية ومن معهم. وهو منسوب لأبي الحسن الأشعري، وأبي بكر الباقلاني، وبعض المتكلمين. 2 هذا هو الدليل الأول لهم. 3 هذا هو الدليل الثاني 4 هذا دليل ثالث لهم. 5 هذا دليل رابع.

حسن أن يقول: "وإن كان فاسقًا"؟ ولو عم اللفظ: لما حسن الاستفسار. ولنا دليلان1: أحدهما: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- فإنهم مع أهل اللغة بأجمعهم، أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم، إلا ما دل على تخصيصه دليل؛ فإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص، لا دليل العموم: فعملوا بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم} 2 واستدلوا به على إرث فاطمة3 -رضي الله عنها- حتى نقل أبو بكر، رضي الله عنه: "نحنُ معاشِرَ الأنْبِيَاءِ لا نُورَثُ، ما تَرَكْنَاه صَدَقة" 4.

_ 1 بدأ المصنف يستدل لمذهب الجمهور على أن الصيغ المتقدمة موضوعة للعموم، فتحمل على عمومها، حتى يدل دليل على الخصوص. 2 سورة النساء من الآية "11". 3 هي: فاطمة الزهراء بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السيدة خديجة -رضي الله عنها- ولدت قبل البعثة بستة أشهر، وهي أصغر بنات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوجها علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- بعد واقعة أحد، وهي أم الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، ولها مناقب عظيمة، فهي سيدة نساء المؤمنين. توفيت -رضي الله عنها- سنة "11هـ" بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر. انظر: الإصابة "4/ 377" والاستيعاب "4/ 373"، حلية الأولياء "2/ 39". 4 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الخُمس- باب فرض الخُمس- حديث"2" وكتاب فضائل الصحابة - باب مناقب قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث "207" وكتاب المغازي - باب غزوة خيبر حديث "256"، وكتاب الفرائض- باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة". كما أخرجه مسلم: كتاب الجهاد -باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"، حديث "52/ 1759" عن عائشة -رضي الله عنها- أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر -رضي الله عنه- تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما أفاء الله عليه بالمدينة وفَدَك ومما بقي من خمس خيبر. فقال أبو بكر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- =

وأجروا {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة} 1، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 2، و {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} 3، و {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 4، {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} 5 و {لا تَقْتُلُوا الصَّيْد} 6، و "لَا تُنْكَحُ المَرْأَة على عَمَّتِها" 7، "ومَنْ أَغْلَقَ عليه بابَهُ فهو آمِنٌ"8، و " لا يَرِثُ القَاتِلُ" 9، وغير ذلك مما لا يحصى على العموم

_ = قال: "لا نورث ما تركناه صدقة" وللحديث روايات أخرى صحيحة. يراجع فيها: المنتقى ص524. 1 سورة المائدة من الآية "38". 2 سورة النور من الآية "2". 3 سورة الإسراء من الآية "33". 4 سورة البقرة من الآية "278". 5 سورة النساء من الآية "29". 6 سورة المائدة من الآية "95". 7 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب النكاح- باب لا تنكح المرأة على عمتها- من حديث جابر وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وفي رواية: نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها. كما أخرجه مسلم: كتاب النكاح -باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح- من حديث أبي هريرة. وأخرجه عنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم. انظر: نصب الراية "3/ 169/ 170". 8 أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير -باب فتح مكة، وأبو داود: كتاب الخراج والفيء والإمارة- باب ما جاء في خبر مكة -ولفظه: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن" كما أخرجه أحمد في المسند "2/ 292، 538". 9 أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العقول -باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ =

ولما نزل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1 قال ابن أم مكتوم2: "إني ضرير البصر" فنزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَر} فعَقَل الضرير وغيره من عموم اللفظ3. ولما نزل {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 4 قال ابن الزبعري5: لأخصمن محمدًا، فقال له: قد عُبدت الملائكة

_ = فيه -عن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس للقاتل شيء". كما أخرجه أبو داود: كتاب الديات- باب ديات الأعضاء، وابن ماجه: كتاب الديات- باب القاتل لا يرث، وأحمد في المسند "1/ 49"، والبيهقي: كتاب الفرائض- باب لا يرث القاتل. السنن الكبرى "6/ 220". قال المصنف في المغني "9/ 150": "أجمع أهل العلم على أن قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئًا، إلا ما حكي عن سعيد بن المسيب وابن جبير، أنهما ورّثاه، وهو رأي الخوارج، لأن آية الميراث تتناوله بعمومها، فيجب العمل بها فيه. ولا تعويل على هذا القول؛ لشذوذه، وقيام الدليل على خلافه". 1 سورة النساء، من الآية "95". 2 هو: عمرو بن أم مكتوم بن قيس بن زائدة، صحابي جليل، وهو الذي نزل في حقه أول سورة "عبس وتولى"، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدها يزيد في إكرامه، وكان يستخلفه على الصلاة في المدينة في أكثر غزواته، روى أنه شهد القادسية واستشهد بها، رضي الله عنه. انظر: الإصابة "4/ 87، 4/ 600"، البداية والنهاية "7/ 49". 3 عبارة الغزالي في المستصفى "3/ 233": "فعَقل الضرير وغيره عموم لفظ المؤمنين" وهي أوضح من عبارة المصنف. 4 سورة الأنبياء من الآية "98". 5 هو: عبد الله بن الزبعري بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي، صحابي جليل، كان من شعراء قريش، ومن أشد الناس عداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- =

والمسيح، أفيدخلون النار؟ فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون} 1. فعقَل العموم، ولم ينكر عليه، حتى بين الله -تعالى- المراد من اللفظ. ولما أراد أبو بكر -رضي الله عنه- قتال مانعي الزكاة، قال له عمر: كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أنْ أقاتِلَ الناس حَتَّى

_ = وللمسلمين، ثم أسلم بعد فتح مكة، وحسن إسلامه، واعتذر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبل عذره، انظر في ترجمته "الإصابة 2/ 300-303"، أسد الغابة 3/ 239-240". 1 سورة الأنبياء الآية "101". والقصة رواها الطبراني في الكبير "12739" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُون} قال عبد الله بن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدًا، فقال: يا محمد، أليس فيما أنزل الله عليك: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُون} قال: "نعم" قال: فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيرًا، وهذه بنو تميم تعبد الملائكة، فهؤلاء في النار؟ فأنزل الله، عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} كما أوردها السيوطي في الدر المنثور "5م 679"، والحاكم في المستدرك 2/ 384-385"، وابن جرير في تفسيره "17/ 97-98" وعوّل على أن "ما" في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُون} عند العرب لغير العاقل أما ابن كثير فقال: "وهذا الذي قاله ابن الزبعري خطأ كبير؛ لأن الآية إنما نزلت خطابًا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعًا وتوبيخًا لعابديها، ولهذا قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم} فكيف يورد على هذا المسيح والعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده"؟!

يقولوا: يقولوا لا إِلَه إِلّا اللهُ ... " 1 الحديث. فلم ينكر أبو بكر احتجاجه، بل قال: أليس قد قال: "إِلّا بِحَقِّهَا" والزكاة من حقها. واختلف عثمان وعلي في الجمع بين الأختين2: فاحتج عثمان بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم} 3. واحتج علي بعموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن} 4.

_ 1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الزكاة- باب وجوب الزكاة، وفي كتاب الاعتصام- باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا ولفظه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". كما أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأبو داود: كتاب الجهاد، باب علام يقاتل المشركون؟ كما أخرجه ابن ماجه، والترمذي، والنسائي وغيرهم. 2 أي: بملك اليمين، أما الجمع بين الأختين في الزواج فمجمع على تحريمه، لقوله -تعالى- في آية المحرمات من النساء: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن} . 3 سورة المؤمنون "6" والمعارج "30". 4 سورة النساء من الآية "23". فآية سورة "المؤمنون" و"المعارج" تفيد إباحة الجمع، وآية سورة النساء تفيد التحريم، ولذلك روي عن عثمان -رضي الله عنه- لما سئل عن الجمع بين الأختين، بملك اليمين قال: "لا آمرك ولا أنهاك، أحلتهما آية وحرمتهما آية"، والتحريم أولى" انظر: تفسير القرطبي "5/ 117"، والموطأ "3/ 148".

ولما سمع عثمان بن مظعون1 قول لبيد2: .................... ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحالَةَ زَائلُ قال له: كذبت، إن نعيم الجنة لا يزول3. وهذا وأمثاله مما لا ينحصر كثرة، يدل على اتفاقهم على فهم العموم من صيغته، والإجماع حجة. ولو لم يكن إجماعهم حجة، لكان حجة من حيث إنهم أهل اللغة، وأعرف بصيغتها وموضوعاتها.

_ 1 هو: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب، القرشي الجمحي، أبو السائب، صحابي جليل، هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، توفي سنة "2هـ" ودفن بالبقيع. انظر: الإصابة "2/ 464" والاستيعاب "3/ 58". 2 هو: لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة، أبو عقيل الشاعر المعروف، صاحب المعلقة. قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها شاعر: كلمة لبيد: أَلا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باَطِلُ". مات بالكوفة سنة "41هـ" انظر الإصابة "5/ 675" والاستيعاب "3/ 1235". وقول لبيد هذا: عجز بيت صدره: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل ... ................................ انظر: ديوان لبيد ص256، الشعر والشعراء لابن قتيبة "1/ 297". 3 انظر: الموشح للمرزباني ص100، وقد نسب هذا التكذيب إلى أبي بكر، رضي الله عنه. والأدلة على أن نعيم الجنة دائم لا ينقطع كثيرة، منها قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] وجاء في الصحيحين "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت". انظر: تفسير ابن كثير "2/ 442" طبعة دار زمزم.

المسلك الثاني1: أن صيغ العموم يحتاج إليها في كل لغة، ولا تختص بلغة العرب. فيبعد جدًّا أن يغفل عنها جميع الخلق، فلا يضعونها مع الحاجة إليها. ويدل على وضعه2: توجه الاعتراض على من عصى الأمر العام، وسقوطه عمن أطاع، ولزوم النقض والخلف على الخبر العام، وبناء الاستحلال3 والأحكام على الألفاظ العامة. فهذه أربعة أمور تدل على الغرض. وبيانها: أن السيد إذا قال لعبده: "من دخل داري فأعطه رغيفًا" فأعطى كل داخل: لم يكن للسيد أن يعترض عليه. ولو قال: "لِمَ أعطيت هذا وهو قصير" وإنما أردت الطوال؟ فقال: "ما أمرتني بهذا، وإنما أمرتني بإعطاء كل داخل" فعرض هذا على العقلاء: رأوا اعتراض السيد ساقطًا، وعذر العبد متوجهًا. ولو أن العبد حرَم واحدًا، فقال له السيد: "لِمَ لم تعطه"؟ فقال: "لأن هذا أسود، ولفظك ما اقتضى العموم، فيحتمل أنك أردت الأبيض" استوجب التأديب عند العقلاء، وقيل له: "ما لك وللنظر إلى اللون، وقد أمرت بإعطاء كل داخل"؟

_ 1 أي: الدليل الثاني على أن هذه الصيغ موضوعة للعموم، وكان قد قال في بداية كلامه: "ولنا دليلان". 2 أي: مما يدل على أنها موضوعة للعموم: توجه الاعتراض على من يعصي أمر المتكلم بكلام عام، وسقوط هذا الاعتراض عمن أطاع. 3 أي: كونه حلالًا.

وأما النقض: فإنه لو قال: "ما رأيت أحدًا" وكان قد رأى جماعة: كان كلامه خلفًا1 ومنقوضًا وكذبًا. ولذلك قال الله تعالى: { ... قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} 2. وإنما أورد هذا نقضًا على كلامهم، فإن لم يكن هذا عامًّا: فلِمَ أورد النقض عليهم؟ فإن هم أرادوا3 غير موسى، فلِمَ لزم دخول موسى تحت اسم البشر؟ وأما إثبات الاستحلال والأحكام: فإذا قال: "أعتقت عبيدي وإمائي" ومات عقيبه، جاز لمن سمع أن يزوج عبيده، ويتزوج من إمائه بغير رضا الورثة. ولو قال: "العبيد الذين في يدي ملك فلان": كان إقرارًا محكومًا "به"4 في الكل. ولو ادعى على رجل دينًا فقال5: "مالك عليّ شيء" كان إنكارًا لدعواه، ولو حلف على ذلك: بريء في الحكم

_ 1 في المصباح المنير "1/ 179": "الخَلْف: وزان فلس: الرديء من القول، يقال: سكت ألفًا ونطق خلْفًا: أي: سكت عن ألف كلمة، ثم نطق بخطإ. وقال أبو عبيد في كتاب الأمثال: الخلف من القول: هو السقط الرديء، كالخلْف من الناس". 2 سورة الأنعام من الآية "91". 3 في جميع النسخ "فلعلهم أرادوا" وما أثبتناه من المستصفى لوضوحه. 4 ما بين القوسين من المستصفى. 5 أي: المدعى عليه، والسبب في ذلك: أن الأصل براءة ذمته، ولذلك اكتفى منه باليمين، بخلاف الصورة الآتية.

ولو كان له عليه دين، فحلف هذه اليمين، كان كاذبًا آثمًا1. وبناء أمثال هذه الأحكام على العموم لا ينحصر. فإن قيل: إنما ثبت هذا الذي ذكرتموه بالقرائن، لا بمجرد اللفظ. قلنا: هذا باطل؛ فإنه لو قدر انتفاء القرائن: لفهم العموم: فإنه لو قدر أن سيدًا أمر عبدًا له لم يعرف له عادة، ولا عاشره زمانًا بأمر عام، ولا يعلم له غرضًا في إثباته وانتفائه، لتمهد عذره في العمل بعمومه، وتوجه إليه اللوم بترك الامتثال. ولو قال: "كل عبد لي حرٌّ" ولم تعلم منه قرينة أصلًا: حكمنا بحرية الكل. وتقدير قرينة -ههنا- كتقدير قرينة في سائر أنواع أدلة الكتاب والسنة، وهذا يبطلها بأسرها. ولأن اللفظ لو لم يكن للعموم: لخلا عن الفائدة، واختلت أوامر الشرع العامة كلها؛ لأن كل واحد يمكنه أن يقول: "لم أعلم أنني مراد بهذا الأمر، ولا في اللفظ دلالة على أنني مراد به، ولا يلزمني الامتثال". وكذلك النواهي، يقول: "لست مخاطبًا بالنهي لعدم دلالته على العموم في حقي" فتختل الشريعة، وتبطل دلالة الكتاب والسنة. ولا يصح من أحد الاحتجاج بلفظ عام في صورة خاصة، لعدم دلالته عليها. ولا يقدر أحد أن يأمر جماعة، ولا ينهاهم، ولا يذكر لهم شيئًا يعمهم بلفظ واحد.

_ 1 لأنه أقر له بالحق، فالحق ثابت في ذمته، فلو حلف على أنه أداه لم يقبل منه، فلا بد من البينة على أنه قد أداه، حتى تبرأ ذمته. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى -وهي محل الشاهد- أن الأول خاص والثاني عام.

وهذا باطل يقينًا، وفاسد قطعًا، فوجب اطّراحه. وأما حجة الواقفية: فحاصلها: مطالبة بالدليل، وليس بدليل1. ثم قد ذكرنا وجه الدليل على التعميم، وأنها إنما تستعمل على الخصوص مع قرينة. وإنما حسن الاستفسار عن الفاسق؛ لأنه يفهم من الإعطاء: الإكرام، ويفهم من عادة الناس أنهم لا يكرمونهم. فلتوهم القرينة المخصصة: حسن السؤال. ولذلك: لم يحسن في بقية الصفات، ولأنه لو لم يراجع، وأعطى الفاسق: لكان عذره متمهدًا. ثم إنه إنما حسن الاستفهام لظهور التجوز به عن الخصوص، فلذلك كان للمستفهم الاحتياط في طلبه. ولهذا دخل التوكيد في الكلام، لرفع اللبس، وإزالة الاتساع. ولهذا يحسن الاستفهام في الخاص، فإذا قال: "رأيت الخليفة" قيل له: "أنت رأيته"؟!

_ 1 أي: أن حجة الواقفية: هي مطالبة الجمهور بدليل يدل على العموم، والمطالبة بالدليل لا تعتبر دليلًا، ومع ذلك أقام المصنف الأدلة على أنها تفيد العموم، ولا تدل على الخصوص إلا مع قرينة.

فصل: في الخلاف في عموم بعض الصيغ

فصل: [في الخلاف في عموم بعض الصيغ] وقد قال قوم بالعموم، إلا فيما فيه الألف واللام1. وقال آخرون: بالعموم، إلا في اسم الواحد بالألف واللام2. وقال بعض النحويين المتأخرين في "النكرة في سياق النفي" لا تعم، إلا أن تكون فيه "مِنْ" مظهرة، كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} 3، أو مقدرة، كقوله تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّه} 4، بدليل أنه يحسن أن يقال:

_ 1 حكى الطوفي في المسألة مذاهب أخرى حكاها عن الآمدي، بعد أن نقل ما قاله المصنف، فقال: "وقال الآمدي: ذهبت المرجئة إلى أن العموم لا صيغة له في اللغة تخصه. وذهب الشافعي وأكثر الفقهاء إلى أن الصيغ المذكورة حقيقة في العموم، مجاز فيما عداه. ومنهم من عكس الحال، يعني: أنها مجاز في العموم، حقيقة فيغيره. ومنهم من خالف في عموم اسم الجمع، واسم الجنس المعرف دون غيره، كأبي هاشم. واختلف قول الأشعري في الاشتراك والوقف، ووافقه القاضي في الوقف. ومنهم من وقف في الأخبار والوعد والوعيد، دون الأمر والنهي. قال الآمدي: والمختار أن الصيغ المذكورة حجة في الخصوص لتيقنه، والوقف فيما وراء ذلك" شرح مختصر الروضة "2/ 477". 2 مثل: الدينار خير من الدرهم. 3 سورة "ص" من الآية 65". 4 سورة الصافات من الآية "35" وتمام الآية: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} وسورة محمد من الآية "19" {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُم} .

ما عندي رجل، بل رجلان1. ومن أنكر أن الألف واللام للاستغراق قال:

_ 1 هذا دليل بعض النحويين الذين أنكروا إفادة النكرة للعموم، إلا إذا كانت هناك "من" مظهرة أو مقدرة. وقد وضحه الطوفي فقال: "وتقرير حجته: أنه يحسن أن يقال: ما عندي رجل، بل رجلان، ولا يحسن أن يقال: ما عندي من رجل، بل رجلان، وذلك يدل على أن: ما عندي من رجل يعم، لامتناع إثبات الزيادة عليه، لافضائه إلى التناقض في عرف اللسان، وأن: ما عندي رجل، لا يعم، لجواز الزيادة عليه وعدم إفضائه إلى التناقض في عرف اللسان، ولا فرق بين الصورتين إلا إثبات "من" وعدمها" فدل على أنها هي المؤثرة في العموم في هذا الباب، ويلحق بثبوتها تحقيقًا، ثبوتها تقديرًا لاشتراكهما في المعنى. وسر هذا التقدير: أن "من" موضوعة للدلالة على الجنس، فإذا دخل النفي عليها تحقيقًا أو تقديرًا، كما سبق مثاله، أفاد نفي الجنس، وهو معنى الاستغراق والعموم، وإذا لم يدخل عليها، لم يفد نفي الجنس، بل نفي الشخص المذكور مبهمًا. مثاله: "ما في الدار من رجل" يقتضي نفي جنس الرجال من الدار، و"ما في الدار رجل" يقتضي نفي رجل واحد مبهم من جنس الرجال...." شرح مختصر الروضة "2/ 486-487". ثم أجاب عن هذا الاستدلال فقال: "إن النفي إذا وقع على النكرة، اقتضى نفي ماهيتها، وماهيتها لا تنتفي إلا بانتفاء جميع أفرادها، كما إذا قال: "لا صلاة بغير طهور" فإنه نفي لماهية الصلاة، وهو لا يحصل إلا بانتفاء جميع أفراد الصلاة بغير طهور في جميع الأوقات والأماكن. وهذا الدليل قاطع في العموم، وحينئذ يجب تأويل ما ذكرت أيها الخصم من الدليل على عدم العموم؛ لأنه غير قاطع، وما ذكرناه قاطع، وإذا اجتمع القاطع وغيره، كان تقديم القاطع -ما لم يعارضه معارض- أولى" المصدر السابق ص488.

يحتمل أن تكون للمعهود. ويحتمل أن تكون للاستغراق. ويحتمل أنها لجملة من الجنس. فما دليل التعميم؟ 1 ثم وإن سلم في البعض، فما قولكم في جمع القلة، وهو ما ورد على وزن الأفعال، كالأحمال، والأَفْعُل، كالأكلُب، والأكعُب، والأَفْعِلَة، كالأرغفة، والفِعلة، كالصبية؟ فقد قال أهل اللغة: إنه للتقليل وهو ما دون العشرة. وقال ناس بالتعميم، إلا في لفظة المفرد المحلى بالألف واللام؛ لأنه لفظ واحد، والواحد ينقسم إلى: واحد بالنوع، وواحد بالذات. فإذا دخله التخصيص علم أنه ما أراد الواحد بالنوع، فانصرف إلى الواحد بالذات. قلنا: ما ذكرناه من الاستدلال جار فيما فيه الألف واللام، وفي النكرة في سياق النفي، فإنه إذا قال لعبده: "أعط الفقراء والمساكين،

_ 1 هذا دليل القائلين بأن الصيغ المتقدمة تفيد العموم، ما عدا المقترن باللام، وحجتهم على ذلك: أن اللام تستعمل للمعهود تارة كما في قوله تعالى: { ... كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15-16] كما تستعمل لبعض الجنس تارة، مثل: شربت الماء، وأكلت الخبز، والمراد بعضه. وتستعمل للاستغراق، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر} [القمر: 54] . وإذا كانت تستعمل في هذه المعاني، كان اختصاصها بإفادة العموم ترجيحًا بدون مرجح. انظر: شرح الطوفي "2/ 485". وسيأتي رد المصنف على ذلك.

واقتل المشركين1، واقطع السارق والسارقة، وارجم الزانية والزاني2، ولا تؤذ مسلمًا، ولا تجعل مع الله إلهًا"3 واقتصر عليه، وانتفت القرائن، جرى فيه حكم الطاعة والعصيان، وتوجه الاعتراض وسقوطه. ولو قال: "والله لا آكل رغيفًا": حنث إذا أكل رغيفين. وقد قال الله، تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَة} 4، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد} 5 {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} 6، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة} 7، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور} 8. ولا يحل أن يقال في مثل هذا: إن اللفظ ما اقتضى التعميم9. وقولهم: "إن الألف واللام للمعهود". قلنا: إنما يصرف إلى المعهود عند وجوده، وما لا معهود فيه يتعين حمله على الاستغراق.

_ 1 هذه أمثلة لما كان له واحد من لفظه. 2 هذه أمثلة لما كان لفظه واحد وقد دل على العموم. 3 هذان مثالان للنكرة في سياق النفي، وقد أفادت العموم أيضًا. 4 سورة الأنعام من الآية "101". 5 سورة الإخلاص "4". 6 سورة الكهف من الآية "49". 7 سورة النساء من الآية "40". 8 سورة النور من الآية "40". 9 قصد المؤلف من إيراد هذه الأمثلة: أن يقيم الأدلة على أن في الألفاظ العربية ما هو موضوع للعموم، ومنها ما هو موضوع للخصوص، والقرآن الكريم نزل باللسان العربي، فيجب الاحتكام إليه عند الاختلاف.

وهذا لأن الألف واللام للتعريف، فإذا كان ثم معهود فحمل عليه حصل التعريف. وإن لم يكن ثم معهود فصرف إلى الاستغراق، حصل التعريف أيضًا. وإن صرف إلى أقل الجمع أو إلى واحد، لم يحصل التعريف، وكان دخول اللام وخروجها واحدًا. ولأنهما إذا كانا للعهد استغرقا جميع المعهود، فإذا كانا للجنس يجب أن يستغرقا. وأما جمع القلة: فإن العموم إنما يتلقى من الألف واللام. ولهذا استفيد1 من لفظ الواحد في مثل: السارق والسارقة، والدينار أفضل من الدرهم و "أهْلَك الناسَ الدينارُ والدرهمُ" 2. ولذلك صح توكيده بما يقتضي العموم، وجاز الاستثناء منه، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} 3، والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت الخطاب.

_ 1 أي: العموم. 2 حديث صحيح: أخرجه البخاري من حديث أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا، وابن ماجه بلفظ "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم"، وفي رواية "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة". وفي لفظ للعسكري، من حديث الحسن، عن أبي هريرة مرفوعًا: "لعن" بدل "تعس". انظر: المقاصد الحسنة ص257، كشف الخفا "1/ 366". 3 سورة العصر "2، 3".

فقوله: "إنه يصح أن يقول: ما عندي رجل، بل رجلان"1. قلنا: قوله: "بل رجلان" قرينة لفظية تدل على أنه استعمل لفظ العموم في غير موضوعه. ولا يمنع ذلك من حمله على موضوعه عند عدم القرينة، كما أن لفظة "الأسد" إذا استعملت في الرجل الشجاع بقرينة، لا يمنع من استعمالها في موضوعها وحملها عليه عند الإطلاق. وأما لفظة "مِنْ" فهي من مؤكدات العموم، وتمنع من استعماله في مجازه. ولتأثيرها في التأكيد، ومنعها من التوسع، واستعمال اللفظ في غير العموم: تطرق الوهم إلى القائل بنفي التعميم فيما خلت منه.

_ 1 يريد المصنف أن يرد على من قال: إن النكرة في سياق النفي لا تفيد العموم، إلا إذا كانت هناك "من" مظهرة أو مقدرة، كما تقدم. 2 وهو رأي جمهور العلماء منهم: الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد. 3 وكذلك الإمام مالك، ذكر ذلك القاضي عبد الوهاب، كما في شرح تنقيح الفصول ص233. 4 هو: محمد بن داود بن علي بن خلف الظاهري، خلف والده في حلقته بالتدريس =

وبعض الشافعية1: أن أقله اثنان، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُس} 2 ولا خلاف في حجبها باثنين. وقد جاء ضمير الجمع للاثنين في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} 3، {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 4، وكانوا اثنين، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 5 و {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 6. وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة" 7.

_ = وهو صغير، كان أديبًا شاعرًا، فقيهًا أصوليًّا، من كتبه: "الوصول إلى معرفة الأصول". توفى سنة "297هـ" وفيات الأعيان "2/ 272"، تاريخ بغداد "5/ 256". 1 كالغزالي وغيره، ولكن الصحيح عند الشافعية عمومًا هو المذهب الأول. 2 سورة النساء من الآية "11". 3 سورة الحج من الآية "19". 4 سورة "ص" الآية "21". 5 سورة الحجرات من الآية "9". 6 سورة التحريم من الآية "4". 7 هذا الحديث روي عن أبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، والحكم بن عمير، وأبي هريرة، وأبي أمامة. أما حديث أبي موسى: فأخرجه ابن ماجه حديث "972" والدارقطني: باب الاثنان جماعة حديث "1"، والحاكم: كتاب الصلاة، باب الاثنين فما فوقهما جماعة، من طريق الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد عن أبيه عن جده. قال الحافظ البوصيري وابن حجر: ضعيف، وقال ابن حجر في جده "مجهول". وكذلك بقية الطرق فيها ضعف أيضًا. يراجع فيه: تلخيص الحبير "3/ 81"، ومجمع الزوائد "2/ 45".

ولأن الجمع مشتق من جمع الشيء إلى الشيء وضمه إليه، وهذا يحصل في الاثنين. ولنا: ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال لعثمان، رضي الله عنه: "حَجبتَ الأم بالاثنين من الإخوة، وإنما قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُس} 1، وليس الأخوان بإخوة في لسانك، ولا في لسان قومك؟ " فقال له عثمان: "لا أنقض أمرًا كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار"2، فعارضه على أنه في لسان العرب ليس بحقيقة في الاثنين، وإنما صار إليه للإجماع.

_ 1 سورة النساء من الآية "11". 2 أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الفرائض، باب ميراث الإخوة من الأب والأم، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير "3/ 85" فقال: "وفيه نظر، فإن فيه شعبة مولى ابن عباس، وقد ضعفه النسائي". كما أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: كتاب الفرائض -باب فرض الأم- قال أبو يعلى في العدة "2/ 651": "وهذا يدل على أن أقل الجمع ثلاثة؛ لأن ابن عباس قاله، وأقره عثمان عليه، وإنما صرفه عنه بالإجماع الذي ذكره". وقد بين الشيخ "ابن قدامة" في كتابه "المغني 9/ 19" أن خلاف ابن عباس في ذلك لا يعول عليه؛ لأنه في مخالفة الإجماع- فقال: "ولنا: قول عثمان هذا". فإنه يدل على أنه إجماع ثم قبل مخافة ابن عباس؛ ولأن كل حجب تعلق بعدد كان أوله اثنين كحجب البناتِ بناتِ الابن، والأخوات من الأبوين الأخوات من الأب، والإخوة تستعمل في الاثنين، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن} [النساء: 176] وهذا الحكم ثابت في أخ وأخت".

دليل آخر: أن أهل اللسان فرقوا بين الآحاد، والتثنية، والجمع، وجعلوا لكل واحد من هذه المراتب لفظًا وضميرًا مختصًّا به، فوجب أن يغاير الجمع التثنية، كمغايرة التثنية الآحاد. ولأن الاثنين لا ينعت بهما الرجال والجماعة في لغة أحد، فلا تقول: رأيت رجالًا اثنين، ولا جماعة رجلين، ويصح أن يقال: ما رأيت رجالًا، وإنما رأيت رجلين، ولو كان حقيقة فيه لما صح نفيه. وأما ما احتجوا به فغايته: أنه جاز التعبير بأحد اللفظين عن الآخر مجازًا، كما عبر عن الواحد بلفظ الجمع في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُم} 1 و {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر} 2. ثم إن "الطائفة" و"الخصم" يقع على الواحد والجمع، والقليل والكثير، فرد الضمير إلى الجماعة الذين اشتمل عليهم لفظ "الطائفة" و"الخصم". وأما قوله: "الاثنان ... جماعة" فأراد في حكم الصلاة، وحكم انعقاد الجماعة، لأن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل على الأحكام، لا على بيان الحقائق3.

_ 1 سورة آل عمران من الآية "173" والمراد بلفظ "الناس" الأول: ركب عبد القيس، وبالثاني: أبو سفيان وقومه. 2 سورة الحجر من الآية "9". 3 ويؤيد ذلك رواية الإمام أحمد في المسند "5/ 254" عن أبي أمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي، فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه" فقام رجل يصلي معه فقال: "هذان جماعة".

وقولهم: "إنه جمع شيء إلى شيء". قلنا: الأسماء في اللغة لا يلزم فيها حكم الاشتقاق، على ما مضى.

فصل: في حكم العام الوارد على سبب خاص

فصل: [في حكم العام الوارد على سبب خاص] إذا ورد لفظ العموم على سبب خاص: لم يسقط عمومه1، كقوله

_ 1 وهو رأي جمهور العلماء، حتى اشتهر بين العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بد من تحرير محل النزاع في المسألة فنقول: العام الوارد على سبب خاص له صورتان. الصورة الأولى: أن تكون إجابة السائل غير مستقلة بنفسها، بحيث لا تفيد شيئًا إلا إذا اقترنت بالسؤال، وهذه تابعة للسؤال عمومًا بلا خلاف، وفي الخصوص- أيضًا- على أرجح الأقول. مثال العموم: ما لو سئل -صلى الله عليه وسلم- عمن جامع امرأته في نهار رمضان، فقال: "يعتق رقبة" فهذا عام في كل واطئ في نهار رمضان. ومثال الخصوص: ما لو قال: وطئت في نهار رمضان عامدًا، فيقول: "عليك الكفارة" فيجب قصر الحكم على السائل ما لم يدل دليل على العموم. الصورة الثانية: أن يكون الجواب مستقلًّا بنفسه بحيث لو جاء منفردًا لأفاد معنى. وتحت هذه الصورة ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الجواب مساويًا للسؤال عمومًا وخصوصًا، فهذا تابع للسؤال في العموم والخصوص. الحالة الثانية: أن يكون الجواب أخص من السؤال، كما لو سئل -صلى الله عليه وسلم- عن أحكام المياه عمومًا، فيقول: "ماء البحر طهور" فإنه يخص ماء البحر فقط. الحالة الثالثة: أن يكون الجواب أعم من السؤال. وتحته نوعان: النوع الأول: أن يكون أعم من السؤال في غير الحكم المسئول عنه، كما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن التوضؤ بماء البحر، فأجاب: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فقد أجاب =

-عليه السلام- حين سئل: أنتوضأ بماء البحر في حال الحاجة؟ قال: "هُو الطَّهُورُ مَاؤُه" 1. وقال مالك2، وبعض الشافعية3: يسقط عمومه:

_ = عن الميتة وهي ليست مسئولًا عنها، فهذا لا خلاف في عمومه. النوع الثاني: أن يكون أعم من السؤال بالنسبة للحكم المسئول عنه فقط، مثل ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- سئل عن ماء بئر بضاعة، وهي بئر تلقي فيها الحيض والنجاسات، فأجاب: "الماء طهور لا ينجسه شيء" فهذا النوع هو محل الخلاف. انظر: الإحكام للآمدي "2/ 318"، العدة "2/ 596 وما بعدها" إرشاد الفحول للشوكاني "1/ 480 وما بعدها". 1 أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته". كما أخرجه الترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، وابن ماجه: كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، والنسائي: كتاب الطهارة، باب ماء البحر.... كذلك أخرجه الدارقطني، والدارمي، ومالك في الموطأ، والشافعي، والبيهقي وغيرهم، من طريق أبي هريرة وغيره. انظر: تلخيص الحبير "1/ 9 وما بعدها" نصب الراية "1/ 96 وما بعدها" 2 الصحيح في النقل عن مالك أنه مع الجمهور، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قال صاحب مراقي السعود: ............................. ... ودع ضمير البعض والأسبابا قال الشيخ الشنقيطي في نثر الورود على مراقي السعود "1/ 309": "هذه أربع مسائل اختلف في التخصيص بهان والمعتمد عدم التخصيص...." ثم قال: الثانية: سبب النزول لا يخصص العام النازل فيه...." 3 كالمزني، صاحب الإمام الشافعي، والقفال، والدقاق. وقال إمام الحرمين: إنه =

إذ لو لم يكن للسبب تأثير لجاز إخراج السبب بالتخصيص من العموم. ولما نقله الراوي، لعدم فائدته. ولما أخر بيان الحكم إلى وقوع الواقعة. ولأنه جواب، والجواب يكون مطابقًا للسؤال. ولنا: أن الحجة في لفظ الشارع، لا في السبب، فيجب اعتباره بنفسه في خصوصه وعمومه1. ولذلك: لو كان أخص من السؤال: لم يجز تعميمه، لعموم السؤال. ولو سألت امرأة زوجها الطلاق، فقال: "كل نسائي طوالق" طلقن كلهن، لعموم لفظه، وإن خص السؤال. ولذلك: يجوز أن يكون الجواب معدولًا عن سَنَن السؤال2، فلو قال قائل: "أيحل أكل الخبز، والصيد، والصوم" فيجوز أن يقول: الأكل مندوب، والصوم واجب، والصيد حرام، فيكون جوابًا، وفيه: وجوب، وندب، وتحريم، والسؤال وقع عن الإباحة. وكيف ينكر هذا وأكثر أحكام الشرع نزلت على أسباب: كنزول آية

_ = الذي صح عندنا من مذهب الشافعي، وقد رد عليه العلماء وبينوا سبب هذا النقل عن الإمام الشافعي، وصححوا أنه يقول بالعموم. انظر: الإحكام للآمدي "2/ 218" المحصول "جـ1 ق3 ص189" والبحر المحيط للزركشي "3/ 204"، إرشاد الفحول "1/ 484" هامش. 1 أي: اعتبار لفظ الشارع. 2 سنن السؤال: بفتح السين والنون: أي: طريقة السؤال عمومًا وخصوصًا.

الظهار1 في أوس الصامت2، وآية اللعان3 في هلال بن أمية4 ونحو هذا

_ 1 وهي الآيات الأولى من سورة المجادلة. 2 هو الصحابي أوس بن الصامت بن قيس الأنصاري، أخو عبادة بن الصامت، شهد بدرًا وما بعدها، كان شاعرًا، مات أيام عثمان -رضي الله عنه- وعمره 85 عامًا، وقيل: توفي سنة "34هـ" وقيل: غير ذلك. انظر في ترجمته "الإصابة 1/ 85، أسد الغابة 1/ 172". وقصة مظاهرته من زوجته التي تسمى "خولة" وقيل: اسمها "جميلة" بنت عم له -روتها السيدة عائشة -رضي الله عنها- قالت: "تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية". أخرجه أحمد في مسنده "6/ 411" وأبو داود "1/ 513"، والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم. انظر، نيل الأوطار "6/ 294". "3" {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6-9] . 4 هو: هلال بن أمية بن عامر بن قيس الأنصاري الواقفي، أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وتاب الله عليهم، وهم: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهم الذين نزل في حقهم قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة 118] . انظر ترجمته في "الإصابة 3/ 606، أسد الغابة5/ 406". وكون آية اللعان نزلت في هلال، هو إحدى الروايتين، وقيل: نزلت في حق عويمر العجلاني. أخرج ذلك البخاري. كتاب التفسير، باب سورة النور، ومسلم في أول كتاب اللعان، وأبو داود: كتاب الطلاق، باب اللعان، وابن ماجه: كتاب الطلاق باب اللعان. كما أخرجها النسائي والترمذي وغيرهما. انظر: أسباب النزول للواحدي ص328 وما بعدها.

ولا يلزم من وجوب التعميم: جواز تخصيص السبب، فإنه لا خلاف في أنه بيان الواقعة، وإنما الخلاف: هل هو بيان لها خاصة، أم لها ولغيرها؟ فاللفظ يتناولها يقينًا، ويتناول غيرها ظنًّا، إذ لا يسأل عن شيء فيعدل عن بيانه إلى بيان غيره، إلا أن يجيب عن غيره بما ينبه على محل السؤال، كما قال لعمر، لما سأله عن القبلة للصائم: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟ " 1 ولهذا كان نقل الراوي للسبب مفيدًا، ليبين به تناول اللفظ له يقينًا، فيمتنع تخصيصه. وفيه فوائد أخر، من معرفة أسباب النزول، والسير، والتوسع في الشريعة. وقولهم: لم أخر بيان الحكم؟ قلنا: الله أعلم بفائدته في أي وقت يحصل {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَل} 2 ثم لعله أخره إلى وقت الواقعة، لوجوب البيان في تلك الحال، أو اللطف، ومصلحة للعباد داعية إلى الانقياد، لا تحصل بالتقديم ولا بالتأخير. ثم يلزم لهذه العلة: اختصاص الرجم بماعز، وغيره من الأحكام

_ 1 أخرجه أحمد في المسند "1/ 52"، وأبو داود: كتاب الصوم. باب القبلة للصائم، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارمي، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: هششت يومًا فقبلت وأنا صائم، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: صنعت اليوم أمرًا عظيمًا فقبلت وأنا صائم، فقال: "أرأيت لو تمضمت بماء ثم مججته وأنت صائم؟ " قلت: لا بأس، فقال: "ففيم" 2 سورة الأنبياء من الآية "23".

وقولهم: تجب المطابقة. قلنا: يجب أن يكون متناولًا له. أما أن يكون مطابقًا له، فكلا. بل لا يمتنع أن يسأل عن شيء، فيجب عنه وعن غيره، كما سئل عن الوضوء بماء البحر، فبين لهم حل ميتته1.

_ 1 وقد تقدم الكلام على الحديث الوارد في ذلك وخلاصة ما تقدم: أن المصنف أورد للجمهور دليلين على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: الدليل الأول: أن الحجة إنما هي في لفظ الشارع لا في خصوص السبب، ولذلك يقول الإمام الشافعي: ولا يصنع السبب شيئًا، إنما يصنعه الألفاظ. الدليل الثاني: أن أكثر أحكام الشرع واردة على أسباب خاصة، فلو جعلت خاصة بمن نزلت فيه للزم على ذلك تعطيل هذه الأحكام بالنسبة لغيرهم، وهذا غير صحيح. ثم رد على أدلة المخالفين على النحو التالي: قالوا: إنه لو لم يكن للسبب تأثير، لجاز إخراج السبب بالتخصيص. فرد عليهم المصنف بما خلاصته: أنه لا خلاف في أن الكلام بيان للواقعة، والخلاف إنما هو في شموله لغير صاحب السبب، فدلالة العام على السبب تعتبر دلالة نصية، ومقطوع بها، فلا يجوز إخراجه بالتخصيص، كما في إجابته -صلى الله عليه وسلم- عن القبلة للصائم. قالوا: لو لم يكن قاصرًا على السبب لما كان لذكره فائدة. فأجاب: بأنه لا وجه لجعل الفائدة: هي قصر العام على سببه، بل له فوائد كثيرة منها: 1- معرفة تاريخ تشريع الحكم، وفي ذلك فائدة تتعلق بمعرفة الناسخ والمنسوخ. 2- توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها، فيكثر ثواب المصنفين، كالمصنفين في أسباب النزول، وسعة المجال أمام المجتهدين. 3 التأسي بوقائع السلف وما جرى لهم من أحداث، فمن زنت زوجته وأراد =

.................................

_ = ملاعنتها، فإنه لا يجد غضاضة في ذلك، فيقول: قد لاعن من هو خير مني.... قالوا: لو لم يكن خاصًّا به فلم أخره إلى وقوع الحادثة؟ فأجاب عن ذلك: بأن تأخير بيان الحكم إلى وقوع السبب من متعلقات العلم الأزلي، ولا علة له، فهو سبحانه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} لأن ذلك يجرنا إلى نقض الأحكام المبتدأة، فيقال: لم فرضت الصلاة سنة كذا، دون ما قبلها وما بعدها؟ ومثل ذلك يقال في الصوم والحج وهكذا. ثم لعل في التأخير لطف ومصلحة للعباد، تدعو إلى الانقياد والطاعة، ولا يحصل ذلك بالتقديم أو التأخير. ثم أجاب عن قولهم: إن الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال، بأن هذا ليس بلازم، بل اللازم أن يكون الجواب متناولًا لمحل السؤال، لكن لا يمنع أن يزيد عليه، كما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن التوضؤ بماء البحر فأجاب عنه، وعن حل الميتة ولم تكن واردة في السؤال، حيث قال، صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وبذلك تتهاوى شبه المخالفين، ويثبت: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وقد لخص الإمام الطوفي في الحجة على أن العبرة بعموم اللفظ في وجهين. أحدهما: أن الحجة في لفظ الشارع لا في سببه، وإذا كان الأمر كذلك، وجب مراعاة اللفظ عمومًا وخصوصًا، كما لو ورد ابتداء على غير سبب، فلو سألت امرأة زوجها الطلاق، فقال: "كل نسائي طوالق" عمهن الطلاق مع خصوص السبب، ولو سأله جميع نسائه الطلاق، فقال: "فلانة طالق" اختص الطلاق بها، وإن عم السبب. الوجه الثاني: أن أكثر أحكام الشرع العامة وردت لأسباب خاصة، كورود حكم الظهار في أوس بن الصامت، وحكم اللعان في شأن هلال بن أمية، فلو كان السبب الخاص يقتضي اختصاص العام به، لما عمت هذه الأحكام، لكنه باطل بالإجماع". انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 503-504".

فصل: حكاية الفعل من الصحابي تقتضي العموم

فصل: [حكاية الفعل من الصحابي تقتضي العموم] قول الصحابي: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المزابنة"1 و"قضى بالشفعة فيما لم يقسم"2: يقتضي العموم3. وقال قوم: لا عموم له4؛ لأن الحجة في المحكي، لا في لفظ الحاكي.

_ 1 المزابنة: بيع الثمر بالثمر كيلًا وبيع الكرم بالزبيب كيلًا. أخرجه مالك في الموطأ "2/ 624" والبخاري: كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رءوس النخل حديث "2185" ومسلم: كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا حديث "1542" عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المزابنة. 2 حديث صحيح رواه البخاري: كتاب البيوع، باب بيع الأرض والدور مشاعًا غير مقسوم حديث "2214" ومسلم: كتاب المساقاة -باب الشفعة- حديث "1608" وأبو داود: كتاب البيوع، باب الشفعة، والترمذي: أبواب الأحكام، باب ما إذا حدت الحدود، والنسائي: كتاب البيوع، باب ذكر الشفعة وأحكامها، وأحمد في المسند "3/ 296، 316، 372، 399"، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة". 3 أي: يصح التمسك به في العموم في أمثال تلك القضية المحكية، نحو "نهى عن بيع الغرر"، و"حكم بالشاهد واليمين". وهو رأي الحنابلة، واختاره بعض المتكلمين: كالآمدي، والشوكاني وغيرهما. انظر: "الأحكام، 2/ 255ط والمحصول جـ1، ق2 ص647، وإرشاد الفحول "1/ 453 وما بعدها". 4 منهم: إمام الحرمين، والإمام فخر الدين الرازي، وأكثر الأصوليين.

والصحابي يحتمل أنه سمع لفظًا خاصًّا، أو يكون عمومًا، أو يكون فعلًا لا عموم له. وقضاؤه بالشفعة، لعله حكم في عين، أو بخطاب خاص مع شخص، فكيف يتمسك بعمومه؟ أم كيف يثبت العموم مع التعارض والشك1؟ ولنا: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- فإنه قد عرف عنهم الرجوع إلى هذا اللفظ في عموم الصور. كرجوع ابن عمر إلى حديث رافع: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المخابرة"2، واحتجاجهم بهذا اللفظ، نحو: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، وبيع الثمر حتى يبدو صلاحه، والمنابذة"3 وسائر المناهي. وكذلك أوامره، وأقضيته، ورخصه، مثل: "وأَرْخَصَ في السَّلَمِ"4

_ 1 خلاصة دليل القائلين بعدم العموم: أن الحجة إنما هي في المحكى لا في لفظ الحاكي، والمحكي عبارة عن قضايا وأحكام وقعت من النبي -صلى الله عليه وسلم- في محال معينة، فحكاها الرواة عنه، فلا عموم في لفظها، ولا في معناها، فلا تقتضي العموم، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: أن الحكم في هذه القضايا يحتمل أنه كان خاصًّا بشخص معين، فوهم الراوي وظن أنه عام، ومع وجود هذه الاحتمالات لا يكون اللفظ عامًّا. وقد أجاب عنه المصنف بقوله -فيما بعد- بقوله: "ولنا". 2 تقدم تخريجه 3 سبق تخريج ذلك. 4 روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث، فقال، صلى الله عليه وسلم: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم، وزن معلوم، إلى أجل معلوم". أخرجه البخاري في السلم: السلم في النخل حديث "2249، 2250" ومسلم في =

و "وضع الجوائح"1. وقد اشتهر هذا عنهم في وقائع كثيرة، مما يدل على اتفاقهم على الرجوع إلى هذه الألفاظ. واتفاق السلف على نقل هذه الألفاظ دليل على اتفاقهم على العمل بها، إذ لو لم يكن كذلك: لكان اللفظ مجملًا. ثم لو كانت القضية في شخص واحد: وجب التعميم، لما ذكرناه في المسألة الأخرى2.

_ = المساقاة: السلم، حديث "1604" كما أخرجه أصحاب الكتب الستة "جامع الأصول 2/ 17" والسلم والسلف بمعنى واحد، إلا أن السلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق. 1 الجوائح: هي الآفات التي تصيب الثمار فتهلكها. عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل ذلك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " رواه مسلم. انظر: سبل السلام "3/ 48". 2 وهي مسألة: العام الوارد على سبب خاص، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

فصل: الخطاب المضاف إلى الناس والمؤمنين يعم العبيد والنساء

فصل: [الخطاب المضاف إلى الناس والمؤمنين يعم العبيد والنساء] وما ورد من خطاب مضافًا إلى "الناس" و"المؤمنين"1 دخل فيه العبد، لأنه من جملة من يتناوله اللفظ.

_ 1 ومثل ذلك: الأمة والمكلفين، وما أشبه ذلك.

وخروجه عن بعض التكاليف1 لا يوجب رفع العموم فيه، كالمريض، والمسافر، والحائض. ويدخل النساء في الجمع المضاف إلى "الناس" وما لا يتبين فيه لفظ التذكير والتأنيث، كأدوات الشرط2. ولا يدخلن فيما يختص بالذكور من الأسماء، كالرجال والذكور. فأما الجمع بالواو والنون، كالمسلمين، وضمير المذكرين، كقوله، تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} 3 فاختار القاضي أنهن يدخلن فيه4. وهو قول بعض الحنفية وابن داود5. واختار أبو الخطاب والأكثرون: أنهن لا يدخلن فيه، لأن الله -تعالى- ذكر "المسلمات"6 بلفظ متميز، فيما يثبته ابتداء، ويخصه بلفظ "المسلمين" لا يدخلن فيه إلا بدليل آخر، من قياس، أو كونه في معنى المنصوص، وما يجري مجراه7.

_ 1 كعدم وجوب الحج، والجهاد، والجمعة، وغير ذلك لا يخرجه عن هذا العموم؛ لأنها أمور عارضة، كالمرض والسفر، والحيض. 2 مثل: "من دخل دارك فأكرمه" فإنه يتناول النساء. 3 سورة الأعراف من الآية "31". 4 انظر: العدة: 2/ 351". 5 هو: محمد بن داود بن خلف الظاهري. تقدمت ترجمته. 6 قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات....} [الأحزاب: 35] . 7 خلاصة الخلاف في هذه المسألة: أن ما اختص بالرجال، كالرجال، والذكور والفتيان، والكهول، والشيوخ لا يتناول النساء باتفاق الجميع. وما يختص بالنساء، كلفظ النساء، والفتيات، والعجائز لا يتناول الرجال باتفاق أيضًا. =

ولنا: أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث، غلب التذكير. ولذلك: لو قال، لمن بحضرته من الرجال والنساء: "قوموا واقعدوا" يتناول جميعهم. ولو قال: قوموا، وقمن، واقعدوا، واقعدن: عُدَّ تطويلًا ولكنه1. ويبينه قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} 2، وكان ذلك خطابًا لآدم وزجته والشيطان. وأكثر خطاب الله -تعالى- في القرآن بلفظ التذكير، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 3 و {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} 4، و {هُدىً لِلْمُتَّقِين} 5، {وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين} 6، {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِين} 7 والنساء يدخلن في جملته. وذكره لهن بلفظ مفرد -تبيينًا وإيضاحًا- لا يمنع دخولهن في اللفظ

_ = وما يعم الذكور والإناث مثل: الناس، والبشر، والإنسان، إذا أريد به النوع أو الشخص، وولد آدم وذريته، وكذلك أدوات الشرط، فإن ذلك كله يدخل فيه النساء. أما جمع المذكر السالم، وضمير الجمع المتصل بالفعل، مثل: المسلمين، "وكلوا واشربوا" وقاموا وقعدوا، ويأكلون ويشربون، فهذا هو محل النزاع انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 514 وما بعدها". 1 اللكنة: العيّ وثقل اللسان. 2 سورة البقرة من الآية "36". 3 آيات كثيرة وردت بهذا اللفظ، منها: البقرة "104"، "153"، "172". 4 سورة الزمر من الآية "53". 5 سورة البقرة من الآية "2". 6 سورة البقرة "97" والنمل "2". 7 سورة الحج من الآية "34".

العام الصالح لهن، كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال} 1 وهما من الملائكة. وقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} 2 وقد يعطف العام على الخاص، كقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} 3 والمال عام في الكل.

_ 1 سورة البقرة من الآية "98" وهو من عطف الخاص على العام. 2 سورة الرحمن آية "68" وهو من عطف الخاص على العام أيضًا. 3 سورة الأحزاب من الآية "27". وقد اعترض الطوفي على دخول النساء في الصيغ المذكورة بأصل وضع اللغة، ورجح أنها بقرائن تدل على ذلك فقال: "لا نسلم أن تناول الصيغ المذكورة للنساء في الوجوه التي ذكرتموها بأصل الوضع، بل بقرائن، لشرف الذكورية في الوجه الأول والثالث، ويسمى: التغليب، وهو أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث، غلب المذكر في الخطاب، لشرف الذكورية، كما غلب القمر على الشمس في قولهم: القمران، لشرف الذكورية وخفتها، فالتغليب يقع في اللغة لمعان: منها: شرف الذكورية، ومنها: خفة اللفظ، كتغليب "عمر" على "أبي بكر" -رضي الله عنهما- في قولهم: "العمران" لخفة الإفراد، وكذلك لو قال: يا عبادي وإمائي الذين آمنوا، ويا أيها الذين آمنوا واللاتي آمنّ، وقوموا وقمن كان عيًّا في عرف اللغة، فلقرينة لزوم العي من إفرادهن بالذكر حكمنا بدخولهن في الخطاب المذكور، لا بوضع اللغة. وكذلك في قوله: أوصيت لهم، إنما تناول النساء بقرينة الإيصاء الأول فإنه لما صرح بالوصية لهن فيه، ثم قال: أوصيت لهم، دل على أنه أراد جميع من أوصى له أولًا". شرح مختصر الروضة "2/ 522-523".

فصل: العام بعد التخصيص حجة

فصل: [العام بعد التخصيص حجة] العام إذا دخله التخصيص يبقى حجة فيما لم يخص عند الجمهور. وقال أبو ثور1 وعيسى بن أبان2: لا يبقى حجة3؛ لأنه يصير مجازًا، فقد خرج الوضع من أيدينا، ولا قرينة تفصل وتحصر، فيبقى مجملًا.

_ 1 هو: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان، أبو ثور البغدادي الكلبي، كان إمامًا جليلًا، وفقيهًا ورعًا، كان من أصحاب الرأي، ثم لما حضر الشافعي إلى بغداد حضر عليه ورجع إلى أهل الحديث، وهو الذي نقل الأقوال القديمة عن الشافعي. توفي ببغداد سنة "240هـ" انظر: وفيات الأعيان "1/ 7" طبقات الفقهاء ص110، طبقات الشافعية الكبرى "2/ 74". 2 هو: عيسى بن إبان بن صدقة، أبو موسى، الفقيه الحنفي، كان من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي، وتفقه على محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة- تولى قضاء العسكر، ثم البصرة، قال عنه هلال بن أمية: "ما في الإسلام قاض أفقه منه". من مؤلفاته: "خبر الواحد" و"إثبات القياس" و"اجتهاد الرأي". توفي بالبصرة سنة "221هـ" "الفوائد البهية ص151، طبقات الفقهاء ص137". 3 حكى المصنف في المسألة مذهبين، وفيها مذاهب أخرى حكاها الطوفي في شرحه "2/ 526" بالتفصيل فقال: "وفي المسألة مذاهب": أحدها: أن العام بعد التخصيص حجة مطلقًا، وهو مذهب غالب الفقهاء. والثاني: ليس بحجة مطلقًا، وهو مذهب أبي ثور، وعيسى بن أبان. والثالث: أنه إن خص بدليل متصل كالاستثناء والشرط، فهو حجة، وإن خص بدليل منفصل لم يبق حجة، وهو مذهب البلخي. والرابع: إن كان العام قبل التخصيص ممكن الامتثال دون بيان، فهو حجة بعد التخصيص، وإلا فلا. وهو قول القاضي عبد الجبار

ولنا: تمسك الصحابة -رضي الله عنهم- بالعمومات1، وما من عموم: إلا وقد تطرق إليه التخصيص -إلا اليسير- كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 2، و {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3 فعلى قولهم4، لا يجوز التمسك بعمومات القرآن أصلًا. ولأن لفظ "السارق" يتناول كل سارق بالوضع، فالمخصص صرف دلالته عن البعض، فلا تسقط دلالته عن الباقي، كالاستثناء. وقولهم: "يصير مجازًا" ممنوع5. وإن سلم: فالمجاز دليل إذا كان معروفًا، لأنه يعرف منه المراد، فهو كالحقيقة.

_ = والخامس: أنه يكون حجة في أقل الجمع، لا فيما زاد عليه، وهو مذهب قوم من الأصوليين، وفيه عرف ذلك. 1 مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ....} [النساء:11] فإنه خص منه الكافر والقاتل. 2 سورة هود من الآية "6". 3 سورة الأنفال من الآية "75" ولفظ البقرة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} من الآية "231". وقد أورد المصنف هاتين الآيتين مثالًا على العام الذي لم يدخله التخصيص. 4 أي: أنه ليس بحجة. 5 بين الطوفي وجه المنع فقال: "لا نسلم أن العام بعد التخصيص مجاز، بل هو حقيقة مستعمل في موضوعه أولًا، وذلك لأن اللفظ العام وإن كان واحدًا، لكنه في تقدير ألفاظ متعددة مطابقة لأفراد مدلوله في العدد. مثاله: إذا قال: أكرم الرجال، وفرضنا أن جنس الرجال عشرون، فلفظ الرجال في تقدير عشرين لفظًا يدل كل لفظ منها على رجل من العشرين، فكأنه قال: أكرم زيدًا وعمرًا وبكرًا وخالدًا وجعفرًا وبشرًا ... كذلك حتى سمى العشرين، فإذا قال، بعد ذلك: لا تكرم زيدًا، صار زيد مخصوصًا من =

وقولهم: "لا قرينة تفصل". قلنا: ليس كذلك، فإنا إنما نجعل اللفظ مجازًا بدليل التخصيص، فيختص الحكم به، دون ما عداه.

فصل: العام بعد التخصيص حقيقة

فصل: [العام بعد التخصيص حقيقة] واختار القاضي1 أنه حقيقة بعد التخصيص، وهو قول أصحاب الشافعي2.

_ = العشرين، وسقط لفظ اسمه المطابق لمسماه تقديرًا، وهو معنى قولنا: "فسقط منها بالتخصيص". أي: من الألفاظ التقديرية، طبق ما خص من المعنى، وهو لفظ زيد المطابق لمعناه في هذه الصورة، فيبقى معنا تسعة عشر شخصًا من الرجال، وتسعة عشر لفظًا تقديرية، هي أسماؤهم، وتسعة عشر اسمًا تطابق في العدد تسعة عشر شخصًا مسمى.... ثم قال: وإذا ثبت أن لفظ العام بعد التخصيص مطابق لمدلوله في التقدير، فهو مستعمل فيما وضع له تقديرًا، فلا يكون مستعملًا في غير موضوعه...." شرح المختصر "2/ 531-532". ثم بين المصنف أنه إن سلم أنه مجاز، فإن المجاز يعمل به إذا كان مشهورًا حتى ولو لم توجد قرينة، مثل قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ.....} [النساء: 43 والمائدة:6] فإنه وإن كان مجازًا، إلا أنه معروف ومشهور لدى العامة والخاصة. ثم ختم كلامه بأن دعواكم عدم وجود قرينة غير مسلم، فإن اللفظ لم يجعل مجازًا -على زعمكم- إلا بدليل التخصيص، وهو قرينة على المجاز. 1 أبو يعلى: انظر: العدة "2/ 533". 2 قال الآمدي: هو مذهب الحنابلة وبعض أصحاب الشافعي. انظر: الإحكام "2/ 227".

وقال قوم: يصير مجازًا على كل حال1؛ لأنه وضع للعموم، فإذا أريد به غير ما وضع له كان مجازًا2. وإن لم يكن هذا هو المجاز فلا يبقى للمجاز معنى إذًا، ولا خلاف في أنه لو رد إلى ما دون أقل الجمع فقال: "لا تكلم الناس" وأراد "زيدًا" وحده كان مجازًا، وإن كان هو داخلًا فيه. وقال آخرون3: إن خص بدليل منفصل4 صار مجازًا، لما ذكرناه5، وإن خص بلفظ متصل6 فليس بمجاز، بل يصير الكلام بالزيادة كلامًا آخر، موضوعًا لشيء آخر، فإنا نقول: "مسلم" فيدل على واحد، ثم نزيد الواو والنون، فيدل على أمر زائد، ولا نجعله مجازًا، ثم نزيد الألف والنون في "رجل" فيصير صيغة أخرى بالزيادة. ولا فرق بين زيادة كلمة، أو زيادة حرف، فإذا قال: "السارق للنصاب يقطع" أو "يقطع السارق، إلا سارق دون النصاب" فلا مجاز فيه، بل مجموع هذا الكلام موضوع للدلالة على ما دل عليه، فقوله تعالى:

_ 1 وهو مذهب الغزالي وجماعة من أصحاب الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة كما في الإحكام للآمدي. 2 قال أبو الخطاب في التمهيد "2/ 139": "ووجه من ذهب إلى أنه يصير مجازًا: أن حد المجاز: استعمال الشيء في غير ما وضع له، ولفظ العموم يقتضي الاستغراق في أصل الوضع، فإذا استعمل في البعض صار مستعملًا في غير ما وضع له فصار مجازًا". 3 وهو مروي عن القاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة من الأصوليين. 4 كالعقل والنقل. 5 في قوله سابقًا: "لأنه وضع للعموم، فإذا أريد به غير ما وضع له كان مجازًا" 6 كالشرط والاستثناء.

{أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 1 دل على تسعمائة وخمسين وضعًا، فكأن العرب وضعت لذلك عبارتين ويمكن أن يقال: ما صار بالوضع عبارة عن هذا القدر، بل بقي الألف للألف، والخمسون للخمسين، و"إلا" للرفع بعد الإثبات، فإذا رفعنا من الألف خمسين بقي تسعمائة وخمسون. أما زيادة الواو والنون: فلا معنى لها في نفسها، بخلاف هذا. ووجه قول القاضي: أن القرينة المنفصلة من الشرع كالقرينة المتصلة؛ لأن كلام الشارع يجب بناء بعضه على بعض، فهو كالاستثناء، وقد تبين الكلام فيه.

_ 1 سورة العنكبوت من الآية "14" وتمام الآية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} .

فصل: فيما ينتهي إليه التخصيص

فصل: [فيما ينتهي إليه التخصيص] ويجوز تخصيص العموم على أن يبقى واحد1. وقال الرازي2 والقفال3 والغزالي: لا يجوز النقصان من أقل

_ 1 وهو مذهب أكثر الحنابلة، والمختار عند الحنفية، وهو قول مالك وبعض الشافعية. انظر: العدة "2/ 544" الإحكام للآمدي "2/ 283"، شرح تنقيح الفصول ص224، فتح الغفار "1/ 108". 2 تقدمت ترجمته. 3 هو: محمد بن إسماعيل، أبو بكر، القفال الكبير، الشاشي موطنًا، شافعي المذهب فقيه أصولي، متكلم، مفسر، محدث، له مؤلفات كثيرة، منها: =

الجمع؛ لأنه يخرج به عن الحقيقة1. ولنا: أن القرينة المتصلة كالقرينة المنفصلة وفي القرينة المتصلة يجوز ذلك، فكذلك في المنفصلة2.

_ = شرح الرسالة" للإمام الشافعي، "كتاب في أصول الفقه". توفي سنة "365هـ". انظر: طبقات الشافعية الكبرى "3/ 200"، النجوم الزاهرة "2/ 111". والمنقول عن القفال -كما في الإحكام للآمدي "2/ 283"- أنه يجوز التخصيص إلى أن ينتهى إلى أقل المراتب التي ينطلق عليها ذلك اللفظ المخصوص، مراعاة لمدلول الصيغة، فإن كان جمعًا فيجوز تخصيصه إلى ثلاثة، وإن كان غير الجمع مثل "من" و"ما" فيجوز تخصيصها إلى الواحد. 1 وفي المسألة مذاهب أخرى كثيرة تراجع في: العدة "2/ 544"، المعتمد "1/ 253"، شرح الكوكب المنير "3/ 271 وما بعدها". 2 معنى كلامه: أن القرينة المتصلة كالاستثناء المتصل والشرط والصفة والغاية يجوز التخصيص بها إلى أن يبقى واحد، فكذلك القرينة المنفصلة، إذ لا فارق بينهما. وهذا لا يصلح أن يكون حجة على الجواز -كما يقول الجمهور- لأن المانعين يمنعون التخصيص إلى واحد، سواء أكان ذلك في القرينة المتصلة أم في المنفصلة، فلا يصح الاحتجاج به. والجواب الصحيح ما ذكره الطوفي في شرحه "2/ 548" حيث قال: "التخصيص بيان أن بعض العام غير مراد بالحكم، والبعض المخصوص أعم من أن يكون أقل العموم أو أكثره أو نصفه، فما عدا الواحد يصدق عليه اسم البعض، فيجوز بيان أنه غير مراد، وهو المطلوب". أو أن يقال: "إن التخصيص تابع للمخصص، والعام متناول للواحد، ويلزم من ذلك جواز التخصيص إليه".

فصل: الخطاب العام يتناول من صدر منه

فصل: [الخطاب العام يتناول من صدر منه] والمخاطب يدخل تحت الخطاب بالعام1. وقال قوم: لا يدخل2، بدليل قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 3. ولو قال قائل لغلامه: "من دخل الدار فأعطه درهمًا" لم يدخل في ذلك. وهذا فاسد4؛ لأن اللفظ عام، والقرينة هي التي أخرجت المخاطب فيما ذكروه. ويعارضه قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 5، ومجرد كونه مخاطبًا ليس بقرينة قاضية بالخروج عن العموم، والأصل اتباع العموم. واختار أبو الخطاب: أن الآمر لا يدخل في الأمر؛ لأن الأمر استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه، وليس يتصور كون الإنسان دون نفسه، فلم توجد حقيقته6.

_ 1 معناه: أن المتكلم بكلام عام يدخل تحت عموم كلامه مطلقًا، سواء أكان أمرًا أم غيره، مثل قوله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من قال: لَا إِلَه إِلَّا اللهُ خالصًا من قلبه دَخَلَ الجَنَّةَ". وهو مذهب أكثر الجنابلة وبعض الشافعية. 2 نقل ذلك العطار في حاشيته على شرح جمع الجوامع "1/ 429" عن الإمام النووي في الروضة، وقال: لا يدخل إلا بقرينة وهو الأصح عند أصحابنا. 3 سورة الرعد من الآية16 والزمر الآية "62" {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} . 4 هذا رد من المصنف على استدلال أصحاب المذهب الثاني. 5 سورة البقرة من الآية "29". 6 انظر: التمهيد "1/ 272".

ولأن مقصود الآمر: الامتثال، وهذا لا يكون إلا من الغير. وقال القاضي: يدخل النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فيما أمر به. ويمكن أن تنبني هذه المسألة على أن ما ثبت في حق الأمة من حكم، شاركهم النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في ذلك الحكم2. ولذلك لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، ثم لم يفعل، سألوه عن ترك الفسخ، فبين لهم عذره3. وقد عاب الله -تعالى- الذين يأمرون بالبر وينسون أنفسهم4. وقال -في حق شعيب- عليه السلام: {....وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} 5. وفي الأثر: "إذا أمرت بمعروف فكن من آخذ الناس به، وإذا نهيت عن منكر فكن من أترك الناس له، وإلا هلكت"6.

_ 1 وقد أومأ الإمام أحمد إلى اختيار هذا الرأي، ونقل عنه رواية أخرى أنه لا يدخل إلا بدليل. انظر: العدة "1/ 339" وشرح الكوكب المنير "3/ 252 وما بعدها". 2 في فصل: إذا أمر الله -تعالى- نبيه -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- بلفظ ليس فيه تخصيص. 3 وذلك في قوله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لو استقبلت من أمري ما أستدبرت لجعلتها عمرة، ولحللت كما تحلون". أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدى، من حديث جابر -رضي الله عنه- ومسلم: كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، كما أخرجه أبو داود، والطيالسي، والشافعي وغيرهم. انظر: تلخيص الحبير "2/ 231". 4 مثل قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] 5 سورة هود من الآية "88". 6 هذا الأثر منقول عن الحسن البصري التابعي الزاهد المشهور المتوفى سنة "110هـ". =

فصل: العام يجب اعتقاد عمومه في الحال

فصل: [العام يجب اعتقاد عمومه في الحال] اللفظ العام يجب اعتقاد عمومه في الحال1، في قول أبي بكر2، والقاضي3. وقال أبو الخطاب: لا يجب حتى يبحث فلا يجد ما يخصصه 4. قال 5: وقد أومأ إليه6 في رواية صالح7 وأبي الحارث8.

_ = والأثر المذكور أخرجه عنه الإمام أحمد في المسند "1/ 360". 1 كما يجب العمل به قبل البحث عن المخصص. 2 هو: عبد العزيز بن جعفر، المعروف بـ"غلام الخلال" تقدمت ترجمته 3 أبو يعلى كما في العدة "2/ 525". 4 انظر: التمهيد "2/ 65، 66". 5 أي: أبو الخطاب 6 أي: الإمام أحمد. 7 هو: صالح بن أحمد بن حنبل الشيباني، أبو الفضل، أكبر أولاد الإمام أحمد، أخذ عن والده وعن كثير من علماء عصره، كان كريمًا فاضلًا، صدوقًا ثقة، تولى القضاء بطرسوس ثم بأصبهان. ولد سنة "203هـ" وتوفي بأصبهان سنة "266هـ". انظر في ترجمته: طبقات الحنابلة "1/ 173-176" والإنصاف "12/ 286". 8 هو: إبراهيم بن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن الصامت، من أهل طرسوس، ومن كبار أصحاب الإمام أحمد، ومن المكرمين عنده، نقل عن الإمام أحمد كثيرًا من المسائل. انظر في ترجمته: طبقات الحنابلة "1/ 94"، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي "1/ 42".

وقال القاضي: فيه روايتان1. وعن الحنفية: كقول أبي بكر2 وعنهم: أنه إن سمع من النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- على طريق تعليم الحكم، فالواجب اعتقاد عمومه، وإن سمعه من غيره فلا3. وعن الشافعية كالمذهبين4 قالوا5: لأن لفظ العموم يفيد الاستغراق مشروطًا بعدم المخصص، ونحن لا نعلم عدم إلا بعد أن نطلب فلا نجد، ومتى لم يوجد الشرط لا يوجد المشروط. وكذلك كل دليل أمكن أن يعارضه دليل، فهو دليل بشرط سلامته عن المعارض، فلا بد من معرفة الشرط، والجمع بين الأصل والفرع بعلة مشروط بعدم الفرق، فلا بد من معرفة عدمه6. ثم اختلفوا إلى متى يجب البحث؟

_ 1 انظر: العدة "2/ 525". 2 أي: يجب اعتقاد عمومه والعمل به قبل البحث عن المخصص. 3 وهذه رواية أخرى عن الحنفية. يراجع: كشف الأسرار "1/ 291". 4 أي: أن البعض يرى اعتقاد العموم والعمل به قبل البحث عن المخصص، والبعض يرى وجوب البحث عن المخصص. 5 أي: القائلون بوجوب البحث قبل العمل بالعام. وقد استدلوا على ذلك بدليلين: أحدهما: أن شرط العمل بالعام عدم المخصص، وشرط العلم بالعدم الطلب، كما في طلب الماء لجواز التيمم، فلا يجوز العمل بالعام إلا بعد البحث عن المخصص. ثانيهما: أن العمل بالدليل مشروط بعدم معارضته بدليل آخر، والعام مع المخصص متعارضان، فلا بد من معرفة عدمه أولًا حتى يعمل بالعام. 6 خلاصة ذلك: أن المصنف استدل لمذهب القائلين بعدم وجوب البحث بدليلين: =

فقال قومه: يكفيه أن يحصل غلبة الظن بالانتفاء، عند الاستقصاء في البحث، كالباحث عن المتاع في البيت، إذا لم يجده: غلب على ظنه انتفاؤه. وقال آخرون: لا بد من اعتقاد جازم، وسكون نفس، بأنه لا مخصص، فيجوز الحكم حينئذ. أما إذا كان تشعر نفسه بدليل شذ عنه، وتخيل في صدره إمكانه، فكيف يحكم بدليل يجوز أن يكون الحكم به حرامًا؟! ولنا: أن اللفظ موضوع للعموم، فوجب اعتقاد موضوعه، كأسماء الحقائق، والأمر والنهي. ولأن اللفظ عام في الأعيان والأزمان، ثم يجب اعتقاد عمومه في الزمان، ما لم يرد نسخ، كذلك في الأعيان. وقولهم1: "إن دلالته مشروطة بعدم القرينة".

_ أحدهما: أن اللفظ موضوع للعموم، والأصل عدم المخصص، فيستصحب ذلك حتى يظهر ما يخالفه. ثانيهما: أن تخصيص العام تخصيص في الأعيان، أي: في الأفراد، والنسخ: تخصيص في الأزمان، واعتقاد عموم اللفظ في النسخ واجب حتى يظهر الناسخ، فكذلك يجب اعتقاد عمومه في الأعيان. حتى يظهر المخصص. ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ....} [المائدة:3] فإنه يقتضي دوام التحريم في جميع زمن التكليف، وهو العموم الزمني، مع احتمال رفعه في بعض الأزمنه بالنسخ، كما يقتضي تعلق التحريم بكل فرد من أفراد العموم العيني، مع احتمال أنه يسقط عن بعض الأعيان، كالسمك والجراد. انظر توضيح ذلك في شرح الطوفي "2/ 544". 1 بدأ المصنف يناقش أدلة أصحاب المذهب الثاني، وهم القائلون بعدم اعتقاد العموم.

قلنا: لا نسلم، وإنما القرينة مانعة من حمل اللفظ على موضوعه، فهو كالنسخ، يمنع استمرار الحكم. والتأويل يمنع حمل الكلام على حقيقته. واحتمال وجوده لا يمنع من اعتقاد الحقيقة. ولأن التوقف يفضي إلى ترك العمل بالدليل؛ فإن الأصول غير محصورة، ويجوز أن لا يجد اليوم، ويجده بعد اليوم، فيجب التوقف أبدًا، وذلك غير جائز، والله أعلم. فصل في الأدلة التي يخص بها العموم لا نعلم اختلافًا في جواز تخصيص العموم1. وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2 و {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} 3 و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} 4؟

_ 1 التخصيص: بيان أن بعض مدلول اللفظ غير مراد بالحكم، ولذلك قال المصنف: لا نعلم اختلافًا في جواز تخصيص العموم، لأنه لا خلاف بين العلماء في أن البيان مطلوب. 2 سورة الزمر من الآية "62" فقد خص من العموم في هذه الآية، ذات الله تعالى، وصفاته، فليست مخلوقة. 3 سورة القصص من الآية "57" قال الفتوحي: "ونعلم أن ما في اقصى المشرق والمغرب لم تجب إليه ثمراته" شرح الكوكب المنير "3/ 278". 4 سورة الأحقاف من الآية "25" والعموم الذي في الآية الكريمة مخصوص بأشياء لم تدمرها الريح، كالسموات والأرض. وقد اعترض الطوفي على الاستدلال بهذه الآية وبين أنها من قبيل الخاص الذي =

وقد ذكرنا أن أكثر العمومات مخصصة1. وأدلة التخصيص تسعة2: الأول: دليل الحس3. وبه خصص قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 4 خرج منه السماء والأرض وأمور كثيرة بالحس5.

_ = أريد به الخاص فقال: "هذه الآية يحتج بها الأصوليون على إطلاق العام وإرادة الخاص، ولا حجة فيها؛ لأنها جاءت في موضع آخر مقيدة بما يمنع الاستدلال بها على ذلك، وهو قوله، عز وجل: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41-42] ، والقصة واحدة، فدل على أن قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء} مقيد بما أتت عليه، كأنه -سبحانه- قال: تدمر كل شيء أتت عليه، وحينئذ يكون التدمير مختصًّا بذلك، فتكون الآية خاصة أريد بها الخاص، فلا يصح الاحتجاج بها على ما يذكرون" شرح الطوفي "2/ 551-552". 1 في فصل: العام إذا دخله التخصيص يبقى حجة فيما لم يخص. 2 المخصص ينقسم إلى قسمين: منفصل ومتصل. فالمنفصل: هو ما يستقل بنفسه، ولم يكن مرتبطًا بكلام آخر ويشمل: الحس، والعقل، والإجماع، والقياس، والمفهوم، سواء أكان مفهوم موافقة أم مفهوم مخالفة، والعرف المقارن للخطاب، ولم يذكره المصنف، والنص من الكتاب أو السنة، وزاد المصنف -على ما ذكره جمهور الأصوليين- قول الصحابي، عند من يراه حجه. والمخصص المتصل: ما لا يستقل بنفسه، ويشمل: الاستثناء، والشرط، والصفة، والغاية، وبدل البعض. 3 وهو الدليل المأخوذ من إحدى الحواس الخمسة المعروفة. 4 سورة الأحقاف من الآية "25" وسبق ما أورده الطوفي على الاستدلال بها. 5 كالجبال مثلًا

الثاني: دليل العقل. وبه خصص قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 1 لدلالة العقل على استحالة تكليف من لا يفهم. فإن قيل: العقل سابق على أدلة السمع، والمخصص ينبغي أن يتأخر؛ لأن التخصيص: إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ، وخلاف المعقول لا يمكن تناول اللفظ له. قلنا: نحن نريد بالتخصيص: الدليل المعرّف إرادة المتكلم، وأنه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى خاصًّا، والعقل يدل على ذلك، وإن كان متقدمًا2. فإن قلتم: لا يسمى ذلك تخصيصًا، فهو نزاع في عبارة 3. وقولهم: "لا يتناوله اللفظ".

_ 1 سورة آل عمران من الآية "97" ومثل ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16 والزمر: 62] فإن العقل قاض بالضرورة أنه -سبحانه- لم يخلق نفسه. والعلماء يمثلون بالآيتين، ويجعلون الآية الأولى من قبيل دليل العقل النظري، والثاني من الضروري. 2 معناه: أن العقل ينظر إليه من جهتين: الأولى من حيث وجوده، وهذا لا خلاف فيه، والثانية من حيث كونه مبينًا للعام، وهذا هو المقصود، فالعقل متقدم من حيث الوجود، ومتأخر من حيث التخصيص. انظر: شرح الطوفي "2/ 554". 3 لأن تسمية الأدلة مخصصة تجوز، وقد علم أن تخصيص العام محال، لكن الدليل يعرف إرادة المتكلم، وأنه أراد باللفظ الموضوع للعموم، معنى خاصًّا، ودليل العقل يجوز أن يبين لنا أن الله -تعالى- ما أراد بقوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْء} نفسه وذاته، فإنه وإن تقدم دليل العقل، فهو موجود -أيضًا- عند نزول اللفظ، وإنما يسمى مخصصًا بعد نزول الآية لا قبلها. انظر: شرح الطوفي "2/ 554"، ونزهة الخاطر العاطر "2/ 160، 161".

قلنا: يتناوله من حيث اللسان لكن لما وجب الصدق في كلام الله -تعالى- تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة، مع شمول اللفظ له وضعًا1. الثالث: الإجماع2. فإن الإجماع قاطع، والعام يتطرق إليه الاحتمال. وإجماعهم على الحكم في بعض صور العام على خلاف موجب العموم: لا يكون إلا عن دليل قاطع بلغهم في نسخ اللفظ، إن كان أريد به العموم، أو عدم دخوله تحت الإرادة عند ذكر العموم3.

_ 1 معناه: أن قولهم: "لا يجوز دخوله تحت اللفظ" ممنوع، بل يدخل تحت اللفظ من حيث اللغة، ولكن يكون قائله كاذبًا، ولما وجب الصدق في كلام الله -تعالى- تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة، مع شمول اللفظ له من حيث الوضع اللغوي. انظر: المرجعين السابقين. 2 التخصيص بالإجماع: رأي جمهور العلماء، ومرادهم بذلك: دليل الإجماع، لا أن الإجماع نفسه مخصص؛ لأن الإجماع لا بد له من دليل يستند إليه، وإن لم نعرفه. وذهب بعض العلماء إلى عدم التخصيص بالإجماع. انظر: المحصول جـ1 ق3 ص124، العدة "2/ 578" شرح الكوكب المنير "3/ 369". 3 خلاصته: أن الإجماع دليل قطعي، ودلالة العام على أفراده ظنية، والقطعي مقدم على الظني. فإذا أجمع المجتهدون على حكم شرعي يخالف موجب اللفظ العام، دل ذلك على أن هناك دليلًا استندوا إليه وإن لم نعرفه، كما يدل أن هناك ناسخًا، فالتخصيص والنسخ راجعان إلى ذلك المستند، فإذا رأينا الإجماع منعقدًا على العمل في بعض الصور على خلاف العام، علمنا أن هناك نصًّا دل على ذلك العمل. ومن أمثلة ذلك: أن الدليل العام دل على أن المعارضات لا بد فيها من عوض معلوم، ثم رأينا الناس مجمعين على دخول الحمامات، وركوب السفن، =

الرابع: النص الخاص يخصص اللفظ العام: فقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَا قَطْعَ إِلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ" 1 خصص عموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2. وقوله عليه السلام: "لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ" 3 خصص عموم قوله: "فِيما سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" 4.

_ = والجلوس في النوادي بغير تعيين عوض، لأن الناس يختلفون في مقدار المدة التي يمكثونها، ومقدار الماء الذي يستخدمونه فاستدللنا بذلك الإجماع على أن هنالك دليلًا مخصصًا للعام. انظر: شرح الطوفي "2/ 556". 1 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب الحدود- باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا. كما أخرجه مسلم: كتاب الحدود - باب: حد السرقة ونصابها، وأبو داود: كتاب الحدود - باب فيما يقطع فيه السارق. كما أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في المسند "6/ 36، 80، 81، 104" انظر: تلخيص الحبير "4/ 64" 2 سورة المائدة من الآية "38". 3 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب الزكاة- باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا بلفظ: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة"، كما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك والشافعي. والخمسة أوسق: ستون صاعًا، والصاع: أربعة أمداد، والمد: رطل وثلث بغدادي، فالأوسق الخمس 1600 رطل بغدادي. انظر: "فيض القدير 5/ 376". 4 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب الزكاة- باب العشر فيما يسقى من ماء =

ولا فرق بين أن يكون العام كتابًا أو سنة1 أو متقدمًا أو متأخرًا2. وبهذا قال أصحاب الشافعي.

_ = السماء وبالماء الجاري، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- بلفظ "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر". والمراد بقوله: "عثريًا" بالثاء الساكنة والعين المفتوحة: ما يسقى بالسيل الجاري في حفر، وما يسقى من النهر بلا مؤونه، أو يشرب بعروقه. كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني، جميعهم في الزكاة: انظر: المنتقى ص317. 1 فتكون الصور أربعة: الأولى، تخصيص الكتاب بالكتاب: مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] خصصت بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] . الصورة الثانية: تخصيص الكتاب بالسنة: كالمثال الذي ذكره المصنف في تخصيص آية السرقة الصورة الثالثة: تخصيص السنة بالسنة، كالمثال الذي أورده المصنف. الصورة الرابعة: تخصيص العام من السنة بالخاص من القرآن، مثل قوله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ... " فقد خصص بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وفي هذه الصورة خلاف سيذكره المصنف. 2 وهذا هو الصحيح من مذهب الإمام أحمد، قال أبو يعلى في العدة "2/ 615". "سواء تقدم العام على الخاص أو تأخر، أو جهل التاريخ.

وقد روي عن أحمد -رحمه الله- رواية أخرى: أن المتأخر يقدم، خاصًّا كان أو عامًّا. وهو قول الحنفية1، لقول ابن عباس: "كنا نأخذ بالأحداث فالأحداث من أمر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم"2.

_ = وفي شرح الكوكب المنير "3/ 382": "سواء كانا مقترنين، أو كانا غير مقترنين" وقال: "وحكي عن بعضهم في صورة الاقتران تعارض الخاص لما قابله من العام، ولا يخصص به. وعن الإمام أحمد -رضي الله عنه- رواية في غير المقترنين موافقة لقول الحنفية والمعتزلة وغيرهم: أنه إن تأخر العام نسخ، وإن تأخر الخاص نسخ من العام بقدره. فعلى هذا القول: إن جهل التاريخ وقف الأمر حتى يعلم". ا. هـ. 1 الحنفية وإن كانوا يوافقون الحنابلة، منها: أن لا يتأخر المخصص، وأن يكون مستقلًا بالكلام، وأن يكون متصلًا بالعام، إلا كان نسخًا. انظر: فواتح الرحموت "1/ 300، 345". 2 هذا الأثر أخرجه البخاري من قول الزهري حيث قال: "قال الزهري: وإنما يؤخذ من أمر النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- الآخر فالآخر" ووافقه على ذلك ابن حجر في فتح الباري "4/ 181". أما رواية ابن عباس: فأخرجهما مسلم: كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر ولفظه: ".....عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه أخبره أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يتبعون الأحداث فالأحداث من أمره". كما أخرجه مسلم بسند آخر ثم قال: "قال يحيى: قال سفيان: لا أدري من قول من هو؟ وكان يؤخذ بالآخر من قول رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-. وهذا يقوي رواية =

ولأن العام يتناول الصور التي تحتهن كتناول اللفظ لها بالتنصيص عليها، ولو نص على الصورة الخاصة: لكان نسخًا، فكذلك إذا عم. وهذا فيما إذا علم المتأخر. فإن جهل: فهذه الرواية تقتضي: أن يتعارض الخاص وما قابله من العام ولا يقضي بأحدهما على الآخر. وهي قول طائفة. لأنه يحتمل أن يكون العام ناسخًا، لكونه متأخرًا. ويحتمل أن يكون مخصوصًا، فلا سبيل إلى التحكم1. وقال بعض الشافعية: لا يخصص عموم السنة بالكتاب2.

_ = البخاري في أن الأثر من قول الزهري. وبمثل رواية مسلم -عن ابن عباس- رواه مالك في الموطأ، كتاب الصيام، باب الصوم في السفر رقم "1715". 1 وضح الطوفي -رحمه الله تعالى- هذه المسألة في شرحه "2/ 561" فقال: فإن جهال التاريخ، فكذلك عندنا، أي: يقدم الخاص على العام؛ لأن أكثرها في جهالة التاريخ: أن يقدر تأخر العام، ونحن لو تحققنا تأخره، قدمنا الخاص عليه، فلا فرق على قولنا بين تقدمه وتأخره، وجهالة التاريخ. وعند الحنفية يتعارضان، وهو قياس الرواية المذكورة عن أحمد، والتعارض بين الخاص وما قبله من العام؛ لأنه يحتمل أن يكون العام متأخرًا، فيكون ناسخًا للخاص، ويحتمل أن يكون العام متقدمًا، فيكون مخصوصًا بالخاص، ولا مرجح، فيجب التوقف، لئلا يكون ترجيح أحدهما تحكمًا". 2 هذا متصل بقول المصنف، قبل ذلك: "ولا فرق بين أن يكون العام كتابًا أو سنة...." وهذا كما قلنا: يشمل أربع صور، منها: تخصيص العام من السنة بالخاص من القرآن الكريم، فبين المصنف هنا أن في هذه الصورة خلافًا لبعض الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، خرجها ابن حامد، كما سيأتي.

وخرّجه1 ابن حامد رواية لنا، لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2، لأن المبيِّن تابع للمبيَّن، فلو خصصنا السنة بالقرآن صار تابعًا لها3. وقالت طائفة من المتكلمين: لا يخصص عموم الكتاب بخبر الواحد. وقال عيسى بن أبان: يخص العام المخصوص، دون غيره4. وحكاه القاضي عن أصحاب5 أبي حنيفة، لأن الكتاب مقطوع به، والخبر مظنون، فلا يترك به المقطوع، كالإجماع لا يخص بخبر الواحد. وقال بعض الواقفية: بالتوقف؛ لأن خبر الواحد مظنون الأصل، مقطوع المعنى.

_ 1 التخريج: نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها والتسوية بينهما فيه. انظر: المدخل لابن بدران ص55. 2 سورة النحل من الآية "44". 3 خلاصة وجه الدلالة: أن التخصيص بيان، فلو كان القرآن مبينًا للسنة للزم التناقض، إذ يصير كل واحد منهما مبينًا للآخر وتابعًا له؛ لأن المبيِّن، بالكسر، تابع للمبيَّن، بالفتح، وكون كل واحد من الشيئين تابعًا للآخر باطل. 4 أي: أن خبر الواحد يخصص العام إذا كان مخصوصًا قبل ذلك بغيره، أما إذا لم يخصص فلا يقوي خبر الواحد على تخصيصه؛ لأنه يرى أن العام إذا خصص صار مجازًا. انظر: العدة "2/ 552". 5 لفظ "أصحاب" من العدة "2/ 551" ولفظه: "وقال أصحاب أبي حنيفة" إن كان العموم قد دخله التخصيص بالاتفاق جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يكن دخله التخصيص، لم يجز تخصيصه بخبر الواحد" وانظر في المسألة: فواتح الرحموت "1/ 349"، أصول السرخسي "1/ 133".

واللفظ العام من الكتاب مقطوع الأصل، مظنون الشمول، فهما متقابلان، ولا دليل على الترجيح1. ولنا في تقديم الخاص مسلكان2: أحدهما: أن الصحابة -رضي الله عنهم- ذهبت إليه: فخصصوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 3 برواية أبي هريرة عن النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تُنْكَحُ المرأةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِها" 4. وخصصوا آية الميراث بقوله: "لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَاَ الْكَافِرُ

_ 1 خلاصة دليل الواقفية: أن العام من القرآن قطعي السند؛ لأنه نقل نقلًا متواترًا، ظني الدلالة على أفراد العام، وخبر الواحد قطعي الدلالة، لخصوصيته في مدلوله، ظني الثبوت من حيث السند فيتعادلان، لأن كل واحد منهما صار راجحًا من وجه، مرجوحًا من وجه آخر. انظر: شرح الطوفي "2/ 563". وأقول: إن هذا الدليل يصلح أن يكون دليلًا لما رجحه المصنف والحنابلة بصفة عامة، من جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وهو الذي يتفق مع الأمثلة التي سيذكرها. 2 أي: دليلان، أو وجهان كما قال الطوفي. 3 سورة النساء من الآية "24". 4 حديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، حديث صحيح أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، عن جابر وعن أبي هريرة، رضي الله عنهما. كما أخرجه مسلم: كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح عن أبي هريرة، وأبو داود: كتاب النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، وكذلك الترمذي وابن ماجه والنسائي وغيرهم.

المُسْلِمَ" 1، " وَلَاَ يَرِثُ الْقَاتِلُ " 2، و "إنَّا مَعَاشِرَ الْْأَنْبِياءِ لَا نُورَثُ" 3. وخصصوا عموم الوصية4 بقوله: "لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" 5. وعموم قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 6، بقوله: "حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا" 7.

_ 1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب لا يرث المسلم الكافر، وفي كتاب الفرائض، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه والدارمي ومالك جميعهم في كتاب الفرائض، وأحمد في المسند "5/ 201، 202، 209". 2 أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العقول، باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه، من حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. كما أخرجه أبو داود: كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وابن ماجه: كتاب الفرائض، باب ميراث القاتل، عن أبي هريرة، رضي الله عنه. 3 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الفرائض، باب قول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا نورث ما تركنا صدقة" من حديث عائشة رضي الله عنها. كما أخرجه عنها مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا نورث"، وأبو داود: كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- من الأموال، والترمذي: كتاب السير، باب ما جاء في تركة رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه. 4 وذلك في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . [البقرة:180] . 5 أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد والشافعي وغيرهم. وقد تقدم تخريجه والحكم عليه في باب النسخ. 6 سورة البقرة من الآية "230" وهي قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ....} . 7 أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث، كتاب اللباس، =

إلى نظائر كثيرة لا تحصى، مما يدل على أن الصحابة والتابعين كانوا يسارعون إلى الحكم بالخاص، من غير اشتغال بطلب تاريخ، ولا نظر في تقديم ولا تأخير. الثاني: أن إرادة الخاص بالعام غالبة معتادة، بل هي الأكثر1، واحتمال النسخ كالنادر البعيد2، وكذلك احتمال تكذيب الراوي، فإنه عدل جازم في الرواية.

_ = باب الإزار المهدب، وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك، ومسلم: كتاب النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح. ولفظة: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب. فتبسم رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". كما أخرجه الترمذي وابن ماجه والدارمي. انظر "شرح السنة للبغوي جـ9 ص233". 1 معناه: أنه إذا ورد لفظ عام ولفظ خاص، فالظاهر الغالب أن حكم الخاص مراد به، وأن المراد بالعام ما عدا الحكم الخاص، فإرادة أن الأنبياء لا يورثون من قوله-صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" أظهر من إرادة أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يورث من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] وإذا كانت إرادة الخاص أظهر وأغلب، قدم لظهوره وغلبته. انظر شرح الطوفي "2/ 564". 2 هذا جواب عن دليل الطائفة التي ذهبت إلى تعارض العام والخاص عند جهل التاريخ، لاحتمال النسخ أو التخصيص، ولا سبيل إلى الترجيح. فأجاب المصنف: بأن احتمال النسخ كالنادر البعيد. وكذلك احتمال كذب الراوي بعيد أيضًا، فإنه عدل، والنفس تطمئن إلى نقل العدل في العدل، كاطمئنانها إلى صدق الشاهدين العدلين.

وسكون النفس إلى العدل في الرواية فيما هو نص، كسكونها إلى عدلين في الشهادات. ولا يخفى أن احتمال صدق أبي بكر -رضي الله عنه- في روايته عن النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنبياء لا نورث" أرجح من احتمال أن تكون الآية سيقت لبيان حكم ميراث النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-1. فلذلك: عمل به الصحابة، والعمل بالراجح متعين. فأما قول من قال بالتعارض والوقف: فهو مطالبة بالدليل لا غير2. وقد ذكرنا الدليل من وجهين، وبينا أن احتمال إرادة الخصوص أرجح من احتمال النسخ؛ فإن أكثر العمومات مخصصة وأكثر الأحكام مقررة غير منسوخة. وكون النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- مبينًا لا يمنع من حصوله البيان بغيره، فقد أخبر الله -تعالى- أنه أنزل الكتاب تبيانًا لكل شيء3. وقولهم: "المبيِّن تابع" غير صحيح فإن الكتاب يبين بعضه بعضًا، والسنة يخص بعضها بعضًا، وليس المخصص تابعًا للمخصوص. وقد بينا -فيما تقدم- جواز التخصيص بدليل سابق4، وبالإجماع ويجوز تخصيص الآحاد بالمتواتر، وليس فرعًا له.

_ 1 هذا تابع لقول المصنف: "أن إرادة الخاص بالعام غالبة معتادة، بل هي الأكثر". كما سبق توضيحه في هامش "1". 2 أي: أنهم قالوا: إن عموم الكتاب وخبر الواحد متعادلان ولا دليل على الترجيح فيجب التوقف حتى يظهر الدليل، وقد ظهر لهم ما يزيل هذا التوقف. 3 قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} النحل من الآية "89" وهو رد على بعض الشافعية الذين خالفوا في تخصيص السنة بالكتاب. 4 كالعقل.

وقولهم: "إن الكتاب مقطوع به"1 قلنا: دخول المخصوص في العموم، وكونه مرادًا ليس بمقطوع، بل هو مظنون ظنًّا ليس بالقوى، بل ظن الصدق أقوى منه، لما ذكرنا. ثم إن براءة الذمة قبل السمع مقطوع بها، بشرط أن لا يرد سمع، وتشتغل بخبر الواحد. جواب آخر: آن وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به بالإجماع، وإنما الاحتمال في صدق الراوي، ولا تكليف علينا في اعتقاد صدقه، فإن تحليل البضع2، وسفك الدم واجب3 بقول عدلين قطعًا، مع أنا لا نقطع بصدقهما، كذا الخبر. الخامس: المفهوم بالفحوى ودليل الخطاب4. فإن الفحوى قاطع كالنص، ودليل الخطاب حجة كالنص، فيخص عموم قوله، عليه السلام: "في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ" 5 بمفهوم قوله: "في

_ 1 هذا رد على ما ذهب إليه الحنفية، كما تقدم قريبًا. 2 كالنكاح، فإنه يثبت بشهادة عدلين. 3 كالحدود والقصاص، فإن ذلك يثبت بشهادة اثنين أيضًا 4 أي: أن اللفظ العام يخص بفحوى الخطاب، وهو ما يطلق عليه عند الجمهور مفهوم الموافقة، كما يخص بدليل الخطاب، وهو ما يطلق عليه مفهوم المخالفة والتخصيص بمفهوم الموافقة محل اتفاق بين العلماء، أما التخصيص بمفهوم المخالفة، فقد خالف فيه الحنفية وبعض الشافعية، كالغزالي، حيث لم يعتبروه حجة. 5 أخرجه أبو داود: كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، من حديث علي وابن عمر -رضي الله عنهم- والترمذي: كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم من حديث ابن عمر، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب صدقة الغنم.

سائِمةِ الغَنَمِ زَكَاةٌ" في إخراج المعلوفة2. السادس: فعل رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كتخصيص عموم قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 3 بما روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض"4. ولذلك: ذهب بعض الناس إلى تخصيص قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 5 برجمه لماعز، وتركه جلده6.

_ 1 هذا جزء من حديث أنس -رضي الله عنه- مرفوعًا، الذي روى فيه كتاب أبي بكر -رضي الله عنه- وبين فيه أحكام الزكاة التي فرضها رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وهو حديث طويل جاء فيه: ".... وفي صدقة الغنم في سائمتها زكاة....". أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، وأبو داود: كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، والنسائي: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، والدارقطني: كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل والغنم، والشافعي: كتاب الزكاة، كتاب رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- الذي جمع فرائض الصدقة. 2 هذا مثال للتخصيص بمفهوم المخالفة. ومثال التخصيص بمفهوم الموافقة: قوله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَيُّ الواجد يُحل عرضه وعقوبته" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وغيرهم. خص منه الوالدان بمفهوم قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فمفهومه: حرمة إيذائها بحبس أو غيره. العدة "2/ 579". 3 سورة البقرة من الآية "222". 4 رواه البخاري: كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض، وفي كتاب الاعتكاف، باب في غسل المعتكف، ومسلم: كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار، وأبو داود: كتاب الطهارة، باب في الرجل يصيب منها دون الجماع، كما رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد. 5 سورة النور من الآية2. 6 قال الشيخ الطوفي: "وبيانه: أن قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَة جَلْدَة}

السابع: تقرير رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- واحدًا من أمته بخلاف موجب العموم وسكوته عليه، فإن سكوت النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن الشيء يدل على جوازه، فإنه لا يحل له الإقرار على الخطأ، وهو معصوم1. وقد بينا أن إثبات الحكم في حق واحد يعم الجميع2. الثامن: قول الصحابي، عند من يراه حجة مقدمًا على القياس

_ = [النور:2] ، عام في الثيب والبكر، فلما رجم النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- ماعزًا، وترك جلده، دل على أن الجلد مختص بالبكر دون الثيب، فكان هذا تخصيصًا للنص العام بفعله، عليه الصلاة والسلام، أو بمعنى فعلهن وهو ترك الجلد، وهذه من مسائل الخلاف، أعني: أن الزاني الثيب: هل يجلد مع الرجم أم لا؟ والصحيح من مذهبنا أنه يجلد خلافًا للشافعي" شرح مختصر الروضة "2/ 570". والخلاصة: أن التخصيص بفعل النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- محل خلاف بين العلماء فالجمهور يرون أنه يخصص العام، وخالف في ذلك بعض الشافعية، والكرخي من الحنفية. انظر العدة "2/ 575". 1 وهذا هو رأي جمهور العلماء، خلافًا للحنفية وبعض المتكلمين، حيث قالوا: إن التقرير لا صيغة له، فلا يقابل صيغة العام. ورد عليهم الجمهور بأن سكوت رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن ذلك مع علمه به دليل على جوازه، وإلا لوجب إنكاره. جاء في شرح الكوكب المنير "3/ 375" "وحيث جاز التخصيص بالتقرير، فهل المخصص نفس تقريره -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- أو المخصص ما تضمنه التقرير من سبق قوله به فيكون مستدلًا بتقريره على أنه قد خص بقول سابق، إذ لا يجوز لهم أن يفعلوا ما فيه مخالفة للعام إلا بإذن صريح، فتقريره دليل ذلك؟ فيه وجهان. قال ابن فورك والطبري: الظاهر الأول". 2 وذلك في قول المصنف: "وكذلك إذا توجه الحكم إلى واحد من الصحابة داخل فيه غيره" من باب الأمر.

يخص به العموم، فإن القياس يخصص به، فقول الصحابي المقدم عليه أولى1. فإن قيل: فالصحابي يترك مذهبه للعموم، كترك ابن عمر مذهبه لحديث رافع بن خديج في المخابرة2، فغيره يجب أن يتركه. قلنا: إنما تركه لنص عارضه، لا للعموم. التاسع: قياس نص خاص إذا عارض عموم نص آخر: فيه وجهان: أحدهما: يخص به العموم. وهو قول أبي بكر3، والقاضي4، وقول الشافعي، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين5. والوجه الآخر: لا يخص به العموم. وهو قول أبي إسحاق بن شاقلا وجماعة من الفقهاء، لحديث معاذ6.

_ 1 وهو رأي الحنابلة والحنفية وبعض الشافعية، وخالف في ذلك المالكية وجمهور الشافعية. انظر: المحصول جـ1 ق3 ص191، الإحكام للآمدي "3/ 333" والعدة "2/ 579". 2 المخابرة: المزارعة على نصيب معين مما تخرجه الأرض، كالثلث والربع، وقد روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وبعد أربعين سنة، حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- نهى عن ذلك". تقدم تخريج الحديث في فصل ألفاظ الرواية. 3 المراد به: عبد العزيز بن جعفر، المعروف بغلام الخلال. 4 كما في العدة "2/ 559". 5 وهو رأي جمهور العلماء كما في العدة "2/ 559". 6 تقدم تخريجه والكلام على سنده. ووجه الدلالة من الحديث لأصحاب هذا =

ولأن الظنون المستفادة من النصوص أقوى من الظنون المستفادة من المعاني المستنبطة. ولأن العموم أصل، والقياس فرع، فلا يقدم على الأصل. ولأن القياس إنما يراد لطلب حكم ما ليس منطوقًا به، فما هو منطوق به لا يثبت بالقياس. وقال قوم: يقدم جلي القياس على العموم، دون خفية1، لأن الجلي أقوى من العموم، والخفي ضعيف. والعموم -أيضًا- يضعف تارة بأن لا يظهر منه قصد التعميم، ويظهر ذلك بأن يكثر المخرج منه، ويتطرق إليه تخصيصات كثيرة، فإن دلالة قوله: "لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بالْبُرِّ" 2 على تحريم بيع الأرز، أظهر من دلالة قوله

_ = المذهب: أن معادًا -رضي الله عنه- قدم السنة على الاجتهاد الذي يشمل القياس، وهو عام فيما إذا كان القياس أخص أو أعم، وهذا يقتضي تقديم العام على قياس النص الخاص، فلا يخص به النص الخاص. ومثاله: أن الله -تعالى- أحل البيع في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وهو عام في كل بيع، ثم ورد حديث رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- بتحريم الربا في البر، والعلة في تحريمه عند بعض العلماء: الكيل، فقيس عليه تحريم الربا في الأرز، وخص به العموم المتقدم. انظر: شرح الطوفي "2/ 572". 1 نسبه الآمدي إلى جماعة من الشافعية. انظر: الإحكام "2/ 159". 2 هذا الحديث روي بألفاظ مختلفة، منها ما رواه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة عن أبي سعيد مرفوعًا، أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مِثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء" وأخرجه عنه مسلم: كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، وأحمد في المسند "3/9".

تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 1 على إباحة بيعه متفاضلًا. ودلالة تحريم الخمر على تحريم النبيذ بقياس الإسكار، أغلب في الظن من دلالة قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ... } 2 على إباحته. فإن تقابل الظنان: وجب تقديم أقواهما، كالعمل في العمومين، والقياسين المتقابلين.

_ 1 سورة البقرة من الآية "275". 2 سورة الأنعام من الآية "145".

فصل: تعريف القياس الجلي والخفي

فصل: [تعريف القياس الجلي والخفي] ثم القائلون بهذا اختلفوا في القياس الجلي. ففسّره قوم: بأنه قياس العلة، والخفي: بقياس الشبه3. وقيل: الجلي: ما يظهر فيه المعنى، كقوله، عليه السلام: "لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" 4، وتعليل ذلك بما يدهش الفكر

_ 1 سورة البقرة من الآية "275". 2 سورة الأنعام من الآية "145". 3 القياس ينقسم باعتبار علته إلى أربعة أقسام: قياس العلة: وهو ما صرح فيه بالعلة. قياس الدلالة: وهو ما لم تذكر فيه العلة، وإنما ذكر فيه لازم من لوازمها. قياس في معنى الأصل؛ وهو ما كان بإلغاء الفارق بين الأصل والفرع. قياس الشبه: وهو ما جمع فيه بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة الحكم من جلب المصلحة أو دفع المفسدة، كما عرفه بذلك المصنف في باب القياس. وسوف يأتي -إن شاء الله تعالى- توضيح هذه الأقسام والتمثيل لها في باب القياس. 4 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو =

حتى يجري ذلك في الجائع1. وقال عيسى بن أبان: يجوز ذلك في العام المخصوص، دون غيره، لضعف العام بالتخصيص2. وحكاه القاضي عن أصحاب3 أبي حنيفة. وجه الأول4. أن صيغة العموم محتملة للتخصيص، معرضة له، والقياس غير محتمل، فيقضي به على المحتمل، كالمجمل مع المفسر. فأما حديث معاذ5: فإن كون هذه الصورة مرادة باللفظ العام غير مقطوع به، والقياس يدلنا على أنها غير مرادة. ولهذا جاز ترك عموم الكتاب بخبر الواحد، وبالخبر المتواتر اتفاقًا، ورتبة السنة بعد رتبة الكتاب في الخبر6، والسنة لا يترك بها الكتاب، لكن تكون مبينة له، والتبيين يكون تارة باللفظ، وتارة بمعقول اللفظ.

_ = يفتي وهو غضبان، عن أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا. كما أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، وأبو داود: كتاب الأقضية- باب القاضي يقضي وهو غضبان. كما أخرجه الترمذي وابن ماجه والنسائي وغيرهم. انظر: تلخيص الحبير "3/ 189". 1 ومثله الخوف والألم وكل ما يؤدي إلى اضطراب الخاطر وضعف إدراك الحكم. 2 لما قلناه قريبًا من أن العام عنده بعد التخصيص يصير مجازًا. 3 لفظ "أصحاب" من العدة "2/ 563" فقد نسبه لأصحاب أبي حنيفة، وليس لأبي حنيفة. 4 أي: هذا دليل المذهب الأول، وهو جواز التخصيص بالقياس مطلقًا. 5 بدأ المصنف يرد على أدلة المخالفين. 6 أي: في خبر معاذ المتقدم.

وقولهم: "إن الظنون المستفادة من النصوص أقوى". فلا نسلم ذلك على الإطلاق. وقولهم: "لا يترك الأصيل بالفرع". قلنا: هذا القياس فرع نص آخر، لا فرع النص المخصوص به، والنص يخص تارة بنص آخر، وتارة بمعقول النص. ثم يلزم: أن لا يخصص عموم القرآن بخبر الواحد1. وقولهم: "هو منطوق به"2. قلنا: كونه منطوقًا به أمر مظنون، فإن العام إذا أريد به الخاص: كان نطقًا بذلك القدر، وليس نطقًا بما ليس بمراد. ولهذا جاز التخصيص بدليل العقل القاطع، مع أن دليل العقل لا يقابل النص الصريح من الشارع؛ لأن الأدلة لا تتعارض.

_ 1 معناه: أنه يلزم على قولهم أن لا يخصص عموم القرآن بخبر الواحد؛ لأنه فرع عنه، فإن حجيته ثابتة بأصل من كتاب أو سنة، فيكون فرعًا له، وقد سلمتم بتخصيص الكتاب بخبر الواحد، فالقياس مثله. 2 أي: قولهم: "ولأن القياس إنما يراد الطلب حكم ما ليس منطوقًا به، فما هو منطوق به لا يثبت بالقياس". فبين المصنف أن كونه منطوقًا به أمر مظنون ومشكوك فيه. ومن أمثلة ذلك: الأرز في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ليس كما لو قيل: يحل بيع الأرز بالأرز متفاضلًا ومتماثلًا. فإذا كان كونه مرادًا بآية إحلال البيع مشكوكًا فيه، كان كونه منطوقًا به مشكوكًا فيه؛ لأن العام إذا أريد به الخاص كان ذلك نطقًا بذلك القدر، وليس نطقًا بما ليس بمراد. انظر: نزهة الخاطر "1/ 172".

فصل: في تعارض العمومين

فصل: في تعارض العمومين إذا تعارض عمومان: فأمكن الجمع بينهما، بأن يكون أحدهما أخص من الآخر، فيقدم الخاص1. أو يكون أحدهما يمكن حمله على تأويل صحيح، والآخر غير ممكن تأويله، فيجب التأويل في المؤول، ويكون الآخر دليلًا على المراد منهن جمعًا بين الحديثين، إذ هو أولى من إلغائهما. وإن تعذر الجمع بينهما، لتساويهما، ولكونهما متناقضين، كما لو قال: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقتلُوه" 2، "مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَلَا تَقْتُلُوه": فلا بد أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر. فإن أشكل التاريخ طلب الحكم من دليل غيرهما. وكذلك لو تعارض عمومان، كل واحد عام من وجه خاص من وجه، مثل قوله، عليه السلام: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَها فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" 3، فإنه يتناول الفائتة بخصوصها، ووقت النهي بعمومه، مع

_ 1 كما سبق في قول المصنف: "الرابع: النص الخاص يخصص اللفظ العام". 2 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله، وفي كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة، عن ابن عباس مرفوعًا، وأبو داود: كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد، والترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء في المرتد، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه: كتاب الحدود، باب ما جاء في المرتد، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه: كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه. 3 أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها من حديث أنس مرفوعًا، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء =

قوله: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ" 1 يتناول الفائتة بعمومه، والوقت بخصوصه. وقوله: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه" مع قوله: "نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ" 2. فهما سواء، لعدم ترجيح أحدهما على الآخر، فيتعارضان، ويعدل إلى دليل غيرهما.

_ = الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، كما أخرجه أبو داود وغيره. 1 أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب من رخص في الركعتين بعد العصر إذا كانت الشمس مرتفعة، كما أخرجه الترمذي وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد. 2 الذي في كتب الحديث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن أمرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- مقتولة، فأنكر رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قتل النساء والصبيان. رواه البخاري، كتاب الجهاد "3014" و"3015" ومسلم في الجهاد أيضًا "827" والنسائي "1/ 278" وأحمد في المسند "3/ 95" من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه. فحديث "من بدل دينه...." عام في الرجل والمرأة، خاص في سبب القتل، وهو التبديل والردة، وحديث النهي عن قتل النساء، خاص في النساء، عام في النهي عن القتل، فيتعادلان، ويطلب المرجح. وخلاصة هذا الفصل: أنه إذا تعارض عامان من كل وجه، بحث لا يمكن الجمع بينهما قدم أصحهما سندًا، فإن تساويا في السند، قدم ما يرجحه دليلًا خارجي، فإن لم يوجد مرجح: فإن علم التاريخ، فالمتأخر ناسخ للمتقدم، وإن جهل التاريخ وجب التوقف والبحث عن مرجح. وإن تعارض العامان من بعض الوجوه وجب الجمع بينهما ما أمكن، بأن يكون أحدهما أخص من الآخر فيقدم الأخص، أو يحمل أحدهما على تأويل صحيح =

وقال قوم: لا يجوز تعارض عمومين خاليين عن دليل الترجيح، لأنه يؤدي إلى وقوع الشبهة، وهو منفر عن الطاقة. قلنا: بل ذلك جائز، ويكون مبيَّنًا للعصر الأول. وإنما خفي علينا، لطول المدة، واندراس القرائن والأدلة، ويكون ذلك محنة وتكليفًا علينا، لنطلب دليلًا آخر، ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا. وأما التنفير: فباطل، فقد نفر طائفة من الكفار من النسخ، ثم لم يدل ذلك على استحالته، والله أعلم.

_ = يجمع به بين العامين، فإن كان كل منهما عامًّا من وجه، خاصًّا من وجه تعادلا وجلب المرجح الخارجي. انظر: شرح الطوفي "2/ 576 وما بعدها".

فصل: في الاستثناء

فصل: في الاستثناء وصيغته: "إلا" و"غير" و"سوى" و"عدا" و"ليس" و"لا يكون" و"حاشا" و"خلا". وأمُّ الباب "إلا"1 وحدّه: أنه قول ذو صيغة متصل يدل على أن المذكور معه غير مراد بالقول الأول2

_ = يجمع به بين العامين، فإن كان كل منهما عامًّا من وجه، خاصًّا من وجه تعادلا وجلب المرجح الخارجي. انظر: شرح الطوفي "2/ 576 وما بعدها". 1 أي: هي الأصل، وما عداها يقوم مقامها. 2 وعرّفه الغزالي بقوله: وحده: أنه قول ذو صيغ مخصوصة، محصورة، دال على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول". المستصفى "3/ 377" وهو الذي اختاره الآمدي في الإحكام "2/ 120" وإن كان قد زاد عليه بعض القيود فقال: "هو لفظ =

ويفارق الاستثناء التخصيص1 بشيئين: أحدهما: في اتصاله2. والثاني: أنه يتطرق إلى النص، كقوله: "عشرة إلا ثلاثة"3. والتخصيص بخلافه

_ = متصل بجملة، لا يستقل بنفسه، دال على أن مدلوله غير مراد بما اتصل به بحرف "إلا" أو بأحد أخواتها". وقول المصنف: "متصل...." إلى آخر التعريف رد على من زعم أن الاستثناء يؤدي إلى التناقض، فإن البعض الذي أخرج كان قد دخل في الجملة المستثنى منها، فبين المصنف أن المستثنى لم يكن مرادًا من اللفظ العام أولًا، حتى يلزم ما قاله هؤلاء من التناقض. ومثال ذلك: أن قول القائل: "جاءني عشرة إلا ثلاثة" المراد به: سبعة، وقوله: "إلا ثلاثة" قرينة على إرادة السبعة من العشرة، من إطلاق الكل وإرادة البعض. والخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، لأن الاستثناء قد تقرر وقوعه في لغة العرب تقررًا مقطوعًا به لا يتيسر لمنكر أن ينكره، وأن ما بعد آلة الاستثناء خارج عن الحكم لما قبلها بلا خلاف. وقد ورد ذلك في العديد من آيات القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14] . 1 المقصود بالتخصيص هنا: التخصيص بالمنفصل، وإلا فالاستثناء تخصيص أيضًا، فالعبارة فيها تجوز. 2 أي: يجب أن يكون الاستثناء متصلًا بالمستثنى منه؛ لأنه لا يستقل بنفسه. 3 معناه: أن الاستثناء داخل في النص، فإذا قال: له عليّ عشرة إلا ثلاثة" فإن "ثلاثة" داخله في النص، والعشرة نص في مسماها، فتطرق الاستثناء إلى ذلك النص، بخلاف التخصيص بغير الاستثناء، فإنه داخل في العام ودلالته عليه ظنية، ودخوله في العام بالنظر إلى إرادة المتكلم.

ويفارق النسخ -أيضًا- في ثلاثة أشياء: أحدها: في اتصاله. والثاني: أن النسخ رافع لما دخل تحت اللفظ، والاستثناء يمنع أن يدخل اللفظ ما لولاه لدخل1. والثالث: أن النسخ يرفع جميع حكم النص، والاستثناء إنما يجوز في البعض2.

_ 1 ومعناه: أن المنسوخ كان مرادًا ثم نسخ، بخلاف الاستثناء، فإنه لم يكن مرادًا من الأول. 2 هذا الفارق ليس على إطلاقه، فإن النسخ قد يرفع الحكم كلية، وقد يرفع بعضه، كما تقدم في باب النسخ.

فصل: في شروط الاستثناء

فصل: [في شروط الاستثناء] ويشترط في الاستثناء ثلاثة شروط: أحدهما: أن يتصل بالكلام، بحيث لا يفصل بينهما كلام، ولا سكوت يمكن الكلام فيه؛ لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام، فإذا انفصل: لم يكن إتمامًا، كالشرط، وخبر المبتدأ، فإنه لو قال: "أكرم من دخل داري" ثم قال، بعد شهر: "إلا زيدًا": لم يفهم، كما لو قال: "زيدًا" ثم قال، بعد شهر: "قائم" لم يعد خبرًا، وكذلك الشرط. وحكي عن ابن عباس: أنه يجوز أن يكون منفصلًا3.

_ 1 ومعناه: أن المنسوخ كان مرادًا ثم نسخ، بخلاف الاستثناء، فإنه لم يكن مرادًا من الأول. 2 هذا الفارق ليس على إطلاقه، فإن النسخ قد يرفع الحكم كلية، وقد يرفع بعضه، كما تقدم في باب النسخ. 3 الروايات عن ابن عباس متعددة: فروي عنه أنه يصح الاستثناء وإن طال الزمن، ثم اختلف عنه فقيل: إلى شهر، وقيل: إلى سنة، وقيل: أبدًا. ومنهم من أنكر ذلك وقال: لم يصح ذلك عن ابن عباس، ومنهم: إمام الحرمين والعزالي، لما =

وعن عطاء1 والحسن2: جواز تأخيره ما دام في المجلس3. وأومأ إليه أحمد -رحمه الله- في الاستثناء في اليمين4. والأولى: ما ذكرناه5. الشرط الثاني: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه6

_ = يلزم على ذلك من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق، لإمكان تراخي الاستثناء وقال القرافي: "المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة. قال: ونقل بعض العلماء أن مدركه في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23-24] . قال: المعنى: إذا نسيت قول "إن شاء الله" فقل بعد ذلك، ولم يخصص"، شرح تنقيح الفصول ص243. وقال الشوكاني: "ومن قال: بأن هذه المقالة لم تصح عن "ابن عباس" لعله لم يعلم بأنها ثابتة في "مستدرك الحاكم" وقال: صحيح على شرط الشيخين بلفظ: "إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستنثي إلى سنة" وقد روى عنه هذا غير الحاكم من طرق، كما ذكره أبو موسى المديني وغيره". إرشاد الفحول "1/ 527-528" وانظر: المستدرك "4/ 303". 1 هو: عطاء بن أبي رباح بن أسلم، أبو محمد القرشي بالولاء، المكي، من أعلام التابعين، كان مفتي مكة ومحدثها، سمع من السيدة عائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم -رضي الله عنهم جميعًا- كما أخذ عنه أبو حنيفة والأوزاعي وابن إسحاق. توفي بمكة سنة 114هـ". انظر في ترجمته: تذكرة الحفاظ "1/ 98"، شذرات الذهب "1/ 147"، ميزان الاعتدال "3/ 70". 2 هو: الحسن بن يسار البصري. تقدمت ترجمته. 3 انظر: التمهيد لأبي الخطاب "2/ 74". 4 انظر: العدة "2/ 661". 5 أي: اشتراط اتصال المستثنى بالمستثنى منه. 6 وهو رأي أكثر الحنابلة. قال الفتوحي: "وهذا هو الصحيح من الروايتين عند =

فأما الاستثناء من غير الجنس: فمجاز لا يدخل في الإقرار، ولو أقر بشيء واستثنى من غير جنسه: كان استثناؤه باطلًا1. وهذا قول بعض الشافعية. وقال بعضهم2، ومالك وأبو حنيفة، وبعض المتكلمين: يصح؛ لأنه قد جاء في القرآن واللغة الفصيحة. قال الله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا} 3، و {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ... } 4، {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} 5. وقال الشاعر6: ...................وَما بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدٍ

_ = الإمام أحمد -رضي الله عنه- واختيار الأكثر من أصحابنا وغيرهم"، شرح الكوكب المنير "3/ 286". 1 انظر "العدة "2/ 673". 2 أي: بعض الشافعية. 3 سورة مريم من الآية "62" ومحل الشاهد: أن السلام ليس من جنس اللغو. 4 سورة النساء من الآية "29" ومحل الشاهد: أن التجارة ليست من جنس المال؛ لأن المال هو الأعيان، والتجارة: هي التصرف في هذه الأعيان. 5 سورة الليل "19-20" ومحل الشاهد: أن ابتغاء وجه ربه الأعلى ليس من جنس النعمة. 6 هو: زياد بن معاوية النابغة الذبياني المضري، من فحول شعراء الجاهلية من أهل الحجاز، كان يقصده الشعراء ويعرضون عليه أشعارهم، كان أحسن الشعراء شعرًا، وأكثرهم في الكلام رونقًا، وأجزلهم بيتًا، ليس في شعره تكلف. انظر: طبقات فحول الشعراء "1/ 56".

إلَّا الأَوَاريّ.....1 [وقال آخر] 2: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس3 ومثله كثير.

_ 1 هذان جزءان من بيتين للنابغة من قصيدة مدح بها النعمان بن بشير ملك الحيرة، ويتنصل بها عما قذفوه به، وهي إحدى المعلقات السبع، مطلعها: يا دارَ مَيَّة بالعَلياء فالسند ... أقْوت فطال عليها سالف الأبد إلى أن قال: وقفتُ فيها أُصَيْلالًا أُسائلها ... عيَّت جوابًا وما بالرَّبْع من أحد إلا أواريَّ لأيّامًا أبيتها ... والنّوى كالحوض بالمظلومة الجلد والأواري: هي التي تسمى الطوائل، وليس من جنس أحد، وهذا هو محل الشاهد. انظرك ديوان النابغة ص25-32، وخزانة الأدب "4م 121-130". 2 القائل: هو جران العون: عامر بن الحارث بن كُلْفة، والجران: باطن العنق الذي يضعه البعير على الأرض إذا نام، وكان يعمل من جلد هذا العنق: الأسواط واشتهر هذا الشاعر بجران العود؛ لأنه هدد زوجتيه بجران جمل كبير له فقال: خذا حذّرا يا جارتيّ فإنني ... رأيت جران العود قد كان يصلح والعود: البعير المسن. 3 البيت في ديوان جران العود ص53، وفي لسان العرب "4/ 309"، وكتاب سيبويه "1/ 133". ومحل الشاهد في البيت قوله: "إلا اليعافير" فإنه استثناء من قوله: "أنيس" واليعافير جمع "يعفور" وهو الظبي الذي لونه لون التراب، أو هو ولد البقرة الوحشية، و"العيس" جمع "أعيس" و"عيساء" وهو من الإبل الذي يخالط بياضه شقرة. انظر: القاموس المحيط "4/ 209"، لسان العرب "4/ 309 وما بعدها".

ولنا: أن الاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله المستثنى منه بدليل: أنه مشتق من قولهم: "ثنيت فلانًا عن رأيه" و"ثنيت العنان" فيشعر بصرف الكلام عن صوبه1 الذي كان يقتضيه سياقه2. فإذا ذكر ما لا دخول له في الكلام الأول، لولا الاستثناء، فما صرف الكلام ولا ثناه عن وجه استرساله. فتكون تسميته استثناء تجوزًا باللفظ عن موضوعه، وتكون "إلا" ههنا بمعنى "لكن"3. قال هذا ابن قتيبة4. وقال: هو قول سيبويه5، وقاله غيرهما من أهل العربية.

_ 1 جاء في المصباح المنير مادة "صوب": الصوب، وزن فلس، مثل الصواب. 2 قال الطوفي: "اعلم أن الاستثناء من حيث اللفظ: استفعال، إما من التثنية؛ لأن المستثنى في كلامه يثني الجملة، أي: يأتي بجملة ثانية في كلامه، نحو: قام القوم إلا زيدًا، فهم منه قيام القوم، وعدم قيام زيد، فهي جملتان، أو من ثنى الفارسُ عِنان فرسه: إذا عطفه، لأن المستثنى يعطف على الجملة، فيخرج بعضها عن الحكم بالاستثناء". شرح مختصر الروضة "2/ 580-581". 3 لأن "لكن" يستدرك بها المتلكم خللًا وقع في كلامه أو غيره، وكذلك "إلا" يستدرك بها نحو ذلك. 4 هو: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، من أئمة الحديث واللغة، عدّه شيخ الإشلام ابن تيمية من أهل السنة. ولد ببغداد سنة 213هـ" وقيل: ولد بالكوفة وتوفي سنة "276هـ" على الأصح. انظر: بغية الوعاة "2/ 63"، تذكرة الحفاظ "2/ 631". 5 هو: عمرو بن عثمان بن قنبر، المعروف بسيبويه، إمام مدرسة أهل البصرة في النحو، تتلمذ على الخليل بن أحمد وأبي الخطاب الأخفش وغيرهما. من مؤلفاته "الكتاب" في النحو. توفي بالبيضاء سنة "180هـ". انظر: بغية الوعاة "2/ 231" نزهة الألباء ص "71".

وإذا كانت بمعنى "لكن" لم يكن لها في الإقرار معنى1، فلم يصح أن ترفع شيئًا منه، فتكون لاغية، فإن "لكن" إنما تدخل للاستدراك بعد الجحد، والإقرار ليس بجحد، فلا يصح فيه. ولذلك: لم يأت الاستثناء المنقطع في إثبات بحال. الشرط الثالث: أن يكون المستثنى أقل من النصف. وفي استثناء النصف وجهان.

_ 1 هذا جواب عن قولهم المتقدم: "ولو أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلًا" وحاصل الجواب: أن الاستثناء المنقطع مقدر بلكن، وهي تفيد الاستدراك؛ لأن المتكلم بها يستدرك خللًا وقع في كلامه، فمثله: الاستثناء المنقطع، ويتفرع على هذا ما ذكره الخرقي في مختصره: "ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلًا، إلا أن يستثني عينًا من ورِق، أو ورِقًا من عين" والمراد بالعين هنا: الذهب. فعلى هذا يكون قوله: "إلا أن يستثني عينًا من ورق ... " مخالفًا لهذه القاعدة. وقد حمله أصحاب الإمام أحمد على الاستحسان، وحمله الطوفي على الاستثناء من الجنس البعيد، وهو أن الكل مال. قال الطوفي: "ووجه الاستحسان: أن الذهب والفضة هما أثمان المبيعات، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، ومقاصدهما واحدة، فينزلا لذلك منزلة الجنس الواحد، وأما نص الخرقي على ذلك في "المختصر" فهذا وجهه.... ثم قال: وهو أحد القولين في المذهب. ويفيد الخلاف في هذا الشرط أنه لو قال: له عندي مائة درهم إلا ثوبًا، أو إلا شاة أو غيرها من المتقومات، بطل الإقرار عندنا، وصح عند المخالف، ويلزمه مائة إلا قيمة ثوب، لاشتراك المستثنى والمستثنى منه في جنس المالية، وما يقع في المستثنى من جهالة تزال بالوساطة أو الصلح. قلت: وهذا راجع إلى الاستثناء من الجنس، غير أنه الجنس البعيد. "شرح الطوفي 2/ 597".

وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين: يجوز استثناء الأكثر. ولا نعلم خلافًا في أنه: لا يجوز استثناء الكل1. واحتج من جوزه -أي: جوز الأكثر- بقوله تعالى: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 2. وقال في أخرى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} . فاستثنى كل واحد منهما من الآخرن وأيهما كان الأكثر: حصل المقصود4.

_ 1 خلاصة ذلك: أنه لا خلاف بين العلماء في عدم صحة الاستثناء المستغرق، فلا يصح أن يقال: له علي عشرة إلا عشرة؛ لأنه يفضي إلى العبث، ويعتبر تناقضًا كليًّا. وفي استثناء الأكثر والنصف خلاف. واشترط قوم أن يكون أقل من النصف وهو الصحيح من مذهب الحنابلة. قال الطوفي: "المصحِّح لاستثناء الأكثر هم أكثر الفقهاء والمتكلمين، والمانع منه أصحابنا وبعض الفقهاء والقاضي أبو بكر في آخر أقواله. قال الآمدي: وقد استقبح بعض أهل اللغة استثناء عقد صحيح، واختار هو الوقف. قلت: مثال استثناء العقد الصحيح: له سبعون إلا عشرة". شرح مختصر الروضة "2/ 598". 2 سورة ص "82-83". 3 سورة الحجر الآية "42". 4 وجه الدلالة من هذه الآيات: أن الله تعالى استثنى الغاوين من العباد، والغاوون أكثر، بدليل قوله تعالى: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] . وقال الطوفي: "فاستثنى في الأولى العباد المخلصين من بني آدم، وفي الثانية =

وقال الشاعر: أدُّوا التي نَقَصَتْ تسعين مِنْ مائةٍ ... ثم ابْعَثوا حكمًا بالحقّ قَوَّاما1 ولأنه إذا جاز استثناء الأقل، جاز استثناء الأكثر. ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ، فجاز في الأكثر كالتخصيص. ولنا: أن الاستثناء لغة، وأهل اللغة نفوا ذلك وأنكروه2. قال أبو إسحاق الزجاج3: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير4. وقال ابن جني5: لو قال قائل: "مائة إلا تسعة وتسعين" ما كان متكلمًا بالعربية، وكان كلامه عيًّا من الكلام ولكنة.

_ = الغاوين من العباد، وأيهما كان الأكثر حصل المقصود". شرح المختصر "2/ 599". 1 سيأتي نقل المصنف عن ابن فصال: أن هذا البيت مصنوع لم يثبت عن العرب، فلا يصح الاحتجاج به. 2 وأهل اللغة هم الحجة في هذا المقام، ولذلك نقل المصنف كلامهم الآتي. 3 هو: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، عالم بالنحو واللغة والعروض، واشتهر بالزجاج، لأنه كان يعمل في خرط الزجاج، تتلمذ على المبرد، من مؤلفاته: "معاني القرآن" و"الاشتقاق". توفي ببغداد سنة "310هـ" على الأرجح. انظر: بغية الوعاة "1/ 411" وفيات الأعيان "11/ 11". 4 انظر: إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس "2/ 565". 5 هو: عثمان بن جني، أبو عثمان الموصلي، كان والده مملوكًا روميًّا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي، كان إمامًا في النحو والأدب، تلقى عن أبي على الفارسي، وبعد وفاته تولى مكانه في بغداد. من كتبه "الخصائص" و"المذكر والمؤنث" توفي سنة "392هـ". انظر: بغية الوعاة "2/ 132"، شذرات الذهب "3/ 140".

وقال القتيبي1: يقال: "صمت الشهر كله إلا يومًا واحدًا، ولا يقال: صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يومًا" ويقول: "لقيت القوم جميعهم إلا واحدًا أو اثنين"، ولا يجوز أن يقول: "لقيت القوم إلا أكثرهم". إذا ثبت أنه ليس من اللغة: فلا يقبل. ولو جاز هذا: لجاز في كل ما كرهوه وقبحوه. وأما الآية التي احتجوا بها: فقد أجيب عن احتجاجهم بها بأجوبة. منها: أنه استثناء في إحدى الآيتين المخلصين من بني آدم وهم الأقل. وفي الأخرى: استثناء الغاوين من جميع العباد وهم الأقل، فإن الملائكة من عباد الله، قال الله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} 2 وهم غير غاوين3. ومنها: أنه استثناء منقطع في قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 4 بمعنى "لكن" بدليل أنه قال في آية أخرى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ... } 5

_ 1 هو: عبد الله بن مسلم، المشهور بابن قتيبة. تقدمت ترجمته. 2 سورة الأنبياء من الآية "26". 3 لم يرتض الطوفي هذه الإجابة وقال: إنها ضعيفة؛ لأن المحاورة إنما وقعت في ذرية آدم، فلا يصح ضم الملائكة إليهم، حتى يكون الغاوون بالنسبة إليهم مع ذرية آدم قليلًا. انظر: "شرح المختصر 2/ 602". 4 الحجر: 42. 5 سورة إبراهيم من الآية "22" ولم يرتضه الطوفي أيضًا. ثم قال: "والجواب الصحيح عن الآية هو: أنا نمنع من استثناء الأكثر إذا صرح بعدد المستثنى منه، أما إذا لم يصرح به، فهو جائز باتفاق، كما إذا قال: خذ ما في هذا الكيس من =

وأما البيت فليس فيه استثناء. مع أنه قال ابن فصال النحوي1: هذا بيت مصنوع ولم يثبت عن العرب. وأما القياس في اللغة2: فغير جائز. ولو كان جائزًا: فهو جمع بغير علة3 ومثل هذا لو جاز استثناء البعض، جاز استثناء الكل. ويعارضه: بأنه إذا لم يجز استثناء الكل، فلا يجوز استثناء الأكثر. والفرق بين القليل والكثير: أن العرب استعملته في القليل دون الكثير، فلا يقاس في لغتهم ما أنكروه على ما حسّنوه وجوّزوه.

_ = الدراهم إلا الزيوف، وكانت أكثر، والآية من هذا الباب، لم يصرح فيها بعدد المستثنى منه، بل قال سبحانه وتعالى: "إن عبادي" وهو مقدار غير معين، بخلاف: له عندي مائة إلا تسعين، فهذا هو الممنوع". المصدر السابق5. 1 هو: علي بن فصال بن علي بن غالب المجاشعي القيرواني، المعروف بالفرزدقي نسبة إلى جده "الفرزدق"، كان عالمًا بالنحو واللغة، ظل يقرئ ببغداد حتى توفي سنة "479هـ" انظر: بغية الوعاة "2/ 183"، والبلغة ص161. 2 هذا رد على قولهم السابق: "ولأنه إذا جاز استثناء الأقل جاز استثناء الأكثر" فبين المصنف أن ذلك قياسًا في اللغة، وهو غير حجة عند كثير من العلماء. ثم عارضه برد آخر هو: قياسه على استثناء الكل، ومعناه: أن عدم جواز استثناء الكل أمر متفق عليه، فيقاس عليه: عدم جواز استثناء الأكثر؛ لأن الأكثر يأخذ حكم الكل. ثم بين -أخيرًا- أن الحجة إنما هي في استعمال العرب؛ لأنهم أهل اللغة، وهم قد استعملوه في القليل دون الكثير، فلا يقاس ما أنكروه على ما حسنوه. 3 معناه: أن القياس لا بد له من علة جامعة بين الأصل والفرع، وقياس الأكثر على الأقل ليست فيه علة جامعة.

فصل: في حكم الاستثناء بعد جمل متعددة

فصل: [في حكم الاستثناء بعد جمل متعددة] إذا تعقب الاستثناء جملًا، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا....} ، وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ في سُلْطانِه، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتَه إلَّا بإِذْنِه" 2: رجع الاستثناء إلى جميعها، وهو قول أصحاب الشافعي3. وقال الحنفية: يرجع إلى أقرب المذكورين4 لأمور ثلاثة:

_ 1 سورة النور "4-5". 2 رواه أحمد في مسنده "5/ 272" ومسلم: كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة، حديث "673" وأبو داود: كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة، حديث "582"،والترمذي: كتاب الصلاة، باب ما جاء من أحق بالإمامة حديث "235". وقال: "حديث حسن صحيح". كما أخرجه ابن ماجه والنسائي والدارقطني والطيالسي، جميعهم في كتاب الصلاة، من حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلمًا -أي: إسلامًا- ولا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه" والتكرمة: الموضع الخاص لجلوس الرجل: من فراش أو سرير أو غير ذلك مما يعد كرامة. 3 كما أنه رأي جمهور العلماء، مالك والشافعي وأحمد وأكثر أصحابهم. انظر: العدة "2/ 678" شرح تنقيح الفصول ص249، المستصفى "3/ 388". 4 محل الخلاف بين العلماء في هذه المسألة: إذا لم توجد قرينة أو دليل على أن الاستثناء راجع إلى بعض الجمل دون البعض.

أحدهما: أن العموم يثبت في كل صورة بيقين، وعود الاستثناء على جميعها مشكوك فيه، فلا يزيل -أي: العموم- المتيقن بالشك1.

_ = فقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ... إلى قوله، تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الخلاف في الاستثناء هنا راجع إلى الجملتين الأخيرتين وهما قوله، تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فرجوعه إلى الجملة الأخيرة متفق عليه، ورجوعه إلى الجملة الأولى، فتقبل شهادته أو لا؟ محل الخلاف؛ فالجمهور يرون قبول شهادته، باعتبار أن الاستثناء يرجع إلى الجميع والحنفية يقولون: لا تقبل شهادته. ولا خلاف بين الجميع في عدم رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة} لأن الجلد حق الآدمي، ولا يسقط بالتوبة. انظر: نهاية السول "2/ 104 وما بعدها" طبعة صبيح. ومثل ذلك: ما لو قال قائل: "نسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وخيلي وقف، إلا الحيض" فإن الاستثناء راجع إلى الجملة الأولى، بقرينة ذكر الحيض، فإنه مختص بالنساء. ولو قال: "إلا الزنجيين أو الهنديين" اختص بالثانية، لأن هذه الصفات في العرف مختصة بالعبيد. ولو قال: "إلا الدُّهم أو العراب" اختص بالأخيرة؛ لأن هذه صفات الخيل عرفًا. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 613". وجمهور العلماء على أن العطف لا يشترط فيه أن يكون بالواو، بل يجوز أن يكون بثم أو غيرها من حروف العطف، واشترط بعضهم أن يكون ذلك بالواو، وأن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل، وإلا عاد إلى الأخيرة فقط. وكون العطف في الجمل من باب الغالب، وإلا فإنه يقع في المفردات أيضًا، فلو قال: حفصة وفاطمة طالقتان إن شاء الله، فإنه يكون من هذ الباب أيضًا. انظر: التمهيد للإسنوي ص399. 1 معناه: أن العموم في كل جملة من الجمل المتقدمة متيقن، وعود الاستثناء جميعها مشكوك فيها، ولا يرفع المتيقن بالمشكوك، وإنما عاد إلى الأخيرة =

الثاني: أن الاستثناء إنما وجب رده إلى ما قبله، ضرورة أنه لا يستقل بنفسه، فإذا تعلق بما يليه: فقد استقل وأفاد، فلا حاجة إلى تعلقه بما قبل ذلك، فلا نعلقه به، وصار كالاستثناء من الاستثناء. والثالث: أن الجملة مفصول بينها وبين الأولى، فأشبه ما لو حصل فصل بينهما بكلام آخر1. وأدلتنا ثلاثة: أحدهما: أن الشرط إذا تعقب جملًا: عاد إلى جميعها، كقوله "نسائي طوالق، وعبيدي أحرار إن كلمتُ زيدًا" فكذلك الاستثناء، فإن الشرط والاستثناء سيّان2 في تعلقهما بما قبلهما وبغيرهما له، ولهذا يسمى التعليق بشرط مشيئة الله: استثناء، فما ثبت لأحدهما ثبت في الآخر. فإن قيل: الفرق بينهما: أن الشرط رتبته التقديم، بخلاف الاستثناء. قلنا: إذا تأخر الشرط فلا فرق بينهما. ثم إن كان متقدمًا: فلم لا يتعلق بالجملة الأولى، دون ما بعدها؟ فإذا تعلق بجميع الجمل -تقدم أو تأخر- وكذلك الاستثناء، فإنه

_ = للضرورة، وهي: أن الاستثناء لا بد وأن يكون متعلقًا بشيء آخر. 1 أي: أن الفصل بين الجمل بحرف العطف أشبه الفصل بكلام أجنبي. 2 في جميع النسخ "شيئان" ولا معنى لذلك، فإن المقصود من هذا: أن الاستثناء كالشرط في أن كلًّا منهما يفتقر إلى ما تعلق به، فكما أن الشرط متعلق بمشروطه، ولا يستقل عنه، فكذلك الاستثناء، متعلق بالمستثنى منه، ولا يستقل بدونه، وإذا ثبت أن بين الشرط والاستثناء هذا الاشتراك الخاص، وجب أن يستويا في رجوع كل منهما إلى جميع الجمل التي قبله. انظر: شرح الطوفي "2/ 614".

مساو للشرط في حال تأخره1. الثاني: اتفاق أهل اللغة على أن تكرار الاستثناء عقيب كل جملة2 عيٌّ ولكنة، ولو لم يعد الاستثناء إلى الجميع، لم يقبح ذلك، بل كان متعينًا لازمًا فيما يريد فيه الاستثناء من جميع الجمل. الثالث: أن العطف بالواو يوجب نوعًا من الاتحاد بين المعطوف والمعطوف عليه، فتصير الجمل كالجملة الواحدة، فيصير كأنه قال: "اضرب الجماعة الذين هم قتلة وسرّاق إلا من تاب" ولا فرق بين هذا وبين قوله: "اضرب من قتل وسرق إلا من تاب"3.

_ 1 خلاصة ذلك: أن الخصم اعترض على قياس الاستثناء على الشرط بوجود فرق بينهما، وهو: أن الشرط رتبته التقديم، بخلاف الاستثناء فإنه متأخر. فأجاب المصنف عن ذلك بثلاثة أوجه. الوجه الأول: قولهم: "رتبة الشرط التقديم" فقال: هذا في العقل، ونحن نتكلم في اللغة، ولا يلزم من توقف المشروط على الشرط وتقدمه عليه عقلًا أن لا يساوي الاسثتناء فيما ذكر. الوجه الثاني: أن كلامنا فيما إذا تأخر الشرط، مثل: نسائي طوالق، وعبيدي أحرار، إن كلمتُ زيدًا، فهو مثل: نسائي طوالق، وعبيدي أحرار، إلا أن أكلم زيدًا. الوجه الثالث: أنه يلزم على قولهم أن يتعلق الشرط بالجملة الأولى فقط، وهو باطل بالاتفاق، فدل ذلك على أن تقديم الشرط لا اعتبار له، وبذلك يستوي الحكم على الشرط والاستثناء. انظر: شرح الطوفي "2/ 615-616". 2 كأن يقال: نسائي طوالق إلا أن أكلم زيدًا، وعبيدي أحرار إلا أن أكلم زيدًا. 3 معناه: أن العطف يوجب اتحادًا معنويًّا بين المعطوف والمعطوف عليه، ولهذا قدرت التثنية والجمع، نحو: الزيدان والزيدون، بالعطف، نحو: قام زيد وزيد وزيد وشبه ذلك بقولهم: "قاموا" فواو العطف، والجمع والضمير المتصل =

وقولهم: "إن التعميم مستيقن": ممنوع، فإن العموم والإطلاق لا يثبت قبل تمام الكلام، وما تم حتى أردف باستثناء يرجع إليه1. ثم يبطل بالشرط والصفة، وقد سلم أكثرهم عموم ذلك. ولما ذكر الله -تعالى- خصال كفارة اليمين الثلاثة، ثم قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} 2: رجع ذلك إلى جميعها. وقولهم: "إن الاستثناء إنما تعلق بما قبله ضرورة" ممنوع، بل إنما رجع إلى ما قبله، لصلاحيته لذلك3.

_ = بالفعل، كل ذلك وأشباهه فيه اتحاد معنوي، فتكون الجمل المتعددة كالجملة الواحدة. 1 معنى ذلك: أن المخالفين في رجوع الاستثناء إلى الجميع استدلوا بأن العموم ثابت في كل صورة بيقين، والاستثناء مشكوك فيه، والمتيقن لا يرفع المشكوك فأجاب المصنف عن ذلك: بأنه إن أرادوا أن التعميم مستيقن قبل تمام الكلام فهذا ممنوع، وإن أرادوا أنه متيقن بعد تمام الكلام، فالكلام لا يتم إلا بالاستثناء، وبعد الاستثناء لا يبقى العموم متيقنًا، حتى يكون رفعه بالشك ممنوعًا، إلا على قولهم: يتعلق بالجملة الأخيرة، ويبقى العموم فيما قبلها، وهذا هو محل النزاع. 2 سورة المائدة من الآية "89" وهي قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . ومحل الشاهل: أن قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} راجع إلى الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة. 3 هذا رد لقولهم: "إن الاستثناء تعلق بما قبله للضرورة" وهو أنه لا يمكن أن يستقل بنفسه، فأجاب المصنف بأنه ليس للضرورة، وإنما لصلاحية تعلق ما قبله به، والجمل كلها صالحة لذلك التعلق.

ثم يبطل -أيضًا- بالشرط والصفة1. أما الاستثناء من الاستثناء2: فلم يمكن عوده إلى الأول، لأن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي3، فتعذر النفي من النفي. وهكذا كل ما فيه قرينة تصرفه عن الرجوع، لا يرجع على الأول، كقوله تعالى: { ... فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 4 لا يعود إلى التحرير، لأن صدقتهم إنما تكون بمالهم، فالعتق ليس حقًّا لهم. فصل: في الشرط الشرط: ما لا يوجد المشروط مع عدمه، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده.

_ 1 معناه: أن ما ذكروه من أن التعلق بالجملة الأخيرة للضرورة، يبطل بالشرط والصفة، فإن كلًّا منهما يتعلق بجميع الجمل، مع أن هذه الضرورة تندفع بتعلقهما بالجملة الأخيرة. انظر: شرح الطوفي "2/ 618-619". 2 هذا رد على قولهم: "وصار كالاستثناء من الاستثناء". 3 هذا الاستشهاد إنما يصح على رأي الجمهور. أما الحنفية: فقد خالفوا في ذلك. ولهم رواية أخرى أن الاستثناء من الإثبات نفي، وأما الاستثناء من النفي فليس بإثبات. انظر: كشف الأسرار "3/ 126". واستثنى المالكية من هذه القاعدة الأيمان فقالوا: إن الاستثناء من النفي إثبات، في غير الأيمان. انظر: الفروق للقرافي "2/ 93". 4 سورة النساء من الآية "92" ومحل الشاهد: أن الاستثناء راجع إلى الدية لا إلى التحرير، لأنه ليس من حق الورثة حتى يصدّقوا به. ومثل ذلك كل قرينة تخرج جملة من الجمل المتقدمة على الاستثناء، وتقدم توضيح ذلك في الهامش أول الفصل.

والعلة: يلزم من وجودها وجود المعلول، ولا يلزم من عدمها عدمه في الشرعيات. والشرط: عقلي، وشرعي، ولغوي: فالعقلي: كالحياة للعلم، والعلم للإرادة. والشرعي: كالطهارة للصلاة، والإحصان للرجم. واللغوي: كقوله: "إن دخلت الدار فأنت طالق" و"إن جئتني أكرمتك" مقتضاه في اللغة: اختصاص الإكرام بالمجيء، فينزل منزلة التخصيص والاستثناء. والاستثناء والشرط يغير الكلام عما كان يقتضيه لولاه حتى يجعله متكلمًا بالباقي، لا أنه يخرج من الكلام ما دخل فيه؛ فإنه لو دخل لما خرج1. فإذا قال: "أنت طالق إن دخلت الدار" معناه: أنك عند الدخول طالق. وقوله: "له عشرة إلا ثلاثة" معناه: له عليّ سبعة، فإنه لو ثبت له عليه عشرة: لما قدر على إسقاط ثلاثة، ولو قدر على ذلك بالكلام

_ 1 هذا هو المخصص الثاني من المخصصات المتصلة. ومن المعروف أن الأحكام الشرعية لها علل، وهي أسبابها المؤثرة في وجودها شرعًا، أي: هي المعرفة لها شرعًا. ولها كذلك شروط يتوقف تأثير العلل في الأحكام عليها. فالزنا -مثلًا- علة لوجوب الرجم، والإحصان شرط لتأثير هذه العلة. والزكاة لها سبب هو ملك النصاب، ولها شرط هو تمام الحول. ولذلك عرف المصنف هنا: الشرط والعلة، فذكر أن الشرط هو: ما يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. وأن العلة هي: ما يلزم من وجودها وجود المعلول، ولا يلزم من عدمها عدمه في الشرعيات، لجواز أن يكون له علة أخرى. وقد تقدم الكلام على الشرط والفرق بينه وبين العلة والمانع في الحكم الوضعي.

المتصل: لقدر عليه بالمنفصل، فيصير موضوع الكلام ذلك. فقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} 1 لا حكم له قبل إتمام الكلام، فإذا تم كان الكلام مقصورًا على من وجد منه السهو والرياء، لا أنه دخل فيه كل مصلٍّ، ثم خرج البعض، كذلك الاستثناء والشرط.

_ 1 سورة الماعون آية "4".

فصل: في المطلق والمقيد

فصل: في المطلق والمقيد المطلق: هو المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه1، وهي النكرة في سياق الأمر، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 2.

_ 1 قوله: "المتناول لواحد" خرج به ألفاظ الأعداد المتناولة لأكثر من واحد. وخرج بقوله: "لا بعينه" المعارف، كزيد وعمرو، وخرج بباقي التعريف: المشترك، والواجب المخير، فإن كلًّا منهما يتناول واحدًا لا بعينه، لا باعتبار حقائق مختلفة. انظر: شرح الكوكب المنير "3/ 392". 2 سورة المجادلة من الآية "3" وقد مشى المصنف على أن المطلق والنكرة بمعنى واحد، كالمثال المتقدم، بينما ذهب كثير من الأصوليين إلى التفرقة بينهما. فإن المطلق: هو الدال على الماهية من حيث هي، والنكرة: هي الدالة على الماهية بقيد الوحدة الشائعة. وما قاله المصنف من اتحاد المطلق والنكرة، هو اختبار بعض الأصوليين، كابن الحاجب والآمدي، وعليه عامة النحويين؛ لأن الموجود في الخارج هو الفرد، والماهية الذهنية لا وجود لها في الخارج. انظر: بيان المختصر "2/ 349" والإحكام "3/ 1"، نثر الورود على مراقي السعود "1/ 321".

وقد يكون في الخبر، كقوله، عليه السلام: "لا نِكَاحَ إلَّا بِوَليٍّ" 1. والمقيد: هو المتناول لمعيّن، أو غير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 3 قيد الرقبة بالإيمان، والصيام بالتتابع. وقد يكون اللفظ مطلقًا مقيدًا بالنسبة4، كقوله تعالى:

_ 1 للحديث طرق وشوهد كثيرة تجعله من قسم الصحيح: فقد أخرجه الدارقطني في سننه: كتاب النكاح، بلفظ: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وأيما امرأة أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل" والشافعي: كتاب النكاح، باب: لا يصح النكاح إلا بولاية رجل، والبيهقي: كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. كما أخرجه ابن حبان في كتاب النكاح، باب ما جاء في الولي والشهود من حديث عائشة -رضي الله عنها- انظر زوائد ابن حبان للهيثمي ص305. ومحل الشاهد في الآية: أن الرقبة جاءت مطلقة عن قيد الإيمان، كما أن لفظ "الولي" جاء في الحديث مطلقًا. 2 فهو يقابل المطلق، ومعناه: المتناول لمعين، أو غير معين، لكنه موصوف بوصف زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه، وتتفاوت مراتبه في التقييد باعتبار قلة القيود وكثرتها، فما كثرت قيوده كان أعلى رتبة مما قلت قيوده، مثل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [سورة التحريم: 5] . 3 سورة النساء من الآية "92". 4 أي: قد يجتمع الإطلاق والتقييد في لفظ واحد، باعتبار جهتين مختلفتين، فيكون اللفظ مطلقًا من وجه، مقيدًا من وجه آخر، كلفظ "رقبة" فهي مقيدة من حيث الإيمان، فلا تكفي الرقبة الكافرة. ومطلقة من حيث ما سوى الإيمان من =

{رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 1 مقيدة بالإيمان، مطلقة بالنسبة إلى السلامة وسائر الصفات. ويسمى الفعل مطلقًا، نظرًا إلى ما هو من ضرورته من: الزمان، والمكان، والمصدر، والمفعول به، والآلة فيما يفتقر إلى الآلة والمحل للأفعال المتعدية، وقد يتقيد بأحدها، دون بقيتها2 والله أعلم.

_ = الأوصاف، ككمال الخلقة، والطول، والبياض وأضداد ذلك. انظر: شرح الكوكب المنير "3/ 393-394". 1 سورة النساء من الآية "92". 2 ومعناه: أن الفعل قد يقيد ببعض مفاعيله دون بعض، فيكون مطلقًا مقيدًا بالإضافة إلى بعضها دون بعض، مثل: "صم يوم الاثنين" فإن الصوم مقيد من جهة ظرف الزمان، ولو قيل: "صم في المدينة يومين" لكان على عكس ما تقدم انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 634".

فصل: في حمل المطلق على المقيد

فصل: [في حمل المطلق على المقيد] إذا ورد لفظان: مطلق ومقيد، فهو على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكون في حكم واحد، بسبب واحد، كقوله، عليه السلام: "لا نِكَاحَ إلَّا بِوَليٍّ" 3، وقال: "لا نِكَاحَ إلَّا بِوَليٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهدَيْ عَدْلٍ" 4، فيجب حمل المطلق على المقيد.

_ = الأوصاف، ككمال الخلقة، والطول، والبياض وأضداد ذلك. انظر: شرح الكوكب المنير "3/ 393-394". 1 سورة النساء من الآية "92". 2 ومعناه: أن الفعل قد يقيد ببعض مفاعيله دون بعض، فيكون مطلقًا مقيدًا بالإضافة إلى بعضها دون بعض، مثل: "صم يوم الاثنين" فإن الصوم مقيد من جهة ظرف الزمان، ولو قيل: "صم في المدينة يومين" لكان على عكس ما تقدم انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 634". 3 تقدم تخريج هذه الرواية قريبًا. 4 هذه الرواية أوردها المصنف في المغني "9/ 368" فقال: "وروى أبو بكر البرقاني بإسناده عن جابر قال: قال رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل" ولم نجدها في كتب السنة إلا عند البيهقي في كتاب النكاح =

وقال أبو حنيفة: لا يحمل عليه؛ لأنه نسخ، فإن الزيادة على النص نسخ، فلا سبيل إلى النسخ بالقياس1. وقد بينا فساد هذا2، فإن قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3 ليس بنص في إجزاء الكافرة4، بل هو مطلق يعتقد ظهور عمومه، مع تجويز الدليل على خصوصه، والتقييد صريح في الاشتراط، فيجب تقديمه.

_ = باب: لا نكاح إلا بولي مرشد عن ابن عباس موقوفًا. السنن الكبرى "7/ 124" وأورده الهيثمي في كتاب النكاح، باب ما جاء في الولي والشهود، ولم يورد فيه لفظ "مرشد" انظر: مجمع الزوائد "3/ 286" والحديث بلفظ "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" حديث مشهور له طرق كثيرة جعلته من قسم الصحيح، كما تقدم قريبًا. ومحل الشاهد في الحديثين: أن الأول مطلق في الولي بالنسبة إلى الرشد والغي وفي الشهود بالنسبة إلى العدالة والفسق، والثاني مقيد بالرشد في الولي، والعدالة في الشهود، وهما متحدان في السبب والحكم، فالسبب هو النكاح، والحكم: نفي النكاح بدون ولي وشهود. 1 الصواب أن رأي الحنفية في صورة اتحاد السبب والحكم متفق -في الجملة- مع رأي الجمهور، في صورة ما إذا كان الحكم مثبتًا. انظر: كشف الأسرار "2/ 287". قال المجد ابن تيمية: "فإن كان المطلق والمقيد مع اتحاد السب والحكم في شيء واحد، كما لو قال: "إذا حنثتم فعليكم عتق رقبة". وقال في موضع آخر: "إذا حنثتم فعليكم عتق رقبة مؤمنة" فهذا لا خلاف فيه، وأنه يحمل المطلق على المقيد، اللهم إلا أن يكون المقيد آحادًا والمطلق تواترًا، فينبني على مسألة الزيادة على النص، هل هي نسخ؟ وعلى النسخ للتواتر بالآحاد والمنع قول الحنفية" المسودة ص146. 2 في مسألة: الزيادة على النص، هل هي نسخ أو لا؟ 3 سورة المجادلة من الآية3. 4 لأنه كما يجوز بالمؤمنة يجوز بالكافرة، فهو ظاهر في العموم، فيجوز تخصيصه، =

القسم الثاني: أن يتحد الحكم ويختلف السبب، كالعتق في كفارة الظهار، والقتل، قيد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان، وأطلقها في الظهار. فقد روي عن الإمام أحمد -رحمه الله- ما يدل على أن المطلق لا يحمل على المقيد، وهو اختيار أبي إسحاق بن شاقلا، وقول جل الحنفية، وبعض الشافعية1. واختار القاضي: حمل المطلق على المقيد2. وهو قول المالكية3، وبعض الشافعية4، لأن الله -تعالى- قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 5، وقال في المداينة:

_ = أما التقييد فإنه صريح في اشتراط الإيمان، فيقدم على الظاهر. وعبارة الغزالي: "فلو قال في كفارة القتل". {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ثم قال فيها مرة أخرى: "فتحرير رقبة مؤمنة" فيكون هذا اشتراطًا، ينزل عليه الإطلاق"، المستصفى "3/ 398". 1 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص283، العدة "2/ 638" كشف الأسرار "2/ 287" الإحكام للآمدي "3/ 5"، نهاية السول "2/ 141". 2 انظر: العدة "638 وما بعدها". 3 جاء في نثر الورود "1/ 325": "وظاهر كلامه -أي: المصنف- أن أكثر العقلاء لا يحمل أحدهما على الآخر وأنهما سواء في ذلك، ليس كذلك، لأن حمل المطلق على المقيد فيما إذا اتحد الحكم واختلف السبب قال به جل الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية". وفي الإشارات للباجي ص41: "أكثر المالكية على أنه لا يحمل المطلق على المقيد إلا بدليل يقتضي ذلك". 4 وهل هذا الحمل من قبيل اللغة، أو على القياس عليه؟ خلاف بين أصحاب هذا المذهب. انظر في ذلك: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 156". 5 سورة الطلاق من الآية2.

{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 1، ولم يذكر عدلان ولا يجوز إلا عدل، فظاهر هذا حمل المطلق على المقيد. ولأن العرب تطلق في موضع، وتقيد في موضع آخر، فيحمل أحدهما على صاحبه. كما قال2: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك أرض والرأي مختلف وقال آخر:3 وما أدري إذا يمّمتُ أرضًا ... أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني

_ 1 سورة البقرة من الآية: 282. 2 الشاعر هو: قيس بن الحطيم بن عدي بن عمرو الخزرجي، من شعراء الجاهلية توفي قبل ظهور الإسلام، وابنه ثابت بن قيس من الصحابة. والبيت من قصيدة له مطلعها: رد الخليطُ الجمالََ فانقبضا وقطّعوا من وصالك السببا والخليط: المجاور في الدار. انظر: ديوان قيس بن الحطيم ص171، 239، تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد، الكتاب لسيبويه "1/ 37". ومحل الشاهد: أنه حذف من الشطر الأول عبارة "راضون" لدلالة قوله: "راض" عليها في الشطر الثاني، والتقدير: نحن بما عندنا راضون. 3 الشاعر هو: المثقب العبدي. والبيتان من قصيدة له مطلعها: أفاطم قبل بَيْنِك متّعيني ومنعك ما سألت كأن تبيني انظر: ديوان المثقب العبدي ص212، معاني القرآن للفراء "1/ 231"، الشعر والشعراء لابن قتيبة "1/ 396". ومحل الشاهد في قوله: "أريد الخير" فإن التقدير: وأتوقى الشر.

وقال أبو الخطاب: يبني عليه من جهة القياس1؛ لأن تقييد المطلق كتخصيص العموم، وذلك جائز بالقياس الخاص على ما مر2. فإن كان ثَمَّ مقيدان بقيدين مختلفين ومطلقًا: ألحق بأشبههما به وأقربهما إليه3. ومن نصر الأول4 قال: هذا تحكم محض يخالف وضع اللغة، إذ لا يتعرض القتل للظهار، فكيف يرفع الإطلاق الذي فيه؟ والأسباب المختلفة تختلف -في الأكثر- شروط واجباتها. ثم يلزم من هذا تناقض؛ فإن الصوم مقيد بالتتابع في الظهار، وبالتفريق في الحج، حيث قال تعالى:

_ 1 انظر: التمهيد "2/ 181". 2 في قول المصنف: "التاسع: قياس نص خاص إذا عارض عموم نص آخر فيه وجهان". قال الطوفي في شرحه "2/ 640": "معنى هذا الكلام" أن يحمل المطلق على المقيد إن وافقه قياس دل عليه، قياسًا على تخصيص العام بالقياس، كما سبق، وإن لم يوافقه قياس لم يحمل المطلق على المقيد". 3 معنى ذلك: أنه إذا وجد لفظ مطلق، ومقيدان متضادان، حمل المطلق على ما هو أشبه به وأقرب إليه من المقيدين المتضادين، وهو تفريع على القول بحمل المطلق على المقيد، ومن أمثلة ذلك: غسل الأيدي في الوضوء، ورد مقيدًا بالمرافق، كما في الآية الكريمة، وورد مقيدًا بالكوع في السرقة بالإجماع المستند إلى السنة، فقد روي عن أبي بكر الصديق وعمر -رضي الله عنهما- أنهما قالا: إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع، ولا مخالف لهما في الصحابة. ومسح الأيدي في التيمم ورد مطلقًا، فهل يلحق بالسرقة، فيقيد بالكوع، أو بالوضوء في تقييده بالمرافق. ولهذا خرج الخلاف انظر شرح الطوفي "2/ 645". 4 أي: مذهب القائلين بعدم حمل المطلق على المقيد.

{ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 1، ومطلق في اليمين، فعلى أيهما يحمل؟ وفي المواضوع التي استشهدوا بها: كان التقييد بأمر آخر2، والله أعلم. القسم الثالث: أن يخلف الحكم: فلا يحمل المطلق على المقيد، سواء اتفق السبب أو اختلف، كخصال الكفارة، إذا قيد الصيام بالتتابع، وأطلق الإطعام3؛ لأن القياس شرطه: اتحاد الحكم، والحكم ههنا مختلف4.

_ 1 سورة البقرة من الآية "196". وقد اعترض الشيخ الطوفي على هذا التمثيل فقال: "أما تردد صوم كفارة اليمين بين صوم الظهار والحج، فمثال ذكره الشيخ أبو محمد، وفيه نظر؛ لأن الصوم في كفارة اليمين ما ورد عن الشرع إلا مقيدًا بالتتابع، بناء على أن العمل بقراءة ابن مسعود، رضي الله عنه: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وأنها إما قرآن، أو خبر، كما سبق، نعم يصح تمثيل الشيخ أبي محمد بناء على قول من لا يرى التتابع فيهن وضرب الأمثلة في أصول الفقه لا يختص بمذهب" شرح المختصر "2/ 645-646". 2 أي: القائلون بحمل المطلق على المقيد، وهو ما تقدم من شروط العدالة في المداينة، وفي الشواهد الشعرية. ويقصد المصنف أن التقييد لم يكن بحمل المطلق على المقيد، وإنما من قرائن خارجية. 3 هذا مثال لاتفاق السبب. ومثال اختلاف السبب: الأمر بالتتابع في كفارة اليمين، على قراءة ابن مسعود وإطلاق الإطعام في كفارة الظهار. 4 معناه أن المطلق والمقيد لما كان حكمهما بالنظر إلى كل واحد منهما منفردًا مختلفًا عن الآخر، كان فائدة حمل أحدهما على الآخر: اتحاد الحكم، فلما كان حكمهما مختلفًا امتنع حمل أحدهما على الآخر. انظر: شرح الطوفي "2/ 644".

باب: في الفحوى والإشارة

باب: في الفحوى والإشارة فصل: فيما يقتبس من الألفاظ من فحوها وإشارتها لا من صيغها 1 وهي خمسة أضرب. الأول: يسمى اقتضاء.

_ 1 الدليل الشرعي: إما منقول، وإما معقول، أو ثابت بالمنقول والمعقول. فالمنقول: الكتابة والسنة، ودلالتهما: إما من منطوق اللفظ، أو من غير منطوق اللفظ. فالأول يسمى منطوقًا، كفهم وجوب الزكاة في السائمة في قوله، عليه الصلاة والسلام: "في سائمة الغنم الزكاة". والثاني يسمى فحوى ومفهومًا، كفهم عدم وجوب الزكاة في المعلوفة في الحديث المتقدم. والدليل المعقول: القياس، لأنه يستفاد بواسطة النظر العقلي. أما الدليل الثابت بالمنقول والمعقول: فالإجماع. فقول المصنف: "لا من صيغها" يخرج المنطوق؛ لأنه مستفاد من الصيغة. فيبقى ما لا يستفاد منه الصيغة، وهو ما يطلق عليه: الفحوى، أو الإشارة، أو الإيماء، أو لحن الخطاب. فكلها بمعنى واحد فالفحوى في اللغة معنى القول. والإشارة معناها: الإيماء، يقال: أومأ إليه باليد، أي: أشار إليه، إلا أن الإيماء أعم؛ لأن الإشارة لا تكون إلا باليد، أما الإيماء فقد يكون باليد وقد يكون بغيرها. =

وهو ما يكون من ضرورة اللفظ1، وليس بمنطوق به: إما أن لا يكون المتكلم صادقًا إلا به، كقوله: "لا عمل إلا بنية"2، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعًا بدونه، كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ....} 3 أي: فأفطر فعدَّة، وقولهم: "أعتق عبدك عني وعليَّ ثمنه" يتضمن الملك ويقتضيه ولم ينطق به4. أو من حيث يمتنع وجوده عقلًا بدونه، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 5 يتضمن إضمار الوطء ويقتضيه.

_ = واللَّحنْ: مأخوذ من اللَّحن بالتحريك، أي: قلت قولًا يفهمه عنك، قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} سورة محمد "30" أي: معناه. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 705 وما بعدها. 1 أي: يتوقف صدق المتكلم، أو صحة الملفوظ به عليه عقلًا، أو شرعًا كما سيأتي التمثيل لذلك. 2 تقدم تخريج الحديث على الرواية المشهورة: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" أما هذه الرواية فقال عنها صاحب كشف الخفا "1/ 166": "وورد بألفاظ مختلفة، بيناها في أوائل "الفيض الجاري" منها: العمل بالنية، ومنها: "لا عمل إلا بالنية". ومحل الشاهد: أن التقدير: "لا عمل صحيح إلا بنية"؛ لأن الأعمال كلها كالصلاة والصوم وسائر العبادات يمكن وجودها بدون نية، فكان إضمار "الصحة" من ضرورة صدق الكلام. 3 سورة البقرة من الآية: "184"، وتقدير الكلام: أو على سفر فأفطر، فعليه صوم عدة من أيام أخر؛ لأن قضاء الصوم إنما يجب إذا أفطر في سفره، أما إذا صام في سفره فلا موجب للقضاء. 4 لأنه لا يعتق عن الإنسان إلا ما كان ملكًا له، فوجب تصحيح هذا العتق، وهو أن يقدر دخول العبد في ملك القائل حتى يتفرع عليه العتق. 5 سورة النساء من الآية "23" ومحل الشاهد: أن العقل يحيل إضافة التحريم إلى =

ويجوز أن يلقب هذا بالإضمار، ويقرب من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. الضرب الثاني: فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب: كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 يفهم منه: كون السرقة علة، وليس بمنطوق به، ولكن يسبق إلى الفهم من فحوى الكلام. وكذا قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} 2 أي: لبرهم {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 3 أي: لفجورهم. وهذا قد يسمى "إيماء" و"إشارة" و"فحوى الكلام" و"لحنه" وإليك الخيرة في تسميته. الضرب الثالث: التنبيه: وهو فهم الحكم في المسكوت من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده، ومعرفة وجود المعنى في المسكوت بطريق الأولى، كفهم تحريم الشتم والضرب من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4. ولا بد من معرفتنا المعنى في الأدنى، ومعرفة وجوده في الأعلى.

_ = الأعيان، فوجب إضمار فعل يتعلق به التحريم، وهو الوطء. انظر في توضيح ذلك كله: شرح الطوفي "2/ 710-711". وهذه الصورة كلها تسمى "دلالة الاقتضاء" لأن اللفظ يقتضيها لتصحيح الكلام. 1 سورة المائدة من الآية "38". 2 سورة الانفطار الآية "13". 3 سورة الانفطار الآية "14". 4 سورة الإسراء من الآية "23".

فلولا معرفتنا أن الآية سيقت للتعظيم للوالدين؛ لما فهمنا منع القتل، إذ قد يقول السلطان، إذا أمر بقتل ملك لمنازعته له في ملكه: اقتله، ولا تقل له: أف. ويسمى مفهوم الموافقة، وفحوى اللفظ. واختلف أصحابنا في تسميته قياسًا. فقال أبو الحسن الجزري1 وبعض الشافعية: هو قياس؛ لأنه إلحاق المسكوت بالمنطوق في الحكم، لاجتماعهما في المقتضى، وهذا هو القياس2. وإنما ظهر فيه المعنى، فسبق إلى الفهم من غير تأمل، فأشبه القياس فيما ظهرت العلة فيه بنص أو غيره3، مثل: قياس الجوع المفرط على الغضب في المنع من الحكم؛ لكونه يمنع كمال الفكر4. وقياس الزيت على السمن في حكم النجاسة إذا وقعت فيه، في حال جموده، أو كونه مائعًا بغير الفأرة5.

_ 1 تقدمت ترجمته. 2 ويسمى قياس الأولى، أو مفهوم الموافقة. 3 معناه: لو قيل: إن القياس يحتاج إلى تأمل واستنباط علة، وهذا ليس كذلك، فأجاب المصنف عن هذا بقوله: "وإنما ظهر فيه المعنى إلخ". 4 روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، من حديث أبي بكر نفيع بن الحارث، أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "لا يقضي القاضي وهو غضبان". فيقاس عليه كل ما يؤدي إلى اضطراب الخاطر، وضعف إدراك الحكم، كالجوع المفرط ونحوه. 5 روى البخاري وأبو داود وغيرهما عن سفيان بن عيينة، حدثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن، فماتت، فسئل عنها رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه". =

وقال القاضي أبو يعلى، والحنفية، وبعض الشافعية، ليس بقياس1، إذ هو مفهوم من اللفظ من غير تأمل ولا استنباط، بل يسبق على الفهم حكم المسكوت مع المنطوق من غير تراخ، إذا كان هو الأصل في القصد، والباعث على النطق، وهو أولى في الحكم. ومن سماه قياسًا: سلم أنه قاطع، فلا تضره تسميته قياسًا2 وقد يلتحق بهذا الفن ما يشبهه3 من وجه، ولا يفيد القطع، كقولهم: "إذا ردت شهادة الفاسق، فالكافر أولى؛ لأن الكفر فسق وزيادة" فهذا ليس بقاطع، إذ لا يبعد أن يقال: الفاسق متهم في دينه، والكفار يحترز من الكذب لدينه. وأما الفاسد من هذا الضرب4: فنحو قولهم: "إذا جاز السلم في

_ = وجاء في المصنف لعبد الرزاق "278" وأبو داود "3842" وابن حبان "1394" عن معمر عن الزهري، عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: سئل النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن الفأرة تقع في السمن، قال: "إذا كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا لا تقربوه". فيقاس الزيت على السمن في التنجيس، بوقوع النجاسة فيه، بجامع السراية. انظر: شرح الطوفي "2/ 717". 1 وسماه الحنفية "دلالة النص" انظر: كشف الأسرار "1/ 73". 2 قال الطوفي -بعد أن ذكر أدلة الفريقين- قلت: دليل المسألة متجاذب، وكأن ما قاله الآمدي أرجح" شرح المختصر "2/ 720" فكأنه يريد أن يقول: إن الخلاف في المسألة خلاف لفظي، وإن كان يرجح ما ذهب إليه القائلون بأن هذا المفهوم ليس من باب القياس، وإنما هو من قبيل فحوى الدلالة اللفظية. 3 معناه: أن مفهوم الموافقة ينقسم إلى قطعي في دلالته، كما تقدم في تحريم سائر أنواع الإيذاء من النهي عن التأفيف، وإلى ظني غير قطعي، كالأمثلة التي ذكرها المصنف، من رد شهادة الكافر وغيره. 4 معناه: أن مفهوم الموافقة إما قاطع وإما ظني، كما تقدم، وإما فاسد، كالمثال الذي ذكره وهو السلم.

المؤجل: ففي الحال أجوز، ومن الغرر أبعد" فإنه لا بد من اشتراكهما في المقتضى، وليس المقتضى لصحة السلم المؤجل: بعده من الغرر ليلتحق به الحال، بل الغرر مانع، احتمل في المؤجل، والحكم لا يصح لعدم مانعه، بل لوجود مقتضيه. ولو كان بُعده من الغرر علة الصحة فما وجدت في الأصل، فكيف يصح الإلحاق؟ الضرب الرابع: دليل الخطاب: ومعناه: الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه. ويسمى مفهوم المخالفة؛ لأنه فهم مجرد لا يستند إلى منطوق، وإلا فما دل عليه المنطوق -أيضًا- مفهوم. ومثاله قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} 1 و "في سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ" 2 يدل على انتقال الحكم في المخطئ3 والمعلوفة4. وهذا حجة في قول إمامنا5، والشافعي، ومالك، وأكثر المتكلمين6.

_ 1 سورة المائدة من الآية "95". 2 تقدم تخريجه 3 فتخصيص الجزاء بالعمد في قتل الصيد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة 95] . يدل على نفي وجوب الجزاء في قتل الصيد خطأ، وهو أحد قولين لأهل العلم. 4 أي: أن تخصيص وجوب الزكاة بالسائمة يدل على أنها لا تجب في المعلوفة. 5 أي: الإمام أحمد رحمه الله تعالى، انظر: العدة "2/ 448". 6 وجماعة من أهل العربية: كأبي عبيدة وغيره، بالشروط التي ذكرها علماء الأصول ما عدا مفهوم اللقب فليس بحجة على الأصح.

وقالت طائفة منهم1، وأبو حنيفة2: لا دلالة له، لأمور خمسة: أحدها: أنه يحسن الاستفهام، فلو قال: "من ضربك عامدًا فاضربه" حسن أن تقول: "فإن ضربني خاطئًا هل أضربه؟ " ولو دل على النفي: لما حسن الاستفهام فيه كالمنطوق. الثاني: أن العرب تعلق الحكم على الصفة مع مساواة المسكوت عنه3، كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} 4، {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} 5، {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 6 فالمسكوت -أيضًا- محتمل للمساواة وعدمها، فلا سبيل إلى دعوى النفي بالتحكم.

_ 1 أي: من المتكلمين. 2 وكذلك أصحابه، وأبو بكر الباقلاني، وابن سريج، والقفال، والشاشي، وجمهور المعتزلة. انظر: شرح الطوفي "2/ 725". وقال أبو عبد الله البصري: إن كان ذلك قد ورد للبيان أو التعليم، دل على نفي الحكم في محل السكوت، وإلا فلا، المصدر السابق. 3 العبارة فيها قصور، وعبارة الغزالي في المستصفى "3/ 416": "المسلك الثالث: أنا نجدهم يعلقون الحكم على الصفة، تارة مع مساواة المسكوت عنه للمنطوق، وتارة مع المخالفة، فالثبوت للموصوف معلوم منطوق، والنفي عن المسكوت محتمل، فليكن على الوقف إلى البيان بقرينة زائدة، ودليل آخر. أما دعوى كونه مجازًا عند الموافقة، حقيقة عند المخالفة، فتحكم بغير دليل، يعارضه عكسه من غير ترجيح". 4 سورة النساء من الآية "23". 5 سورة النساء من الآية "102". 6 سورة البقرة من الآية "229".

الثالث: أن تعليقه الحكم على اللقب، والاسم العلَم لا يدل على التخصيص، ومنع ذلك بهت واختراع على اللغات، إذ يلزم من أن يكون قوله: "زيد عالم" كفر؛ لأنه نفي للعلم عن الله وملائكته. ويلزم من قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} 1 نفي الرسالة عن غيره، وذلك كفر. الرابع: أنه كما أن للعرب طريقًا إلى الخبر عن مخبر واحد واثنين مع السكوت عن الباقي: فلها طرق في الخبر عن الموصوف بصفة، فتقول: "رأيت الظريف، وقام الطويل" فلو قال، بعد: "والقصير" لم يكن مناقضة. الخامس: أن التخصيص للمذكور بالذكر قد يكون لفائدة سوى تخصيص الحكم به: فمنها: توسعة مجاري الاجتهاد، لينال المجتهد فضيلته2. ومنها: الاحتياط على المذكور بالذكر، كي لا يفضي اجتهاد بعض الناس إلى إخراجه من عموم اللفظ بالتخصيص. ومنها: تأكيد الحكم في المسكوت، لكون المعنى فيه أقوى كالتنبيه3. ومنها: معان لا يطلع عليها4.

_ 1 سورة الفتح من الآية "29". 2 لأن تخصيص الشيء بالذكر مع احتمال الاختصاص بالحكم وعدمه يحتاج إلى نظر واجتهاد، يحصل به فضيلة النظر، والثواب على قدر المشقة. 3 وهو دلالة الأدنى على ما هو أعلى منه، ويسمى بالقياس الأولوي، كما في دلالة النهي عن التأفيف على الشتم أو الضرب في قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} . أي: أسباب ومقتضيات يبطنها المتكلم ولا اطلاع لنا عليها

فلا سبيل إلى دعوى عدم الفائدة بالتحكم1 فلا ينكر الفرق بين المنطوق والمسكوت، لكن من حيث أن الأصل عدم الحكم في الكل، فبالذكر يبين ثبوته، في المذكور، وبقي المسكوت عنه على ما كان عليه، لم يوجد في اللفظ نفي له ولا إثبات له. فإذًا: لا دليل في اللفظ على المسكوت بحال. وعماد الفرق: نفي وإثبات. فمستند الإثبات: الذكر الخاص. ومستند النفي: الأصل. والذهن إنما ينبه على الفرق عن الذكر الخاص، فيسبق إلى الأوهام العامية أن الاختصاص والفرق من الذكر، لكن أحد طرفي الفرق حصل من الذكر، والآخر كان حاصلًا في الأصل. وهذا دقيق لأجله غلط الأكثرون2.

_ 1 معناه: أنه ما دام محتملًا لهذه المعاني، فدعواكم: أن فائدته نفي الحكم عما عداه تحكم وترجيح بلا مرجح. 2 خلاصة هذا الكلام: أنه إن اعترض أحد بأنكم بكلامكم هذا ساويتم بين المنطوق والمسكوت، مع أنه من المتفق عليه أن بينهما فرقًا. فأجاب النافون لحجية مفهوم التكليف، أي: عدم وجود حكم بالنسبة للمنطوق والمسكوت. إلا أن تخصيص الشيء بالذكر أثبت للمنطوق حكمًا، وبقي المسكوت عنه على أصل براءة الذمة، لعدم وجود دليل يدل على إثبات حكم له. فخلاصته: أن عندنا إثبات ونفي. فالإثبات ثبت بالذكر وهذا هو الدليل في المنطوق. والدليل الذي استند إليه النفي هو: القاعدة السابقة وهي: عدم الحكم، أو البراءة الأصلية.

ولنا دليلان1: أحدهما: أن فصحاء أهل اللغة يفهمون من تعليق الحكم على شرط، أو وصف: انتفاء الحكم بدونه، بدليل: ما روى يعلى بن أمية2 قال: قلت لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ألم يقل، تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 3، فقد أمن الناس؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" رواه مسلم4. فهما5 من تعليق إباحة القصر على حالة الخوف: وجوب الإتمام حال الأمن، وعجبا من ذلك.

_ = فالحكم في المنطوق ثبت بالدليل الخاص، أما المسكوت فلم يثبت من مفهوم الدليل الخاص، وإنما هو ثابت بالقاعدة الأصلية قبل النطق. 1 أي: على أن مفهوم المخالفة حجة. 2 هو: يعلى بن أمية بن أبي عبيدة التميمي الحنظلي، صحابي جليل، أسلم عام الفتح، وشهد حنينًا والطائف وتبوك، كان مشهورًا بالسخاء والكرم، شهد واقعة "صفين" مع علي -رضي الله عنه- وقتل فيها سنة "38هـ". انظر: الاستيعاب "4/ 1585"، سير أعلام النبلاء "3/ 100". 3 سورة النساء من الآية "101". 4 في كتاب صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافر وقصرها، وأبو داود: باب صلاة المسافر، والنسائي: كتاب تقصير الصلاة في السفر، والترمذي: كتاب التفسير باب من سورة البقرة، وابن ماجه: كتاب الصلاة، باب تقصير الصلاة في السفر، والدارمي: كتاب الصلاة، باب قصر الصلاة في السفر، وأحمد في المسند "1/ 25-26". 5 أي: يعلى بن أمية وعمر -رضي الله عنهما- وهما من فصحاء العرب، وقولهما حجة.

فإن قيل: الإتمام واجب بحكم الأصل فلما استثنى حالة الخوف: بقيت حالة الأمن على مقتضاه، فلذلك عجبا؛ حيث خولف الأصل. ثم الآية حجة لنا1، فإنه لم يثبت انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، فدل على انتفاء الدليل2. قلنا: ليس في القرآن آية تدل على وجوب التمام، بل قد روي عن عمر -رضي الله عنه- وهو صاحب القصة، وعائشة، وابن عباس: "أن الصلاة إنما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر"3. فدل على أن فهمهم: وجوب الإتمام وتعجبهم إنما كان لمخالفة دليل الخطاب، وإنما ترك دليل الخطاب لدليل آخر كما قد يخالف العموم. ولما قال النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الأَسْوَدُ" قال عبد الله بن الصامت4 لأبي ذر5: ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر؟

_ 1 أي: القائلون بأن مفهوم المخالفة ليس حجة. 2 أي الدليل الذي استدل به الجمهور وهو قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ... } إلى آخر القصة. 3 روى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر". وفي رواية أخرى للبخاري: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر-صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- ففرضت أربعًا، وأقرت صلاة السفر على الأول". زاد الإمام أحمد: ".....إلا المغرب، فإنها وتر النهار، وإلا الصبح، فإنها تطول فيها القراءة" سبل السلام "2/ 37". 4 هو: عبد الله بن الصامت الغفاري البصري، روى عن عمه أبي ذر الغفاري وعمر وعثمان، وروى عنه أبو العالية وغيره، وثقه النسائي وغيره، تابعي ثقة. انظر: خلاصة تذهيب تهذيب الكمال "2/ 67". 5 هو: جندب بن جنادة بن سفيان، أبو ذر الغفاري، من السابقين إلى الإسلام، =

فقال: سألت رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- كما سألتني فقال: "الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ" 1. ففهما من تعليق الحكم على الموصوف بالسواد: انتفاءه عما سواه. ولأن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لما سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال: "لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّراوِيلاتِ وَلَا الْبَرانِسَ" 2. فلولا أن تخصيصه المذكور بالذكر يدل على إباحة لبس ما سواه: لم يكن جوابًا للسائل عما يجوز للمحرم لبسه. الدليل الثاني: أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد له من فائدة، فإن استوت السائمة والمعلوفة: فلم خص السائمة بالذكر، مع عموم الحكم، والحاجة إلى البيان شاملة للقسمين؟

_ = كان زاهدا متقللًا من الدنيا، قال عنه ابن عمر: "والله ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر" توفي بالربذة سنة 32هـ. انظر: الإصابة "4/ 63"، حلية الأولياء "1/ 156، 352". 1 رواه مسلم: كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب ما يقطع الصلاة، والترمذي: باب ما جاء أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب والحمار والمرأة، والنسائي: كتاب القبلة، باب ما يقطع الصلاة، كما رواه ابن ماجه وأحمد في مسند أبي ذر -رضي الله عنه- قال رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره مثل آخرة الرحل، فإن لم يكن بين يديه مثل آخر الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار، والمرأة، والكلب الأسود.....". 2 أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين، وباب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، كما أخرجه في أماكن أخرى من صحيحه. كذلك أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وأبو داود، كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم، والإمام أحمد في المسند "1/ 215، 221، 228، 279، 285، 327".

بل لو قال: "في الغنم الزكاة" لكان أخصر في اللفظ، وأعم في بيان الحكم، فالتطويل لغير فائدة يكون لكنة في الكلام وعيًّا، فكيف إذا تضمن تفويت بعض المقصود؟! فظهر أن القسم المسكوت عنه غير مساو للمذكور في الحكم. اعترضوا عليه من أربعة وجوه: أحدها: أنكم جعلتم طلب الفائدة طريقًا إلى معرفة الوضع1. وينبغي أن يعرف الوضع، ثم تترتب عليه الفائدة، أما أن يكون الوضع يتبع معرفة الفائدة: فلا. الثاني: لِمَ قلتم: إنه لا فائدة سوى اختصاص الحكم؟ فلئن قلتم: ما علمنا له فائدة. قلنا: فلعل ثَمَّ فائدة لم يعثروا عليها، وعدم العلم بعدم الفائدة ليس علمًا بعدمها. الثالث: يبطل بمفهوم اللقب، فلِمَ لم يقولوا: إن تخصيص الأشياء الستة2 في الربا يوجب اختصاصها به، وإن تخصيص سائمة الغنم يمنع وجوبها في بقية المواشي؟ الرابع: أن من التخصيص فائدة سوى ما ذكرتم، على ما قدمناه3. ويحتمل أن السؤال وقع عنها، أو اتفقت المعاملة فيها، أو غير ذلك من أسباب لا يطلع عليها.

_ 1 وهو ما قاله الجمهور في الدليل الثاني. 2 وهي ما جاء في الحديث المشهور: "الذهب بالذهب والورق بالورق ... ". 3 في الدليل الخامس للمنكرين لحجية مفهوم المخالفة.

الجواب: أما الأول: فغير صحيح، فإن الاستدلال على الشيء بآثاره وثمراته جائز غير ممتنع في طرف النفي والإثبات، فإننا استدللنا على عدم الاشتراك في الصور المتنازع فيها بإخلاله بمقصود الوضع، وهو التفاهم. واستدللنا على عدم إلهٍ ثان بعدم وقوع الفساد1. فإذ قد علمنا: أن كلام الله -تعالى- لا يخلو من فائدة، وأنه لا فائدة للتخصيص سوى اختصاصه بالحكم، فيلزم منه ذلك ضرورة. وأما الثاني2: فإن قصر الحكم عليه فائدة متيقنة، وما سواها أمر موهوم يحتمل العدم والوجود، فلا يترك المتيقن لأمر موهوم، كيف والظاهر عدمها؟ إذ لو كان ثم فائدة لم تخف على الفطن العالم بدقائق الكلام مع بحثه وشدة عنايته، فجرى هذا مجرى الاستدلال باستصحاب الحال المشروط بعدم الدليل الشرعي. وأما مفهوم اللقب: فقد قيل: إنه حجة3. ثم الفرق بينهما ظاهر، وهو: أن تخصيص اللقب يحتمل حمله على أنه لم يحضره ذكر المسكوت عنه4. وهذا يبعد فيما إذا ذكر أحد الوصفين المتضادين؛ لأن ذكر الصفة يذكر ضدها، وهو منتف بالكلية فيما إذا ذكر الوصف العام، ثم وصفه بالخاص، فظهر احتمال المفهوم.

_ 1 وذلك في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . 2 أي: الاعتراض الثاني من الاعتراضات المتقدمة. 3 سيأتي الكلام على حجيته وموقف العلماء منها. 4 أي: أن المتكلم حينما يقول: "زيد عالم" لم يخطر بباله نفي العلم عن غيره.

وأما الثالث1: فباطل؛ فإن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- بعث للبيان والتعليم2، والتبيين للأحكام من المقاصد الأصيلة التي بعث لها، والاجتهاد ثبت ضرورة، لعدم إمكان بناء كل الأحكام على النصوص، فلا تظن أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- ترك ما بعث له، لتوسعة مجاري الضرورات، ثم يفضي إلى محذور، وهو نفي الحكم في الصورة التي هو ثابت فيها. وأما الفائدة الثانية والثالثة3: فلا تحصل؛ لأن الكلام فيما إذا كان المسكوت أدنى في المعنى من المنطوق في المقتضى، أو مماثلًا له. فالتخصيص إذًا يكون بعيدًا. وأما إذا كان المسكوت أعلى في المعنى: فهو التنبيه، وقد سبق الكلام فيه. وأما الرابع4: فأمور موهومة، فلا يترك لها المتيقن، لما ذكرنا5. وقولهم: "يحسن الاستفهام عنه" ممنوع6.

_ 1 أي: الاعتراض الثالث. 2 قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] 3 والتي سبق ذكرها في قوله: "ومنها: الاحتياط على المذكور بالذكر، ومنها: تأكيد الحكم في المنطوق....". 4 أي: الاعتراض الرابع. 5 في قوله في الدليل الثاني: "فإن قصر الحكم عليه فائدة متيقنة، وما سواها أمر موهوم....". 6 وضح الطوفي سبب المنع في شرحه "2/ 732-733" فقال: "الجواب عن هذا، إنما حسن الاستفهام من السامع، لعدم نصوصية التخصيص اللفظي الحكمي، وعدم قطعيته في ذلك، أي: ليس نصًّا في ذلك ولا قاطعًا، بل هو ظافر فيه كالعام، فإنه لو قال قائل: "أكرم الرجال" لحسن من السامع أن يقول: "وزيدًا =

وأما إذا قال: "من ضربك متعمدًا فاضربه" فلا يحسن أن يقال: "من ضربني خاطئًا، هل أضربه؟ " لكن يحسن أن يقال: "فالخاطئ ما حكمه"؟ أو ما أصنع به"؟ وهذا غير ما دل عليه الخطاب. ولو سلمنا: فيحسن الاستفهام، ليستفد التأكيد في معرفة الحكم، كما يحسن الاستفهام في بعض صور العموم1. وقولهم: "إن العرب تعلق الحكم على ما لا ينتفي عند عدمه"2. قلنا: لا ننكر هذا إذا ظهر للتخصيص فائدة سوى اختصاص الحكم به: إما لكونه الأغلب، أو غير ذلك. والكلام فيما إذا لم يظهر له فائدة. والله أعلم. فصل في درجات أدلة الخطاب اعلم أن ههنا صورًا أنكرها منكرو المفهوم، بناء على أنها منه، وليست منه، وهي ثلاثة:

_ = أيضًا" أكرم؟ وليس ذلك لعدم تناول الرجال زيدًا، بل لعدم نصوصيته فيه، فالاستفهام إنما هو لتحصيل النصوصية والقطع فيما استفهم عنه، لا لعدم إفادته التخصيص". 1 في فصل ألفاظ العموم. 2 في الدليل الثاني للنافين لحجية مفهوم المخالفة

الأولى: قوله: "لا عَالم إلا زيد"1 فهذه أنكرها غلاة منكري المفهوم2. وقالوا: هو نطق بالمستثنى، وسكوت عن المستثنى منه، فما خرج بقوله: "إلا" فمعناه: أنه لم يدخل في الكلام، فصار الكلام مقصورًا على الباقي، والمستثنى غير متعرض له بنفي ولا إثبات. وهذا فاسد: فإن هذا صريح في الإثبات والنفي: فمن قال: "لا إله إلا الله" مثبت للإلهية لله -سبحانه- نافٍ لها عمن سواه. وقولهم: "لا سيف إلا ذو الفقار" و"لا فتى إلا علي" نفي وإثبات

_ 1 وهي المعبر عنها بأن الاستثناء من النفي إثبات، وهو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بأن الإجماع منعقد على أن قولنا: "لا إله إلا الله" إثبات الإلهية لله سبحانه وتعالى، وهو استثناء من نفي، وتقديره: لا إله موجود إلا الله. 2 من الحنفية ومن سار على مذهبهم. وقالوا: إن الاستثناء من النفي ليس بإثبات، لأنه لو كان إثباتًا، لكان قوله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا صلاة إلا بطهور" و "لا نكاح إلا بولي" يقتضي صحة الصلاة عند وجود الطهور، والنكاح عند وجود الولي، لأنه مستثنى من نفي الصلاة والنكاح، لكن ذلك غير مسلم، لجواز تخلف صحة الصلاة عند وجود الطهور، لانتفاء شرط آخر، وكذلك صحة النكاح مع وجود الولي. انظر: شرح الطوفي "2/ 737-738". وأجاب الطوفي عن هذا الاستدلال فقال: "إن هذا الذي ذكرتموه ليس من باب الاستثناء، لأن الاستثناء يصدق على المستثنى فيه بعد "إلا" اسم المستثنى منه وهو ما قبلها، أو يكون ما بعد "إلا" جزءًا مما قبلها ... وإذا عرفت هذا فالطهور والولي لا يصدق عليهما اسم ما قبلهما، ولا هما جزء منه، إذ الطهور ليس بصلاة ولا جزئها، والولي ليس بنكاح ولا جزئه، بل من باب انتفاء الحكم لانتفاء شرطه".

يقينًا؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي. فهذا من صريح اللفظ، لا من مفهومه. فأما قوله: "لا صلاة إلَّا بطهورٍ" 1 و "لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ" 2 فإن هذه صيغة الشرط، ومقتضاها: نفي الصلاة عند انتفاء الطهارة. وأما وجودها عند وجودها: فليس منطوقًا بل هو على وفق قاعدة المفهوم، فإن نفي شيء عند انتفاء شيء لا يدل على إثباته عند وجوده، بل يبقى كما كان قبل النطق. فالمنطوق به: الانتفاء عند النفي فقط؛ فإن قوله: "لا صلاة" ليس فيه تعرض للطهارة، بل للصلاة فقط، وقوله: "إلا بطهور" إثبات للطهور الذي لم يتعرض له الكلام، فلم يفهم منه إلا الشرط3.

_ 1 رواه الطبراني في الأوسط: كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء من طريق عيسى بن سبرة عن أبيه عن جده قال: صعد رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس: لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". وروى مسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، والترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور، وابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها، باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور، عن ابن عمر -رضي الله عنهما، أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "لا تقبل صلاة إلا بطهور" قال الترمذي: "هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب" وقد تقدم وجه استدلال الحنفية ومن معهم بهذا الحديث ومثله حديث الربا الآتي. 2 تقدم تخريجه. 3 تقدم توضيح ذلك من كلام الشيخ الطوفي، رحمه الله تعالى.

الصورة الثانية، قوله: "إنما الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" 1. فهذا قد أصر أصحاب أبي حنيفة، وبعض منكري المفهوم على إنكاره. وقالوا: هو إثبات فقط، لا يدل على الحصر؛ لأن "إنما" مركبة

_ 1 حديث صحيح: أخرجه البخاري في عدة مواضع: في كتاب الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، وفي كتاب الشروط، باب الشروط في البيع، وفي كتاب الأطعمة، باب الأدم، وغير ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا. كما أخرجه مسلم: كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، وأبو داود: كتاب العتق، باب بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة، والترمذي: كتاب الولاء والهبة، باب ما جاء أن الولاء لمن أعتق. والصورة الثانية التي سيتحدث عنها المصنف هي: الحصر بإنما. قال عنها الطوفي: "إنما: لا يقع بعدها إلا جملة خبرية، والجملة الخبرية إما اسمية نحو: "الولاء لمن أعتق" و"الأعمال بالنيات"، أو فعلية نحو قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] . وقول القائل: إنما قام زيد، فإن وقع بعد "إنما" جملة اسمية اقتضت حصر المبتدأ في الخبر، كالولاء لمن أعتق، والأعمال فيما وقع بالنيات، وزيد في القيام في قولنا: إنما زيد قائم. وإن وقع بعدها جملة فعلية، اقتضت حصر الفعل في الفاعل، كالقيام في زيد في قولنا: إنما قام زيد. ومعنى الحصر: أن المبتدأ لا يكون متصفًا إلا بالخبر، وإن كان الخبر صفة لغيره، نحو: إنما زيد قائم، فزيد لا يتصف إلا بالقيام، وإن اتصف بالقيام عمرو وبكر، وكذلك الفعل لا يتصف به إلا الفاعل، وإن اتصف الفاعل بغيره من الأفعال، نحو: إنما قام زيد، فالقيام لا يوجد إلا في زيد، وإن وجد من زيد ضرب، وقتل، وغير ذلك من الأفعال. فإذا عرف معنى الحصر، فإنما يقتضيه عند قوم، خلافًا لمنكري المفهوم" شرح مختصر الروضة "2/ 740-741".

من "إن" و"ما" و"إن" للتوكيد، و"ما" زائدة كافة1، فلا تدل على نفي، كما لو قال: "إنما النبي محمد". وهذا فاسد2، فإن لفظة "إنما" موضوعة للحصر والإثبات: تثبت المذكور، وتنفي ما عداه؛ لأنها مركبة من حرفي نفي وإثبات: "إن" للإثبات و"ما" للنفي فتدل عليهما. ولذلك لا تستعمل في موضع لا يحسن فيه النفي والاستثناء منه، كقوله، تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3 و {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 4 و {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} 5، كما قال: {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} 6، وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ" 7، مثل قوله: "لا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ" 8 وقال الشاعر9: أنا الرجل الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

_ 1 أي: تكف "إن" وأخواتها عن العمل فيما بعدها، وتهيئها للدخول على الجملة الفعلية، وهذه الحروف كانت قبل دخول "ما" عليها مختصة بالدخول على الأسماء عاملة فيها: وإذا ثبت أنها كافة لم تكن نافية، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض. انظر: شرح الطوفي "2/ 724-743". 2 هذا رد ابن قدامة على دليل الحنفية ومن معهم. 3 سورة النساء من الآية "171". 4 سورة فاطر من الآية "28". 5 سورة "ص" من الآية "65". 6 سورة الأحقاف من الآية "9". 7 سبق تخريجه والروايات الواردة فيه قريبًا 8 تقدم تخريجه. 9 هو: همام بن غالب بن صعصعة التيمي، المعروف بالفرزدق، من شعراء الطبقة الأولى الإسلاميين، توفي بالبصرة سنة "110هـ". انظر: معجم الشعراء =

وقولهم: "إنها إثبات فقط": غير صحيح1 وقولهم: "إنما النبي محمد" فهذا اختراع على اللغة لم يسمع به. بلى لو قال: "إنما العالم زيد": ساغ ذلك مجازًا، لتأكيد العلم في "زيد" كما قال: "ولا فتى إلا علي" يريد بذلك تأكيد الفتوة فيه، وهذا مجاز، لا تترك الحقيقة له إلا بدليل2. فالقول فيه كالقول في الاستثناء بإلا من النفي بلا فرق. الصورة الثالثة3: قوله، عليه السلام: "الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ" 4 و"تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ" 5.

_ = للمرزباني ص465، ديوان الفرزدق "2/ 153". ومحل الشاهد في البيت: أنه حصر المدافعة عن الأحساب فيه، أو في مثله، فدل ذلك على أنها للحصر. 1 لأن المفهوم منها في غالب مواقعها واستعمالاتها الحصر، وهو المتبادر إلى أفهام أهل اللغة، كما وردت في صريح الحصر في العديد من الآيات القرآنية التي تقدم ذكر بعضها. 2 يريد: أنها استعملت في الحصر في كثير من المواضع، في اللغة، وفي القرآن، وفي السنة، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فلا تحمل على غير ذلك إلا بدليل. 3 وهي ما يعبر عنها بحصر المبتدأ في الخبر. 4 أخرجه البخاري: كتاب الشفعة، باب الشفعة ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة. عن جابر، رضي الله عنه "قضي رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة". كما أخرجه أبو داود: كتاب البيوع، باب في الشفعة، والترمذي: كتاب الأحكام، باب ما جاء إذا حدت الحدود، ووقعت السهام فلا شفعة، والنسائي: كتاب البيوع، باب الشركة في الرباعي والإمام أحمد في المسند "3/ 296". 5 أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، وباب الإمام يُحدث بعدما =

وهذا يلتحق بالصورة التي قبله، وإن كان دونه في القوة. ووجهه: أن الاسم المحلى بالألف واللام يقتضي الاستغراق وأن خبر المبتدأ يجب أن يكون مساويًا للمبتدأ، كقولنا: "الإنسان بشر" أو أعم منه كقولنا: "الإنسان حيوان". ولا يجوز أن يكون أخص منه، كقولنا: "الحيوان إنسان". فلو جعلنا التسليم أخص من تحليل الصلاة: كان خلاف موضوع اللغة. ولو جعلنا الشفعة فيما يقسم: لم يكن كل الشفعة منحصرًا فيما لم يقسم، وهو خلاف الموضوع1. [درجات دليل الخطاب] فأما ما هو من دليل الخطاب: فعلى درجات ست: [مفهوم الغاية] أولها: هو مد الحكم إلى غاية بصيغة "إلى" أو "حتى". كقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 2، {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 3.

_ يرفع رأسه من آخر ركعة، والترمذي: باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، باب ما جاء في تحريم الصلاة وتحليلها، وابن ماجه: كتاب الصلاة، باب مفتاح الصلاة الطهور، والإمام أحمد في المسند "1/ 123، 129". 1 وحصر المبتدأ في الخبر له صورتان: إحداهما: ما ذكره المصنف. الثانية: أن تكون الجملة معرفة الطرفين: مثل: "المنطلق زيد" وللحصر صور أخرى كثيرة تكفلت ببيانها كتب البلاغة. 2 سورة البقرة من الآية "230". 3 سورة البقرة من الآية "187".

أنكره بعض منكري المفهوم، لأن النطق إنما هو بما قبل الغاية، وما بعدها مسكوت عنه، وكل ما له ابتداء: فغايته مقطع ابتدائه، فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية، وقبل البداية لم يكن فيه دليل على نفي ولا إثبات، فليكن بعدها كذلك. ولنا: مع ما سبق من الأدلة1: أن {حَتَّى تَنْكِح} ليس بمستقل، ولا يصح حتى يتعلق بقوله: {فَلا تَحِلُّ لَه} ولا بد فيه من إضمار وهو "حتى تنكح زوجًا غيره فتحل له". ولهذا يقبح الاستفهام لو قال قائل: "فإن نكحت هل تحل له؟ " ولأن الغاية نهاية، ونهاية الشيء مقطعه؛ فإن لم يكن مقطعًا: فليس بنهاية ولا غاية2. [مفهوم الشرط] الدرجة الثانية: التعليق على شرط، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} 3. أنكره قوم4، لأنه يجوز تعليق الحكم بشرطين، كما يجوز

_ 1 أي: التي تقدمت في حجية مفهوم المخالفة عمومًا 2 قال الشيخ الطوفي "2/ 761": "واعلم أن هذه المسألة محل نظر وتردد، فلا سبيل فيها إلى القطع بشيء، أما من حيث الظن، فالظن مع مثبتي مفهوم الغاية لغة وعرفًا". 3 سورة الطلاق من الآية6. 4 من المنكرين لحجية مفهوم المخالفة وهم: أبو بكر الباقلاني، والقاضي عبد الجبار، وأبو عبد الله البصري، والغزالي، وهو الذي اختاره الآمدي.

بعلتين1، فإن قوله: "احكم بالمال إن شهد به شاهدان" لا يمنع الحكم به بالإقرار، وبالشاهد واليمين. ولا يكون نسخًا، ولهذا جوّزناه بخبر الواحد. ولنا: ما سبق2. وتعليقه بشرطين؛ لأن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر في ثبوت الحكم به، لا يمنع من انتفاء الحكم عند انتفائهما، كما لو صرح فقال: "لا تحكم إلا بشاهدين أو إقرار"3. وجوزناه بخبر الواحد؛ لأنه تخصيص، وتخصيص العام بخبر الواحد جائز. [اقتران الاسم العام بصفة خاصة] الدرجة الثالثة: أن يذكر الاسم العام، ثم تذكر الصفة الخاصة في معرض الاستدلال4 والبيان كقوله: "في الغَنَم السَّائمةِ الزَّكاةُ" أو: في

_ 1 بيان ذلك: أن تعليق الحكم بشرط لا يمنع تعليقه بشرطين فأكثر، وإذا جاز تعليقه بشرطين، لم يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الحكم، لوجود الشرط الآخر. انظر: شرح الطوفي "2/ 762". 2 أي: من الأدلة على حجية مفهوم المخالفة مطلقًا. 3 عبارة الطوفي: "ورد هذا الاستدلال: بأن الأصل عدم الشرط الثاني، والأصل التعليق على شرط واحد؛ لأنه مستقل بتصحيح تأثير المؤثر، فالزائد خلال الأصل، فلا يعتبر تقريره. وحينئذ يصح ما ذكرناه، من انتفاء الحكم لانتفاء شرطه المعلق به، فإن ثبت تعليقه على شرط ثان فصاعدًا، لدعوى الحاجة إليه اعتبرناه، ولم نحكم بانتفاء الحكم إلا بانتفاء جميع شروطه كانتفاء الحكم عند انتفاء البينة والإقرار". شرح مختصر الروضة "2/ 762". 4 هكذا في جميع النسخ، ولعلها محرفة، والأصل "الاستدراك" وهي هكذا في =

سَائِمةِ الغَنَم الزَّكاةُ" 1، و "مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثمَرتُهُ لِلْبَائِعِ" 2 فهو حجة –أيضًا– طلبًا لفائدة التخصيص3. [مفهوم التقسيم] وفي معنى هذه الدرجة: إذا قسم الاسم إلى قسمين، فأثبت في قسم منهما حكمًا، يدل على انتفائه في الآخر، إذ لو عمهما: لم يكن للتقسيم فائدة.

_ = المستصفى. قال الطوفي: "أي: بذكر الصفة الخاصة عقيب ذكر الاسم العام، فيكون مستدركًا لعمومه بخصوص الصفة، مبينًا أن المراد بعمومه الخصوص" شرح المختصر "2/ 764". 1 أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا وهو الحديث الذي روي فيه كتاب أبي بكر -رضي الله عنه- وبيّن فيه أحكام الزكاة التي فرضها رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وجاء فيه: " ... وفي صدقة الغنم في سائمتها زكاة، إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة ... ". كما أخرجه عنه أبو داود: كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، والنسائي: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، والدارقطني: كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل والغنم. 2 أخرجه البخاري: كتاب المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ومسلم: كتاب البيوع، باب: من باع نخلًا عليها ثمر من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما. كما أخرجه أبو داود والترمذي، ومالك في الموطأ "2/ 617" وأحمد في المسند "2/ 78"، "5/ 326" ولفظه: "من باع نخلًا قد أبرت، فثمرها للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع". والتأبير: شق طلع النخلة ليذرّ فيه شيء من طلع ذكر النخل. 3 يشير بذلك إلى قوله في الدليل الثاني على حجية مفهوم المخالفة: "إن تخصيص الشيء بالذكر لا بد له من فائدة....".

ومثاله: قوله، عليه السلام: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِها مِنْ وَلِيِّهَا، وَالبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ" 1. [مفهوم الصفة] الدرجة الرابعة: أن يخص بعض الأوصاف التي تطرأ وتزول بالحكم، كقوله: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَليِّها" 2 فيدل على أن ما عداه بخلافه، طلبًا للفائدة في التخصيص3. وبه قال جل أصحاب الشافعي. واختار التميمي4: أنه ليس بحجة.

_ 1 أخرجه البخاري: كتاب الحيل، باب في النكاح، ومسلم: كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، وأبو داود: كتاب النكاح، باب في الثيب، والترمذي: باب ما جاء في استئمار البكر والثيب من أبواب النكاح. كما رواه النسائي وابن ماجه والدارمي، ومالك وأحمد. ومحل الشاهد من الحديث: أن الأيم هي التي فارقت زوجها، ولما خص الرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- البكر بالاستئذان، فدل ذلك على نفيه عن الأيم. وقد بين المصنف أن هذا النوع يلتحق بالنوع الذي قبله، وهو تعقيب الاسم العام بصفة خاصة، فتقسيم الاسم أو الصنف إلى قسمين: وتخصيص كل قسم منهما بحكم، يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر. انظر: شرح الطوفي "2/ 765". وفي شرح الكوكب المنير "3/ 505": "ووجه ذلك: أن تقسيمه إلى قسمين، وتخصيص كل واحد بحكم يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر، إذ لو عمهما لم يكن للتقسيم فائدة، فهو من جملة مفهوم المخالفة". 2 تقدم قريبًا. 3 أي: أن تخصيصه بالصفة لا بد له من فائدة، وإلا لكان عبثًا، كما تقدم في الدليل الثاني من أدلة القائلين بحجية مفهوم المخالفة. 4 من علماء الحنابلة. تقدمت ترجمته.

وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين. والفرق بين هذه الصورة وما قبلها: أن ذكر الثيب يظهر معه أنه ذاكر للبكر، ويحتمل الغفلة عن الذكر، فصار المفهوم ظاهرًا. وعند ذكره الوصف الخاص مع العام انقطع احتمال عدم الحضور، فصار المفهوم ههنا أظهر1. [مفهوم العدد] الدرجة الخامسة: أن يخص نوعًا من العدد بحكم، كقوله: "لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا المَصَّتَانِ" 2 و "لَيْسَ الْوُضُوءُ مِنَ الْقَطْرَةِ

_ 1 معناه: أن هناك فرقًا بين مفهوم الصفة وما قبله، وهو تعقيب الاسم العام بصفة خاصة، وهو: أن المتكلم قد يغفل عن ضد الوصف الذي علق عليه الحكم، كالبكارة في قوله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "والبكر تستأذن" فيحتمل أن يغفل عن الثيب، حتى يقصد نفي الاستئذان عنها، وكذلك قوله: "الثيب أحق بنفسها" يحتمل أن البكر لم تخطر بباله، حتى يقصد نفي أحقيتها بنفسها عنها. بخلاف العام الذي تعقبته الصفة، فإن هذا الاحتمال منتف فيه؛ لأنه لما ذكر اللفظ العام لزم استحضار الصنفين في ذهنه. انظر: شرح الطوفي "2/ 767". 2 للحديث روايات عدة، منها: ما أخرجه مسلم: كتاب الرضاع، باب في المصة والمصتان من حديث أم الفضل، مرفوعًا، بلفظ "لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصة أو المصتان"، وابن ماجه بنحوه في كتاب النكاح، باب: لا تحرم المصة ولا المصتان. وأخرجه الدارقطني في كتاب الرضاع عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- مرفوعًا، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في الرواية محمد بن العباس، وقد سأله عن الرضاع فقال: عن النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان" فأرى الثلاثة تحرم. العدة "2/ 450".

والْقَطْرَتَيْنِ" 1 فيدل على: أن ما زاد على الاثنين بخلافهما. وبه قال مالك، وداود، وبعض الشافعية. وخالف فيه أبو حنيفة2، وجل أصحاب الشافعي. والكلام فيه قد تقدم3.

_ = وجاء في المغني لابن قدامة "8/ 140": "إن الصحيح من مذهب الحنابلة: أن العدد المحرم هو خمس رضعات فضاعدًا". 1 أخرجه الدارقطني: كتاب الطهارة، باب في الوضوء من الخارج من البدن بلفظ ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دمًا سائلًا". من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه. 2 وبعض أصحابه. 3 أي: من الأدلة على حجية المخالفة عمومًا. وقد استدل بعض العلماء على حجية مفهوم العدد بأدلة أخرى كثيرة، منها: أنه لما نزل قول الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ... } [التوبة: 80] قال النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لأزيدن على السبعين" رواه البخاري حديث رقم "4670" عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما توفي عبد الله بن أُبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيد على السبعين" قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] . ومحل الشاهد من ذلك: أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فهم أن حكم ما فوق السبعين مخالف لما قبلها، وهو -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- أعلى أهل اللغة رتبة فيها، فدل ذلك على حجية مفهوم العدد. =

[مفهوم اللقب] الدرجة السادسة: أن يخص اسمًا بحكم، فيدل على أن ما عداه بخلافه. الخلاف فيها كالخلاف في التي قبلها. وأنكره الأكثرون، وهو الصحيح؛ لأنه يفضي إلى سد باب القياس. وأن تنصيصه على الأعيان الستة في الربا يمنع جريانه في غيرها1 ولا فرق بين كون الاسم مشتقًا كالطعام2، أو غير مشتق كأسماء الأعلام3، والله تعالى أعلم.

_ = قال الشوكاني: "والحق ما ذهب إليه الأولون، والعمل به معلوم من لغة العرب ومن الشرع، فإن من أمر بأمر وقيده بعدد مخصوص، فزاد المأمور على ذلك العدد أو نقص عنه، فأنكر عليه الآمر الزيادة أو النقص، كان هذا الإنكار مقبولًا عند من يعرف لغة العرب، فإن ادّعى المأمور أنه قد فعل ما أمر به، مع كونه نقص عنه، أو زاد عليه، كانت دعواه هذه مردودة عند كل من يعرف لغة العرب" إرشاد الفحول "2/ 65". 1 معناه: أنه لو كان مفهوم اللقب حجة، لمنع التنصيص على تحريم الربا في الأصناف الستة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- من أن يجري الربا في غيرها، لأن مستند القائلين بحجيته: أن فائدة تخصيصه بالذكر: هي قصر الربا على هذه الأصناف الستة، فيلزم على ذلك عدم ثبوت الربا في غيرها وهذا باطل، فإن الربا قد ثبت في كل ما وجدت فيه العلة كالذرة، والسمسم، وأشباهها من المكيلات، والحديد والرصاص والنحاس، وغيرها من الموزونات، والفواكه وغيرها من المطعومات، وهذا يدل على أن مفهوم اللقب ليس بحجة. انظر: شرح الطوفي "2/ 772-773". 2 فإنه مشتق من الطعم. 3 مثل قولنا: زيد عالم، وكالحنطة والشعير والتمر والملح والذهب والفضة. قال الطوفي: الأشبه الذي تسكن النفس إليه أنه ليس بحجة، وأنه في المفهومات =

......................................................................................

_ = كالحديث الضعيف في المنطوقات، والقياس الشبهي في الأقيسة" شرح المختصر "2/ 775". شروط العمل بمفهوم المخالفة: هناك شروط وضعها القائلون بحجية مفهوم المخالفة، فإن لم تتحقق لم يكن حجة باتفاق، ولم يذكرها المصنف وهي: أولًا: أن لا يكون للقيد الذي قيد به النص فائدة أخرى غير إثبات خلاف حكم المنطوق للمسكوت، كالترغيب والترهيب، أو التنفير أو التفخيم، أو تأكيد الحال أو الامتنان، أو غير ذلك من الفوائد التي يمكن أن تكون مقصودة للشارع، غير نفي الحكم عما عدا المذكور. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً....} [آل عمران: 130] فوصف الربا بكونه "أضعافًا مضاعفة" إن جاء للتنفير من أمر ظالم كان عليه أهل الجاهلية، حيث كان المرابي يزيد في الربا كلما زاد في أجل الدين، حتى كان المال يبلغ أضعاف أصل الدين، مما يؤدي إلى استئصال مال الغريم، فنوهت الآية الكريمة بهذا الوصف، تشنيعًا على المرابين، وتوجيهًا لهم إلى واقع تصرفهم المقيت، لا لتقييد الحكم بهذا الوصف. وعلى هذا فأصل الربا محرم، كثيرًا كان أو قليلًا، بدليل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ... } [البقرة: 275] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279] . ثانيًا: أن لا يكون قد خرج مخرج الغالب، كما في قوله تعالى، في شأن المحرمات من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ ... } [النساء 23] ، فإن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج، بدليل أن الله -تعالى- قيد تحريم بنت الزوجة بالدخول بالأمهات، والحل بعدم الدخول، فلو كانت الربيبة حرامًا؛ لوجودها في حجر الزوج فقط، لما كان للتعليل بالدخول معنى: انظر: القرطبي "5/ 112".

.......................................................................

_ = ثالثًا: أن لا يعارض مفهوم المخالفة ما هو أقوى منه، كأن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، أو مساويًا له، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] فقد دلت الآية بمنطوقها على حرمة أكل مال اليتيم، كما دلت بمفهومهما، على أن غير الأكل مثل الأكل، كالإحراق أو التبديد، لأن هذا هو الذي يتبادر فهمه من علة التحريم. رابعًا: أن لا يكون جوابًا لسؤال سائل، ولا لحادثة خاصة بالمذكور، مثل: أن يسأل سائل: هل في الغنم السائمة زكاة؟ فيجاب: في الغنم السائمة زكاة، فلا يكون المفهوم هنا حجة باتفاق العلماء. إرشاد الفحول [2/ 59] . خامسًا: أن يكون الكلام الذي ذكر فيه القيد مستقلًا، فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا يكون حجة. ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ... } [البقرة: 187] فإن تقييد كون الاعتكاف في المساجد لا مفهوم له؛ لأن المعتكف ممنوع من مباشرة زوجته مطلقًا، والاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، فلا يكون هذا المفهوم حجة. المهذب للشيرازي "1/ 194". سادسًا: أن لا يوجد في الواقعة المسكوت عنها دليل خاص بها، لأن دلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... } [النساء: 101] فقد دلت الآية الكريمة على جواز قصر الصلاة في حالة الخوف من تقييد الحكم بالشرط في قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . وهذا القيد يدل بمفهوم المخالفة على عدم جواز القصر حالة الأمن، إلا أن هذا المفهوم ألغي لوجود نص خاص به، فقد ورد أن يعلى بن أمية سأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟! فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" تقدم تخريجه. فقد تعارض في مسألة قصر الصلاة حالة الأمن حكمان: أحدهما: مستفاد من =

باب: القياس

باب: القياس فصل: تعريف القياس ... باب: القياس القياس في اللغة: التقدير، ومنه: "قست الثوب بالذراع": إذا قدرته به1. قال الشاعر2، يصف جراحة أو شجة: إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت ... غثيثتها أو زاد وهيًا هزومها3.

_ مفهوم المخالفة من الآية الكريمة، وثانيهما: من منطوق الحديث الشريف، ولا شك أن دلالة المنطوق أقوى من دلالة مفهوم المخالفة. انظر في هذه الشروط مختصر المنتهى مع شرح العضد "2/ 174"، الإحكام للآمدي "3/ 93-94"، شرح مختصر الروضة "2/ 775" شرح الكوكب المنير "3/ 489 وما بعدها" إرشاد الفحول "2/ 59". 1 قال الجوهري: قستُ الشيء بالشيء، أي: قدّرته على مثاله، يقال: قست، أقيس، وأقوس، فهو من ذوات الياء والواو، ونظائره في اللغة كثيرة، والمصدر: قيسًا وقوسًا، بالياء والواو. انظر: الصحاح "3/ 967". ويطلق القياس في اللغة على المساواة أيضًا، سواء أكانت حسية أم معنوية، فمن أمثلة الأول: قست هذا الكتاب بهذا الكتاب، ومن أمثلة الثاني: فلان لا يقاس بفلان، أي: لا يساويه. انظر: لسان العرب "8/ 70" القاموس المحيط "2/ 244". قال الطوفي: "واعلم أنا قد بينا أن القياس في اللغة يدل على معنى التسوية على العموم، وهو في الشرع تسوية خاصة بين الأصل والفرع، فهو كتخصيص لفظ الدابة ببعض مسمياتها، فهو حقيقة عرفية، مجاز لغوي". شرح المختصر "3/ 219". 2 هو: خداش بن بشر بن خالد، أبو زيد التميمي المعروف بالبعيث: خطيب، شاعر، من أهل البصرة. قال فيه الجاحظ: أخطب بني تميم، كانت بينه وبين جرير مهاجاة دامت نحو أربعين سنة. توفي بالبصرة سنة 134هـ. انظر ترجمته في: الشعر والشعراء لابن قتيبة "1/ 497"، الأعلام "2/ 302". 3 الآسي، بالمد: الطبيب. والنِّطاسي: بكسر النون أو فتحها: العالم بالطب، فهو =

"وقاس الطبيب الجراحة": إذا جعل فيها الميل1 يقدّرها به، ليعرف غورها. وهو في الشرع: حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما2. وقيل: حكمك على الفرع بمثل ما حكمت به في الأصل، لاشتراكهما في العلة التي اقتضت ذلك في الأصل. وقيل: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما، بجامع بينهما من إثبات حكم أو صفة لهما، أو نفيهما3 عنهما. ومعاني هذه الحدود متقاربة4. وقيل: هو الاجتهاد

_ = وصف للآسي: ومعنى "أدبرت": وليت. ومعنى "غثيثها": ما في الجرح من صديد ولحم ميت يؤلم المجروح. وقوله: "هزومها" الهزوم: غمز الشيء باليد، فتصير فيه حفرة، كما تغمز القربة فتنهزم في جوفها. وقد أورد له ابن منظور هذا البيت في معرض كلامه على معنى كلمة "نطس". انظر: لسان العرب "مادة: نطس". 1 الميل: آلة يدخلها الطبيب في الجرح ليعرف عمقه، ويسمى "المسبار" لأن الطبيب يختبر به الجرح، والسبر في اللغة: الاختبار. 2 المراد بالحمل: التسوية بين الأصل والفرع في الحكم. 3 أي: نفي الحكم أو الصفة. 4 هذا مسلم في التعريف الأول والثاني، أما الثالث فغير مسلم، فإن قوله: "من إثبات حكم أو صفة لهما، أو نفيهما عنهما" غير صحيح، فإن القياس يثبت حكم الفرع فقط، أما حكم الأصل فمعلوم، وإلا فكيف يقاس عليه؟ وهذه التعريفات جارية على أن حكم الفرع هو نفس حكم الأصل. وهناك اتجاه آخر يرى أن حكم الفرع ليس هو حكم الأصل، وإنما هو مثله، ولذلك عرفه القرافي بأنه: إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما =

وهو خطأ، فإن الاجتهاد قد يكون بالنظر في العمومات وسائر طرق الأدلة، وليس بقياس. ثم لا ينبيء في العرف1 إلا عن بذل المجهود، إذ من حمل خردلة لا يقال: اجتهد. وقد يكون القياس جليًّا2 لا يحتاج إلى استفراغ الوسع وبذل

_ = في علة الحكم عند المثبت". فقوله: "مثل حكم معلوم" يدل على أنه مثله لا عينه. وقوله: "عند المثبت" ليشمل القياس الصحيح والفاسد؛ لأن علة القياس قد تكون منصوصة، وقد تكون مستنبطة، فتختلف فيها وجهة نظر العلماء، كما اختلفوا في علة الربا في الأمور الستة الواردة في حديث عبادة بن الصامت، هل هي الكيل، أو الطعم، أو الوزن، أو الاقتيات؟ فإذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب، كان ذلك قياسًا شرعيًّا صحيحًا، وإذا قلنا: إن المجتهد يصيب ويخطئ، كان المصيب واحدًا، وغيره مخطئ. فيكون قياسه فاسدًا، ومع ذلك فهو داخل في التعريف. انظر: الإحكام للآمدي "3/ 183" شرح مختصر الروضة "3/ 220" وما بعدها" 1 أي: عرف علماء الشرع، وحاصل الرد على هذا التعريف: أن لفظ "القياس" ينبئ عن معنى التقدير والاعتبار، والاجتهاد لا ينبئ عن ذلك، وهذا نقض للتعريف من جهة اللفظ. وأما من جهة المعنى: فإنه منقوض بالنظر في العمومات ومواقع الإجماع وغيرها من طرق الأدلة، فإنه اجتهاد وليس بقياس. كما أن لفظ الاجتهاد ينبئ عن بذل الجهد في النظر، والقياس قد يكون جليًّا لا يحتاج على نظر واجتهاد. فالحاصل: أن تعريف القياس بالاجتهاد تعريف بالأعم، فإن الاجتهاد أعم من القياس، إذ كل قياس اجتهاد، وليس كل اجتهاد قياسًا. انظر: شرح الطوفي "3/ 224". 2 القياس ينقسم إلى عدة أقسام، باعتبارات مختلفة، ومن هذه الأقسام انقسامه إلى جلي، وخفي. =

الجهد. ولا بد في كل قياس من أصل، وفرع، وعلة، وحكم. فأما إطلاق القياس على المقدمتين اللتين يحصل منهما نتيجة: فليس بصحيح؛ لأن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر، ويقدر به، فهو اسم إضافي بين شيئين على ما ذكرناه في اللغة1.

_ = فالجلي: هو ما كانت العلة الجامعة فيه بين الأصل والفرع منصوصة أو مجمعًا عليها، أو هو: ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع. والخفي: ما كانت العلة فيه مستنبطة، أو الذي لم يقطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع، مثل: قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد، بجامع القتل العمد العدوان؛ لإثبات وجوب القصاص في المثقل. وهذا هو اصطلاح الجمهور في التفرقة بين القياس الجلي والخفي، أما الحنفية فلهم اصطلاح آخر. انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 243"، شرح مختصر الروضة "3/ 223"، كشف الأسرار "2/ 122". 1 حاصل ذلك: أن المصنف أراد أن يفرق بين القياس عند الأصوليين والقياس عند الفلاسفة، وأن كلًّا منهما بعيد عن الآخر، فالقياس عند الفلاسفة عبارة عن: تركيب مقدمتين يحصل منهما نتيجة، كقول القائل: كل حيوان جسم، وكل جسم مؤلف، يلزم عنه: أن كل حيوان مؤلف، فهذه نتيجة لازمة عن مقدمتين، ولو أضفنا إليها مقدمة أخرى وهي قولنا: كل مؤلف محدث، لزم عن ذلك: أن كل حيوان محدث. ومع التسليم بهذه النتيجة، إلا أن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بنوع من المساواة، إذ تقول العرب: لا يقاس فلان إلى فلان في عقله ونسبه، وفلان يقاس إلى فلان فهو عبارة عن معنى إضافي بين شيئين. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 225"، نزهة الخاطر العاطر "2/ 228-229".

فصل: في العلة

فصل: في العلة ونعني بالعلة: مناط الحكم1. وسميت علة؛ لأنها غيرت حال المحل، أخذًا من علة المريض؛ لأنها اقتضت تغيير حاله2.

_ 1 أي: ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به، ونصبه علامة عليه. 2 انظر: القاموس المحيط: "2/ 347". وفي إرشاد الفحول للشوكاني "2/ 157": "وقيل: إنها مأخوذة من العلل بعد النهل، وهو معاودة الشرب مرة بعد مرة، لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر مرة بعد مرة". وهذا معناها في اللغة. أما في الاصطلاح الشرعي: فلها معان كثيرة. المعنى الأول: أنها المعرفة للحكم، بأن جعلت علمًا على الحكم، إن وجد المعنى وجد الحكم. المعنى الثاني: أنها المؤثرة في الحكم بجعل الله تعالى. المعنى الثالث: أنها الباعث على التشريع، بمعنى: أن يكون الوصف مشتملًا على مصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرح الحكم. المعنى الرابع: هي المؤثرة في الحكم بذاتها، لا بجعل الله تعالى. وهو تعريف المعتزلة، وهو مرفوض، لأن الله تعالى هو الفعال لما يريد، ولا يجب عليه شيء، فإنه سبحانه لا يحمله شيء على فعل شيء. ونستطيع أن نستخلص من هذه التعريفات تعريفًا شاملًا للعلة بأنها: هي الوصف الظاهر المنضبط الذي يناسب الحكم بتحقيق مصلحة الناس، إما بجلب منفعة أو دفع مضرة. انظر: المعتمد "2/ 704"، فواتح الرحموت "2/ 260"، نهاية السول "3/ 39"، إرشاد الفحول "2/ 157 وما بعدها".

فصل: طرق الاجتهاد في إثبات العلة

فصل: [طرق الاجتهاد في إثبات العلة] والاجتهاد في العلة على ثلاثة أضرب: تحقيق المناط للحكم، وتنقيحه، وتخريجه. أما تحقيق المناط1، فنوعان: أولهما: لا نعرف في جوازه خلافًا. ومعناه: أن تكون القاعدة الكلية متفقًا عليها، أو منصوصًا عليها، ويجتهد في تحقيقها في الفرع. ومثاله: قولنا: "في حمار الوحش: بقرةٌ" لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 2 فنقول: "المثل واجب، والبقرة مثل، فتكون هي الواجب". فالأول: معلوم بالنص والإجماع، وهو: وجوب المثلية في البقرة3. أما تحقيق المثلية في البقر، فمعلوم بنوع من الاجتهاد4.

_ 1 والمراد بالمناط: ما نيط به الحكم، أي: علق به، وهو العلة التي رتب عليها الحكم في الأصل، يقال: نطُت الحبل بالوتد، أنوطه نوطًا: إذا علقته، ومنه ذات أنواط، وهي شجرة كانوا في الجاهلية يعلقون فيها سلاحهم. روى الإمام أحمد في مسنده "5/ 218" عن أبي واقد الليثي أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} والذي نفسي بيده لتركبنّ سنّة من كان قبلكم". 2 سورة المائدة من الآية "95". 3 أي: أن وجوب المثل متفق عليه ثابت بالنص والإجماع. 4 أي: أن كون البقرة مثل حمار الوحش، اجتهادي، ثابت بالاجتهاد في تحقيق =

ومنه الاجتهاد في القبلة فنقول: وجوب التوجه إلى القبلة معلوم بالنص، أما أن هذه جهة القبلة1: فيعلم بالاجتهاد. وكذلك تعيين الإمام2، والعدل، ومقدار الكفاية في النفقات ونحوه4. فليعبر عن هذا بتحقيق المناط، إذ كان معلومًا، لكن تعذر معرفة وجوده في آحاد الصور، فاستدل عليه بأمارات5 الثاني: ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع، فيبين المتجهد وجودها في الفرع باجتهاده. مثل: قول النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في الهر: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجسٍ؛ إِنَّهَا مِنَ

_ = النص؛ لأن الله -تعالى- لم ينص على أن البقرة مثل حمار الوحش. في كفارة قتل المحرم للصيد متعمدًا. 1 في حق من اشتبهت عليه، فليس هناك نص في ذلك، وعليه أن يجتهد فيها 2 يعني: أن نصب الإمام والوالي والقاضي واجب، لكن تعيين فلان أو فلان من الناس لهذه المناصب موكول إلى اجتهاد أهل الحل والعقد في ذلك. 3 أي: أن حكم القاضي بالصدق واجب، وهو أمر معلوم بالنص، وقول العدل صدق معلوم بالظن، وأمارات العدالة لا تعلم إلا بالظن. 4 أي: أن قدر الكفاية في نفقة الزوجات والأقارب ونحوهم واجب متفق عليه، أما كون قدر الكفاية بالوزن أو الكيل كذا، فيدرك بالاجتهاد والظن. 5 أي: أن مناط الحكم معلوم بنص أو إجماع، فلا حاجة على استنباطه أو الاجتهاد فيه لكن تعذر معرفة وجوده في الصور التي يراد إثبات الحكم فيها، فاستدل عليه بأمارات ظنية، تسمى تحقيق المناط. انظر: المستصفى "3/ 486 وما بعدها"، شرح مختصر الروضة "3/ 234-235".

الضرب الثاني: تنقيح1 المناط: وهو: أن يضيف الشارع الحكم إلى سببه، فيقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة، فيجب حذفها عن الاعتبار، ليتسع الحكم. ومثاله: قوله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- للأعرابي الذي قال: هلكتُ يا رسول الله. قال: "مَا صَنَعتَ؟ " قال: وقعت على أهلي في نهار رمضان. قال: "أَعْتِقْ رَقَبةً" 2. فنقول: كونه أعرابيًّا: لا أثر له3 فيلحق به "التركي" و"العجمي"، لعلمنا أن مناط الحكم: وقاع مكلف، لا وقاع الأعرابي، إذ التكاليف تعم الأشخاص، على ما مضى4. ويلحق به: من أفطر بوقاع في رمضان آخر؛ لعلمنا أن المناط: حرمة رمضان، لا حرمة ذلك الرمضان5.

_ 1 التنقيح في اللغة: التخليص والتهذيب، يقال: نَقَّحْتُ العظم: إذا استخرجت مخه، ونقّحت الشيء: خلصت جيده من رديئه. انظر: المصباح المنير مادة "نقح". وأما في الاصطلاح: فهو إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف الشارع الحكم إليها لعدم صلاحيتها للاعتبار في العلة. انظر: شرح الطوفي "3/ 237". 2 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان لم يكن له شيء، عن أبي هريرة مرفوعًا، ومسلم: كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم. كما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والشافعي وغيرهم. انظر: تلخيص الحبير "2/ 206". 3 فلا يخيل للسامع أن علة الكفارة هي مجموع كونه أعرابيًّا جامع في نهار رمضان. 4 في باب العموم. 5 الذي وقع فيه الجماع في حياة الرسول، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.

وكون الموطوءة منكوحة: لا أثر له، فإن الزنا أشد في هتك الحرمة. فهذه إلحاقات معلومة تبنى على مناط الحكم، بحذف ما علم بعادة الشرع في مصادره وموارده وأحكامه: أنه لا مدخل له في التأثير. وقد يكون بعض الأوصاف مظنونًا، فيقع الخلاف فيه كالوقاع، إذ يمكن أن يقال: مناط الكفارة: كونه مفسدًا للصوم المحترم، والجماع آلة الإفساد، كما أن السيف آلة للقتل الموجب للقصاص، وليس هو من المناط، كذا ههنا1. ويمكن أن يقال: الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان الشهوة بمجرد وازع الدين، فيحتاج إلى كفارة وازعة، بخلاف الأكل. والمقصود: أن هذا نظر في تنقيح المناط بعد معرفته بالنص، لا بالاستنباط، وقد أقر به أكثر منكري القياس.

_ 1 يعني: أنه قد تكون علة الحكم ظنية، فتختلف فيها الأنظار، مثل: هل العلة في الكفارة خصوص الجماع في نهار رمضان، أو عموم إفساد الصوم، كالأكل والشرب؟ خلاف بين العلماء: فأبو حنيفة ومالك يرون أن الأكل والشرب كالجماع في وجوب الكفارة، بل هما أولى من الجماع؛ لأنهما مادة الجماع وسببه المقوي عليه، ووسيلته المتوصل بها إليه، إذ الجائع لا يستطيعه، والشبعان ينشط له، فكان إيجاب الكفارة بالأكل والشرب من باب: سد الذرائع، وحسم مواد الفساد. والشافعي وأحمد يقولان: لا كفارة إلا بخصوص الجماع، لأن النفس لا تنزجر عنه عند هيجان الشهوة بمجرد الوازع الديني، فاحتيج فيه إلى زيادة في الوازع وهي الكفارة. انظر: شرح الطوفي "3/ 240".

وأجراه أبو حنيفة في الكفارات، مع أنه لا قياس فيها عنده1. الضرب الثالث، تخريج المناط2: وهو: أن ينص الشارع على حكم في محل، ولا يتعرض لمناطه أصلًا. كتحريمه شرب الخمر، والربا في البر. فيستنبط المناط بالرأي والنظر، فيقول: حرّم الخمر، لكونه مسكرًا، فيقيس عليه النبيذ، وحرّم الربا في البر، لكونه مكيلًا، فيقيس عليه الأرز. وهذا هو الاجتهاد القياسي الذي وقع الخلاف فيه. فصل في إثبات القياس على منكريه قال بعض أصحابنا: يجوز التعبد بالقياس عقلًا وشرعًا، لقول أحمد،

_ 1 يعني: مع أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون القياس في الكفارات، إلا أنهم خالفوا أصلهم في هذه المسالة، وأجروا القياس فيها. 2 التخريج في اللغة: الاستخراج والاستنباط. أما في الاصطلاح: فهو عبارة عن إضافة حكم -لم يتعرض الشرع لعلته- إلى وصف مناسب في نظر المجتهد بالسبر والتقسيم، كالأمثلة التي ذكرها المصنف. قال الشيخ الطوفي، موضحًا ذلك: "وتحرير الكلام ههنا: أنا إذا رأينا الشارع قد نص على حكم، ولم يتعرض لعلته، قلنا: هذا حكم حادث لا بد له بحق الأصل من سبب حادث، فيجتهد في استخراج ذلك من محل الحكم، فإذا ظفر بوصف مناسب له، واجتهد ولم يجد غيره، غلب على ظنه أن ذلك الوصف هو سبب ذلك الحكم". شرح المختصر "3/ 243".

رحمه الله: "لا يستغني أحد عن القياس"1. وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين. وذهب أهل الظاهر والنظام إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلًا ولا شرعًا2. وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- فقال: "يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس"3. وتأوله القاضي على قياس يخالف به نصًّا. وقالت طائفة: لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب، لكنه في مظنة الجواز، فأما التعبد به شرعًا: فواجب. وهو قول بعض الشافعية وطائفة من المتكلمين4.

_ 1 ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1280" وأبو الخطاب في التمهيد "3/ 365". 2 انظر الإحكام لابن حزم "7/ 93". 3 أورد ذلك القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1281" وتأوله على القياس المخالف للنص فقال: "وهذا محمول على استعمال القياس في معارضة السنة، فإنه لا يجوز". 4 قال الطوفي، موضحًا آراء العلماء في حجية القياس: "النزاع في التعبد بالقياس إما عقلًا، أو شرعًا، وعلى كل واحد من التقريرين: فإما أن يكون النزاع في جوازه، أو وجوبه، أو امتناعه، أو وقوعه، فهي ثمانية أقوال، قد ذهب إلى أكثرها ذاهبون، فممن أوجب ورود التعبد به عقلًا: القفال، وأبو الحسين البصري. وممن أحاله من سبق ذكره "يقصد: الظاهرية والنظام" وأجازه الأكثرون عقلًا وشرعًا، ثم اختلفوا في وقوعه، فأثبته الأكثرون، ومنعه داود بن علي الأصبهاني والقاشاني والنهرواني. واختلف المثبتون لوقوعه، هل هو بدليل العقل أو السمع؟ وهل دليل السمع =

وجه قول أصحابنا1: [الدليل الأول] أن تعميم الحكم واجب، ولو لم يستعمل القياس: أفضى إلى خلو كثير من الحوادث عن الأحكام، لقلة النصوص، وكون الصور2 لا نهاية لها، فيجب ردهم إلى الاجتهاد ضرورة3. فإن قيل: يمكن التنصيص على المقدمات الكلية ويبقى الاجتهاد في المقدمات الجزئية، فيكون من تحقيق المناط، وليس ذلك بقياس، وذلك مثل: أن ينص على: "أن كل مطعوم ربوي" وهذه المقدمة الكلية، فيبقى الاجتهاد في: "أن هذا مطعوم أم لا"؟ وهذا لا خلاف في جوازه. قلنا: إن تصوّر هذا فليس بواقع، فإن أكثر الحودث ليس بمنصوص على مقدماتها الكية، كميراث الجد وأشباهه، فيقتضي العقل: أن لا يخلو عن حكم4.

_ = قطعي؟ وهو مذهب الأكثرين، أو ظني؟ وهو قول أبي الحسين البصري والآمدي. شرح المختصر "3/ 246". 1 وهم الذين صدر بهم المسألة فقال: "قال بعض أصحابنا يجوز التعبد بالقياس عقلًا وشرعًا ... " 2 أي: الوقائع والحوادث التي تقع للناس من حين لآخر. 3 معناه: أننا لو لم نعمل بالقياس عند عدم وجود نص من القرآن أو السنة، لخلت حوادث كثيرة عن أحكام؛ لكثرة الحوادث والوقائع وقلة النصوص الشرعية، فلا يوجد في كل حادثة نص يخصها، فاحتيج إلى إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه. 4 يعني: أن المنكرين للقياس قالوا: يمكن الاستغناء عن القياس بالتنصيص على المقدمات الكلية، ويبقى الاجتهاد في المقدمات الجزئية، فتستخرج منه =

دليل ثان: أن العقل يدل على العلل الشرعية ويدركها، إذ مناسبة الحكم عقلية مصلحية، يقتضي العقل تحصيلها وورود الشرع بها، كالعلل العقلية1. ولأننا نستفيد بالقياس ظنًّا غالبًا في إثبات الحكم، والعمل بالظن الراجح متعين2. وشبهة المانعين منه عقلًا: ما مضى في رد خبر الواحد3. وقد مضى

_ = الأحكام، كما سبق في النوع الأول من تحقيق المناط، وهذا لا يسمى قياسًا بالاتفاق، كما سبق. وأجاب المصنف على ذلك: بأن مجرد جواز النص على القواعد الكلية لا يكفي في إثباته، وأكثر الحوادث لم ينص على مقدماتها، كميراث الجد وما يشبهه، فاقتضى ذلك استعمال القياس. 1 هذا دليل عقلي ثان على جواز القياس خلاصته: أن العقل كما دل على العلل في الأمور العقلية، فإنه يدل، أيضًا على العلل في الأمور الشرعية؛ لأن مناسبتها للأحكام عقلية مصلحية، فمن المعلوم أن الأحكام الشرعية تقوم على رعاية مصالح العباد: من جلب المنافع ودرء المفاسد، والعقل يدرك طلب تحصيلها وورود الشرع بها. 2 هذا دليل آخر على حجية القياس، ولكنه يشير إلى اعتراض وارد من المخالفين خلاصته: أن القياس يثبت حكمًا ظنيًّا، وهذا يجوز في الفروع، أما الأصول: فلا بد فيها من القطع، فأجاب المصنف بهذا الدليل: أن المقصود من كون القياس حجة: إنما هو العمل به لا مجرد اعتقاد كونه حجة، والأحكام الفرعية يكفي فيها الظن، فكذلك ما كان وسيلة لها، خاصة إذا كان الظن راجحًا. 3 يشير إلى ما ورد في التعبد بخبر الواحد، حيث قال: "وأنكر قوم التعبد بخبر الواحد عقلًا؛ لأنه يحتمل أن يكون كذبًا، فالعمل به عمل بالشك، وإقدام على =

فأما التعبد به شرعًا: فالدليل عليه: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على الحكم بالرأي في الوقائع الخالية عن النص. فمن ذلك حكمهم بإمامة أبي بكر -رضي الله عنها- بالاجتهاد مع عدم النص، إذ لو كان ثم نص لنقل، ولتمسك به المنصوص عليه1. وقياسهم العهد على العقد، إذ عهد أبو بكر إلى عمر -رضي الله عنهما- ولم يرد فيه نص، لكن قياسًا لتعيين الإمام على تعيين الأمة2.

_ = الجهل، فتقبح الحوالة على الجهل، بل إذا أمرنا الشارع بأمر فليعرفناه، لنكون على بصيرة: إما ممتثلون، وإما مخالفون" وقد رد المصنف على ذلك فقال: "والجواب عن هذا: إن صدر من مقر بالشرع فلا يتمكن منه؛ لأنه تعبد بالحكم بالشهادة، والعمل بالفتوى، والتوجه إلى الكعبة بالاجتهاد عند الاشتباه، وإنما يفيد الظن كما يفيد العمل بالمتواتر.... وإن صدر من منكر للشرع فيقال له: أي: استحالة في أن يجعل الله -تعالى- الظن علامة للوجوب، والظن مدرك بالحس فيكون معلومًا، فيقال له: إذا ظننت صدق الشاهد والرسول والحالف فاحكم به، ولست متعبدًا بمعرفة صدقه، بل بالعمل به عند ظن صدقه". 1 جاء في طبقات ابن سعد "3/ 183": "عن وكيع بن الجراح عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قد قدّم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لديننا، فقدمنا أبا بكر" وقد ذكره السيوطي في "تاريخ الخلفاء" ص64، كما ذكره ابن قيم الجوزيه في "إعلام الموقعين" "1/ 230". 2 أي: أن الأصل في اختيار الإمام أن يكون بالبيعة، كما حدث لأبي بكر -رضي الله عنه- إلا أن أبا بكر -رضي الله عنه- عهد إلى عمر -رضي الله عنه- بالخلافة، قياسًا للعهد من الإمام على تعيين الأمة بعقد البيعة، وعهد أبي بكر إلى عمر =

ومن ذلك: موافقتهم أبا بكر -رضي الله عنه- في قتال مانعي الزكاة بالاجتهاد1. وكتابة المصحف بعد طول التوقف فيه2.

_ = -رضي الله عنهما- ثابت في التاريخ الصحيح، أورده ابن حجر في التلخيص الحبير "4/ 44"، وابن سعد في طبقاته "3/ 274". 1 معناه: أن أبا بكر -رضي الله عنه- قاس الزكاة على الصلاة في قتال الممتنع منها، بجامع كونهما عبادتين من أركان الإسلام، وقال في ذلك: "لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة" أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. ووافقه الصحابة -رضي الله عنهم- على ذلك، فكان إجماعًا على صحة القياس. انظر: شرح الطوفي "3/ 264". 3 روى أبو داود الطيالسي في مسنده، والترمذي في سننه في أبواب التفسير، والبيهقي في السنن الكبرى، والبغوي في شرح السنة "4/ 513-515" والإمام أحمد في مسنده "1/ 13" وغيرهم عن زيد بن ثابت قال: "أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وكان عنده عمر، فقال: إن هذا أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ بالقراء، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في سائر المواطن، فيذهب القرآن، وقد رأيت أن تجمعوه، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدره، ورأيت فيه الذي رأى، فقال أبو بكر: إنك شاب -أو رجل- عاقل، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لا نتهمك فاكتبه، قال: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي منه، فقلت لهما: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم؟ قال أبو بكر وعمر: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر وعمر يراجعاني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدرهما، ورأيت فيه الذي رأيا، فتتبعت القرآن أنسخه من الصحف والعسب "جريد النخل" واللخاف "الحجارة الرقاق"، وصدور الرجال، حتى فقدت آية كنت أسمع رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يقرأ بها {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... } =

وجمع عثمان له على ترتيب واحد1.

_ = [التوبة: 128-129] فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت فأثبتها في سورتها". انظر: كتاب المصاحف للسجستاني تحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ "1/ 165 وما بعدها" فقد استوفى الروايات الواردة في ذلك بأسانيدها. 1 عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فرج أرمينية وأذربيجان "الفرج: الثغر" مع أهل العراق، فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان بن عفان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت حفصة إلى عثمان بالصحف، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير، أن انسخوا الصحف في المصحاف، وقال للرهط القرشيين الثلاثة، ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا، وأمر بسوى ذلك من صحيفة أو مصحف أن يحرق" رواه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، والترمذي: في أبواب التفسير، والبغوي في شرح السنة "4/ 519"- 521" وقال: "هذا حديث صحيح" كما أورده أبو شامة عن البخاري في المرشد الوجيز "49-51" والسجستاني في كتاب المصاحف "1/ 204 وما بعدها" وقول المصنف: "على ترتيب واحد" أي: على النسخة التي كانت عند السيدة حصفة -رضي الله عنها- وهي التي جمعت في عهد سيدنا أبي بكر -رضي الله عنه- وهو الترتيب الذي عليه المصاحف الآن، أما المصاحف الأخرى التي كانت عند بعض الصحابة -رضي الله عنهم جميعًا- فكانت مختلفة الترتيب، وبعضها كان على حسب نزول السور، ولذلك أمر عثمان -رضي الله عنه- بحرق ما عدا المصحف الذي اعتبر مصحف الجماعة. انظر: البرهان للزركشي "1/ 240"، فصائل القرآن لابن كثير، ملحق بتفسيره "7/ 446".

واتفاقهم على الاجتهاد في مسألة "الجد والإخوة" على وجوه مختلفة، مع قطعهم أنه لا نص فيها1. وقولهم في المشرّكة2.

_ 1 مسألة ميراث الإخوة مع الجد، وقع فيها خلاف طويل بين الصحابة -رضي الله عنهم- فالبعض أنزله منزلة الأب، فلا يرث الإخوة معه شيئًا، ومنهم من قال: يقاسمهم إلى الثلث، ومنهم من قال: إلى السدس، ومنهم من قال: إلى نصف السدس، فأقر بعضهم بعضًا على ما ذهب إليه، ولم ينكر بعضهم على بعض، فكان ذلك اتفاقًا منهم على الاجتهاد في المسألة. قال أبو يعلى في العدة "4/ 1307-1308": "فإن كان هناك نص لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يكون خفي عليهم. أو علموه وتركوه. أو علم به بعضهم دون بعض. فبطل أن يكون هناك نص خفي عليهم، لأنه يفضي أن يجمعوا على خطإ، وأن يخرج الأمر عن أيديهم. وبطل أن يقال: علموا به وتركوه؛ لأن هذا عناد. وبطل أن يقال: علم به بعضهم دون بعض؛ لأنه لو كان كذلك لأظهره الذي علمه، ورواه وذكره فلما لم يكن شيء من هذا، ثبت أن القوم قالوا فيها باجتهادهم. ويؤيد هذا: أن القوم قاسوا الجد على غيره، واعتبره علي بالبحر، والأب بالنهر، والإخوة بالأنهار. واعتبره زيد بالشجرة، والأب بالغصن والإخوة بالأفنان، "جمع فنن: الغصن" ثبت أن القوم أجمعوا على القياس، وعملوا به، وأقر بعضهم بعضًا على ذلك". وانظر: السنن الكبرى للبيهقي: كتاب الفرائض، جماع أبواب الجد. 2 وهي المسألة المشهورة في الفرائض، وهي: أن يوجد في المسألة زوج وأم، وإخوة لأم، اثنان أو أكثر، وإخوة أشقاء.

ومن ذلك: قول أبي بكر -رضي الله عنه- في الكلالة: "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. الكلالة: ما عدا الوالد والولد"1. ونحوه عن ابن مسعود في قضية بَرْوع بنت واشق2.

_ = فللزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، ولا شيء للإخوة الأشقاء؛ لأنهم عصبة، وأصحاب الفروض قد استوفوا التركة. وهذا ما كان يفتي به عمر -رضي الله عنه- فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حمارًا أليست أمّنا واحدة؟ فشرّك بينهم، ولذلك سميت بالمشركة، وعدل عمر -رضي الله عنه- عن رأيه وعمل على التشريك بينهم، فيما بعد. أخرج الدارقطني في سننه: كتاب الفرائض، عن مسعود بن الحكم الثقفي قال: "أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في امرأة تركت زوجها وأمها وإخوتها لأم وإخوتها لأبيها وأمها، فشرّك بين الإخوة للأم وبين الإخوة للأم والأب بالثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهما في عام كذا وكذا. قال: فتلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم". 1 أخرجه البيهقي في سننه: كتاب الفرائض، باب حجب الإخوة والأخوات من قبل الأم "......عن الشعبي قال: سئل أبو بكر -رضي الله عنه- عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ مني ومن الشيطان، أراه ما خلا الولد والوالد، فلما استخلف عمر -رضي الله عنه- قال: إني لأستحيي الله أن أرد شيئًا قاله أبو بكر". كما أخرجه عبد الرزاق في المصنف: كتاب الفرائض، باب الكلالة، والدارمي: كتاب الفرائض، باب الكلالة، والخطيب في كتابه: "الفقيه والمتفقه" باب: ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد. 2 روى أبو داود في سننه: كتاب النكاح، باب: فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات: "أن عبد الله بن مسعود أُتي في رجل بهذا الخبر، يعني: في رجل تزوج امرأة، فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق، فاختلفوا إليه =

ومنه: حكم الصديق -رضي الله عنه- في التسوية بين الناس في العطاء، كقوله: "إنما أسلموا لله وأجورهم عليه، وإنما الدنيا بلاغ"، ولما انتهت النوبة إلى عمر -رضي الله عنه- فصل1 بينهم وقال: "لا أجعل من ترك داره وماله وهاجر إلى الله ورسوله كمن أسلم كرهًا"2. ومنه: عهد عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى: "اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور برأيك3.

_ = شهرًا، أو قال: مرات، قال: فإني أقول فيها: إن لها صداقًا كصداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وإن لها الميراث، وعليها العدة، فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، فقام ناس من أشجع، فيهم الجراح وأبو سنان، فقالوا: يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قضاها فينا في بَرْوع بنت واشق، وأن زوجها هلال بن مرة الأشجعي كما قضيت، قال: ففرح عبد الله بن مسعود فرحًا شديدًا حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم". كما أخرجه عبد الرزاق في المصنف: كتاب النكاح، باب الذي يتزوج فلا يدخل ولا يفرض حتى يموت، وأحمد في المسند "4/ 279". 1 في المستصفى "فرق" وفي كتب الحديث "فاضل". 2 أخرج نحوه البيهقي في السنن الكبرى "6/ 348"- كتاب قسم الفيء، باب التسوية بين الناس في القسمة، كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "1/ 21"، "3/ 475" وجاء في بعض الروايات: "وذكر عن عثمان، رضي الله عنه، أنه فضل بينهم في القسمة". 3 كتاب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري، كتاب جليل القدر، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه، وإلى تأمله والتفقه فيه، كما قال ابن القيم. أخرجه الدارقطني: كتاب الأقضية والأحكام، والبيهقي: كتاب آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي، وما يفتي به المفتي. وهو كتاب طويل جاء فيه: " ... أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة =

وقال علي، رضي الله عنه: "اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن، وأنا الآن أرى بيعهن"1. وقال عثمان لعمر: "إن نتبع رأيك فرأي رشيد، وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي كان"2. ومنه: قولهم، في السكران: "إذا سكر هذي، وإذا هذي أفترى، فحدوه حد المفتري"3.

_ = متبعة.....الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب أو السنة، اعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها عند الله وأشبهها بالحق فيما ترى ... ". 1 رواه عبد الرزاق في المصنف "7/ 291" والبيهقي في السنن الكبرى "10/ 348" عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليًّا يقول: "اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن، ثم رأيت بعدُ أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلي من رأيك وحدك في الفرقة. قال: فضحك علي" قال ابن حجر في تلخيص الحبير "4/ 219": "إسناده من أصح الأسانيد". 2 روى عبد الرزاق في مصنفه "10/ 263" والحاكم "4/ 340" والبيهقي في سننه الكبرى "6/ 246" والدارمي في سننه: كتاب الفرائض "2/ 354" عن مروان بن الحكم: أن عمر بن الخطاب -لما طُعن- استشارهم في الجد، فقال: إني كنت رأيت في الجد رأيًا، فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه، فقال له عثمان: إن نتبع رأيك فإنه راشد، وإن نتبع رأي الشيخ فلنعم ذو الرأي كان. 3 هذا الأثر أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الأشربة- باب الحد في الخمر- عن ثور بن زيد الدِّيلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: "نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى -أو كما قال- فجلد عمر في الخمر ثمانين". كما أخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي والحاكم وغيرهم. قال الحافظ في تلخيص الحبير "4/ 75": "وهو منقطع، لأن ثورًا لم يلحق عمر، بلا خلاف" =

وهذا التفات منهم إلى أن مظنة الشيء تنزل منزلته. وقال معاذ للنبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أجتهد رأيي"1 فصوبه فهذا وأمثاله -مما لا يدخل تحت الحصر- مشهور، إن لم تتواتر آحاده: حصل بمجموعة العلم الضروري: أنهم كانوا يقولون بالرأي، وما من وقت إلا وقد قيل فيه بالرأي2. ومن لم يقل، فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد، وما أنكر على القائل به، فكان إجماعًا. [الاعتراضات الواردة على إجماع الصحابة] فإن قيل: فقد نقل عنهم ذم الرأي وأهله: فقال عمر، رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء

_ = لكن الحاكم أخرجه في مستدركه في كتاب الحدود وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. 1 تقدم تخريجه. 2 معناه: أن هذه الوقائع المختلفة، وغيرها كثيرة، وهي وإن كانت أخبار آحاد لم تبلغ حد التواتر اللفظي، إلا أن مجموعها يعتبر تواترًا معنويًّا، كسخاء حاتم الطائي وشجاعة علي، رضي الله عنه. ومن لم يقل منهم بالرأي، فإن سبب ذلك: أن غيره أغناه عنه، فلم يعد في حاجة إليه. قال الغزالي في المستصفى "3/ 520": "فهذا وأمثاله، مما لا يدخل تحت الحصر، مشهور". وما من مفتٍ إلا وقد قال بالرأي، ومن لم يقل؛ فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد، ولم يعترض عليهم في الرأي. فانعقد إجماع قاطع على جواز القول بالرأي والظن".

السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا"1. وقال علي، رضي الله عنه: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"2. وقال ابن مسعود، رضي الله عنه: "قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤساء جهالًا فيقيسون ما لم يكن بما كان"3. وقولهم: "إن حكمتم بالرأي أحللتم كثيرًا مما حرم الله، وحرمتم كثيرًا مما أحله"4. وقول ابن عباس: "إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم برأيه، وقال لنبيه: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 5 ولم يقل: بما رأيت"6.

_ 1 أخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" باب: ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس، والخطيب في كتابه "الفقيه والمتفقه" "1/ 180-181"، وابن حزم في الإحكام ص779. 2 أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب: كيف المسح؟ وابن حزم في الإحكام "1/ 380، وابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 160" وقال: "إسناده صحيح". 3 أخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 165" والدارمي في سننه "1/ 65". 4 هذا الأثر أخرجه الخطيب في كتابه "الفقيه والمتفقه" "1/ 182" عن ابن مسعود، رضي الله عنه. وأخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 94" عن الشعبي، ومثله ابن حزم في الإحكام "2/ 1073". 5 سورة النساء من الآية "105". 6 أخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 133".

وقوله: "إياكم والمقاييس، فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس"1. وقال ابن عمر: "ذروني من أرأيت وأرأيت"2. [الرد على الاعتراضات المتقدمة] قلنا: هذا منهم ذم لمن استعمل الرأي والقياس في غير موضعه، أو بدون شروطه. فذم عمر -رضي الله عنه- ينصرف إلى من قال بالرأي من غير معرفة للنص، ألا تراه قال: "أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها" وإنما يحكم بالرأي في حادثة لا نص فيها، فالذم على ترك الترتيب، لا على أصل القول

_ 1 أخرجه ابن حزم في الإحكام "2/ 1073" عن محمد بن سيرين بلفظ: "القياس شؤم، وأول من قاس إبليس فهلك، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس". وأخرجه الدارمي في سننه "1/ 65" عن ابن سيرين أيضًا. كما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين "1/ 254". 2 جاء في مجمع الزوائد "1/ 180" عن الشعبي قال: قال ابن مسعود، رضي الله عنه: "إياكم وأرأيت وأرأيت، فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت وأرأيت، ولا تقيسوا شيئًا بشيء فتزل قدم بعد ثبوتها، فإذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل: الله أعلم، فإنه ثلث العلم" وقد نسبه صاحب مجمع الزوائد إلى الدارقطني ثم قال: "والشعبي لم يسمع ابن مسعود، وفيه جابر الجعفي، وهو ضعيف". كما نسبه إلى ابن مسعود أيضًا ابن القيم في إعلام الموقعين "1/ 58". وخلاصة هذه الاعتراضات: أن الإجماع الذي نقله المصنف عن الصحابة -رضي الله عنهم- على حجية القياس، معارض بآثار أخرى تدل على ذم القياس، فلم تسلم لهم الأدلة السابقة. 3 أي: الترتيب الذي جاء في حديث معاذ -رضي الله عنه- حيث جاء فيه الاجتهاد بعد عدم وجود الحكم في الكتاب والسنة.

بالرأي، ولو قدم إنسان القول بالسنة على ما هو أقوى منها1: كان مذمومًا. وكذلك قول علي، رضي الله عنه2. وكل ذم يتوجه إلى أهل الرأي فلتركهم الحكم بالنص هو أولى، كما قال بعض العلماء3: أهل الكلام وأهل الرأي قد جهلوا ... علم الحديث الذي ينجو به الرجل لو أنهم عرفوا الآثار ما انحرفوا ... عنها إلى غيرها لكنهم جهلوا جواب ثانٍ: أنهم ذموا الرأي الصادر عن الجاهل الذي ليس أهلًا للاجتهاد والرأي، ويرجع إلى محض الاستحسان، ووضع الشرع بالرأي، بدليل أن الذين نقل عنهم هذا هم الذين نقل عنهم القول بالرأي والاجتهاد4. والقائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من القياس، كقياس أهل

_ 1 وهو القرآن الكريم. 2 وهو قوله: "لو كان الدين بالرأي: لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه". 3 القائل هو: موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، أبو مزاحم الخاقاني، كان عالمًا بالعربية، شاعرًا، من أهل بغداد، كما كان راوية مأمونًا. ولد سنة 248هـ وتوفي سنة 325هـ. "غاية النهاية 2/ 320، الأعلام 8/ 275". والبيتان أوردهما عنه الخطيب البغدادي "ت463هـ" في كتابه: "شرف أصحاب الحديث" ص79 تحقيق محمد سعيد خطيب أوغلي، نشر دار إحياء السنة النبوية. 4 معناه: أن الذين نقل عنهم ذم الرأي والاجتهاد، هم الذين نقل عنهم القول بالرأي والاجتهاد -كما سبق- فلا بد من دفع هذا التعارض، وهذا إنما يكون بحمل الذم على الرأي الفاسد الذي لم تكتمل شروطه، أو المخالف للنص، أو الصادر من الجاهل.

الظاهر، إذ قالوا، الأصول لا تثبت قياسًا، فكذلك الفروع. فإذًا: إن بطل القياس، فليبطل قياسهم1 فإن قيل: فلعلهم عولوا في اجتهادهم على عموم، أو أثر، أو استصحاب حال، أو مفهوم، أو استنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين أو خبرين، أو يكون اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم، لا في استنباطه. فقد علموا أنه لا بد من إمام، وعرفوا -بالاجتهاد- من يصلح للتقديم، وهكذا في بقية الصور2.

_ 1 أي: ومما يؤيد ما قلناه من دفع التعارض السابق: أن القائلين بحجية القياس مقرون ومعترفون بفساد بعض الأقيسة، مثل: قياس أهل الظاهر، حيث قالوا: لا يجوز القياس في الأصول، فمنعوا القياس في الفروع، قياسًا على الأصول. فرد الجمهور هذا القياس وقالوا للظاهرية: إنكم أبطلتم القياس من أساسه، فكيف تقيسون الفروع على الأصول، فأنتم بذلك تبطلون القياس بالقياس؟! 2 معنى ذلك: أن الجمهور لما استدلوا على صحة القياس بالإجماعات المنقولة عن الصحابة -رضي الله عنهم- اعترض عليهم النافون لحجية القياس بعدم التسليم بأن ما ذكروه كان مبنيًّا على القياس، بل يحتمل أنهم عولوا على أشياء أخرى، كصيغ العموم، أو بعض الآثار، أو الاستصحاب، أو دلالة مفهوم، أو استنباط حكم شرعي بناء على مدلول بعض الصيغ من حيث اللغة، أو الاحتكام إلى تحقيق المناط، كما تقدم، حيث تكون القاعدة الكلية متفقًا عليها، أو منصوصًا عليها، ويأتي الاجتهاد في إلحاق بعض الفروع بها، كعلم الصحابة -رضي الله عنهم- بوجوب نصب إمام يلي أمور المسلمين، ثم يجتهدون فيمن تتحقق فيه شروط الإمامة، ومع هذه الاحتمالات لا يكون الاستدلال صحيحًا. وقد أجاب المصنف عن ذلك، كما سيأتي.

قلنا: لم يكن اجتهاد الصحابة مقصورًا على ما ذكروه، بل قد حكموا بأحكام لا تصح إلا بالقياس، كعهد أبي بكر إلى عمر، قياسًا للعهد على العقد بالبيعة، وقياس الزكاة على الصلاة1، وقياس عمر الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة2، وإلحاق السكر بالقذف لأنه مظنته3. وقد اشتهر اختلافهم في الجد قياسًا: فقال ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد، يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا"4، فأنكر ترك قياس الأبوة على البنوة، مع افتراقهما في الأحكام. وصرح من سوى بينهما بأن الأخ يدلي بالأب، والجد يدلي به أيضًا، فالمدلى به واحد، والإدلاء مختلف5.

_ 1 في الأثر الذي تقدم وفيه: "لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة". 2 تقدمت ترجمته. 3 وهو ما سبق تخريجه عن علي -رضي الله عنه- قال، في شارب الخمر: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي "أي: تكلم بكلام غير معقول" وإذا هذي افترى "أي: قذف" وعلى المفترى ثمانون جلدة". 4 ذكره ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله "2/ 131" بدون إسناد، كما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "10/ 266". 5 أي: أن الذين سووا بين الجد والإخوة في أن كلًّا منهما يستحق الميراث قالوا: كل منهما يدلي إلى الميت بواسطة الأب، فالمدلَى به -وهو الأب- واحد، والإدلاء مختلف، فالجد يدلي إلى الميت بجهة الأبوة، والإخوة يدلون بجهة البنوة، فهما مختلفان، فقاسوا الإدلاء بجهة البنوة على الإدلاء بجهة الأبوة، مع أن البنوة تختلف عن الأبوة في بعض الأحكام، فتوريث الصحابة -رضي الله عنهم- للإخوة مع الجد ثابت بالقياس، وهذا هو المدعى.

وصرحوا بالتشبيه بالغصنين، والخليجين1.

_ 1 خلاصة الكلام في ميراث الجد ومحل الشاهد من إيراده هنا: أن الصحابة رضي الله عنهم، اختلفوا في ميراث الجد مع الإخوة، في حالة عدم وجود الأب، على مذهبين: المذهب الأول: أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات في جميع الجهات، تنزيلًا له منزلة الأب، وهو رأي أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وروي ذلك عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم جميعًا. المذهب الثاني: أن الأخوة يرثون مع الجد -على خلاف بينهم في القدر الذي يرثه- ولا يقوى الجد على حجبهم كما يحجبهم الأب، وهو رأي علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- لأن ميراثهم ثابت بالكتاب، فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع أو قياس، وما وجد شيء من ذلك. ولأنهم تساووا مع الجد في سبب الاستحقاق، فالإخوة والجد يدليان إلى الميت بواسطة الأب، فالجد أبوه، والأخ ابنه، وقرابة البنوة لا تنقص عن قرابة الأبوة، بل ربما كانت أقوى، ولذلك مثله علي -رضي الله عنه- بشجرة أنبتت غصنًا، فانفرق منه غصنان، كل واحد منهم على الآخر أقرب منه إلى أصل الشجرة، ومثّله زيد بواد خرج منه نهر، انفرق منه جدولان، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب منه إلى الوادي. انظر: سنن البيهقي: كتاب الفرائض، باب: من ورّث الإخوة مع الجد، والمصنف لعبد الرزاق "10/ 95" والمغني لابن قدامة "9/ 65 وما بعدها". ومحل الشاهد في إيراد هذه القضية: أن الصحابة -رضي الله عنهم- استعملوا القياس في ميراث الجد، حيث اعترض ابن عباس على زيد بن ثابت في عدم قياس الجد على ابن الابن، فإن ابن الابن يحل محل الابن في حالة عدم وجوده، فلماذا لا يحل الجد محل الأب، وهذا معنى قوله: "ألا يتقى الله زيد بن ثابت، بجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا". كما أن الذين سووا بين الجد والإخوة وأنهم لا يحجبون استعملوا القياس أيضًا، كما تقدم في غصني الشجرة، وجدولي الماء.

ومن فتّش عن اختلافهم في الفرائض وغيرها؛ عرف ضرورة سلوكهم التشبيه والمقايسة، وأنهم لم يقتصروا على تحقيق المناط في إثبات الأحكام، بل استعملوا ذلك في بقية طرق الاجتهاد. [الأدلة النقلية على حجية القياس] وقد استدل على إثبات القياس بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 1. وحقيقة الاعتبار: مقايسة الشيء بغيره كما يقال: "اعتبر الدينار بالصَّنْجة"2. وهذا هو القياس. فإن قيل: المراد به الاعتبار بحال من عصى أمر الله، وخالف رسله، لينزجر، ولذلك لا يحسن أن يصرح بالقياس ههنا فيقول:

_ 1 سورة الحشر من الآية "2". قال الطوفي في شرحه "3/ 259-260"- مبينًا وجه الدلالة من هذه الآية: "القياس اعتبار، والاعتبار مأمور به، فالقياس مأمور به. أما المقدمة الأولى، وهي: أن القياس اعتبار، فهي لغوية، أي: طريق معرفتها اللغة، وأنه التقدير والاعتبار، وأيضًا: فإن الاعتبار مشتق من العبور، وهو المجاوزة، ومنه المِعْبَر؛ لأنه يجاوز بالناس من أحد جانبي البحر إلى الآخر، وعابر المنام؛ لأنه يعبر حال المنام إلى ما يشبهه في اليقظة، وكذلك القياس يجاوز بحكم المنصوص إلى غيره، ويعبر منه إليه، فكان القياس اعتبارًا بحكم الاشتقاق. وأما المقدمة الثانية، وهي: أن الاعتبار مأمور به، فلقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمر بالاعتبار، والأمر للوجوب، فيكون الاعتبار الذي منه القياس واجبًا. 2 هي الميزان. معرّبة. القاموس المحيط فصل الصاد باب الجيم.

{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} فألحقوا الفروع بالأصول، لتعرف الأحكام. قلنا: اللفظ عام، وإنما لم يحسن التصريح بالقياس ههنا، لأنه يخرج عن عمومه المذكور في الآية، إذ ليس حالنا فرعًا لحالهم1. دليل آخر: قول النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لمعاذ: "بِمَ تَقْضِي؟ " قال: بكتاب الله. قال: "فإن لمْ تَجدْ؟ " قال: بسنة رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "فَإن لمْ تَجدْ؟ " قال أجتهد رأيي، قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لما يرضي رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم 2". قالوا: هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو1 عن رجال من أهل

_ 1 خلاصة ذلك: أن المنكرين لحجية القياس اعترضوا على الاستدلال بهذه الآية فقالوا: إن الاعتبار هنا معناه الاتعاظ، لأن قوله تعالى: {فاعتبروا} وارد في سياق قوله تعالى، في حق بني قريظة والنضير: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فلا يحسن أن يقول هنا: فقيسوا الذرة على البر؛ لأنه يكون ركيكًا لا يليق بالشارع. فأجاب المصنف على ذلك: بأن المراد بالاعتبار هنا: القدر المشترك بين القياس والاتعاظ، وهو المجاوزة، فإن القياس مجاوزة عن الأصل إلى الفرع، والاتعاظ مجاوزة من حال الغير إلى حال نفسه، وكون صدر الآية غير مناسب للقياس لا يستلزم عدم مناسبته للقدر المشترك بين القياس والاتعاظ. 2 تقدم تخريجه. ومحل الشاهد: أن الرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- أقر معاذًا على الاجتهاد، ومن الأمور التي يعتمد عليها في الاجتهاد: القياس. 3 هو: الحارث بن عمرو الثقفي، ابن أخي المغيرة بن شعبة، روى عن أناس من =

حمص، والحارث، والرجال مجهولون. قاله الترمذي1. ثم إن هذا الحديث ليس بصريح في القياس، إذ يحتمل أنه يجتهد في تحقيق المناط. قلنا: قد رواه عبادة بن نُسَيّ2 عن عبد الرحمن بن غَنْم3 عن معاذ. ثم الحديث تلقته الأمة بالقبول، فلا يضره كونه مرسلًا4.

_ = أهل حمص من أصحاب معاذ، وروى عنه أبو عوف: محمد بن عبيد الله الثقفي، ولا يعرف إلا بهذا، مات بعد المائة. قال البخاري: لا يصح ولا يعرف، وذكره العقيلي وابن الجارود وأبو العرب في الضعفاء، وقال ابن عدي: هو معروف بهذا الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: تهذيب التهذيب "2/ 152"، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال "1/ 185". 1 هو: محمد بن عيسى بن سورة السلمى الترمذي، أبو عيسى، من أئمة الحديث وحفاظه، صاحب الجامع الكبير في الحديث. توفي سنة "279هـ". انظر: وفيات الأعيان "1/ 484"، تذكرة الحفاظ "2/ 633". 2 هو: عبادة بن نُسَيّ، أبو عمرو الشامي، قاضي طبرية، روى عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وغيرهما، وروى عنه برد بن سنان، والمغيرة بن زياد، ثقة، توفي سنة "118هـ". انظر: تقريب التهذيب "1/ 395"، تهذيب التهذيب "5/ 113". 3 هو: عبد الرحمن بن غنم الأشعري، اختلف في صحبته. روى عن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وعن عمر وعثمان وعلي، وعن غيرهم من الصحابة، رضي الله عنهم جميعًا. كما روى عنه ابنه محمد ومكحول الشامي، ورجاء بن حيوة، وعبادة بن نُسي وغيرهم. وثقه ابن سعد والعجلي ويعقوب بن شيبة، كما ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. توفي سنة "78هـ". انظر: تقريب التهذيب "1/ 494"، تهذيب التهذيب "6/ 250". 4 قال الخطيب البغدادي في كتابه: "الفقيه والمتفقه" "1/ 189-190": "إن قول =

..................................................................

_ = الحارث بن عمرو "عن أناس من أصحاب معاذ" يدل على شهرة الحديث، وكثرة رواته، وقد عرف فضل معاذ وزهده، والظاهر من حال أصحابه الدين والتفقه والزهد والصلاح، وقد قيل: إن عبادة بن نُسَي رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول الرسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَا وَصِيّة لِوَارِث" وفي البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ، لما احتجوا به جميعًا غنوا عن طلب الإسناد له". وقال إمام الحرمين في البرهان "2/ 772": "وهو مدون في الصحاح، متفق على صحتة، ولا يتطرق إليه التأويل". وقال الغزالي في المستصفى "2/ 254": "تلقته الأمة بالقبول، ولم يظهر فيه أحد طعنًا، فلا يقدح فيه كونه مرسلًا". كما قواه ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي وابن كثير. انظر: المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر "ص63-71" بتعليق الأستاذ حمدي السلفي. وقال القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1294": "فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد، فلا يصح أن يحتج به في هذه المسألة التي هي أصل. قيل: هذا أشهر وأثبت من قوله: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وقد احتج به المخالف في الإجماع، فكان هذا أولى. وجواب آخر وهو: أنه إذا جاز أن تثبت الأحكام الشرعية بخبر الواحد، مثل: تحليل وتحريم، وإيجاب وإسقاط، وتصحيح وإبطال، وإقامة حق وحد، بضرب وقطع وقتل، واستباحة الفروج، وما أشبه ذلك، كان يثبت القياس به أولى؛ لأن القياس طريق لهذه الأحكام، وهي المقصودة دون الطريق". وقال الشيخ محمد الأمين المختار الشنقيطي في مذكرة أصول الفقه على روضة =

والثاني1: لا يصح؛ لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه كتاب ولا سنة. خبر آخر: قول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: " إذا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَد فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فََلَهُ أَجْرٌ". رواه مسلم2.

_ = الناظر ص360، في الملحق الذي سجله -رحمه الله تعالى- في المسجد النبوي عند كلامه عن القياس، قال: "والذين قالوا: إن الحديث صحيح وأنه يجوز العمل به لأمرين. أحدهما: أن الحارث بن عمرو وثقه ابن حبان وإن كان ابن حبان تساهل في التوثيق له، فالحديث له شواهد ومؤيدات يعتضد بها، كحديث الصحيحين "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران". قالوا: وليس في أصحاب معاذ بن جبل أحد مجروح، فكلهم عدول، وإذا كان الحارث موثقًا، وأصحاب معاذ كلهم عدول، فالحديث مقبول. وثانيهما: أن علماء المسلمين تلقوا هذا الحديث -خلفًا عن سلف- بالقبول وتلقى العلماء للحديث بالقبول يكفيه عن الإسناد، وكم من حديث يكتفى بصحته عن الإسناد، يكتفى بعمل العلماء في أقطار الدنيا؛ لأن هذه الأمة إذا عمل علماؤها في أقطار الدنيا بحديث دل على أن له أصلًا، واكتفي بذلك عن الإسناد". 1 أي: قول المعترضين، سابقًا: "ثم إن هذا الحديث ليس بصريح في القياس، إذ يحتمل أن يجتهد في تحقيق المناط" فأجاب المصنف: أنا لا نسلم ذلك الاحتمال؛ لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة، وهذا لا يسمى تحقيق المناط. 2 في صحيحه: كتاب الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد وأخطأ. كما رواه البخاري: كتاب الاعتصام، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، وأبو داود: كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- مرفوعًا. =

ويتجه عليه أنه: يجتهد في تحقيق المناط، دون تخريجه1. خبر آخر: قول النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- للخثعمية2: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِه أَكانَ يَنْفَعُهُ"؟ قالت: نعم. قال: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".

_ = كما رواه الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 1 أي: أنه لا يتناول القياس إلا بعمومه، حيث يكون قاصرًا على تحقيق المناط، دون تخريج المناط، فليس بصريح في الدلالة على حجية القياس. وترك المصنف الجواب على هذا الاعتراض؛ لأنه معلوم من الرد على الاعتراض الثاني على حديث معاذ، وهو قوله: "والثاني لا يصح؛ لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه كتاب ولا سنة". 2 الخثعمية: امرأة مجهولة لم تسم، من خثعم بن أنمار بن أراش بن كهلان، وجاء في بعض الروايات: أنها امرأة شابة، وهي التي كان ينظر إليها الفضل بن العباس وهو رديف رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في حجة الوداع فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: "كان الفضل بن عباس رديف رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الراحلة، وإن شددته خشيت عليه، أفأحج عنه؟ قال: نعم" سبل السلام "2/ 181" فهذه الزيادة التي أوردها المصنف ليست في حديث الخثعمية، فلا يصح الاحتجاج به في هذا المقام، وهو القياس. وقد روى مثله الإمام أحمد في مسنده "1/ 345" والنسائي "5/ 87" وابن خزيمة "4/ 346" عن ابن عباس أيضًا: "أن امرأة نذرت أن تحج، فماتت، فأتى أخوها النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فسأله عن ذلك فقال: "أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه"؟ قال: نعم. قال: "فاقضوا الله، فهو أحق بالوفاء" وروى مثله البخاري عن امرأة أن أمها نذرت أن تحج، وماتت ولم تحج.

فهو تنبيه على قياس دين الله على دين الخلق. وقوله -عليه السلام- لعمر، حين سأله عن قبلة الصائم: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟ " 1 فهو قياس للقبلة على المضمضة، بجامع أنها مقدمة الفطر، ولا يفطر2. وروى أبو عبيد3 أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "إنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ بالرَّأْي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فيهِ وَحْيٌ" 4. وإذا كان يحكم بينهم باجتهاده: فلغيره الحكم برأيه إذا غلب على ظنهم.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند "1/ 52" وأبو داود: كتاب الصوم، باب القبلة للصائم، حديث "2385" والدارمي: كتاب الصوم، باب الرخصة في القبلة للصائم، كما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، من حديث جابر بن عبد الله عن عمر -رضي الله عنهما- قال: هششت يومًا فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقلت صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، فقبلت وأنا صائم. فقال: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته وأنت صائم؟ " قلت: لا بأس بذلك. فقال: "ففيم؟ " أي: ففيم الاستغراب. 2 أي: أن كلًّا منهما مقدمة لشيء لم يتم. 3 هو: القاسم بن سلام البغدادي، أبو عبيد، الفقيه المحدث اللغوي، أخذ عن كبار اللغويين والنحويين، كأبي عبيدة، والكسائي، والفراء، تولى قضاء طرسوس. من مؤلفاته، "الأموال" و"أدب القضاء" وقد أورد فيه هذا الحديث بسنده عن أم سلمة -رضي الله عنها- توفي بمكة المكرمة، وقيل: بالمدينة المنورة سنة "224هـ" على الأصح- انظر: تذكرة الحفاظ "2/ 417"، طبقات المفسرين للداودي "2/ 32"، شذرات الذهب "1/ 141". 4 المصنف روى الحديث بالمعنى، ولفظه: عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا =

فصل: الأدلة النقلية للمنكرين للقياس

فصل: [الأدلة النقلية للمنكرين للقياس] احتجوا بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1. وقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 2. فما ليس في القرآن ليس بمشروع، فيبقى على النفي الأصلي3. الثانية: قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 5 وهذا حكم بغير المنزل.

_ = يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" أخرجه البخاري: كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم، ومسلم: كاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. 1 سورة الأنعام من الآية "38". 2 سورة النحل من الآية "89" قال الطوفي، في وجة الدلالة لهاتين الآيتين: "إن في الكتاب كفاية وغناء عن القياس، وإثبات القياس رد لذلك". 3 هذا يعتبر اعتراضًا منهم على استدلال الجمهور المتقدم: "لولا القياس لتعطلت حوادث كثيرة عن أحكام، لعدم وفاء النصوص القليلة بالحوادث الكثيرة" خلاصته: لا نسلم أن ذلك يؤدي إلى ما قلتم؛ لأن ما لم يرد في الكتاب والسنة يبقى على النفي الأصلي أي: لا حكم له. والمصنف أقحم هذه العبارة هنا في وجه الدلالة، ولعل له وجهة. ويمكن الرد على هذا الاعتراض: أن هذا يناقض استدلالكم بهاتين الآيتين؛ لأن ذلك -على مقتضى استدلالكم- يوجب أن لا حادثة إلا ولها في الكتاب حكم، وقولكم: "فما ليس في القرآن ليس بمشروع، فيبقى على النفي الأصلي" يثبت أن هناك من الحوادث ما لا حكم له في القرآن، وهذا تناقض. انظر: شرح الطوفي "3/ 271". 4 عبارته غير واضحة، فالمتقدم آيتان، وليست واحدة حتى يعطف عليها قوله "الثانية" إلا إذا اعتبر دلالة الآيتين المجموعة الأولى؛ لأن مدلولهما واحد، والآيتان الآتيتان هما المجموعة الثانية، أو المراد: الشبهة الثانية. 5 سورة المائدة من الآية "49".

وهكذا قوله: { ... فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1, وأنتم تردونه إلى الرأي.

_ 1 سورة النساء من الآية "59".

فصل: الأدلة العقلية للمنكرين للقياس

فصل: [الأدلة العقلية للمنكرين للقياس] وأما شبههم المعنوية: [فالأولى] : قالوا: براءة الذمة بالأصل معلومة قطعًا، فكيف ترفع بالقياس المظنون؟! والثانية: كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد، والفرق بين المتماثلات، والجمع بين المختلفات، إذ قال: "يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ، وَيُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ" 1، ويجب الغسل من المني والحيض، دون المذي والبول، ونظائر ذلك كثير. الثالثة: أن الرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قد أوتي جوامع الكلم2، فكيف يليق به

_ 1 روى أبو داود والنسائي والحاكم وصححه، عن أبي السمح قال: قال رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- "يُغسل من بول الجارية، ويرشُّ من بول الغلام". كما أخرجه أيضًا البزار وابن ماجه وابن خزيمة، عن أبي السَّمح قال: كنت أخدم رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فأُتي بحسن أو حسين فبال على صدره، فجئت أغسله فقال: "يغسل من بول الجارية". وقد رواه أيضًا أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن ماجه والحاكم من حديث لبابة بنت الحارث قالت: كان الحسين ... وذكرت الحديث وجاء في لفظه: "يُغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر" كما رووه عن علي -رضي الله عنه- قال قال قتادة: "هذا ما لم يطعما، فإذا طعما غُسلا". انظر: سبل السلام "1/ 38". 2 روى البخاري: كتاب التعبير، باب: رؤيا الليل، عن أبي هريرة رضي الله عنه: =

أن يترك الوجيز المفهم إلى الطويل الموهم، فيعدل عن قوله: "حرَّمتُ الربا في المكيل" إلى الأشياء الستة؟ الرابعة: قالوا: الحكم ثبت في الأصل بالنص؛ لأنه مقطوع به والحكم مقطوع به، فكيف يحال على العلة المظنونة، والحكم يثبت في الفرع بالعلة، فكيف يثبت الحكم فيه بطريق سوى طريق الأصل؟ الخامسة: قالوا: غاية العلة: أن يكون منصوصًا عليها، وذلك لا يوجب الإلحاق، كما لو قال: "أعتقت من عبيدي سالمًا؛ لأنه أسود" لم يقتض عتق كل أسود، ولا يجري ذلك مجرى قوله: "أعتقت كل أسود". كذا قوله: "حرمت الربا في البر، لأنه مطعوم" لا يجري مجرى قوله: "حرمت الربا في كل مطعوم". الجواب: أما قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} فإن القرآن دل على جميع الأحكام، لكن إما بتمهيد طريق الاعتبار، وإما بالدلالة على الإجماع والسنة، وهما قد دلا على القياس. وإلا فأين في الكتاب مسألة: "الجد والإخوة" و"العول" و"المبتوتة" و"المفوضة"1، و"التحريم"2، وفيها حكم لله شرعي.

_ = أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "أعطيت مفاتيح الكلم" وفي باب: المفاتيح في اليد بلفظ: "بعثت بجوامع الكلم". كما أخرجه عن أبي هريرة أيضًا مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة بلفظ: "أوتيت جوامع الكلم" وللحديث روايات أخرى متعددة. يراجع فيض القدير "1/ 563". 1 هذه الأمثلة تقدم الكلام عليها. 2 وهي قول الرجل لزوجته: "أنتِ عليّ حرام" هل يعتبر ظهارًا، أو طلاقًا؟ وإذا =

ثم قد حرّمتم القياس، وليس في القرآن تحريمه1. وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2. قلنا: القياس ثابت بالإجماع والسنة، وقد دل عليه القرآن المنزل. ومن حكم بمعنى: استنبط من المنزل، فقد حكم بالمنزل.

_ = اعتبر طلاقًا، هل يقع ثلاثًا أو رجعيًّا؟ فيه خلاف طويل يراجع في المغني "10/ 396"، "11/ 61". 1 خلاصة ذلك الرد: أن المراد من قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} من حيث الإجمال: تمهيد طرق الاعتبار الكلية، والقياس من هذه الطرق؛ لأن القرآن دل على حجية السنة والإجماع، وهما قد دلا على حجية القياس، كما أن هناك العديد من الأحكام الفرعية التي ثبت لها حكم شرعي، وليس فيها نص في كتاب الله تعالى، كالأمثلة التي ذكرها المصنف، وغيرها كثير. هذا ما أجاب به المصنف -رحمه الله تعالى- وهو مبني على أن المراد بالكتاب في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} هو القرآن الكريم. أما إذا أريد به "اللوح المحفوظ" فلا دلالة فيه على محل النزاع. روى الطبري، بسنده، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} : ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب. كما روى، بسنده أيضًا، عن يونس قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قال: كلهم مكتوب في أم الكتاب. "تفسير الطبري 11/ 345-346" دار المعارف بالقاهرة. وقال القرطبي: قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي: في اللوح المحفوظ، فإنه أثبت فيه ما يقع من الحواث. وقيل: أي في القرآن، أي: ما تركنا شيئًا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول -عليه الصلاة والسلام- أو من الإجماع، أو من القياس الذي يثبت بنص الكتاب ... "، الجامع لأحكام القرآن "6/ 420". 2 المائدة: 49.

وقوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1. قلنا: نحن لا نرده إلا إلى العلة المستنبطة من كتاب الله -تعالى- ونص رسوله، فالقياس: تفهّم معاني النصوص بتجريد مناط الحكم، وحذف الحشو الذي لا أثر له. ثم أنتم رددتم القياس بلا نص، ولا معنى نص. وقولهم: "كيف ترفعون القواطع بالظنون". قلنا: كما ترفعونه بالظواهر، والعموم، وخبر الواحد، وتحقيق المناط في آحاد الصور. ثم نقول: لا نرفعه إلا بقاطع، فإنا إذا تعبدنا باتباع العلة المظنونة، فإنا نقطع بوجود الظن، ونقطع بوجود الحكم عند الظن، فيكون قاطعًا. وقولهم: "مبنى الحكم على التعبدات". قلنا: نحن لا ننكر التعبدات في الشرع، فلا جرم، قلنا: الأحكام ثلاثة أقسام: قسم: لا يعلل. وقسم: يعلم كونه معللًا، كالحجر على الصبي، لضعف عقله. وقسم: يتردد فيه. ولا نقيس ما لم يقم دليل على كون الحكم معللًا2.

_ 1 النساء: "59". 2 معناه: أننا لا نقيس إلا إذا وجد المعنى الذي في الأصل في الفرع بعينه، وتحققت شروط القياس، كالنبيذ مع الخمر، والأرز مع البر، فإن الأحكام الشرعية إما غير معللة كالعبادات المختلفة، فلا يجري فيها القياس، وإما معللة بعلة معينة، وهذه هي التي يجري فيها القياس. وأما اعتراضهم بالتفرقة بين المتماثلات: فله علة -أيضًا- لكنها خفيت عليهم، فقد نص العلماء على أن بول الأنثى أثقل من بول الذكر، حيث إن مزاج الذكر =

وقولهم: "لِمَ لم ينص على المكيل، ويغني عن القياس على الأشياء الستة"؟ قلنا: هذا تحكم على الله -تعالى- وعلى رسوله، وليس لنا التحكم عليه فيما صرّح ونبّه وطوّل وأوجز1، ولو جاز ذلك: لجاز أن يقال: "فلم لم يصرّح بمنع القياس على الأشياء الستة؟ ولِمَ لم يبين الأحكام كلها في القرآن، وفي المتواتر2، لينحسم الاحتمال؟ وهذا كله غير جائز. ثم نقول: إن الله -تعالى- علم لطفًا في تعبد العلماء بالاجتهاد، وأمرهم بالتشمير في استنابط دواعي الاجتهاد، لـ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 3. وقولهم: "كيف يثبت الحكم في الفرع بطريق غير طريق الأصل"؟ قلنا: ليس من ضرورة كون الفرع تابعًا للأصل أن يساويه في طريق

_ = حار، ومزاج الأنثى بارد، فيضعف الهضم عندها، فتبقى الفضلة كثيفة، ذات قوام كثيف، فإذا تعلقت بالأجسام، كان أثرها محتاجًا إلى الغسل، بخلاف الغلام. وهكذا سائر الصورة التي أوردوها. انظر: شرح الطوفي "3/ 275، وما بعدها". 1 في المطبعة: طول ونبه وأوجز، وصححناه من المستصفى "3/ 568". 2 أي: من السنة. 3 سورة المجادلة من الآية "11". يضاف إلى ذلك: أن هناك حوادث ووقائع تقع في سائر الأزمان ولا يمكن إعطاؤها حكمًا شرعيًّا إلا بالاجتهاد الذي من وسائله القياس، يؤيد ذلك ما رواه سعيد بن المسيب عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه سنة؟ قال، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اجمعوا له العالمين، أو قال: العابدين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد". روى مثله الطبراني في الأوسط. انظر: مجمع الزوائد "1/ 178" وإعلام الموقعين "1/ 65".

الحكم؛ فإن الضروريات والمحسوسات أصل للنظريات، ولا يلزم تساويهما في الطريق، وإن تساويا في الحكم وأما إذا قال: "أعتقت سالمًا؛ لسواده" فالفرق بينه وبين أحكام الشرع من حيث الإجمال والتفصيل. أما الإجمال: فإنه لو قال، مع هذا: "فقيسوا عليه كل أسود" لم يتعد العتق سالمًا. ولو قال الشارع: "حرمت الخمر لشدّتها، فقيسوا عليه كل مشتد": للزمت التسوية، فكيف يقاس أحدهما على الآخر، مع الاعتراف بالفرق؟ وأما التفصيل: فلأن الله -تعالى- علق الحكم في الأملاك حصولًا وزوالًا على اللفظ، دون الإرادات المجردة. أما أحكام الشرع: فتثبت بكل ما دل عليه رضا الشارع وإرادته، ولذلك تثبت بدليل الخطاب، وبسكوت النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عما جرى بين يديه من الحوادث. ولو أن إنسانًا باع مال غيره بأضعاف قيمته وهو حاضر، ولم ينكر ولم يأذن، بل ظهرت عليه علامات الفرح: لا يصح البيع. بل قد ضيق الشرع أحكام العباد حتى لا تحصل بكل لفظ1.

_ 1 توضيحه: أن هناك فرقًا بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فحقوق الله تعالى قائمة على المسامحة والتيسير، فاكتفى فيها بالظن، توسيعًا لمجاري التكليف، أما حقوق العباد: فقائمة على المشاحة، فشددت الشريعة فيها، فلا تنقل عنهم إلا بطريق قاطع، لما قلناه، أو لأن حقوقهم في الأصل ملك لله تعالى، فتعبدهم في زوالها بالطريق القاطع، وأثبت التكاليف الشرعية بالطرق المظنونة، ولله -سبحانه- أن يفعل في ملكه ما يشاء. انظر: شرح الطوفي "3/ 285".

فلو قال الزوج: "فسخت النكاح، ورفعت علاقة الحل بيني وبين زوجتي" لم يقع الطلاق، إلا أن ينويه. وإذا أتى بلفظ الطلاق: وقع وإن لم ينوه. وإذا لم تحصل الأحكام بجميع الألفاظ فكيف تحصل بمجرد الإرادة1؟ على أن القياس مفهوم في اللغة، فإنه لو قال: "لا تأكل الأهليلج2؛ لأنه مسهل"، و"لا تجالس فلانًا؛ لأنه مبتدع" فهم منه التعدي بتعدي العلة، وهذا مقتضى اللغة، وهو مقتضاه في العتق، لكن التعبد منع منه. وعلى أن هذا الذي ذكروه قياس لكلام الشارع على كلام المكلفين في امتناع قياس ما وجدت العلة التي علل بها فيه عليه، فيكون رجوعًا إلى القياس الذي أنكروه. ثم إن قياس كلام الشارع على كلام غيره أبعد من قياس أحكام الشرع بعضها على بعض. فإن قيل: فلعل الشرع علل الحكم بخاصية المحل، فتكون العلة في تحريم الخمر: شدة الخمر، وفي تحريم الربا بطعم البر، لا بالشدة.

_ 1 في النسخ المطبوعة: "وإذا لم يحصل بجميع اللفظ فكيف يحصل بمجرد الإرادة" وهي عبارة غير واضحة، وأوضح منها عبارة الغزالي في المستصفى "3/ 574". "فإذا لم تحصل الأحكام بجميع الألفاظ، بل ببعضها، فكيف تحصل بما دون اللفظ مما يدل على الرضا". 2 الأهليلج: ثمر معين بالغ النضج، منه الأصفر والأسود، معرب. المصباح المنير مادة "هلج".

المجردة1. [ولا بالطعم المجرد] 2. ولله أسرار في الأعيان: فقد حرم الخنزير والدم والميتة لخواص لا يطلع عليها، فلم يبعد أن يكون لشدة الخمر من الخاصية ما ليس لشدة النبيذ، فبماذا يقع الأمن عن هذا؟ 3. قلنا: قد نعلم ضرورة سقوط اعتبار خاصية المحل كقوله: "أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ المَتاع أَحَقُّ بِمَتاعِهِ" 4 يعلم أن المرأة في معناه. وقوله: "مَنْ أعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي" 5 فالأمة في معناه.

_ 1 "المجردة" من المستصفى "3/ 576". 2 هذه الزيادة يقتضيها المقام، فإن المعترض يقول: لعل العلة خاصة بمحل النص وليست عامة، لخاصية معينة ليست موجودة في كل المحال. 3 قال الغزالي، بعد ذلك: "وهذا أوقع كلام في مدافعة القياس". المستصفى "3/ 577". 4 حديث صحيح: أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة، رضي الله عنه: أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره". ورواه مالك وأبو داود عن أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلًا، ووصله أبو داود من طريق أخرى بلفظ "أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء" سبل السلام "3/ 53". 5 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، وفي كتاب العتق، باب إذا أعتق عبدًا بين اثنين أو أمة بين الشركاء من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما. كما أخرجه مسلم في كتاب العتق، وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

لأنا1 عرفنا بتصفّح أحكام العتق، والبيع، وبمجموع أمارات وتكريرات، وقرائن: أنه لا مدخل للذكورية2 في العتق والبيع. وقد يظن ذلك ظنًّا يسكن إليه3. وقد 4 عرفنا أن الصحابة عولوا على الظن، فعلمنا أنهم فهموا من رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قطعًا، إلحاق الظن بالقطع. وقد اختلف الصحابة في مسائل، فلو كانت قطعية: لما اختلفوا فيها، فعلمنا أن الظن كالعلم. فإن انتفى العلم والظن: فلا يجوز الإقدام على القياس.

_ 1 زيادة من المستصفى. 2 في المستصفى "للأنوثة". 3 عبارة المستصفى: "وقد يعلم ذلك ظنًّا بسكون النفس إليه". 4 زيادة من المستصفى.

فصل: في مذهب النظام في الإلحاق بالعلة المنصوصة

فصل: [في مذهب النظام في الإلحاق بالعلة المنصوصة] قال النظام: العلة المنصوص عليها توجب الإلحاق بطريق اللفظ والعموم، لا بطريق القياس، إذ لا فرق في اللغة بين قوله: "حرّمت الخمر لشدتها" وبين: "حرّمت كل مشتد"1.

_ 1خلاصة رأي النظام: أن العلة المنصوص عليها توجب إلحاق الفرع بالأصل من جهة اللفظ، بمعنى أن الإلحاق مستفاد من عموم اللفظ، لا من جهة القياس، =

وهذا خطأ، إذ لا يتناول قوله: "حرمت الخمر لشدتها" من حيث الوضع إلا تحريمها خاصة. ولو لم يرد التعبد بالقياس: لاقتصرنا عليه، كما لو قال: "أعتقت غانمًا لسواده"1. وكيف يصح هذا ولله تعالى -أن ينصب شدة الخمر- خاصة- علة، ويكون فائدة التعليل: زوال التحريم عند زوال الشدة. ويتجه عليه: ما ذكره نفاة القياس2، والله أعلم.

_ = وعلل ذلك بعدم الفرق بين قول القائل: "حرمت الخمر لشدتها" وبين قوله: "حرمت كل مشتد" فهو من قبيل العموم المعنوي. 1 خلاصة الرد: أننا لا نسلم باستواء الصيغتين، فإن قوله: "حرمت كل مشتد" يفيد العموم لعليته، أما قوله: "حرمت الخمر لشدتها" فلا يفيد إلا تحريم الخمر خاصة، ولولا القياس لما حرم كل مشتد، كما لو قيل: "أعتقت غانمًا لسواده" فيختص العتق بغانم" والنص على العلة لا يوجب العموم اللفظي. انظر: شرح الطوفي "3/ 346". 2 وهي الأدلة التي استندوا إليها سابقًا.

فصل: في أوجه تطرق الخطأ إلى القياس

فصل: [في أوجه تطرق الخطأ إلى القياس] ويتطرق الخطأ إلى القياس من خمسة أوجه: أحدها: أن لا يكون الحكم معللًا1.

_ 1 معناه: أن الحكم يكون غير معلل في الواقع، فيأتي القائس له بعلة من عنده، مثل ما روي من أن علة انتقاض الوضوء بأكل لحم الجزور، لشدة حرارته ودسمه مرخ =

والثاني: أن لا يصيب علته عند الله تعالى1 والثالث: أن يقصر في بعض أوصاف العلة2. الرابع: أن يجمع إلى العلة وصفًا ليس منها3 الخامس: أن يخطئ في وجودها في الفرع، فيظنها موجودة، ولا يكون كذلك.

_ = للجوف، ومخرج للحدث، فيلحق به كل طعام مرخ للجوف، والصحيح المشهور أن ذلك تعبد. انظر: شرح الطوفي "3/ 347". 1 مثل: أن يعتقد أن علة الربا في البر هي: الطعم، فيلحق به الخضروات وسائر المطعومات، بينما هي غير ذلك. 2 عبارة الغزالي في المستصفى "الثالث" أنه إن أصاب في أصل التعليل، وفي عين العلة، فلعله قصر على وصفين أو ثلاثة، وهو معلل به مع قرينة أخرى زائدة على ما قصر اعتباره عليه". 3 مثل أن يعلل الحنبلي القصاص: بأنه قتل عمد عدوان، فيوجب القصاص. فيقول الحنفي: نقصت من أوصاف العلة وصفًا، وهو الآلة الصالحة السارية في البدن، يعني: المحدّد، فلا يصح إلحاق المثقل به، وهذا مثال للنقص من أوصاف العلة، ومثال الزيادة: أن يعلل الحنفي بما تقدم، فيقول الحنبلي: زدت في أوصاف العلة وصفًا ليس منها، وهو: صلاحية الآلة، والعلة: هي القتل العمد العدوان فقط. انظر: شرح الطوفي "3/ 348". وقد ذكر الغزالي وجهًا آخر وهو إثبات العلة بمجرد الوهم والحدس. انظر المستصفى "3/ 590 وما بعدها".

فصل: في أقسام إلحاق المسكوت بالمنطوق

فصل: [في أقسام إلحاق المسكوت بالمنطوق] إلحاق المسكوت بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون:

فالمقطوع ضربان: أحدهما: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، وهو المفهوم1 ولا يكون مقطوعًا حتى يوجد فيه المعنى الذي في المنطوق وزيادة، كقولنا: إذا قبل شهادة اثنين، فثلاثة أولى، فإن الثلاثة: اثنان وزيادة. وإذا نهى عن التضحية بالعوراء2: فالعمياء أولى، فإن العمى: عوَر مرتين. فأما قولهم: "إذا وجبت الكفارة في القتل الخطأ، ففي العمد أولى" و"إذا ردت شهادة الفاسق، فالكافر أولى"3: فهذا يفيد الظن

_ 1 أي: فحوى الخطاب، أو مفهوم الموافقة الأولوي كما سبق، وقد اختلف العلماء في تسميته قياسًا، والراجح أنه لا يسمى قياسًا، لأنه لا يحتاج إلى إعمال فكر واستنباط علة، كما أن المسكوت عنه أولى من المنطوق، فكيف يقاس عليه وهو أولى منه بالحكم. ولعل المسألة راجعة إلى الاصطلاح ولا مشاحة فيه. وقد سبق توضيح ذلك في مبحث المفاهيم. 2 عن البراء بن عازب، رضي الله عنه: قال: قام فينا رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال: "أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ضَلَعُها، والكبيرة التي لا تنقي" أي: التي لا نقي لها وهو: المخ. رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وحسنه الإمام أحمد وقال: ما أحسنه من حديث. انظر: سبل السلام "4/ 93". قال الصنعاني: "والحديث دليل على أن هذه الأربعة العيوب مانعة من صحة التضحية، وسكت عن غيرها من العيوب، فذهب أهل الظاهر إلى أنه لا عيب غير هذه الأربعة. وذهب الجمهور إلى أنه يقاس عليها غيرها مما كان أشد منها أو مساويًا لها، كالعمياء ومقطوعة الساق" المصدر السابق. 3 معنى ذلك: أن قياس القتل العمد على القتل الخطإ في وجوب الكفارة التي وردت في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ... } =

لبعض المجتهدين، وليس من الأول؛ لأن العمد نوع يخالف الخطأ، فيجوز أن لا تقوى الكفارة على رفعه، بخلاف الخطأ. والكافر يحترز من الكذب لدينه، والفاسق متهم في الدين. الضرب الثاني: أن يكون المسكوت مثل المنطوق، كسراية العتق في العبد1، والأمة مثله، وموت الحيوان في السمن2، والزيت مثله. وهذا يرجع إلى العلم بأن الفارق لا أثر له في الحكم، وإنما يعرف ذلك باستقراء أحكام الشرع في موارده ومصادره في ذلك الجنس. وضابط هذا الجنس: أن لا يحتاج فيه إلى التعرض للعلة الجامعة، بل بنفي الفارق المؤثر، ويعلم أنه ليس ثم فارق مؤثر قطعًا.

_ = [النساء:92] وكذلك شهادة الكافر قياسًا على رد شهادة الفاسق، كل ذلك ليس من قبيل النوع الأول، وهو القياس الأولوي؛ لما قاله المصنف من أن القتل العمد فيه قصاص، ولا تقوى الكفارة على رفع إثمه، بخلاف الخطأ، وكذلك هناك فرق بين شهادة الكافر وشهادة الفاسق. 1 وهو ما جاء عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "من أعتق شركًا له في عبد قوّم عليه نصيب شريكه، ثم يعتق". أخرجه البخاري في كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، كما أخرجه في كتاب العتق، وكذلك مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. 2 سئل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن الفأرة تقع في السمن الذائب، فلم تمت؟ قال: لا بأس بأكله، وفي رواية أخرى قال: إذا كان حيًّا فلا شيء، إنما الكلام في الميت. المغني "1/ 72" وما قيل في السمن يقال في الزيت لأنه مثله.

فإن تطرق إليه احتمال: لم يكن مقطوعًا به، بل يكون مظنونًا1 وقد اختلف في تسمية هذا قياسًا2. وما عدا هذا من الأقيسة: فمظنون3. وفي الجملة، فالإلحاق له طريقان: أحدهما: أنه لا فارق إلا كذا، وهذه مقدمة4. ولا مدخل لهذا الفارق في التأثير، وهذه مقدمة أخرى5. فيلزم منه نتيجة، وهو أن لا فرق بينهما في الحكم6. وهذا إنما يحسن إذا ظهر التقارب بين الفرع والأصل، فلا يحتاج إلى التعرض للجامع لكثرة ما فيه من الاجتماع.

_ 1 خلاصة ذلك: أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق تارة يكون قطعيًّا، وتارة يكون ظنيًّا، فإن كان الذهن يتبادر إلى المسكوت عنه دون نظر وتأمل وبحث عن العلة، وأنه لا فارق بين الأصل والفرع، وأنه ليس هناك مؤثر آخر، فهذا هو القطعي، وإن تطرق إليه احتمال مما تقدم كان ظنيًّا، وهذا هو الضابط لهذه المسألة. 2 سبق في باب دلالة المفهوم أن بعضهم يسميه قياسًا جليًّا، وبعضهم يسميه مفهوم موافقة، والبعض يطلق عليه دلالة النص، وقلنا: إن ذلك راجع إلى الاصطلاح، ولا مشاحة فيه. 3 أي: ما عدا ما ذكرناه يعتبر من الأقيسة المظنونة، وهو ما يطلق عليه: القياس الخفي. 4 صغرى. 5 كبرى. 6 مثال ذلك أن يقال: لا فارق بين العبد والأمة في سراية العتق، وتنصيف الحد إلا الذكورية، ولا أثر لذلك، فيجب استواؤهما في الحكم.

الثاني: أن يتعرض للجامع فيبينه، ويبين وجوده في الفرع1. وهذا المتفق على تسميته قياسًا2. وهذا3 يحتاج إلى مقدمتين، أيضًا: أحدهما: أن السكر-مثلًا- علة التحريم في الخمر. والثانية: أنه موجود في النيبذ. فهذه المقدمة الثانية يجوز أن تثبت بالحس، ودليل العقل، والعرف، وأدلة الشرع4.

_ 1 معناه: أن يثبت أن العلة في الأصل كذا، ثم يبين أن هذه العلة موجودة في الفرع، فيجب استواؤهما في الحكم. مثال ذلك أن يقال: العلة في تحريم الخمر: الإسكار، وهي موجودة في النبيذ، فيجب استواؤهما في الحكم. 2 اسم الإشارة عائد على الطريق الثاني، أما الطريق الأول ففيه خلاف، هل يسمى قياسًا أو لا؟ قال الطوفي في شرحه "3/ 353": وذلك لأن القياس اعتبار شيء بغيره، أو الجمع بين شيئين بالقصد الأول، وهو يتحقق في بيان علة الأصل ووجودها في الفرع، أما إلغاء الفارق، فليس ذلك موجودًا فيه بالقصد الأول، إنما الموجود فيه إلغاء الفارق، وأما الجمع بين الأصل والفرع، فإنما يحصل فيه بالقصد الثاني". 3 اسم الإشارة عائد على الطريق الثاني أيضًا. 4 لأن إثبات وجود هذه العلة في الفرع قائم على اجتهاد المجتهدين، فيجوز أن يكون بالحس أو العقل أو العرف أو أدلة الشرع. أما المقدمة الأولى وهي: كون السكر علة التحريم فلا تثبت إلا بالشرع؛ لأن العلل الشرعية ليست مؤثرة في الحكم بذاتها، وإنما هي علامة على وجود الحكم ومشتملة على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، إذ من المعلوم أن أفعال الله -تعالى- معللة بالحكم ورعاية مصالح العباد، فهو -سبحانه- لا يفعل =

وأما الأولى: فلا تثبت إلا بدليل شرعي، فإن كون الشدة علامة التحريم وضع شرعي، كما أن نفس التحريم كذلك، وطريقه طريقه، فالشدة التي جعلت علامة للتحريم يجوز أن يجعلها الشارع علامة للحل، فليس إيجابها لذاتها. [أدلة إثبات العلة] 1 وأدلة الشرع ترجع إلى "نص" أو "إجماع" أو "استنباط" فهذه ثلاثة أقسام: القسم الأول: إثبات العلة بأدلة نقلية2، وهو ضربان3:

_ = شيئًا عبثًا لغير مصلحة وحكمة، بل أفعاله -جل شأنه- صادرة عن حكمة بالغة لأجلها شرع لعباده ما شرع، تفضلًا منه وإحسانًا. انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية "3/ 112، 8/ 70". 1 وهي ما يطلق عليها: "مسالك العلة". 2 أي: من الكتاب والسنة. 3 في أكثر النسخ "ثلاثة أضرب" لكن المصنف -كما سيأتي- ذكر ضربين فقط: الأول: النص الصريح، والثاني: التنبيه والإيماء إلى العلة. ولعل السبب في ذلك: أن الإمام الغزالي، الذي يعتبر كتابه "المستصفى" أصلًا لهذا الكتاب، جعل ذلك ثلاثة أضرب: الصريح، والتنبيه والإيماء على العلة، والتنبيه على الأسباب بترتيب الأحكام عليها بصيغة الجزاء والشرط، وبالفاء التي هي للتعقيب والتسبيب. وجمهور العلماء يجعلونها ثلاثة أضرب أيضًا، هي: النص القاطع، وهو الذي يدل على التعليل دلالة صريحة دون احتمال لغيره، مثل: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا، ولكي، والنص الظاهر: وهو ما يدل على العلية مع احتمال غيرها احتمالًا مرجوحًا، وله ألفاظ معينة تدل على التعليل، كاللام والباء وإنّ، والإيماء. =

الأول- الصريح1: وذلك أن يرد فيه لفظ التعليل كقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} 2 {لِكَيْلا تَأْسَوْا} 3، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4، {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} 5

_ = فالمصنف أخذ عنوان المستصفى في جعلها ثلاثة أضرب، وأدخل الظاهر مع القاطع وجعلهما ضربًا واحدًا، أو يكون ذلك من تصرف النساخ. انظر في هذه المسألة: الإحكام للآمدي "3/ 38"، فواتح الرحموت "2/ 295"، الإبهاج للسبكي "3/ 22"، شرح مختصر الروضة "3/ 356 وما بعدها". 1 تقدم تعريفه آنفًا. 2 سورة الحشر من الآية "7" وهي قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ... } أي: إنما جعل مصرف الفيء في هذه الجهات حتى لا يتداوله الأغنياء جيلًا بعد جيل، أو قومًا بعد قوم، ولا تنتفع به الجهات المحتاجة إليه. 3 سورة الحديد من الآية "23" وقبلها قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: أخبر الله تعالى بأن كل ما يجري في هذا الكون مسطر في اللوح المحفوظ قبل أن يقع، لئلا تحزنوا على ما يفوتكم ولا تفرحوا -فرح بطر وتكبر- بما يأتيكم من نعم. 4 سورة الأنفال من الآية "13" والحشر من الآية "4" والمشاقة: المخالفة، وسميت بالمشاقة؛ لأن المخالف صار في شق آخر. قال في المصباح: "شاقّه، مشاققة، وشقا: خالفه، وحقيقته: أن يأتي كل منهما ما يشق على صاحبه، فيكون كل منهما في شق غير شق صاحبه". ومحل الشاهد هنا: أن الله تعالى قد أخبر في الآية التي قبلها بأن قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} بسبب شقاقهم أو لعلة شقاقهم، كما رتب -سبحانه- العلة في سورة الأنفال على قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ... } ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله. 5 سورة المائدة من الآية "32" وهناك خلاف بين العلماء في متعلق {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} =

{لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} 1، {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} 2. وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم2: "إِنَّما جُعِلَ الاسْتِئْذانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ" 3، و "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ" 4.

_ = فالمشهور أنه متعلق بـ"كتبنا" أي: كتبنا على بني إسرائيل بسبب قتل ابن آدم أخاه، صونًا للدماء. وقيل: متعلق بندامة ابن آدم على قتل أخيه، أو من أجل عدم مواراة أخيه، حتى نبهه الغراب على ذلك والتعليل صحيح على كل تقدير. انظر: شرح الطوفي "3/ 358". 1 سورة البقرة من الآية "143" وقبلها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي: ليمتحن الله -تعالى- عباده بالانقياد في التحول من قبلة إلى قبلة. 2 سورة المائدة من الآية "95" وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي: أوجبنا عليه الفدية عقوبة على فعله ليذوق وبال أمره، أي: ثقل فعله وسوء عاقبة ذنبه، والتعليل هنا ظاهر، أي: لعلة إذاقته وبال أمره. 3 أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الامتشاط، وفي كتاب الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر، ومسلم في كتاب الأدب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، والترمذي في كتاب الاستئذان، باب من اطلع في دار قوم بغير إذنهم وعبد الرزاق في المصنف: كتاب الجامع، باب الرجل يطلع في بيت الرجل. كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "5/ 330/ 335". 4 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود ومالك وأحمد، والرواية التي معنا هي لفظ مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- في كتاب الأضاحي، باب ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، جاء فيها قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويجعلون فيها الودك. "دسم اللحم والشحم" قال: "وما ذاك" قالوا: نَهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفّت فكلوا وادخروا وتصدقوا". والمراد =

وكذلك إن ذُكر المفعول له، فهو صريح في التعليل؛ لأنه يذكر للعلة والعذر، كقوله تعالى: { ... لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} 1، {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} 2. وما جرى هذا المجرى من صيغ التعليل. فإن قام دليل على أنه لم يقصد التعليل نحو: أن يضاف إلى ما لا يصلح علة: فيكون مجازًا، كما لو قيل: "لم فعلت هذا"؟ قال: "لأني أردتُ"، فهذا استعمال اللفظ في غير محله3. فأما لفظة "إنّ" مثل قوله، عليه السلام، لما ألقى الروثة: إِنَّها رِجْسٌ"4، وقال، في الهرة: "إِنَّها لَيْسَتْ بِنَجسٍ، إِنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ

_ = بالدافة: جماعة من المساكين قدموا المدينة، فنهى -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن ادخار لحوم الأضاحي، حتى يتصدق عليهم أهل المدينة، ويوسعوا عليهم انظر: الموطأ "2/ 485". 1 سورة الإسراء من الآية "100" وهي قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} . أي: خشية أن تنتهي هذه الخزائن. 2 سورة البقرة من الآية "19". 3 معناه: أن الأصل في وضع اللغة أن يضاف الفعل إلى علته وسببه، فإن أضيف إلى ما لا يصلح علة فهو مجاز، ويعرف ذلك بوجود دليل على عدم صلاحيته للعلية، كما في المثال الذي أورده المصنف، وإنما لم يكن علة؛ لأن الإرادة ليست علة للفعل، وإن كانت هي الموجبة لوجوده، أو المصححة له، لأن المقصود بالعلة: المقتضى الخارجي للفعل، أما الإرادة فليست معنى خارجًا عن الفاعل: انظر: شرح الطوفي "3/ 359/ 360". 4 رواه البخاري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- في كتاب الوضوء، باب: الاستنجاء بالحجارة لكن بلفظ "ركس" بدل "رجس" ومثله رواية الترمذي: كتاب الطهارة، باب: ما جاء في الاستنجاء بالحجرين، والنسائي: كتاب الطهارة، باب =

عَلَيكُمْ"1 و "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِها وَلَا عَلَى خَالَتِهَا؛ إِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ" 2. فإن انضم إلى "إنّ" حرف الفاء: فهو آكد، نحو قوله، عليه السلام: "لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا" 3. قال أبو الخطاب: هذا صريح في التعليل. وقيل: بل هذا من طريق التنبيه والإيماء إلى العلة، لا من طريق الصريح4. والله أعلم.

_ = الرخصة في الاستطابة بحجرين، ثم قال: "الركس: طعام الجن". وأخرجه بالرواية التي أوردها المصنف ابن ماجه: كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة، والنهي عن الروث والرمة، وأحمد في المسند "1/ 388". وهناك خلاف طويل بين العلماء في كون الرجس هو الركس أو غيره. ينظر: النهاية في غريب الحديث "2/ 100" والمصباح المنير مادة "ركس". 1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه أيضًا. 3 أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب: كيف يكفن المحرم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا ومسلم: كتاب الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات، كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي. 4 خلاصة ما يريده المصنف من أول قوله: "فأما لفظة إنّ" إلى هنا: أن هذه الأمثلة وما يشبهها فيها مذهبان: أحدهما: أنها من قبيل الصريح، وثانيهما: أنها من قبيل الإيماء. فأبو الخطاب يرى أنها صريحة، خصوصًا إذا لحقته الفاء، كما في حديث المحرم، فإنه يزداد بها تأكدًا، لدلالتها على أن ما بعدها سبب للحكم فيما قبلها. ويرى غير أبي الخطاب أنها من قبيل التنبيه والإيماء. وهذا ما جرى عليه الطوفي في شرحه "3/ 360-361" لكن ذلك يخالف ما نص عليه أبو الخطاب في التمهيد؛ حيث جعل "إنَّ" من قبيل الصريح، وما دخلت عليه الفاء من قبيل =

الضرب الثاني، التنبيه والإيماء إلى العلة1: وهو أنواع ستة: أحدها: أن يذكر الحكم عقيب وصف بالفاء، فيدل على التعليل بالوصف

_ = الإيماء. قال: "وأما التنبيه: فضروب، منها: أن يكون في الكلام لفظ غير صريح في التعليل، فيعلق الحكم على علته بلفظ الفاء. وهو على ضربين: أحدهما: أن تدخل الفاء على السبب والعلة، ويكن الحكم متقدم، كقوله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في المحرم حيث وقصته ناقته: "لا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبًا، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيًا" التمهيد "4/ 11". والغزالي في المستصفى "3/ 606-607" جعل "إنّ" المجردة، والتي انضمت إليها الفاء من قبيل الإيماء. وقد جعل الطوفي الخلاف في ذلك خلافًا لفظيًّا فقال: "النزاع في هذا لفظي، لأن أبا الخطاب يعني بكونه صريحًا في التعليل: كونه تبادر منه إلى الذهن بلا توقف في عرف اللغة، وغيره يعني بكونه ليس بصريح: أن حرف "إنّ" ليست للتعليل في اللغة، وهذا أقرب إلى التحقيق، وإنما فهم التعليل منه فهمًا ظاهرًا متبادرًا بقرينة سياق الكلام، وصيانة له عن الإلغاء؛ لأن قوله: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات، إنها ليست بنجس" ونحو ذلك، لو قدّر استقلاله وعدم تعلقه بما قبله، لم يكن له فائدة، فتعين لذلك ارتباطه بما قبله، ولا معنى له إلا ارتباط العلة بمعلولها، والسبب بمسببه. فبهذا الطريق يثْبُت كونه للتعليل لا بوضع اللغة" شرح مختصر الروضة "3/ 361". قال ابن بدران، تعليقًا على كلام الطوفي: "أقول: يعلم كل لغوي أن حرف الجر يحذف من "إنّ" قياسًا مطردًا" والمحذوف كالثابت، ففهم التعليل إنما جاء من اللام المحذوفة لا من "إنّ" فالأقرب إلى التحقيق ما قاله أبو الخطاب". نزهة الخاطر العاطر "2/ 260". 1 قال الطوفي في شرحه "3/ 361": "وهو ضرب من الإشارة، والفرق بينه وبين =

كقوله تعالى: { ... قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} 1، و {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2 وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" 3، و "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيتَةً فهِيَ له" 4. فيدل ذلك على التعليل؛ لأن الفاء في اللغة للتعقيب، فيلزم من ذكر الحكم مع الوصف بالفاء: ثبوته عقيبه، فيلزم منه السببية، إذ لا معنى للسبب إلا ما ثبت الحكم عقيبه.

_ = النص: أن النص يدل على العلة بوصفه لها، والإيماء يدل عليها بطريق الالتزام، كدلالة نقص الرطب على التفاضل، أو بطريق من طرق الاستدلال عقلًا" والخلاصة: أن دلالة الإيماء على العلة دلالة معنوية، ودلالة النص دلالة لفظية. 1 سورة البقرة من الآية "222". 2 سورة المائدة من الآية "38". 3 أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما -مرفوعًا- في كتاب الجهاد، باب: لا يعذب بعذاب الله حديث "3017" وفي كتاب استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة حديث "6922" وأحمد في المسند "1/ 282، 283، 322، 323"، وأبو داود: كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه، حديث "4351" والترمذي: كتاب الحدود، باب: ما جاء في المرتد، حديث "1458" والنسائي: كتاب تحريم الدم، باب: الحكم في المرتد "7/ 104" وابن ماجه: كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه، حديث "2535". 4 أخرجه أبو داود في سننه حديث "3073" والترمذي "1378" والبيهقي "6/ 142" والدارمي: كتاب البيوع، باب: من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وأحمد في مسنده "3/ 338، 381" والنسائي بلفظ: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق". كما أخرجه البخاري تعليقًا في باب: من أحيا أرضًا مواتًا، من كتاب الحرث والمزارعة. وقوى سنده الحافظ في الفتح "5/ 19". ورواه أبو عبيد في الأموال "286" عن =

ولهذا يفهم منه السببية وإن انتفت المناسبة، نحو قوله: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوضَّأْ" 1. ويلحق بهذا القسم2: ما رتبه الراوي بالفاء، كقوله: "سَهَى رَسُولُ الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فَسَجَدَ"3 و"رَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ"4. يفهم منه السببية فلا يحل نقله.

_ = عائشة -رضي الله عنها- بلفظ: "من أحيا أرضًا ليست لأحد، فهو أحق بها". 1 تقدم تخريجه. 2 أي: يلحق بالنوع الأول، وهو: ما ذكر فيه الحكم عقب الوصف بالفاء في كلام الشارع، ما ورد على لسان الراوي مقرونًا بالفاء؛ لأنه من أهل اللغة. 3 روي عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- "صلى بهم فسهى فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم" أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة، باب: سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم حديث "1039"، والترمذي في أبواب الصلاة، باب: ما جاء في التشهد في سجدتي السهو، حديث "395" والحاكم في كتاب السهو، باب: سجدتي السهو بعد السلام "1/ 323" وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" قال الذهبي في الميزان "1/ 267": "أشعث بن عبد الملك ثقة، لكنه ما خرّجا له في الصحيحين". 4 روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح "حلي الفضة" لها، فقتلها بحجر، قال: فجيء به إلى النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وبها رمق، فقال لها: "أقتلك فلان؟ " فأشارات برأسها أن لا. ثم قال لها الثانية، فأشارات برأسها أن لا. ثم سألها الثالثة فقالت: نعم، وأشارت برأسها، فقتله رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- بين حجرين. أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب: إذا قتل بحجر أو عصًا، ومسلم: في كتاب القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره "1672" وأبو داود: كتاب الديات، باب: يقاد من القاتل، وباب القود بغير حديد، والترمذي حديث "1394" والنسائي: كتاب القسامة، باب القود من الرجل للمرأة، وباب القود من غير حديدة. كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "3/ 170، 171".

من غير فهم السببية؛ لكونه تلبيسًا1 في دين الله. والظاهر أن الصحابي يمتنع مما يحرم عليه في دينه، لا سيما إذا علم عموم فساد، فيظهر أنه فهم منه التعليل. والظاهر أنه مصيب في فهمه، إذ هو عالم بمواقع الكلام ومجاري اللغة، فلا يعتقد السببية إلا بما يدل عليها، واللفظ مشعر به. ولا يحتاج إلى فقه الراوي، فإن هذا مما يقتبس من اللغة، دون الفقه2. الثاني: ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء يدل على التعليل به. كقوله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} 3. {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} 4، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} 5. أي: لتقواه. وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيراطَانِ" 6.

_ 1 التلبيس: المبالغة في الخلط. جاء في المصباح المنير مادة "لبس" ولبستُ الأمر لبسًا، من باب ضرب: خلطته. وفي التنزيل: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] والتشديد مبالغة". 2 قال الفتوحي في شرح الكوكب المنير "4/ 127": "ولا فرق في العمل بذلك بين كون الراوي صحابيًّا أو فقيهًا أو غيرهما، لكن إذا كان صحابيًّا فقيهًا كان أقوى" 3 سورة الأحزاب من الآية: "30". 4 سورة الأحزاب من الآية "31". 5 سورة الطلاق من الآية "2". 6 أخرجه البخاري: كتاب الذبائح، باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية، ومسلم: كتاب المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، والترمذي: أبواب الصيد، =

وكذلك ما أشبهه؛ فإن الجزاء يتعقب شرطه ويلازمه. فلا معنى للسبب إلا ما يستعقب الحكم ويوجد بوجوده. النوع الثالث: أن يسأل النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن أمر حادث، فيجيب بحكم، فيدل على أن المذكور في السؤال علة. كما روي أن أعرابيًّا أتى النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال: هلكت وأهلكت. قال: "مَاذَا صَنَعْتَ"؟ قال: واقعت أهلى في رمضان. فقال، عليه السلام: "أعْتِقْ رَقَبَة" 1 فيدل على أن الوقاع سبب؛ لأنه ذكره جوابًا له، والسؤال كالمعاد في الجواب، فكأنه قال: "وَاقَعْتَ أَهْلَكَ فَاعْتِق رَقَبَة". واحتمال أن يكون المذكور منه ليس بجواب: ممتنع، إذ يفضي ذلك إلى خلو محل السؤال عن الجواب، فيتأخر البيان عن وقت الحاجة، وهو ممتنع بالاتفاق. النواع الرابع: أن يُذكر مع الحكم شيء، لو لم يقدر التعليل به: لكان لغوًا غير مفيد. فيجب تقدير الكلام على وجه مفيد، صيانة لكلام النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن اللغو.

_ = باب: ما جاء من أمسك كلبًا ما ينقص من أجره والنسائي: كتاب الصيد، باب الرخصة في إمساك الكلب للماشية، وباب الرخصة في إمساك الكلب للصيد، كما أخرجه الإمام مالك: كتاب الاستئذان، باب: ما جاء في أمر الكلام، والإمام أحمد في المسند "2/ 4، 8، 37، 47، 60، 101، 113، 156". 1 تقدم تخريجه.

وهو قسمان: أحدهما: أن يُستنطق السائل عن الواقعة بأمر ظاهر الوجود، ثم يذكر الحكم عقيبه، كما سئل -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ"؟ قالوا: نعم. قال "فَلَا إِذَنْ" 1. فلو لم يقدر التعليل له: كان الاستكشاف عن نقصان الرطب غير مفيد لظهوره2. الثاني أن يعدل في الجواب على نظير محل السؤال: كما روي أنه لما سألته الخثعمية عن الحج عن الوالدين، فقال، عليه السلام: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يَنْفَعُهَا"؟ قالت: نعم. قال: "فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بِالقَضاءِ" 3. فيفهم منه: التعليل بكونه دينًا تقريرًا لفائدة التعليل.

_ 1 أخرجه أبو داود: كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- مرفوعًا، والترمذي: كتاب البيوع، باب: ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة وقال: "حديث صحيح". كما أخرجه ابن ماجه والنسائي ومالك والحاكم والشافعي والدارقطني. انظر نصب الراية "4/ 40-42" والاستفهام من الرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن يبس الرطب- استفهام تقريري؛ لأنه -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يعلم ذلك. 2 قال الغزالي في المستصفى "3/ 608"، عند الاستدلال بهذا الحديث: ففيه تنبيه على العلة من ثلاثة أوجه. أحدها: أنه لا وجه لذكر هذا الوصف لولا التعليل به. الثاني: قوله: "إذًا" فإنه للتعليل. الثالث: الفاء في قوله "فلا إذًا" فإنه للتعقيب والتسبيب". 3 تقدم تخريج الحديث وبيان أن هذه ليست رواية الخثعمية، وإنما رواية امرأة من جهينة.

النوع الخامس: أن يذكر في سياق الكلام شيء لو لم يعلل به: صار الكلام غير منتظم كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ....} 1 فإنه يعلم منه التعليل للنهي عن البيع بكونه مانعًا من السعي إلى الجمعة؛ إذ لو قدرنا النهي عن البيع مطلقًا من غير رابطة الجمعة يكون خبطًا2 في الكلام. وكذا قوله، عليه السلام: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" تنبيه على التعليل بالغضب، إذ النهي عن القضاء مطلقًا من غير هذه الرابطة لا يكون منتظمًا. النوع السادس: ذكر الحكم مقرونًا بوصف مناسب، فيدل على التعليل به كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ... } 4. و {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} ، أي: لبرهم وفجورهم، فإنه يسبق إلى الأفهام التعليل به، كما لو قال: "أكرم العلماء وأهن الفسّاق" يفهم منه: أن إكرام العلماء لعلمهم، وإهانة الفساق لفسقهم. فكذلك في خطاب الشارع، فإن الغالب منه: اعتبار المناسبة. بل قد نعلم أنه لا يرد الحكم إلا لمصلحة: فمتى ورد الحكم مقرونًا بمناسب: فهمنا التعليل به.

_ 1 سورة الجمعة من الآية "9". 2 هو: السير على غير جادة، أو طريق واضحة. تاج العروس مادة "خبط". 3 تقدم تخريجه. 4 سورة المائدة من الآية "38". 5 سورة الانفطار "13، 14".

ففي هذه المواضع يدل على أن الوصف معتبر في الحكم، لكنه يحتمل: أن يكون اعتباره لكونه علة في نفسه. ويحتمل أن اعتباره لتضمنه للعلة نحو: نهيه عن القضاء مع الغضب، ينبه على أن الغضب علة لا لذاته، بل لما يتضمنه من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر، حتى يلتحق به الجائع والحاقن. ويحتمل: أن ترتيبه فساد الصوم على الوقاع؛ لتضمنه إفساد الصوم، حتى يتعدى إلى الأكل والشرب. والظاهر: الإضافة إلى الأصل، فصرفه عن ذلك إلى ما يتضمنه يحتاج إلى دليل1.

_ 1 خلاصة ذلك: أن الوصف في هذا النوع، أي: في كل موضع رتب الحكم عليه معتبر في تعريف الحكم، أو في تأثيره ووجوده، إلا أن الوصف الذي رتب الحكم عليه يحتمل أن يكون علة لذاته، كإحياء الأرض الموات، فإنه علة بنفسه لملك الأرض. ويحتمل أن الوصف ليس علة لذاته، بل لما تضمنه واشتمل عليه من معنى جعله علة، كالنهي عن القضاء أثناء الغضب، فهل العلة هي: مطلق الغضب، أو ما تضمنه الغضب من تشويش الفكر وعدم استيفاء النظر للحكم الصحيح، ومثل ذلك: وجوب الكفارة بالوقاع في رمضان، هل العلة هي الوقاع بذاته، أو ما تضمنه الوقاع من إفساد الصوم الذي يكون بالوقاع كما يكون بالأكل والشرب. فمن قال: إن العلة هي ذات الغضب لم يلحق به غيره، ومن قال: إن العلة هي: ما تضمنه الغضب ألحق به ما يشبهه كالجوع المفرط، وكالحاقن وأمثال ذلك. كذلك في كفارة الوقاع، من قال: إن الوقاع هو العلة، لم يلحق به غيره من المفطرات، ومن قال: إن العلة ما تضمنه الوقاع من إفساد الصوم، ألحق به الأكل والشرب. وقد رجح المصنف أن كلًّا من الغضب والوقاع علة بنفسه، وأن إضافة غيره إليه تحتاج إلى دليل، غير أنه رجح في كتب الفقه أن الغضب ليس علة =

.......................................................................

_ = بذاته، وإنما يقاس عليه كل ما يشوش الفكر، أما الوقاع فاعتبره علة بذاته لا يقاس عليه غيره. قال في المغني "14/ 19-20": ".... ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه إلى مجلسه على أكمل حال وأعدلها، خليًا من الغضب، والجوع الشديد، والعطش، والفرح الشديد، والحزن الكثير، والهم العظيم، والوجع المؤلم، ومدافعة الأخبثين أو أحدهما، والنعاس الذي يغمر القلب؛ ليكون أجمع لقلبه، وأحضر لذهنه، وأبلغ في تيقظه للصواب، وفطنته لموضع الرأي، ولذلك قال النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فنص على الغضب، ونبه على ما في معناه من سائر ما ذكرناه". وقال في الكافي: "1/ 352": "باب ما يفسد الصوم وما يوجب الكفارة: يحرم على الصائم الأكل والشرب للآية والخبر، فإن أكل أو شرب مختارًا ذاكرًا لصومه أبطله ... " ثم قال: "ومن جامع في الفرج، فأنزل أو لم ينزل فعليه القضاء والكفارة، لما روى أبو هريرة أن رجلًا جاء فقال: يا رسول الله، وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال: "هل تجد تعتق رقبة"؟ قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟ قال: لا قال: فسكت النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فبينا نحن على ذلك أتى رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- بفرَق تمر "الفرَق: بفتح الراء -مكيال يسع ستة عشر رطلًا". فقال: "أين السائل؟ خذ هذا فتصدق به" فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! فو الله ما بين لا بتيها -يريد الحرّتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- حتى بدت أنيابه فقال: "أطعمه أهلك" متفق عليه. وبذلك يكون المصنف قد فرق بين مسألتي: الغضب والوقاع في نهار رمضان، فقاس على الأول ولم يقس على الثاني. قال في المغني في كتاب الصيام: "نقل عن الإمام مالك: تجب الكفارة بكل ما كان هتكًا للصوم، إلا الردة؛ لأنه إفطار في رمضان، أشبه الجماع. وحكي عن عطاء والحسن والزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق، أن الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجبه الجماع، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه اعتبر ما يتغذى به أو يتداوى به". =

القسم الثاني. ثبوت العلة بالإجماع: كالإجماع على تأثير "الصغر" في الولاية1. وكالإجماع على أن علة منع القاضي من القضاء وهو غضبان اشتغال قلبه عن الفكر والنظر في الدليل والحكم، وتغير طبعه عن السكون والتلبث للاجتهاد. وكتأثير تلف المال تحت اليد العادية2 في الضمان؛ فإنه يؤثر في الغصب إجماعًا، فقيس السارق -وإن قُطع- على الغاضب، لاتفاقهما في العلة المؤثرة في محل الوفاق إجماعًا. فلا تصح المطالبة بتأثير العلة في الأصل، للاتفاق عليها.

_ = ثم قال: "ولنا: أنه أفطر بغير جماع فلم توجب الكفارة، كبلع الحصاة أو التراب، أو كالردة عند مالك. ولأنه لا نص في إيجاب الكفارة بهذا، ولا إجماع، ولا يصح قياسة على الجماع؛ لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمس، والحكم في التعدي به آكد، ولهذا يجب به الحد إذا كان محرمًا، ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته، ووجوب البدنة، ولأنه -في الغالب- يفسد صوم اثنين "أي الرجل والمرأة" بخلاف غيره" ولعل هذه الأسباب هي التي جعلت المصنف يفرق بين المسألتين. 1 أي: ولاية الإجبار على البكر الصغيرة، وعلى الصغير في المال أو النكاح، فيقول الحنفي في الثيب الصغيرة: صغيرة، فتجبر على النكاح، قياسًا على البكر الصغيرة، والابن الصغير، ويدعى أن العلة في الأصل: الصغر بالإجماع، وقد تحققت في الفرع. 2 أي: المعتدية. وتوضيحه: أن تلف المال تحت اليد العادية علة للضمان على الغاصب إجماعًا، فيلحق به تلف العين في يد السارق، وإن قطع بها؛ لأن يده عادية، فضمن ما تلف فيها كالغاصب، لاشتراكهما في الوصف الجامع وهو التلف تحت اليد العادية. انظر: شرح الطوفي "3/ 376-377".

وإن طولب بتأثيرها في الفرع، فجوابه أن يقال: القياس لتعدية حكم العلة من موضع إلى موضع. وما من تعدية إلا ويتوجه عليها هذا السؤال، فلا يفتح هذا الباب، بل يكلف المعترض الفرق، أو التنبيه على مثار خيار الفرق1. وكذلك لو قال: الأخوّة من الأبوين أثرت في التقديم في الميراث إجماعًا، فلتؤثر في التقديم في النكاح. أو قال: الصغر أثر في ثبوت الولاية على البكر: فكذلك على الثيب.

_ 1 معنى هذا: أنه إذا قاس المستدل على علة مجمع عليها، فليس من حق المعترض أن يطالب بتأثير تلك العلة في الأصل؛ لأن ذلك ثابت بالإجماع، ولا بتأثيرها في الفرع؛ لأنها مطّردة في كل قياس، إذ القياس عبارة عن تعدية حكم الأصل إلى الفرع بالجامع المشترك بينهما، وما من قياس إلا ويتجه عليه سؤال المطالبة بتأثير الوصف في الفرع، فيقال: مثلًا: ما الدليل على أن الصغر مؤثر في إجبار الثيب الصغيرة؟ قال المصنف: "فلا يفتح هذا الباب، بل يكلف المعترض الفرق، أو التنبيه على مثار خيال الفرق" أي: يقال له: قد بينت أن العلة مؤثرة في الأصل بالاتفاق، وبينت وجودها في الفرع، فتم القياس، فإن كان عندك ما تبين به عدم تأثيرها فهاته. فإن أمكن للمعترض أن يثبت ذلك ببيان أن هناك فرقًا بين الأصل والفرع وجب على المستدل أن يجيب عنه. هذا معنى كلام المصنف، لكن الغزالي زاد المسألة توضيحًا فقال: "وهذا السؤال إما أن يوجهه المجتهد على نفسه، أو يوجهه المناظر في المناظرة: أما المجتهد فيدفعه بوجهين: أحدهما: أن يعرف مناسبة المؤثر، كالصغر، فإنه يسلط الولي على التزويج للعجز، فيقول: الثيب كالبكر في هذه المناسبة. الثاني: أن يتبين أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا كذا وكذا، ولا مدخل له في =

القسم الثالث: ثبوت العلة بالاستنباط. وهو ثلاثة أنواع: أحدها: إثبات العلة بالمناسبة. وهو: أن يكون الوصف المقرون بالحكم مناسبًا1.

_ = التأثير، كما ذكرناه في إلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ونظائره. فيكون هذا القياس-تمامه- بالتعرض للجامع ونفي الفارق جميعًا. وإن ظهرت المناسبة استغني عن التعرض للفارق. وإن كان السؤال من مناظر، فيكفي أن يقال: "القياس لتعدية حكم العلة من موضع إلى موضع، وما من تعدية إلا ويتوجه عليها هذا السؤال، فلا ينبغي أن يفتح هذا الباب". بل يكلف المعترض الفرق، أو التنبيه على مثار خيال الفرق، بأن يقول، مثلًا: "أخوّة الأم أثرت في الميراث في الترجيح؛ لأن مجردها يؤثر في التوريث، فلم قلت: "إذا استعمل في الترجيح ما يستقل بالتأثير، فيستعمل حيث لا يستقل". فتقبل المطالبة على هذه الصيغة، وهي أولى من إبدائه في معرض الفرق ابتداء. أما إذا لم ينبه على مثار خيال الفرق، وأصر على صرف المطالبة، فلا ينبغي أن يصطلح المناظرون على قبوله؛ لأنه يفتح بابًا من اللجاج لا ينسد. ولا يجوز إرهاقه إلى طلب المناسبة؛ فإن ما ظهر تأثيره بإضافة الحكم إليه فهو علة، ناسب أو لم يناسب". المستصفى "3/ 615-616". ومعنى "خيال الفرق" أي: الفرق الذي يتخيله المناظر، وفي بعض النسخ "حبال" بالحاء ومعناه: الوسائل التي يلجأ إليها المناظر. 1 وتسمى بالإخالة، أي: الظن؛ لأن الحكم بمناسبة الحكم يظن أن الوصف علة لهذا الحكم، كما تسمى المصلحة، والاستدلال، ورعاية المقاصد، وتخريج المناط. والمناسبة في اللغة: الملائمة، يقال: الثوب الأبيض مناسب لصلاة الجمعة، أي: ملائم له.

ومعناه: أن يكون في إثبات الحكم عقيبه مصلحة. ولا يعتبر أن يكون منشأ للحكمة، كالسفر مع المشقة، بل متى كان في إثبات الحكم عقيب الوصف مصلحة فيكون مناسبًا، كالحاجة مع

_ = أما عند الأصوليين: فلها تعريفات كثيرة، منها: ما ذكره المصنف. أما الآمدي: فقد عرف المناسب، ومنه يعرف تعريف المناسبة: فقال: "المناسب: عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم عليه حصول ما يصلح أن يكون مقصودًا للشارع، من تحصيل مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها، دنيا وأخرى، على وجه ما يمكن إثباته بما لو أصر الخصم على منعه بعده، يكون معاندًا" انظر: الإحكام "3/ 388". وترتب على ذلك أن يكون المناسب ثلاثة أقسام: ضروري، وحاجي، وتكميلي. فالضروري: ما تقوم عليه حياة الناس الدينية والدنيوية، وإذًا فقد اختل نظام الحياة، وفسدت أحوال الناس، وينحصر في خمسة أشياء: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. والحاجي: هو ما يترتب عليه التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم، مثل: مشروعية البيع والقراض والسلم والرهن وسائر المعاملات التي تجري بين الناس. والتكميلي: هو ما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق ومحاسن العادات، مثل: مشروعية الطهارة، وستر العورة، وأخذ الزينة وآداب الأكل والشرب ونحو ذلك. ومن المعلوم أن الضروري آكدها، ويليه الحاجي، ثم التكميلي، أو التحسيني، كما يسميه بعض العلماء. ويترتب على ذلك أنه إذا اجتمعت كلها في وصف واحد قدم الأهم، مثال ذلك: أن نفقة النفس ضرورية، ونفقة الزوجة حاجية، ونفقة الأقارب تتمة وتكملة، ولهذا قدم بعضها على بعض، على الترتيب المتقدم، وتأكدت نفقة الزوجة على نفقة القريب، فتسقط بمضي الزمن دون نفقة الزوجة. انظر: الموافقات "2/ 6"، شرح مختصر الروضة "3/ 385".

البيع، والشكر مع النعمة، فيدل ذلك على التعليل به، إذ قد علمنا أن الشارع لا يثبت حكمًا إلا لمصلحة. فإذا رأينا الحكم مفضيًا إلى مصلحة في محل، غلب على ظننا أنه قصد بإثبات الحكم تحصيل تلك المصلحة، فيعلل بالوصف المشتمل عليها1.

_ 1 معنى قول المصنف: "ولا يعتبر. أي الوصف، منشأ للحكمة" إلخ. يقتضي تعريف "المنشأ والحكمة". فالإنشاء: محل النشيء وهو الظهور، يقال: نشأ ينشأ نشأ ونشوءًا: إذا بدا وظهر، ومنشأ الشيء: مظهره ومبدأه، وهو الموضع الذي يظهره. أما الحكمة: فهي الغاية المطلوبة من تشريع الحكم، كحفظ الأنفس والأموال بتشريع القصاص وقطع اليد. ومعنى ذلك: أن كون الوصف المناسب منشأ للحكمة المطلوبة من الحكم ليس شرطًا، بل المعتبر: ثبوت المصلحة عقيبه، وهو أعم من أن يكون منشأ لها أو لا. وهو رأي جمهور العلماء. وهذا يصدق على ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكون الوصف منشأ للحكمة المطلوبة من الحكم، كقولنا: السفر منشأ المشقة المبيحة للترخص، والزنا منشأ المفسدة، وهي: تضييع الأنساب وإلحاق العار، وانتهاك الحرمات، فهذه الأوصاف ينشأ عنها الحكمة التي ثبتت هذه الأوصاف لأجلها. الصورة الثانية: أن يكون الوصف معرفًا للحكمة ودليلًا عليها، كقولنا: النكاح أو البيع الصادر ممن هو أهل لذلك يناسب الصحة، أي: يدل على الحاجة التي اقتضت جعل البيع سببًا لتحصيل الانتفاع بواسطة الصحة، كما أن النكاح سبب للاستمتاع بالزوجة. الصورة الثالثة: أن يظهر عند الوصف، ولم ينشأ عنه، ولم يدل عليه، كشكر النعمة المناسب للزيادة منها، فالشكر هو الوصف المناسب، وزيادة النعمة هي الحكمة، ووجوب الشكر هو الحُكم. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 386-387".

فصل: تقسيم المناسب من حيث تأثيره في الحكم أو عدم تأثيره

فصل: تقسيم المناسب من حيث تأثيره في الحكم أو عدم تأثيره ... [تقسيم المناسب من حيث تأثيره في الحكم أو عدم تأثيره] إذا ثبت هذا: فالمناسب ثلاثة أنواع: مؤثر، وملائم، وغريب. فالمؤثر: ما ظهر تأثيره في الحكم بنص أو إجماع1. وهو شيئان: أحدهما: ما يظهر تأثير عينه في عين الحكم، كقياس الأمة على الحرة في سقوط الصلاة بالحيض، لما فيه من مشقة التكرار، إذ قد يظهر تأثير عينه في عين الحكم بالإجماع، لكن في محل مخصوص، فعدّيناه إلى محل آخر2. وهذا لا خلاف في اعتباره عند القائلين بالقياس. ومن خاصيته: أنه لا يحتاج إلى نفي ما عداه في الأصل. ولو ظهر في الأصل مؤثر آخر: لم يضر، بل يعلل بهما، فإن

_ 1 ومعنى ذلك: أننا إذا وجدنا حكمًا ترتب على وصف مناسب ثبتت مناسبته بنص أو إجماع، ألحقنا به إثبات عين ذلك الحكم أو جنسه بدليل الوصف المناسب في صورة أخرى، كالأمثلة الآتي ذكرها. 2 هذا المثال إنما يصح لو أن سقوط الصلاة على الحائض خاصة بالحرة، لكن الدليل الدال على سقوط الصلاة جاء عامًّا، فيشمل الحرة والأمة، وهو: ما روي أن عَمرَة قالت لعائشة -رضي الله عنها- ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ أخرجه البخاري حديث "321" ومسلم "335" وغيرهما. وأولى من ذلك: التمثيل بإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق، وإلحاق ولاية النكاح بولاية المال، بجامع الصغر، فالصغر وصف أثر عينه في عين الحكم، وهو الولاية على الصغير، ولم يختلف إلا محل الولاية وهو المال والنكاح. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 390-391".

"الحيض" و"العدة" و"الردة" قد تجتمع في امرأة، ويعلل تحريم الوطء بالجميع1. وهو قسمان: أحدهما: أن يظهر أثر عينه في عين ذلك الحكم، فهو الذي يقال: إنه في معنى الأصل. وربما يقرّ به منكرو القياس؛ إذ لا يبقى بين الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل، كقولنا: "إذا ثبت أن الكيل علة في تحريم الربا في البر، فالزبيب ملحق به". ويكون هذا كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الأعرابي، فالتركي والهندي في معناه2. الرتبة الثانية: أن يظهر أثر عينه في جنس ذلك الحكم: كظهور أثر الأخوة من الأبوين في التقديم في الميراث، فيقاس عليه ولاية النكاح، فإن الولاية في النكاح ليست هي عين الميراث، لكن بينهما مجانسة3.

_ 1 فلو أردنا أن نقيس الأمة على الحرة في ذلك بأحد هذه الأوصاف صح، كما يصح أن نعلل تحريم وطئها بالأوصاف الثلاثة مجتمعة. 2 أي: أن هذا شبيه بما تقدم في "تنقيح المناط" حيث أثر الدفاع في نهار رمضان في عين الحكم، وهو وجوب الكفارة على الأعرابي الذي قال لرسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "واقعت أهلي في نهار رمضان"، وأوجب عليه رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- الكفارة، فيقاس عليه الأعجمي والتركي؛ لأن العلة عامة، تشمل الأعرابي وغيره، وهي: "الوقاع في نهار رمضان من شخص مكلف" فالفرع هنا في معنى الأصل. 3 هذا هو القسم الثاني من أقسام المؤثر، وهو: ما أثر عينه في جنس الحكم كقولنا: الأخ للأبوين مقدم في ولاية النكاح، قياسًا على تقديمه في الإرث، =

النوع الثاني: الملائم1: وهو: ما ظهر تأثير جنسه في عين الحكم. كظهور أثر المشقة في إسقاط الصلاة عن الحائض، فإنه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصلاة، كتأثير مشقة السفر في إسقاط الركعتين الساقطتين بالقصر2.

_ = فالوصف الذي هو الأخوة في الأصل والفرع متحد بالنوع، والحكم الذي هو الولاية والإرث متحدان بالجنس لا بالنوع، فهذا وصف أثر عينه في جنس الحكم، وهو جنس التقديم. انظر: شرح المختصر "3/ 392". والملاحظ هنا: أن المؤلف كرر تقسيم المؤثر، فبعد أن عرفه قال: "وهو شيئان: أحدهما ما يظهر تأثير عينه في عين الحكم ... وذكر أمثلته ... " ثم قال: وهو قسمان: أحدهما: أن يظهر أثر عينه في عين ذلك الحكم" وهو السابق بعينه فليتنبه لذلك. 1 معنى "الملائم" الموافق، سمي بذلك لموافقته تصرف الشارع في تأثير جنس الأسباب في أعيان الأحكام، وهو تخصيص اصطلح عليه العلماء للتفرقة بين الأنواع الثلاثة، وإلا فجميعها ملائمة وموافقة لجنس مراعاة الشرع للمصالح المناسبة. انظر: شرح المختصر "3/ 393". 2 توضيح ذلك: أن جنس المشقة أثر في عين السقوط، إذ مشقة تكرار الصلاة في حق الحائض مخالفة لمشقة إتمامها في حق المسافر، إن لم يكن بالحقيقة والماهية فبالكمية والكيفية، أما ماهية السقوط في حقهما فواحدة. وقد اعترض على هذا التمثيل: بأنه من القسم الأول، وهو: ما أثر عينه في عين الحكم؛ لأن نوع المشقة في التأثير واحد، وكذا نوع الحكم، وإن اختلفا من جهة سببهما؛ إذ هي مشقة تكرار، وهذا مشقة إتمام، وهذا سقوط أصل الصلاة، وذاك سقوط ركعتين منها. فالأولى أن يقال: كإسقاط الصلاة عن الحائض للمشقة فإن جنس المشقة أثر في عين هذا السقوط من غير تعرض لمسافر ولا غيره. انظر: المرجع السابق.

النوع الثالث، الغريب: وهو: ما ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم. كتأثير جنس المصالح في جنس الأحكام1.

_ 1 معناه: إلحاق بعض الأحكام ببعض بجامع المناسبة المصلحية المطلقة، كإلحاق شارب الخمر بالقاذف، في جلده ثمانين، كما قال علي، رضي الله عنه: "أراه إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري" فمظنة جنس الافتراء أثر في جنس الحد، وسمي هذا النوع غريبًا، لقلة التفات الشرع إليه في تصرفاته، فأصبح لقلة وقوعه كالغريب. وقال البرماوي: "وسمي غريبًا؛ لأنه لم يشهد له غير أصله بالاعتبار، كالطعم في الربا، فإن نوع الطعم مؤثر في حرمة الربا، وليس جنسه مؤثرًا في جنسه". شرح الكوكب المنير "4/ 177" قال الفتوحي: "وهذا التشبيه إنما يجري على قواعد من يقول: إن علة الربا الطعم".

فصل: مراتب الجنسية

فصل: [مراتب الجنسية] ثم الجنسية مراتب، بعضها أعم من بعض: فإن أعم الأوصاف كونه حكمًا. ثم ينقسم إلى: إيجاب، وندب، وتحريم، وإباحة، وكراهية. ثم الواجب ينقسم إلى: عبادة، وغير عبادة. والعبادة تنقسم إلى: صلاة وغيرها. فما ظهر تأثيره في الصلاة الواجبة أخص مما ظهر في العبادة، وما ظهر في العبادة أخص مما ظهر في الواجب، وما ظهر في الواجب أخص مما ظهر في الأحكام. وفي المعاني أعم أوصافه: أنه وصف يناط الحكم بجنسه حتى يدخل فيه الاشتباه.

وأخص منه: كونه مصلحة، وأخص منه: كونه مصلحة خاصة، كالردع، أو سد الحاجة. فلأجل تفاوت درجات الجنسية -في القرب والبعد- تتفاوت درجات الظن، والأعلى مقدمًا على ما دونه1.

_ 1 وضح الطوفي ذلك في شرحه "3/ 395 وما بعدها" فقال: "لما تقرر أن الوصف مؤثر في الحكم، والحكم ثابت بالوصف، ومسمى الوصف والحكم جنس تختلف أنواع مدلوله بالعموم والخصوص، كاختلاف أنواع مدلول الجسم والحيوان وغيرهما من الأجناس -كما تقرر أول الكتاب- ولهذا اختلف تأثير الوصف في الحكم تارة بالجنس، وتارة بالنوع، احتجنا إلى بيان مراتب جنس الوصف والحكم، ومعرفة الأخص منها من الأعم، ليتحقق لنا معرفة أنواع تأثير الأوصاف في الأحكام. فأعم مراتب الوصف: كونه وصفًا؛ لأنه أعم من أن يكون مناطًا للحكم، أو لا يكون، إذ بتقدير أن يكون طرديًّا غير مناسب لا يصلح أن يناط به حكم، فكل مناط وصف، وليس كل وصف مناطًا. ثم كونه مناطًا أعم من أن يكون مصلحة أو لا، فكل مصلحة مناط للحكم، وليس كل مناط مصلحة، لجواز أن يناط الحكم بوصف تعبّدي، لا يظهر وجه المصلحة فيه، وكلامنا في المصلحة في ظاهر الأمر، أما في نفس الأمر، فلا يخلو تصرف الشرع عن مصلحة. ثم كون الوصف مصلحة؛ لأنها قد تكون مصلحة عامة، بمعنى أنها متضمنة لمطلق النفع، وقد تكون خاصة، بمعنى كونها من باب الضرورات، والحاجات، أو التكميلات والتتمات. كما سبق تقريره في الاستصلاح. وأما الحكم: فأعم مراتبه: كونه حكمًا؛ لأنه أعم من أن يكون وجوبًا، أو تحريمًا، أو صحة، أو فسادًا. ثم كونه واجبًا ونحوه، أي: من الأحكام الخمسة، وهي الواجب، والحرام، والمكروه، والمندوب، والمباح، وما يلحق بذلك من الأحكام الوضعية -كما سبق- إذا الواجب أعم من أن يكون عبادة اصطلاحية أو غيرها. ثم كونه عبادة؛ لأنها أعم من الصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات. =

[تعريف آخر للملائم والغريب] وقيل: بل الملائم: ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم، كتأثير المشقة في التخفيف1. والغريب: الذي لم يظهر تأثيره، ولا ملائمته لجنس تصرفات الشرع2، كقولنا: الخمر إنما حرم لكونه مسكرًا، وفي معناه: كل مسكر، ولم يظهر أثر السكر في موضع آخر، لكنه مناسب اقترن الحكم به. وقولنا: المبتوتة في مرض الموت ترث؛ لأن الزوج قصد الفرار من الميراث، فعورض بنقيض قصده، قياسًا على القاتل3 -لما استعجل

_ = ثم كونه صلاة، إذ كل صلاة عبادة، وليس كل عبادة صلاة. ثم كونها ظهرًا؛ لأن الصلاة أعم من الظهر، إذ كل ظهر صلاة، وليس كل صلاة ظهرًا. ثم قال: لما عرف بما ذكرناه الأخص والأعم من الأوصاف والأحكام، فليعلم أن تأثير بعضها في بعض يتفاوت في القوة والضعف، فتأثير الأخص في الأخص أقوى أنواع التأثير، كمشقة التكرار في سقوط الصلاة، والصغر في ولاية النكاح، وتأثير الأعم في الأعم يقابل ذلك، فهو أضعف أنواع التأثير، وتأثير الأخص في الأعم وعكسه، وهو تأثير الأعم في الأخص واسطتان بين ذينك الطرفين، إذ في كل واحد منهما قوة من جهة الأخصية، وضعف من جهة الأعمية، بخلاف الطرفين، إذ الأول تمحضت فيه الأخصية، فتمحضت له القوة، والثاني تمحضت فيه الأعمية، فتمحض له الضعف". 1 هذا تعريف آخر لكل من الملائم والغريب، حيث عرف الملائم بما عرف به الغريب سابقًا. انظر: شرح الكوكب المنير "4/ 175" وشرح مختصر الروضة "3/ 398". 2 وهو اختيار الغزالي في المستصفى "3/ 622" وشفاء الغليل ص148، وانظر: شرح الكوكب المنير "4/ 177". 3 حرمان القاتل من الميراث وردت فيه أحاديث كثيرة، منها: ما أخرجه مالك في =

الميراث- عورض بنقيض قصده، فإنا لم نر الشارع التفت إلى مثل هذا في موضع آخر، فتبقى مناسبة مجردة غريبة. وقد قصر قوم القياس على المؤثر1؛ لأن الجزم بإثبات الشارع الحكم رعاية لهذا المناسب تحكّم، إذ يحتمل أن يكون الحكم ثبت تعبدًا، كتحريم الميتة، والخنزير، والدم والحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، مع إباحة الضب والضبع.

_ = الموطأ -كتاب العقول- باب: ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "لا يرث القاتل" كما أخرجه أبو داود، كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، كذلك أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أما المبتوتة: وهي التي طلقها زوجها طلاقًا بائنًا في مرض الموت، فإنها ترث زوجها أثناء العدة ولا يرثها، وبه قال جمهور الصحابة وأكثر فقهاء المذاهب المتبوعة، والمشهور عن الإمام أحمد أنها ترثه في العدة وبعدها ما لم تتزوج. وقد صح عن عثمان -رضي الله عنه- أنه ورّث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، وكان طلقها في مرضه فبتها. واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر فكان إجماعًا. انظر: السنن الكبرى للبيهقي "7/ 362" والمغني "9/ 194". 1 توضيح ذلك: أن بعض الأصوليين يرون أن القياس لا يصح إلا بالوصف المؤثر، دون الملائم والغريب، وحجتهم على ذلك: أنا لو أجزنا القياس بجامع غير مؤثر، للزم التحكم والترجيح بلا مرجح، وهذا لايجوز. بيان ذلك: أنا لو قسنا النبيذ على الخمر-مثلًا- بعلة الإسكار، على تقدير عدم ورود النص على النبيذ، لاحتمل أن يكون تحريم الخمر تعبدًا غير معلل بعلة، كتحريم الخنزير والميتة والدم إلخ، واحتمل أن يكون تحريمها لوصف آخر لم يظهر لنا، واحتمل أن يكون للإسكار، وما دام التحريم محتملًا لهذه الأمور كان تعيين بعضها لإضافة التحريم إليه تحكمًا، بخلاف الوصف المؤثر، فإن تأثيره ثابت بالنص أو الإجماع، فلا تردد فيه.

ويحتمل أن يكون لمعنى آخر مناسب، لم يظهر لنا. "ويحتمل أن يكون حكم الشرع بتحريم الخمر تعبدًا وتحكمًا"1 ويحتمل أن يكون للإسكار. فهذه ثلاث احتمالات. فالتعيين تحكم بغير دليل، ووهم مجرد مستنده: أنه لم يظهر إلا هذا. وهذا غلط، فإن عدم العلم ليس علمًا بعدم سبب آخر. وبمثل هذا القول بطل القول بالمفهوم. وهذا لا ينقلب في المؤثر؛ فإنه عرف كونه علة بإضافة الحكم إليه نصًّا، أو إجماعًا2. قلنا: لا يصح ما ذكروه لوجهين: أحدهما: أنا قد علمنا من أقيسة الصحابة -رضي الله عنهم- في

_ = وأجيب عن ذلك بوجهين: أحدهما: أن اقتران الحكم بالوصف الملائم أو الغريب يفيد الظن بأنه سببه ومقتضيه، والظن واجب الاتباع في الفروع العملية. ثانيهما: أن الصحابة -رضي الله عنهم- قد ربطوا الأحكام بالأوصاف المناسبة، ولم يشترطوا كون العلة منصوصة أو مجمعًا عليها، ولو كان ذلك مشروطًا لما تركوا النص عليه، وإلا للزم على ذلك القدح في عصمة الأمة، حيث كانوا هم كل الأمة حينئذ، فلو تركوا ما هو مشترط في الاجتهاد؛ لأجمعوا على الخطأ، ولزم وقوع الخبر النبوي مخالفًا لمخبره، وهو قدح في العصمة. انظر: شرح الطوفي "3/ 402-403". 1 ما بين القوسين من المستصفى حتى يصح الكلام؛ لأن المصنف حذف التمثيل بالخمر، فأصبح قوله: "ويحتمل أن يكون للإسكار" لا عائد له. 2 هذا خلاصة ما استند إليه القائلون بقصر القياس على المؤثر، وقد سبق توضيحه.

اجتهاداتهم أنهم لم يشترطوا في كل قياس كون العلة معلومة بنص أو إجماع. والثاني: أن المطلوب غلبة الظن، وقد حصل، فإن إثبات الشرع الحكم على وفقه يشهد لملاحظة الشرع له1. وهذا الاحتمال راجح على احتمال التحكم بما رددنا به مذهب منكري القياس، كما في المؤثر، فإن العلة إذا أضيف إليها الحكم في محل: احتمل اختصاصها به. وبه اعتصم نفاة القياس2. لكن قيل لهم: عُلم من الصحابة اتباع العلل، واطّراح التعبد3، مهما أمكن، فكذا ههنا، ولا فرق. وقولهم: "يحتمل أن ثم مناسبًا آخر، فهو وهم محض". [فنقول] 4: غلبة الظن في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم،

_ 1 سبق توضيح هذين الدليلين. 2 أي: استدل نفاة القياس بهذا الاحتمال، وقد استدرك عليه المصنف بقوله: "لكن قيل لهم ... ". 3 عبارة الغزالي: "واطراح تنزيل الشرع على التحكم ما أمكن، فكذلك ههنا، ولا فرق". 4 ما بين القوسين من المستصفى، وعبارة المصنف: وغلبة الظن إلخ، وهي توهم أن هذا من كلام المخالفين، فكان لا بد من هذه الإضافة. وقد رد المصنف عليهم بأربعة أوجه. الأول: أن هذا الاحتمال لا يؤثر في الوصف المناسب، ولو ظهر وصف آخر أقوى مما ظهر لنا قبلناه، وإن لم يكن أقوى رددناه. الوجه الثاني: أنه لو رد كل ما غلب على الظن بمجرد احتمال وصف آخر لم يستقم أي قياس، لهذا الاحتمال =

ويعتمد انتفاء الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطل الظن. ولو فتح هذا الباب لم يستقم قياس، فإن المؤثر إنما يغلب على الظن، لعدم ظهور الفرق، ولعدم ظهور معارض. وصيغ العموم والظواهر إنما تغلب على الظن بشرط: انتفاء قرينة مخصصة، لو ظهرت لزال الظن، وإذا لم تظهر جاز التعويل عليه.

_ = الوجه الثالث: أنه يحصل الظن من صيغ العموم والظواهر بشرط انتفاء القرينة المخصصة، فكذلك ما ههنا. الوجه الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم، حين أجمعوا على جواز الاجتهاد لم يظهر لنا من ذلك إلا اتباع الرأي الأغلب، بدليل اختلافهم في بعض القضايا، ولم يحصروا أجناس غلبة الظن، ولم يميزوا جنسًا عن جنس، وهذا يشمل المؤثر والملائم والغريب. ثم رد المصنف على قولهم: "هذا وهم" بأن هذا لا يصح، لأن هناك فرقًا بين الوهم والظن، وأن من بنى أمره في المعاملات على الظن كان معذورًا، بخلاف من بناه على الوهم، وفرع على ذلك تصرف ولي اليتيم في ماله بناء على الظن أو الوهم. هذا خلاصة ما أراده المصنف في هذه المسألة. والله أعلم. قال الجرجاني في التعريفات ص144، "الظن: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويستعمل في اليقين والشك، وقيل: الظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان". وفي شرح الكوكب المنير "1/ 74": ".... والأول وهو الذي يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدّره الراجح منه، وهو الذي يكون متعلقه راجحًا عند الذاكر على احتمال النقيض ظن، ويتفاوت الظن حتى يقال: غلبة الظن. والمرجوح: وهو المقابل للظن وهم. والمساوي: وهو الذي يتساوى متعلقه واحتمال نقيضه عند الذاكر شك".

ولم يظهر لنا من الصحابة إلا اتباع الرأي الأغلب، ولم يضبطوا أجناسه، ولم يميزوا جنسًا عن جنس، فمهما سلمتم غلبة الظن: وجب اتباعه. وقولهم: "هذا وهم": لا يصح؛ فإن الوهم ميل النفس من غير سبب، والظن: ميلها بسبب. وهذا الفرق بينهما. ومن بنى أمره في المعاملات على الظن: كان معذورًا، ومن بناه على الوهم سُفِّه. ولو تصرف في مال اليتيم بالظن: لم يضمن، ولو تصرف بالوهم ضمن. وقد بينا الظن ههنا فيجب البناء عليه. والله أعلم. النوع الثاني في إثبات العلة. السبر1 قال أبو الخطاب: "ولا يصح إلا أن تجمع الأمة على تعليل أصل، ثم يختلفون في علته، فيبطل جميع ما قالوه إلا واحدة، فيعلم صحتها،

_ 1 السبر لغة: الاختبار، ومنه سمي ما يعرف به طول الجرح وعرضه: سِبَّارًا ومسبارًا. وبعض العلماء يكتفي بإطلاق لفظ "السبر" على هذا النوع، والبعض يطلق عليه "التقسيم" فقط، والجمهور على الجمع بينهما، إذ أن هذا الدليل مبني على أمرين: =

كي لا يخرج الحق عن أقاويل الأمة"1. فنقول: الحكم معلل، ولا علة إلا كذا أو كذا، وقد بطل أحدهما فيتعين الآخر. مثاله: الربا يحرم في البر بعلة، والعلة: "الكيل، أو القوت، أو الطعم" وقد بطل التعليل بالقوت والطعم، فثبت أن العلة: الكيل.

_ = أحدهما: حصر الأوصاف التي يتوهم صلاحيتها للتعليل، وهو المسمى بالتقسيم. ثانيهما: سبر واختبار هذه الأوصاف ليتميز الصالح منها للتعليل وإبطال ما لا يصلح. ولذلك عرفه الأصوليون بأنه: "إبطال كل علة عُلّل بها الحكم المعلل إجماعًا إلا واحدة فتتعين" أي: للتعليل. مثال ذلك: أن يقول: "علة الربا في البُرِّ ونحوه: إما الكيل، أو الطعم، أو القوت، وكلها باطلة إلا الأولى، وهي: الكيل، إن كان حنفيًّا أو حنبليًّا، أو إلا الطعم، إن كان شافعيًا، أو إلا القوت، إن كان مالكيًّا، فيتعين هذا الوصف للتعليل، ويلحق الأرز والذرة ونحو ذلك بالبر، بجامع الكيل أو غيره على حسب ما تقدم. ويقيم الدليل على بطلان ما أبطله، إما بانتقاضه انتقاضًا مؤثرًا، أو بعدم مناسبته، أو غير ذلك بحسب الإمكان. انظر: البرهان "2/ 815" والإحكام للآمدي "3/ 380" وشرح مختصر الروضة "3/ 404-405" وشرح الكوكب المنير "4/ 142". 1 انظر: التمهيد "4/ 22".

صحتها؛ لجواز أن يكون الحكم ثابتًا تعبدًا، إذ لم يوجد من الدليل على صحتها إلا خلو المحل عما سواها. والوجود المجرد لا يكفي في التعليل1. وقول المستدل: بحثت في المحل فلم أعثر على ما يصلح للتعليل: ليس بأولى من قول خصمه: بحثت في الوصف الذي ذكرته، فلم أعثر فيه على مناسبة، أو ما يصلح به التعليل، فيتعارض الكلامان. الأمر الثاني: أن يكون سبره حاصرًا لجميع ما يعلل به: إما بموافقة خصمه، وإما بأن يسير حتى يعجز عن إبراز غيره2.

_ 1 خلاصة قول أبي الخطاب، وارتضاه المصنف: أنه يشترط في السبر أن يكون الحكم مجمعًا على تعليله، ولا يكفي أن يكون مختلفًا فيه؛ لأن للخصم في هذه الحالة أن يقول: إن الحكم تعبدي ولا علة له، فيبطل القياس. إلا أن للطوفي تفصيلًا آخر حيث قال: "إن كان المستدل مناظرًا، أو خصمه منتميًا إلى مذهب ذي مذهب، كفاه موافقة الخصم على التعليل، ولم يعتبر الإجماع عليه من الأمة، وإن كان الخصم مجتهدًا، اعتبر الإجماع على تعليله، إذ المجتهد لا حجر عليه إلا بإجماع الأمة، إذ بدونه له أن يلزم التعبد في الأصل، ويفسد كل علة علل بها، أما إذا أجمع على كونه معللًا، لم يمكنه ذلك، لمخالفة الإجماع، وإن كان المستدل ناظرًا لا مناظرًا، اعتبر الإجماع على التعليل أيضًا؛ لأن غرضه ليس إفحام خصم، بل استخراج حكم، وذلك إنما يحصل بحصول غلبة الظن بأن العلة هذا الوصف، ولا يحصل ذلك مع وقوع الخلاف في تعليل الحكم، وفي هذا شيء لا يخفى". شرح المختصر "3/ 405-406". 2 وبذلك يكون الخصم قد سلّم بما ذكره المستدل. فحاصل الأمر: أن موافقة الخصم على الحصر إما اختيارية بالتسليم، أو اضطرارية بعجزه عن الزيادة على ما ذكره المستدل من أوصاف، ولذلك يجب على الخصم التسليم بالحصر، أو إبراز ما عنده لينظر فيه المستدل فيفسده عليه، =

فإن كان مناظرًا: كفاه أن يقول: هذا منتهى قدرتي في السبر، فإن شاركتني في الجهل بغيره: لزمك ما لزمني، وإن اطلعت على علة أخرى فيلزمك إبرازها في صحتها، فإن كتمانها -حينئذ- عناد، وهو محرم، وصاحبها إما كاذب، وإما كاتم لدليل مست الحاجة إلى إظهاره، وكلاهما محرم. الثالث1: إبطال أحد القسمين: وله في ذلك طريقان: أحدهما: أن يبين بقاء الحكم بدون ما يحذفه، فيبين أنه ليس من العلة، إذ لو كان منها: لم يثبت الحكم بدونه. الثاني: أن يبين أن ما يحذفه من جنس ما عهدنا من الشارع عدم الالتفات إليه في إثبات الأحكام، كالطول والقصر، والسواد والبياض، أو عهد منه الإعراض عنه في جنس الأحكام المختلف فيها كالذكورية، والأنوثية في سراية العتق2.

_ = ولا يكفي أن يقول المعترض: عندي وصف زائد لكني لا أذكره؛ لأنه حينئذ إما أن يكون صادقًا فيكون كاتمًا لدليل دعت الحاجة إلى إظهاره، أو كاذبًا فلا يعول على قوله. 1 من شروط صحة السبر، كما تقدم. 2 خلاصة ذلك: أن المعترض إذا أظهر وصفًا زائدًا على ما ذكره المستدل من الأوصاف، لزم المستدل أن ينظر في ذلك الوصف ويبطله بأحد طريقين: أحدهما: أن يبين بقاء الحكم مع حذف ذلك الوصف في بعض الصور، مثل: أن يقول الشافعي أو الحنبلي: يصح أمان العبد؛ لأنه أمان وجد من عاقل مسلم غير متهم فيصح قياسًا على الحر. فيقول الحنفي: لا نسلم أن ما ذكرت هو أوصاف العلة في الأصل فقط، بل هناك وصف آخر، وهو الحرية، وهو مفقود في العبد، فلا يصح القياس =

فصل: أمور لا تكفي لإفساد علة الخصم

فصل: [أمور لا تكفي لإفساد علة الخصم] ولا يكفيه في إفساد علة خصمه: النقض؛ لاحتمال أن يكون جزءًا من العلة، أو شرطًا فيها، فلا يستقل بالحكم، ولا يلزم من عدم استقلاله: صحة علة المستدل بدونه. ولا يكفيه، أيضًا أن يقول: بحثت في الوصف الفلاني فما عثرت فيه على مناسبة، فيجب إلغاؤه، فإن الخصم يعارض بمثل كلامه فيفسد. فإن بيّن -مع ذلك- صلاحية ما يدّعيه علة، أو سلم له ذلك بموافقة خصمه: فذلك يكفيه ابتداء، بدون السبر، فالسبر إذًا تطويل طريق غير مفيد، فلنصطلح على ردّه. وقال بعض أصحاب الشافعي: يكفيه ذلك. وقال بعض المتكلمين: إذا اتفق خصمان على فساد تعليل مَن

_ = فيقول المستدل: وصف الحرية ملغى بالعبد المأذون له، فإن أمانه يصح باتفاق مع عدم الحرية، فصار وصفًا لا غيًا لا تأثير له في العلة. ثانيهما: أن يبين كون هذا الوصف الزائد طرديًّا، أي: لم يلتفت الشارع إليه فيما عهد من تصرفاته، كالطول والقصر، والذكورية والأنوثية، وما أشبه ذلك. مثال ذلك: لو قال المستدل: يسري العتق في الأمة قياسًا على العبد، بجامع الرق في كل منهما، إذ لا علة غيره، عملًا بالسبر. فقال المعترض: الذكورية وصف زائد معتبر في الأصل، فلا يصح القياس؛ لأن العبد إذا كمل عتقه بالسراية حصل منه ما لا يحصل من الأمة، من تأهله للحكم والإمامة وأنواع الولايات، ولا يلزم في ثبوت السراية في الأكمل ثبوته في غيره. فيقول المستدل: ما ذكرت من الفرق مناسب، غير أنا لم نر الشرع اعتبر الذكورية والأنوثية في باب العتق، فيكون اعتبار ذلك على خلاف معهوده، فيكون وصفًا طرديًّا في ظاهر الأمر. انظر: شرح الطوفي "3/ 407-408".

سواهما، ثم أفسد أحدهما علة صاحبه: كان ذلك دليلًا على صحة علته. وليس بصحيح؛ فإن اتفاقهما ليس بدليل على فساد قول من خالفهما. والذي فسدت علته منهما يعتقد فساد علة خصمه الحاضر، كاعتقاد فساد علة الغائب، فيتساوى عنده الأمر فيهما. فلا يتعين عنده صحة إحداهما، ما لم يكن الحكم مجمعًا على تعليله، ويبطل ما قيل: إنه علة1. والله أعلم.

_ 1 خلاصة ذلك: أنه لا يكفي المستدل في إفساد الوصف الذي أبرزه المعترض كونه منتقضًا، بل يوجد بدون الحكم؛ لأن الوصف المذكور قد يكون جزء العلة أو شرطًا لها، والعلة لا تصح بدون جزئها أو شرطها. مثال ذلك: قول المستدل: علة الربا في البر: الكيل، فعارضه المعترض بالطعم، فنقضه المستدل بالماء أو غيره مما يطعم ولا ربا فيه فلو قال المستدل ذلك لم يكف في بطلان كون الطعام هو العلة؛ لجواز أن يكون الطعم جزء علة الربا، بأن تكون العلة مجموع الكيل والطعم، أو شرطًا لها، فتكون علة الربا: الكيل بشرط أن يكون المكيل مطعومًا. كذلك لا يكفي المستدل أن يقول: إني بحثت في علتك التي أبرزتها فلم أعثر فيها على مناسبة بينها وبين الحكم؛ لأن للمعترض أن يقول مثل هذا الكلام، فيتعارض الكلامان، ويقف المستدل، وتنقطع حجته. فإن رد المستدل على خصمه هذا الكلام، وبين صلاحية الوصف الذي أثبته، أو سلم له الخصم بذلك، كفاه ذلك ابتداء، بدون حاجة إلى السبر، لأنه يكون تطويلًا بلا فائدة. وهذا رأي بعض العلماء واختاره المصنف. وقال بعض أصحاب الشافعي: يكفيه ذلك؛ لأن الظاهر من حاله أنه صادق، وهو أهل للنظر، فيقبل قوله. ثم تطرق المصنف إلى صورة أخرى متعلقة بالسبر، وهي: إذا اتفق خصمان على =

[إثبات العلة بالدوران] النوع الثالث- في إثبات العلة: أن يوجد الحكم بوجودها، ويعدم بعدمها1.

_ = فساد علة من خالفهما، ثم بعد ذلك أفسد أحد الخصمين علة صاحبه، فهل يعتبر ذلك دليلًا على صحة علته؟ حكى المصنف عن بعض المتكلمين أن ذلك يعتبر دليلًا على صحة علته. ثم رد على ذلك بأنه غير صحيح؛ لأن اتفاقهما على فساد علة غيرهما لا يقتضي فسادها في نفس الأمر، بل في اعتقادهما، وهو لا يؤثر بالنسبة إلى غيرهما، إذ غيرهما يعتقد فساد علتهما، كالمالكي يعتقد فساد التعليل بالكيل والطعم، ويدّعي علة القوت، فيتعارض اعتقادهما واعتقاده، وكذلك كل منهما يعتقد فساد علة غيره من حاضر وغائب، فليس أحدهما بأولى من الآخر. انظر: شرح مختصر الطوفي "3/ 409-410". 1 يسمى هذا النوع بالدوران، وهو في اللغة: مصدر دار يدور دورانًا، إذا تحرك حركة دورية كالدولاب والرحا. أما في الاصطلاح فهو: ترتب حكم على وصف وجودًا وعدمًا، أو: وجود الحكم بوجود العلة، وعدمه بعدمها. وسماه الآمدي وابن الحاجب: الطرد والعكس. وهو بمعناه. وفي كونه علة خلاف بين العلماء: فالجمهور يرون أنه حجة، لكنهم مختلفون في نوع هذه الحجية، فقال بعض المعتزلة: إنها حجة قطعية. وقال بعض ومنهم أبو بكر الباقلاني: إنها ظنية. وذهب بعض العلماء إلى عدم حجيته، وعلى ذلك أكثر الحنفية، والآمدي، وابن الحاجب وغيرهم. وقال قوم: إنه يفيد العلية ظنًا إذا انضم إليه السبر المتقدم. انظر: المعتمد "2/ 843"، الإحكام للآمدي "3/ 430"، شرح العضد على المختصر "2/ 245"، شرح الكوكب المنير "4/ 191".

كوجود التحريم بوجود الشدة في الخمر، وعدمه لعدمها، فإنه دليل على صحة العلة العقلية، وهي موجبة، فأولى أن يكون دليلًا على الشرعية وهي أمارة1. ولأنه يغلب على الظن ثبوت الحكم مستندًا إلى ذلك الوصف، فإننا لو رأينا رجلًا جالسًا، فدخل رجل فقام عند دخوله، ثم جلس عند خروجه، وتكرر منه، غلب على ظننا: أن العلة في قيامه: دخوله2. فإن قيل: الوجود عند الوجود طرد محض، وزيادة العكس لا تؤثر، إذ ليس بشرط في العلل الشرعية. ولأن الوصف يحتمل أن يكون ملازمًا لعلة أو جزءًا من أجزائها،

_ 1 هذا هو الدليل الأول على حجية الدوران. 2 وهذا هو الدليل الثاني، كما أوردهما المصنف. وقد أضاف إليهما الطوفي دليلين آخرين فقال: "وبمثل ذلك عَلِمَ الأطباءُ ما علموه من قوى الأدوية وأفعالها، كالأدوية المسهلة والقابضة وغيرها، حيث دارت آثارها معها وجودًا وعدمًا ... ثم قال: وأما دليل الشرع فلأن النبي -عليه السلام- بعث ابن اللتبية عاملًا، فلما عاد من عمله جاء بمال، فجعل يقول: هذا لكم، وهذا لي أُهدى إلي، فخطب النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال: "ما بال الرجل نبعثه في عمل المسلمين فيجيء فيقول: هذا لكم، وهذا لي، ألا جلس في بيت أمه، فينظر هل يهدى له؟! " [أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود] . وهذا عين الاستدلال بالدوران. أي: إنا إذا استعملناك أُهدي إليك، وإذا لم نستعملك لم يُهدَ لك، فعلة الهدية لك: استعمالنا إياك. فثبت بهذا أنه يوجب ظن العلية. وأما أنه إذا وجب ظن العلية، وجب اتباعه، فلأن الظن متبع في العمليات بما عرف في الدليل على إثبات القياس من أنه يتضمن دفع ضرر مظنون". شرح المختصر "3/ 413-414".

فيوجد الحكم عند وجوده، لكون العلة ملازمة، وينتفي بانتفائه. ويحتمل ما ذكرتم. ومع التعارض لا معنى للتحكم. ثم لو كان ذلك علة؛ لأمكن كل واحد من المختلفين في علة الربا أن يثبت الحكم بثبوتها، وينفيه بنفيها. ثم يبطل هذا المعنى برائحة الخمر المخصوصة به مقرنة بالشدة، يزول التحريم بزوالها، ويوجد بوجودها، وليس بعلة1. قلنا: قد بينا أن الطرد والعكس يؤثران في غلبة الظن. وكون كل واحد من "الطرد" لا يؤثر منفردًا. لا يمنع من تأثيرهما مجتمعين، فإن العلة إذا كانت ذات وصفين لا يحصل الأثر من أحدهما.

_ 1 من أول قول المصنف: "فإن قيل" إلى هنا يمثل المذهب الثاني في أن الدوران لا يفيد العلية مطلقًا، وقد أورد المصنف لأصحاب هذا المذهب دليلين: أحدهما: أن الاحتجاج به إما أن يكون بوجود الحكم عند وجود الوصف وهو المعبر عنه بالطرد، وإما أن يكون بانتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، وهو المسمى بالعكس. والطرد غير مؤثر، ولا إشعار له بالعلية، والعكس غير معتبر في العلل الشرعية. الدليل الثاني: أنه ليس من الضرورة أن يكون كل وصف دائرًا مع الحكم علة له، بل يحتمل أن يكون علة -كما ذكرتم- ويحتمل أن يكون ملازمًا للعلة، مثل: الرائحة الملازمة لشدة الخمر، فإنها تنعدم قبل الإسكار، وتوجد معه، وتزول بزواله، ومع ذلك ليست علة. ويحتمل أن يكون الوصف جزءًا من أجزاء العلة، أو شرطًا لها، ومع وجود هذه الاحتمالات لا يحصل القطع أو الظن بالعلية.

واحتمال شيء آخر لا ينفي الظن، ولا يمنع من التمسك بما ظنناه علة، ما لم يظهر الأمر الآخر، فيكون معارضًا. والنقض برائحة الخمر: غير لازم، فإن صلاحية الشيء للتعليل لا يلزم أن يعلل به، إذ قد يمتنع ذلك، لمعارضة ما هو أولى منه1. وقال قوم: إنما يصح التعليل به مع السبر، فيقول: علة الحكم أمر حادث، ولا حادث إلا كذا وكذا، ويبطل ما سواه2. والسبر إذا تم بشروطه: استغني عما سواه، مع أنه لا يلزم أن يكون علة الحكم أمرًا حادثًا، إذ يجوز أن تكون العلة سابقة، ويقف ثبوت الحكم على شرط حادث، كالحول في الزكاة. أو يكون الحادث جزءًا تمت العلة به. أو يكون الحكم غير معلل. والله أعلم.

_ 1 من قول المصنف: "قلنا" إلى هنا رد على الدليلين السابقين، وهو من وجهين أيضًا. أحدهما: أنه قد تقدم أن الطرد والعكس يؤثران في إثبات غلبة الظن، وكون كل واحد منهما منفردًا لا يؤثر، لا يمنع من تأثيرهما مجتمعين. ثانيهما: أن مجرد احتمال وجود شيء آخر لا ينفي الظن، ولا يمنع من التمسك بما ظنناه علة، ما لم يظهر الشيء الآخر. والنقض برائحة العمر، حيث إنها تدور مع الوصف وجودًا وعدمًا، ليس بلازم أن يعلل به، فإنه قد يمتنع التعليل بالشيء لوجود ما أهو أقوى منه، ولا شك أن السكر أقوى من الرائحة. وقد نص جمهور العلماء على أن الوصف يشترط فيه أن يكون مناسبًا للحكم أو محتملًا، فإن كان طرديًّا فقط -كرائحة الخمر- علم أنه ليس علة، حتى ولو دار مع الحكم وجودًا وعدمًا. 2 هذا هو المذهب الثالث، الذي يشترط أن يكون مع الدوران السبر، واستدل =

فصل: هل تثبت العلة بشهادة الأصول

فصل: [هل تثبت العلة بشهادة الأصول] ومما يشبه هذا- شهادة الأصول1. كقولهم في الخيل: ما لا تجب الزكاة في الذكور منفردة: لم تجب في الذكور والإناث2.

_ = القائلون بذلك: بأن الحكم لا بد له من علة؛ لأنه أمر حادث، ولا حادث يعلل به إلا كذا وكذا -من الأوصاف- والكل باطل إلا الوصف الفلاني، فيثبت كونه علة. وقد أجاب عنه المصنف بأن السير وحده علة، إذا تم بشروطه المتقدمة، فلا يحتاج إلى أن ينضم إليه الدوران أو غيره من المسالك. ثم لا يلزم أن تكون علة الحكم أمرًا حادثًا، بل يجوز أن تكون سابقة على الحكم، وتتوقف على شرط حادث، كالحول في الزكاة، فإنه شرط لوجوبها، مع أن علتها بلوغ النصاب الذي تجب فيه الزكاة. كما يحتمل أن يكون الحادث جزءًا من العلة، لا تتم إلا به، ويحتمل أن يكون الحكم أمرًا تعبديًّا غير معلل، ومع وجود هذه الاحتمالات لا يستقيم هذا المذهب. 1 المراد بشهادة الأصول: دلالة الكتاب أو السنة أو الإجماع على الحكم المعلل، أو المراد: كون الحكم المعلل له أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه. 2 ودليل ذلك: أن الشريعة ساوت بين الذكور والإناث في سائر السوائم في الحكم. وجودًا وعدمًا، فقد ساوت الشريعة بين الإبل والبقر والغنم في الزكاة، فإنها تجب في ذكورها إذا انفردت، وتجب في ذكورها وإناثها إذا اجتمعت، فكذلك البغال والحمير لا تجب الزكاة في ذكورها إذا انفردت، ولا تجب في ذكورها وإناثها إذا اجتمعت. انظر: التمهيد لأبي الخطاب "4/ 28". والذي سبّب هذا الخلاف: أن العلماء مختلفون في الخيل السائمة هل فيها زكاة أو لا؟ بعد اتفاقهم على أن المعلوفة لا زكاة فيها، وأن المعدة للتجارة فيها زكاة. فذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخيل السائمة لا زكاة فيها، واستدلوا على ذلك بما =

ويستدل على صحتها بالاطراد والانعكاس في سائر ما تجب فيه الزكاة، وما لا تجب. وقولهم: من صح ظهاره: صح طلاقه كالمسلم. ذهب القاضي وبعض الشافعية إلى صحته، لشبهه بما ذكرنا، وتغليبه على الظن. ومنع منه بعضهم. والله أعلم.

_ = جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة" وهذا النفي يشمل الذكور والإناث وأنه لم يثبت في السنة العملية أخذ الزكاة من الخيل، كما أخذت من الإبل والبقر والغنم. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة فيها، واستدل بأدلة كثيرة، منها: ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله -أي: للجهاد- فهي لذلك أجر. ورجل ربطها تغنيًا وتعففًا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي ذلك ستر، ورجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً -مناوأة- لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر". ووجه الدلالة. عنده، أن حق الله في الرقاب هو الزكاة، وفي الظهور: إعارتها للمضطر ونحوه ليركبها، وعطف الظهور على الرقاب يقتضي المغايرة بينهما. كما استدل على ذلك بالقياس على الإبل، فكلاهما حيوان نام ينتفع به، وقد تحقق فيه شرط الزكاة وهو السوم ويؤيده ما صح عن الصحابة -رضي الله عنهم- فقد روى الطحاوي والدارقطني بإسناد صحيح إلى السائب بن يزيد قال: رأيت أبي يقوم الخيل ويدفع صدقتها إلى عمر بن الخطاب. وهناك آثار أخرى كثيرة كهذا. انظر: نصب الراية "3/ 359"، نيل الأوطار "4/ 118"، فقه الزكاة للدكتور القرضاوي "1/ 222 وما بعدها". ومثل ما قيل في زكاة الخيل يقال في ظهار الذمي: يصح ظهاره، كما يصح طلاقة كالمسلم، فالمسلم البالغ العاقل يصح منه الطلاق والظهار، والصبي والمجنون لا =

................................................................................................

_ = يصحان منه. فصحة طلاق الذمي أصل لصحة ظهاره. جاء في المغني لابن قدامة "11/ 56": "وكل زوج صح طلاقه صح ظهاره، وهو البالغ العاقل، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، حرًّا أو عبدًا.... ثم قال: ويصح ظهار الذمي. وبه قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يصح منه؛ لأن الكفارة لا تصح منه، وهي الرافعة للتحريم، فلا يصح منه التحريم، ودليل أن الكفارة لا تصح منه: أنها عبادة تفتقر إلى النية، فلا تصح منه، كسائر العبادات، ولنا أن من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم، فأما ما ذكروه فيبطل بكفارة الصيد إذا قتله في الحرم، وكذلك الحد يقام عليه، ولا نسلم أن التكفير لا يصح منه؛ فإنه يصح منه العتق والإطعام، وإنما لا يصح منه الصوم، فلا تمتنع صحة الظهار بامتناع بعض أنواع الكفارة، كما في حق العبد". والخلاصة: أن في ثبوت العلة بشهادة الأصول رأيان: الأول: أن ذلك يثبت العلة وهو رأي القاضي أبي يعلى، وبعض الشافعية، كالشيرازي في اللمع. وحجتهم على ذلك أن هذا الطريق شبيه بالدوران وتحصيله غلبة الظن. الرأي الثاني: أن ذلك لا يصح، لأن شهادة الأصول ليس نصًّا في العلية، ولا إجماعًا، ولا مؤثرًا، ولا ملائمًا، ولا غريبًا، إنما هو مجرد تخيل أن الفرع المشهود له مشتمل على علة الأصل الشاهد، والظن الحاصل من التخيل ضعيف جدًّا، فلا يناط به حكم ولا يعول عليه. قال الطوفي: "قلت: التحقيق في هذا أنه يختلف باختلاف النظار والمجتهدين قوة وضعفًا، وباختلاف الأصول الشاهدة كثرة وقلة، فمتى كان هذا الطريق مفيدًا من الظن ما يساوي ما يفيده دليل آخر متفق عليه بين الفريقين المختلفين فيه، كخبر الواحد، أو العموم، أو القياس الجلي ونحوه، صح التمسح به، إذ قد يتفق ناظر فاضل مرتاض، فتظهر له أصول كثيرة شاهدة للفرع المتنازع فيه حتى يكاد يجزم أن حكم الفرع حكم تلك الأصول، فهذا يجب المصير على ما ظنه من ذلك، إن كان مجتهدًا لنفسه، وإن كان مناظرًا أمكنه إبراز تلك الشواهد لخصمه، وقرب ما ادعاه إلى ذهنه بالمقدمات الظاهرة المقبولة حتى يحصل له =

فصل: في المسالك الفاسدة

فصل: [في المسالك الفاسدة] فأما الدلالة على صحة العلة باطرادها ففاسد؛ إذ لا معنى له إلا سلامتها عن مفسد واحد هو: النقض. وانتفاء المفسد ليس بدليل على الصحة، فربما لم يسلم من مفسد آخر. ولو سلمت من كل مفسد: لم يكن دليلًا على صحتها، كما لو سلمت شهادة المجهول من جارح: لم تكن حجة ما لم تقم بينة معدلة مزكية: فكذلك لا يكفي للصحة انتفاء المفسد، بل لا بد من قيام دليل على الصحة. وفي الجملة: فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل كوضع الحكم، ولا يكفي في إثبات الحكم بأنه لا مفسد له، فكذلك العلة. ويعارضه: أنه لا دليل على الصحة. واقتران الحكم بها ليس بدليل على أنها علة، فقد يلازم الخمر لون وطعم ورائحة يقترن به التحريم، ويطرد وينعكس، والعلة: الشدة واقترانه بما ليس بعلة كاقتران الأحكام بطلوع كوكب أو هبوب ريح. ثم للمعترض في إفساده المعارضة بوصف مطرد يختص بالأصل فلا يجد إلى التقصي عنه طريقًا. ومثال ذلك: قولهم، في الخل: مائع لا يصاد من جنسه السمك، ولا تبنى عليه القناطر، فلا تزال به النجاسة كالمرق.

_ = الظن بذلك، فيسلم. والله تعالى أعلم". شرح المختصر "3/ 417-418" وانظر: العدة "5/ 1453"، التمهيد "4/ 27 وما بعدها"، اللمع ص230.

وكذلك لو استدل على صحتها بسلامتها عن علة تفسدها، لم يصح؛ لما ذكرنا. فإن قيل: دليل صحتها: انتفاء المفسد. قلنا: بل دليل الفساد: انتفاء المصحح، ولا فرق بين الكلامين1.

_ 1 عقد المصنف هذا الفصل للمسالك التي لا تصلح لإثبات العلة، والتي سماها الغزالي بالمسالك الفاسدة، ومنه أخذنا عنوان الفصل. والإمام الغزالي ذكر من المسالك الفاسدة ثلاثًا. الأول: سلامة العلة عن علة تفسدها، وتقتضي نقيض حكمها. الثاني: اطرادها وجريانها في حكمها. الثالث: الطرد والعكس، وهو المعبر عنه بالدوران؛ فإنه لا يرى حجيته. ولما كان المصنف يرى حجية الدوران، كما تقدم. فقد ذكر من المسالك الفاسدة نوعين فقط هما: الأول والثاني، وترك الثالث. إلا أنه في هذا الفصل خلط بين المسلكين في الاستدلال والمناقشة، الأمر الذي جعل كلامه غامضًا، حيث قدم وأخر، وكرر. لذلك أنقل كلام الطوفي في هذه المسألة بنصه، باعتباره ملخصًا وشارحًا لكلام المصنف. قال، رحمه الله تعالى: "لما بين الطرق الدالة على صحة العلة، أخذ يبين الطرق الفاسدة التي لا تدل على صحتها. فمنها: اطرادها، لا يدل على صحتها، إذ معنى اطرادها: سلامتها عن النقض، وهو بعض مفسداتها وسلامتها عن مفسد واحد لا ينفي بطلانها بمفسد آخر، ككونها قاصرة، أو عدمية، أو طردية غير مناسبة عند من لا يرى التعليل بذلك. وما مثال من يقول: هذه العلة صحيحة؛ لأنها ليست منتقضة، إلا مثال من يقول: هذا العبد صحيح سليم؛ لأنه ليس بأعمى، إذ جاز أن تنتفي سلامته ببرص أو عرج أو غيره. وأيضًا: فإن صحة العلة حكم، والأحكام إنما تثبت صحتها بدليل الصحة، لا =

فصل: في حكم العلة إذا استلزمت مفسدة

فصل: [في حكم العلة إذا استلزمت مفسدة] متى لزم من الوصف المتضمن للمصلحة مفسدة مساوية للمصلحة، أو راجحة عليها.

_ = بانتفاء المفسد، وبوجود المقتضى، لا بانتفاء المانع، وعدالة الشاهد والراوي إنما تثبت بحصول المعدل، لا بانتفاء الجارح، فكذلك العلة إنما تصح بوجود مصححها، لا بانتفاء مفسدها. وقول القائل: هذه العلة صحيحة، إذ لا دليل على فسادها، معارض بقول الخصم: هذه فاسدة، إذ لا دليل عن صحتها. ومن الطرق الفاسدة في إثباتها: الاستدلال على صحتها باقتران الحكم بها، وذلك لا يدل؛ إذ الحكم يقترن بما يلازم العلة، وليس بعلة، كاقتران تحريم الخمر بلونها وطعمها وريحها، وإنما العلة الإسكار". شرح مختصر الروضة "3/ 419/ 3420". وينبغي أن يكون معلومًا أن الطرد هنا هو الطرد الوجودي، وهو: الذي يدور معه الحكم وجودًا فقط، لا عدمًا، وهو بهذا يختلف عن الطرد في الدوران، فإنه يدور مع الحكم وجودًا وعدمًا. وللعلماء في حجية الطرد الوجودي مذاهب كثيرة، اختار المصنف منها: كونه غير حجة، كما هو مذهب الغزالي وجمهور العلماء. وذهب بعض الحنفية إلى أنه حجة إن سلم من الانتقاض، ومثاله: المائع الذي تبنى عليه القناطر، ويصاد فيه السمك تقع به الطهارة، فيقال في الرد على ذلك ليس ذلك بعلة؛ لأن الطهارة تصح بغير المذكور، كالتراب ونحوه. وذهب بعض الشافعية إلى أنه حجة بشرط مقارنة الحكم والوصف في جميع الصور، غير صورة النزاع، فيلحق النادر بالأغلب. وقال الكرخي، من الحنفية: إنه مقبول جدلًا، ولا يسوغ التعويل عليه في العمل والفتيا. انظر: إرشاد الفحول ص221، مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص262.

فقيل: إن المناسبة تنتفي؛ فإن تحصيل المصلحة على وجه يتضمن فوات مثلها أو أكبر منها ليس من شأن العقلاء، لعدم الفائدة على تقدير التساوي، وكثرة الضرر على تقدير الرجحان، فلا يكون مناسبًا، إذ المناسب: ما إذا عرض على العقول السليمة تلقته بالقبول. فيعلم أن الشارع لم يرد بالحكم تحصيلًا للمصلحة في ضمن الوصف المعين1. وهذا غير صحيح2، فإن المناسب [هو] المتضمن للمصلحة. والمصلحة أمر حقيقي لا ينعدم بمعارض، إذ ينتظم من العاقل أن يقول:

_ 1 هذا الفصل تابع للنوع الأول من القسم الثالث في إثبات العلة بالاستنباط، وهو إثبات العلة بالوصف المناسب، وذكره هنا يوهم أنه من المسالك الفاسدة، فلا أدري لماذا أخره؟! ومعنى هذا الفصل: أن الوصف المناسب للحكم إذا استلزم أو تضمن مفسدة هل تُلغى مصلحته وتختل مناسبته أو لا؟ وقول المصنف: "مفسدة مساوية للمصلحة، أو راجحة عليها" فيه بيان لتحرير محل الخلاف، وهو المفسدة المساوية للمصلحة، أو الراجحة عليها. أما إذا كانت المفسدة مرجوحة على المصلحة، فإنها تكون معتبرة بالاتفاق، ولا نظر للمفسدة المرجوحة؛ لأنه لا عبرة بالمرجوح في مقابلة الراجح. وللعلماء في هذه المسألة رأيان: الرأي الأول: أن المناسبة تنتفي. الرأي الثاني: أن المناسبة تبقى ولا تلغى، وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله: "وهذا غير صحيح" ثم ذكر الأدلة التي استند إليها أصحاب هذا المذهب. واستدلال المصنف للمذهب واضح لا يحتاج إلى شرح. 2 هذا اعتراض على أدلة المذهب الأول، وهو في الوقت نفسه استدلال للقائلين بعدم إلغاء المناسبة.

إلى مصلحة في كذا، يصدني عنه ما فيه من الضرر من وجه آخر". وقد أخبر الله. تعالى. أن في الخمر والميسر منافع، وأن إثمهما أكبر من نفعهما1، فلم ينف منافعهما مع رجحان إثمهمها.

_ 1 قال الله تعالى في سورة البقرة "219": {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ... } وقرأ حمزة والكسائي: "قل فيهما إثم كثير" بالثاء المثلثة. فمنافع الخمر: الربح في التجارة بها، فإن العرب كانت تجلبها من الشام وتبيعها في الحجاز بثمن مرتفع. وقيل: إنها تهضم الطعام، وتقوي الضعيف، وتشجع الجبان، وتسخي البخيل إلى غير ذلك مما كان يعتقده أهل الجاهلية. ومفاسدها كثيرة جدًّا بينتها سورة المائدة في الآيات "90-92" ومنها: إفساد العقل. وفي الميسر منفعة كبيرة، ففيه الربح الوفير بدون كد ولا تعب، وكانوا يوسعون بما يستفيدونه على الفقراء والمساكين، لكن مفسدته أكبر، حيث إنه أكل لأموال الناس بالباطل، ويستوجب عذاب الله تعالى وغضبه. ومحل الشاهد: أن الله تعالى أطلق الأمرين في الخمر والميسر، ولو كانت المناسبة مختلة لما صح هذا الكلام: ثم لا يستبعد وجود المعارض مع الحكم. وأقول: إن الاستدلال بهذه الآية فيه نظر، حيث إن ذلك كان في بداية التشريع، ولذلك فهم منه بعض الصحابة تحريم الخمر قبل نزول آيات المائدة فامتنعوا عن شربها. قال القرطبي: "تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي: في تجارتهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ... } فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ... } الآية: فصارت حرامًا عليهم =

والمصلحة: جلب المنفعة، أو دفع المضرة، ولو أفردنا النظر إليها: غلب على الظن ثبوت الحكم من أجلها. وإنما يختل ذلك الظن مع النظر إلى المفسدة اللازمة من اعتبار الوصف الآخر، فيكون هذا معارضًا؛ إذ هذا حال كل دليل له معارض. ثم ثبوت الحكم مع وجود المعارض لا يعد بعيدًا. ونظيره: ما لو ظفر الملك بجاسوس لعدوه، فإنه يتعارض في النظر اقتضاءان: أحدهما: قلته؛ دفعًا لضرره.

_ = حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئًا أشد من الخمر" الجامع لأحكام القرآن "6/ 286". وعلى هذا فلا يكون في الآية دليل على مشروعية ما كان ضرره أكثر من نفعه، والأحكام الشرعية تدور مع الراجح وجودًا وعدمًا. ولذلك أرى أن يقتصر الكلام في هذا المسلك على المفسدة المساوية للمصلحة فقط ويخرج منه ما كانت المفسدة فيه راجحة على المصلحة، وإن كان الشيخ الشنقيطي ينقل الاتفاق على عدم اعتبار ذلك في المفسدة المساوية والراجحة فيقول: "اعلم أن التحقيق في هذه المسألة: أن الخلاف فيها لفظي؛ لأن المصلحة إذا استلزمت مفسدة مساوية أو راجحة فإن الحكم لا ينبني على تلك المصلحة قولًا واحدًا؛ لأن الشرع لا يأمر باستجلاب مصلحة مؤدية لمفسدة أكبر منها أو مساويًا لها. ولكن الخلاف في المصلحة المعارضة بالمفسدة، هل هي منخرمة زائلة من أصلها أو هي باقية معارضة بغيرها، وهو اختيار المؤلف؟ فعلى أن المصلحة باقية، فعدم الحكم لوجود المانع، وعلى أنها زائلة فعدم الحكم لعدم المقتضى. ومن أمثلته: فداء أسرى المسلمين بالسلاح إذا كان يؤدي إلى قدرة الكفار بذلك السلاح على قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين". مذكرة أصول الفقه ص264.

والثاني: الإحسان إليه استمالة له ليكشف حال عدوه فسلوكه إحدى الطريقين لا يعد عبثًا، بل يعد جريًا على موجب العقل. ولذلك ورد الشرع بالأحكام المختلفة في الفعل الواحد، نظرًا إلى الجهات المختلفة، كالصلاة في الدار المغصوبة؛ فإنها سبب للثواب من حيث إنها صلاة، وللعقاب من حيث إنها غصب، نظرًا إلى المصلحة والمفسدة، مع أنه لا يخلو: إما أن يتساويا، أو يرجح أحدهما: فعلى تقدير التساوي: لا تبقى المصلحة مصلحة، ولا المفسدة مفسدة، فيلزم انتفاء الصحة والحرمة. وعلى تقدير رجحان المصلحة: يلزم انتفاء الحرمة. وعلى تقدير رجحان المفسدة: يلزم انتفاء المصلحة. فلا يجتمع الحكمان معًا1، ومع ذلك اجتمعا. فدل على بطلان ما ذكروه2. ثم لو قدرنا توقف المناسبة على رجحان المصلحة، فدليل الرجحان: أنا لم نجد في محل الوفاق مناسبًا سوى ما ذكرناه. فلو قدرنا الرجحان: يكون الحكم ثابتًا معقولًا. وعلى تقدير عدمه: يكون تعبدًا. واحتمال التعبد أبعد وأندر، فيكون احتمال الرجحان أظهر. ومثال ذلك: تعليلنا وجوب القصاص على المشتركين في القتل،

_ 1 وهما: حرمة الصلاة وصحتها، وهذا دليل على أن المناسبة لا تبطل بمعارضة المفسدة الراجحة أو المساوية. 2 أي: أصحاب المذهب الأول.

بحكمة الردع والزجر؛ كي لا يفضي إسقاطه إلى فتح باب الدماء. فيعارض الخصم بضرر إيجاب القتل الكامل على من لم يصدر منه ذلك. فيكون جوابه: ما ذكرناه1، والله أعلم.

_ 1 وهو: أن مصلحة قتلهم جميعها ترجح على تلك المفسدة. روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا. وعن علي -رضي الله عنه- أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلًا. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قتل جماعة بواحد. ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف، فكان إجماعًا. ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد، فوجبت للواحد على الجماعة، كحد القذف، ويفارق الدية؛ فإنها تتبعض والقصاص لا يتبعض؛ ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك، أدى إلى الشارع به فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر. انظر: المغني "11/ 490-491".

فصل: في قياس الشبه

فصل: في قياس الشَّبه 1. واختلف في تفسيره. ثم في: أنه حجة.

_ 1 الأقيسة أربعة أنواع: الأول: قياس العلة، وهو الجمع بين الأصل والفرع بوصف مناسب وهو الذي تقدم أول الباب. الثاني قياس الشبه: وهو الذي معنا. الثالث: قياس الدلالة، وهو الجميع بين الأصل والفرع بدليل العلة لا بها، وسيأتي. الرابع: قياس الطرد: وهو الجمع بين الأصل والفرع بوصف غير مناسب ولا =

فأما تفسيره: فقال القاضي يعقوب: هو أن يتردد الفرع بين أصلين: حاظر ومبيح، ويكون شبهه بأحدهما أكثر1. نحو: أن يشبه المبيح في ثلاثة أوصاف ويشبه الحاظر في أربعة، فنلحقه بأشبههما به. ومثاله: تردد العبد بين الحر وبين البهيمة في أنه يملك. فمن لم يملكه قال: حيوان يجوز بيعه، ورهنه، وهبته، وإجارته، وإرثه، أشبه الدابة.

_ = موهم المناسبة، كقياس الخل على المرق أو الدهن في عدم إزالة النجاسة، بجامع أن كلًّا منهما لا تبنى عليه القناطر ولا تصاد منه الأسماك، ولا تجري فيه السفن، وسيأتي بيانه قريبًا. 1 الشبه في اللغة: المثل، يقال: أشبه الشيء الشيء: ماثله. انظر: لسان العرب مادة "شبه". قال الطوفي: "اعلم أن ظاهر كلام أهل اللغة والأصول الفرق بين المثل والشبه والمماثلة والمشابهة، وأن مثل الشيء: ما ساواه من كل وجه في ذاته وصفاته وشبه، الشيء وشبيهه: ما كان بينه وبينه قدر مشترك من الأوصاف. وحينئذ تتفاوت المشاهبة بينهما قوة وضعفًا بحسب تفاوت الأوصاف المشتركة بينهما كثرة وقلة، فإذا اشتركا في عشرة أوصاف، كانت المشابهة بينهما كثرة أقوى مما إذا اشتركا في تسعة فما دون، وعلى هذا القياس، وهذا هو الأمر المتعارف، فإذا أطلق لفظ الشبيه على المثل، أو لفظ المثل على الشبيه، فهو مجاز باعتبار ما بينهما من القدر المشترك من الأوصاف". شرح المختصر "3/ 424-425". لأنه باعتبار أن الفرع لا بد أن يشبه الأصل يطلق على جميع الأقيسة، إلا أن الأصوليين اصطلحوا على تسمية هذا النوع بقياس الشبه. وأطلق عليه البعض: "غلبة الشبه" انظر: العدة "4/ 1325".

ومن يملّكه قال: يثاب ويتعاقب، وينكح ويطلق، ويكلف، أشبه الحر. فيلحق بما هو أكثرهما شبهًا1. وقيل: الشبه: الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة الحكم: من جلب المصلحة، أو دفع المفسدة2. وذلك أن الأوصاف تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يعلم اشتماله على المناسبة لوقوفنا عليها بنور البصيرة، كمناسبة الشدة للتحريم3. وقسم لا يتوهم فيه مناسبة أصلًا، لعدم الوقوف عليها بعد البحث التام، مع إِلْفِنَا من الشارع: أنه لا يلتفت إليه في حكم ما، كالطول والقصر، والسواد والبياض4، وكون المائع لا تبنى عليه القناطر.

_ 1 ومثل ذلك يقال في "المذي": فإنه متردد بين البول والمني. فمن قال بنجاسته قال: هو خارج من الفرج، لا يخلق منه الولد، ولا يجب به الغسل، أشبه البول، ومن قال بطهارته قال: هو خارج تحلّله الشهوة، ويخرج أمامها، أشبه المني. انظر: شرح الكوكب المنير "4/ 188". 2 قال الآمدي: "هو: ما اجتمع فيه مناطان لحكمين مختلفين، لا على سبيل الكمال، إلا أن أحدهما أغلب من الآخر"، الإحكام "3/ 427". وقال الطوفي: "هو: الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة ما" شرح المختصر "3/ 427". 3 أي: لتحريم الخمر، فيقاس عليها النبيذ، وهذا يسمى قياس العلة؛ لأنه قد علمت مناسبة الوصف للحكم، واعتبار الشرع له قطعًا، ومثل ذلك: مناسبة القتل للقصاص، والقطع للسرقة، وغير ذلك من الأوصاف المناسبة لأحكامها. 4 ومعنى ذلك: أنه لا يقال: إنما قتل القاتل، وقطع السارق، وحد الزاني لكونه أسود أو أبيض، أو لكونه طويلًا أو قصيرًا، لأننا وجدنا الشارع لا يلتفت إلى مثل هذه الأوصاف في تشريعاته، فلا علاقة بين الوصف والحكم، ولذلك أطلق عليه: "قياس الطرد".

وقسم ثالث -بين القسمين الأولين- وهو: ما يتوهم اشتماله على مصلحة الحكم، ويظن أنه مظنتها وقالبها من غير اطلاع على عين المصلحة، مع عهدنا، اعتبار الشارع له في بعض الأحكام، كالجمع بين مسح الرأس ومسح الخف في نفي التكرار، بوصف كونه مسحًا، والجمع بينه وبين الأعضاء المغسولة في التكرار، بكونه أصلًا في الطهارة، فهذا قياس الشبه. فالقسم الأول: قياس العلة، وهو صحيح. والقسام الثاني: باطل. والثالث: الشبه. وهو مختلف فيه. وكل قياس فهو مشتمل على شبه واطّراد. لكن قياس العلة عرف بأشبه صفاته وأقواها. وقياس الشبه كان أشرف صفاته المشابهة، فعرف به وكذلك القياس الطردي عرف بخاصيته، وهو: الاطراد؛ إذ لم يكن له ما يعرف به سواه. وكل وصف ظهر كونه مناطًا للحكم فاتباعه من قبيل قياس العلة، لا من قبيل قياس الشبه. واختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في قياس الشبه: فروي: أنه صحيح. والأخرى: أنه غير صحيح، اختارها القاضي2.

_ 1 ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1326" وانظر: الجدل لابن عقيل ص12، مختصر البعلي ص149، وشرح الكوكب المنير "4/ 190". 2 وكذلك الحنفية وأبو بكر الصيرفي، وأبو إسحاق المروزي، والشيرازي، أما أبو =

وللشافعي قولان كالروايتين1. [دليل القائلين بحجيته] ووجه كونه حجة: هو أنه يثير ظنًّا غالبًا يبنى على الاجتهاد، فيجب أن يكون متبعًا كالمناسب. فلا يخلو: إما أن يكون الحكم لغير مصلحة. أو لمصلحة في الوصف الشبهي. أو لمصلحة في ضمن الأوصاف الأخر. لا يجوز أن يكون لغير مصلحة، فإن حكم الشارع لا يخلو عن الحكمة. واحتمال كونه لمصلحة وعلى ظاهرة أرجح من احتمال التعبد واحتمال اشتمال الوصف الشبهي على المصلحة أغلب وأظهر من اشتمال الأوصاف الباقية عليها. فيغلب على الظن ثبوت الحكم به، فتعدى الحكم بتعديه2.

_ = بكر الباقلاني فيرى أنه صالح لأن يرجح به. انظر: فواتح الرحموت "2/ 302"، الوصول إلى الأصول "2/ 252"، شرح الكوكب المنير "4/ 191"، العدة "4/ 1326". 1 انظر الرسالة ص479. وفي شرح الكوكب المنير "4/ 191": "وقيل: إنما يحتج به في التعليل إذا كان في قياس فرع قد اجتذبه أصلان، فيلحق بأحدهما بغلبة الاشتباه ويسمونه: قياس غلبة الاشتباه". 2 خلاصة هذا الدليل: أن قياس المعنى، وهو القياس المبني على الوصف المناسب إنما كان حجة بسبب إفادته الظن الغالب المبني على الاجتهاد، فكذلك قياس =

.....................................................................................

_ = الشبه يفيد الظن الغالب، فيجب أن يكون حجة مثله. وهذا معنى قول المصنف "فيجب أن يكون متبعًا كالمناسب". وإنما كان حجة لأن الحكم الشرعي لا يخلو من عدة احتمالات، إما أن يكون لغير مصلحة، وهذا بعيد؛ لأن أحكام الشرع لا تخلو من حكمة، سواء علمناها أم لم نعلمها. وإما أن يكون لمصلحة في الوصف الشبهي ما دام ليس هناك وصف آخر، وإما أن يكون لمصلحة ضمن أوصاف أخر غير معتبرة، واحتمال كونه لمصلحة ظاهرة أرجح من كونه تعبدًا ومن الأوصاف الأخرى، فيجب تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع. أما النافون لحجية قياس الشبه: فتمسكوا بظاهر الآيات التي تنهي عن اتباع الظن مثل قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] . فهذه الآية وأمثالها تنفي العمل بالظن مطلقًَا، وأخرج من ذلك قياس المناسبة لأدلة أخرى رجحت العمل به، فيبقى قياس الشبه داخلًا تحت النهي عن العمل بالظن. وقد رد الطوفي هذا الاستدلال بأوجه كثيرة منها: عموم الأدلة التي تدل على مشروعية القياس ومنها قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وقياس الشبه نوع من أنوع الاعتبار. ومنها: دخوله في عموم حديث معاذ -رضى الله عنه- والذي جاء فيه "أجتهد رأيي" انظر في ذلك: شرح المختصر "3/ 433-434". وأقول إن الاستشهاد بالآيات التي تنهى عن اتباع الظن لا يصح الاستشهاد بها هنا؛ لأن المقصود منها: النهي عن اتباع الظن في الأحكام العقدية التي يطلب فيها اليقين، أما الأحكام العملية فالظن فيها كاف، وقد ثبت أن الرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عمل به في كثير من قضاياه، فقد روى مسلم -في صحيحه- عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار". [صحيح مسلم: كتاب الأفضية. جـ3 ص1337] .

فصل: في قياس الدلالة

فصل: في قياس الدلالة وهو: أن يجمع بين الفرع والأصل بدليل العلة، ليدل اشتراكهما فيه على اشتراكهما في العلة، فيلزم اشتراكهما في الحكم ظاهرًا1.

_ = قال الصاوي عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} "فتحصل: أن الأمور الاعتقادية كمعرفة الله -تعالى- ومعرفة الرسل وما أتوا به لا بد فيها من الجزم المطابق للحق عن دليل، ولا يكفي فيها الظن، وأما الأمور العملية كفروع الدين فيكفي فيها غلبة الظن". حاشية الصاوي على الجلالين "4/ 110". 1 القياس من حيث التأثير والمناسبة وعدمها ينقسم إلى المناسب والشبهي والطردي، وقد تقدم توضيح ذلك. ومن حيث التصريح بالعلة وعدمه ينقسم إلى قياس العلة، والقياس في معنى الأصل، وقياس الدلالة. فقياس العلة: هو الجمع بين الأصل والفرع بعلته، كالجمع بين النبيذ والخمر بعلة الإسكار. والقياس في معنى الأصل: هو الذي لا فارق فيه بين الأصل والفرع، أو كان بينهما فارق لا أثر له. مثل: قياس العبد على الأمة في تنصيف الحد. وقياس الدلالة: هو الجمع بين الأصل والفرع بدليل يدل على العلة، لا بالعلة نفسها. ودليل العلة قد يكون بلازم من لوازمها مثل: قياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة المشتدة، فهي لازمة للإسكار. وقد يكون بأثر من آثارها مثل أن يقال: القتل بالمثقل يوجب القصاص كالقتل بالمحدد، بجامع الإثم، وهو أثر العلة التي هي: القتل العمد العدوان. كما يكون بحكم العلة، مثل أن يقال: تقطع الجماعة بالواحد كما يقتلون به، بجامع وجوب الدية عليهم في ذلك، حيث كان غير =

ومثاله: قولنا، في جواز إجبار البكر: جاز تزويجها وهي ساكتة، فجاز وهي ساخطة كالصغيرة؛ فإن إباحة تزويجها مع السكوت، يدل على عدم اعتبار رضاها، إذ لو اعتبر، لاعتبر دليله وهو النطق. أما السكوت: فمحتمل متردد. وإذا لم يعتبر رضاها أبيح تزويجها حال السخط. وكذا قولنا، في منع إجبار العبد على النكاح: لا يجبر على إبقائه، فلا يجبر على ابتدائه كالحر، فإن عدم الإجبار على الإبقاء يدل على خلوص حقه في النكاح، وذلك يقتضي المنع من الإجبار في الابتداء.

_ = عمد. وترتيبها من حيث القوة كما مر: أعلاها: لازم العلة، ثم أثرها، ثم حكمها. وللعلماء في حجية قياس الدلالة مذهبان: أحدهما: أنه دليل وثانيهما: أنه ليس بدليل، وإنما يرجح به غيره، وهو الأصح عند الشيرازي انظر: اللمع ص289، المعونة في الجدل ص37، 38، شرح مختصر الروضة "3/ 436 وما بعدها".

باب: أركان القياس

باب: أركان القياس مدخل ... باب: أركان القياس وهي أربعة: أصل، وفرع، وعلة، وحكم1.

_ 1 الركن في اللغة: الجانب الأقوى للشيء. يقال: أركان الكعبة، وأركان البيت، أي: الجانب الأقوى من الكعبة والبيت، ومن ذلك: أركان الإسلام، أي: أهم القواعد والأسس التي بني عليها الإسلام، كما جاء ذلك في الحديث الشريف. ومنه قوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] . وفي المصباح المنير "1/ 313": "أركان الشيء: أجزاء ماهيته التي لا توجد إلا بوجوده". وجمهور العلماء على أن أركان القياس التي لا يحصل في الذهن والخارج إلا بها أربعة: الأصل المقيس عليه، والفرع المقيس، والعلة الجامعة بين الأصل والفرع، وحكم الأصل، ولم يذكروا من أركان القياس حكم الفرع؛ لأنه ثمرة القياس، وثمرة الشيء لا يصح أن تكون من أركانه؛ لأن ذلك يعتبر دورًا، حيث يتوقف صحة القياس عليه، بينما هو ثمرة القياس، على أن حكم الأصل هو حكم الفرع الذي نقلناه من الأصل إلى الفرع، وإن كان غيره باعتبار المحل. وذهب بعض العلماء إلى جعل حكم الفرع ركنًا من أركان القياس، وليس ثمرة له، كما يقول الجمهور، بل إن ثمرة القياس: هي العلم بحكم الفرع، وهذا يتفق مع رأي القائلين بأن القياس ليس مثبتًا لحكم الفرع، وإنما هو كاشف ومظهر لحكم الفرع. انظر في هذه المسألة: كشف الأسرار على أصول البزدوي "3/ 344"، نهاية السول على المنهاج وحاشية الشيخ بخيت "4/ 53"، الإحكام للآمدي "3/ 6".

فصل: [الركن الأول: الأصل وشروطه]

فصل: [الركن الأول: الأصل وشروطه] فالأول له شرطان: أحدهما: أن يكون ثابتًا بنص، أو اتفاق من الخصمين1. فإن كان مختلفًا فيه، ولا نص فيه: لم يصح التمسك به، لأنه ليس بناء أحدهما على الآخر بأولى من العكس. ولو أراد إثبات حكم الأصل بالقياس على محل آخر لم يجز، فإن العلة التي يجمع بها بين الأصل الثاني والأول، إن كانت موجودة في الفرع: فليقس على هذا الأصل الثاني ويكفيه، فذكر الأول تطويل غير مفيد، فليصطلح على رده. وإن كان الجامع بين الأصلين غير موجود في الفرع: لم يصح قياسه على الأصل الأول؛ لأنه قد تبين ثبوت حكمه بعلة غير موجودة في الفرع، ومن شرط القياس: التساوي في العلة2.

_ 1 مثال الأصل الثابت بالنص: وجوب غسل الإناء من ولوغ الخنزير قياسًا على وجوب غسله من ولوغ الكلب الثابت بالحديث: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات". ومثال اتفاق الخصمين على الأصل: قياس النبيذ على الخمر، والأرز على البر. وإنما اشترط ثبوت الأصل بالنص؛ لأنه يلحق به الفرع، ويبنى عليه، وما لا ثبوت له لا يتصور بناء غيره عليه. وأما اشتراط كونه متفقًا عليه؛ فلأنه إذا كان مختلفًا فيه كان من حق الخصم أن ينازع في القياس بعدم التسليم بحكم الأصل. وقد علل المصنف لشرط كون الأصل ثابتًا بالنص أو متفقًا عليه بقوله: "فإن كان مختلفًا فيه إلخ" ومعناه: أن الذي ليس منصوصًا ولا متفقًا عليه لا يصح التمسك به لعدم أولويته، فكونه أصلًا يقاس عليه ليس بأولى من أن يكون فرعًا. 2 خلاصة ذلك: أن جمهور العلماء يشترطون ألا يكون الأصل المقيس عليه فرعًا لأصل آخر؛ لأن العلة الجامعة بين القياسين إن كانت واحدة كان ذكر الأصل =

ولا يمكن تعليل الحكم في الأصل الأول بغير ما علله به في قياسه إياه على الأصل الثاني، فإنه إنما يعرف كون الجامع علة بشهادة الأصل له، واعتبار الشرع له بإثبات الحكم على وفقه. ولا يعرف اعتبار الشرع للوصف إلا أن يقترن الحكم به عريًا عما يصلح أن يكون علة، أو جزءًا من أجزائها، فإنه متى اقترن بوصفين يصلح التعليل بهما مجتمعين، أو بكل واحد منهما منفردًا، احتمل أن يكون ثبوت الحكم بهما جميعًا، أو بأحدهما غير معين، فالتعيين تحكم. ولذلك كانت المعارضة في الأصل سؤالًا صحيحًا1.

_ = الثاني تطويلًا بلا فائدة، مثل: قياس الذرة على الأرز المقيس على البر. وإن لم تكن العلة واحدة بين الأصل المنصوص عليه والأصل الثاني، كان القياس فاسدًا. 1 هذا تابع لدليل الجمهور في عدم جواز كون الأصل المقيس عليه ثابتًا بالقياس. ومعناه: أنه لا يمكن تعليل الحكم في الأصل الأول بغير العلة التي جمعت بينه وبين الأصل الثاني؛ لأن الطريق الذي عرف به كون ذلك الجامع هو العلة: هو شهادة الأصل الأول، واعتبار الشرع له بإثبات الحكم على وفق ذلك الوصف، واقتران الحكم بذلك الوصف دليل على عدم وصف آخر يمكن أن يعلل به. فإن اقترن الحكم بوصفين كل منهما صالح للتعليل منفردًا أو مجتمعًا مع غيره، فهذا يحتمل أمرين. أحدهما: أنه معلل بهما جميعًا. ثانيهما: أنه معلل بواحد منهما، لكنه غير معين. وإذا احتمل الأمرين بالتساوي، فلا يمكن تعيين أحدهما بعينه؛ لأنه يكون ترجيحًا بلا مرجح. ولذلك: إذا عارض الخصم في الأصل الذي قاس عليه المستدل، كان هذا سؤالًا صحيحًا يعترض به على القياس. وسيأتي بيان ذلك في الأسئلة المتوجهة إلى القياس.

وقال بعض أصحابنا: يجوز القياس على ما ثبت بالقياس؛ لأنه لما ثبت صار أصلًا في نفسه، فجاز القياس عليه كالمنصوص. ولعله أراد: ما ثبت بالقياس، واتفق عليه الخصمان1. وقال قوم: من شرطه: أن يكون متفقًا عليه بين الأمة2، فإنه إذا لم يكن مجمعًا عليه فللخصم أن يعلل الحكم في الأصل بمعنى مختص به لا يتعدى إلى الفرع.

_ 1 هذا هو المذهب الثاني في المسألة، وهو: أنه يجوز القياس على ما ثبت بالقياس؛ لما قاله المصنف، من أنه لما ثبت صار أصلًا في نفسه، فجاز القياس عليه كالمنصوص. ولما كان المصنف لا يرى ذلك، كما سيأتي فقد حاول أن يوجد له مخرجًا فقال: "ولعله أراد ما ثبت بالقياس واتفق عليه الخصمان" فإن القياس حينئذ يكون صحيحًا جدلًا؛ لأنه يشترط في القياس أن يكون حكم الأصل ثابتًا بنص أو اتفاق الخصمين، وقد حصل الثاني. وتأويل المصنف هذا محل نظر؛ فإنه إن أراد توضيح مذهبه فذلك له، وإن أراد أن هذا هو رأي القائلين بذلك فهذا غير مسلم؛ لأن أصحاب هذا المذهب لم يصرحوا بشيء من ذلك. جاء في العدة "4/ 1361": "ما ثبت بالقياس يجوز القياس عليه، مثل: حمل الذرة على الأرز. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث: "لا بأس بدفع الثوب إلى من يعمله بالثلث والربع كالمزارعة". قال في رواية المروذي: "لا يجوز بيع أرض السواد، ويجوز شراؤها كالمصاحف" فقد قاس الفرع على أصل مختلف فيه. وهو قول الرازي والجرجاني من أصحاب أبي حنيفة. وقول أصحاب الشافعي". ومثل ذلك جاء في التمهيد لأبي الخطاب "3/ 443" وابن النجار في شرح الكوكب المنير "4/ 26" فهو مذهب مستقل وليس داخلًا في المذهب الأول. 2 هذا هو المذهب الثالث الذي يشترط أن يكون الأصل مجمعًا عليه، وخلاصة =

.........................................................................

_ = دليل هذا المذهب: أن الأصل إذا لم يكن مجمعًا عليه جاز للمعترض أن يعلل الحكم في الأصل بعلة قاصرة لا تتعدى إلى الفرع. فإن وافقه المستدل على ذلك انقطع القياس وبطل، لعدم وجود العلة في الفرع. وهذا معنى قول المصنف: "فإن ساعده ... إلخ". وإن لم يوافقه على ذلك، بل علل بعلة أخرى متعدية بطل القياس أيضًا؛ لأن المعترض قد منع أن يكون ذلك الشيء علة للأصل، وبيّن أنه لا يوافق على أن هذه هي العلة، بل هي العلة التي لا تتعدى إلى الفرع، ويسمى ذلك بالقياس المركب. والقياس المركب نوعان: مركب الأصل، ومركب الوصف. أما مركب الأصل: فهو أن يتفق الخصمان على حكم الأصل وعلى كون الوصف المدعى أنه علة موجودًا فيه، ولكن كل واحد منهما يدعي له علة غير علة الآخر، كالاتفاق على تحريم الربا في البر، وعلى وجود وصف الكيل والطعم فيه، مع اختلافهم في العلة، هل هي الكيل أو الطعم؟ أما مركب الوصف: فهو أن يتفق الخصمان على حكم الأصل، ولكن المعترض يدعي عدم وجود العلة التي يدعيها المستدل. انظر: مذكرة الشيخ الشنقيطي ص273-274. وقد مثل المصنف للقياس المركب الأصل بقياس العبد على المكاتب في عدم قتل الحر به قصاصًا، فيقال: العبد منقوص بالرق، فلا يقتل به الحر كالمكاتب فيقول المعترض: العبد يعلم مستحق دمه، وهو السيد بخلاف المكاتب فإنه لا يعلم مستحق دمه، هل وارثه، أو سيده الذي كاتبه؟ لأنه بالكتابة صار فيه شيئًا بين الحرية والرق، فإن أدّى عتق، ويكون مستحق دمه وارثه، كسائر الأحرار، وإن لم يؤد عاد رقيقًا، ويكون مستحق دمه سيده، كسائر العبيد. فإن سلّم المستدل أن العلة في المكاتب هي عدم العلم بمستحق دمه -كما قال المعترض- امتنع قياس العبد عليه؛ لأن مستحق دمه معلوم. وإن لم يسلّم أن العلة هي عدم العلم بمستحق دمه، بل هي نقص الرق، منع المعترض أن ذلك هو العلة في المكاتب، بل هي ما ذكره، أو منع الحكم فيه فيقول: سلّمتُ أن العلة =

فإن ساعده المستدل على التعليل به: انقطع القياس؛ لعدم المعنى في الفرع. وإن لم يساعده: منع الحكم في الأصل، فبطل القياس. وسمّوه: القياس المركب. ومثاله: قياسنا العبد على المكاتب فنقول: العبد منقوص بالرق، فلا يقتل به الحر كالمكاتب. فيقول المخالف: العلة في المكاتب: أنه لا يُعلم هل المستحق لدمه الوارث، أو السيد؟ فإن سلمتم ذلك: امتنع قياس العبد عليه؛ لأن مستحقه معلوم. وإن منعتم: منعنا الحكم في المكاتب، فذهب الأصل، فبطل القياس. وهذا لا يصح لوجهين. أحدهما: أن كل واحد من المتناظرين مقلِّد، فليس له منع حكم ثبت مذهبًا لإمامه؛ لعجزه عن تقريره، فإنه لا يتيقن مأخذ إمامه في الحكم. ولو عرف ذلك فلا يلزم من عجزه عن تقريره فساده، إذ من المحتمل أن يكون لقصوره؛ فإن إمامه أكمل منه، وقد اعتقد صحته. ويحتمل: أن إمامه لم يثبت الحكم في الفرع؛ لوجود مانع عنده، أو لفوات شرط. فلا يجوز له منع حكم ثبت يقينًا؛ بناء على فساد مأخذه احتمالًا.

_ = في المكاتب: نقص الرق، لكن لا أسلم امتناع القصاص بينه وبين الحر فالأمر دائر بين منع العلة في المكاتب أو منع الحكم. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 295-296".

وحاصل هذا: أنه لا يخلو: إما أن يمنع على مذهب إمامه، أو على خلافه. فالأول باطل، لعلمنا أنه على خلافه. والثاني باطل؛ فإنه تصدى لتقرير مذهبه، فتجب مؤاخذته به. ثم لو صح هذا: لما تمكن أحد الخصمين من إلزام خصمه حكمًا على مذهبه غير مجمع عليه؛ لأنه لا يعجز عن منعه1. الثاني: أنا لو حصرنا القياس في أصل مجمع عليه بين الأمة: أفضى إلى خلو كثير من الوقائع عن الأحكام، لقلة القواطع، وندرة مثل هذا القياس2.

_ 1 سبق أن قلنا: إن المصنف يرى أنه يكفي أن يكون حكم الأصل منصوصًا أو مجمعًا عليه بين الخصمين. المذهب الثاني: عدم اشتراط ذلك، والمذهب الثالث: يشترط اتفاق الأمة ولا يكفي اتفاق الخصمين وأورد المصنف دليلهم على ذلك، ثم بين هنا أن ذلك لا يصح لوجهين: خلاصة الوجه الأول: أن كلًّا من المستدل والمعترض مقلد لإمامه، فلا يجوز لأي واحد منهما منع حكم ثبت كونه مذهبًا لإمامه، لعدم معرفة كل من المستدل والمعترض مأخذ إمامه في إثبات الحكم. ولو فرض أن أحدهما -المستدل أو المعترض- عرف مأخذ إمامه، فلا يلزم من عجز أحدهما عن تقرير مذهب إمامه فساد مذهبه، لاحتمال قصور المستدل أو المعترض، خاصة وأن المقلد يعتقد صحة مذهب إمامه، كما يحتمل أن يكون إمامه لم يثبت الحكم في الفرع لوجود مانع، أو فقدان شرط من الشروط. ولم يتعرض المصنف لحالة ما إذا كان المعترض مجتهدًا فإنه يشترط الإجماع؛ لأنه ليس مقتديًا بإمام، فإذا لم يكن الحكم مجمعًا عليه ولا منصوصًا عليه جاز منعه. انظر: إرشاد الفحول جـ2 ص153-154. 2 هذا هو الوجه الثاني من الوجهين اللذين رد بهما المصنف على من اشترط اتفاق الأمة. وهو واضح.

فإن كان الحكم منصوصًا عليه: جاز الاستناد إليه في القياس وإن كان مختلفًا فيه بين الخصمين، بشرط أن يكون النص غير متناول للفرع، فإنه إذا كان متناولًا للفرع: كان منصوصًا عليه، فلا يستروح1 إلى القياس على وجه لا يجد بُدًّا من الاسترواح إلى النص، فيكون تطويل طريق بغير فائدة، فليصطلح على رده. وقال قوم: لا يجوز القياس على المختلف فيه بحال؛ لأنه يفضي إلى نقل الكلام من مسألة إلى مسألة، وبناء الخلاف على الخلاف، وليس أحدهما أولى من الآخر2. ولنا: أن حكم الأصل أحد أركان الدليل، فيجب أن يتمكن من إثباته بالدليل، كبقية أركانه؛ فإنه ليس من شرط ما يُفتقر إليه في إثبات الحكم: أن يكون متفقًا عليه، بل يكفي أن يكون ثابتًا بدليل يغلب على الظن، فيجب أن يكتفي بذلك في الأصل؛ إذ الفرق تحكّم.

_ 1 في القاموس المحيط "مادة روح": "استروح: وجد الراحة، كاستراح". 3 خلاصة ذلك: أن حكم الأصل إذا كان منصوصًا عليه، واختلف الخصمان فيه، هل يصبح الاستناد إليه أولًا؟ حكى المصنف في ذلك مذهبين: الأول: جواز ذلك وعدم الاعتداد بخلاف المعارض، بشرط عدم تناول النص للفرع، فإنه إذا كان متناولًا له فلا معنى للقياس مع إمكان الرجوع إلى النص، فإنه يكون تطويلًا بدون فائدة. المذهب الثاني: عدم جواز القياس على أصل مختلف فيه؛ لأنه يؤدي إلى نقل الكلام من مسألة إلى مسألة أخرى، لأن كلًّا منهما يمنع ثبوت ذلك الأصل بذلك النص، وهكذا ينتقل الكلام من مسألة إلى مسألة، كما قال المصنف.

وإنا منعنا من إثباته بالقياس، لما ذكرناه ابتداء. فأما إذا أمكن إثبات ذلك بنص، أو إجماع منقول عن أهل العصر الأول: فيكون كافيًا1. الشرط الثاني2: أن يكون الحكم معقول المعنى، إذ القياس إنما هو: تعدية الحكم من محل إلى محل بواسطة تعدي المقتضى. وما لا يعقل معناه، كأوقات الصلوات، وعدد الركعات، لا يتوقف فيه على المعنى المقتضى، ولا يعلم تعديه، فلا يمكن تعدية الحكم فيه.

_ 1 هذا دليل لأصحاب المذهب الأول، القائلين بجواز القياس على الأصل المختلف فيه إذا كان منصوصًا عليه، فإن إثبات حكم الأصل ليس من شرطه الاتفاق بين الخصمين، بل يكفي قيام الدليل الذي يغلب على ظن المجتهد. فإن اعترض أحد فقال: لم لا تجوزون القياس على ما ثبت بالقياس، مع أنه يفيد غلبة الظن؟ فالجواب: ما تقدم من أن العلة إن كانت واحدة فليقس على الأصل الأول، وإن كانت مختلفة فلا يصح القياس. 2 من شروط الأصل.

فصل: الركن الثاني: الحكم. [وشروطه]

فصل: الركن الثاني: الحكم. [وشروطه] ... الركن الثاني: الحكم. [وشروطه] : وله شرطان: أحدهما: أن يكون حكم الفرع مساويًا لحكم الأصل، كقياس البيع على النكاح في الصحة1 والزنا على الشرب في التحريم، والصلاة على الصوم في الوجوب. فإن حقائق هذه الأحكام لا تختلف باختلاف متعلقها2، والسبب يقتضي الحكم، لإفضائه إلى حكمته.

_ 1 كما يقال في بيع الغائب: عقد على غائب فصح، قياسًا على عقد النكاح. 2 أي: أن حقائق هذه الأحكام من الصحة والحرمة والوجوب كما هي ثابتة في =

فإذا كان حكم الفرع مثل حكم الأصل تأدي به من الحكمة مثل ما تأدي بحكم الأصل، فيجب أن يثبت. أما إذا كان مخالفًا له فلا يصح قياسه عليه؛ لأن ما يتأدى به من الحكمة مخالفًا لما يتأدى بحكم الأصل إما بزيادة، وإما بنقصان1. فإذا كانت أنقص: فإثبات الحكم في الأصل يدل على اعتبارها بصفة الكمال، فلا يلزم اعتبارها بصفة النقصان. وإن كانت الحكمة في الفرع أكثر: فعدول الشرع عنه إلى حكم الأصل يدل على أن في تعيينه مزيد فائدة أوجبت تعيينه، أو على وجود مانع منع ثبوت حكم الفرع، فكيف يصح قياسه عليه؟ ولأن2 القياس: تعدية الحكم بتعدي علته، فإذا أثبت في الفرع غير حكم الأصل: لم يكن ذلك تعدية، بل ابتداء حكم. وقولهم، في السلم: "بلغ بأحد عوضيه أقصى مراتب الأعيان، فليبلغ بالآخر أقصى مراتب الديون، قياسًا لأحدهما على الآخر"3.

_ = الأصل ثابتة في الفرع على التساوي، ولا تختلف، وإنما الذي اختلف هو المحل الذي تعلقت به. 1 كما لو قسنا الوجوب على الندب أو العكس، فإن الحكمة في الوجوب أكمل منها في الندب. 2 هذا هو الدليل الثاني على شرط المساواة بين حكم الأصل والفرع، وما سبق هو الدليل الأول. 3 توضيح هذا المثال: أنه لا يجوز قياس إثبات الأجل في العين المسلم فيها على نفي الأجل في الثمن؛ لأنه قياس إثبات على نفي؛ لأن من شرط السلم: تسليم الثمن في مجلس العقد، بينما المثمن مؤجل. فلا يصح القياس، لاختلاف الحكم في الأصل والفرع.

ليس بقياس، إذ القياس: تعدية الحكم وتوسعة مجراه، فكيف تختلف التعدية، وهذا إثبات ضده؟ وكذلك لو أثبت في الأصل حكمًا، ولم يمكنه إثباته في الفرع إلا بزيادة أو نقصان: فهو باطل؛ لأنه ليس على صورة التعدية. مثاله: قولهم في صلاة الكسوف: "يشرع فيها ركوع زائد؛ لأنها صلاة شرعت لها الجماعة، فتختص بزيادة، كصلاة الجمعة، تختص بالخطبة، وصلاة العيد تختص بالتكبيرات". وهذا فاسد؛ لأنه لم يتمكن من تعدية الحكم على وجهه وتفصيله1. الشرط الثاني: أن يكون الحكم شرعيًّا. فإن كان عقليًّا، أو من المسائل الأصولية، لم يثبت بالقياس؛ لأنها قطعية لا تثبت بأمور ظنية. وكذلك لو أراد إثبات أصل القياس، وأصل خبر الواحد بالقياس: لم يجز، لما ذكرناه3.

_ 1 وهذه صورة أخرى اختلف فيها حكم الفرع مع حكم الأصل بنوع من الزيادة، كما في قياس صلاة الكسوف على صلاة الجمعة وصلاة العيدين، بجامع أن كلا منها فيها زيادة على نفس الصلاة. فهذا غير جائز، لأن القائس لم يستطع من تعدية حكم الأصل للفرع على وجه الكمال والتفصيل. 2 المراد بكونه شرعيًّا: أن يكون من الفروع لا من الأصول، بدليل قوله، بعد ذلك: "فإن كان عقليًّا، أو من المسائل الأصولية. إلخ". 3 في شروط الأصل، حيث قال في شروطه: "أن يكون ثابتًا بنص أو اتفاق من الخصمين ... ثم قال: ولو أراد إثبات حكم الأصل بالقياس على محل آخر لم يجز ... ".

فإن كان لغويًّا: ففي إثباته بالقياس خلاف ذكرناه فيما مضى1.

_ 1 في مسألة: هل تثبت اللغة بالقياس أو لا؟

فصل: الركن الثالث: الفرع [وشروطه]

فصل: الركن الثالث: الفرع [وشروطه] ... الركن الثالث: الفرع [وشروطه] ويشترط فيه: أن تكون علة الأصل موجودة فيه، فإن تعدية الحكم فرع تعدي العلة. واشترط قوم: تقدم الأصل على الفرع في الثبوت؛ لأن الحكم يحدث بحدوث العلة، فكيف تتأخر عنه؟! والصحيح: أن ذلك يشترط لقياس العلة، ولا يشترط لقياس الدلالة. بل يجوز قياس الوضوء على التيمم2 مع تأخره عنه؛ فإن الدليل يجوز تأخره عن المدلول؛ فإن حدوث العالم دليل على الصانع القديم، وأن الدخان دليل على النار، والأثر دليل على المؤثر3. ولا يشترط أيضًا أن يكون وجود العلة مقطوعًا به في الفرع، بل يكفي فيه غلبة الظن، فإن الظن كالقطع في الشرعيات.

_ 1 في مسألة: هل تثبت اللغة بالقياس أو لا؟ 2 في اشتراط النية، فمن المعلوم أن مشروعية التيمم متأخرة عن الوضوء. 3 انظر: شرح المحلى على جمع الجوامع وحاشية البناني "2/ 188".

فصل: الركن الرابع: العلة

فصل: الركن الرابع: العلة ... الركن الرابع: العلة: ومعنى العلة الشرعية: العلامة1.

_ 1 هذا هو تعريف الجمهور للعلة وهو: أنها مجرد أمارة على وجود الحكم إن وجدت وجد الحكم، وإن انتفت انتفى، وهذا معنى قولهم: الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. =

ويجوز أن تكون حكمًا شرعيًّا، كقولنا: "يحرم بيع الخمر فلا يصح بيعه كالميتة". وتكون وصفًا عارضًا، كالشدة في الخمر، ولازمًا كالصغر والنقدية1، أو من أفعال المكلفين2. كالقتل والسرقة، ووصفًا مجردًا، أو مركبًا من أوصاف كثيرة، ولا ينحصر ذلك في خمسة أوصاف. وتكون نفيًا، وإثباتًا. وتكون مناسبًا وغير مناسب. ويجوز أن لا تكون العلة موجودة في محل الحكم، كتحريم نكاح الأمة، لعلة رق الولد. وتفارق العلة الشرعية العقلية في هذه الأوصاف. فصل: [من شرط العلة: أن تكون متعدية] قال أصحابنا: من شرط صحة العلة: أن تكون متعدية3.

_ = وللعلماء في تعريف العلة اتجاهات مختلفة: فعرفها الغزالي وغيره بأنها: المؤثر في الحكم بجعل الله تعالى: بينما عرفها المعتزلة بأنها: المؤثر في الحكم بذاتها، لا بجعل الله تعالى، تمشيًا مع مذهبهم في الحسن والقبح والعقليين. تراجع هذه التعريفات في: الإبهاج مع الإسنوي "3/ 28"، المحلى على جمع الجوامع "2/ 243". 1 أي: كالولاية على الصغيرة وإجبارها على النكاح والتعدية في تحريم الربا في الذهب والفضة. 2 أي: تكون العلة فعلًا من أفعال المكلفين، كالقتل فإنه علة للقصاص، والسرقة فإنها علة للقطع وهكذا. 3 وهو مذهب جمهور العلماء. ومعناه: أن تكون العلة وصفًا يمكن أن يتحقق في =

فإن كانت قاصرة على محلها، كتعليل الربا في الأثمان بالثمنية لم يصح، وهو قول الحنفية1، لثلاثة أوجه:

_ = عدة أفراد في غير الأصل المقيس عليه؛ لأن الغرض من تعليل الحكم في الأصل تعديته إلى الفرع. 1 محل الخلاف في العلة القاصرة المستنبطة، أما العلة المنصوصة أو المجمع عليها فلا خلاف في صحتها. وللعلماء في العلة القاصرة المستنبطة مذهبان: المذهب الأول: عدم صحة التعليل بالعلة القصارة، وهو مذهب أكثر الحنابلة، ورواية عن الإمام أحمد، كما أنه مذهب أكثر الحنفية وبعض أصحاب الشافعي، وبعض المعتزلة. وقد استدل المصنف لذلك بثلاثة أدلة سيأتي ذكرها. المذهب الثاني: صحة التعليل بالعلة القاصرة المستنبطة، وهو مذهب الإمام الشافعي وأكثر أصحابه، والإمام أحمد وبعض أصحابه، كأبي الخطاب. كما أنه مذهب المالكية وأكثر المعتزلة وبعض الحنفية. وقد مثل المصنف للعلة القاصرة بالثمنية في الذهب والفضة، أي: كونها- في الأصل- أثمان الأشياء. فمن رأى عدم التعليل بالعلة القاصرة لم يلحق بالذهب والفضة سائر الأوراق النقدية التي تقوم مقامها في العصر الحاضر؛ لأنها علة قاصرة لا تتعدى محلها. ومن قال بصحة التعليل قاس عليهما ما يقوم مقامهما في تقويم الأشياء ووسيلة إلى التعامل بين الناس. والأثر المترتب على اعتبار هذه العلة أو عدم اعتبارها: أن من اعتبرها أجرى على كل ما يقوم مقام الذهب والفضة ما يجري عليهما، من أحكام ربا الفضل والنسيئة وغير ذلك من الأحكام الفقهية، ومن لم يعتبرها حجة لم يقس على الذهب والفضة سائر العملات. ونظرًا لأهمية هذا الموضوع، فقد بحثه المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة المنعقدة عام 1402هـ وأصدر بشأنه القرار التالي: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد وآله =

................................................................................

_ = وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع على البحث المقدم إليه في موضوع العلة الورقية، وأحكامها من الناحية الشرعية، وبعد المناقشة والمداولة بين أعضائه قرر ما يلي: أولًا: أنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقول عند فقهاء الشريعة. وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل. وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنًا، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تقوّم الأشياء في هذا العصر، لاختفاء التعامل بالذهب والفضة وتطمئن النفوس بتموّلها وادخارها، ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وهو حصول الثقة بها، كوسيط في التداول والتبادل، وذلك هو سر مناطها بالثمنية. وحيث أن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهي متحققة في العملة الورقية، لذلك كله؛ فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر أن العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه: فضلًا ونسيئًا، كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تمامًا، باعتبار الثمنية في العملة الورقية، قياسًا عليهما. وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها. ثانيًا: يعتبر الورق النقدي قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلًا ونسيئًا، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب =

أحدها: أن علل الشرع أمارات، والقاصرة ليست أمارة على شيء1.

_ = والفضة وفي غيرها من الأثمان. وهذا كله يقتضي ما يلي: أ- لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقًا، فلا يجوز مثلًا بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلًا نسيئة بدون تقابض. ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلًا، سواء كان ذلك نسيئه أو يدًا بيد، فلا يجوز مثلًا بيع عشرة ريالات سعودية ورقًا بأحد عشر ريالًا سعودية ورقا، نسيئة أو يدًا بيد. جـ- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان يدًا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية، بريال سعودي ورقًا كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة ريالات سعودية أو أقل من ذلك أو أكثر إذا كان يدًا بيد، ومثل ذلك -في الجواز- بيع الريال السعودي الفضة، بثلاثة ريالات سعودية ورق، أو أقل من ذلك أو أكثر، يدًا بيد، لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة. ثالثًا: وجوب زكاة الأوراق النقدية، إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة. [ومعلوم أن نصاب الذهب عشرون دينارًا، والفضة مائتا درهم] . رابعًا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم، والشركات. والله أعلم، وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وعلى ذلك يكون مجلس المجمع الفقهي قد رجح مذهب القائلين بصحة التعليل بالعلة القاصرة، كما هو واضح. يراجع قرار المجمع في مجلة المجمع الفقهي السنة الأولى. العدد الأول 1408هـ-1987م ص117-119. 1 هذا هو الدليل الأول للقائلين بعدم التعليل بالعلة القاصر، خلاصته: أن علل =

الثاني: أن الأصل أن لا يعمل بالظن؛ لأنه جهل ورجم بالظن، وإنما جوز في العلة المتعدية، ضرورة العمل بها، والعلة القاصرة لا عمل بها، فتبقى على الأصل. الثالث: أن القاصرة لا فائدة فيها1، وما لا فائدة فيه لا يرد الشرع به2. دليل المقدمة الأولى: أن فائدة العلة: تعدية الحكم، والقاصرة لا تتعدى. ودليل أن فائدتها التعدي: أن الحكم ثابت في محل النص بالنص، لكونه مقطوعًا به، والقياس مظنون، ولا يثبت المقطوع بالمظنون. إذا ثبت هذا: تعين اعتبارها في غير محل النص، والقاصرة لا يمكن فيها ذلك. فإن قيل: فلو لم يكن الحكم مضافًا إلى العلة في محل النص، لما تعدى الحكم بتعديها. ولا تنحصر الفائدة في التعدي، بل في التعليل فائدتان سواه. إحداهما: معرفة حكمة الحكم، لاستمالة القلب إلى الطمأنينة، والقبول بالطبع، والمسارعة إلى التصديق. والثانية: قصر الحكم على محلها، إذ معرفة خلو المحل عن الحكم يفيد ثبوت ضده، وذلك فائدة3.

_ = الشرع أمارات، أي: علامات على الحكم، والعلة القاصرة ليست أمارة على شيء؛ لأن الحكم في الأصل ثبت بالنص، فيكون التعليل بالعلة القاصرة خاليًا عن الفائدة. 1 لعدم تعديها، كما قلنا في الدليل الأول. 2 أي: وما دامت العلة القاصرة لا فائدة فيها، فلا يرد بها الشرع. 3 هذا اعتراض على الوجه الثالث أورده القائلون بجواز التعليل بالعلة القاصرة، =

قلنا: قولكم: "الحكم يتعدى" مجاز يتعارفه الفقهاء، فإن الحكم لو تعدى: لخلا عنه المحل الأول. والتحقيق فيه: أنه لا يتعدى، وإنما معناه: أنه متى وجد في محل آخر مثل تلك العلة: ثبت مثل ذلك الحكم. وظنُّنَا: أن باعث الشرع على الحكم كذا، لا يوجب إضافة الحكم في الثبوت إليه، إذ لو كان مضافًا إليه لكان على وفقه في القطع والظن؛ إذ لا يثبت بالظن شيء مقطوع به. وامتناع إضافة الحكم إلى العلة في محل النص لا لقصورها، بل لأن ثمَّ دليلًا أقوى منها، ففي غير محل النص يضاف إليها؛ لصلاحيتها، وخلوها عن المعارض1. وقولكم: "فائدة التعليل: الاطلاع على حكمة الحكم ومصلحته". قلنا: نحن لا نسد هذا الباب، لكن ليس كل معنى استنبط من النص.

_ = وهو مكون من وجهين. الأول: أنه لو لم يكن الحكم مضافًا إلى العلة في محل النص لما تعدى إلى الفرع بتعديها. الثاني: عدم التسليم بأن فائدة العلة منحصرة فيما ذكر، بل لها فائدتان سوى ما ذكر، هما ما ذكرهما المصنف. 1 أجاب المصنف عن الوجه الأول من الاعتراض بأن لفظ "يتعدى" مجاز اصطلح عليه العلماء؛ لأنه إذا تعدى وانتقل حقيقة لخلا الأصل عن الحكم، وإنما معناه: أنه متى وجد الوصف في محل آخر أعطيناه حكمًا مماثلًا لما ثبت في الأصل وكوننا ظننا أن الباعث على الحكم كذا، لا يوجب ثبوت الحكم إليه؛ لأنه مجرد ظن، ولا يثبت بالظن شيء مقطوع به، وعدم إضافة الحكم إلى العلة في محل النص لا لقصورها؛ بل لأنه وجد ما هو أقوى منها وهو النص.

علة، إنما العلة: معنى تعلق الحكم به في موضع، والقاصرة ليست كذلك1. وقولهم: "فائدته: قصر الحكم على محلها". قلنا: هذا يحصل بدون هذه العلة إذا لم يكن الحكم معللًا، قصرناه على محله2. وقال أصحاب الشافعي: يصح التعليل بها. وهو قول بعض المتكلمين، واختاره أبو الخطاب3 لثلاثة أوجه: أحدها: أن التعدية فرع صحة العلة، فلا يجوز أن تكون شرطًا، فإنه يفضي إلى اشتراط تقدم ما يشترط تأخره. وذلك أن الناظر ينظر في استنباط العلة، وإقامة الدليل على صحتها بالإيماء والمناسبة، أو تضمن المصلحة المبهمة، ثم ينظر فيها: فإن كانت أعم من النص عدّاها، وإلا اقتصر. فالتعدية فرع الصحة، فكيف يجوز أن تكون من جملة المصحح4.

_ 1 هذا رد على قولهم في الاعتراض السابق: "إن فائدة العلة القاصرة: بيان أن الحكم الشرعي مطابق وموافق لحكمة الحكم الشرعي. فأجاب المصنف: بأن هذا مسلم به، لكن الذي لا نسلم به أنه ليس كل معنى يمكن استنباطه من النص يصلح أن يكون علة؛ لأن العلة هي معنى يتعلق به الحكم وجودًا وعدمًا، والقاصرة ليست كذلك. 2 هذا رد من المصنف على قولهم في الاعتراض السابق: إن العلة القاصرة تفيد قصر الحكم على محلها، ولا يتعداه إلى غيره. فأجاب المصنف: بأن هذا يحصل إذا لم يكن الحكم معللًا، أما إذا كان معللًا، فلا نقصره على محله. 3 راجع في ذلك: البرهان "2/ 1080"، التمهيد لأبي الخطاب "4/ 62". 4 خلاصة الدليل الأول لأصحاب هذا المذهب: أنه لو اشترط كونها متعدية لأدى =

الثاني: أن التعدية ليست شرطًا في العلة المنصوص عليها، ولا في العقلية، وهما آكد، فكذلك المستنبطة1.

_ = ذلك إلى الدور، لتوقف كونها علة على كونها متعدية، وكونها متعدية متوقف على كونها علة، والدور باطل، فالمفضي إليه باطل أيضًا، فلا يجوز تعليل عليتها بكونها متعدية، فيجوز اعتبارها مع كونها قاصرة. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 319". وقول المصنف: "إن الناظر ينظر في استنباط العلة إلخ" معناه: أن القائس يقيم الدليل على صحة العلة بطريق من طرق إثبات العلة: من الإيماء أو المناسبة أو تضمن مصلحة مبهمة من جنس المصالح، ثم ينظر في هذه المصلحة، فإن كانت أعم من النص عدّى الحكم إلى غير محل النص، وإلا قصرها على محل النص، فالتعدية فرع الصحة وتابعة لها، فكيف يكون تابع الشيء فرعًا له ومصححًا له؟ 1 معنى ذلك: أنه ما دام لا يشترط التعدي في العلة المنصوصة أو العقلية، فكذلك المستنبطة لا يشترط فيها ذلك لضعفها عنهما. وقد اعترض عليه الطوفي من وجهين. أحدهما: أنه لا يلزم من عدم اشتراط التعدية للعقلية والمنصوصة أن لا يشترط للمستنبطة لقيام الفرق من جهة أن العقلية موجبة مؤثرة، وإنما يظهر تأثيرها في محلها لا يتجاوزه، بخلاف الشرعية، فإنها أمارة معرِّفة، والتعريف لا يختص بمحل المعرف. وأيضًا: فالقياس بالتعدية يفيد الظن، ولا مدخل له في العقليات. وأما المنصوصة: فهي ثابتة بالنص، فثبتت قوتها به، واستغنت عن قوة التعدي، بخلاف المستنبطة. الوجه الثاني: أن قولهم: إذا لم تشترط التعدية في العقلية والمنصوصة، ففي غيرهما أولى، كلام فاسد الوضع، والذي ينبغي هو العكس، لاستغناء العقلية. والمنصوصة عن التعدي لقوتها، وافتقار المستنبطة إلى التعدي لضعفها. انظر: شرح المختصر "3/ 319-320".

الثالث: أن الشارع لو نص على جمع القاتلين ظلمًا بوجوب القصاص: لا يمنعنا أن نظن أن الباعث حكمة الردع والزجر، وإن لم يتعد إلى غير قاتل: فإن الحكمة لا تختلف باستيعاب النص لجميع الحوادث أو اقتصاره على البعض1. وقولهم: "لا فائدة في التعيل بالعلة القاصرة" عنه جوابان: أحدهما: المنع، فإن فيها فائدتين ذكرناهما. إحداهما: قصر الحكم على محلها. وقولهم: "إن قصر الحكم مستفاد من عدم التعليل". قلنا: بل يحصل هذا بالعلة القاصرة، فإن كل علة غير المؤثرة، إنما تثبت بشهادة الأصل، وتتم بالسبر، وشرطه الاتحاد. فإن ظهرت علة أخرى: انقطع الحكم. فإن أمكن التعليل بعلة متعدية: تعدى الحكم. فإذا ظهرت علة قاصرة: عارضت المتعدية ودفعتها، وبقي الحكم مقصورًا على محلها، ولولاها لتعدى الحكم. والثانية2: معرفة باعث الشرع وحكمته، ليكون أسرع في التصديق.

_ 1 هذا هو الوجه الثالث من أدلة القائلين بصحة التعليل بالعلة القاصرة خلاصته: أن الشارع لو نص على وجوب القصاص على جميع القاتلين ظلمًا وعدوانًا، فإن ذلك لا يمنعنا أن نظن أن الباعث على ذلك هو الردع والزجر، حتى ولو لم يتعد ذلك القصاص إلى غير القاتل؛ لأن الحكمة الشرعية تستنبط من النص، حتى ولو كان مستوعبًا لجميع الحوادث، فلا فرق بين النص على الجميع، أو الاقتصار على البعض، والنتيجة عدم الفرق بين المنصوصة والمستنبطة. 2 أي: الفائدة الثانية من التعليل بالعلة القاصرة.

وأدعى إلى القبول، فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة أميل منها إلى قهر التحكم، ومرارة التعبد1. ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ والتذكير، وذكر محاسن الشريعة، ولطائف معانيها، وكون المصلحة مطابقة للنص على قدره تزيده حسنًا وتأكيدًا. الثاني2: أننا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم، وثبوته بالنص لا يمنعنا أن نظن أن الباعث عليه حكمته التي في ضمنه، كما أن تنصيصه على رخص السفر لا يمنعنا أن نظن أن حكمته: دفع مشقته. وكذلك المسح على الخفين: معلل بدفع المشقة اللاحقة بنزع الخف، وإن لم يقس عليه غيره، ولا يسقط هذا الظن باستيعاب مجاري الحكم, ولما نص على أن كل مسكر حرام، لم يمنعنا أن نظن أن باعث الشرع على التحريم: السكر. ولا حجر علينا في أن نصدق فنقول: إنما ظننا كذا، مهما ظننا كذا، ولا مانع من هذا الظن.

_ 1 قال الطوفي في شرحه "3/ 321": "والنفس إلى قبول الأحكام المعللة أميل، وإليها أسكن، وهي بتصديقها أجدر، لحصول الطمأنينة، إذ كل عاقل يجد من نفسه فرقًا بين قبولها نقض الوضوء بأكل لحم الجزور، وبين نقضه بمس الفرج؛ لأن فيه مخيلًا مناسبًا للحكم، وهو كونه محل خروج الخارج الناقض بالنص، ولهذا اشترط بعضهم في مسه أن يكون بشهوة، ليصير مظنة لوجود الخارج المناسب". 2 من الجوابين اللذين أشار إليهما المصنف في قوله: "عنه جوابان".

وأكثر المواعظ ظنية، وطباع الآدميين خلقت مطيعة للظنون. وأكثر بواعث الناس على أعمالهم وعقائدهم الظنون. قولهم: "لا نسمي هذا علة". قلنا: متى سلمتم أن الباعث هذه الحكمة، وهي غير متعدية، وجب أن يقتصر الحكم على محلها، وهو فائدة الخلاف، ولا يضرنا أن لا تسموه علة، فإن النزاع في العبارات، بعد الاتفاق على المعنى لا يفيد. وتلخيص ما ذكرناه: أنه لا نزاع في أن القاصرة لا يتعدى بها الحكم، ولا ينبغي أن ينازع في أن يظن أن حكمة الحكم: المصلحة المظنونة في ضمن محل النص، وإن لم يتجاوز محلها. ولا ينبغي أن ينازع في تسميته علة أيضًا؛ لأنه بحث لفظي لا يرجع إلى المعنى. فيرجع حاصل النزاع إلى أن الحكم المنصوص عليه، إذا اشتمل على حكمتين: قاصرة ومتعدية، هل يجوز تعديته؟ فالصحيح أنه لا يتعدى؛ لأنه لا يمتنع أن يثبت الشارع الحكم في محل النص، رعاية للمصلحة المختصة به، أو رعاية للمصلحتين جميعًا. فلا سبيل إلى إلغاء هذين الاحتمالين بالتحكم. ومع بقائهما تمتنع التعدية1، والله أعلم.

_ 1 خلاصة ذلك: أن الحكم إذا علل بعلتين: إحداهما قاصرة، والأخرى متعدية، فهل يعلل بالقاصرة ويمنع التعدي، أو يتعدى بالعلة المتعدية؟ رجح المصنف الأول وقال: إنه الصحيح، وعليه جمهور العلماء، لما قاله:

فصل: في اطّراد العلة وهو: استمرار حكمها في جميع محالها1. حكى أبو حفص البرمكي2 في كون ذلك شرطًا لصحتها وجهين: أحدهما: هو شرط، فمتى تخلف الحكم عنها مع وجودها: استدللنا على أنها ليست بعلة إن كانت مستنبطة. أو على أنها بعض العلة إن كانت منصوصًا عليها. ونصره القاضي أبو يعلى، وبه قال بعض الشافعية3.

_ = المصنف: من أنه لا يمتنع أن يثبت الشارع حكمًا في محل النص رعاية للمصلحة المختصة به، أو رعاية للمصلحتين معًا. أما الحنفية فقد ذهبوا إلى أنه لا يمتنع التعليل بالعلة المتعدية؛ لأنه لا اعتبار بغلبة الظن بغلبة الوصف القاصر، فإنها مجرد وهم، لا غلبة ظن، فلا يعارض غلبة الظن بغلبة الوصف المتعدي المؤثر. انظر: نزهة الخاطر العاطر "2/ 320". 1 ومعناه: وجود حكمها في كل محل وجدت فيه، مثل: وجود التحريم حيث وجد الإسكار. 2 هو: عمر بن أحمد بن إبراهيم، أبو حفص البرمكي. كان من العبّاد الزهاد والفقهاء المشهورين في فقه الحنابلة، صحب الخلال وعمر بن بدر المغازلي وغيرهما، توفي ببغداد سنة 387هـ. انظر في ترجمته: طبقات الحنابلة "2/ 153". 3 هذا الفصل يطلق عليه بعض العلماء: "النقض" وهو: وجود العلة وتخلف الحكم، وهل هو قادح في العلة أو مخصص لعمومها؟ فمن اشترط اطراد العلة فالنقض قادح فيها، ومن لم يشترط الاطراد فيعتبر ذلك تخصيصًا لعمومها. وإنما سمي ذلك تخصيصًا؛ لأن العلة وإن كانت معنى، ولا عموم للمعاني حقيقة؛ لأنه في ذاته شيء واحد، ولكنه باعتبار حلوله في محال متعددة يوصف بالعموم، فإخراج بعض المحال التي توجد فيها العلة عن تأثير =

والوجه الآخر: تبقى حجة فيما عدا المحل المخصوص، كالعموم إذا خص. اختاره أبو الخطاب1. وبه قال مالك، والحنفية، وبعض الشافعية، لوجهين: أحدهما: أن علل الشرع أمارات2، والأمارة لا توجب وجود حكمها معها أبدًا، بل يكفي كونه معها في الأغلب الأكثر. كالغيم الرطب في الشتاء، أمارة على المطر، وكون مركوب القاضي على باب الأمير، أمارة على أنه عنده، وقد يجوز أن لا يكون عنده، فلو لم يكن عنده في مرة، لم يمنع ذلك من رأي تلك الإمارة أن يظن وجود ما هو أمارة عليه.

_ = العلة فيه، وقصر عمل العلة على الباقي يكون بمنزلة التخصيص. انظر: كشف الأسرار للبخاري "4/ 32"، العدة "4/ 1386". وقد حرر أبو الخطاب محل النزاع في المسألة، وفرق بين العلة المستنبطة والمنصوصة فقال: "اختلف أصحابنا -رضي الله عنهم- في العلة المستنبطة المخصوصة: هل هي حجة فيما عدا المخصوص أم لا؟ فقال بعضهم: هي حجة فيه، وبه قال مالك وأصحاب أبي حنيفة. وقال بعضهم: تكون باطلة منتقضة فلا يحتج بها. وبه قال أصحاب الشافعي. وكلام أحمد -رضي الله عنه- يحتمل القولين معًا. فأما العلة المنصوصة: فمن قال بتخصيص العلة المستنبطة يقول بتخصيصها، ومن منع من تخصيص العلة المستنبطة، اختلفوا في ذلك: فقال بعضهم: يجوز تخصيصها. وقال بعضهم: لا يجوز. ومتى وجدناها مخصصة علمنا أنها بعض العلة". التمهيد "4/ 69-71". 1 انظر: التمهيد "4/ 69 وما بعدها" وراجع تحريره لمحل النزاع الذي نقلناه آنفًا. 2 أي: علامات وليست مؤثرات.

الثاني: أن ثبوت الحكم على وفق المعنى المناسب في موضع دليل على أنه العلة، بدليل أنه يكتفى بذلك. فإن لم يظهر أمر سواه، وتخلف الحكم، يحتمل أن يكون لمعارض من فوات شرط، أو وجود مانع. ويحتمل: أن يكون لعدم العلة، فلا يترك الدليل المغلب على الظن لأمر محتمل متردد. فإن قيل: نفي الحكم لمعارض نفي للحكم مع وجود سببه، وهو خلاف الأصل، ونفيه لعدم العلة موافق للأصل، إذ هو نفي الحكم؛ لانتفاء دليله، فيكون أولى. قلنا: هو مخالف للأصل من جهة أخرى، وهو: أن فيه نفي العلة مع قيام دليلها، والأصل توفير المقتضى على المقتضي فيتساويان، ودليل العلة ظاهر، والظاهر لا يعارض بالمحتمل المتردد1.

_ 1 هذا اعتراض من أصحاب المذهب الأول، وهم الذين يشترطون اطّراد العلة خلاصته: أن انتفاء الحكم لانتفاء علته موافق للأصل، وانتفاؤه مع وجود علته على خلاف الأصل، وحمل الكلام على وفق الأصل أولى من حمله على خلافه وهذا يقوي مذهبهم. وأجاب عنه المصنف: بأنه مخالف للأصل من جهة أن نفي العلة مع قيام دليلها، والأصل توفير المقتضى وهو العلة على المقتضي وهو الدليل، فيتساوى المقتضى والمقتضي، وأيضًا: دليل العلة ظهر، ونفيها محتمل متردد، والظاهر لا يعارض بالمحتمل. انظر: شرح مختصر الطوفي "3/ 324"، نزهة الخاطر العاطر "2/ 322". ومعنى عبارة "توفير المقتضي" اسم مفعول، وهو: العلة على المقتضى، اسم فاعل وهو: الدليل. فيتساوى المقتضي والمقتضى، أي: العلة والدليل.

وفرّق قوم بين العلة المنصوص عليها، وبين المستنبطة، وجعل نقض المستنبطة مبطلًا لها1. وإن كانت ثابتة بنص أو إجماع فلا يقدح ذلك فيها؛ لأن كونها علة عرف بدليل متأكد قوي، وتخلف الحكم يحتمل أن يكون لفوات شرط، أو وجود مانع، فلا يترك الدليل القوي لمطلق الاحتمال. ولأن ظن ثبوت العلة من النص، وظن انتفاء العلة من انتفاء الحكم مستفاد بالنظر، والظنون الحاصلة بالنصوص أقوى من الظنون الحاصلة بالاستنباط2. وإن كان ثبوت العلة بالاستنباط بطلت بالنقض؛ لأن ثبوت الحكم على وفق المعنى، إن دل على اعتبار الشارع له في موضع، فتخلف الحكم عنه يدل على أن الشرع ألغاه. وقول القائل: "إنني أعتبره إلا في موضع أعرض الشرع عنه" ليس بأولى ممن قال: "أعرض عنه إلا في موضع اعتبره الشرع بالتنصيص على الحكم". ثم إن جُوِّز وجود العلة مع انتفاء الحكم من غير مانع، ولا تخلف شرط، فليجز ذلك في محل النزاع.

_ 1 المراد بالنقض هنا: عدم الاطراد، وهو: أن يوجد الوصف الذي يدعى أنه علة في محل ما، مع عدم الحكم. 2 خلاصة ذلك: أن العلة إذا كانت منصوصة أو مجمعًا عليها تعين الانقياد لنص الشارع ولإجماع المعصومين، ولم يؤثر في ذلك تخلف الحكم عنها في صورة ما؛ لأن النص والإجماع يفيدان من ظن الصحة أكثر مما يفيد التخصيص من ظن البطلان، شرح مختصر الروضة "3/ 326".

قولهم1: "ثبوت الحكم على وفق المعنى في موضع دليل على أنه علة". قلنا: وتخلف الحكم مع وجوده2: دليل على أنه ليس بعلة، فإن انتفاء الحكم لانتفاء دليله موافق للأصل، وانتفاؤه لمعارض على خلاف الأصل. قولهم: "إنه مخالف للأصل، إذ فيه نفي العلة مع قيام دليلها، فيتساوى الاحتمالان". قلنا: متى سلمتم أن احتمال انتفاء الحكم لانتفاء السبب كاحتمال انتفائه لوجود المعارض على السواء، لم يبق ظن صحة العلة، إذ يلزم من الشك في دليل الفساد: الشك في الفساد لا محالة، إذ ظن صحة العلة مع الشك فيما يفسدها محال، فهو كما لو قال: "أشك في الغيم، وأظن الصحو" و"أشك في موت زيد، وأظن حياته". قولهم: "دليل العلة ظاهر". قلنا: والمعارض ظاهر أيضًا فيتساويان، فلا يبقى الظن مع وجود المعارض. قولهم: "العلة أمارة، والأمارة لا توجب وجود حكمها أبدًا". قلنا: إنما يثبت كونها أمارة: إذا ثبت أنها علة. والخلاف -ههنا- هل هذا الوصف علة وأمارة أو لا؟ وليس الاستدلال على أنه علة بثبوت الحكم مقرونًا به أولى من الاستدلال على أنه ليس بعلة بتخلف3 الحكم عنه، إذ الظاهر: أن الحكم لا يتخلف عن علته.

_ 1 من هنا سيبدأ المصنف في مناقشة أدلة المخالفين. 2 أي: وجود الوصف المدعى أنه علة. 3 في جميع النسخ "يتخلف" وهو خطأ يغير المعنى.

أو احتمال انتفاء الحكم في محل النقض لمعارض كاحتمال ثبوت الحكم في الأصل بغير هذا الوصف، أو به وبغيره. وكما أن وجود مناسب آخر في الأصل على خلاف الأصل: كذلك وجود المعارض في محل النقض على خلاف الأصل فيتساويان. وبهذا يتبين الفرق بين العلة المنصوص عليها والمستنبطة، فإن المنصوص عليها يثبت كونها أمارة بغير اقتران الحكم بها، فلا يقدح فيها تخلفه عنها، كما لا يقدح في كون "الغيم أمارة على المطر" تخلفه عنه في بعض الأحوال. والمستنبطة إنما يثبت كونها أمارة باقتران الحكم بها، فتخلفه عنها ينفي أنها أمارة. والله أعلم. [طريق الخروج عن عهدة النقض] . فإذًا طريق الخروج عن عهدة النقض أربعة أمور: أحدها: منع العلة في صورة النقض. والثاني: منع وجود الحكم. والثالث: أن يبين أنه مستثنى عن القاعدة بكونه على خلاف الأصلين. وإن أمكن المعترض إبراز قياس ما ينتفي بمسألة النقض: كانت علته المطردة أولى من المنقوضة، ولم يقبل دعوى المعلل: أنه خارج عن القياس. والرابع: بيان ما يصلح معارضًا في محل النقض، أو تخلف ما يصلح شرطًا، ليُظن أن انتفاء الحكم كان لأجله، فيبقى الظن المستفاد من مناسبة الوصف وثبوت الحكم على وفقه كما كان، فإن الغالب من ذات

الشرع: اعتبار المصالح والمفاسد، فيظن: أن عدم الحكم للمعارض، فلا تكون العلة منتقضة. فصل: [في أضرب تخلف الحكم عن العلة] 1 تخلف الحكم عن العلة على ثلاثة أضرب. أحدها: ما يعلم أنه مستثنى عن قاعدة القياس. كإيجاب الدية على العاقلة دون الجاني، مع أن جناية الشخص علة وجوب الضمان عليه. وإيجاب صاع تمر من لبن المصرّاة2، مع أن علة إيجاب المثل في المثليات: تماثل الأجزاء.

_ 1 وجه ارتباط هذا الفصل بما قبله: أنه لما أنهى الكلام على تخصيص العلة بتخلف حكمها عنها في بعض الصور، وكان للتخلف أحكام بعضها مؤثر في العلة وبعضها غير مؤثر، ذكر أنواع تخلف الحكم عن العلة، ليتميز بعضها من بعض. 2 التصرية: جمع اللبن في ضرع الحيوان لإيهام الناس أنها حلوب، وقد حرم الإسلام ذلك لما فيه من التدليس على المشتري. صحت في ذلك أحاديث كثيرة منه قوله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَا تَصَرُّوا الإبلَ والغَنَمَ فَمنِ ابتاعَها بَعْدَ فَهُو بخير النَّظَرَين بَعْدَ أنْ يَحْلُبَها: إِنْ شاء أَمْسَكَ وإنْ شاء رَدَّها وصَاعًا مِنْ تَمرٍ" متفق عليه. زاد مسلم: "فهو بالخيار ثلاثة أيام". انظر: سبل السلام "3/ 26". ومحل الشاهد: أن القياس يقتضي أن يضمن لبن المصراة بمثله، لا بالتمر، ولذلك ترك الحنفية العمل بهذا الحديث وجعلوه مما يخالف الأصول، فهذا لا تبطل به علة القياس قطعًا بنص الشارع ومناسبة العقل، ولا يلزم المستدل الاحتراز عنه في تعليله بأن يقول: كل امرئ مختص بضمان جناية نفسه في غير دية الخطأ، وتماثل الأجزاء علة إيجاب المثل في ضمان المثليات في المصراة، =

فهذه العلة معلومة قطعًا، فلا تنتقض بهذه الصورة، ولا يكلف المستدل الاحتراز عنها. وكذلك لو كانت العلة مظنونة، كإباحة بيع العرايا1 نقضًا لعلة من يعلل الربا بالكيل، أو الطعم، فإن مستثنى أيضًا، بدليل: وروده على علة كل معلل، فلا يوجب نقضًا على القياس، ولا يفسد العلة، بل يخصصها بما وراء الاستثناء، فيكون علة في غير محل الاستثناء. ولا يقبل قول المناظر: إنه مستثنى، إلا أن يبين ذلك للخصم بكونه على خلاف قياسه أيضًا، أو بدليل يصلح لذلك2.

_ = لأنه إنما يجب الاحتراز عما ورد نقضًا وهذا ليس كذلك. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 328". 1 روى البخاري ومسلم، أن رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "نهى عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبًا". رواه البخاري: كتاب البيوع، باب المزابنة، وباب بيع الثمر على رءوس النخل بالذهب والفضة، وباب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل من كتاب المساقاة، ومسلم: كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا. 2 لأنها دعوى، فتحتاج إلى دليل يثبتها. قال الشيخ الطوفي: "واعلم أن قول الفقهاء: هذا الحكم مستثنى عن قاعدة القياس، أو خارج عن القياس، أو ثبت على خلاف القياس، ليس المراد به بأنه تجرد عن مراعاة المصلحة حتى خالف القياس، وإنما المراد به: أنه عدل به عن نظائره لمصلحة أكمل وأخص من مصالح نظائره على جهة الاستحسان الشرعي. فمن ذلك: أن القياس عدم بيع المعدوم، وجاز ذلك في السلم، والإجارة توسعة وتيسيرًا على المكلفين. ومنه: أن القياس أن كل واحد يضمن جناية نفسه، وخولف في دية الخطإ رفقًا بالجاني، وتخفيفًا عنه، لكثرة وقوع الخطإ من الجناة.

"والثاني: انتفاء الحكم لمعارضة علة أخرى"1 فإن قيل 2: فلم لا ينعطف قيد على العلة يكون وصفًا من أوصافها يندفع به النقض: فنقول في مسألة "المصراة": العلة في وجوب المثل: تماثل الأجزاء مع قيد الإضافة إلى غير المصرّاة، ويكون التماثل المطلق بعض العلة. وعلى هذا يكون تخلف الحكم في "المصراة" لعدم العلة، فلا يكون نقضًا، فليجب على المعلل ذلك. قلنا: بل العلة: مطلق التماثل، فإن العلة إما أن تكون سميت علة استعارة من البواعث، فإن الباعث على الفعل يسمى علة الفعل. فمن أعطى فقيرًا شيئًا لفقره، وعلل بأنه فقير، ثم منع فقيرًا آخر

_ = وكذلك الكلام في المصرّاة، لما كان اللبن المحتلب منها مجهولًا، فلو وجب ضمانه بمثله، لأفضى إلى النزاع؛ لجهالة القدر المضمون، فقطع الشارع النزاع بينهم بإيجاب صاع تمر باجتهاده؛ لأنه مضبوط معلوم، وكان ذلك من باب العدل العام؛ لأن الشخص تارة يكون آخذًا للصاع بتقدير كونه بائعًا للمصراة، وتارة مأخوذًا منه بتقدير كونه مشتريًا لها، فما يقع من التفاوت بين قيمة التمر وقيمة اللبن مغتفر في تحصيل هذا العدل العام"، انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 329-330". 2 ما بين القوسين قال عنه الشيخ ابن بدران: "هذا ثابت في بعض النسخ ومشطوب عليه في بعض آخر، وشطبه هو الصواب؛ لأن الثاني قد يجيء بعد هذا. وقوله: فإن قيل إلخ، لا يلائمه". نزهة الخاطر العاطر "2/ 328". 2 هذا اعتراض وارد على قوله: "ولا يقبل قول المناظر إنه مستثنى ... إلخ". خلاصته: إدعاء كون العلة مركبة من جزءين، فوجود جزء منها دون الآخر لا ينتج المطلوب. وحاصل الجواب: منع ذلك، وبيان أن العلة إنما هي التماثل فقط. انظر: نزهة الخاطر "2/ 328".

وقال: لأنه عدوِّي، ومنع آخر وقال: هو معتزلي، فإن الباقي على الاستقامة التي يقتضيها أصل الفطرة: لا يستبعد ذلك، ولا نعده متناقضًا. ويجوز أن يقول: أعطيته لفقره، إذ الباعث هو الفقر، وقد لا تحضره عند الإعطاء العداوة والاعتزال وانتفاؤهما. ولو كانا جزءين من الباعث لم ينبعث إلا عند حضورهما في ذهنه، وقد انبعث ولم يخطر بباله إلا مجرد الفقر. كذلك مجرد التماثل علة؛ لأنه الذي يبعثنا على إيجاب المثل في ضمانه، ولا تحضرنا مسألة "المصراة" أصلًا، عن تلك الحالة. ويقبح في مثل هذا أن يكلف الاحتراز عنه فيقول: تماثل في غير المصراة. وإما1 أن تسمى العلة استعارة من علة المريض؛ لأنها اقتضت تغيير حاله، كذلك العلة الشرعية اقتضت تغيير الحكم. فيجوز أن يسمى الوصف المقتضى علة بدون تخلف الشرط، ووجود المانع، فإن "البرودة" مثلًا، علة المرض في المريض؛ لأنه يظهر عقيبها، وإن كانت لا تحصل بمجرد البرودة، بل ربما ينضاف إليها في المزاج2 الأصلي أمور كالبياض -مثلًا- لكن يضاف المرض على البرودة الحادثة. فيجوز أيضًا أن يسمى التماثل المطلق علة، وإن كان ينضاف.

_ 1 معطوف على قوله: "إما أن تكون سميت علة استعارة ... إلخ". 2 جاء في المصباح المنير مادة "مزج": "مزاج الجسد- بالكسر- طبائعه التي يتألف منها".

إليها [شيء آخر] : إما شرطًا، وإما انتفاء المانع. والله أعلم. ومن سماها علة أخذًا من العلة العقلية، وهو عبارة عما يوجب الحكم لذاته: لم يسم التماثل المطلق علة، ولم يفرق بين المحل والعلة والشرط، بل العلة: المجموع، والأهل، والمحل وصف من أوصاف العلة. ولا فرق بين الجميع؛ لأن العلة: العلامة، وإنما العلامة جملة الأوصاف. والأولى أولى؛ لأن علل الشرع لا توجب الحكم لذاتها، بل هي أمارة معرفة للحكم، فاستعارتها عما ذكرنا أولًا1 أولى. والله أعلم. الضرب الثاني: تخلف الحكم لمعارضة علة أخرى. كقوله: "علة رق الولد: رق الأم"، ثم المغرور بحرية جارية ولده: حر، لعلة الغرور، ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع: لما وجبت قيمة الولد. فهذا لا يرد نقضًا أيضًا، ولا يفسد العلة؛ لأن الحكم ههنا كالحاصل تقديرًا2.

_ 1 وهو قوله: "إما أن تكون سميت علة استعارة من البواعث؛ فإن الباعث على الفعل يسمى علة الفعل". 3 هذا الضرب سماه الشيخ الطوفي بالنقض التقديري فقال: "القسم الثاني من أقسام تخلف الحكم عن العلة، وإنما سميته "النقض التقديري" لمناسبته، وذلك بما ذكر في إثباته، وهو تخلف الحكم عن العلة لا لخلل فيها، بل لمعارضة علة أخرى أخص كقول القائل: "رق الأم علة رق الولد" فينتقض عليه "بولد المغرور بأمِّه". وهو من تزوج امرأة على أنها حرة، فبانت أمه، فهذا الولد حر، مع أن أمه أمة، فقد تخلف حكم العلة عنها. فيقول المستدل: هذا الولد وإن كان حرًّا حكمًا، =

الضرب الثالث: أن يتخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة1، لكن لعدم مصادفتها محلها، أو فوات شرطها. كقولنا: "السرقة علة القطع" وقد وجدت في "النباش" فيقطع2". فيقال: تبطل بسرقة ما دون النصاب، وبسرقة الصبي، أو بسرقة من غير الجرز

_ = فهو رقيق تقديرًا، أي: في التقدير؛ بدليل وجوب قيمته على أبيه لسيد أمه، ولولا أن الرق فيه حاصل تقديرًا، لما وجبت قيمته، إذ الحر لا يضمن بالقيمة. قلت: ومعنى قولنا: تخلف الحكم لمعارضة علة أخرى، هو أن هذا الولد تنازعه علتان: إحداهما: علة الرق تبعًا لأمه، والثانية: علة الحرية تبعًا لاعتقاد أبيه حريته، فثبت مقتضى هذه العلة، وهو الحرية تحقيقًا، تحصيلًا للحرية، تغليبًا لجانبها، لأنها الأصل، وثبت مقتضى علة الرق تقديرًا، جبرًا لما فات على السيد من إتلاف مالية الولد عليه، إذ سبب إتلافه اعتقاد الأب حريته، فضمن ما أتلف ... " شرح مختصر الروضة "3/ 330-331". 1 أي: ولا لاستثناء على قاعدة القياس، ولا لمعارضة علة أخرى مما تقدم بيانه. 2 جاء في المغني لابن قدامة "2/ 455": "روي عن ابن الزبير أنه قطع نبّاشًا. وبه قال الحسن، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، والشعبي، والنخعي، وحماد، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا قطع عليه؛ لأن القبر ليس بحرز؛ لأن الحرز ما يوضع فيه المتاع للحفظ والكفن لا يوضع في القبر لذلك، ولأنه ليس بحرز لغيره، فلا يكون حرزًا له ... ثم قال: ولنا قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ... } وهذا سارق، فإن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سارق أمواتنا كسارق أحيائنا. وما ذكروه لا يصح، فإن الكفن يُحتاج إلى تركه في القبر دون غيره، ويكتفى به في حرزه، ألا ترى أنه لا يترك الميت من غير أن يحفظ كفنه، ويترك في القبر وينصرف عنه ... ". وخلاصة ما يريده المصنف من هذه الأمثلة: أن العلة لم تصادف محلها وليس =

وكقولنا: البيع علة الملك، وقد جرى، فليثبت الملك في زمن الخيار، فيقال: يبطل ببيع الموقوف والمرهون. فهذا لا يفسد العلة. لكن هل يكلف المناظر جمع هذه الشروط في دليله؛ كي لا يرد ذلك نقضًا؟ فهذا اختلف فيه الجدليون1. والخطب فيه يسير، فإن الجدل موضوع، فكيف اصطلح عليه فإليهم ذلك. والأليق: تكليفه ذلك؛ لأن الخطب فيه يسير، وفيه ضم نشر الكلام وجمعه. فأما تخلف الحكم لغير أحد هذه الأضرب الثلاثة: فهو الذي تنتقض العلة به، وفيه من الاختلاف ما قد مضى.

_ = لكون السرقة ليست علة، كما في النباش-على رأي من لا يقول بقطعه- أو لفوات أهلية القطع كما في الصبي، أو لفوات شرطه، كما في سرقة ما دون النصاب ... فهذا وأمثاله لا يفسد العلة؛ لأن تأثير العلة يتوقف على وجود شروطها، وانتفاء موانعها، وهذا منه. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 333". 1 معنى هذا: هل يكلف المعلل أو المستدل على ثبوت الحكم بوجود علية الاحتراز من هذا بذكر ما يحصله، كقوله: بيع صدر من أهله، وصادف محله، أو استجمع شروطه، فأفاد الملك، أو المكلف سرق نصابًا كاملًا من حرز مثله، لا شبهة فيه فوجب قطعه؟ قال المصنف: هذا موضوع اختلف فيه علماء الجدل، والخلاف فيه يسير، فإن كانوا قد اصطلحوا على ذلك وجب تكليف المعلل أو المستدل بذلك، وإلا فلا ثم رجح تكليفه بذلك؛ لأنه أجمع للكلام وأنفى لنشره؛ لأنه ربما أدى إلى تشعيب الكلام بما لا فائدة فيه.

فصل: [في أقسام المستثنى من قاعدة القياس] . والمستثنى عن قاعدة القياس منقسم إلى: ما عقل معناه. وإلى ما لا يعقل. فالأول: يصح أن يقاس عليه ما وجدت فيه العلة. من ذلك: استثناء العرايا للحاجة، لا يبعد أن نقيس العنب على الرطب، إذا تبين أنه في معناه. وكذا إيجاب صاع من تمر في لبن "المصرّاة" مستثنى من قاعدة الضمان بالمثل. نقيس عليه: ما لو ردّ "المصراة" بعيب آخر، وهو نوع إلحاق. ومنه: إباحة أكل الميتة عند الضرور، صيانة للنفس، واستبقاء للمهجة1. يقاس عليه: بقية المحرمات، إذا اضطر إليها، ويقاس عليه2. المكره؛ لأنه في معناه3. وأما ما لا يعقل: فكتخصيصه بعض الأشخاص بحكم، كتخصيصه.

_ 1 المهجة: الدم، وقيل: دم القلب خاصة. وخرجت مهجته أي: روحه. مختار الصحاح "مهج". 2 أي: على المضطر. 3 صحة القياس على المستثنى هو مذهب الجمهور، وهو الذي رجحه المصنف، كما يظهر من تعليله. وهناك مذاهب أخرى في المسألة تراجع في مظانها مثل: كشف الأسرار عن أصول البزدوي "3/ 311"، العدة "4/ 1397 وما بعدها"، التمهيد لأبي الخطاب "3/ 444".

أبا بردة بجذعة من المعز1، وتخصيصه خزيمة بشهادته وحده2. وكتفريقه في بول الصبيان بين الذكر والأنثى3. فإنه لما لم ينقدح فيه معنى: لم يقس عليه الفرق في البهائم بين ذكورها وإناثها. وفي الجملة: إن معرفة المعنى من شرط صحة القياس في المستثنى وغيره. والله أعلم.

_ 1 تقدم التعريف بأبي بردة وتخريج حديثه. 2 هو: خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي، أبو عمارة، من السابقين الأولين للإسلام، شهد بدرًا وما بعدها، استشهد بصفين، بعد عمار -رضي الله عنهما- سنة 37هـ انظر في ترجمته: الإصابة "2/ 278"، شذرات الذهب "1/ 48". وقصة جعل شهادته -رضي الله عنه- تعدل شهادة اثنين، رواها أبو داود في سننه "3/ 418"، والنسائي في سننه "7/ 266"، والبيهقي في سننه "10/ 146" والطبراني وغيره. جاء في مجمع الزوائد "9/ 320" عن خزيمة بن ثابت -رضي الله عنه- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-اشترى فرسًا من سوار بن الحارث، فجحده، فشهد له خزيمة بن ثابت، فقال رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "وما حملك على الشهادة ولم تكن معنا حاضرًا؟ " فقال: صدقتك بما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلا حقًّا، فقال له رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه". رواه الطبراني، ورجاله كلهم ثقات. 3 ورد في ذلك أحاديث كثيرة، منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده "1/ 76، 97، 137"، والترمذي في أبواب الجمعة، باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع، وأبو داود: كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، عن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. قال: "بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل". قال قتادة: هذا ما لم يطعما الطعام، فإن طعما غسل بولهما. المغني "2/ 496".

فصل: [في جواز التعليل بنفي صفة أو اسم أو حكم] 1 قال أبو الخطاب: يجوز أن تكون العلة: نفي صفة، أو اسم، أو حكم، على قول أصحابنا. كقولهم: ليس بمكيل ولا موزون2، ليس بتراب3، لا يجوز بيعه فلا يجوز رهنه4. وقال بعض الشافعية: لا يجوز أن يكون العدم سببًا لإثبات حكم؛ لأن السبب لا بد أن يكون مشتملًا على معنى يثبت الحكم، رعاية له. والمعنى إما تحصيل مصلحة، أو نفي مفسدة، والعدم لا يحصل به شيء من ذلك5. فلئن قلتم6: إنه تحصل به الحكمة، فإن ما كان نافعًا، فعدمه

_ 1 خلاصة هذا الفصل: هل يجوز أن تكون العلة أمرًا عدميًّا، أو لا بد وأن تكون أمرًا ثبوتيًّا؟ 2 أي: فلا يحرم فيه التفاضل. 3 أي: فلا يصح التيمم به. 4 نص عبارة التمهيد "4/ 48" "ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه" كالخمر مثلًا. 5 خلاصة دليل بعض الشافعية، في أن العدم لا يصلح أن يكون علة: أن قول القائل -عن الجص- ليس بصعيد فلا يجوز التيمم به قد حكم بالنفي على عدم التيمم بالجص، وجعله سببًا له مع أن السبب لا بد أن يكون مشتملًا على تحصيل مصلحة أو نفي مفسدة، إذا روعيت ثبت الحكم مراعاة لها، والعدم لا يحصل منه شيء وأجاب عنه ابن بدران: بأن هذا شأن الأعدام المطلقة، أما الأعدام المقيدة فليست كذلك. انظر: نزهة الخاطر "2/ 334". 6 هذا اعتراض توقعه أصحاب المذهب الثاني من أصحاب المذهب الأول ثم أجابوا عنه بعد ذلك.

مضر، وما كان مضرًا فعدمه يلزمه منه منفعة، ويكفي في مظنة الحكم أن يلزم منها الحكمة، ولا يشترط أن يكون منشأ لها. قلنا: لا ننكر ذلك، لكن لا يناسب حكمًا في حق كل أحد، بل إعدام النافع يناسب عقوبة في حق من وجد منه الإعدام، زجرًا له، وإعدام المضر يناسب حكمًا نافعًا في حق من وجد منه إعدامه، حثًّا له على تعاطي مثله. فالمناسبة في الموضعين انتسبت إلى الإعدام، وهو أمر وجودي، لا إلى العدم1. فلئن قلتم2: إن عدم الأمر النافع للشخص يناسب ثبوت حكم نافع له، جبرًا لحاله. قلنا: عنه جوابان. أحدهما: منع المناسبة؛ فإنه لا يلخو: إما أن تثبت المناسبة بالنسبة إلى الله -عز وجل- أو إلى غيره. وفي الجملة: شرع الجائز إنما يكون معقولًا على من وجد منه الضرر. وأما شرعه في حق غيره. فإنه عدول على مذاق القياس، ومقتضى

_ 1 لما اعترض أصحاب المذهب الأول بعدم التسليم بأن الأمر العدمي لا تحصل منه الحكمة أجاب أصحاب المذهب الثاني عن هذا الاعتراض: بأننا نسلم وجود الحكمة، لكننا ننازع في أمر آخر، وهو أن الحكمة لا تناسب كل أحد فإن إعدام النافع يعتبر عقوبة مناسبة في حق شخص معين، وهو من وجد منه الإعدام، زجرًا له. كما أن إعدام المضر يعتبر حكمًا مناسبًا في حق شخص معين أيضًا فالمناسبة في هذين المثالين أضيفت إلى فعل الإعدام، وهو أمر وجودي، ولم تضف على العدم. 2 هذا اعتراض ثان.

الحكمة، كإيجان ضمان فرس زيد على عمرو، إذا تلف بآفة سماوية. فإن قيل: يناسب الثواب بالنسبة إلى الله -عز وجل- فهو عود إلى الوجود1. ثم إن وجوبه على واحد من الخلق يلزم منه من الضرر في حق من وجب عليه بقدر ما يحصل من المصلحة لمن وجب له، فلا يكون مناسبًا؛ فإن نفع زيد بضرر عمرو لا يكون مناسبًا، لكونهما في نظر الشرع على السواء. الثاني2: أنه لا يمكن اعتباره؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 3. وإثبات الحكم له لمنفعته من غير سعيه مخالف للعموم. قلنا4: بل يجوز التعليل بالعدم: فإن5 علل الشرع أمارات على الحكم، ولا يشترط فيها أن تكون منشأ للحكمة، ولا مظنة لها. وعند ذلك لا يمتنع أن ينصب الشارع العدم أمارة: إذا كان ظاهرة معلومًا. ولو قال الشارع: اعلموا أن ما لا ينتفع به لا يجوز بيعه، وأن ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه: فما المانع من هذا وأشباهه؟

_ 1 إلى الأمر الوجودي لا إلى العدم. 2 من الجوابين اللذين ذكرهما أصحاب المذهب الثاني. 3 سورة النجم "39". 4 من هنا سيبدأ المصنف في إيراد أدلة المذهب الأول على جواز التعليل بالنفي والعدم. 5 هذا هو الدليل الأول.

وقد1 تقرر بين الفقهاء: أن انتفاء الشرط علامة على عدم المشروط، فإنه ينتفي بانتفائه. وإذا جاز ذلك في النفي: ففي الإثبات مثله، فإنه لو قال الشارع "ما لا مضرة فيه من الحيوان فمباح لكم أكله" و"ما لم يذكر اسم الله عليه فحرام عليكم أكله" لم يمتنع ذلك. وقد قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2 وهذا تعليق لتحريم الأكل على عدم اسم الله. ولأن3 النفي صلح أن يكون علة للنفي، فيلزم منه أن يصلح التعليل به للإثبات؛ لأن كل حكم له ضد، فالحل ضده: الحرمة، والوجوب ضده: براءة الذمة، والصحة ضدها: الفساد، وكل ما نفي شيئًا أثبت ضده. فما كان علة لانتفاء الحرمة: فهو علة الإباحة. وما ذكروه4 من: "أن النفي لا يناسب إثبات الحكم في حق الآدمي؛ لأنه يلزم منه: ضرر في حق الآدمي الآخر". قلنا: عنه جوابان: أحدهما: أن جهات إثبات العلة لا تنحصر في المناسبة، بل طرقها كثيرة على ما علم، فلا يلزم من انتفاء طريق واحد انتفاؤها.

_ 1 هذا هو الدليل الثاني. 2 سورة الأنعام من الآية "121". 3 هذا هو الدليل الثالث لأصحاب المذهب الأول. 4 من هنا سيبدأ المصنف في مناقشة أدلة أصحاب المذهب الثاني، وهم الذين منعوا التعليل بالنفي والعدم.

الثاني: أن المناسبة متحققة فيه، فإن ما كان وجوده نافعًا، لزم من عدمه الضرر، وما كان مضرًّا: لزم من عدمه النفع. فللَّه -تعالى- فرائض وواجبات، كما أن له محظورات ومحرمات، فكما أن فعل المحرمات يناسب شرع عقوبات في حق من فعلها، زجرًا عنها، فعدم [فعل] الفرائض يناسب ترتيب العقوبات على تاركها، حثًّا عليها. ولا بُعد في قول من قال: إن ترك الصلاة يناسب شرع القتل، أو الضرب، أو الحبس، وكذلك أشباهها من الواجبات. وقولهم: "إن هذا إعدام". غير صحيح، بل هو مجرد عدم؛ إذ الإعدام: إخراج الموجود إلى العدم، ولم يكن للصلاة من تاركها وجود فيعدمها. ولا يلزم من ثبوت الحكم: أن يكون في حق آدمي آخر. ثم لو لزم منه ضرر: فلا تنتفي المناسبة بوجود الضرر، على ما علم في موضع آخر. ومثل هذا يوجد في الإثبات، فلا فرق إذًا. وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} يتناول ماله، دون ما عليه، فليست عامة، فلا يصح الاستدلال بها على عموم التعليل بالنفي. على أن الآية إنما أريد بها الثواب في الآخرة، دون أحكام الدنيا، بدليل أن فقر القريب صلح علة لإيجاب النفقة له. وعدم المال في حق المسكين جعله مصرفًا للزكاة. وأمثال هذا يكثر. والله أعلم.

فصل: [في جواز تعليل الحكم بعلتين] يجوز تعليل الحكم بعلتين؛ لأن العلة الشرعية أمارة، فلا يمتنع نصب علامتين على شيء واحد. ولذلك من لمس، وبال في وقت واحد: انتقض وضوؤه بهما. من أرضعتها أختك، وزوجة أخيك، فجمع لبنهما وانتهى على حلقها دفعة واحدة: حرمت عليك؛ لأنك خالها وعمها. ولا يحال على أحدهما دون الآخر. ولا يمكن أن يقال: تحريمان، وحكمان؛ لأن التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة، ويستحيل اجتماع مثلين1. فإن قيل: فإذا ذكر المعترض علة أخرى في الأصل، فلم يعارض علة المستدل، لم يقبل هذا الاعتراض، إذا أمكن الجمع بين علتين2.

_ 1 وضح الطوفي مذاهب العلماء في المسألة فقال: "قال الآمدي: اتفقوا على جواز تعليل الحكم بعلل في كل صورة بعلة، واختلفوا في الحكم الواحد بالشخص في صورة واحدة، هل يعلل بعلتين معًا؟ فمنع من ذلك القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين، وجوّزه آخرون. وفصل الغزالي بجواز ذلك في العلل المنصوصة دون المستنبطة. قال الآمدي: والمختار منعه. قلت: وهذا التفصيل هو الذي ذكره القرافي، وهو مراد الشيخ أبي محمد من إطلاقه، بدليل سياق كلامه في أثناء المسألة". شرح مختصر الروضة "3/ 339-340" وانظر: الإحكام للآمدي "3/ 341". 2 قال ابن بدران: في الكلام حذف تقديره: فإن قيل: فإذا قاس المعلل على أصل بعلة فذكر المعترض على أخرى في الأصل: بطل قياس المعلل، وإن أمكن الجمع بين علتين فلم يقبل الاعتراض". نزهة الخاطر "2/ 338".

قلنا: إن كانت علة المستدل مؤثرة: لم تبطل بذلك، كما ذكرناه من الأمثلة، وكاجتماع العدة والردة؛ إذ دل الشرع على أن كل واحدة علة على حيالها. وإن كانت ثابتة بالاستنباط: فسدت بهذه المعارضة؛ لأن ظن كونها علة إنما يتم بالسبر، وهو أنه لا بد لهذا الحكم من علة، ولا يصلح علة إلا هذا. فإذا ظهرت علة أخرى: بطلت إحدى المقدمتين، وهي: "أنه لا يصلح علة إلا كذا". مثاله: من أعطى إنسانًا شيئًا فوجدناه فقيرًا: ظنناه أنه أعطاه لفقره، وعللنا به. فإن وجدناه قريبًا: عللناه بالقرابة. فإن وجدناه فقيرًا قريبًا: أمكن أن يكون الإعطاء لهما، أو لأحدهما، فلا يبقى الظن أنه أعطاه لواحد بعينه. فإن قيل: فلم يلزم العكس، وهو وجود الحكم بدون العلة، فإن العلل الشرعية أمارات ودلالات، فإذا جاز اجتماع دلالات، لم يكن من ضرورة انتفاء البعض انتفاء الحكم. قلنا: هذا صحيح، وإنما يلزم العكس إذا لم يكن للحكم إلا واحدة، فإن الحكم لا بد له من علة. فإذا اتحدت وانتفت، فلو بقي1 الحكم: لكان ثابتًا بغير سبب.

_ 1 في جميع النسخ: "فلو نفي" والمثبت من نسخة الدكتور عبد العزيز السعيد يحفظه الله.

وأما إذا تعددت العلة: فلا ينتفي عند انتفاء بعضها، بل عند انتفاء جميعها. فصل: [في جريان القياس في الأسباب] قال قوم: يجوز إجراء القياس في الأسباب1. فنقول: إنما نصب الزنا سببًا لوجوب2 الرجم لعلة كذا، وهو موجود في اللواط، فيجعل سببًا، وإن كان لا يسمى زنا. ومنع منه آخرون3. قالوا: الحكم يتبع السبب دون حكمته؛ فإن الحكمة: ثمرة، وليست علة، فلا يجوز أن يوجب القصاص بمجرد الحاجة إلى الزجر4 بدون القتل، وإن علمنا أنه5 حكمة وجوب القصاص في القتل.

_ 1 قال الطوفي: "وهو مذهبنا ومذهب أكثر الشافعية، ومنع منه أبو زيد الدبوسي والحنفية. قال الآمدي: وصورته: إثبات كون اللواط سببًا للحد قياسًا على الزنا قلت: وكذا الكلام في النباش والنبيذ"، شرح المختصر "3/ 448". قال الإسنوي: "الصحيح، وهو مذهب الشافعي كما قاله الإمام، أن القياس يجري في الشرعيات كلها، أي: يجوز التمسك به في إثبات كل حكم، حتى الحدود، والكفارات، والرخص، والتقديرات، إذا وجدت شرائط القياس فيها" انظر: نهاية السول "3/ 36". 2 في كثير من النسخ المطبوعة "لوجود" وما أثبتناه من نسخة الدكتور عبد الكريم النملة. يحفظه الله. 3 وهم بعض الحنفية وبعض الشافعية، كما تقدم. 4 في الأصل "الرجم" والمثبت من نسخة الدكتور النملة. 5 في جميع النسخ "عنها" والمثبت من نسخة الدكتور عبد العزيز السعيد، فالضمير راجع إلى "الزجر".

ولأن القياس في الأسباب يعتبر فيه التساوي في الحكمة، وهذا أمر استأثر الله -سبحانه وتعالى- بعلمه. ولنا: أن نصب الأسباب حكم شرعي، فيمكن أن تعقل علته، ويتعدى إلى سبب آخر. فإن اعترفوا بهذا ثم توقفوا عن التعدية: كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم، كمن يقول: يجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص، وفي البيع دون النكاح. وإن ادّعوا الإحالة فمن أين عرفوا ذلك، أبضرورة1 أو نظر؟ كيف2 ونحن نبين إمكانه بالأمثلة! فإن قالوا: هو ممكن في العقل، لكنه غير واقع؛ لأنه لا يلغي3 للأسباب علة مستقيمة تتعدى. قلنا: قد ارتفع النزاع الأصولي، إذ لا ذاهب على تجويز القياس، حيث لا تعقل العلة، ولا تتعدى وهم قد ساعدوا على جواز القياس حيث أمكنت التعدية، فارتفع الخلاف. ثم إننا نذكر إمكان القياس في الأسباب من منهجين4.

_ 1 في جميع النسخ "بضرورة" والمثبت من المستصفى "3/ 695". 2 قبلها في المستصفى: "ولا بد من بيانه". 3 في جميع النسخ "لا يلفي" بالفاء، والمثبت من المستصفى "3/ 696". 4 في النسخ المطبوعة "وجهين" والمثبت من المستصفى "3/ 696" وهو الذي يتمشى مع قول المصنف -بعد ذلك- "المنهج الثاني".

أحدهما: تنقيح المناط. فنقول: قياس اللائط على الزاني، كقياس الأكل على الجماع في الكفارة، فإنا تعرفنا أن وصف كونه "زنا" لا يؤثر، بل المؤثر: كونه إيلاج فرج في فرج محرم قطعًا، مشتهى طبعًا. فإن قالوا: ليس هذا بقياس1؛ فإن القياس أن يقال: علق الحكم بالزنا لعلة كذا، وهي موجودة في اللواط، فيلحق به، كما يقال: ثبت التحريم في الخمر لعلة الشدة، وهي موجودة في النبيذ، فيضم النبيذ إلى الخمر في التحريم، ولم نغير من الخمر شيئًا. ونحن في "الكفارة" لم نبين أن الحكم ثبت للجماع، ولم نعلق به، وإنما علقنا الحكم بإفساد الصوم، فنتعرف الحكم الوارد شرعًا أين ورد، وكيف ورد؟ وكذا أنتم لم تعلّقوا الحكم بالزنا. وبهذا يظهر الفرق -للمنصف- بين تعليل الحكم، وتعليل السببية، فإن تعليل الحكم تعدية له عن محله، مع تقريره في محله. وفي السببية إذا قلنا: علق الشرع الرجم بالزنا لعلة كذا، فألحقنا به غير الزنا: تناقض آخر الكلام وأوله؛ لأن الزنا إن كان مناطًا من حيث إنه "زنا" فألحقنا به ما ليس بزنا: أخرجنا الزنا عن كونه علة ومناطًا، فإنا نتبيّن بالآخرة: أن الزنا لم يكن هو السبب، بل معنى أعم منه وهو: إيلاج فرج.

_ 1 أي: فإن حاولوا الاعتذار عما وقعوا فيه فقالوا: إن هذا ليس بقياس، وإنما هو استدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق الملغاة. أجيب عن ذلك: بأن هذا لا ينفعكم، فإنه قياس من حيث المعنى، لوجود شرائط القياس فيه، ولا عبرة بالتسمية: انظر نزهة الخاطر "2/ 341".

في فرج محرم، فكيف يعلل كونه مناطًا بما يخرج به عن كونه مناطًا، والتعليل تقرير لا تغيير1. وإنما يكون تعليلًا أن لو بقي الزنا سببًا، وانضم إليه سبب آخر، كما بقي الخمر محلًّا للتحريم، وانضم إليه محل آخر، وذلك غير جار في الأسباب. قلنا: هذا الطريق جار لنا في "اللائط" و"النباش" وهو نوع إلحاق لغير المنصوص بالمنصوص، بفهم العلة التي هي مناط الحكم، فيرجع2 النزاع إلى الاسم3، ولا فائدة فيه. أو يقول4: هذا بعينه جار في الأحكام، فإن الخمر لما حرم لعلة الشدة: بينا أن وصف كونه خمرًا لا أثر له، والمؤثر إنما هو كونه مشتدًا مزيلًا للعقل. كما تبينا أن المؤثر في الحد: إيلاج فرج في فرج محرم. وكما جعلتم الموجب للكفارة في الجماع: كونه مفسدًا للصوم. فالقياس في كل موضع: توسعة محل الحكم، بحذف الأوصاف غير المؤثرة. وقولهم: "إنا نبين بهذا أن الزنا لم يكن سببًا". قلنا: بل هو سبب؛ لاشتماله على المعنى المؤثر.

_ 1 في جميع النسخ "يعتبر" والمثبت من ط الدكتور عبد العزيز السعيد، وهو الموافق لما في المستصفى. 2 في النسخة التي ننقل منها "فيرفع" والمثبت من المستصفى "3/ 697". 3 في الأصل الذي ننقل عنه "الحكم" والمثبت من المستصفى. 4 في الأصل: "أن" والمثبت من نسخة الدكتور النملة.

المنهج الثاني: أنا نعلل الحكم بالحكمة، ونعدّي الحكم بتعديها، كما في قوله عليه السلام: "لَا يَقْضِي القَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وهُوَ غَضْبَان" 1. إنما جعل الغضب سببًا؛ لأنه يدهش العقل، ويمنع من استيفاء الفكر، وهو موجود في "الجوع والعطش" المفرطين، فنقيسه عليه. وكقولنا: الصبي يولّى عليه لحكمة، وهي: عجزه عن النظر لنفسه2، فينصب "الجنون" سببًا، قياسًا على "الصغر" لهذه الحكمة. ولذلك: اتفق عمر وعلي -رضي الله عنهما- على قتل الجماعة بالواحد3، قياسًا على الواحد بالواحد، للاشتراك في الحاجة إلى الردع والزجر. وقولهم: "الزجر: ثمرة، إنما تحصل بعد الحكم، فكيف تكون علة"؟

_ 1 تقدم تخريج الحديث وبيان الخلاف في القياس عليه. 2 قال الغزالي بعدها: "فليس الصبا سبب الولاية لذاته بل لهذه الحكمة". المستصفى "3/ 698". 3 أثر قتل الجماعة بالواحد ورد عن عمر -رضي الله عنه- بروايات مختلفة: فرواه البخاري معلقًا في كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب، أو يقتص منهم كلهم ولفظه: "وقال لي ابن بشار: حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن غلامًا قُتل غِيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم". أما رواية موافقة علي لعمر -رضي الله عنهما- فقد أخرجها عبد الرزاق في مصنفه "9/ 477" وفيها: "أن عمر كان يشك فيها حتى قال علي: يا أمير المؤمنين: أرأيت لو أن نفرًا اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضوًا، وهذا عضوًا، أكنت قاطعهم؟ قال: نعم. قال: فذلك. حتى امتدح له الرأي". وانظر: التلخيص الحبير "4/ 20".

قلنا: الحاجة إلى الزجر هي العلة؛ لكون القتل سببًا، دون نفس الزجر، والحاجة سابقة وإن تأخر الزجر، كما يقال: خرج الأمير للقاء زيد، ولقاء زيد بعد خروجه، لكن الحاجة إلى اللقاء علة باعثة على الخروج سابقة عليه، وإنما المتأخر نفس اللقاء. كذلك ههنا: الحاجة إلى العصمة هي الباعثة، وهي متقدمة1. فصل: [في جريان القياس في الكفارات والحدود] ويجري القياس في الكفارات والحدود2، وهو قول الشافعية. وأنكره الحنفية. لأن الكفارات والحدود وضعت لتكفير المآثم، والزجر والردع عن المعاصي، والقدر الذي يحصل ذلك به من غير زيادة أمر استأثر الله بعلمه3.

_ 1 عبارة المستصفى "3/ 699": "فكذلك الحاجة إلى عصمة الدماء هي الباعثة للشرع على جعل القتل سببًا للقصاص، والشريك في هذا المعنى يساوي المنفرد، والمثقل يساوي الجارح، فألحق به قياسًا". وهي أوضح من عبارة المصنف، وأتت بالنتيجة المقصودة من المثال. 2 الكفارات مثل: كفارة القتل الخطأ، والظهار، واليمين، والحدود مثل: حد الزنا، والقذف، والشرب. ومثلهما: المقدرات: كنصب الزكوات، وعدد الصلوات، والركعات، وأروش الجنايات ونحوها. وهو مذهب الإمامين: الشافعي وأحمد، وإليه ذهب ابن القصار والباجي من المالكية، وأكثر العلماء. وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه، كما قال المصنف. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 451". 3 هذا هو الدليل الأول للحنفية.

وكذلك الحكم بمقدار معلوم في الصلاة و"الزكاة" و"المياه" لا يعلمه إلا الله -سبحانه- فلم يجز الإقدام عليه بالقياس1. ولأن الحد يدرأ بالشبهة، والقياس لا يخلو من الشبهة2. ولنا: ما تقدم في المسألة التي قبلها: من أنه يجري فيه قياس التنقيح3. ولأنه حكم من أحكام الشرع عقلت علته، فجرى فيه القياس كبقية الأحكام4. وما ذكروه5. يبطل بسائر الأحكام فإنها شرعت لمصالح العباد والقياس يجري فيها. ولو ساغ ما ذكروه: لساغ لنفاة القياس في الجملة. ولأننا إنما نقيس إذا علمنا الأصل، ويثبت ذلك عندنا بالقياس، فيصير كالتوقيف. فأما ما لا نعلمه: كأعداد الركعات ونحوه: فلا يجري القياس فيه. وقولهم: "إن في القياس شبهة". قلنا: يبطل بخبر الواحد، والشهادة، والظاهر، فإنه6 يثبت به الحد، مع وجود الاحتمال فيه.

_ 1 هذا هول الدليل الثاني. 2 هذا هو الدليل الثالث. 3 بدأ المصنف يورد أدلة القائلين بجريان القياس في الكفارات والحدود، والدليل الأول هو ما تقدم في مسألة جريان القياس في الأسباب. 4 هذا هو الدليل الثاني. 5 بدأ المصنف يناقش أدلة المخالفين. 6 في جميع النسخ "أنه" والمثبت من ط د. السعيد. وهو الذي يتفق مع السياق؛ =

مسألة: [في جريان القياس في النفي] والنفي على ضربين: طارئ، كبراءة الذمة من الدَّين1. فهو حكم شرعي يجري فيه قياس العلة، وقياس الدلالة، كالإثبات2. ونفي أصلي: وهو البقاء على ما كان قبل ورود الشرع، كانتفاء صلاة سادسة، فهو منفي باستصحاب موجب العقل. فلا يجري فيه قياس العلة؛ لأنه لا موجب له قبل ورود السمع، فليس بحكم شرعي حتى تطلب له علة شرعية، بل هو نفي حكم الشرع ولا علة له، إنما العلة لما يتجدد3.

_ = فإنه عائد إلى كل من: خبر الواحد، والشهادة، وظواهر النصوص، فكل واحد منها يثبت به الحد مع وجود الاحتمال فيه. 1 أي: بعد ثبوته في الذمة. والفرق بين النفي الطارئ والأصلي: أن النفي الطارئ: ما تقدمه ثبوت، كالمثال الذي معنا، والنفي الأصلي: ما لم يتقدمه ثبوت، كالمثال الذي أورده المصنف. 2 أي: أنه كالإثبات الشرعي؛ لأن النفي الطارئ بالشرع له خواص يستدل بانتفائها على انتفائه، وآثار يستدل بوجودها على وجوده، كذلك له علل وأسباب يعلل بها وتلحق به ما يشاركه فيها. ومن أمثلة ذلك: من خواص براءة الذمة من الدين: أن لا يطالب به بعد أدائه، ولا يرفع إلى الحاكم، ولا يحبس به، ولا يحال به عليه، وكل هذه الخواص موجودة، فدل على وجود براءة الذمة. انظر: شرح المختصر "3/ 453 وما بعدها". 3 هذا بيان للفرق بين قياس الدلالة وقياس العلة في النفي الأصلي.

لكن يجري فيه قياس الدلالة، وهو: أن يستدل بانتفاء حكم شيء على انتفائه عن مثله، ويكون ذلك ضم دليل إلى دليل، هو: استصحاب الحال1، والله أعلم. فصل: [في قوادح العلة] قال بعض أهل العلم: يتوجه على القياس اثنا عشر سؤالًا2:

_ 1 معناه: أنه ضم دليلًا إلى دليل، والدليل الذي ضمه هو استصحاب الحال. 2 بعض العلماء يسميها: قوادح العلة، والبعض يسميها: أسئلة. ولا خلاف في المعنى، إلا أن تسميتها أسئلة يستدعي توضيح معنى السؤال وأنواع الأسئلة حتى يتضح المراد. الأول: سؤال الفقير الغني، والعبد الرب، وهو: أن يطلب منه ما يصلحه من مال أو عفو. الثاني: سؤال الاستفهام، نحو: زيد يسأل عن حال عمرو، أي: يطلب منه معرفة كيفية حاله. الثالث: سؤال الاستفادة، كسؤال المتعلم للمعلم. الرابع: سؤال العناد والتعجيز، كسؤال المعترض للمستدل: لم قلت كذا وكذا؟ وهو طلب الفائدة أو الدليل. والمراد بالسؤال هنا: أحد هذين النوعين؛ لأن الأسئلة الواردة على القياس قد تكون من مستفيد يقصد معرفة الحكم، وقد تكون من معاند يقصد قطع خصمه ورده إليه. وهذه الأسئلة لم يذكرها الغزالي في "المستصفى" الذي هو أصل هذا الكتاب، وادعى أنها كالعلاوة على أصول الفقه، وأن موضع ذكرها: "علم الجدل". وقد أوصلها بعض العلماء إلى خمسة وعشرين سؤالًا، كابن الحاجب، وابن مفلح، والفتوحي في مختصر التحرير، بينما أوصلها الشوكاني إلى ثمانية وعشرين، =

الاستفسار -وفساد الاعتبار -وفساد الوضع -والمنع -والتقسيم -والمطالبة -والنقض- والقول بالموجب- والقلب- وعدم التأثير -والمعارضة- والتركيب [السؤال الأول: الاستفسار] أما الاستفسار: فيتوجه على المجمل1. وعلى المعترض إثبات الإجمال، ويكفيه في إثباته: بيان احتمالين في اللفظ، ولا يلزمه بيان المساواة بينهما؛ لأنه ليس في وسعه ذلك. وجوابه: منع تعدد الاحتمال، أو بترجيح أحدهما2.

_ = وحصرها الإمام الرازي في أربعة: النقض، وعدم التأثير، والقول بالموجب، والقلب. انظر: بيان المختصر "3/ 178"، شرح الكوكب المنير "4/ 229"، إرشاد الفحول "2/ 209"، المحصول "2/ 2/ 321"، شرح مختصر الروضة "3/ 458 وما بعدها". 1 معناه: طلب تفسير اللفظ وبيان المراد به، إذا كان لفظ المستدل مجملًا؛ لأن المجمل لا يفيد معنى معينًا، كما تقدم في تعريفه، وحينئذ: إما أن يعترض المعترض على كل واحد من معانيه، أو على أحدهما، أو لا على واحد منهما. انظر: شرح المختصر "3/ 459-460". 2 معناه: أنه يجب على المعترض إثبات الإجمال في لفظ المستدل، ولا يكفي أن يدعي أنه مجمل؛ لأن ذلك يؤدي إلى فتح باب العناد، إذ يصح لكل معترض أن يقول: هذا مجمل بدون بينة. وطريق بيان الإجمال: أن يبين له أن لفظه يحتمل معنيين فصاعدًا احتمالًا مطلقًا، ولا يلزمه بيان التساوي بين هذين المعنيين. معنى ذلك: أن من حق المستدل أن يجيب عن هذا السؤال بوجهين: أحدهما: منع تعدد احتمالات اللفظ، إن أمكن ذلك.

السؤال الثاني: فساد الاعتبار وهو أن يقول1: هذا قياس يخالف نصًّا، فيكون باطلًا، فإن

_ = الثاني: أن يبين رجحان أحد المعنيين في اللفظ المجمل بأمر من الأمور المرجحة، وبذلك يسلم الاستدلال. ومن أمثلة هذا النوع من الأسئلة: لو قال المستدل: العدة بالأقراء. فيقول المعترض: لو كان بالأقراء، للزم خلاف الظاهر، إذ ظاهر القرآن أنها تعتد بثلاثة قروء كوامل، يعني بالقروء: الأطهار، وكمالها قد يتخلف فيما إذا طلقها في أثناء طهر، فإنها تعتد به قرءًا، فلا يحصل اعتدادها بثلاثة قروء كاملة. فيقول المستدل: أنا أردت بالأقراء الحيض، والكمال لازم فيها؛ إذ بعض الحيضة لا يعتد به قرءًا، فيكون قد أعد الإجمال في أول كلامه، للحاجة إلى التفصيل في آخره، فلأجل هذه الأمور العارضة للإجمال، توجه سؤال الاستفسار، ليكون المعترض متكلمًا على بصيرة آمنًا من المغالطة والمخاتلة. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 461-462". 1 أي: يقول المعترض: هذا القياس باطل؛ لأنه يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع. مثال ما خالف الكتاب: قولنا: يشترط تبييت النية لرمضان؛ لأنه صوم مفروض فلا تصح نيته بالنهار. فيقول المعترض: هذا فاسد الاعتبار؛ لمخالفته نص الكتاب، فإن الله تعالى بين أن الصائم له أجر عظيم، فيكون صومه صحيحًا. ومثال ما خالف السنة: قولنا: لا يصح السلم في الحيوان؛ لأنه عقد يشتمل على الغرر فلا يصح، كالسلم في المختلطات. فيقول المعترض: هذا فاسد الاعتبار؛ لمخالفته لما روي عن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- أنه رخص في السلم. ومثال ما خالف الإجماع: قول الحنفي: لا يجوز أن يغسِّل الرجل زوجته؛ لأنه يحرم النظر إليها، فحرم غسلها كالأجنبية. فيقول المعترض: هذا فاسد الاعتبار، لمخالفته الإجماع السكوتي، وهو أن عليًّا غسَّل فاطمة ولم ينكر عليه أحد، والقضية في مظنة الشهرة، فكان ذلك إجماعًا انظر: شرح مختصر الطوفي "3/ 467-468".

الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا لا يصيرون إلى قياس مع ظفرهم بالخبر؛ فإنهم كانوا يجتمعون لطلب الأخبار، ثم بعد حصول اليأس: كانوا يعدلون إلى القياس. وقد أخر معاذ -رضي الله عنه- العمل به عن السنة، فصوبه النبيُّ، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم1. والجواب2 من وجهين: أحدهما: أن يبين عدم المعارضة. والثاني: بيان أن القياس الذي استند إليه من قبيل ما يجب تقديمه على المعارض المذكور. السؤال الثالث: فساد الوضع وهو: أن يبين أن الحكم المعلق على العلة تقتضي العلة نقيضه3. مثاله: ما لو قال: في النكاح بلفظ الهبة: "لفظ الهبة ينعقد به غير النكاح، فلا ينعقد به النكاح كالإجارة". فيقال له: هذا تعليق على العلة ضد ما تقتضيه؛ فإن انعقاد غير النكاح به يقتضي انعقاد النكاح به، لا عدم الانعقاد.

_ 1 هذا الحديث دليل على أن رتبة القياس بعد النص. 2 أي: الجواب من المستدل على هذا الاعتراض من وجهين، كما ذكر المصنف. 3 قال الطوفي في شرحه "3/ 472": "وإنما سمي هذا فساد الوضع؛ لأن وضع الشيء: جعله في محل على هيئة أو كيفية ما، فإذا كان ذلك المحل، أو تلك الهيئة، لا تناسبه، كان وضعه على خلاف الحكمة، وما كان على خلاف الحكمة يكون فاسدًا. فنقول ههنا: إن العلة إذا اقتضت نقيض الحكم المدعي أو خلافه، كان ذلك =

وجوابه1 من وجهين: أحدهما: أن يدفع قول الخصم: "إنه يقتضي نقيض ذلك". الثاني: أن يسلم ذلك، ويبين أنه يقتضي ما ذكره من وجه آخر، والحكم على وفقه فيجب تقديمه؛ لأن الأخذ بما ظهر اعتباره أولى من الأخذ بغيره. فإن ذكر الخصم لما ذكره أصلًا يشهد له بالاعتبار فهو انتقال إلى سؤال المعارضة. السؤال الرابع: المنع ومواقعه أربعة: منع حكم الأصل. منع وجود ما يدّعيه علة الأصل. ومنع كونه علة [في الأصل] . ومنع وجوده في الفرع2. وقد اختلف في انقطاع المستدل عند توجه منع الحكم في الأصل: والصحيح: أنه لا ينقطع، على التفصيل الذي ذكرناه3.

_ = مخالفًا للحكمة، إذ من شأن العلة أن تناسب معلولها، لا أنها تخالفه، فكان ذلك فاسد الوضع بهذا الاعتبار. 1 أي: من جهة المستدل. 2 مثال ذلك: إذا قيل: النبيد مسكر، فكان حرامًا، قياسًا على الخمر. فيقول المعترض: لا نسلم تحريم الخمر، إما جهلًا بالحكم، أو عنادًا فهذا منع حكم الأصل. ولو قال: لا أسلم وجود الإسكار في الخمر، لكان هذا منع وجود المدعى علة في الأصل. ولو قال: لا أسلم أن الإسكار علة التحريم لكان هذا مع علية الوصف في الأصل. ولو قال: لا أسلم وجود الإسكار في النبيذ، لكان هذا منع وجود العلة في الفرع. 3 أي: في أركان القياس.

الثاني: منع وجود ما يدعيه علة في الأصل. فعند ذلك يحتاج المستدل إلى إثباته. إن كان عقليًّا: فبالاسترواح إلى أدلة العقل. وإن كان محسوسًا. بالاستناد إلى شهادة الحس. وإن كان شرعيًّا. فبدليل شرعي. وقد يقدر على ذلك بإثبات أثر، أو أمر يلازمه. الثالث: منع كونه علة [في الأصل] فيحتاج إلى إثباتها بأحد الطرق التي ذكرناها. الرابع: منع وجود ما ادّعاه علة في الفرع. ولا بد لبيان ذلك بطريقة. السؤال الخامس: التقسيم 1 وحقه أن يقدم على المطالبة؛ إذ فيه منع، والمطالبة: تسليم محض. والمنع بعد التسليم غير مقبول، إذ هو رجوع عما اعترف به. والتسليم بعد المنع يقبل؛ لأنه اعتراف بما أنكر فيقبل؛ لأنه علته والإنكار بعد الاعتراف له فلا يقبل. ويشترط لصحته شرطان. أحدهما: أن يكون ما ذكره المستدل منقسمًا إلى: "ما يمنع ويسلّم".

_ 1 وهو عبارة عن ترديد اللفظ بين احتمالين متساويين، واختصاص كل احتمال باعتراض مخالف للاعتراض على الآخر. والتقسيم نوعان. أحدهما: من الناظر في استخراج العلة بتخريج المناط. والثاني: من المعترض المناظر على ما يقوله المستدل، وهذا هو المقصود هنا.

فلو أورد ذلك بذكر زيادة في الدليل على ما ذكره المستدل فلا يصح؛ لأنه يمهد لنفسه شيئًا، ثم يوجه الاعتراض، فحينئذ يكون مناظرًا مع نفسه، لا مع خصمه. الثاني: أن يكون حاصرًا لجميع الأقسام، فإنه إذا لم يكن حاصرًا فللمستدل أن يبين أن مورده غير ما عينه المعترض1 بالذكر، فعند ذلك يندفع. وطريق المعترض في صيانة تقسيمه عن هذا الدفع أن يقول عن التقسيم: إن عنيت به هذا المحتمل: فمسلم، والمطالبة متوجهة. وإن عنيت به ما عداه: فممنوع. وذكر قوم: أن من شرط صحته: أن يكون الاحتمال في الأقسام على السواء. لكن يكفيه بيان الاحتمالات، ولا يلزمه بيان المساواة، لكونه غير مقدور عليه. وأنه إذا بين المستدل ظهور اللفظ في مجمل. إما بحكم الوضع، وإما بحكم العرف، وإما بقرينة وجدت: فسد التقسيم. قال: ولو لم يكن اللفظ مشهورًا في أحدهما، فللمستدل أن يبين ظهوره. بأن يقول للمعترض: سلمت أن اللفظ غير ظاهر في غير هذا المحتمل. ولا بد للمعترض من تسليم ذلك، ضرورة صحة تقسيمه، فإن شرطه: تساوي الاحتمالات، وأنا أسلم ذلك، أيضًا فيلزم أن يكون

_ 1 في جميع النسخ "المستدل" والمثبت من أن الدكتور عبد العزيز السعيد.

ظاهرًا في الاحتمال الذي عينه، ضرورة نفي الاشتراك، فإنه على خلاف الأصل. ويمكن أن يمنع أن تساوي الاحتمالات شرط1، إذ لا حجر على المستدل أن يفسر كلامه بما يحتمله، وإن كان الظاهر خلافه، فكذلك، لا حجر على المقسّم في تقسيمه إلى ما يمكن المستدل أن يفسر كلامه. وجواب التقسيم من حيث الجدل. بدفع انقسام الكلام أو بيان ظهور أحد الاحتمالين. أو بيان أن الكلام غير منحصر في الأقسام المذكورة. وإن اختار الجواب الفقهي فأمكنه الدلالة على المنع، واختيار القسم المسلم، فالأحسن اختيار القسم المسلم؛ لأنه يستغنى عن الدلالة على المنع. وإن اختار القسم الآخر: جاز، فإن فيه تكثيرًا للفقه. وإن لم يقدر إلا على سلوك أحد الطريقين فليختره2. القسم السادس، في السؤال، المطالبة. وهي: طلب المستدل بذكر ما يدل على أن ما جعله جامعًا هو العلة3.

_ 1 معناه: أنه يمكنه أن يمنع شرطية تساوي الاحتمالات في هذا النوع 2 وضح الطوفي هذا النوع من الأسئلة الفقهية على كل احتمال من هذه الاحتمالات، ونقل ذلك كله يخرجنا عن الهدف الذي قصدناه. فليرجع من شاء إلى شرح مختصر الروضة 3/ 489 وما بعدها". 3 معناه: أن يطلب المعترض من المستدل الدليل على أن الوصف الذي جعله جامعًا بين الأصل والفرع علة، كقوله، فيما إذا قال: مسكر، فكان حرامًا =

وهو المنع الثالث في المعنى1. وفيه: تسليم وجود العلة في الفرع، وفي الأصل، وتسليم الحكم2. وجواب ذلك. بيان كونه علة بأحد الطرق التي ذكرناها3. القسم السابع -في السؤال- النقض. ومعناه: إبداء العلة بدون الحكم. أي: أن لا تكون العلة مطابقة للحكم4. وقد ذكرنا الخلاف في كونه مفسدًا للعلة فيما مضى5. ورجحنا قول من قال: بصحة النقض.

_ = كالخمر، أو مكيل، فحرم فيه التفاضل كالبر. فيقول المعترض: لِمَ قلت: إن الإسكار علة التحريم، وإن الكيل علة الربا؟ 1 معناه: أن الجواب عنها هو عين الجواب المذكور في المنع الثالث من السؤال الرابع المتقدم، وليس المقصود أنها الثالث بعينه وإن كانت عبارته غير واضحة 2 أي أن المعترض مسلم بالأمور الثلاثة، ولكنه يطلب دليلًا على أن الوصف المذكور هو العلة، كما في المثال المتقدم. 3 في أدلة إثبات العلة، أو ما يسمى بمسالك العلة، وهي ثلاثة: النص، والإجماع، والاستنباط. 4 مثال ذلك: أن يقال في إقامة حد السرقة على النباش: سرق نصابًا كاملًا من حرز مثله، فيجب عليه القطع، كسارق مال الحي. فيقول المعترض: هذا ينتقض بالولد يسرق مال ولده، وصاحب الدَّين يسرق مال مدينه؛ فإن الوصف موجود فيهما، ولا يقطعان. 5 أي: في مسألة تخصيص العلة.

واختلف في وجوب الاحتراز في الدليل عن صورة النقض: والأليق: وجوب الاحتراز؛ فإنه أقرب إلى الضبط، وأجمع لنشر الكلام، وهو هيِّن. ثم للمستدل في دفع النقض طرق أربعة: منها: منع وجود العلة. أو الحكم في صورة النقض. وليس للمعترض أن يدل عليه1؛ إذ فيه الكلام إلى مسألة أخرى، وتصدي المعترض لمنصب الاستدلال، وكل واحد منها على خلاف ما يقتضيه جمع الكلام. فإن قال المستدل: لا أعرف الرواية فيها: كفى ذلك في دفع النقض؛ لأن كون هذه المسألة من مذهبه مشكوك فيها، فلا يترك ما قام الدليل على صحته لأمر مشكوك فيه. الثالث: أن يبين في الموضع الذي تخلف الحكم فيه، ما يصلح مستندًا لذلك من: "فوات شرط" أو "وجود مانع"؛ ليظن استناد تخلف الحكم إليه، فيبقى الظن المستفاد من الدليل بحاله. ويكفيه أن يبين -في صورة النقض- معنى يناسب انتفاء الحكم، أو فوات أمر يناسب الاشتراط، فإن الغالب: اعتبار المصالح والمفاسد. ولا يعتبر قول من قال: لا بد أن يبين "وجود المانع" أو "فوات الشرط" في صورة النقض، ولا يثبت ذلك ما لم يوجد المقتضى، ولا يثبت كونه مقتضيًا ما لم يثبت المانع، فيفضي إلى الدور؛ لأنا نقول: كونه

_ 1 أي: ليس من حق المعترض أن يستدل على وجود العلة في صورة النقض، حتى لا يصير المعترض مستدلًا، والمستدل معترضًا، فتنقلب قاعدة النظر وينتشر الكلام، وهذا على خلاف قواعد المناظرة.

مناسبًا معتبرًا يدل على كونه مقتضيًا وإنما ترك لمعارضة تخلف الحكم، فإذا ظهر ما يصلح مستندًا له: وجب إحالة الحكم عليه، وبقي الظن الأول بحاله. ولو أبدى النقض على أصل المستدل، فيلزمه الاعتذار عنه، ويكفيه في ذلك أمر يوافق أصله. وإن أبداه على أصل نفسه وقال: هذا الوصف لم يطرد على أصلي، فكيف يلزمني اتباعه: لم يصح، فإن المستدل إذا أثبت أن ما ذكره مقتضى للحكم، نظرًا إلى الدليل: لزم خصمه الانقياد إليه، والعمل بمقتضاه في جميع الصور، وكان حجة عليه في صورة النقض، كما هو حجة في المسألة التي هما فيها؛ فإن ما ذكره في الدليل على كونه علة مغلب للظن، إنما يترك لمعارض، ولا تقبل معارضة الخصم بأصل نفسه. الرابع، في دفع النقض: أن يبين كونه مستثنى عن القاعدة بكونه على خلاف الأصلين، على ما مر1. ولو قال المعترض: ما ذكرته من الدليل على كونه علة موجود في صورة النقض: فهذا نقض لدليل العلة، لا لنفس العلة، فيكون انتقالًا من سؤال إلى سؤال2. ويكفي المستدل في ذلك أدنى دليل يليق بأصله.

_ 1 وهي مسألة: هل يجوز القياس على المستثنى من القاعدة، مثل: عرية التمر، هل يقاس عليها العنب وغيره؟ 2 معنى ذلك: أنه إذا نقض المعترض علة المستدل بصورة، فأجاب المستدل عن =

[السابع: الكسر- معناه وحكمه] وأما الكسر: وهو إبداء الحكمة بدون الحكم: فغير لازم؛ لأن الحكم مما لا ينضبط بالرأي والاجتهاد، فيتعين النظر إلى مراد الشارع في ضبط مقدارها1.

_ = ذلك بأحد الأجوبة المتقدمة وهي: إما منع العلة، أو الحكم في صورة النقض، أو ورود النقض على المذهبين، أو غير ذلك، فقال المعترض: الدليل الذي دل على أن وصفك الذي عللت به في محل النزاع، علة موجودة في صورة النقض، فيلزمك الإقرار بثبوت الحكم فيها، عملًا بوجود الوصف المقتضي له، لكنك لم تقل به، فيلزمك النقض. مثال ذلك: أن يقول الحنفي، في قتل المسلم بالذمي: قتل عمد عدوان فأوجب القصاص، كقتل المسلم. فيقول الحنبلي: لا أسلم أن قتل الذمي عدوان فيقول الحنفي: الدليل على أن قتل الذمي عدوان: أنه معصوم بعد الإسلام، وكل من كان معصومًا بعصمة الإسلام فقتله عدوان. فيقول المعترض: دليل العدوانية في قتل الذمي موجود في قتل المعاهد، فليكن عدوانًا يجب به القصاص على المسلم. فهذا نقض لدليل العلة، لا لنفس العلة، فلا يسمح؛ لأنه -كما قلنا سابقًا- انتقال من منصب المعترض إلى منصب المستدل، وهو غير جائز في عرف المناظرة. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 503"، ونزهة الخاطر العاطر "2/ 370-371". 1 أضاف المصنف إلى الأسئلة التي أوردها نوعًا آخر، ضمن النقض، وهو: الكسر. وكثير من العلماء يعدونه نوعًا مستقلًّا. وللكسر تعريفات مختلفة: فعرفه الإمام الرازي وأتباعه بأنه: "عدم تأثير أحد جزأي العلة ونقض الجزء الآخر" بأن يكون الوصف المدعى عليته مركبًا من جزئين، فيبين المعترض: أن أحدهما لا تأثير له في الحكم، ولا يستلزمه، ثم ينقض الجزء الآخر، بأن يوجد الحكم بدون هذا الوصف. وبناء على ذلك لا يكون الكسر إلا في العلل المركبة، =

وإذا1 احترز عن النقض بذكر وصف في العلة لا أثر له في الحكم لو عدم في الأصل لم يعدم الحكم بعدمه: لم يندفع النقض به، نحو قولهم، في الاستجمار: حكم يتعلق بالأحجار يستوي فيه الثيب والأبكار، فاشترط فيه العدد، كرمي الجمار. وقال قوم: يندفع به النقض؛ لأن العلة يشترط لها الطرد. فإذا لم يكن الوصف المؤثر مطردًا: ضممنا إليه وصف غير مؤثر، لتكون العلة مؤثرة مطردة.

_ = أما التعريف الذي اختاره جمهور العلماء ومنهم المصنف، فهو: إبداء الحكمة بدون الحكم. كما قال المصنف. مثال ذلك قول الحنفي، في العاصي بسفره: يترخص؛ لأنه مسافر، فيترخص كالمسافر سفرًا مباحًا. فإذا قيل له: لم قلت: إنه يترخص؟ قال: لأنه يجد مشقة في سفره، فناسب الترخص، وقد شهد له الأصل المذكور بالاعتبار. فيقول الحنبلي: هذا ينكسر بالمكاري والفيّج "وهو الذي يسرع في مشيه الذي يحمل الأخبار من بلد إلى بلد" ونحوهما ممن دأبه السفر، يجد المشقة ولا يترخص، وكذلك المريض الحاضر، يجد المشقة، ولا يجوز له قصر الصلاة. انظر: شرح المختصر "3/ 511". والصحيح عن علماء الأصول أن الكسر لا يعتبر نقضًا للعلة؛ لأن الحِكَم ليست مضبوطة في نفسها؛ لأنها عبارة عن جلب مصالح، ودفع مفاسد، والمصالح والمفاسد تختلف وتتفاوت باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وما كان كذلك وجب رده إلى تقدير الشارع وضبطه. انظر: المحصول "2/ 2/ 353"، شرح الطوفي "3/ 511 – 512". 1 هذا من تتمة الكلام على النقض. والمصنف أقحم موضوع "الكسر" في النقض، وكان الأولى أن يجعله مستقلًّا، أو ملحقًا بالنقض لشبهه به. ومعنى هذا الكلام: أن المعلل إذا احترز عن النقض بذكر وصف في العلة غير مؤثر في الحكم -وجودًا وعدمًا- بحيث لا يتوقف وجوده على وجوده، ولا عدمه على عدمه، لم يندفع النقض به، وهو رأي جمهور العلماء ورجحه المصنف، وخالف في ذلك =

ولنا: أن الوصف الطردي بمفرده لا يصلح للتعليل به في موضع، فلا يجوز التعليل به مع غيره، كما لو كان خاليًا عن الطرد والتأثير. وهذا صحيح؛ فإن ما ليس أثر إذا كان مفردًا لا يؤثر بغيره، كالفاسق في الشهادة1. وإن احترز2 عن النقض بشرط ذكَرَه في الحكم، مثل أن يقول:

_ = بعض العلماء وقالوا: يندفع به النقض. ومثاله: ما ذكره المصنف. وتوضيحه: أن قوله: الاستجمار حكم يتعلق بالأحجار وصف شبهي صحيح وقوله: يستوي فيه الثيب والأبكار. لا تأثير له في اشتراط العدد ولا عدمه، وإنما أتي به دفعًا لنقض القياس المذكور بحد الرجم؛ لأنه حكم يتعلق بالأحجار، فلو اقتصر على هذا الوصف في الاستجمار، لورد عليه حد الرجم؛ لأنه حكم يتعلق بالأحجار، ولم يشترط فيه العدد، فلما قيل: يستوي فيه الثيب والأبكار، خرج حد الرجم، وزال النقض به؛ لأنه وإن كان حكمًا يتعلق بالأحجار، لكنه فارق الاستجمار، بأنه يختلف فيه الثيب والأبكار، فالثيب إذا زنا يرجم، والبكر لا يرجم، بل يجلد ويغرّب، بخلاف الاستجمار، فإنه يستوي فيه الثيب والبكر؛ لأنه إزالة نجاسة، وهما مخاطبان بها. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 515". 1 أي: لا تقبل شهادته وحده، فيما تقبل فيه شهادة الواحد كالرضاع، عند بعض العلماء، فلا تقبل شهادته مع غيره فيما يعتبر فيه شهادة أكثر من واحد. 2 أي المستدل. ومعناه: أن المستدل لو احترز عن نقض العلة بذكر شرط في الحكم، بأن قيده بشرط أو وصف كالمثال الذي ذكره المصنف. فالعلة تقتضي أنه حيث وجد حرّان مكلفان محقونا الدم أن يجري بينهما القصاص، حتى في قتل الخطإ وشبه العمد، لكن ذلك باطل بالإجماع. فلما انتقضت العلة بذلك كان احترازه في الحكم بذكر العمد لاحقًا للعلة بعد فسادها فلم يؤثر في تصحيحها، كما ولغ كلب في قلتي ماء إلا رطلين، ثم وضع فيه رطل ماء، لم يكن مؤثرًا في زوال نجاسته بالولوغ السابق. انظر: شرح الطوفي "3/ 517".

"حرّان مكلفان محقونا الدم، فوجب أن يثبت بينهما القصاص في العمد كالمسلمين": فقيل: هذا اعتراف بالنقض؛ لأن علته: الأوصاف المذكورة أولًا، فيجب أن يثبت حكمها حيث وجدت: فإذا قال، في العمد: اعترف بتخلف حكمها في الخطإ، فتكون العلة قاصرة، ويجب أن يذكر العمد، إن كان وصفًا من العلة مع الأوصاف المتقدمة. وقال آخرون: هو صحيح؛ لأن الوصف المذكور آخرًا وهو العمد متقدم في المعنى، وهذا جائز، كتقديم المفعول على الفاعل، وإن كان متأخرًا في اللفظ، فإن للعمد أثرًا في القصاص، فيجب أن يكون من جملة العلة، واختاره أبو الخطاب. الوجه الثامن -في الاعتراض- القلب. ومعناه: أن يذكر لدليل المستدل حكمًا ينافي حكم المستدل، مع تبقية الأصل والوصف بحالهما1. وهو قسمان: أحدهما: أن يبين أنه يدل على مذهبه. مثاله: أن يعلل حنفي -في الاعتكاف بغير صوم- بأنه لبث محض، فلا يكون قربة بمفرده، كالوقوف بعرفة. فيقول المعترض: لبث محض، فلا يعتبر الصوم في كونه قربة، كالوقوف بعرفة2.

_ 1 أي: أن المعترض يقلب دليل المستدل، ويبين أنه عليه لا له. 2 أي: كما أن الوقوف بعرفة لا يشترط لصحته الصوم، فكذلك الاعتكاف لا يشترط لصحته الصوم، عملًا بالوصف المذكور، وهو كون الوقوف والاعتكاف لبثًا محضًا وإذا تبين أن وصف المستدل يناسب دعواه وعدمها، لم يكن إثبات أحد الأمرين أولى من الآخر.

القسم الثاني: أن يتعرض لبطلان مذهب خصمه. كما لو قال حنفي، في مسح الرأس: ممسوح في الطهارة، فلا يجب استيعابه كالخف. فيقول خصمه: ممسوح في الطهارة، فلا يتقدر بالربع كالخف. أو يقول، في بيع الغائب: عقد معاوضة فينعقد مع جهل العوض كالنكاح. فيقول خصمه: فلا يعتبر فيه خيار الرؤية كالنكاح1. فيلزم من الوفاء بموجب ذلك: امتناع التصحيح؛ فإنه لازم لذلك في مذهب الخصم، ويلزم من انتفاء اللازم: انتفاء الملزوم لا محالة2.

_ 1 في هذين المثالين إشارة إلى أن القسم الثاني تحته نوعان: أحدهما: إبطال مذهب المستدل صراحة. ثانيهما: إبطال مذهبه ضمنًا، أي: يدل على بطلان لازم من لوازمه، وسيأتي للمصنف أن يوضح ذلك. 2 توضيح ذلك أن الحنفي إذا قال -في بيع الغالب- هو: عقد معارضة، فينعقد مع جهل العوض كالنكاح، فإنه يصح مع جهل الزوج بصورة الزوجة وكونه لم يرها، فكذلك في البيع، بجامع كونهما عقد معاوضة. فيقول المعترض: هذا الدليل ينقلب عليك بأن يقال: عقد معاوضة فلا يعتبر فيه خيار الرؤية كالنكاح، فإن الزوج إذا رأى الزوجة ولم تعجبه، لم يجز له فسخ النكاح، فكذلك المشتري لا يكون له خيار إذا رأى المبيع في بيع الغائب، بمقتضى الجامع المذكور. فالخصم، هنا لم يصرح ببطلان مذهب المستدل، لكن دل على بطلانه ببطلان لازمه -عند الخصم- وهو خيار الرؤية، فإن أبا حنيفة يجيز بيع الغائب بشرط ثبوت الخيار للمشتري إذا رآه. وإذا بطل هذا الشرط -بموجب قياسه على النكاح- بطل مشروطه، وهو صحة البيع، فهو إبطال له بالملازمة لا بالتصريح. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 521-522".

[الفرق بين القلب والمعارضة] والقلب نوع من المعارضة، لكنه يزيد على مطلق المعارضة بكونه يعارضه بعين1 المذكور، فيستغنى عن مؤن كثيرة يحتاج إليها في المعارضة: من الأصل، وبيان الجامع. ويجيب عن هذا السؤال بما يجيب به عن المعارضة، إلا أنه يسقط منه: منع وجود الوصف2.

_ 1 في الأصل الذي ننقل منه "بغير" والمثبت من ن الدكتور النملة. 2 جمهور العلماء على أن القلب نوع من المعارضة، وهو الذي رجحه المصنف، إلا أنه نوع خاص من المعارضة، يتميز عنها بما يأتي: أولًا: أنه لا يحتاج إلى أصل؛ لأنه يعتمد على أصل المستدل. ثانيًا: أنه لا يحتاج إلى إثبات الوصف. فكل قلب معارضة، وليس كل معارضة قلبًا. وجواب المعارضة -كما سيأتي- هو جواب القلب، إلا أنه يسقط منه: منع وجود الوصف؛ لأنه مقر بوصف المستدل. ومن أمثلة ذلك: أن يقول، في مسألة مسح الرأس: لا نسلم أن الخف لا يتقدر بالربع، فيمنع حكم الأصل في قلب المعترض، إلا منع الوصف، فإنه يجوز في المعارضة، ولا يجوز في القلب، مثل أن يقول: لا نسلم أن الاعتكاف والوقوف لبث محض، أو لا نسلم أن مسح الرأس والخف مسح، أو لا نسلم أن البيع أو النكاح عقد معاوضة. والفرق بين المعارضة والقلب في ذلك: أن المستدل في المعارضة لم يعلل بوصف المعترض، ولا التزمه واعتمد عليه في قياسه، فجاز له منعه، بخلاف القلب، فإن المستدل التزم في قياسه صحة ما علل به المعترض وهو: اللبث والمسح، وعقد المعاوضة، فليس له في جواب القلب منعه؛ لأنه هدم لما بنى، ورجوع عما التزمه، واعترف بصحته. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 522-523".

الوجه التاسع -من السؤال- المعارضة 1: وهو قسمان: معارضة في الأصل. ومعارضة في الفرع. وأحسنهما: المعارضة في الأصل؛ لأنه لا يحتاج إلى ذكر غير صلاحية ما يذكره، ولا يحتاج إلى أصل. وفي المعارضة في الفرع يحتاج إلى ذكر صلاحية ما يذكره للتعليل، وأصل يشهد له، ثم ينقلب مستدلًا، والمستدل معترضًا عليه. ومعنى المعارضة في الأصل: أن يبين في الأصل الذي قاس عليه المستدل معنى يقتضي الحكم2.

_ 1 قال الطوفي في شرحه "3/ 527": "المعارضة مفاعلة من "عرض له يعرض: إذا وقف بين يديه، أو عارضه في طريقه ليمنعه النفوذ فيه، فكأن المعترض يقف بين يدي المستدل، أو يوقف حجته بين يدي دليله؛ ليمنعه من النفوذ في إثبات الدعوى". وقال في ص525 من نفس الجزء: "الفرق بين هذه المعارضة والاعتراض: أن المعارضة كدليل مستقل، فلا يتقدر بدليل المستدل، بخلاف الاعتراض، فإنه منع للدليل، فلا تجوز الزيادة عليه، إذ يكون كالكذب على المستدل، حيث يقوله ما لم يقل". 2 مثال ذلك: لو علل الشافعي تحريم ربا الفضل في البر بالطعم، فعارضه الحنفي بتعليل تحريمه بالكيل أو الجنس أو القوت. ومعنى هذا: أن يبين المعترض أن في الأصل الذي قاس عليه المستدل معنى آخر يصلح للتعليل غير الذي ذكره المستدل، وحينئذ لا يتعين ما ذكره المستدل لأن يكون علة، بل يحتمل أن يكون هو، ويحتمل أن يكون علية الوصفين جميعًا، =

فقد قال قوم1: إنه لا يحتاج المستدل إلى حذفه؛ لأنه لو انفرد ما ذكره صح التعليل به. وإنما صح، لصلاحيته، لا لعدم غيره، إذ العدم ليس من جملة العلة، وصلاحيته لا تختلف2. ولأن معنى العلة: أنه إذا وجدت: ثبت الحكم عقبه، فعند ذلك لا تتحقق المعارضة بين الوصفين إذا أمكن الجمع، بأن قال: إذا وجد كل واحد منهما: ثبت الحكم. فإن بين المعترض أن الوصف الذي ذكره يناسب إثبات الحكم عند وجود ما ذكره المستدل، فيكون من قبيل المانع في الفرع3. والصحيح: أن المستدل يلزمه حذف ما ذكره المعترض، إذ المناسب العرى عن شهادة الأصل غير معمول به.

_ = الذي ذكره المستدل، والذي ذكره المعترض. كما في المثال المتقدم. 1 المراد بهم: جماعة من علماء الجدل. وخلاصة المسألة: أنه هل يلزم المستدل الاحتراز في دليله عن الوصف الذي أبداه المعترض في الأصل، وذلك بحذف هذا الوصف أو لا يلزمه ذلك؟ قولان لعلماء الجدل سبق ذكر مثلهما في سؤال النقض. فإن أهمل المستدل الاحتراز عما ذكره المعترض كان من حق المعترض أن يعارض به، فيرد على المستدل ويلزمه جوابه. مثال ذلك: قول الحنفي -في رفع اليد في الركوع- ركن غير الإحرام فلا يشرع فيه رفع اليد كالسجود؛ فإنه إن لم يحترز عن -الإحرام- عارضه به الخصم بأن يقول: ركن فشرع فيه الرفع كالإحرام. انظر: شرح المختصر "3/ 530". 2 أي: وإنما صح التعليل به لكون ذلك الأصل صالحًا لأن يكون علة، وليس لعدم وجود غيره، إذ الأعدام لا تكون من جملة العلة. 3 معناه: إذا بين المعترض في أصل قياس المستدل وصفًا زائدًا على الفرع يصح =

فإذا استند إلى أصل ثبت الحكم على وقفه. فالناظر المجتهد ليس له العمل به ما لم يبحث، بحيث يستفيد ظنًّا غالبًا أنه ليس ثم مناسب آخر. وأما المناظر: فيكفيه مجرد تقرير المناسبة، وإثبات الحكم على وفقه، دفعًا لشغب الخصم، إلى أن يبين المعترض في الأصل مناسبًا آخر، فعند ذلك يتعارض احتمالات ثلاثة: أحدها: أن يثبت الحكم؛ رعاية لما ذكره المستدل. "واحتمال ثبوته، رعاية لما ذكره المعترض"1 واحتمال ثبوته، رعاية لهما جميعًا. ولعل هذا الاحتمال أظهر، فإنه لو قدر ثبوت الحكم لأحدهما بعينه: كان إعراضًا عن اعتبار الآخر، وهو خلاف دأب الشارع؛ فإنه لا يزال يسعى في اعتبار المصالح، ويمتنع التعليل بكل واحد من المناسبين استقلالًا، فإن معنى تعليل الحكم بالمناسب: ثبوته لمصلحته لا غير، أي: هي كافية. فعند ذلك: يمتنع مثل هذا القول بالنسبة إلى الآخر، لما بينهما من

_ = تعليق الحكم عليه، فألغاه المستدل ببيان ثبوت الحكم في أصل آخر بدون ذلك الوصف الذي أبداه المعترض، فبين المعترض أن في هذا الوصف الثاني وصفًا آخر مناسبًا يصح تعليق الحكم به لزم المستدل إبطال هذا الوصف، بحذفه أو منعه أو غير ذلك من وجوه الإبطال؛ لأنه إن لم يبطله كان الكلام فيه كالكلام في الأصل الأول، من حيث إن ما ذكره المستدل للتعليل. وهذا معنى قول المصنف: "فيكون من قبيل المانع في الفرع". راجع توضيح ذلك بالأمثلة في شرح الطوفي "3/ 535 وما بعدها". 1 ما بين القوسين من ن الدكتور النملة.

التضاد، فإنا إذا قلنا: لهذا لا غير: فقد نفينا ما عداه. فإذا قلنا: ثبت لهذا الثاني لا غير: كان هذا القول على نقيض الأول. ولا يمكن تعليل الحكم بواحد بعينه بدون ضميمة قولنا: لا غير، فإن هذا موجود بالنسبة إلى كل واحد من أجزاء العلة، والعلة: المجموع، لا كل جزء بمفرده. وإن فسرت العلة بأنها أمارة، فمتى عرف ثبوت الحكم بشيء: استحال معرفة ثبوته، بغيره، إذ المعلوم لا يعلم ثانيًا. وبيان أن الاحتمال الثالث أظهر: أن لو رأينا إنسانًا أعطى فقيرًا ذا قربة له: غلب على الظن: أنه أعطاه لهما جميعا. ثم لا حاجة للمعترض إلى ترجيح احتمال، بل يكفيه تعارض الاحتمالات، فيحتاج المستدل إلى دليل ترجيح ما يذكره، فإنه لا أقل من الدليل المظنون في إثبات الغرض. ثم غرض المعترض يحصل بأحد الاحتمالين. احتمال ثبوت الحكم بمجرد ما ذكره واحتمال ثبوته بالمناسبين جميعًا. وغرض المستدل لا يحصل إلا من احتمال ثبوت الحكم بمجرد ما ذكره، ووجود أحد الاحتمالين لا بعينه أقرب من احتمال واحد متعين في نفسه، إذا تساوت الاحتمالات.

[طرق الجواب في المعارضة] وللمستدل -في الجواب- طرق أربعة: أحدها: أن يبين أن مثل ذلك الحكم ثابت1 بدون ما ذكره المعترض، فيدل على استقلال ما ذكره المستدل بالحكم. فإن بين المعترض في الأصل الآخر مناسبًا آخر: لزم المستدل أيضًا حذفه. ولا يكفيه أن يقول: كل واحد من المناسبين ملغي بالأصل الآخر، لجواز أن يكون الحكم في كل أصل معللًا بعلة مختصة به، فإن العكس غير لازم في العلل الشرعية. الطريق الثاني: أن يبين إلغاء ما ذكره المعترض في جنس الحكم المختلف فيه، كظهور إلغاء صفة الذكورية في جنس أحكام العتق. ولذلك ألحقنا الأمة بالعبد في السراية2.

_ 1 في جميع النسخ: "أن يبين مثل ذلك الحكم ثابتًا" والمثبت من ن الدكتور عبد العزيز السعيد "2/ 347". ومعنى الجملة: أن أحد الأجوبة التي يجيب بها المستدل على المعارضة: أن يبين أن مثل الحكم المتنازع فيه ثبت بدون ما ذكره المعترض، فيظهر بذلك أن عدم التأثير غير معتبر في الحكم، فيستقل به ما ذكره المستدل. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 534". 2 روى البخاري: كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، ومسلم: كتاب العتق، عن عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: "من أعتق شركًا له في عبد، قوم عليه نصيب شريكه، ثم يعتق". فتقاس الأمة على العبد في سراية العتق، بناء على هذا الحديث.

الطريق الثالث: أن يبين أن العلة ثابتة بنص، أو تنبيه من الشارع، على ما ذكرناه فيما تقدم1. الطريق الرابع: يختص ما يدعي المعترض فيه أن ما ذكره علة مستقلة بدون ضمه إلى ما ذكره المستدل. وهو أن يبين رجحان ما ذكره على ما أبرزه المعترض. فإن ظهر ذلك، إما بدليل، وإما بتسليم المعترض: لزم أن يكون هو العلة، إذا توافقنا على كون الحكم معللًا بأحدهما، كالكيل مع الطعم، لامتناع اعتبار المرجوح وإلغاء الراجح؛ فإن تحصيل المصلحة على وجه يفوت مصلحة أعظم منها: ليس من شأن العقلاء، فلا يمكن نسبته إلى الشارع. إذا ثبت هذا: فإذا كان ما ذكره المستدل مناسبًا فلا يكفي المعترض أن يذكر وصفًا شبيهًا؛ لأن المناسب أقوى، على ما لا يخفى. القسم الثاني: في المعارضة: المعارضة في الفرع. وهو: أن يذكر في الفرع ما يمتنع معه ثبوت الحكم وهو ضربان: أحدهما: أن يعارضه بدليل آكد منه، من نص أو إجماع2.

_ 1 أي: في مسالك العلة. 2 من أمثلة ذلك: ما لو قال الحنفي، في رفع اليدين في الركوع وفي الرفع منه: ركن من أركان الصلاة فلا يشرع فيه رفع اليدين كالسجود. فيقول له الخصم: هذا خلاف الحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر وغيره، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان =

وقد ذكرناه في فساد الاعتبار. الثاني: أن يعارضه بإبداء وصف في الفرع. وقد يذكر في معرض كونه مانعًا للحكم في الفرعللسببية. فإن ذكر مانعًا للحكم: احتاج في إثبات كونه مانعًا إلى مثل طريق المستدل في إثبات حكمه، من العلة والأصل. ويفتقر إلى أن تكون علة المعترض في القوة كعلة المستدل، إن كان طريق المستدل النص أو التنبيه، فلا يكفي المعترض: المعارضة بوصف مخيل1. وإن كان طريقه المناسبة: فلا يكفي المعترض المعارضة بوصف شبهي. وإن ادّعى كونه مانعًا للسببية: فقد قيل: لا يحتاج إلى أصل، فإن الحكم ثبت للحكمة، وقد علمنا انتفاءها. وإن بقي احتمال الحكمة، -ولو على بعد: لم يضر المستدل، لما عرف من دأب الشارع الاكتفاء -بعد المظنة- باحتمال الحكمة، وإن بعد، فيحتاج إلى أصل يشهد له بالاعتبار، ليبين به أن الشارع لا يكتفي بما وجد من احتمال الحكمة معه. وفي المعارضة في الفرع ينقلب المستدل معترضًا فيعترض على دليل المعترض بما أمكنه من الأسئلة التي ذكرناها.

_ = يرفع يديه في ثلاثة مواطن: عند الإحرام والركوع والرفع منه" فيكون قياسك فاسدًا؛ لمخالفته للنص. 1 الإخالة: من "خال" بمعنى "ظن"، وسميت بذلك؛ لأنه بالنظر إلى ذاته يظن عليه الوصف للحكم. والمقصود هنا: أن يكون الوصف صالحًا لإثبات دعواه، ولا يكفي أي وصف.

وقال قوم: لا تقبل المعارضة؛ لأن حق المعترض هدم ما بناه المستدل، وذكر المعارضة بناء، فلا يليق بحاله1. والصحيح: أنها تقبل؛ إذ فيه هدم ما بناه؛ فإن دليل المستدل إذا صار معارضًا: لم تبق دلالته؛ إذ المعارض له حكم العدم في إثبات الحكم. الوجه العاشر في السؤال: عدم التأثير2. ومعناه: أن يذكر في الدليل ما يستغنى عنه في إثبات الحكم في الأصل: إما لأن الحكم يثبت بدونه. وإما لكونه وصفًا طرديًّا3. مثال الأول: ما لو قال، في بيع الغائب: "مبيع لم يره فلا يصح بيعه، كالطير في الهواء". فذكر عدم الرؤية ضائع4؛ فإن الحكم يثبت في الأصل بدونه، فإنه

_ 1 معناه: أن بعض العلماء ادّعوا أن المعارضة لا تقبل؛ لأنها بناءٌ من المعترض، إذ هي دليل في حكم المستأنف، ووظيفة المعترض أن يكون هادمًا لما يذكره المستدل، فلا يصح منه خلاف وظيفته. قال المصنف: "والصحيح أنها تقبل ... إلخ" فإنها وإن كانت بناءً، فهي بناءٌ بالعَرض وهدم بالذات لما بناه المستدل، فأشبهت المنع فتقبل. انظر: شرح الطوفي"3/ 546". 2 التأثير: إفادة الوصف أثره، فإذا لم يفده فهو عدم التأثير. فمعنى تأثير العلة في الحكم: انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، وعدم التأثير معناه: وجود الحكم وبقاؤه في محله بعد زوال الوصف المدعى علته. 3 الوصف الطردي: هو الذي لم يلتفت إليه الشرع في معهود تصرفه، كالطول والقصر، والبياض والسواد، والذكورية والأنوثية. 4 أي: لم يؤثر؛ لأن بيع الطير في الهواء غير جائز وإن كان مرئيًّا.

لا يصح بيع الطير في الهواء، ولو كان مرئيًّا، فيعلم: أن العلة فيه غير ما ذكره المستدل. ومثال الثاني: قولهم، في الصبح: صلاة لا يجوز قصرها، فلا يجوز تقديمها على الوقت كالمغرب1. فإن هذا وصف طردي، على ما لا يخفى. وإن ذكر الوصف لدفع النقض، لكونه يشير إلى خلو الفرع عن المانع، أو إلى اشتماله على شرط الحكم، فلا يكون من هذا القسم. وهكذا لو كان الوصف المذكور يشير إلى اختصاص الدليل ببعض صور الخلاف، فيكون مفيدًا للغرض في بعض الصور، فيكون مقبولًا، إذا لم تكن الفتيا عامة. وإن عمم الفتيا: فليس له أن يخص الدليل ببعض الصور؛ لأنه لا يفي بالدليل على ما أفتى به2. والله أعلم.

_ 1 ومثل له الطوفي بقول: "قول القائل في أن الفجر لا يقدم أذانها على الوقت، صلاة لا تقصر، فلا يقدم أذانها على الوقت كالمغرب". انظر: شرح المختصر "3/ 547". 2 معناه: أن الوصف الذي يورده المستدل إذا أشار إلى اختصاص الحكم ببعض الصور، فلا يخلو إما أن تكون فتياه -أي: جوابه- عامًّا أو خاصًّا. فإن كان عامًّا لم يجز؛ لأن الدليل الخاص لا يفي بثبوت الحكم العام. مثل ما إذا قيل للمالكي: هل يجوز أن تزوج المرأة نفسها؟ فيقول: نعم. فإذا قيل له: لِمَ؟ قال: لأن عامة الناس أكفاء لها، فلا يفضي ذلك إلى لحوق النقص والعار بها غالبًا، كما لو زوجها وليها، فإن العلة هنا تشير إلى اختصاص جواز ذلك بالدنية من النساء، فلا يجوز ذلك؛ لأن جوابه بجواز تزويجها نفسها خرج عامًّا، فلا يفرق بين الدنية والشريفة، وتعليله خاص بالدنية. وإن لم تكن فتياه، عامة كما لو قال المالكي في المثال المتقدم: يجوز ذلك في =

الوجه الحادي عشر -في السؤال- التركيب: وهو: القياس المركب من اختلاف مذهب الخصم1: كما لو قيل، في المرأة البالغة: "إنها أنثى فلا تزوج نفسها كابنة خمس عشرة" فالخصم يعتقد أنها لا تزوج نفسها؛ لصِغرها. فقد قيل: هذا قياس فاسد؛ لأنه فرار عن فقه المسألة برد الكلام إلى مقدار سن البلوغ، وهي مسألة أخرى، وليس ذلك بأولى من عكسه. وقيل: يصح التمسك به؛ لأن حاصل السؤال راجع إلى المنازعة في

_ = بعض النساء، أو يجوز في الجملة، وعلل بالتعليل المذكور، جاز وأفاد جواز فرض الكلام في بعض صور السؤال، وهو: جواز تزويج الدنية نفسها دون الشريفة-فرقًا بينهما- كما هو مذهب الإمام مالك. انظر: شرح الطوفي "3/ 550-551". 1 معناه: أن يتفق الخصمان على حكم الأصل، ويختلفان في علته فإذا ألحق أحدهما بذلك الأصل فرعًا بغير علة صاحبه، فالقياس منتظم، لكن بناء على تركيب حكم الأصل من علتين. ومن الأمثلة على ذلك: أن الإمامين: الشافعي وأحمد – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- يعتقدان أن بنت خمس عشرة لا تزوج نفسها لأنوثتها، وأبو حنيفة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يعتقد أنها لا تزوج نفسها لصِغرها؛ إذ الجارية إنما تبلغ -عنده- لتسع عشرة، وفي رواية لثمان عشرة كالغلام. فالعلتان موجودتان فيها، والحكم متفق عليه بناء على ذلك. فإذا قال الشافعي أو الحنبلي- في البالغة: "أنثى فلا تزوج نفسها كبنت خمس عشرة" انتظم القياس بناء على ما ذكرناه من تركيب حكم الأصل بين الخصمين من العلتين، واستناده عند كل منهما إلى علته، ولهذا جاز لأحدهما منع صحة القياس، لاختلاف العلة في الفرع والأصل، مثل أن يقول الحنفي هاهنا للمستدل: أنت عللت المنع في البالغة بالأنوثة، والمنع في بنت خمس عشرة عندي معلل بالصِغر، فلما اتفقت علة الأصل والفرع، فلا يصح الإلحاق. انظر: شرح الطوفي "3/ 553".

الأصل، وإبطال ما يدعى المعترض تعليل الحكم به، ليسلم ما يدعيه من الجامع في الأصل. ولا يلزم من ذلك: فساد القياس، كما في سائر المواضع. الوجه الثاني عشر- في السؤال: القول بالموجَب 1. وحقيقته: تسليم ما جعله المستدل موجبًا لدليله، مع بقاء الخلاف وإذا توجه: انقطع المستدل. وهو آخر الأسئلة، إذ بعد تسليم الحكم والعلة لا تجوز له المنازعة في واحد منهما. بل: إما أن يصح، فينقطع المستدل. وإما أن يفسد، فينقطع المعترض. ومورد ذلك موضعان2: أحدهما: أن ينصب الدليل فيما يعتقده مأخذًا للخصم. كما لو قال- في القتل بالمثقل: "التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص، كالتفاوت في المتوسل إليه"3.

_ 1 يفتح الجيم ومعناه: القول بموجب دليل المستدل مع بقاء الخلاف بينهما. مثال ذلك: ما إذا قال الشافعي- فيمن أتى حدًّا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم: يستوفي منه الحد؛ لأنه وجد سبب جواز الاستيفاء منه فكان جائزًا. فيقول الحنبلي أو الحنفي: أنا قائل بموجب دليلك، وأن استيفاء الحد جائز، وإنما أنازع في هتك حرمة الحرم، وليس في دليلك ما يقتضي جوازه. فهذا قد سلم للمستدل مقتضى دليله، وهو جواز استيفاء الحد، وادعى بقاء الخلاف في شيء آخر وهو: هتك حرمة الحرم. انظر: شرح الطوفي "3/ 555". 2 أراد بالمورد: المحل الذي يرد فيه من الأحكام أو الدعاوى. 3 أي: أن التفاوت في الآلة التي حصل بها القتل لا يمنع من القصاص، مثل =

فيقول المعترض: أنا قائل بموجب الدليل، والتفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القتل، ولا يلزم القصاص؛ فإنه لا يلزم من عدم المانع ثبوت الحكم. وهذا النوع يتفق كثيرًا. وطريق المستدل في دفعه: أن يبين لزوم محل النزاع منه إن قدر عليه1. أو يبين أن الخلاف مقصود فيما يعرض له في الدليل. كما في مسألة "المدين"2 لو ذكر في الدليل حكمًا: أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة. أو في مسألة "وطء الثيب": أن الوطء لا يمنع الرد. ونحو ذلك مما اشتهرت المسألة به، فإن اشتهار المسألة به يدل على وقوع الخلاف فيه3.

_ = التفاوت في المتوسل إليه وهو القتل، فإنه لو ذبحه، أو ضرب عنقه، أو طعنه برمح، أو رماه بسهم أو رصاص أو غير ذلك لا يمنع القصاص. 1 أي: أن المستدل له في دفع القول بالموجب طريقان: أحدهما هذا، والثاني: أن يبين المستدل أن النزاع إنما هو فيما يعرض له، إما بإقرار أو اعتراف من المعترض بذلك، مثل أن يقول: إنما الكلام في صحة بيع الغائب لا في ثبوت خيار الرؤية. 2 في الأصل "المديون" ولعلها من تحريف النساخ. 3 معنى ذلك: أنه إذا قال المستدل: الدين لا يمنع الزكاة، ووطء الثيب لا يمنع الرد بالعيب. فيقول المعترض: أسلم أنه لا يمنع، لكن لِمَ قلت: إن الزكاة والرد يثبتان؟ فيقال له: هذا القول بالموجب لا يسمع؛ لأن محل النزاع في هذه المسائل =

أو يقول: عن هذا الحكم سئلت، وبه أفتيت، وعن دليله سئلت، فالقول بموجبه تسليم لما وقع التنازع بيننا فيه. [هل يكلف المعترض إبداء مستند القول بالموجب] . واختلف في تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب. فقيل: يلزمه ذلك؛ كيلا يأتي به نكرًا وعنادًا. ومنهم من قال: لا يلزمه ذلك؛ فإنه إذا سلم ما ذكره المستدل، وعرف أنه لا يلزم منه الحكم: فقد وفّى بما هو حقيقة القول بالموجب، وبقي الخلاف بحاله، فيتبين أن ما ذكره ليس بدليل1. المورد الثاني: أن يتعرض [المستدل] لحكم يمكن المعترض تسليمه مع بقاء الخلاف. مثاله: لو قال- في وجوب زكاة الخيل: "حيوان تجوز المسابقة عليه، فتجب الزكاة فيه كالإبل".

_ = ونحوها مشهور، وهو أن النزاع في الزكاة هل تجب مع الدين؟ ووطء الثيب هل يجوز معه الرد؟ ومع الشهرة لا يقبل العدول عن المشهور، ولا دعوى خفائه. انظر: شرح المختصر "3/ 560 – 561". 1 أورد الطوفي دليلًا آخر للمذهب الثاني فقال: ".... لأن المعترض عدل، وهو أعرف بمذهبه ومأخذه، فوجب تقليده في ذلك، وإلا كان مطالبته بالمستند تكذيبًا له". ثم قال: "إن محل القولين إنما هو في المعترض العدل، أما إذا لم يكن عدلًا، أو كان معروفًا بحب الانتصار على الخصم حتى بالاسترسال في الكلام فلا بد من مطالبته بالمستند، لئلا يفضي إلى إفحام المستدل بغير حق، وتضييع فائدة النظر ونشر الكلام. ثم إذا ذكر مستند القول بالموجب، لا يجوز للمستدل الاعتراض عليه فيه ... " شرح مختصر الروضة "3/ 562-563".

فيقول المعترض: "أنا قائل بموجبه"، وعندي: "أنه تجب فيه زكاة التجارة، والنزاع في زكاة العين". وطرق المستدل في الدفع أن يقول: النزاع في زكاة العين، وقد عرّفنا الزكاة بالألف واللام في سياق الكلام، فينصرف إلى موضع الخلاف ومحل الفتيا. ولو أورد "القول بالموجب" على وجه بغير الكلام عن ظاهره: فلا يتوجه، فيكون منقطعًا1. مثاله: ما لو قال المستدل- في إزالة النجاسة: "مائع لا يرفع الحدث، فلا يزيل النجس كالمرق". فيقول المعترض: "أقول به، فإن الخل النجس عندي لا يزيل النجاسة ولا الحدث" فلا يصح ذلك، فإنه يعلم من حال المستدل: أنه يعني بقوله: "مائع": الخل الطاهر؛ إذ هو محل النزاع، واللفظ يتناوله 2، والله سبحانه أعلم.

_ 1 معنى ذلك: أن المعترض إذا أورد القول بالموجب على وجه بغير كلام المستدل عن ظاهره، فلا يقبل منه، ويكون منقطعًا؛ لأن وجوده كعدمه، ولو عدم القول بالموجب لانقطع، فكذا إذا أتى به في حكم المعدوم؛ لأنه بتغير الكلام عن ظاهره، صار كالمناظر لنفسه. 2 وضحه الطوفي فقال: لأن محل النزع عقلًا وعرفًا وشرعًا: إنما هو الخل الطاهر، أما النجس: فمتفق علي أنه لا يزيل النجاسة، فصار كالنقض العام على العلة؛ لأن النجس لما لم يكن بإزالته للنجاسة قائل، صار مرفوضًا لا يفرض فيه نزاع، ولا يوجه إليه نظر". انظر: شرح المختصر"3/ 563".

[أسئلة أخرى ترد على القياس] وقد يعترض على القياس بغير ما ذكرناه: كقول نفاة القياس: هذا استعمال للقياس في الدين، ولا نسلم أنه حجة1. وقول الحنفية: هذا استعمال للقياس في الحدود والكفارات أو في "المظانّ"2، ونحو ذلك مما بينا مسائله فيما مضى، وذكرنا حجة خصومنا، والجواب عنها، فلا حاجة إلى إعادته3. وقد اختلف في وجوب ترتيب الأسئلة. ولا خلاف في أنه أحسن وأولى. والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ 1 كما يقول الظاهرية 2 يعنى: الأسباب. 3 قال: الطوفي في شرحه "3/ 565": "جميع الأسئلة المذكورة- على تعددها- راجعة عند التحقيق إلى منع حال الدليل ليسلم مذهب المعترض من إفساده له، أو إلى معارضة الدليل بما يقاومه أو يترجح عليه، لتضعف قوته عن إفساد مذهب المعترض".

باب: كتاب الاجتهاد

باب: [كتاب الاجتهاد] فصل: في حكم المجتهد اعلم أن الاجتهاد في اللغة: بذل المجهود، واستفراغ الوسع في فعل1. ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد، يقال: اجتهد في حمل الرحى، ولا يقال: اجتهد في حمل خردلة. وهو في عرف الفقهاء: مخصوص ببذل المجهود في العلم بأحكام الشرع2.

_ 1 الاجتهاد في اللغة: مشتق من مادة "جهد" بضم الجيم، بمعنى بذلك الجهد، وهو الطاقة، أو بفتح الجيم، بمعنى تحمل الجهد وهو المشقة. فالاجتهاد في اللغة بذل الجهد واستفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور الشاقة، سواء أكان في الأمور الحسية، كالمشي والعمل، أو في الأمور المعنوية، كاستخراج حكم أو نظرية عقلية أو شرعية أو لغوية. انظر: لسان العرب مادة "جهد" والمصباح المنير. 2 هذا تعريف للاجتهاد باعتباره مصدرًا دالًّا على الحدث، وهو فعل المجتهد، وعلى ذلك جمهور العلماء، وهو الذي ذكره الغزالي في المستصفى. ومنهم من عرفه بالمعنى الاسمي، أي: باعتباره وصفًا للمجتهد نفسه، فقالوا في =

والاجتهاد التام: أن يبذل الوسع في الطلب إلى أن يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب1.

_ = تعريفة: "هو ملكة يقتدر بها على استنبط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية". انظر: الإحكام للآمدي "3/ 204". 1 أشار المصنف بذلك إلى أن الاجتهاد قسمان: ناقص: وهو النظر المطلق في تعرّف الأحكام الشرعية، وتختلف مراتبه بحسب الأحوال. وتام: وهو استفراغ القوة النظرية حتى يحس الناظر من نفسه العجز عن مزيد طلب. كما قال المصنف.

فصل: شروط المجتهد

فصل: [شروط المجتهد] . وشروط المجتهد: إحاطته بمدارك الأحكام المثمرة لها، وهي: الأصول التي فصلناها: الكتاب والسنة، والإجماع، واستصحاب الحال، والقياس التابع لها، وما يعتبر في الحكم في الجملة، وتقديم ما يجب تقديمه منها. فأما العدالة: فليست شرطًا لكونه مجتهدًا، بل متى كان عالًما بما ذكرناه: فله أن يأخذ باجتهاد نفسه، لكنها شرط لجواز الاعتماد على قوله، فمن ليس عدلًا لا تقبل فتياه. والواجب عليه في معرفة الكتاب: معرفة ما يتعلق منه بالأحكام وهي: قدر خمسمائة آيةٍ2. ولا يشترط حفظها، بل علمه بمواقعها حتى يطلب الآية المحتاج إليها وقت حاجته.

_ = تعريفة: "هو ملكة يقتدر بها على استنبط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية". انظر: الإحكام للآمدي "3/ 204". 1 أشار المصنف بذلك إلى أن الاجتهاد قسمان: ناقص: وهو النظر المطلق في تعرّف الأحكام الشرعية، وتختلف مراتبه بحسب الأحوال. وتام: وهو استفراغ القوة النظرية حتى يحس الناظر من نفسه العجز عن مزيد طلب. كما قال المصنف. 2 قال الشيخ الطوفي: "والصحيح أن هذا التقدير غير معتبر، وأن مقدار أدلة الأحكام في ذلك غير منحصر؛ فإن أحكام الشرع كما تستنبط من الأوامر =

والمشترط في معرفة السنة: معرفة أحاديث الأحكام، وهي وإن كانت كثيرة فهي محصورة1. ولا بد من معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، ويكفيه أن يعرف أن المستدل به في هذه الحادثة غير منسوخ2. ويحتاج أن يعرف الحديث الذي يعتمد عليه فيها أنه صحيح غير ضعيف، إما بمعرفة رواته وعدالتهم، وإما بأخذه من الكتب الصحيحة

_ = والنواهي، كذلك تستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها، فقلَّ أن يوجد في القرآن الكريم آية إلا ويستنبط منها شيء من الأحكام...." ثم قال: "وكأن هؤلاء الذين حصروها في خمسمائة آية إنما نظروا إلى ما قصد منه بيان الأحكام دون ما استفيدت منه ولم يقصد به بيانها" شرح المختصر "3/ 577 – 578". 1 أي: محصورة في كتب السنة، كالصحيحين وبقية السنن الستة وغيرها كثير، بالإضافة إلى الكتب التي اعتنت بأحاديث الأحكام بصفة خاصة مثل: الأحكام الكبرى لمحب الدين الطبري المتوفى سنة 694هـ وكتاب المنتقي من الأخبار في الأحكام للإمام العلامة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحزاني المعروف بابن تيمية المتوفى سنة 652هـ. 2 لأن المنسوخ بطل حكمه، وأصبح الحكم للناسخ، ومن هنا تظهر أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ. روى عن على – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه رأي قاصًّا يقصُّ في مسجد الكوفة وهو يخلط الأمر بالنهي، والإباحة بالحظر، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت، ثم قال له: أبو من أنت؟ قال: أبو يحيى. قال: أنت "أبو اعرفوني"، ثم أخذ أذنه ففتلها، وقال له: لا تقص في مسجدنا بعد. قال الطوفي- بعد أن حكى هذه القصة: "ولا يشترط أن يعرف جميع الأحاديث المنسوخة من الناسخة، بل يكفيه أن يعرف أن دليل هذا الحكم غير منسوخ، على أن الإحاطة بمعرفة ذلك أيسر من غيره؛ لقلة المنسوخ بالنسبة إلى المحكم من الكتاب والسنة"، شرح المختصر "3/ 580".

التي ارتضى الأئمة رواتها1. وأما الإجماع: فيحتاج إلى معرفة مواقعه، ويكفيه أن يعرف أن المسألة التي يفتي فيها هل هي من المجمع عليه، أم من المختلف فيهن أم هي حادثة؟ ويعلم استصحاب الحال على ما ذكرناه في بابه. ويحتاج إلى معرفة نصب الأدلة وشروطها2 ومعرفة شيء من النحو واللغة، يتيسر به فهم خطاب العرب، وهو: ما يميز به بين صريح الكلام، وظاهره، ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه.

_ 1 خلاصة ذلك: أنه يشترط في المجتهد- مع معرفته بأحاديث الأحكام – معرفة صحة الحديث، إما بالاجتهاد فيه إذا كانت لديه الأهلية والقوة في علم الحديث بحيث يستطيع معرفة طريق الحديث الذي ثبت به، ومن رواية أي البلاد هو، ويعلم عدالة رواته وضبطهم. وبالجملة: يعلم من حاله وجود شروط قبول الحديث، وانتفاء موانعه، وموجبات ردّه. هذا إن كان مجتهدًا في علم الحديث. أما إن كان دون ذلك، فيكفيه نقل الحديث من الكتب الصحاح التي ارتضى الأئمة رواتها، كالصحيحين، وسنن أبي داود ونحوها من الكتب الصحيحة. انظر: شرح الطوفي "3/ 579-580". 2 أي: يشترط في المجتهد: أن يعرف تقرير الأدلة، وما يتحقق به نصب الدليل، ووجه دلالته على المطلوب، ولذلك: اشترط بعض العلماء معرفة علماء علم المنطق، كالإمام الغزالي وسماه "معيار العلوم"، وتبعه على ذلك الإمام الرازي وغيره؛ إذ به تتحقق معرفة نصب الأدلة، وتقرير مقدماتها، ووجه إنتاجها ... إلخ.

ولا يلزمه من ذلك: إلا القدر الذي يتعلق به الكتاب والسنة، ويستولي به على مواقع الخطاب، ودرك دقائق المقاصد فيه. فأما تفاريع الفقه: فلا حاجة إليها؛ لأنها مما ولَّدها المجتهدون بعد حيازة منصب الاجتهاد، فكيف يكون شرطًا لما تقدم وجوده عليها؟! 1 [تجزؤ الاجتهاد] فليس من شرط الاجتهاد في مسألة: بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل، بل متى علم أدلة المسألة الواحدة، وطرق النظر فيها: فهو مجتهد فيها، وإن جهل حكم غيرها. فمن نظر في مسألة "المشرّكة"2: يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفًا بالفرائض: أصولها ومعانيها، وإن جهل الأخبار الواردة في تحريم المسكرات، والنكاح بلا ولي؛ إذ لا استمداد لنظر هذه المسألة منها، فلا تضر الغفلة عنها3. ولا يضره- أيضًا- قصوره عن علم "النحو" الذي يعرفه به قوله

_ 1 المصنف يرى أن معرفة الفروع الفقهية ليست شرطًا للاجتهاد؛ لأنها هي الثمرة التي يتوصل إليها المجتهد، فكيف تكون شرطًا؟! وعلى ذلك جمهور العلماء. بينما ذهب بعض العلماء إلى اشتراط ذلك، ولا يؤدي ذلك إلى الدور كما يقول الجمهور، وإنما هي لازمة للمجتهد ليطبق عليها القواعد التي يتوصل إليها، وخاصة في مواضع الاختلاف وأسبابها. 2 وهي مسألة تشريك عمر بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم في الميراث. تقدم الحديث عنها. 3 ما قاله المصنف هو مذهب الجمهور. وذهب بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة وغيره إلى أن العالم لا يقال له: مجتهد إلا إذا أحاط بأدلة الفقه جميعها. انظر: إرشاد الفحول "2/ 310 وما بعدها" تحقيق الدكتور شعبان إسماعيل.

-تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وقس عليه كل مسألة. ألا ترى أن الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عنهم- والأئمة من بعدهم قد كانوا يتوقفون في مسائل. وسئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين: "لا أدري"2. ولم يكن توَقُّفُه في تلك المسائل مخرجًا له عن درجة الاجتهاد. والله أعلم.

_ 1 سورة المائدة [من الآية: 6] ومعنى ذلك: أن الباء ترد المعان كثيرة: منها الإلصاق، وقيل: إنها زائدة، وقيل: للتبعيض. وقد نقل عن علماء اللغة إنكار مجيئها للتبعيض. قال الطوفي: "والمأخذ الجيد في تبعيض مسح الرأس غير هذا، وهو من وجهين: أحدهما: أن الباء استعملت في اللغة تارة بمعنى الإلصاق، نحو: أمسكت الجبل بيدي، أي: ألصقتها به، وتارة للتبعيض، وإن لم تكن موضوعة له، نحو: مسحت برأس اليتيم، ومسحت يدي بالمنديل، وأخذت بثبوت الرجل وبركابه. ولما استعملت في المعنيين بقيت في الآية مترددة بينهما، فكانت مجملة، فاقتصر في مسح الرأس على مطلق الاسم؛ لأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه، فلا يجب بالشك". شرح المختصر "2/ 635". 2 انظر الانتقاء لابن عبد البر ص38، وجامع بيان العلم وفضله ص356.

فصل: مسألة: [في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-]

فصل: مسألة: [في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-] ... مسألة: [في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-] ويجوز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-للغائب. فأما الحاضر: فيجوز له ذلك بإذن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. وأكثر الشافعية يجوزون ذلك بغير اشتراط.

_ 1 سورة المائدة [من الآية: 6] ومعنى ذلك: أن الباء ترد المعان كثيرة: منها الإلصاق، وقيل: إنها زائدة، وقيل: للتبعيض. وقد نقل عن علماء اللغة إنكار مجيئها للتبعيض. قال الطوفي: "والمأخذ الجيد في تبعيض مسح الرأس غير هذا، وهو من وجهين: أحدهما: أن الباء استعملت في اللغة تارة بمعنى الإلصاق، نحو: أمسكت الجبل بيدي، أي: ألصقتها به، وتارة للتبعيض، وإن لم تكن موضوعة له، نحو: مسحت برأس اليتيم، ومسحت يدي بالمنديل، وأخذت بثبوت الرجل وبركابه. ولما استعملت في المعنيين بقيت في الآية مترددة بينهما، فكانت مجملة، فاقتصر في مسح الرأس على مطلق الاسم؛ لأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه، فلا يجب بالشك". شرح المختصر "2/ 635". 2 انظر الانتقاء لابن عبد البر ص38، وجامع بيان العلم وفضله ص356.

وأنكر قوم التعبد بالقياس في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ لأنه يمكن الحكم بالوحي الصريح، فكيف يردهم إلى الظن؟ وقال آخرون: يجوز للغائب، ولا يجوز للحاضر1. ولنا: قصة معاذ حين قال: "أجتهد رأيي": فصوّبه2. وقال لعمرو بن العاص3: "احكم" في بعض القضايا، فقال: "أجتهد وأنت حاضر؟! " فقال: "نعم، إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر" 4.

_ 1 خلاصة المسألة: أن في الاجتهاد في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-عدة مذاهب: أحدها: جواز ذلك للغائب أما الحاضر فلا بد فيه من إذن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. ثانيهما: جوازه للغائب وللحاضر بدون إذن منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. ثالثها: منعه مطلقًا للغائب والحاضر، وهو منقول عن بعض الشافعية وبعض المعتزلة. رابعًا: التوقف. ولم يذكره المصنف. انظر: شرح الطوفي "3/ 589". 2 تقدم تخريجه. 3 هو: عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي أحد أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-أسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة، كان من دهاة العرب، وهو الذي فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب. توفيى سنة 43هـ. انظر: تاريخ الإسلام للذهبي "2/ 235-240"، الأعلام "5/ 248-249". 4 أخرجه أحمد في المسند "4/ 205"، والحاكم في المستدرك "4/ 88"، والدارقطني في سننه "4/ 203" ولفظه: أن رجلين اختصما إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-فقال لعمرو: "اقض بينهما" فقال: أقضي بينهما وأنت حاضر يا رسول الله؟! قال: "نعم، إنك إن أصبت فلك عشرة أجور، وإن اجتهدت فاخطأت فلك أجر".

وقال لعقبة بن عامر1 ولرجل من الصحابة: "اجتهد فإن أصبتما فلكما عشر حسنات، وإن أخطأتما فلكما حسنة" 3. وفوض الحكم في بني قريظة إلى سعد بن معاذ4، فحكم، وصوّبه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.

_ 1 هو: عقبة بن عامر بن عبس بن مالك الجهني، صحابي جليل روى الكثير من الأحاديث، وكان من القراء وأحد الذين جمعوا القرآن. توفيى سنة 58هـ الإصابة "4/ 520"، حلية الأولياء "2/ 8". 2 في الأصل "ولرجلين"، والمثبت من المستصفى، وهو الذي يتفق مع السياق. 3 أخرجه الدارقطني عن عقبة بن عامر، ولم يذكر معه رجلًا آخر، ولفظه في مجمع الزوائد "4/ 195" عن عقبة بن عامر الجهني- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قال: جئت إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-وعنده خصمان يختصمان، فقال: "اقض بينهما" فقلت: بأبي وأمي أنت أولى بذلك مني: فقال: "اقض بينهما" فقلت: على ماذا؟ فقال: "اجتهد فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن لم تصب فلك حسنة" ثم قال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه حفص بن سليمان الأسدي، وهو متروك. 4 هو: سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الأشهلي، سيد الأوس، أسلم على يد مصعب بن عمير قبل الهجرة، شهد بدرًا وأحدًا، وقريظة، والخندق، توفى – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- شهيدًا من جرح أصابه في غزوة الخندق. فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" انظر: الإصابة "3/ 87"، أسد الغابة "2/ 373". 5 روى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي سعيد الخدري: أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى سعد، فأتاه على حمار، فلما دنا قريبًا من المسجد قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "قوموا إلى سيدكم، أو خيركم" فقعد عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فقال له: "إن هؤلاء نزلوا على حكمك" فقال: فإني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم فقال: "لقد حكمت بما حكم به الملك". وفي رواية "قضيت بحكم الله عَزَّ وَجَلََََّّّّ". انظر: فتح الباري "6/ 165"، صحيح مسلم "3/ 1388، 1389"، مسند الإمام أحمد "3/ 22".

ولأنه ليس في التعبد به استحالة في ذاته، ولا يفضي إلى محال، ولا مفسدة. ولا يبعد أن يعلم الله – تعالى- لطفًا فيه يقتضي أن يناط به صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد، لعلمه أنه لو نصَّ لهم على قاطع: لعصوا، كما ردّهم في قاعدة الربا إلى الاستنباط من الأعيان الستة، مع إمكان التنصيص على كل مكيل وموزون، أو مطعوم. وكان الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم – يروي بعضهم عن بعض، مع إمكان مراجعة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. كيف ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-قد تُعُبِّد بالقضاء بالشهود والحكم بالظاهر، حتى قال: "إنكم لتختصمون إليَّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو ما أسمع" 1؟!. وكان يمكن نزول الوحي بالحق الصريح في كل واقعة. وإمكان النص لا يجعل النص موجودًا. والله- سبحانه وتعالى- أعلم.

_ 1 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم بلفظ: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعضٍ فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها، أو ليتركها". انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي "4/ 163"، صحيح مسلم بشرح النووي "4/ 12"، سنن أبي داود "2/ 205"، سنن ابن ماجة "2/ 777"، مشكاة المصابيح "2/ 342".

فصل: في تعبد النبي -صلى الله عليه وسلم-بالاجتهاد

فصل: [في تعبد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-بالاجتهاد] ويجوز أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- متعبَّدًا بالاجتهاد فيما لا نص فيه وأنكر ذلك قوم؛ لأنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح.

ولأن قوله نص قاطع، والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ، فهما متضادان1. ولنا: أنه ليس بمحال في ذاته، ولا يفضي إلى محال ولا مفسدة. ولأن الاجتهاد طريق لأمته، وقد ذكرنا أنه يشاركهم فيما ثبت لهم من الأحكام2. وقولهم: "هو قادر على الاستكشاف". قلنا: فإذا استكشف: فقيل له: حكمنا عليك أن تجتهد، فهل له أن ينازع الله – تعالى – فيه؟!

_ 1 قال الطوفي في شرحه "3/ 593-594": "اعلم أن ما فيه نص إلهي لا يجوز للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يجتهد فيه بخلاف النص شرعًا، لقوله عزل وجل: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الأنعام: 106] . أما ما لا نصَّ فيه، فهل متعبد بالاجتهاد فيه أم لا؟ فالمذاهب فيه أربعة: أحدها: الإثبات، وهو مذهب أحمد، والقاضي أبي يوسف. والثاني: النفي، وهو قول أبي على الجبائي وابنه أبي هاشم. والثالث: الإثبات في الحروب والآراء، دون الأحكام الشرعية. والرابع: تجويزه من غير قطع به. حكاه الآمدي عن الشافعي في رسالته. قال: وبه قال بعض الشافعية، والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصري. والتحقيق أن الكلام في جواز ذلك ووقوعه، والأصح جوازه؛ إذ لا يلزم منه محال، ولا أحسب أحدًا ينازع في الجواز عقلًا، إنما ينازع من ينازع فيه شرعًا، وأما الوقوع: فحكى الغزالي فيه أقوالًا، ثالثها الوقف واختاره. وقال القرافي: توقف أكثر المحققين في الكل، واختار الآمدي الجواز والوقوع، وذكر القوافي أن الشافعي وأبا يوسف قالا بالوقوع". 2 إلا ما ثبت اختصاصه به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-

وقولهم: "إن قوله نص". قلناك إذا قيل له: ظنك علامة الحكمن فهو يستيقن الظن والحكم جميعا، فلا يحتمل الخطأ. ومنع هذا "القدرية"1 وقالوا: إن وافق الصلاح في البعض، فيمتنع أن يوافق الجميع. وهو باطل؛ لأنه لا يبعد أن يلقي الله – تعالى- في اجتهاد رسوله ما فيه صلاح عباده. وأما وقوع ذلك: فاختلف أصحابنا فيه. واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضًا. وأنكره أكثر المتكلمين2: لقول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} . ولأنه لو كان مأمورًا به لأجاب عن كل واقعة، ولما انتظر الوحي، ولنقل ذلك واستفاض. ولأنه كان يختلف اجتهاده فيتهم بسبب تغيُّر الرأي4.

_ 1 تقدم التعريف بهم. 2 تقدم قريبًا بيان خلاصة هذه المذاهب نقلًا عن شرح الطوفي. 3 سورة النجم [الآية: 3] . 4 العبارة هكذا في الأصل وهي غير واضحة. وعبارة الغزالي: "الثالث: أنه لو كان، لكان ينبغي أن يختلف اجتهاده ويتغير، فيتهم بسبب تغير الرأي". المستصفى "4/ 27". ومعناها: أنه لو وقع منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- اجتهاد أنه يحصل فيه تغير واختلاف في الرأي في بعض الأمور فيتهم – -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بسبب ذلك.

ولنا: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 1. وهو عام. ولأنه عوتب في أساري بدر، ولو حكم بالنص: لما عوتب2. ولما قال- في مكة: "لا يُخْتَلى خَلَالها" قال العباس3: إلا الإذخر. فقال: "إلّا الإذخَرَ" 4. ولما سئل عن الحج: ألعامنا هو أم للأبد؟ فقال: للأبد، ولو قلت لعامنا لوجب"5.

_ 1 سورة الحشر [من الآية: 2] . 2 أما وقد عوتب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في أخذ الفداء، فهذا يدل على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قد اجتهد، والآيات في ذلك صريحة. قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى أن قال- سبحانه: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68] . 3 هو: العباس بن عبد المطلب- عم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- تقدمت ترجمته. 4 عن ابن عباس أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-قال: "إن الله – عَزَّ وَجَلََََّّّّ- حرّم مكة، فلم تحلّ لأحد كان قبلي، ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، لا يُخْتَلَى خَلَاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرّف" فقال العباس: إلا الإذخَر لصاغتنا وقبورنا. قال: "إلا الإذخَر" أخرجه الإمام أحمد في مسنده حديث رقم "2279"، والبخاري "1349" "1833"، "2090"، والطبراني "11957" والبيهقي "5/ 195". ومعنى "خلالها" الخلا: نبات رقيق ما دام رطبًا، ومعنى "لا يُختَلى": لا يقطع، و "لا يعضد" أي: لا يقطع. و "الإذخر": حشيشة معروفة طيبة الريح توجد بالحجاز. كما قال الحافظ في هدى الساري ص76. 5 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 352، 370، 371" وأبو داود "1721" والنسائي "5/ 111" وابن ماجة "2886" من حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- وفي رواية "لوجبت" أي: الكلمة أو الحجة كل عام.

ولما نزل ببدر للحرب قال له الحباب1: إن كان بوحي: فسمعًا وطاعة، وإن كان باجتهاد: فليس هذا هو الرأي. قال: "بل باجتهاد" ورحل2. ولما أراد صلح الأحزاب على شطر نخل في المدينة، وكتب بعض الكتاب ذلك، جاء سعد بن معاذ3، وسعد بن عبادة4، فقالا له: مثل مقالة الحباب، قال: "بل هو رأي رأيته لكم". فقالا: ليس ذاك برأي، فرجع إلى قولهما، ونقض رأيه5.

_ 1 هو: الحباب بن المنذر بن الجموح، الأنصاري الخزرجي، شهد مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بدرًا والمشاهد كلها، وكان يقال له: ذا الرأي. توفي في خلافة عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بالمدينة المنورة. انظر: الإصابة "1/ 316"، أسد الغابة "1/ 436". 2 المصنف حكى القصة بالمعنى. ولفظها- كما جاء في كتب السيرة – وسار رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-حتى نزل أدنى ماء من مياه بدر..... فأتاه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل منزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال -عليه الصلاة والسلام: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغوِّر ما وراءه من القُلُب "جمع قليب وهي: البئر العادية القديمة" ثم نبني عليه حوضًا فنملأه فنشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-هذا الرأي وفعله". رواه الحاكم في المستدرك "3/ 427"، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام "1/ 620". 3 تقدمت ترجمته. 4 هو: سعد بن عبادة من دليم الخزرجي الأنصاري، سيد الخزرج، ونقيب بني ساعدة، وصاحب راية الأنصار في المشاهد كلها، شهد بدرًا وما بعدها، ومناقبه كثيرة جدًّا، خرج على الشام فمات بحوران سنة 15هـ، وقيل: سنة 16هـ. الإصابة "2/ 30". 5 تروي كتب السيرة أن سبب ذلك هو تألب المشركين واستعدادهم لمهاجمة =

ولأن داود وسليمان -عليهما السلام- حكَما بالاجتهاد، بدليل قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} . ولو حكما بالنص: لم يخص سليمان بالتفهيم، ولو لم يكن الحكم بالاجتهاد جائزًا، لما مدحهما الله – تعالى- بقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} . وأما انتظار الوحي2: فلعله حيث لم ينقدح له اجتهاد، أو حكم لا يدخله الاجتهاد. وأما الاستفاضة: فلعله لم يطلع عليه الناس3. وأما التهمة بتغير الرأي: فلا تعويل عليه؛ فقد اتهم بسبب النسخ ولم يبطله 4.

_ = المسلمين بالمدينة فأراد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يحول بينهم وبين المسلمين، فعزم على أن يصالح "غطفان" على ثلث ثمار المدينة، وبعد أن كتب الصلح مع عيينة بن حص، وقبل أن يوقعه استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فأشارا عليه بعدم ذلك، فأمر بمحو الصحيفة. رواه البزار والطبراني في الكبير، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام "2/ 223"، مجمع الزوائد "6/ 132". 1 سورة الأنبياء من الآية: "79". 2 بدأ المصنف يرد على أدلة المخالفين وأوّلها: أنه كان ينتظر الوحي ... إلخ، فأجاب: بأنه كان ينتظر الوحي عند تعارض مدارك الأحكام، ومسالك الاجتهاد، واستبهام وجه الحق والصواب، أما حين يظهر له ذلك فإنه كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يجتهد، هذا إذا كان الحكم اجتهاديًّا، أو كان لا يجتهد إذا كان الحكم لا يدخل تحت دائرة الاجتهاد. 3 هذا ردٌّ على دليلهم الثاني، وهو قولهم: "لو اجتهد لنقل ذلك واستفاض". فأجاب المصنف: بأنّا لا نسلم أن من ضرورة وقوع الاجتهاد نقله، فضلًا عن استفاضته؛ فهناك العديد من القضايا وقعت ولم تنقل، كما لا نسلم أن ذلك لم ينتشر، بل هي مستفيضة ومشهورة. انظر في ذلك: شرح الطوفي "3/ 600". 4 هذا هو الرد على الدليل الثالث، وهو: "أنه لو اجتهد لاختلف اجتهاده فيتهم". =

وعورض بأنه لو لم يتعبد بالاجتهاد: لفاته ثواب المجتهدين1.

_ = وخلاصة الردّ: عدم التسليم بأنه لو اجتهد لاختلف اجتهاده؛ لأنه معصوم، ومؤيد بالوحي الإلهي، فلو أخطأ لصحح له الوحي. على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قد اتهم في النسخ من قبل السفهاء من الكفار بأنه يفعل اليوم أمرًا ثم ينهى عنه غدًا، ولم يؤدِ ذلك إلى بطلان النسخ. 1 قوله "وعورض...." أي: عورض كلام المانعين. والواقع أن هذا من تكملة أدلة الجمهور على وقوع الاجتهاد منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فكان الأولى ذكره قبل الرد على المخالفين.

فصل: في خطأ المجتهد وإصابته

فصل: [في خطأ المجتهد وإصابته] الحق في قول واحد من المجتهدين، ومن عداه مخطئ، سواء كان في فروع الدين، أو أصوله2. لكنه إن كان في فروع الدين، مما ليس فيه دليل قاطع -من نص أو إجماع- فهو معذور غير آثم، وله أجر على اجتهاده. وبه قال بعض الحنفية والشافعية.

_ = وخلاصة الردّ: عدم التسليم بأنه لو اجتهد لاختلف اجتهاده؛ لأنه معصوم، ومؤيد بالوحي الإلهي، فلو أخطأ لصحح له الوحي. على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قد اتهم في النسخ من قبل السفهاء من الكفار بأنه يفعل اليوم أمرًا ثم ينهى عنه غدًا، ولم يؤدِ ذلك إلى بطلان النسخ. 1 قوله "وعورض...." أي: عورض كلام المانعين. والواقع أن هذا من تكملة أدلة الجمهور على وقوع الاجتهاد منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فكان الأولى ذكره قبل الرد على المخالفين. 2 ينبغي أن نقرر أولًا: أن الأمور التي يجري فيها الاجتهاد إما أن تكون قطعية أو ظنية: فإن كانت قطعية فالمخطئ فيها آثم بلا خلاف؛ لأن الحقَّ فيها واحد؛ فمن أصابه فهو المحق، ومن أخطأه فهو المبطل، سواء أكان مدرك ذلك عقليًّا محضًا، كحدوث العالم، ووجود الصانع- جل وعلا- أو شرعيًّا مستندًا إلى ثبوت أمر عقلي، كعذاب القبر، والصراط، والميزان. انظر: الإحكام للآمدي "4/ 178"، شرح الكوكب المنير "4/ 488" والخلاف بين العلماء إنما هو في الأمور الظنية، كما هو واضح.

وقال بعض المتكلمين: كل مجتهد "في الظنيات" مصيب، وليس على الحق دليل مطلوب. واختلف فيه عن أبي حنيفة والشافعي. وزعم بعض من يرى تصويب كل مجتهد: أن دليل هذه المسألة قطعي2. وفَرَضَ 3 الكلام في طرفين. أحدهما: مسألة فيها نص فينظر: فإن كان مقدورًا عليه، فقصّر المجتهد- في طلبه: فهو مخطئ آثم؛ لتقصيره. وإن لم يكن مقدورًا عليه لبعد المسافة، وتأخير المبلّغ: فليس بحكم في حقه. بدليل أن الله- تعالى- لما أمر جبريل أن يخبر محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بتحويل القبلة إلى الكعبة، فصلَّى قبل إخبار جبريل إياه لم يكن مخطئًا4. ولما بُلِّغ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-وأهل قباء يصلون إلى بيت المقدس لم

_ 1 ما بين القوسين من المستصفى "4/ 48". 2 يقصد بذلك الإمام الغزالي، حيث نقل كلامه من أول قوله: "وفَرَضَ الكلام ... " إلى قوله: "بخلاف أدلة العقول؛ فإنها لا تختلف"، والغريب أنه لم يصرح باسمه- كما قلنا في مقدمة الكتاب- مع أنه يختصر كلامه، أو يستبدل عبارته بعبارة مرادفة لها! 3 أي: الغزالي. 4 عبارة الغزالي: "أنه لو صلَّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-إلى بيت المقدس، بعد أن أمر الله – تعالى- جبريل أن ينزل إلى محمد – عليه السلام- ويخبره بتحويل القبلة، فلا يكون النبي مخطئًا؛ لأن خطاب استقبال الكعبة- بعد – لم يبلغه".

يبلغهم: لم يكونوا مخطئين. ولو بلغ أهل قباء فاستمر أهل مكة على الصلاة إلى أن بلغهم: لم يكونوا مخطئين. وإذا ثبت هذا فيما فيه نصُّ: ففيما لا نصَّ فيه أولى. ولا يخلو: إما أن تكون الإصابة ممكنة، أو محالًا. ولا تكليف بالمحال. ومن أمر بممكن، فتركه، أثم وعصى؛ إذ يستحيل أن يكون مأمورًا ولم يعص ولم يأثم بالمخالفة؛ لمناقضة ذلك للإيجاب. وزعم: أن هذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل مصنف. ثم قال1: الظنيات لا دليل فيها؛ فإن الأمارات الظنية ليست أدلة لأعيانها، بل تختلف بالإضافات من دليل يفيد الظن لزيد، ولا يفيده لعمرو، مع إحاطته به. بل ربما يفيد الظن لشخص واحد في حالة دون حالة. بل قد يقوم في حق شخص واحد في حالة واحدة دليلان متعارضان، ولا يتصور في القطعية تعارض. ولذلك ذهب أبو بكر الصديق – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلى التسوية في العطاء، وعمر إلى التفضيل2، وكل واحد منهما كشف لصاحبه دليله وأطلعه عليه، فغلب على ظن كل واحد منهما ما صار إليه، وكان مغلّبًا

_ 1 أي: الغزالي- أيضًا- وهذا هو الطرف الثاني، وإن كان الغزالي لم يعنون له في المستصفى. 2 رُوي عن أبي بكر- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه قال: "إنما أسلموا لله، وأجورهم عليه، وإنما الدنيا بلاغ" أما عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فقال: "لا أجعل من ترك داره وماله وهاجر إلى الله ورسوله كمن أسلم كرهًا" تقدم تخريج ذلك في فصل إثبات القياس على منكريه.

على ظنه دون صاحبه؛ لاختلاف أحوالهما. فمن خُلِقَ خِلْقَتُهما1 يميل ميلهما، ويصير إلى ما صارا إليه في الاختلاف، ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسة يوجب اختلاف الظنون. فمن مارس الكلام: ناسب طبعه أنواعًا من الأدلة يتحرك بها ظنه، لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه. ومن غلب عليه الغضب: مالت نفسه إلى ما فيه "شهامة وانتقام"2. ومن رقَّ طبعه: مال إلى الرفق والمساهلة. بخلاف أدلة العقول؛ فإنها لا تختلف. وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الإثم غير محطوط في الفروع3، بل فيها حقّ معين4 عليه دليل قاطع؛ لأن العقل قاطع بالنفي الأصلي، إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع. وإنما استقام لهم هذا؛ لإنكارهم القياس وخبر الواحد. وبما أنكروا الحكم بالعموم والظاهر5. وزعم الجاحظ6: أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر، فعجز عن درك الحقِّ: فهو معذور غير آثم.

_ 1 فسرهما الغزالي- بعد ذلك – فقال: "ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته...." 2 في جميع النسخ: "السياسة والانتقام" والمثبت من المستصفى وهو المناسب. 3 وكذلك الأصول من باب أولى، كما قال الطوفي في شرحه "3/ 603". 4 في الأصل "يتعين" والمثبت من المستصفى. 5 بعدها في المستصفى: "المحتمل". 6 هو: عمرو بن بحر بن محبوب، أبو عثمان، المعروف بالجاحظ، العالم =

وقال عبيد الله بن الحسن العنبري1: كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع جميعًا. وهذه كلها أقاويل باطلة. أما الذي ذهب إليه الجاحظ: فباطل يقينًا، وكفر بالله- تعالى- وردٌّ عليه وعلى رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فإنا نعلم – قطعًا – أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتِّباعه، وذمهم على إصرارهم. ونقاتل جميعهم، ونقتل البالغ منهم. ونعلم: أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة، اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا، ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه. والآيات الدالّة في القرآن على هذا كثيرة: كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 2، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3، {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 4، {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} 5، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ

_ = المشهور، صاحب التصانيف في كل فنٍّ، وإليه تنسب فرقة الجاحظية من المعتزلة، من مؤلفاته: "البيان والتبيين" و"الحيوان". توفي بالبصرة سنة 255هـ انظر: وفيات الأعيان "3/ 140" بغية الوعاة "2/ 228". 1 هو: عبيد الله بن الحسن بن الحسين العنبري بن تميم، فقيه محدث، ولي القضاء بالبصرة، ولد سنة 105هـ وتوفي سنة 168هـ انظر: تاريخ بغداد "10/ 306"، الأعلام "4/ 346". 2 سورة ص، من الآية: "27". 3 سورة فصلت، الآية: "23". 4 سورة البقرة، من الآية: "78". 5 سورة المجادلة، من الآية: "18" وتمامها: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .

مُهْتَدُونَ} 1، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِه ِ ... } 2. وفي الجملة: ذم المكذبين لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-مما لا ينحصر في الكتاب والسنة. وقول العنبري: "كل مجتهد مصيب". إن أراد: أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه: فهو كقول الجاحظ. وإن أراد: أن ما اعتقده فهو على اعتقاده: فمحال؛ إذ كيف يكون قِدَمُ العالم وحدوثه حقًّا، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه وهذه أمور ذاتية، لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها؟!. فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية3: فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها، وجعلها تابعة للمعتقدات. وقد قيل: إنما أراد4 اختلاف المسلمين. وهو5 باطل كيفما كان؛ إذ كيف يكون القرآن قديمًا مخلوقًا، والرؤية محالًا ممكنًا وهذا محالٌ؟! 6.

_ 1 سورة الزخرف، من الآية: "37". 2 سورة الكهف، من الآيتين: "104، 105". 3 تقدم التعريف بهم. 4 أي: العنبري. 5 أي: تفسير قول العنبري: بأن المراد به: اختلاف المسلمين. 6 معنى هذا: أن المعتذرين عن العنبري بأنه يقصد: اختلاف المسلمين، قولهم هذا مردود؛ فإن المعتزلة قالوا: القرآن مخلوق، والسلف الصالح وأهل الحديث قالوا: هو قديم، فكيف يتصور على زعمه أن يكون قديمًا وحديثًا؟! وكيف يتصور =

والدليل على أن الحق في جهة واحدة1: الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعنى2. أما الكتاب: فقول الله – تعالى- {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 3. فلو استويا في إصابة الحكم: لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى. وهو يدلُّ على فساد مذهب من قال: "الإثم غير محطوط عن المخطئ"، فإن الله- تعالى- مدح كلا منهما وأثنى عليه بقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 4. فإن قيل: فيكف يجوز أن ينسب الخطأ إلى داود وهو نبيٌّ؟! ومن أين

_ = اجتماع الممكن والمحال، إذ أن السلف يقولون: إن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة داخلة في الممكن، والمعتزلة قالوا: هي من المحال. انظر: نزهة المخاطر "2/ 420". 1 بدأ المصنف يورد الأدلة على أن الحق في قول واحد بعينهن ومن عداه مخطئ..... 2 المراد بالمعنى: الدليل العقلي. 3 سورة الأنبياء، من الآيتين: "78، 79". 4 قال الطوفي: موضحًا ذلك: "ولولا أن الحق في جهة بعينها، لما خصَّ سليمان بالتفهيم؛ إذ كان يكون ترجيحًا بلا مرجح، ولولا سقوط الإثم عن المخطئ، لما مدح داود عليه السلام بقوله – عَزَّ وَجَلََََّّّّ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} لأن المخطئ لا يمدح، فدلّ هذا على أن الحق في قول مجتهد معيّن، وأن المخطئ في الفروع غير آثم". شرح المختصر "3/ 605".

لكم أنه حكم باجتهاده، وقد علمتم الاختلاف في جواز ذلك1؟!. ثم لو كان مخطئًا: كيف يمدح المخطئ وهو يستحق الذم؟! ثم يحتمل: أنهما كانا مصيبين فنزل الوحي بموافقة أحدهما قلنا: يجوز وقوع الخطأ منهم، لكن لا يقرّون عليه، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى. وإذا تُصُوِّر وقوع الصغائر منهم: فكيف يمتنع وجود خطأ لا مأثمَ فيه، وصاحبه مثاب مأجور؟! ولولا ذلك: ما عوتب نبينا- عليه السلام – على الحكم في أسارى بدر، ولا في الإذن في التخلف عن غزوة تبوك فقال- تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ....} 2. وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إنكم لتختصمون إليَّ، ولعلّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعضٍ، وإنما أقضي على نحو ما أسمعُ، فمن قضيت له بشيء من حقِّ أخيه فلا يأخذْهُ؛ فإنما أقْطعُ له قطعةً من النار" 3. فبين أنه يقضي للرجل بشيء من حقِّ أخيه. قولهم: "من أين لكم أنه حكم بالاجتهاد؟! " قلنا: الآية دليل عليه؛ فإنه لو حكم بنص: لما اختصَّ سليمان بالفهم دونه.

_ 1 في مسألة جواز تعبّد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-بالاجتهاد فيما لا نص فيه. 2 سورة التوبة من الآية "43". 3 تقدم تخريج الحديث.

وقولهم: "إن النص نزل بموافقة سليمان". قلنا: لو كان ما حكم به داود – عليه السلام- صوابًا وهو الحق، فتغير الحكم بنزول النص: لا يمنع أن يكون فهمهما وقت الحكم، ولا يوجب اختصاص "سليمان" بالإصابة، كما لو تغير بالنسخ. وأما السنة: فما تقدم من الخبر، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-أخبر بأنه يقضي للإنسان بحق أخيه. ولو كان يأثم بذلك: لم يفعله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. ولو كان ما قضي به هو الحكم عند الله – تعالى- لما قال: "قضيت له بشيء من حق أخيه" ولا قال: "إنما أقطع له قطعة من النار". ولأن الحكم عند الله تعالى- لا يختلف باختلاف لحن1 المتخاصمين، أو تساويهما. وروي أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا بعث جيشًا أوصاهم فقال: "إذا حاصرتم حصنًا أو مدينة، فطلبوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله فلا تنزلوهم على حكم الله؛ فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم" 2.

_ 1 اللَّحَن- بفتحتين: الفطنة، وهو سرعة الفهم، وفلان ألحن من فلان، أي: أسبق فهمًا منه. والمراد منه هنا: أن بعضكم قد يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره. انظر: المصباح المنير مادة "لحن". 2 أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، وأبو داود: كتاب الجهاد باب في دعاء المشركين، والترمذي: كتاب السير، باب ما جاء في وصيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في القتال، وابن ماجة: كتاب الجهاد، باب وصية الإمام، من حديث سليمان بن بريدة الأسلمي.

وروى ابن عمر وعمرو بن العاص وأبو هريرة، وغيرهم: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر". هذا لفظ رواية عمرو. أخرجه مسلم1. وهو حديث تلقته الأمة بالقبول. وهو صريح في: أنه يحكم باجتهاده فيخطئ ويؤجر دون أجر المصيب. فإن قيل: المراد به: أنه أخطأ مطلوبه، دون ما كلّفه، كخطأ الحاكم، ردّ المال إلى مستحقيه2، مع إصابته حكم الله عليه، وهو اتباع موجب ظنه. وخطأ المجتهد جهة القبلة مع أن فرضه جهة يظن أن مطلوبه فيها. وهذا يتحقق في كل مسألة فيها نص، أو اجتهاد يتعلق بتحقيق المناط، كأروش الجنايات، وقدر كفاية القريب؛ فإن فيها حقيقة معينة عند الله، وإن لم يكلف المجتهد طلبها3. قلنا: فإذا سلم هذا: ارتفع النزاع، فإننا لا نقول: إن المجتهد يُكلَّف إصابة الحكم، وإنما لكل مسألة حكم معين يعلمه الله، كلف المجتهد طلبه، فإن اجتهد فأصابه فله أجران، وإن أخطأه فله أجر على اجتهاده،

_ 1 في كتاب الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد وأخطأ، والبخاري: كتاب الاعتصام: باب أجر الحكام إذا اجتهد فأصاب وأخطأ، وأبو داود: كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ. 2 عبارة الغزالي في المستصفى "4/ 76": "فإن الحاكم يطلب ردّ المال إلى مستحقه وقد يخطئ ذلك، فيكون مخطئًا فيما طلبه، مصيبًا فيما هو حكم الله – تعالى- عليه". 3 في الأصل "طلبه" والمثبت من المستصفى "4/ 77".

وهو مخطئ، وإثم الخطأ محطوط عنه. كما في مسألة القبلة؛" فإن المصيب لجهة الكعبة عند اختلاف المجتهدين واحد، ومن عداه مخطئ يقينًا، يمكن أن يبين له خطأه، فيلزمه إعادة الصلاة عند قوم، ولا يلزمه عند آخرين، لا لكونه مصيبًا لها، بل سقط عنه التوجه إليها، لعجزه عنها. وهكذا كون حق زيد عند عمرو، إذا اختلف فيه مجتهدان، فالمصيب أحدهما، والآخر مخطئ؛ إذ لا يمكن كون ذمة عمرو مشغولة بريئة. وتخصيص ذلك بما فيه نص خلاف موجب العموم، وهو باطل- أيضًا- فإن القياس [في] معنى النص، ونحن نتعرف بالبحث المعني الذي قصده النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فهو كالنص. وأما الإجماع: فإن الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم – اشتهر عنهم في وقائع لا تحصى: إطلاق الخطأ على المجتهدين. من ذلك: قول أبي بكر- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: في الكلالة: "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان"1. وعن ابن مسعود في قصة "برْوع" مثل ذلك2. وقال عمر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لكاتبه: "اكتب: هذا ما رآه عمر، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمن عمر"3.

_ 1 تقدم تخريج الأثر. 2 تقدم تخريجه. 3 جاء في سنن البيهقي "10/ 116": أن عمر رأى رأيًا، فكتب الكاتب: هذا ما =

وقال- في قضية قضاها: "والله، ما يدري عمر أصاب أم أخطأ" ذكره الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد1 عن أبيه. وقال علي لعمر- في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ذا بطنها، وقد استشار عثمان وعبد الرحمن، فقالا: "لا شيء عليك، إنما أنت مؤدب"- فقال علي: "إن يكونا قد اجتهدا: فقد أخطآ، وإن يكونا ما اجتهد فقد غشّاك، عليك الدية". فرجع عمر إلى رأيه2. وقال علي- في إحراق الخوارج3:

_ = أرى اللهُ أميرَ المؤمنين. فانتهره عمر، وقال: اكتب: هذا ما رأى عمر؛ فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن عمر. 1 هو: بكر بن محمد النسائي البغدادي، روى عن أبيه عن الإمام أحمد – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – مسائل كثيرة، وكان الإمام أحمد يقدمه ويكرمه. انظر: طبقات الحنابلة "1/ 119، 120". 2 تقدم تخريج الأثر. 3 هكذا في الأصل، والذي في صحيح البخاري: أن الذين أحرقهم علي هم الزنادقة. روى البخارى: باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم حديث "6922" عن عكرمة قال: "أُتِيَ علي– رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابنعباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: لا تعذبوا بعذاب النار، ولقتلتهم لقول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "من بدل دينه فاقتلوه". وحكى ابن حجر في الفتح روايات أخرى في الذين حرقوا: فقيل: إنهم أناس كانوا يعبدون الأصنام سرًّا. وقيل: إنهم جماعة ارتدوا عن الإسلام، فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا، فأُتِيَ بهم فضرب أعناقهم ورماهم في حفرة، ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم. وزعم أبو المظفر الإسفراييني في "الملل والنحل" أنهم طائفة من الروافض ادّعوا فيه الإلهية، وهم من السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديًّا، ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة.

لقد عثرت عثرة لا تنجبر ... سوف أليسُ1 بعدها أو أستمر .............................. ... وأجمع الرأي الشتيت المنتشر2 وقال ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد؛ يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا"3. وقال: "من شاء باهلته في العول"4. وقالت عائشة: "أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-إلا أن يتوب"5. وهذا اتفاق منهم على أن المجتهد يخطئ. فإن قيل6: لعلهم نسبوا الخطأ إليه، لتقصيره في النظر، أو لكونه من غير أهل الاجتهاد.

_ = ورُوي أنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بعد أن أحرقهم قال: إني إذا رأيت أمرًا منكرًا أوقدت ناري ودعوت قنبرًا انظر: فتح الباري "12/ 331" طبعة دار الكتب العلمية. 1 جاء في تاج العروس مادة "ألس": "يقال: تلايس الرجل إذا حسن خلقه، وكان حمولًا، وتلايس عنه: أغمض"، ومعناه هنا: أني سوف أتحمل كل ما يفعله هؤلاء وأغمض العين عن القذى، أو أستمر على عقابهم حتى أجمع الرأي المتشتت المنتشر. نزهة الخاطر "2/ 424". 2 والشطر الأول: أرفع منذيلي ما كنت أجرُّ. والبيتان نسبتهما إلى الإمام علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الطبري في تاريخه "4/ 437" إلا أن صدر البيت الأول عنده: إني عجزت عجزة لا أعتذر.... 3 تقدم تخريجه. 4 في الأصل "القول" وهو خطأ مطبعيٌّ. وخلاف ابن عباس في العول تقدم توضيحه في فصل: حكم الإجماع بقول الأكثر. 5 تقدم تخريج هذا الأثر في فصل: حكم الإجماع بقول الأكثر. 3 القائل: هو الإمام الغزالي في المستصفى "4/ 81": ونصُّ عبارته: "وإنما ينتفي" =

أو يكون القائل لذلك يذهب مذهب من يرى التخطئة1. قلنا: أما الأول: فجهل قبيح، وخطأ صريح، كيف يستحل مسلم: أن "أن يقول: إن"2 الخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين ومن سمينا معهم من البحر: ابن عباس، والأمين: عبد الرحمن بن عوف، وفقيه الصحابة وأفرضهم وقارئهم: زيد بن ثابت ليسوا من أهل الاجتهاد؟! وإذا لم يكونوا من أهل الاجتهاد: فمن الذي يبلغ درجتهم؟! ولا يكاد يتجاسر على هذا القول من له في الإسلام نصيب. ونسبته لهم -أنهم قصّروا في الاجتهاد- إساءة ظنٍّ بهم، مع تصريحهم بخلافه، فإن عليًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطآ" وتوقف ابن مسعود في قصة "برْوع" شهرًا. وهذا في القبح قريب من الذي قبله؛ لكونه نسب هؤلاء الأئمة إلى الحكم بالجهل والهوى، وارتكاب ما لا يحل، ليصحح به قوله الفاسد، فلا ينبغي أن يلتفت إلى هذا. وقولهم: "يذهب مذهب من يرى التخطئة". فكذلك هو، لكن هو إجماع منهم، فلا تحل مخالفته. وأما المعنى: فوجوه: أحدها: أن مذهب من يقول بالتصويب3 محالٌ في نفسه؛ لأنه

_ = الخطأ: متى صدر الاجتهاد من أهله، وتم في نفسه، ووضع في محله، ولم يقع مخالفًا لدليل قاطع، ثم مع ذلك كله يثبت اسم الخطأ بالإضافة إلى ما طلب، لا إلى ما وجب". 1 أي: يذهب مذهب من يرى أن المصيب واحد، ومن عداه مخطئ. 2 ما بين القوسين من نسخة الدكتور عبد الكريم النملة – حفظه الله. 3 أي: أن كل مجتهد مصيب.

يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو: أن يكون يسير النبيذ حرامًا حلالًا، والنكاح بلا وليٍّ صحيحًا فاسدًا، ودم المسلم- إذا قتل الذمي- مهدرًا معصومًا، وذمة المحيل- إذا امتنع المحتال من قبول الحوالة على المليء- بريئة مشغولة؛ إذ ليس في المسألة حكم معين. وقول كل واحد من المجتهدين حقٌّ وصواب مع تنافيهما. قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوَّله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء: يجعل الشيء ونقيضه حقًّا، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب أطيبها. قالوا: لا يستحيل كون الشيء حلالًا وحرامًا في حقّ شخصين، والحكم ليس وصفًا للعين. فلا يتناقض أن يحل لزيد ما حرم على عمرو، كالمنكوحة، حلال لزوجها، حرام على غيره، وهذا ظاهر. بل لا يمتنع في حق شخص واحد مع اختلاف الأحوال كالصلاة واجبة في حق المحدث، إذا ظن أنه متطهر، حرام إذا علم بحدثه. وركوب البحر: مباح لمن غلب على ظنه السلامة، حرام على الجبان الذي يغلب على ظنه العطب1. والجواب2: أنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين في حق شخص واحد؛ فإن المجتهد لا يَقْصُرُ الحكم على نفسه، بل يحكم بأن يسير النبيذ حرام على كل واحد، والآخر يقضي بإباحته في حق الكل.

_ 1 جاء في المصباح المنبر "عَطِبَ": عطبًا من باب تَعِبَ: هلك. 2 أي على كون الحكم وصفًا لأفعال المكلفين، وإثبات كونه وصفًا للأعيان.

فكيف يكون حرامًا على الكل، مباحًا لهم؟! أم كيف تكون المنكوحة بلا وليٍّ مباحة لزوجها، حرامًا عليه؟! ثم لو لم يكن محالًا في نفسه، لكنه يؤدي إلى المحال في بعض الصور: فإنه إذا تعارض عند المجتهد دليلان، فيتخير بين الشيء ونقيضه. ولو نكح مجتهد امرأة بلا وليٍّ، ثم نكحها آخر يرى بطلان الأول، فكيف تكون مباحة للزوجين؟ المسلك الثاني1: لو كان كل مجتهد مصيبًا: جاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة أن يقتدي كل واحد منهما بصاحبه؛ لأن كل واحد منهما مصيب، وصلاته صحيحة، فلِمَ لا يقتدي بمن صلاته صحيحة في نفسه؟! 2 ثم يجب أن يُطوى بساط المناظرات في الفروع، لكون كل واحد منهم مصيبًا لا فائدة في نقله عن ما هو عليه، ولا تعريفه ما عليه خصمه. المسلك الثالث: أن المجتهد يكلف الاجتهاد بلا خلاف، والاجتهاد: طلب يستدعي مطلوبًا لا محالة، فإن لم يكن للحادثة حكم: فما الذي يطلب؟ فمن يعلم – يقينًا- أن زيدًا ليس بجاهل ولا عالم، هل يتصور أن يطلب الظن بعلمه؟! ومن يعتقد أن النبيذ ليس بحلال ولا حرام، كيف يطلب أحدهما؟! فإن قالوا: إن المجتهد لا يطلب حكم الله – تعالى- بل إنما يطلب غلبة

_ 1 أي: الوجه الثاني من قوله- قبل ذلك- "والمعنى من وجوه". 2 أي: في نفس المجتهد المؤتم؛ حيث يعتقد أن كل مجتهد مصيبٌ، على فرض صحة هذا المذهب.

الظن، فيكون حكمه، ما غلب على ظنه. كمن يريد ركوب البحر فقيل له: إن غلب على ظنك الهلاك: حرم عليك الركوب، وإن غلب على ظنك السلامة: أُبِيْحَ لك الركوب، وقبل الظن لا حكم لله – تعالى- عليك سوى اجتهادك في تتبع ظنك. فالحكم يتجدد1 بالظن، ويوجد بعده. ولو شهد عند قاض شاهدان، فحكم الله – تعالى – عليه يترتب عليه ظنه: إن غلب عليه الصدق: وجب قبوله. وإن غلب على ظنه الكذب: لم يجب قبوله. قلنا: قولهم: "إنما يطلب غلبة2 الظن". فالظن- أيضًا- لا يكون إلا لشيء مظنون، ومن يقطع بانتفاء الحكم كيف يتصور أن يظن وجوده؟!؛ فإن الظن لا يتصور إلا لموجود، والموجود يتتبع الظن، فيؤدي إلى الدور. وراكب البحر لا يطلب الحكم، إنما يطلب تعرّف الهلاك أو السلامة، وهذا أمر يمكن تعرّفه. والحاكم إنما يطلب الصدق أو الكذب، وهذا غير الحكم الذي يلزمه، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن المطلوب: هو الحكم الذي يعلم أنه لا وجود له، فكيف يتصور طلبه له؟! ثم إذا علمنا أنه لا حكم لله- تعالى- في الحادثة، فلِمَ يجب الاجتهاد؟!

_ 1 عبارة المستصفى: "يتبع". 2 في الأصل: "عليه" والمثبت من نسخة الدكتور النملة.

فإننا إذا علمنا بالعقل قبل ورود الشرع: انتفاء الواجبات، وسقوط الحرج عن الحركات والسكنات، فيجب أن يطلق في الأشياء من غير اجتهاد، والعامِّي الذي لا اجتهاد له لا يؤاخذ على فعل من الأفعال؛ فإن الحكم إنما يحدث بالاجتهاد، وهو لا اجتهاد له، فلا حكم عليه إذًا، ولا خطاب في حقه، وهذا فاحش. وقولهم: "إن النص إذا لم يقدر عليه المجتهد لا يكون حكمًا في حقه": ممنوع، بل الحكم بنزول النص إلى الخلق، بلغهم أو لم يبلغهم. فلو وقف الحكم على سماع الخطاب، وبلوغ النص: لم يكن على العامّي حكم في أكثر المسائل؛ لكونه لم يبلغه النص، ولكان المجتهد إذا امتنع من الاجتهاد لا حكم عليه لتلك الحادثة، ولا يجب عليه قضاء ما ترك من العبادات والواجبات، ولا يكون مخطئًا إلا بترك الاجتهاد لا غير. أما النص إذا نزل به "جبريل" فقد قال أبو الخطاب: يكون نسخًا، وإن لم يعلم به المنسوخ عنه1. وإنما اعتدّ أهل قباء بما مضى من صلاتهم؛ لأن القبلة يعذر فيها بالعذر2. جواب ثانٍ: أن هذا فرض في مسألة لا يتوهم أن لها دليلًا يطلب، وإنما الخطأ فيما نصب الله – تعالى- عليه دليلًا، وأوجب على المكلف طلبه، ثم يحتاج إلى بيان تصور ذلك، وإمكان خلو بعض المسائل من الدليل، وهو باطل؛ إذ لا خلاف في وجوب الاجتهاد في الحادثة، وتعرّف حكمها،

_ 1 التمهيد "2/ 395". 2 هذا جواب سؤال مقدر تقديره: يرد على قولكم: إذا نزل جبريل بالنص يكون =

والشرع قد نصب عليها: إما دليلًا قاطعًا، أو ظنيًّا. قولهم: "إن الأدلة الظنية ليست أدلة لأعيانها بدليل: اختلاف الإضافات". قلنا: هذا باطل، فإنّا قد بينّا في كل مسألة دليلًا، وذكرنا وجه دلالته. ولو لم يكن فيها أدلة: لاستوى1 المجتهد والعامّي. ولجاز للعامّي الحكم بظنه، لمساواته المجتهد في عدم الدليل. وهل الفرق بينهما إلا معرفة الأدلة، ونظره في صحيحها وسقيمها2؟! ونبوّ3 بعض الطباع عن قبول الدليل لا يخرجه عن دلالته؛ فإن كثيرًا من العقليات يختلف فيها الناس مع اعتقادهم أنها قاطعة. ولا ينكر أن منها ما تضعف دلالته، ويخفى وجهه، ويوجد معارض له، فتشتبه على المجتهد، وتختلف فيه الآراء. ومنها: ما يظهر ويتبين خطأ مخالفيه، وكلها أدلة.

_ = نسخًا، وإن لم يعلم به المنسوخ عنه: أن أهل قباء اعتدّوا بما مضى من صلاتهم، ولم يستأنفوها، ولو عدوا النزول نسخًا لاستأنفوها. فأجاب المصنف: أن القبلة يعذر فيها بالعذر، فهي خارجة عما ذهبنا إليه، ومعنى: يعذر فيها بالعذر، أي: يقبل فيها العذر، انظر: نزهة الخاطر "2/ 429". 1 في الأصل "لا يستوي" والمثبت من الدكتور النملة. 2 أي: نظر المجتهد في الأدلة وتمييز بين ما يصلح منها وما لا يصلح 3 جاء في المصباح المنير مادة "نبا": "نبا الطبع عن الشيء: نفر ولم يقبله".

ولأن الظن إذا لم يكن دليلًا: فبِمَ عرفتم أنه ليس بدليل1؟ ويلزم من انتفاء ذلك: انتفاء الدليل على أنه ليس بدليل!. وقولهم: "إنه لا يخلو إما أن يكون مكلفًا بممكن، أو بغير ممكن". قلنا: لا يكلف إلا ما يمكن. ولا نقول: إنه يكلف الإصابة في محل التعذر، بل يكلف طلب الصواب، والحكم بالحق الذي هو حكم الله. فإن أصابه: فله أجر اجتهاده، وأجر إصابته. وإن أخطأ: فله ثواب اجتهاده، والخطأ محطوط عنه. والله – تعالى- أعلم.

_ 1 معناه: أنه يلزم من انتفاء كون الظن دليلًا: الدليل على أن الظن ليس بدليل، وذلك الانتفاء لا يحصل إلا بالظن، وذلك دور. انظر: نزهة الخاطر "2/ 430".

فصل: في تعارض الأدلة

فصل: [في تعارض الأدلة] إذا تعارض دليلان عند المجتهد، ولم يترجح أحدهما: وجب عليه التوقف، ولم يكن له الحكم بأحدهما، ولا التخيير فيهما. وبه قال أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية. وقال بعضهم وبعض الحنفية: يكون المجتهد مخيرًا في الأخذ بأيهما شاء؛ لأنه لا يخلو: إما أن يعمل بالدليلين أو يسقطهما.

_ 1 معناه: أنه يلزم من انتفاء كون الظن دليلًا: الدليل على أن الظن ليس بدليل، وذلك الانتفاء لا يحصل إلا بالظن، وذلك دور. انظر: نزهة الخاطر "2/ 430".

أو يتحكم بتعيين أحدهما. أو يتخير فيهما. لا سبيل إلى الجمع بينهما، عملًا وإسقاطًا؛ لأنه متناقض، ولا إلى التوقف إلى غير غاية، فإن فيه تعطيلًا، وربما لم يقبل الحكم التأخير. ولا سبيل إلى التحكم. لم يبق إلا التخيير، والتخيير بين الحكمين مما ورد به الشرع في العامّي، إذا أفتاه مجتهدان، وفي خصال الكفارة1، والتوجه إلى أي جدران الكعبة شاء لمن دخلها. والتخيير في زكاة مائتين من الإبل بين الحقاق وبنات اللبون 2. وأمثال ذلك. فإن قلتم: التخيير بين التحريم ونقيضه، والإيجاب وعكسه، يرفع التحريم والإيجاب. قلنا: إنما يناقض الإيجاب: جواز الترك مطلقًا، أما جوازه بشرط فلا،

_ 1 فإنه مخير بين العتق والإطعام والكسوة. قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ... } [المائدة: 89] . 2 أي: أن المزكي إذا كان عنده مائتان من الإبل، خُيّر بين أن يخرج عنها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون؛ لأنه قد وجد لديه مقتضي إخراج بنات اللبون والحقاق، فإنه في كل أربعين بنت لون، وفي كل خمسين حقة. وبنت اللبون: ما لها سنتان، سُميت بذلك لأن أمها وضعت- غالبًا- فأصبحت ذات لبن، والحقة: ما لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، سُميت بذلك لأنها استحق أن تركب ويحمل عليها، ويطرقها الفحل.

بدليل الواجب الموسع، يجوز تركه بشرط1. والركعتان الأخيرتان في الرباعية من المسافر، يجوز تركهما بشرط قصد القصر. كذا هاهنا: يجوز ترك الواجب بشرط قصد الدليل المسقط له. وإذا سمع قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} 2: حرم عليه الجمع "بين المملوكتين"3، وإنما يجوز له الجمع إذا قصد الدليل الثاني، وهو قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ... } 4 كما قال عثمان: "أحلتهما آية وحرمتهما آية".

_ 1 وهو: الإتيان به في الوقت الموسع، وهو الذي قال عنه في فصل تقسيم الواجب: "وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت، ولا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت". 2 سورة النساء من الآية: "23". 3 ما بين القوسين من المستصفى "4/ 118" وعليه يتوقف صحة المعنى. 4 سورة النساء، من الآية: "24" ولفظ المؤمنون: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} آية: "6" ومثلها في المعارج آية: "30" وفي جميع الطبعات: "أو ما ملكت أيمانكم" وهو خطأ يجب أن يتنبه له. ومحل الشاهد: أن قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} يقتضي تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ لأنها لم تفرق بين الأختين في الزواج وملك اليمين. وقوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يقتضي إباحة الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ حيث لم تفرق الآية بين الأختين وغيرهما. وهذا معنى قول "عثمان"- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أحلتهما آية وحرمتهما آية"، تقدم تخريجه.

ولنا: أن التخيير: جمع بين النقيضين، واطّراح لكلا الدليلين، وكلاهما باطل. أما بيان اطّراح الدليلين: فإذا تعارض الموجَب والمحرَّم فيصير على التخيير المطلق، وهو حكم ثالث غير الدليلين معًا، فيكون اطّراحًا لهما، وتركًا لموجبهما. وأما الجمع بين النقيضين: فإن المباح نقيض المحرَّم، فإذا تعارض المبيح والمحرِّم، فخيرناه بين كونه محرَّمًا يأثم بفعله، وبين كونه مباحًا لا إثم على فاعله: كان جمعًا بينهما، وذلك محال. ولأن في التخيير بين الموجِب والمبيح رفعًا للإيجاب، فيصير عملًا بالدليل المبيح عينًا، وهو تحكم، قد سلموا بطلانه1. قولهم2: "إنما جاز بشرط القصد". قلنا: فقبل أن يقصد العمل بأحدهما: ما حكمه؟ إن قلتم: حكمه الوجوب والإباحة معًا، والتحريم والحل معًا، فقد جمعتم بين النقيضين. وإن قلتم: حكمه التخيير، فقد نفيتم الوجوب قبل القصد، واطّرحتم دليله، وأثبتم حكم الإباحة من غير شرط. وإن قلتم: لا حكم له قبل القصد، وإنما يصير له بالقصد حكم. فهذا إثبات حكم بمجرد الشهوة، والاختيار من غير دليل؛ فإن

_ 1 حيث قالوا في دليلهم السابق: "ولا سبيل إلى التحكم، لم يبق إلا التخيير". 2 بدأ المصنف يناقش أدلة المذهب الثاني.

الدليلين وجدا، فلم يثبت لهما حكم، وثبت بمجرد شهوته وقصده بلا دليل، وهذا باطل. قولهم: "إن التوقف لا سبيل إليه". قلنا: نلزمك ما إذا لم يجد المجتهد دليلًا في المسألة، والعامّي إذا لم يجد مفتيًا، فماذا يصنع؟ وهل ثَمَّ طريق إلا التوقف في المسألة؟ ثم لا نسلم تصور خلوِّ المسألة عن دليل؛ فإن الله تعالى – كلّفنا حكمه، ولا سبيل إليه إلا بدليل. فلو لم يجعل له دليلًا كان تكليفًا لِمَا لا يطاق. فعند ذلك إذا تعارض دليلان، وتعذر الترجيح أسقطهما، وعدل إلى غيرهما، كالحاكم إذا تعارضت عنده بينتان. أما العامّي: فقد قيل: يجتهد في أعيان المفتين، فيقلد أعلمهما وأدينهما. وهو ظاهر قول الخرقي1؛ لأنه قال في الأعمى إذا كان مع مجتهدَيْن في القبلة، قلّد أوثقهما في نفسه2. وقيل3: يخير فيهما.

_ 1 هو: عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم الخرقي، من فقهاء الطبقة الثالثة الحنابلة، صاحب كتاب "المختصر في الفقه" توفي بدمشق سنة 334هـ. طبقات الحنابلة "2/ 75-76". 2 انظر: المختصر مع المغني "2/ 109". 3 وهذا هو الرأي الثاني في العامّي "إذا أفتاه مجتهدان.

والفرق بينهما1: أن العامّي ليس عليه دليل، ولا هو متعبد باتباع موجب ظنه. بخلاف المجتهد؛ فإنه متعبد بذلك، ومع التعارض لا ظنّ له، فيجب عليه التوقف. ولهذا لا يحتاج العامّي إلى الترجيح بين المفتين على هذا الوجه، ولا يلزمه العمل بالراجح، بخلاف المجتهد. ولا ينكر التخيير في الشرع2، لكن التخيير بين النقيضين ليس له في الشرع مجال، وهو في نفسه محال. والله أعلم.

_ 1 أي: بين العامّي والمجتهد. 2 مثل التخيير في كفارة اليمين بين الإطعام والكسوة والعتق، وبين إخراج أربع حقاق، أو خمس بنات لبون في مائتين من الإبل، كما تقدم.

فصل: هل للمجتهد أن يقول قولين في مسألة واحدة

فصل: [هل للمجتهد أن يقول قولين في مسألة واحدة] وليس للمجتهد أن يقول في المسألة قولين في حالٍ واحدة، في قول عامّة الفقهاء. وقال ذلك الشافعي في مواضع1. منها: قال في المسترسل من اللحية قولان: أحدهما: يجب غسله.

_ 1روي أن ذلك وقع منه -رضي الله عنه– في ستة عشر أو سبعة عشر مسألة. انظر: نهاية السول للإسنوي "3/ 184".

والآخر: لا يجب1. فقيل عنه: لعله تكافأ عنده الدليلان، فقال بهما على التخيير. أو علم الحق في أحدهما لا بعينه فقال ذلك، لينظر فيهما، فاخترمه الموت، أو نبه أصحابه على طريق الاجتهاد. ولا يصح شيء من ذلك؛ فإن القولين لا يخلو: إما أن يكونا صحيحين، أو فاسدين. أو أحدهما صحيح، والآخر فاسد. فإن كانا فاسدين: فالقول بهما حرام. وإن كانا صحيحين، وهما ضدان: فكيف يجتمع ضدان؟! وإن كان أحدهما فاسدًا، لم يخلُ: إما أن يعلم فساد الفاسد، أولا يعلمه. فإن علمه، فكيف يقول قولًا فاسدًا؟! أم كيف يلبّس2 على الأمة بقول يحرم القول به؟! وإن اشتبه عليه الصحيح بالفاسد، لم يكن عالمًا بحكم المسألة، ولا قول له فيها أصلًا، فكيف يكون له قولان؟!. قولهم: "تكافأ عنده دليلان". قد أبطلناه3. ثم لو صح، فحكمه التخيير، وهو قول واحد. وقولهم: "إنه علم الحق في أحدهما لا بعينه".

_ 1 انظر: الأم "1/ 25" طبعة دار المعرفة – لبنان. 2 في المصباح المنير مادة "لبس": "ولبست الأمر لبسًا- من باب ضرب- خلطته، وفي التنزيل {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] . والتشديد مبالغة". 3 في قوله- سابقًا: "وإن كانا صحيحين وهما ضدان، فكيف يجتمع ضدان؟! ".

قد بينا أن ما كان كذلك لم يكن له في المسألة قول أصلًا. ثم كان ينبغي أن ينبه على ذلك، ويقول: لي في المسألة نظر" أو يقول: "الحق في أحد هذين القولين". إما إطلاقه فلا وجه له. وهذا هو الجواب عن الآخر1. أما ما يحكى عن غيره من الأئمة من الروايتين، فإنما يكون ذلك في حالتين، لاختلاف الاجتهاد، والرجوع عما رأى إلى غيره "ثم إن علمنا المتأخر عملنا به وألغينا المتقدم، وإن لم نعلم"2 المتقدم منهما، فيكونان كالخبرين المتعارضين.

_ 1 وهو قولهم: "إنه قال ذلك لينبه أصحابه على طريق الاجتهاد". ومعناه: أنه كان يجب عليه أن يبين ولا يطلق. 2 ما بين القوسين زيادة من ط الدكتور عبد العزيز السعيد- حفظه الله – ص "376" وهو وإن لم يذكر مصدر هذه الزيادة، إلا أن هذا موافق لما قاله القاضي أبو يعلى في العدة "5/ 1616 – 1617" حيث قال: "قيل: الروايتان لم يقلهما أحمد في حالٍ واحدةٍ، فيؤدي ذلك إلى أن يكون الشيء الواحد حلالًا حرامًا، وإنما قال ذلك في وقتين مختلفينن رجع عن الأول منهما. ولو علمنا المتأخر منهما صرنا إليه، وجعلناه رجوعًا عن الأول، فلما لم نعرف المتقدم من المتأخر، جعلنا الحكم فيها مختلفًا؛ لأنه ليس تقديم أحدهما أولى من تأخيره".

فصل: المجتهد لا يقلد غيره

فصل: [المجتهد لا يقلد غيره] اتفقوا على أن المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم، لم يجزْ له تقليد غيره.

وعلى أن العامّي له تقليد المجتهد. فأما المتمكن من الاجتهاد في بعض المسائل، ولا يقدر على الاجتهاد في البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء، كالنحو في مسألة نحوية، وعلم صفات الرجال في مسألة خبرية، فالأشبه: أنه كالعامّي فيما لم يُحصّل علمُه؛ فإنه كما يمكنه تحصيله، فالعامّي يمكنه ذلك مع المشقة التي تلحقه. إنما المجتهد الذي صارت العلوم عنده حاصلة بالقوة القريبة من الفعل، من غير حاجة إلى تعب كثير بحيث لو بحث عن المسألة، ونظر في الأدلة استقل بها، ولم يفتقر إلى تعلُّمٍ من غيره. فهذا المتجهد هل يجوز له تقليد غيره. قال أصحابنا: ليس له تقليد مجتهد آخر، مع ضيق الوقت، ولا سعته، لا فيما يخصه، ولا فيما يفتي به. لكن يجوز له أن ينقل للسمتفتي مذهب الأئمة، كأحمد والشافعي، ولا يفتي مِنْ عند نفسه بتقليد غيره؛ لأن تقليدَ مَنْ لا تثبت عصمته، ولا تعلم إصابته: حكمٌ شرعيٌّ لا يثبت إلا بنص، أو قياس، ولا نص ولا قياس؛ إذ المنصوص عليه العامّي مع المجتهد، وليس ما اختلفنا فيه مثله؛ فإن العامّي عاجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه، والمجتهد قادر، فلا يكون في معناه. فإن قيل: هو لا يقدر على غير الظن، وظن غيره كظنه. قلنا: مع هذا إذا حصل ظنه: لم يجزْ له اتباع ظن غيره، فكان ظنه أصلًا، وظن غيره بدلًا، فلا يجوز إثباته إلا بالدليل. ولأنه إذا لم يجزْ له العدول إليه مع وجود المبدل، لم يجزْ مع

القدرة عليه، كسائر الأبدال والمبدلات. فإن قيل: "لا نسلم عدم النص في المسألة، بل فيها نصوص: كقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. وهذا لا يعلم هذه المسألة. وقوله: { ... أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 2. قلنا: المراد بالأولى: أمر العامّة بسؤال العلماء؛ إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول، فالعالم مسؤول غير سائل، ولا يخرج عن العلماء بكون المسألة غير حاضرة في ذهنه إذا كان متمكنًا من معرفتها من غير تعلُّمٍ من غيره. الثاني3: يحتمل أن يكون معناه: اسألوا لتعلموا، أي: سلوا عن الدليل ليحصل العلم، كما يقال: "كُلْ لتشبع" و"اشرب لتروي" والمراد بـ {أُولِي الْأَمْرِ} : الولاة، لوجوب طاعاتهم؛ إذ لا يجب على المجتهد طاعة المجتهد. وإن كان المراد به العلماء، فالطاعة على العوامّ. ثم هو معارض بعمومات أخرى أقوى مما ذكروه، يمكن التمسك بها في المسألة: كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 4، وقوله تعالى:

_ 1 سورة النحل، من الآية: "43"، والأنبياء، من الآية: "7". 2 سورة النساء، من الآية: "59". 3 أي: المعنى الثاني الذي يمكن أن يؤخذ من قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} . 4 سورة الحشر، من الآية: "2".

{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 1، وقوله سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} 2 وقوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 3. وهذا أمر بالتدبر والاستنباط، والخطاب مع العلماء. ثم لا فرق بين المماثل والأعلم؛ فإن الواجب أن ينظر إن وافق اجتهاده الأعلم: فذاك. وإن خالفه فمن أين ينفع كونه أعلم وقد صار مزيفًا؟! 4 عنده، وظنه عنده أقوى من ظن غيره، وله الأخذ بظن نفسه اتفاقًا، ولم يلزمه الأخذ بقول غيره؟! وإن كان أعلم، فينبغي أن لا يجوز تقليده. فإن قيل: فلم ينقل عن طلحة والزبير ونظرائهما نظر في الأحكام، مع ظهور الخلاف، فالأظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم. قلنا: كانوا لا يفتون، اكتفاءً بغيرهم، وأما علمهم لنفوسهم: لم يكن إلا بما عرفوه، فإن أشكل عليهم شاوروا غيرهم، لتعرّف الدليل، لا للتقليد، والله أعلم.

_ 1 سورة النساء، من الآية: "83". 2 سورة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- من الآية: "24". 3 سورة النساء، من الآية: "59". 4 أصل التزييف: تمييز الرائج من الزائف، وهو الرديء، ثم استعمل في الرد والإبطال. تاج العروس مادة "زيف".

فصل: إذا نص المجتهد على حكم لعلة في مسألة فهو مذهبه في كل ما توجد فيه هذه العلة

فصل: [إذا نصّ المجتهد على حكم لعلة في مسألة فهو مذهبه في كل ما توجد فيه هذه العلة] إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بيّنها توجد في مسائل سوى المنصوص عليه: فمذهبه في تلك المسائل كمذهبه في المسألة المعللة؛ لأنه يعتقد الحكم تابعًا للعلة، ما لم يمنع منها مانع. فإن لم يبين العلة: لم يجعل ذلك الحكم مذهبه في مسألة أخرى. وإن أشبهتها شبهًا يجوز خفاء مثله على بعض المجتهدين. فإنا لا ندري لعلها لو خطرت له: لم يَصِرْ فيها إلى ذلك الحكم. ولأن ذلك إثبات مذهب بالقياس. ولذلك افترقا في منصوص الشارع: فما1 نصَّ على علته كان كالنص، يُنسخ وينسخ به، وما لم ينص على علته: لم ينسخ ولم ينسخ به. ولو نص المجتهد- على مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين: لم ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى؛ ليكون له في المسألتين روايتان؛ لأنّا إذا لم نجعل مذهبه في المنصوص عليه مذهبًا في المسكوت عنه، فالطريق الأولى: أن لا نجعله مذهبًا له فيما نُصّ على خلافه. ولأنه إنما يضاف إلى الإنسان مذهب في المسألة، بنصه، أو دلالة تجري مجرى نصه، ولم يوجد أحدهما. وإن وجد منه نوع دلالة على الأخرى، لكن قد نص فيها على خلاف تلك الدلالة، فالدلالة2 الضعيفة لا تقاوم النص الصريح.

_ 1 في الأصل "فيما" والمثبت من ط الدكتور عبد العزيز السعيد. 2 في الأصل "والدلالة" والمثبت من ط الدكتور السعيد.

فإن نص في مسألة واحدة على حكمين مختلفين، ولم يعلم تقدم أحدهما: اجتهدنا في أشبههما بأصوله، وأقواهما في الدلالة فجعلناها له مذهبًا، وكنا شاكِّين في الأخرى. وإن علمنا الآخرة: فهي المذهب؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين قولين مختلفين- على ما بينا1- فيكون نصه الأخير رجوعًا عن رأيه الأول، فلا يبقى مذهبًا له، كما لو صرح بالرجوع. وقال بعض أصحابنا: يكون الأول مذهبًا له؛ لأنه لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد. ولا يصح2. فإنهم إن أرادوا أن لا يترك ما أداه إليه اجتهاده الأول باجتهاده الثاني، فهو باطل يقينًا؛ فإنّا نعلم أن المجتهد في القبلة إذا تغير اجتهاده: ترك الجهة التي كان مستقبلًا لها، وتوجه على غيرها، والمفتي إذا أفتى في مسألة بحكم، ثم تغير اجتهاده: لم يجزْ أن يفتي فيها بذلك الحكم3، وكذلك الحاكم. وإن أرادوا: أن الحكم الذي حكم به على شخص لا ينقضه، أو ما أداه من الصلوات لا يعيده: فليس هذا نظيرًا لمسألتنا. إنما الخلاف فيما إذا تغير اجتهاده، هل يبقى الأول مذهبًا له أم لا، وقد بينا أنه لا يبقى4.

_ 1 أي: في فصل: ليس للمجتهد أن يقول في المسألة قولين. 2 أي: لا يصح هذا القول: وبذلك يكون المصنف قد رجح المذهب الأول، وسوف يدلل على ذلك فيما يأتي. 3 أي: الأول. 4 في فصل: ليس للمجتهد أن يقول في المسألة قولين.

ثم يبطل ما ذكروه بما [لو] صرح بالرجوع عن القول الأول، فكيف يجعل مذهبًا له مع قوله: "رجعت عنه، واعتقدت بطلانه"؟! فلا بد من نقض الاجتهاد بالاجتهاد. وعند ذلك ينبه على أن المجتهد لو تزوج امرأة خالعها ثلاثًا1 وهو يرى أن الخلع فسخ، ثم تغير اجتهاده، واعتقد أن الخلع طلاق، لزمه تسريحها، ولم يجزْ له إمساكها على خلاف اعتقاده. فإن حكم بصحة ذلك النكاح حاكم، ثم تغير اجتهاده، لم يفرق بين الزوجين، لمصلحة الحكم، فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد. لنقض النقض، وتسلسل، واضطربت الأحكام، ولم يوثق بها. أما إذا نكح المقلد بفتوى مجتهد، ثم تغير اجتهاد المجتهد: فهل يجب على المقلد تسريح زوجته؟ الظاهر: أنه لا يجب؛ لأن عمله بفتياه جري مجرى حكم الحاكم، فلا ينقض ذلك، كما لا ينقض ما حكم به الحاكم2.

_ 1 لفظ "ثلاث" ليس في أصلنا. وأثبتناه من ط الدكتور النملة. 2 قال الطوفي- ملخصا ذلك: "وحاصل ما ذكر: أن اجتهاد المجتهد إما أن يتجرد عن الحكم والفتوى، أو لا يتجرد. فإن تجرد عنهما: وجب نقضه بالاجتهاد المخالف له بعده. وإن اقترن به حكم: لم ينقض، واستؤنف العمل بالاجتهاد الثاني. وإن اقترن به الفتيا، والعمل بها: احتمل أن لا ينقض ما عمل بها مطلقًا في النكاح، وغيره تنزيلًا للعمل بها منزلة حكم الحاكم، واحتمل أن ينقض ما سوى النكاح، كما فرض في المختصر، فرقًا بينه وبين غيره بما عرف من خواصّه، وتشوق الشرع إلى تكثيره". شرح المختصر "3/ 649".

فصل في التقليد

فصل: في التقليد التقليد في اللغة: وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به. ويسمى ذلك قلادة، والجمع قلائد1. قال الله تعالى: { ... وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} 2. ومنه قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الخيل: "لا تقلِّدوها الأوتار"3. قال الشاعر4: قلدوها تمائمًا ... خوف واش وحاسد

_ 1 انظر: معجم مقاييس اللغة "5/ 19"، القاموس المحيط "1/ 329". 2 سورة المائدة، من الآية: "2". 3 هذا الحديث روي بطرق مختلفة، منها: ما رواه الإمام أحمد في المسند "3/ 352" عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، وامسحوا نواصيها، وادعوا لها بالبركة، وقلِّدوها، ولا تقلِّدوها الأوتار". وأخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في مشكل الآثار حديث رقم "323" والطبراني في الأوسط، وأبو داود حديث "2553"، والنسائي "6/ 218" كما أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود بروايات أخرى. انظر: مجمع الزوائد للهيثمي "5/ 259"، شرح السنة للبغوي حديث رقم "2639". والأوتار: جمع وتر، وهو القوس. وقد اختلف العلماء في المراد من الحديث: فقيل: إنهم كانوا يقلدون الخيل والإبل أوتار القسي حتى لا تصاب بالعين، فأمروا بقطعها للإعلام بأنها لا ترد من قدر الله شيئًا. وقيل: إنما نهوا عن ذلك لئلا تختنق الدابة عند شدة الركض. انظر: شرح السنة "5/ 529". 4 لم أقفْ على القائل.

ثم يستعمل في تفويض الأمر إلى الشخص استعارة، كأنه ربط الأمر بعنقه. كما قال لقيط الإيادي1: وقلِّدا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعًا. وهو في عرف الفقهاء. قبول قول الغير من غير حجة، أخذًا من هذا المعنى2، فلا يسمى الأخذ بقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- والإجماع تقليدًا؛ لأن ذلك هو الحجة في نفسه. قال أبو الخطاب: العلوم على ضربين: منها ما لا يسوغ التقليد فيه وهو: معرفة الله ووحدانيته، وصحة

_ 1 هو: لقيط بن يعمر بن خارجة الإيادي، شاعر جاهلي من أهل الحيرة، كان يحسن الفارسية، اتصل بكسرى فكان من كتابه والمطلعين على أسرار دولته. توفي نحو 250 قبل الهجرة. انظر: الأغاني "2/ 23"، الأعلام "6/ 109". والبيت من قصيدة له مطلعها: سلام في الصحيفة من لقيط إلى من بالجزيرة من إياد ومعنى "رحب الذراع" كناية عن القوى المقتدر على الأمور. ومعنى "مضطلعًا" الاضطلاع من الضلاعة، وهي: قوة احتمال الأثقال من الاضطلاع. انظر: ديوان لقيط الإيادي ص47 تحقيق الدكتور عبد المعين خان ط مؤسسة الرسالة. 2 أي: المعنى اللغوي، فكأن المقلد يطوّق المجتهد، ويجعل ما يأخذه عن طوقًا في عنقه، أخذًا من قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه ِ....} [الإسراء: من الآية: 13] . ويشير إلى ذلك- أيضًا – ما أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-قال: "من أفتى بفتيا غير ثبت" أي غير صواب" فإنما إثمه على من أفتاه" انظر: شرح الطوفي "3/ 652"، نزهة الخاطر العاطر "2/ 450".

الرسالة1. ونحو ذلك؛ لأن المقلد في ذلك إما أن يجوز الخطأ على من يقلده، أو يحيله. فإن أجازه فهو شاكٌّ في صحة مذهبه. وإن أحاله: فبِمَ عرف استحالته، ولا دليل عليها؟ وإن قلده في أن أقواله حق، فبِمَ عرف صدقه؟ وإن قلد2 غيره في تصديقه، فبِمَ عرف صدق الآخر؟ وإن عوّل على سكون النفس في صدقه، فما الفرق بينه وبين سكون أنفس النصارى واليهود المقلدين؟ وما الفرق بين قول مقلده أنه صادق، وبين قول مخالفه؟ وأما التقليد في الفروع: فهو جائز إجماعًا3. فكانت الحجة فيه: الإجماع. ولأن المجتهد في الفروع إما مصيب، وإما مخطئ مثاب غير مأثوم، بخلاف ما ذكرناه.

_ 1 إلى هنا انتهى كلام أبي الخطاب في التمهيد "4/ 396" وجاء بعدها: "وبه قال عامّة العلماء. وقال بعض الشافعية: يجوز للعامّي التقليد في ذلك". 2 في الأصل "قلده" والمثبت من ط الدكتور النملة. 3 كيف يدّعي الإجماع والقضية خلافية، وقد نقل المصنف نفسه بعد ذلك خلاف القدرية في المسألة؟!. قال القرافي: "مذهب مالك وجمهور العلماء: وجوب الاجتهاد، وإبطال التقليد، وادّعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد". انظر: شرح تنقيح الفصول ص442، 443، وهو الذي رجحه الشوكاني في كتابيه: "إرشاد الفحول". و"القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد".

فلهذا جاز التقليد فيها، بل وجب على العامّي ذلك. وذهب بعض القدرية إلى أن العامّة يلزمهم النظر في الدليل في الفروع أيضًا. وهو باطل بإجماع الصحابة؛ فإنهم كانوا يفتون العامّة، ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد، وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامّهم. ولأن الإجماع منعقد على تكليف العامّي الأحكام، وتكليفه رتبة الاجتهاد يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل، وتعطيل الحرف والصنائع، فيؤدي إلى خراب الدنيا. ثم ماذا يصنع العامّي إذا نزلت به حادثة إن لم يثبت لها حكم إلى أن يبلغ رتبة الاجتهاد، فإلى متى يصير مجتهدًا؟ ولعله لا يبلغ ذلك أبدًا، فتضيع الأحكام. فلم يبقَ إلا سؤال العلماء، وقد أمر الله – تعالى – بسؤال العلماء في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1.

_ 1 سورة النحل، من الآية: "43" والأنبياء، من الآية: "7" قال الشوكاني- ردًّا على الاستدلال بهذه الآية: ".... وليس بالمراد بما احتج به الموجبون للتقليد، والمجوزون له من قوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} إلا السؤال عن حكم الله في المسألة، لا عن آراء الرجال، هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال-كما زعموا- وليس الأمر كذلك، بل هي واردة في أمر خاصٍّ، وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالًا، كما يفيده أول الآية وآخرها، حيث قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ... } . راجع: إرشاد الفحول جـ2 ص353 ومناقشتنا لما قاله الشوكاني في ذلك.

قال أبو الخطاب: "ولا يجوز التقليد في أركان الإسلام الخمس ونحوها، مما اشتهر، ونقل نقلًا متواترًا؛ لأن العامة شاركوا العلماء في ذلك، فلا وجه للتقليد"1.

_ 1 انظر: التمهيد "4/ 398".

فصل: فيمن يستفتيه العامي

فصل: [فيمن يستفتيه العامّي] ولا يستفتي العامّي إلا من غلب على ظنه أنه من أهل الاجتهاد، بما يراه من انتصابه للفتيا بمشهد من أعيان العلماء، وأخذ الناس عنه، وما يتلمحه من سمات الدين والستر، أو يخبره عدل عنه. فأما من عرفه بالجهل: فلا يجوز أن ينقله اتفاقًا. ومن جهل حاله. فقد قيل: يجوز تقليده؛ لأن العادة أن من دخل بلدة يسأل عن مسألة لا يبحث عن عدالة من يستفتيه، ولا1 عن علمه2. وإن منعتم السؤال عن علمه، فلا يمكن منع السؤال عن عدالته، وهو حجة لنا في الصورة الممنوعة3.

_ 1 في الأصل "إلا" والمثبت من ط الدكتور النملة. 3 هذا هو المذهب الأول، والمذهب الثاني: أنه لا يجوز تقليد مجهول الحال، وهو الذي رجحه المصنف، واستدلّ له بقوله: "قلنا ... ". 4 العبارة غير واضحة، ونصّ عبارة الغزالي في المستصفى "4/ 151": "فإن قيل: إذا لم يعرف عدالة المفتي، هل يلزمه البحث؟ إن قلتم: يلزمه البحث، فقد خالفتم العادة؛ لأن كل من دخل بلدة فيسأل عالم البلد، ولا يطلب حجة على عدالته، وإن جوزتم مع الجهل، فكذلك في العلم".

قلنا: كل من وجب عليه قبول قول غيره، وجب معرفة حاله، فيجب على الأمة معرفة حال الرسول، بالنظر في معجزاته، ولا يصدّق كل مجهول يدّعي أنه رسول الله، ويجب على الحاكم معرفة الشاهد، وعلى العالم بالخبر معرفة حال رواته. وفي الجملة: كيف يقلد من يجوز أن يكون أجهل من السائل؟ أما العادة من العامة: فليست دليلًا. وإن سلمنا ذلك مع الجهل بعدالته: فلأن الظاهر من حال العالم العدالة، لا سيما إذا اشتهر بالفتيا. ولا يمكن أن يقال: ظاهر الخلق نيل درجة الاجتهاد، لغلبة الجهل، وكون الناس عوامًّا، إلا الأفراد. ولا يمكن أن يقال: العلماء فسقة إلا الآحاد، فافترقا1.

_ 1 عبارة الغزالي: ولا يمكن أن يقال: ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة التقوى، والجهل أغلب على الخلق؛ فالناس كلهم عوامّ إلا الأفراد في البلاد، ولا يمكن أن يقال: المجتهدون والعلماء كلهم فسقة إلا الأفراد، بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد" المستصفى "4/ 151".

فصل: إذا تعدد المجتهدون فللمقلد سؤال من شاء

فصل: [إذا تعدد المجتهدون فللمقلد سؤال من شاء] وإذا كان في البلد مجتهدون فللمقلد مساءلة من شاء منهم. ولا يلزمه مراجعة الأعلم، كما نقل في زمن الصحابة؛ إذ سأل العامّة الفاضل والمفضول في أحوال العلماء.

وقيل: بل يلزمه سؤال الأفضل1. وقد أومأ إليه الخرقي فقال: "إذا اختلف اجتهاد رجلين اتبع الأعمى أوثقهما في نفسه"2. والأولى أولى؛ لما ذكرنا من الإجماع. وقول الخرقي يحمل على ما إذا سألهما فاختلفا، وأفتاه كل واحد بخلاف قول صاحبه، فحينئذ يلزمه الأخذ بقول الأفضل في علمه ودينه. وفيه وجه آخر: أنه يتخير، لما ذكرناه من الإجماع3. ولأن العامّي لا يعلم الأفضل حقيقة، بل يغتر بالظواهر، وربما يقدم المفضول؛ فإن لمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها شأن العوامّ.

_ 1 وضحه الطوفي فقال: "يكفي المقلد سؤال بعض مجتهدي البلد، يعني: سؤال من شاء منهم، ولا يلزمه سؤال جميعهم، وفي وجوب تخير الأفضل، أي: هل يجب عليه أن يتخير أفضل المجتهدين فيستفتيه؟ فيه قولان: ثم ساق أدلة القائلين بعدم وجوب تخير الأفضل فقال: أحدهما: أن الصحابة أجمعوا على تسويغ سؤال مقلديهم الفاضل والمفضول، أي: أجمعوا على أن للمستفتي أن يقلد فاضلهم ومفضولهم، وذلك ينفي وجوب تخير الأفضل، وإلا كان إجماع الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- خطأ، وهو باطل. الوجه الثاني: أن الفضل قدر مشترك بين الفاضل والأفضل، فليكف في جواز التقليد، ولا عبرة بخاصية الأفضلية. قلت: ولأن الناس متفاوتون في رتبة الفضائل فما من فاضل إلا وثَمَّ من هو أفضل منه بدليل قوله – عَزَّ وَجَلََََّّّّ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية: 76] ، فلو اعتبر الأفضل لانسد باب الاجتهاد". انظر: شرح المختصر "3/ 666-367". 2 انظر: المختصر مع المغني "2/ 109" 3 هذا تكرار لما تقدم.

ولو جاز ذلك: جاز له النظر في المسألة ابتداءً. ووجه القول الأول1: أن أحد القولين خطأ، وقد تعارض عنده دليلان، فيلزمه الأخذ بأرجحهما، كالمجتهد يلزمه الأخذ بأرجح الدليلين المتعارضين2. ولأن من اعتقد أن الصواب في أحد القولين لا ينبغي له أن يأخذ بالتشهي، وينتقي 3 من المذاهب أطيبها، ويتوسع، ويعرف الأفضل بالأخبار، وبإذعان المفضول له، وتقديمه له، وبأمارات تفيد غلبة الظن دون البحث عن نفس علمه، والعامّي أهل لذلك. والإجماع محمول على ما إذا لم يسألهما؛ إذ لم ينقل إلا ذلك. فأما إن استوى عنده المفتيان: جاز له الأخذ بقول من شاء منهما؛ لأنه ليس قول بعضهم أولى من البعض. وقد رجح قوم القول الأشد؛ لأن الحق ثقيل. ورجح الآخرون الأخف؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-بعث بالحنيفية السمحة4.

_ 1 أي: لزوم البحث عن الأفضل وسؤاله. 2 وضحه الشيخ الطوفي فقال: "احتج المثبت لوجوب تخير الأفضل بأن الظن الحاصل من قول الأفضل أغلب، فيكون واجبًا، أما الأولى فظاهرة، وأما الثانية: فبناء على أن الأصل اعتبار العلم، وإنما سقط في الشرعيات لتعذره، فوجب الظن الأقرب إلى العلم"، شرح مختصر الروضة "3/ 667". 3 في الأصل "ينتقد" والمثبت في المستصفى "4/ 154". 4 روى البخاري وأحمد وغيرهما أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-قال: "بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ... " انظر: صحيح البخاري مع الفتح "1/ 86، 87" مسند الإمام أحمد "1/ 236، 5/ 226، 6/ 116، 233" فيض القدير "3/ 203".

وهما قولان متعارضنا فيسقطان1. وقد روي عن أحمد- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ما يدل على جواز تقليد المفضول؛ فإن الحسين بن بشار2 سأله عن مسألة في الطلاق فقال: "إن فعل حنث" فقال له: يا أبا عبد الله، إن أفتاني إنسان -يعني: لا يحنث- فقال: تعرف حلقة المدنيين؟ -حلقة بالرصافة– فقال: إن أفتوني به حل؟ قال نعم3. وهذا يدل على التخيير بعد الفتيا. والله أعلم.

_ 1 أي: أن كلًّا من الأخذ بالأشد، والأخذ بالأخف متعارض مع الآخر فيتساقطان، ويرجع العامّي إلى الأخذ بقول من شاء. 2 هو: الحسين بن بشار المخرمي، من أصحاب الإمام أحمد -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل. انظر: طبقات الحنابلة "1/ 142". 3 انظر: التمهيد لأبي الخطاب "4/ 403، 404".

باب: في ترتيب الأدلة ومعرفة الترجيح

باب: في ترتيب الأدلة ومعرفة الترجيح مدخل ... باب: في ترتيب الأدلة ومعرفة الترجيح 2 يجب على المجتهد في كل مسألة أن ينظر أول شيء إلى الإجماع: فإن وجده لم يحتجْ إلى النظر في سواه. ولو خالفه كتاب أو سنة علم أن ذلك منسوخ، أو متأول؛ لكون الإجماع دليلًا قاطعًا، لا يقبل نسخًا ولا تأويلًا2. ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة، وهما على رتبة واحدة؛ لأن كل واحد منهما دليل قاطع.

_ 1 قال الطوفي: "اعلم أن هذا من موضوع نظر المجتهد وضروراته؛ لأن الأدلة الشرعية متفاوتة في مراتب القوة، فيحتاج المجتهد إلى معرفة ما يقدم منها وما يؤخر، لئلا يأخذ بالأضعف منها مع وجود الأقوى، فيكون كالمتيمم مع وجود الماء. وقد يعرض للأدلة التعارض والتكافؤ، فتصير بذلك كالمعدومة، فيحتاج إلى إظهار بعضها بالترجيح ليعمل بها، وإلا تعطلت الأدلة والأحكام. فهذا الباب مما يتوقف عليه الاجتهاد توقف الشيء على جزئه أو شرطه". شرح مختصر الروضة "3/ 673". 2 فالإجماع مقدم على سائر الأدلة لوجهين: أحدهما: كونه قاطعًا معصومًا من الخطأ بشهادة المعصوم بذلك وهو الرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-كما تقدم في باب الإجماع.

ولا يتصور التعارض في القواطع، إلا أن يكون أحدهما منسوخًا. ولا يتصور أن يتعارض علم وظن؛ لأن ما علم كيف يظن خلافه؟! وظن خلافه شك، فكيف يشك فيما يعلم؟! ثم ينظر في أخبار الآحاد: فإن عارض خبر خاصٌّ عمومَ كتاب أو سنة متواترة: فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها1. ثم ينظر -بعد ذلك- في قياس النصوص: فإن تعارض قياسان أو خبران، أو عمومان: طلب الترجيح.

_ = ثانيهما: أنه لا يقبل النسخ والتأويل، بخلاف باقي الأدلة، وقد سبق الكلام في أن الإجماع لا يقبل النسخ في بابه. وأما كونه لا يقبل التأويل: فإن التأويل لا يلحق إلا ما كانت دلالته ظاهرة، والإجماع قاطع، فصار كالنصوص في مدلولها لا تقبل التأويل. انظر: شرح الطوفي "3/ 675". 1 في مسألة تعارض الخاص مع العام.

فصل: تعريف التعارض

فصل: [تعريف التعارض] واعلم أن التعارض: هو التناقض1. ولا يجوز ذلك في خبرين؛ لأن خبر الله –تعالى– ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-لا يكون كذبًا.

_ 1 في الأصل: "الناقض" وهو خطأ مطبعي، والتعارض في اللغة التمانع، ومنه: تعارض البينات؛ لأن كل واحدة تعترض الأخرى وتمنع نفوذها. انظر: تاج العروس "8/ 73" المفردات للراغب الأصفهاني "1/ 391". وأما التعارض في الاصطلاح: فله تعريفات كثيرة، من أوضحها: تعريف الزركشي بأنه: "تقابل الدليلين على سبيل الممانعة". البحر المحيط "6/ 109". وانظر في تعريفه: حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع "2/ 359"، نهاية السول "4/ 433"، شرح الكوكب المنير "4/ 605".

فإن وجد ذلك في حكمين: فإما أن يكون أحدهما كذبًا من الراوي. أو يمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالين، أو في زمانين. أو يكون أحدهما منسوخًا. فإن لم يمكن الجمع، ولا معرفة النسخ: رجحنا1، فأخذنا الأقوى في أنفسنا. [وجوه الترجيح في الأخبار] ويحصل الترجيح في الأخبار من ثلاثة أوجه: الأول: يتعلق بالسند: وذلك أمور خمسة: أحدها: كثرة الرواة، فإن ما كان رواته أكثر كان أقوى في النفس، وأبعد من الغلط أو السهو؛ فإن خبر كل واحد يفيد ظنًّا على انفراده، فإن انضم أحدهما إلى الآخر كان أقوى وآكد منه لو كان منفردًا، ولهذا ينتهي إلى التواتر بحيث يصير ضروريًّا قاطعًا لا يشك فيه. وبهذا قال الشافعي2. وقال بعض الحنفية: لا يرجح به 3؛ لأنه خبر يتعلق به الحكم، فلم يترجح بالكثرة، كالشهادة والفتوى.

_ 1 الترجيح في اللغة: مأخوذ من رجح بمعنى: زاد، يقال: رجح الشيء يرجح رجوحًا إذا مال وثقلت كفته. وأما في الاصطلاح: فله تعريفات كثيرة منها: تعريف الزركشي أنه: "بيان اختصاص الدليل بمزيد قوة عن مقابله ليعمل به"، البحر الحيط "6/ 130". 2 انظر: البرهان "2/ 1143، 1162"، الإحكام للآمدي "4/ 241". 3 يراجع: كشف الأسرار "4/ 78"، التوضيح على التنقيح "3/ 59".

قلنا: الأصل ما ذكرناه1 بدليل أمور ثلاثة: أحدها: ما ذكرناه من غلبة الظن، وتقديم الراجح متعين، لأنه أقرب إلى الصحة. ولذلك إذا غلب على الظن كون الفرع أشبه بأحد الأصلين وجب اتباعه. الثاني: أن الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- كانوا يرجحون بكثرة العدد. ولذلك قوّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-خبر ذي اليدين بموافقة أبي بكر وعمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-2. وأبو بكر قوّى خبر المغيرة في ميراث الجدة بموافقة محمد بن مسلمة3. وقوّى عمر خبر المغيرة -أيضًا- في دية الجنين بموافقة محمد بن مسلمة4. وقوّى خبر أبي موسى في الاستئذان بموافقة أبي سعيد5. وقوّى ابن عمر خبر أبي هريرة في: "من شَهِد جنازة" بموافقة عائشة6. إلى غير ذلك مما يكثر، فيكون إجماعًا منهم. الثالث أن هذا عادة الناس في حراثتهم وتجاراتهم، وسلوك

_ 1 وهو أنه يرجح بكثرة الرواة. 2 تقدم تخريجه. 3 تقدم تخريجه. 4 سبق للمصنف أن نقل هذا الخبر في خبر الواحد أن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "أذكِّرُ الله امرءًا سمع من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الجنين؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة. وقال: كنت بين جاريتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الجنين بغرة. فقال عمر: لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره". وسبق تخريجه في محله. أما هذه الرواية فلم أطلع عليها. 5 سبق تخريجه. 6 عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- "من شَهِد الجنازة =

الطريق؛ فإنهم عند تعارض الأسباب المخوفة يميلون إلى الأقوى. فأما الشهادة1: فلم يرجحوا فيها، وسببها: أن باب الشهادة مبنٌّي على التعبد. ولهذا لو شهد بلفظ الإخبار دون الشهادة لم يقبل، ولا تقبل شهادة مائة امرأة على باقة بقل. الثاني2: أن يكون أحد الراويين معروفًا بزيادة التيقظ وقلة الغلط، فالثقة بروايته أكثر. الثالث: أن يكون أورع وأتقى، فيكون أشد تحرزًا من الكذب، وأبعد من رواية ما يشك فيه. الرابع: أن يكون راوي أحدهما صاحب الواقعة، فقول "ميمونة"3: "تزوجني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ونحن حلالان"4

_ = حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان: قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين" متفق عليه. زاد مسلم: "حتى يوضع في اللحد". وللبخاري -من حديث أبي هريرة -أيضًا- "من تبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين كل قيراط مثل جبل أحد". انظر: صحيح البخاري: كتاب الجنائز: باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. 1 بدأ المصنف يناقش أدلة بعض الحنفية المتقدمة. 2 من الأمور التي يرجح بها عن طريق السند. 3 هي: ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية، كانت تسمى "برة" فسماها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- "ميمونة" وهي آخر امرأة تزوجها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. توفيت -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا- سنة 61هـ. انظر: الإصابة "8/ 126". 4 أخرجه مسلم: كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، وأبو داود: كتاب =

يُقَدَّم على رواية "ابن عباس": "نكحها وهو محرم"1. الخامس: أن يكون أحدهما باشر القصة، كرواية أبي رافع 2: "تزوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ميمونة وهو حلال، وكنت السفير بينهما"3، مع رواية "ابن عباس" التي ذكرناها، فإن المباشر أحق بالمعرفة من الأجنبي. ولذلك قدم الصحابة أخبار أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في صحة صوم من أصبح جنبًا، وفي وجوب الغسل من التقاء الختانين بدون الإنزال على خبر من روى خلاف ذلك. الوجه الثاني4: الترجيح لأمر يعود إلى المتن بأمور: منها: أن يشهد القرآن والسنة أو الإجماع بوجوب العمل على وفق

_ = المناسك، باب المحرم يتزوج، والترمذي: أبواب الحج، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، وابن ماجة: كتاب النكاح، باب: المحرم يتزوج. 1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب المحصر وجزاء الصيد، باب تزويج المحرم، وباب عمرة القضاء من كتاب المغازي، ومسلم: كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، قال المصنف في كتابه: "المغني" جـ5 ص163، 164: "وميمونة أعلم بنفسها، وأبو رافع صاحب القصة، وهو السفير فيها، فهما أعلم بذلك من ابن عباس وأولى بالتقديم لو كان ابن عباس كبيرًا، فكيف وقد كان صغيرًا لا يعرف حقائق الأمور، ولا يقف عليها، وقد أنكر عليه هذا القول؟! ". 2 اسمه أسلم أو إبراهيم، كان مولًى للعباس بن عبد المطلب، فوهبه للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -فأعتقه -عليه الصلاة والسلام- حينما بشره بإسلام العباس، وأسلم أبو رافع قبل بدر ولم يشهدها، ثم شهد ما بعدها من المشاهد، زوجة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- مولاته سلمى. توفى في آخر خلافة عثمان، "الإصابة 7/ 65". 3 أخرجه الترمذي في أبواب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم، والدارمي: كتاب المناسك، باب في تزويج المحرم، والبيهقي: كتاب الحج، باب: المحرم لا ينكح ولا ينكح، والإمام أحمد في المسند "6/ 392، 393". 4 من الوجوه الثلاثة في ترجيح الأخبار.

الخبر، أو يعضده قياس، أو يعمل به الخلفاء، أو يوافقه قول صحابي كموافقة خبر التغليس1 قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} . الثاني: أن يختلف في وقت أحد الخبرين على الراوي، والآخر يتفق على رفعه. الثالث: أن يكون راوي أحدهما قد نقل عنه خلافه، فتتعارض روايتاه، ويبقى الآخر سليمًا عن التعارض، فيكون أولى. الرابع: أن يكون أحدهما مرسلًا والآخر متصلًا، فالمتصل أولى؛

_ 1 الغلس -بفتحتين- ظلام آخر الليل، وغلّس في الصلاة: صلاها بغلس، والمصنف يريد أن يقول: رجح العلماء الخبر الوارد بالتغليس في صلاة الفجر على الخبر الوارد بالإسفار وهو: الإضاءة، لأن خبر التغليس يوافقه قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم ْ ... } [آل عمران، من الآية: 133] أما خبر التغليس: فهو ما روته عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا- قالت: "كان نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الناس". وفي رواية: "كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يصلي الصبح، فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس" أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب كم تصلي المرأة في الثياب، وفي كتاب المواقيت، باب وقت الفجر، وباب انتظار الناس قيام الإمام العالم، وباب سرعة انصراف الناس من الصبح وقلة مقامهم في المسجد كما أخرجه مسلم: كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالصبح. وأما خبر الإسفار: فهو ما رواه رافع بن خديج قال: "سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقول: "أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر" أخرجه الترمذي: في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب في وقت الصبح والنسائي: باب الإسفار من كتاب المواقيت والإمام أحمد في المسند "3/ 465، 4/ 140، 142، 143".

لأنه متفق على صحته، وذلك مختلف فيه. وأما الترجيح لأمر من خارج1: فكترجيح أحد الخبرين بكونه ناقلًا عن حكم الأصل، مثل الموجب للعبادة أولى من النافي لها؛ لأن النافي جاء على مقتضى العقل، والآخر متأخر عنه، فكان كالناسخ له. وكذلك رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي؛ لأن المثبت معه زيادة علم خفيت على صاحبه2. قال القاضي: وإذا تعارض الحاظر والمبيح: قدم الحاظر؛ لأنه الأحوط. وقيل: لا يرجح بذلك3. ولا يرجح المسقط للحد على الموجب له، ولا الموجب للحرية على المقتضي للرق؛ لأن ذلك لا يوجب تفاوتًا في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الإيجاب والإسقاط.

_ 1 وهو الوجه الثالث من وجوه الترجيح بين الأخبار. 2 قال الطوفي: "إن نفي النافي إن استند إلى عدم العلم، كقوله: لم أعلم أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلّى بالبيت، ولم أعلم أن فلانًا قتل فلانًا، لم يلتفت إليه، وكان إثبات المثبت للصلاة، وقتل فلان مقدمًا لما سبق، وإن استند نفي النافي إلى علم بالعدم كقول الراوي: أعلم أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يصلِّ بالبيت؛ لأني كنت معه فيه، ولم يغب عن نظري طرفة عين فيه، ولم أره صلّى فيه، أو قال: أخبرني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنه لم يصلِّ فيه، أو قال: أعلم أن فلانًا لم يقتل زيدًا؛ لأني رأيت زيدًا حيًّا بعد موت فلان، أو بعد الزمن الذي أخبر الجارح أنه قتله فيه. فهذا يقبل؛ لاستناده إلى مَدْرك علمي، ويستوي هو وإثبات المثبت، فيتعارضان، ويطلب المرجح من خارج". شرح المختصر "3/ 701". 3 أي: أنهما يتساويان، فيحتاج إلى مرجح خارجي.

وأما الترجيح بأمر خارج: فبأمور: منها: أن يشهد القرآن أو السنة أو الإجماع بوجوب العمل على وفق الخبر، أو يعضده قياس، أو يعمل به الخلفاء، أو يوافقه قول صحابي، كموافقة خبر التغليس قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} . الثاني: أن يختلف في وقف أحد الخبرين على الراوي، والآخر متفق على رفعه. الثالث: أن يكون راوي أحدهما قد نُقل عنه خلافه، فتتعارض روايتاه، ويبقى الآخر سليمًا عن التعارض، فيكون أولى. الرابع: أن يكون أحدهما مرسلًا والآخر متصلًا، فالمتصل أولى؛ لأنه متفق عليه، وذلك مختلف فيه1.

_ 1 هذه الأمور الأربعة تقدمت بعينها في الترجيح لأمر يعود إلى المتن، فلعلها مكررة من النساخ.

فصل: في ترجيح المعاني

فصل: في ترجيح المعاني قال أصحابنا: ترجح العلة بما يرج به الخبر1: من موافقتنا لدليل آخر من كتاب أو سنة، أو قول صحابي، أو خبر مرسل، أو بكون إحداهما ناقلة عن الأصل، كما قلنا في الخبر. فأما إن كانت إحداهما حاظرة والأخرى مبيحة، أو كانت إحداهما مسقطة للحد، أو موجبة للعتق، ففي الترجيح بذلك اختلاف2: فرجح به قوم، احتياطًا للحظر ونفي الحد.

_ 1 يريد: أن ما تقدم من وجه ترجيح الأخبار يجري مثله في ترجيح العلة. 2 وذلك أن العلل مستفادة من النصوص، فتتبعها في الخلاف.

ولأن الخطأ في نفي هذه الأحكام أسهل من الخطأ في إثباتها. ومنع آخرون الترجيح بذلك، من حيث إنهما حكمان شرعيان فيستويان1. ولأن سائر العلل لا ترجح بأحكامها، فكذا هاهنا. ورجح قوم العلة بخفة حكمها؛ لأن الشريعة خفيفة. وآخرون بالعكس؛ لأن الحق ثقيل. وهي ترجيحات ضعيفة. فإن كانت إحدى العلتين حكمًا، والأخرى وصفًا حسيًّا، ككونه قوتًا أو مسكرًا2. فاختار القاضي ترجيح الحسية3. ومال أبو الخطاب إلى ترجيح الحكمية4؛ لأن الحسية كانت موجودة قبل الحكم، فلا يلازمها حكمها، والحكم أشد مطابقة للحكم. ورجح القاضي: بأن الحسية كالعلة العقلية، والعقلية قطعية، فهي أولى مما يوجب الظن5. ولأنها لا تفتقر إلى غيرها في الثبوت. وقيل: هذا كله ترجيح ضعيف.

_ 1 سبق للمصنف توضيح ذلك. 2 كونه "قوتًا" مثال للعلة الحسية، وكونه "مسكرًا" مثال للعلة الحكمية. 3 انظر: العدة "5/ 1531". 4 انظر: التمهيد "4/ 230". 5 هذا الدليل لمذهب القاضي أبي يعلى المتقدم؛ لأن حكاية مذهبه تقدمت قبل ذلك.

وذكر أبو الخطاب ترجيح العلة إذا كانت أقل أوصافًا، لمشابهتها العلة العقلية. ولأنها أجرى على الأصول1. وترجيحها بكثرة فروعها وعمومها2. ثم اختار3 التسوية، وأن هذين لا يرجح بهما؛ لأن العلتين سواء في إفادتهما حكمهما، وسلامتهما من الفساد. ومتى صحت لم يلتفت إلى كثرة فروعها، ولا كثرة أوصافها. ورجح العلة المنتزعة من الأصول على ما انتزع من أصل واحد؛ لأن الأصول شواهد للصحة، وما كثرت شواهده كان أقوى في إثارة غلبة الظن. ورجح العلة المطردة المنعكسة على ما لا ينعكس؛ لأن الطرد والعكس دليل على الصحة ابتداء، لما فيه من غلبة الظن، فلا أقل من أن يصلح للترجيح. ورجح العلة المتعدية على القاصرة، لكثرة فائدتها. ومنع ذلك قوم؛ لأن الفروع لا تبني على قوة في ذات العلة، بل القاصرة أوفق للنص. والأول أولى، فإنها متفق عليها، وهذه مختلف فيها4.

_ 1 انظر: التمهيد "4/ 235". 2 معناه: ترجيح العلة ذات الوصف الواحد على العلة ذات الوصفين فأكثر؛ لأن ذلك الوصف الواحد أكثر فروعًا؛ لأن ثبوت الحكم بها متوقف على وصف واحد، وهذا يجعلها أكثر فروعًا مما توقف على وصفين أو أكثر. انظر شرح الطوفي: "3/ 722". 3 أي: أبو الخطاب، وكذا كل ما بعده نقله المصنف عن أبي الخطاب. 4 قال الطوفي: "اعلم أن العلة القاصرة قد سبق الخلاف فيها هل هي علة صحيحة =

ورجح ما كانت علته وصفًا على ما كانت علته اسمًا؛ لأنه متفق على الوصف، مختلف في الاسم فالمتفق عليه أقوى1. ورجح ما كانت علته إثباتًا على التعليل بالنفي، لهذا المعنى أيضًا. ورجح العلة المردودة2 إلى أصل قاسَ الشارعُ عليه، كقياس الحج على الدَّين في أنه لا يسقط بالموت، أولى من قياسهم على الصلاة، لتشبيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- له بالدين في حديث الخثعمية3.

_ = في نفسها أم لا؟ فإن قلنا: ليست صحيحة لم تعارض المتعدية، فلا ترجيح، كغير المطردة مع المطردة، وإن قلنا: هي صحيحة، فاجتمعت مع المتعدية ففيه أقوال: أحدها: أنهما سواء في الحكم لا رجحان لإحداهما على الأخرى؛ لقيام الدليل على صحتها، كما تقدم في موضعه. الثاني: أن القاصرة أرجح، فتقدم لوجهين: أحدهما: أنها مطابقة للنص في موردها -أي: لم يجاوز تأثيرها موضع النص- بخلاف المتعدية فإنها لم تطابق النص، بل زادت عليه، وما طابق النص كان أولى. الوجه الثاني: أمَْنُ صاحبها -أي المعلل بها- من الخطأ؛ لأنه لا يحتاج إلى التعليل بها في غير محل النص كالمتعدية، فربما أخطأ بالوقوع في بعض مثارات الغلط في القياس، وما أُمِنَ فيه من الخطأ أولى مما كان عرضة له. القول الثالث: أن المتعدية أرجح، فتقدم؛ لكثرة فوائدها، كالتعليل في الذهب الفضة بالوزن، فيتعدى الحكم إلى كل موزون، كالحديد والنحاس الصفر ونحوه، بخلاف التعليل بالثمنية أو النقدية، فلا تتعداهما، فكان التعليل بالوزن الذي هو وصف متعدٍّ لمحلِّ النقدين إلى غيرهما أكثر فائدة من الثمنية القاصرة عليهما لا تجاوزهما" شرح المختصر "3/ 720، 721". 1 لأن التعليل بالأوصاف متفق عليه، بخلاف التعليل بالأسماء، فإنه محل خلاف، ولأنه أكثر فائدة، كما تقدم في تقديم العلة المتعدية على العلة القاصرة. 2 في الأصل "المردودة" وهو خطأ مطبعي. 3 تقدم تخريجه.

ومتى كان أصل إحدى العلتين متفقًا عليه، والآخر مختلفًا فيه، كانت المتفق على أصلها أولى، فإن قوة الأصل تؤكد قوة العلة. وكذلك ترجح كل علة قوى أصلها، مثل: أن يكون أحدهما محتملًا للنسخ، والآخر لا يحتمل. أو يثبت أحدهما بخبر متواتر، والآخر بآحاد. أو أحدهما ثابتًا بروايات كثيرة، والآخر برواية واحدة. أو أحدهما بنص صريح، والآخر بتقدير أو إضمار. أو يكون أحدهما أصلًا بنفسه، والآخر أصلًا لآخر. أو أحدهما اتفق على تعليله، والآخر اختلف فيه. أو يكون دليل أحد الوصفين مكشوفًا1 معينًا، والآخر أجمعوا على أنه بدليل، ولم يكن معينًا. أو يكون أحدهما مغيرًا للنفي الأصلي، والآخر مبقيًا عليه، فالمغير أولى؛ لأنه حكم شرعي، والآخر نفي للحكم على الحقيقة. وترجح العلة المؤثرة على الملائمة. والملائمة على الغريب. والمناسبة على الشبهية؛ لأنه أقوى في تغليب الظن2. والله -سبحانه- أعلم.

_ 1 أي: ظاهرًا. 2 سبق أن ذكر المصنف أن من اقسام العلة: ثبوتها بالاستنباط، ومنه: إثباتها =

تم الكتاب بحمد الله ومنّه وكرمه. وصلَّى اللهُ على خير رسله: محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

_ = بالمناسبة، وأن المناسبة ثلاثة أنواع، أعلاها المؤثر، يليه الملائم، ثم الغريب، فذكر -هنا- أن العلة المؤثرة ترجح على الملائمة، والملائمة ترجح على الوصف الغريب، وأن المناسبة بأنواعها الثلاثة تقدم على الوصف الشبهي؛ لأنها أقوى في إفادة غلبة الظن. وهذا آخر ما تيسر لنا كتابته من توضيحات على هذا الكتاب، قصدنا بها مساعدة طلبة العلم على فهم الكتاب. وكان الفراغ منها في عصر يوم الجمعة 17 من المحرم 1418هـ بتوقيت أم القرى. أسال الله -تعالى- أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به كل مشتغل بالعلم إنه جواد كريم. وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم. شعبان بن محمد اسماعيل

الفهارس

الفهارس موضوعات الجزء الثاني: ... فهرس موضوعات الجزء الثاني: باب العموم. العموم من عوارض الألفاظ ويطلق علي غيرها مجازًا 5 تعريف العامّ 7 أقسام العام 8 العامّ الذي لا أعمَّ منه ومثاله 8 من العلماء من يرى أنه لا يوجد عامٌّ لا أعمَّ منه 9 أقسام الخاصّ 9 الخاصّ الذي لا أخصَّ منه 9 فصل في ألفاظ العموم. الأول: الاسم المعرّف بالألف واللام غير العهدية وهو ثلاثة أنواع 11 القسم الثاني: من ألفاظ العموم: ما أضيف إلى الأنواع الثلاثة المتقدمة 11 القسم الثالث: أدوات الشرط 12 القسم الرابع: كل وجميع 13 القسم الخامس: النكرة في سياق النفي 13 هل للعموم صيغة تخصه؟ 14 الواقفية يرون أنه لا صيغة للعموم 14 أدلتهم على ذلك 15 أدلة الجمهور على أن للعموم صيغًا تدل عليه 16 مناقشة أدلة الواقفية 24

فصل في الخلاف في عموم بعض الصيغ. من العلماء من يرى أن جميع الصيغ تفيد العموم إلا المحلى بالألف واللام 26 من العلماء من يرى أن الواحد المعرَّف بالألف واللام لا يفيد العموم 26 من العلماء من يرى أن النكرة في سياق النفي لا تفيد العموم 26 أدلة المنكرين لإفادة النكرة للعموم 26 دليل من قال: ما دخلت عليه الألف واللام لا يفيد العموم 27 دليل من قال: إن الواحد المعرّف بالألف واللام لا يفيد العموم 28 ردُّ ابن قدامة على هذه المذاهب 28 فصل: في أقل الجمع 31 مذاهب العلماء وأدلتهم في المسألة 31 فصل: في حكم العام الوارد على سبب خاص 35 جمهور العلماء على أن العبرة بعموم اللفظ 35 مخالفة بعض العلماء في المسألة ودليلهم 36 أدلة الجمهور 37 مناقشة أدلة المخالفين 39 فصل: حكاية الفعل من الصحابة تقتضي العموم 42 ذهب بعض العلماء إلى أنه لا عموم له 42 أدلة أصحاب هذا المذهب 42 أدلة الجمهور 43 فصل: الخطاب المضاف إلى الناس والمؤمنين يعمُّ العبيد 44 دخول النساء في الجمع المضاف إلى الناس 45 هل يدخل النساء في اللفظ الذي لا يتبين فيه التذكير والتأنيث؟ 45 هل يدخل النساء فيما يختص بالذكور من الأسماء؟ 45 هل يدخل النساء في الجمع مثل "المسلمين"؟ 45 فصل: العامّ بعد التخصيص حجة 48 المذهب الأول: أنه حجة وهو مذهب الجمهور 48 المذهب الثاني: أنه لا يبقى حجة والأدلة على ذلك 48

أدلة الجمهور 48 الرد على أدلة المذهب الثاني 49 فصل: العام بعد التخصيص حقيقة عند الجمهور 50 المذهب الثاني: أنه يصير مجازًا والأدلة على ذلك 51 المذهب الثالث: التفصيل بين المخصص بمنفصل والمخصص بمتصل 51 فصل فيما ينتهي إليه التخصيص. المذهب الأول: جواز التخصيص إلى أن يبقى واحد 52 المذهب الثاني: يجوز التخصيص إلى أقل الجمع 52 دليل المذهب الثاني: 53 دليل المذهب الأول: 53 فصل الخطاب العام يتناول من صدر منه عند الجمهور 54 قال قوم: لا يدخل في العام وأدلتهم على ذلك 54 بيان فساد هذا المذهب 54 مذهب أبي الخطاب أن الأمر لا يدخل في الأمر ودليله على ذلك 54 القاضي أبو يعلى يرى دخول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فيما أمر به 55 فصل: اللفظ العام يجب اعتقاد عمومه في الحال عند بعض العلماء 56 قال أبو الخطاب: لا يجب اعتقاده إلا بعد البحث عن المخصص 56 المذهب الثالث: التفصيل 57 أدلة المذهب الثاني 57 إلى متى يجب البحث عن المخصص 57 أدلة المذهب الأول 58 الرد على أدلة المذهب الثاني 58 فصل في الأدلة التي يخص بها العموم. الأدلة على جواز تخصيص العموم 60 الدليل الأول بين المخصصات: الحس 60

الدليل الثاني: العقل 61 الاعتراض على التخصيص بالعقل 61 الرد على هذا الاعتراض 61 الدليل الثالث: الإجماع 62 الدليل الرابع: النص الخاص 63 مذاهب العلماء في هذا النوع 64 المذهب الأول: أن النص الخاص يخصص العام مطلقًا 64 أدلة هذا المذهب 64 المذهب الثاني: أن المتأخر يقدم خاصًّا كان أو عامًّا إذا علم المتأخر 64 الأدلة على هذا المذهب 65 إذا جهل التاريخ تعارض العام والخاص 66 بعض الشافعية يمنعون تخصيص عموم السنة بالكتاب 66 الأدلة على هذا الرأي 67 بعض العلماء يمنعون تخصيص الكتاب بخبر الواحد 67 قال عيسى ابن أبان: يخص العام المخصوص بخبر الواحد دون غيره 67 ذهب بعض العلماء إلى التوقف في تخصيص الكتاب بخبر الواحد 67 الأدلة على تقديم الخاص على اللفظ العام مطلقًا 68 الرد على أدلة المذاهب الأخرى 71 الدليل الخامس: من أدلة تخصيص العام - المفهوم 72 الدليل السادس: فعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- 73 الدليل السابع: تقرير الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- 74 الدليل الثامن: قول الصحابي 74 الدليل التاسع: القياس 75 آراء العلماء في المسألة 75 المذهب الأول: أن القياس يخص به العموم 75 المذهب الثاني: منع تخصيص العام بالقياس 75 أدلة هذا المذهب 75 المذهب الثالث: جواز التخصيص بالقياس الجلي دون الخفي 76

دليل هذا المذهب 76 تعريف القياس الجلي والخفي 77 المذهب الرابع: جواز التخصيص بالقياس في العام المخصوص 78 دليل المذهب الأول 78 الرد على أدلة المذاهب المخالفة للمذهب الأول 78 فصل: في تعارض العمومين 80 كيفية الجمع بين العمومين المتعارضين 80 فصل في الاستثناء. صيغة الاستثناء 82 تعريفه 82 الفرق بينه وبين التخصيص 83 الفرق بينه وبين النسخ 84 فصل: في شروط الاستثناء 84 الشرط الأول: أن يتصل بالكلام 84 ما روي عن ابن عباس وعطاء والحسن من جواز التأخير 84 الشرط الثاني: أن يكون من جنس المستثنى منه 85 خلاف العلماء في هذا الشرط 86 الشرط الثالث: أن يكون المستثنى أقل من النصف 89 خلاف العلماء وأدلتهم في هذا الشرط 90 فصل في حكم الاستثناء بعد جمل متعددة. المذهب الأول: أنه يرجع إلى جميع الجمل 94 المذهب الثاني: أنه يرجع إلى أقرب المذكورين 94 أدلة المذهب الثاني 95 أدلة المذهب الأول 96 الرد على أدلة المذهب الثاني 98

فصل في الشرط. معنى الشرط 99 الفرق بينه وبين العلة 100 أقسام الشرط 100 بيان التخصيص بالشرط 100 فصل في المطلق والمقيد. تعريف المطلق وأمثلته 101 تعريف المقيد وأمثلته 102 بيان أن اللفظ قد يكون مطلقًا مقيدًا 102 فصل في حمل المطلق على المقيد. القسم الأول: أن يكونا في حكم واحد وسبب واحد 103 مذاهب العلماء في هذا القسم 103 المذهب الأول: يحمل المطلق على المقيد 103 المذهب الثاني: لا يحمل عليه 104 دليل المذهب الثاني 104 الرد على هذا الدليل 104 القسم الثاني: اتحاد الحكم واختلاف السبب 105 مذاهب العلماء في هذا القسم 105 المذهب الأول: لا يحمل المطلق على المقيد 105 المذهب الثاني: يحمل المطلق على المقيد 105 أدلة هذا المذهب 105 أدلة أصحاب المذهب الأول 107 الرد على أدلة المذهب الثاني 107

القسم الثالث: أن يختلف الحكم فيهما 108 لا يحمل المطلق على المقيد في هذا القسم 108 باب في الفحوى والإشارة فصل فيما يقتبس من الألفاظ من فحواها وإشارتها لا من صيغها. وهو خمسة أضرب 109 الضرب الأول: دلالة الاقتضاء 109 تعريفها 110 صورها وأمثلتها 110 الضرب الثاني: فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب 111 أسماء هذا الضرب 111 الضرب الثالث: التنبيه 111 تعريف التنبيه 111 أسماء التنبيه: مفهوم الموافقة وفحوى اللفظ 112 هل يسمى هذا النوع قياسًا؟ 112 مذاهب العلماء وأدلتهم في ذلك 112 الضرب الرابع: دليل الخطاب وهو مفهوم المخالفة 114 تعريفه وأمثلته 114 مذاهب العلماء في حجيته 114 المذهب الأول: أنه حجة 114 المذهب الثاني: أنه ليس حجة 115 أدلة هذا المذهب 115 الدليل الأول للمذهب الأول 118 الاعتراضات الواردة على هذا الدليل 119 الدليل الثاني: للمذهب الأول 120 الرد على الاعتراضات الواردة على الدليل الأول122 الرد على أدلة المذهب الثاني 122

فصل في درجات أدلة الخطاب. الصور التي أنكرها منكرو مفهوم المخالفة 124 الصورة الأولى: "لا عالم إلا زيد" 125 الصورة الثانية: "إنما الولاء لمن أعتق" 127 الصورة الثالثة: "الشفعة فيما لم يقسم" 129 درجات دليل الخطاب. الدرجة الأولى: مفهوم الغاية وأمثلته 130 المذهب الأول: أنه ليس حجة 130 أدلة هذا المذهب 131 أدلة الجمهور على حجيته 131 الدرجة الثانية: مفهوم الشرط وأمثلته 131 المذهب الأول: أنه ليس حجة 131 أدلة هذا المذهب 132 أدلة الجمهور على حجيته 132 الرد على أدلة المخالفين للجمهور 132 الدرجة الثالثة: اقتران الاسم العام بصفة خاصة 132 مفهوم التقسيم ومثاله 133 الدرجة الرابعة: مفهوم الصفة 134 مذاهب العلماء في حجيته 134 الدرجة الخامسة: مفهوم العدد 135 مذاهب العلماء في حجيته 136 الدرجة السادسة: مفهوم اللقب 137 مذاهب العلماء في حجيته 137 باب القياس. معنى القياس في اللغة 140 تعريف القياس في الشرع 141

فصل في العلة. معنى العلة 144 طريق الاجتهاد في إثبات العلة 145 الاول: تحقيق المناط 145 معناه ومثاله 145 الثاني: تنقيح المناط 148 معناه ومثاله 148 الثالث: تخريج المناط 150 معناه ومثاله 150 فصل في إثبات القياس على منكريه. مذاهب العلماء في التعبد بالقياس 150 المذهب الأول: جواز التعبد به عقلًا وشرعًا 150 المذهب الثاني: لا يجوز التعبد به عقلًا وشرعًا 151 المذهب الثالث: أنه لا حكم للعقل فيه ويجب التعبد به شرعًا 151 أدلة الجمهور على جواز التعبد بالقياس عقلًا وشرعًا 152 أدلة وجوب التعبد به شرعًا 154 أولًا: الإجماع 154 أمثلة من إجماعات الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- 154 الاعترضات الواردة على إجماعات الصحابة 161 الرد على الاعتراضات المتقدمة 163 الأدلة النقلية على حجية القياس 168 الأدلة النقلية للمنكرين للقياس 175 الأدلة العقلية للمنكرين للقياس 176 الرد على هذه الأدلة 177 فصل: في مذهب النظام في الإلحاق بالعلة المنصوصة184

فصل: في أوجه تطرق الخطأ إلى القياس 185 فصل: في أقسام إلحاق المسكوت بالمنطوق 186 إلحاق المسكوت بالمنطوق ضربان: مقطوع ومظنون186 المقطوع ضربان: أحدهما: كون المسكوت أولى بالحكم من المنطوق 187 الضرب الثاني: أن يكون المسكوت مثل المنطوق 188 لإلحاق المسكوت بالمنطوق طريقان 189 أدلة إثبات العلة. القسم الأول: إثبات العلة بأدلة نقلية 191 الأول: النص الصريح وأمثلته 192 الثاني: التنبيه والإيماء إلى العلة 196 وهو ستة أنواع: 196 أحدها: ذكر الحكم عقيب وصف بالفاء 196 أمثلة على ذلك 197 الثاني: ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء 199 أمثلة على هذا النوع 199 الثالث: إجابة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن أمر حادث 200 أمثلة على هذا النوع 200 الرابع: أن يذكر مع الحكم شيء لو لم يكن للتعليل لكان لغوًا وهو قسمان 200 أمثلة على هذا النوع 200 الخامس: أن يذكر في الكلام شيء لو لم يعلل به صار الكلام غير منتظم 201 أمثلة على هذا النوع 202 السادس: ذكر الحكم مقرونًا بوصف مناسب 202 أمثلة على هذا النوع 202 القسم الثاني: ثبوت العلة بالإجماع 205 مثلة على هذا القسم 205 القسم الثالث: ثبوت العلة بالاستنباط 207 الاستنباط ثلاثة أنوع: 207

أحدها: إثبات العلة بالمناسبة 207 معنى المناسبة 208 تقسيم المناسب من حيث تأثيره في الحكم أو عدم تأثيره 210 المؤثر: معناه وأقسامه وأمثلته 210 الملائم: معناه وأمثلته 212 الغريب: معناه وأمثلته 213 تعريف آخر للملائم والغريب 215 النوع الثاني في إثبات العلة: السبر. معنى السبر لغة واصطلاحًا 220 شروط صحة السبر 221 أمور لا تكفي لإفساد علة الخصم 224 إثبات العلة بالدوران 226 معنى الدوران لغة واصطلاحًا 226 أمثلة على هذا النوع 227 اعتراض بعض العلماء على هذا النوع 227 الرد على هذا الاعتراض 228 قال بعض العلماء: لا يصح التعليل بالدوران إلا مع السبر 229 هل تثبت العلة بشهادة الأصول؟ 230 المراد بشهادة الأصول 230 مذاهب العلماء في المسألة 231 فصل في المسالك الفاسدة. اطراد العلة لا يدل على صحتها 233 فصل: في حكم العلة إذا استلزمت مفسدة 235

فصل في قياس الشبه. معناه وأمثلته 240 الفرق بينه وبين قياس العلة وقياس الطرد 240 موقف العلماء من حجيته 241 دليل القائلين بحجيته 244 فصل في قياس الأدلة. معناه وأمثلته وحكمه 246 باب أركان القياس. الركن الأول: الأصل وشروطه 249 الشرط الأول: ثبوته بنص او اتفاق من الخصمين 249 اختلاف العلماء في ثبوت القياس على ما ثبت بالقياس 249 اشترط بعض العلماء أن يكون الأصل متفقًا عليه بين الأمة 251 الرد على هذا المذهب 253 الشرط الثاني: أن يكون الحكم معقول المعنى 256 الركن الثاني: الحكم وشروطه: 256 الشرط الأول: أن يكون حكم الفرع مساويًا لحكم الأصل 256 الشرط الثاني: أن يكون الحكم شرعيًّا 258 الركن الثالث: الفرع وشروطه 259 الركن الرابع: العلة 259 معنى العلة: 259 فصل: من شرط العلة: أن تكون متعدية 260 خلاف العلماء في التعليل بالعلة القاصرة 261

الحنفية بمنعون التعليل بالعلة القاصرة 261 أدلتهم على ذلك 263 المذهب الثاني: صحة التعليل بالعلة القاصرة 264 أدلة هذا المذهب 265 فصل في اطراد العلة. معناه 271 اختلاف العلماء في شرط اطراد العلة 271 المذهب الأول: أن ذلك شرط 271 المذهب الثاني: أن ذلك ليس شرطًا 272 أدلة المذهب الثاني 272 المذهب الثالث: التفريق بين العلة المنصوص عليها والمستنبطة 273 أدلة هذا المذهب 274 الرد على أدلة المذهب الثاني 275 طريق الخروج عن عهدة النقض 276 فصل في أضرب تخلف الحكم عن العلة. الضرب الأول: العلم باستثنائه عن قاعدة القياس277 أمثلة على هذا الضرب 277 الضرب الثاني: تخلف الحكم لمعارضة علة أخرى 281 أمثلة على هذا الضرب 281 الضرب الثالث: تخلف الحكم لعدم مصادفة العلة محلها 282 فصل في أقسام المستثنى من قاعدة القياس. المستثنى ينقسم إلى ما عقل معناه وإلى ما لا يعقل 284 المعقول المعنى يصحُّ القياس عليه 284

أمثلة على ذلك 284 غير معقول المعنى لا يصحّ القياس عليه 284 فصل في جواز التعليل بنفي صفة أو اسم أو حكم. مذاهب العلماء في ذلك 286 أبو الخطاب يرى أن تكون العلة نفي صفة أو اسم أو حكم 286 بعض الشافعية يمنعون التعليل بالعدم 286 أدلتهم على ذلك 286 مناقشة أدلة الشافعية 287 فصل: في جواز تعليل الحكم بعلتين 291 فصل في جريان القياس في الأسباب. الحنابلة وأكثر الشافعية على جريان القياس في الأسباب 293 أمثلة لذلك 293 المذهب الثاني عدم الجواز 293 أدلة هذا المذهب 294 أدلة المذهب الأول 295 الرد على أدلة المذهب الثاني 296 فصل في جريان القياس في الكفارات والحدود. الشافعية والحنابلة على جريان القياس فيهما 298 الحنفية يخالفون في ذلك 298 أدلة الحنفية 298 أدلة الشافعية والحنابلة 299 الرد على أدلة الحنفية 299

فصل في قوادح العلة. بعض العلماء يطلقون على هذه القوادح أسئلة 301 السؤال الأول: الاستفسار 302 ما الذي يتوجه عليه الاستفسار 302 السؤال الثاني: فساد الاعتبار 303 معنى هذا السؤال ومثاله 304 السؤال الثالث: فساد الوضع 304 معنى هذا السؤال ومثاله 304 السؤال الرابع: المنع 305 مواقعه وحكمها 305 السؤال الخامس: التقسيم 306 معناه وشروطه 306 القسم السادس -في السؤال- المطالبة 308 معناه وحكمه 308 القسم السابع-في السؤال- النقض 309 معناه 309 هل يجب الاحتراز في الدليل على صورة النقض؟ 310 خلاف العلماء في ذلك 310 الكسر: معناه وحكمه 312 الوجه الثامن-في الاعتراض- القلب 315 معناه وأمثلته 315 الفرق بين القلب والمعارضة 317 الوجه التاسع -في السؤال- المعارضة 318 معنى المعارضة 318 أقسام المعارضة 318 معنى المعارضة في الأصل 318 هل يلزم المستدل حذف ما ذكره المعترض؟ 319

طرق الجواب في المعارضة 322 القسم الثاني: المعارضة في الفرع 323 أقسام المعارضة في الفرع 323 الوجه العاشر -في السؤال- عدم التأثير 325 معنى هذا الوجه وأمثلته 325 الوجه الحادي عشر -في السؤال- التركيب327 معنى هذا الوجه وأمثلته 327 مذاهب العلماء فيه 327 الوجه الثاني عشر -في السؤال- القول بالموجب328 حقيقة هذا الوجه وموقعه من الأسئلة السابقة 328 المحل الذي يرد فيه هذا السؤال 328 طريق المستدل في دفعه 329 هل يكلف المعترض إبداء مستند القول بالموجب؟ 330 خلاف العلماء في ذلك 330 أسئلة أخرى ترد على القياس 332 كتاب الاجتهاد فصل في حكم المجتهد. تعريف الاجتهاد في اللغة 333 تعريف الاجتهاد عند علماء الشرع 333 أنواع الاجتهاد: الاجتهاد التام والناقص 334 شروط المجتهد. الإحاطة بمدارك الأحكام المثمرة لها 334 ليست العدالة شرطًا للمجتهد 334 الواجب على المجتهد في معرفة الكتاب العزيز 334

الواجب على المجتهد في معرفة السنة 335 لا بد من معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة 335 معرفة الإجماع 336 معرفة استصحاب الحال 336 معرفة نصب الأدلة وشروطها 336 معرفة شيء من النحو واللغة 336 تجزؤ الاجتهاد. هل من شرط المجتهد بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل؟ 337 آراء العلماء وأدلتهم في المسألة 337 فصل في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- مذاهب العلماء في المسألة: المذهب الأول: جواز الاجتهاد للغائب ولا يجوز للحاضر إلا بإذن النبي صلَّى الله عليه وسلم- 338 المذهب الثاني: جواز ذلك مطلقًا من غير إذن 339 المذهب الثالث: عدم جواز الاجتهاد مطلقًا 339 المذهب الرابع: جواز الغائب دون الحاضر 339 أدلة المجوزين للاجتهاد في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- 339 فصل في تعبد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالاجتهاد. جمهور العلماء على جواز اجتهاد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فيما لا نصَّ فيه 341 المذهب الثاني: عدم جواز الاجتهاد 341 أدلة المذهب الثاني 342 أدلة الجمهور على الجواز 342 الرد على أدلة المذهب الثاني 342 مذاهب العلماء في وقوع الاجتهاد منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- 343

المذهب الأول: أن ذلك وقع منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- 343 المذهب الثاني: أن ذلك لم يقع 343 أدلة المذهب الثاني 343 أدلة المذهب الأول 344 الرد على أدلة المذهب الثاني 346 فصل في خطأ المجتهد وإصابته. مذاهب العلماء في هل الحق في قول واحد أو أن كل مجتهد مصيب 347 المذهب الأول: الحق في قول واحد ومن عداه مخطئ 347 المذهب الثاني: كل مجتهد في الظنيات مصيب 348 أدلة المذهب الثاني 348 المذهب الثالث: أن الإثم غير محطوط في الفروع وهو مذهب الظاهرية وبعض المتكلمين 350 موقف الجاحظ من المسألة 350 قال العنبري: كل مجتهد في الأصول والفروع مصيب 351 بيان بطلان مذهبي الجاحظ والعنبري 351 أدلة الجمهور على أن الحق في قول واحد ومن عداه مخطئ 353 الأدلة من القرآن الكريم 353 الأدلة من السنة 355 الأدلة من الإجماع 359 الأدلة من المعنى 360 الرد على أدلة المذهب الثاني 361 فصل في تعارض الأدلة. إذا تعارض دليلان عند المجتهد ولم يترجح أحدهما وجب التوقف 366 بعض الحنفية يرون تخيير المجتهد فيهما 366

أدلة الحنفية 366 أدلة المذهب الأول 367 الرد على أدلة المذهب الثاني 369 فصل هل للمجتهد أن يقول قولين في مسألة واحدة. المذهب الأول: أنه ليس للمجتهد ذلك 371 المذهب الثاني: أن له ذلك 371 الرد على أصحاب هذا المذهب 371 فصل المجتهد لا يقلد غيره. اتفق العلماء على أن المجتهد إذا اجتهد وغلب على ظنه الحكم لا يقلد غيره 373 المجتهد في بعض المسائل دون البعض حكمه حكم العامي فيما لم يجتهد فيه 374 هل للمجتهد الذي عنه القدرة على الاجتهاد أن يقلد غيره؟ 374 فصل إذا نصَّ المجتهد على حكم لعلة في مسألة فهو مذهبه في كل ما توجد فيه هذه العلة. إذا لم يبيّن المجتهد علة الحكم لم يكن ذلك مذهبه في غيرها 377 إذا نص المجتهد على مسألتين متشابهتين هل يجوز نقل إحداهما إلى الأخرى؟ 377 إذا نص المجتهد على حكمين مختلفين في مسألة واحدة فما الحكم؟.... 378 فصل في التقليد. معنى التقليد في اللغة 380

معنى التقليد عند الفقهاء 381 ما لا يسوغ التقليد فيه 381 ما يسوغ التقليد فيه وهو الفروع 382 الأدلة على ذلك 383 بطلان مذهب القدرية في وجوب النظر على العامة 383 هل يجوز التقليد في أركان الإسلام ونحوها؟ 384 فصل في من يستفتيه العامّيّ384 فصل: إذا تعدد المجتهدون فللمقلد سؤال من شاء 385 وقيل: يلزمه سؤال الأفضل 386 دليل المذهب الأول 386 دليل المذهب الثاني 387 أقوال أخرى في المسألة 388 فصل في ترتيب الأدلة ومعرفة الترجيح. على المجتهد -أولًا- أن ينظر إلى الإجماع 389 ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة 389 ثم في أخبار الآحاد 390 ثم في القياس 390 تعريف التعارض 390 وجوه الترجيح في الأخبار. الأول: يتعلق بالسند -وهو من خمسة وجوه: 391 أحدها: كثرة الرواة، وهو مذهب الشافعي 391 قال بعض الحنفية: لا يرجح بكثرة الرواة 391 الرد على مذهب الحنفية 392 الثاني: أن يكون أحد الراويين معروفًا بزيادة التيقظ وعدم الغلط 393 الثالث: أن يكون أورع وأتقى من الآخر 393 الرابع: أن يكون أحدهما صاحب الواقعة 393

الخامس: أن يكون أحدهما باشر القصة 394 الوجه الثاني: الترجيح لأمر يعود إلى المتن 394 وهو من عدة وجوه: الأول: أن يشهد القرآن أو السنة أو الإجماع بوجوب العمل على وفق الخبر، أو يعضده قياس أو عمل الخلفاء أو قول صحابي 394 الثاني: أن يختلف في رفع أحد الخبرين ويتفق على رفع الآخر 395 الثالث: أن يكون راوي أحدهما نقل عنه خلافه 395 الرابع: أن يكون أحدهما مرسلًا والآخر متصلًا 395 الترجيح لأمر خارج وصوره 396 فصل في ترجيح المعاني. ترجح العلة بما يرجح به الخبر 397 ترجح العلة الموافقة لدليل آخر 397 خلاف العلماء في الترجيح بين العلة الحاظرة والمبيحة 397 خلاف العلماء في الترجيح بين العلة الحكمية والحسية 398 الخلاف في الترجيح بين العلة التي أوصافها أقل والتي أوصافها أكثر 399 ترجح العلة المنتزعة من الأصول على المنتزعة من أصل واحد 399 ترجح العلة المطردة المنعكسة على ما لا ينعكس 399 ترجح العلة المتعدية على العلة القاصرة 399 ترجح ما كانت علته وصفًا على ما كانت علته اسمًا 400 ترجح ما كانت علته إثباتًا على التعليل بالنفي 400 ترجح العلة المردودة إلى أصلٍّ قاسَ الشارعُ عليه 400 ترجح كل علة قُوِّيَ أصلها 401

الفهارس العامة: أولا: فهرس الآيات القرآنية.

الفهارس العامة: أولًا: فهرس الآيات القرآنية. ثانيًا: فهرس الأحاديث. ثالثًا: فهرس الآثار. رابعًا: فهرس الأبيات الشعرية. خامسًا: فهرس الأعلام. سادسًا: فهرس الفرق والطوائف والملل. سابعًا: فهرس المراجع.

أولًا: فهرس الآيات القرآنية 1 سورة البقرة {هدًى للمتقين} {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} {خلق لكم ما في الأرض جميعا} {وهو بكل شيء عليم} {وعلم آدم الأسماء كلها} 19 2/ 194 {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} 36 2/ 46 {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} 43، 83، 17 1/ 144-537-538-557 {كونوا قردة} 65 1/ 170-172-547 {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} 67 1/ 536 {وإن هم إلا يظنون} 78 2/ 351 {وأشربوا في قلوبهم العجل} 93 1/ 500 {وبشرى للمؤمنين} 97 2/ 46 {من كان عدوًّا لله وملائكته وكتبه ورسله وجبريل وميكال} 98 2/ 47 {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} 111 1/ 452 {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} 106 1/ 228-249-260 {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} 130 1/ 463 {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس} 143 1/ 380 {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم} 143 1/ 217 {لنعلم من يتبع الرسول} 143 1/ 193 {وما كان الله ليضيع إيمانكم} 143 1/ 496

_ 1 الرقم المجاور للآية والموضوع بين قوسين هو رقم الآية من المصحف، وما بعده رقم الصفحات التي وردت فيها الآية.

{فاستبقوا الخيرات} 148 1/ 573 {يا أيها الذين آمنوا} 104-153-172، 183 2/ 46 {أيامًا معدوداتٍ فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة} 184 2/ 110 {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} 184 1/ 231 {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} 185 1/ 252 {ثم أتموا الصيام إلى الليل} 187 1/ 220-2/ 130 {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} 194 1/ 206-464 {ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} 196 2/ 108 {تلك عشرة كاملة} 196 1/ 506 {ولا تنكحوا المشركات} 221 1/ 610 {قل هو أذًى فاعتزلوا النساء في المحيض} 222 1/ 197 {ولا تقربوهن حتى يطهرن} 222 2/ 73 {فإن تطهرن فأتوهن} 222 1/ 561 {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} 229 2/ 115 {حتى تنكح زوجًا غيره} 230 2/ 69-130 {إن الله بكل شيء عليم} 231 2/ 49 {أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح} 237 1/ 517-540 {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة} 249 1/ 404 {ولا يحيطون بشيء من علمه} 255 2/ 13 {وأحل الله البيع} 275 1/ 520-2/ 77 {وذروا ما بقي من الربا} 278 1/ 612-2/ 17 {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} 282 1/ 246-2/ 106 {ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} 286 1/ 170 {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} 286 1/ 169-172. سورة آل عمران: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أمُّ الكتاب وأُخَر متشابهات} 7 1/ 213 {فأما الذين في قلوبهم زيغ} 7 1/ 216 {وما يعلم تأويله إلا الله} 7 1/ 216 {ولله على الناس حج البيت} 97 1/ 164-538-2/ 61 {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} 102 1/ 157 {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} 104 1/ 583

{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} 133 1/ 573-2/ 395 {فإذا عزمت فتوكل على الله} 159 1/ 189 {الذين قال لهم الناس إن الناس} 173 2/ 34 {كل نفس ذائقة الموت} 185 2/ 13 سورة النساء: {يوصيكم الله في أولادكم} 11 2/ 16 {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} 11 2/ 32-33 {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} 22 1/ 612 {حرمت عليكم أمهاتكم} 23 2/ 110 {وربائبكم اللاتي في حجوركم} 23 2/ 115 {وأن تجمعوا بين الأختين} 23 2/ 20-368-376 {وأحل لكم ما وراء ذلكم} 24 2/ 68 {يريد الله أن يخفف عنكم} 28 1/ 252 {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} 29 2/ 86 {ولا تقتلوا أنفسكم} 29 2/ 17 {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} 40 2/ 29 {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} 43 1/ 145-157 {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} 58 1/ 550 {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} 59 1/ 8-2/ 375 {وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} 59 1/ 403-2/ 176-376 {اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} 66 1/ 172 {أينما تكونوا يدرككم الموت} 78 2/ 12 {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} 83 1/ 8-2/ 376 {فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} 92 2/ 99 {فتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} 92 2/ 102 {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} 95 2/ 18 {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن ختم أن يفتنكم الذين كفروا} 101 2/ 118 {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذًى من مطر} 102 2/ 115 {لتحكم بين الناس بما أراك الله} 105 2/ 162 {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} 115 1/ 280-381-382 {إنما الله إله واحد} 171 2/ 128

سورة المائدة: {ولا الهدى ولا القلائد} 2 2/ 380 {وإذا حللتم فاصطادوا} 2 1/ 546-561 {حرمت عليكم الميتة} 3 1/ 519-525 {وامسحوا برءوسكم} 6 2/ 338 {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} 32 2/ 192 {وجاهدوا} 35 1/ 538 {والسارق والسارقة} 38 2/ 17-63-111-197-202 {إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا} 44 1/ 462 {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} 44 1/ 462 {والسن بالسن} 45 1/ 463 {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} 48 1/ 459-464 {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} 49 2/ 175 {بل يداه مبسوطتان} 64 1/ 215 {فمن لم يجد} 89 1/ 203-2/ 99 {لا تقتلوا الصيد} 95 2/ 17 {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم} 95 2/ 114-145 {ليذوق وبال أمره} 95 2/ 193 سورة الأنعام: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} 38 2/ 175 {ولكن أكثرهم لا يعلمون} 37 1/ 404 {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} 90 1/ 462-463 {قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} 91 2/ 23 {ولم تكن له صاحبة} 101 2/ 13-29 {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} 121 2/ 289 {وآتوا حقه يوم حصاده} 141 1/ 539 {قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا} 145 1/ 135-2/ 77 {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} 151 1/ 135 {لا تكلف نفسًا إلا وسعها} 152 1/ 170-171 {فاتبعوه} 153 1/ 598

سورة الأعراف: {وكلوا واشربوا} 31 2/ 45 {قل إنما حرم ربي الفواحش} 33 1/ 135 {ولكل أمة أجل} 34 2/ 13 {واتبعوه} 158 1/ 598 سورة الأنفال: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} 13 2/ 192 {ولذي القربى} 41 1/ 537 {إن الله بكل شيء عليم} 75 2/ 49 {الآن خفف الله عنكم} 66 1/ 252 سورة التوبة: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} 5 1/ 535-564-568 {فقاتلوا أئمة الكفر} 12 1/ 562 {ليس على الضعفاء وعلى المرضى} 91 1/ 538 {عفا الله عنك لما أذنت لهم} 43 2/ 354 {والسابقون الأولون} 100 1/ 245 سورة يونس: {فاجمعوا أمركم وشركاءكم} 71 1/ 376 سورة هود: {آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} 1 1/ 536 {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} 6 2/ 49 {احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول} 40 1/ 537 {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} 88 2/ 55 {وما أمر فرعون برشيد} 97 1/ 504 سورة يوسف: {إني أراني أعصر خمرًا} 36 1/ 239 {إني أرى سبع بقرات سمان} 43 1/ 239 {واسأل القرية} 82 1/ 206-500

سورة الرعد: {قل الله خالق كل شيء} 16 2/ 54-61 {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} 39 1/ 225 سورة إبراهيم: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم} 22 2/ 92 سورة الحجر: {إنا نحن نزلنا الذكر} 9 2/ 34 {إن عبادي ليس عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} 42 2/ 90 {ادخلوها بسلام} 46 1/ 546 سورة النحل: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} 43 2/ 375-383 {لتبين للناس ما نزل إليهم} 44 2/ 67 {تبيانًا لكل شيء} 89 2/ 175 {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} 90 1/ 126 {ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ} 96 2/ 12 {وإذا بدلنا آية مكان آية} 101 1/ 228 {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم} 123 1/ 462 سورة الإسراء: {فلا تقل لهما أفّ} 23 2/ 111 {واخفض لهما جناح الذل} 24 1/ 206 {ولا تقربوا الزنى} 32 1/ 144 {ومن قتل مظلومًا} 33 2/ 17 {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لا بتغوا إلى ذي العرش سبيلًا} 42 1/ 87 {كونوا حجارة} 50 1/ 170-547 {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} 60 217 {أقم الصلاة} 78 1/ 144-546 { ... لأمسكتم خشية الإنفاق} 100 2/ 194

سورة الكهف: {ولا يظلم ربك أحدًا} 49 2/ 29 {جدارًا يريد أن ينقض} 77 1/ 206 {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا * اولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه} 104، 105 2/ 352 سورة مريم: {آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويًّا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيًّا} 10، 11 1/ 544 {فقولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًّا} 26 1/ 544 {أسمع بهم وأبصر} 38 1/ 547 {لا يسمعون فيها لغوًا إلا سلامًا} 62 2/ 86 سورة طه: {الرحمن على العرش استوى} 5 1/ 215 {وأقم الصلاة لذكري} 14 1/ 464 {واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي} 27-28 1/ 53 {أفعصيت أمري} 93 1/ 557 {ولم نجد له عزمًا} 115 1/ 188 سورة الأنبياء: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} 7 2/ 375 {ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} 22 1/ 87-457 {لا يُسأل عما يفعل} 23 2/ 39 {بل عباد مكرمون} 26 2/ 92 {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان} 78، 79 2/ 346-353 {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} 98 2/ 18 {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} 101 2/ 19

سورة الحج: {هذان خصمان اختصموا} 19 2/ 32 {وبشر المخبتين} 34 2/ 46 {فإذا وجبت جنوبها} 36 1/ 104 سورة المؤمنون: {أولئك يسارعون في الخيرات} 61 1/ 573 {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} 6 2/ 20 سورة النور: {الزانية والزاني} 2 2/ 17-73 {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا} 4، 5 2/ 94 {فكاتبوهم} 33 1/ 546 {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور} 40 2/ 29 {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} 63 1/ 125-128-554 سورة الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ... } 68 1/ 164 سورة القصص: {يجبي إليه ثمرات كل شيء} 57 2/ 59 سورة العنكبوت: {ألف سنة إلا خمسين عامًا} 14 2/ 52 سورة لقمان: {وأمر بالمعروف} 17 1/ 126 سورة الأحزاب: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأمولهم} 27 2/ 47

{من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} 30 2/ 199 {ومن يقنت منكن لله ورسوله} 31 2/ 199 {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} 36 1/ 554 {ومن يعض الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا 36 1/ 558 {فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها} 37 1/ 558 {خالصة لك من دون المؤمنين} 50 1/ 558 {إن الذين يؤذون الله} 57 1/ 206 سورة سبأ: {وقليل من عبادي الشكور} 13 1/ 404 سورة فاطر: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} 28 2/ 128 سورة يس: {قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} 52 1/ 214 سورة الصافات: {لا إله إلا الله} 35 2/ 26 {إني أرى في المنام أني أذبحك} 102 1/ 238 {افعل ما تؤمر} 102 1/ 237 {قد صدقت الرؤيا} 105 1/ 238 {وفديناه بذبح عظيم} 107 1/ 235 سورة ص: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} 21 2/ 32 {وقليل ما هم} 24 1/ 404 {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} 27 2/ 351 {إنما أنا منذر} 65 2/ 128 {وما من إله إلا الله} 65 2/ 26 {لما خقلت بيدي} 75 1/ 215 {فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} 82، 83 2/ 90

سورة الزمر: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} 18 1/ 474 {يا عباي الذين أسرفوا} 53 2/ 46 {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} 55 1/ 474 {الله خالق كل شيء} 62 2/ 13-54-59-61 سورة فصلت: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم} 23 2/ 351 {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن} 37 1/ 140 {اعملوا ما شئتم} 40 1/ 546 {ولو جعلناه قرآنًا أعجميًّا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي} 44 1/ 210 سورة الشورى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} 10 1/ 403 {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} 11 1/ 51 {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا} 13 1/ 462 {وجزاء سيئة سيئة مثلها} 40 1/ 206 سورة الزخرف: {حم * والكتاب المبين * إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا} 1-3 1/ 198 {ويحسبون أنهم مهتدون} 37 2/ 352 سورة الدخان: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} 49 1/ 546 سورة الأحقاف: {وما أنا إلا نذير} 9 2/ 128 {تدمر كل شيء بأمر ربها} 25 2/ 59-60 {وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن} 29، 30 1/ 198

سورة محمد: {فقد جاء أشراطها} 18 1/ 181 {لا إله إلا الله} 19 2/ 26 {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين 31 1/ 217 {أفلا يتدبرون القرآن} 24 2/ 376 سورة الفتح: {لقد رضي الله عن المؤمنين} 18 1/ 346 {محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفار} 29 1/ 346-2/ 116 سورة الحجرات: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق} 6 1/ 234 {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} 9 2/ 32 سورة الطور: {فاصبروا أو لا تصبروا} 16 1/ 547 سورة النجم: {وما ينطق عن الهوى} 3 2/ 343 {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} 39 2/ 288 سورة القمر: {تجري بأعيننا} 14 1/ 215 سورة الرحمن: {ويبقى وجه ربك} 27 1/ 215 {فيهما فاكهة ونخل ورمان} 68 2/ 47 سورة الواقعة: {إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون} 77، 78 1/ 198 سورة الحديد: {لكيلا تأسوا} 23 2/ 192

سورة المجادلة: {فتحرير رقبة} 3 2/ 101-104 {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات} 11 2/ 180 {ويحسبون أنهم على شيء} 18 2/ 351 سورة الحشر: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} 2 2/ 168-344-375 {كيلا يكون دولة} 7 2/ 192 سورة الجمعة: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} 9 2/ 202 {فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا} 10 1/ 561 سورة الطلاق: {يا أيها النبي إذا طلقتم} 1 592 {وأشهدوا ذوي عدل منكم} 2 2/ 105 {ومن يتقِ الله يجعل له مخرجًا} 2 2/ 199 {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} 3 2/ 12 {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن} 6 2/ 131 سورة التحريم: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} 2 1/ 592 {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} 4 2/ 32 {لا يعصون الله ما أمرهم} 6 1/ 557 سورة المعارج: {أو ما ملكت أيمانكم} 30 2/ 20-368 سورة الجن: {إنا سمعنا قرآنًا عجبًا} 1 1/ 198 سورة المزمل: {يا أيها المزمل * قم الليل} 1، 2 1/ 586

{إن ناشئة الليل هي أشدّ وطئًا وأقوم قيلًا} 6 1/ 212 {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} 20 1/ 591 {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} 20 1/ 144-537-538-557 سورة المدثر: {ما سلككم في سقر * قالوا لم نكُ من المصلين} 42، 43 1/ 164 {وكنا نكذب بيوم الدين} 46 1/ 164 سورة القيامة: {فاتبع قرآنه * ثم إنَّ علينا بيانه} 18، 19 1/ 536 سورة المرسلات: {هذا يوم لا ينطقون} 35 1/ 214 {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} 48 1/ 554 سورة الانفطار: {إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم} 13، 14 2/ 111-1/ 202 سورة البروج: {بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ} 21، 22 1/ 198 سورة الليل {وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} 19، 20 2/ 86 سورة العصر: {إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا} 2، 3 1/ 78-2/ 11-30 سورة الماعون: {فويل للمصلين} 4 2/ 101 سورة الإخلاص: {ولم يكن له كفوًا أحد} 4 2/ 29

ثانيا: فهرس الأحاديث

ثانيا: فهرس الأحاديث حرف الألف: "الأئمة من قريش" 1/ 423 "الاثنان فما فوقهما جماعة" 2/ 32 "اجتهدا فإن أصبتما فلكما عشر حسنات" 2/ 340 "ادرأوا الحدود بالشبهات" 1/ 370 "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران" 2/ 358 "إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد فلا يشبك بين أصابعه" 1/ 138 "إذا حاصرتم حصنًا أو مدينة فطلبوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله فلا تنزلوهم" 2/ 355 "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران" 2/ 172 "إذا قال الإمام: {ولا الضالين} فقولوا آمين" 1/ 545 "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" 1/ 547 "إذا مس الختانُ الختانَ وجب الغسل" 1/ 318 "أرأيت لو تمضمضت؟ " قاله لعمر 2/ 39-174 "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته؟! " 2/ 172 "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفعها" 2/ 201 "أرخص رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في السَّلم ووضع الجوائح" 2/ 43 "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" 1/ 468 "أعتق رقبة" قال لأعرابي الذي جامع امرأته في نهار رمضان 2/ 148 "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله" 1/ 165

"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" 2/ 19 "أمسك عليك لسانك" 1/ 544 "أمسك منهن أربعًا وفارق سواهن" 1/ 511 "إن أنت قضيت بينهما فأصبت فلك عشر حسنات" 2/ 339 "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يُحرّم على الناس فحُرّم من أجل مسألته" 1/ 135-136 "إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ" 1/ 562 "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" 2/ 69 "إنا وبنو عبد المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام" 1/ 537 "إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" 2/ 354 "إن الله اختارني واختار لي أصحابًا وأنصارًا" 1/ 346 "إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل" 1/ 544 "إن الله فرض عليكم صيامه" 1/ 586 "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" 1/ 262 "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا من الناس ولكن بقبض العلماء" 1/ 391 "إنما أسهو لأسُن" 1/ 593 "إنما أنا شافع" 1/ 555 "إنما الأعمال بالنيات" 1/ 247-2/ 128 "إنما جُعل الأستئذان من أجل البصر" 2/ 193 "إنما الربا في النسيئة" 1/ 281 "إنما نهيتكم من أجل الدافة" 2/ 193 "إنما الولاء لمن أعتق" 2/ 127 "أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أعطى الجدّة السدس" 1/ 314 "أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- رخّص في تعجيل الزكاة" 1/ 186 "أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قبل شهادة الأعرابي برؤية الهلال" 1/ 335 "أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قضى بشاهد ويمين" 1/ 358 "أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كتب إلى الضحاك أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها" 1/ 315 "إنها رجس" قاله عن الروثة 2/ 194

"إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 2/ 146-194 "إني أقضي بينكم الرأي فيما لم ينزل به وحي" 2/ 174 "إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أُحلّ حتى أنحر" 1/ 593 "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" 1/ 513-2/ 12 "أيما رجل أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه" 2/ 183 "الأيم أحق بنفسها من وليها البكر تستأذن" 2/ 134 حرف الباء: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء" 1/ 404 "بعثت إلى الأحمر والأسود وكل نبي بعث إلى قومه" 1/ 459 "بل هو رأيٌ رأيته لكم" 2/ 345 "بم تحكم؟ " قاله لمعاذ حين بعثه إلى اليمن 1/ 460 "بين المراد بالصلاة صلاة جبريل به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في اليومين" 1/ 537 "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"1/ 454 حرف التاء: "تبيين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- الصلاة والحج بفعله" 1/ 531 "تحريمها التكبير وتحليها التسليم" 2/ 129 "تخصيص أبي بردة بجذعة من المعز" 1/ 596 "تخصيص خزيمة بشهادته وحده" 2/ 285 "تزوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ميمونة وهو حلال وكنت السفير بينهما" 2/ 394 "تزوجني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ونحن حلالان" 2/ 393 "توضؤوا من لحوم الإبل ولا تتوضؤوا من لحوم الغنم" 1/ 562 حرف الثاء: "ثلاث لا يغل عليهم قلب المسلم إخلاص العمل لله والمناصحة لولاه الأمر ولزوم جماعة المسلمين" 1/ 385 "الثيب أحق بنفسها من وليها" 2/ 134

حرف الحاء: "حتى يذوق عسيلتها" 2/ 69 "حديث حمل بن مالك في دية الجنين" 1/ 314 "حديث الخثعمية" 2/ 173 "حديث رافع في المخابرة" 1/ 285 "حديث فاطمة بنت قيس في النفقة والسكنى للمبتوتة" 1/ 595 "حديث معاذ في الاجتهاد" 1/ 595 "حرمت الخمر لعينها" 1/ 373 "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" 1/ 135 حرف الخاء: "خبر أبي موسى في الاستئذان" 1/ 323 "خبر دية الجنين" 1/ 314 "خبر ذي اليدين" 1/ 325 "خبر رافع بن خديج" 1/ 285 "خبر زيادة التغريب على الجلد في الحد" 1/ 343 "خبر المغيرة في ميراث الجدة" 1/ 314 "خذوا عني مناسككم" 1/ 531-538 "خطابي للواحد خطاب للجماعة" 1/ 594 "خير الناس قرني" 1/ 346 حرف الدال: "دعي الصلاة أيام أقرائك" 1/ 145-612 حرف الراء: "رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" 1/ 340

"رخّص في العرايا" 2/ 278 "رضخ يهودي رأس جارية فأمر به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يرضّ رأسه بين حجرين" 2/ 198 "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 1/ 152-524 "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ ... " 1/ 599 حرف السين: "سقوط طواف الوداع عن الحائض" 1/ 595 "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 1/ 316-556 "سها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فسجد" 2/ 198 حرف الشين: "الشفعة فيما لم يقسم" 2/ 129 "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" 1/ 530 "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" 1/ 403 حرف الصاد: "صحة صوم من أصبح جنبًا" 1/ 590 "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" 2/ 118 "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1/ 531 "صوّب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- معاذًا على الاجتهاد" 1/ 372 حرف الطاء: "الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه" 1/ 247 حرف العين: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" 1/ 193 "عدم ثبوت حكم الإحرام في حق من بعث هديه وأقام في أهله" 1/ 590 "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" 1/ 467

حرف الغين: "الغسل من التقاء الختانين من غير إنزال" 1/ 590 حرف الفاء: "فلا إذًا" 2/ 201 "فلها المهر بما استحل من فرجها" 1/ 513 "فليغسله سبعًا" 1/ 556 "في أربعين شاةً شاةٌ" 1/ 538-2/ 72 "في سائمة الغنم الزكاة" 1/ 455-2/ 73-114-132 "في كل أصبع عشر من الإبل" 1/ 374 "فيما سقت السماء العشر" 2/ 63 حرف القاء: "قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم" 1/ 260 " القرآن ينسخ حديثي، وحديثي لا ينسخ القرآن" 1/ 261 "قضي بالشفعة فيما لم يقسم" 2/ 42 "قضى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالقصاص بالسن، وقال: كتاب الله القصاص" 1/ 463 "قضى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الجنين بغرة" 1/ 315 حرف الكاف: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم- يأمرني فأتزر فيباشرني" 2/ 73 "كتاب الله القصاص" 1/ 463 "كتابة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى عماله في الصدقات" 1/ 529 "الكلب الأسود شيطان" 2/ 120 "كنا نخابر أربعين سنة" 1/ 285 "كنا نفاضل على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فنقول: أبو بكر وعمر وعثمان" 1/ 285 "كنا نحيض على عهد رسول الله فنؤمر بقضاء الصوم دون الصلاة" 1/ 187 "كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا" 1/ 270

"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" 1/ 270 "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ... " 1/ 561 حرف اللام: "للأبد ولو قلت لعامنا لوجب" 2/ 344 "لم يقبل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- خبر ذي اليدين" 1/ 322 "لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على خطأ" 1/ 383 "لو كان على أمها دين فقضته ألم يكن يجزئ عنها" 1/ 580 "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 1/ 125-128 "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" 1/ 538 "ليس الوضوء من القطرة والقطرتين" 2/ 135 حرف الميم: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن ... " 1/ 384-474 "ما من عبد يذنب فيتوضأ ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له" 1/ 317 "ما هذا؟! ألم آت بها بيضاء؟! نقية لو أدركني موسى ما وسعه إلا اتباعي" 1/ 460 "مروهم بالصلاة لسبع" 1/ 582 "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" 2/ 197 "من اتخذ كلبًا -إلا كلب ماشية أو صيد- نقص من أجره كل يوم قيراطان" 2/ 199 "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" 1/ 386 "من أصبح جنبًا فلا صوم له" 1/ 280 "من أعتق شركًا له في عبد قُوِّم عليه الباقي" 2/ 183 "من باع نخلًا بعد أن تؤبر فثمرته للبائع" 2/ 80-197 "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن" 2/ 17 "من شذّ شذّ في النار" 1/ 386 "من شهد جنازة" 2/ 392 "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ" 1/ 608

"من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" 1/ 384 "من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" 1/ 385 "من مسّ ذكره فليتوضأ" 2/ 198 "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" 1/ 464-556-2/ 80 حرف النون: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة" 2/ 16 "نضر الله امرءًا سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع" 1/ 279-361 "نكحها وهو محرم" أي: ميمونة 2/ 394 "نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه" 2/ 43 "نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن المزابنة" 2/ 42 "نهى عن المنابزة والملامسة" 1/ 612 "نهى عن المزابنة والمحاقلة والمخابرة" 1/ 612-2/ 43 "نهى عن الصلاة في الأوقات الخمسة" 1/ 145 "نهى عن الصلاة في المقبرة وقارعة الطريق والأماكن السبِعة" 1/ 145 "نهيت عن قتل النساء" 2/ 81 "نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث" 2/ 194 حرف الهاء: "هو الطهور ماؤه" 2/ 36 حرف الواو: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب" 1/ 588 "وجوب الوضوء من ملامسة المرأة" 1/ 590 "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى" 1/ 589 "والله لأغزونّ قريشًا" 1/ 570 "ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أُتبع" 1/ 554

حرف الباء: "يجزئك ولا يجزئ عن أحد بعدك" 1/ 587 "يقطع الصلاة الكلب الأسود" 2/ 119 حرف اللام ألف: "لا تبيعوا البُرّ بالبُرّ إلا سواء بسواء" 2/ 76 "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل" 1/ 609 "لا تجتمع أمتي على خطأ" 1/ 383-396 "لا تجتمع أمتي على ضلالة" 1/ 383 "لا تحرم المصة ولا المصتان" 2/ 135 " لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم 1/ 386-428 "لا تقربوه طيبًا فإنه يبعث يوم القيامة ملبّيًا" 2/ 195 "لا تقلدوها الأوتار" 2/ 380 "لا تكلفوهم ما لا يطيقون" 1/ 172 "لا تلبسوا الحرير" 1/ 144 "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" 2/ 17-68-195 "لا زكاة في الحلي" 1/ 454 "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق" 2/ 63 "لا صلاة إلا بطهور" 1/ 521 "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" 2/ 81 "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" 1/ 515 "لا عمل إلا بنية" 1/ 523-2/ 110-128 "لا قطع إلا في ربع دينار" 2/ 63 "لا نكاح إلا بولي" 2/ 102-103 "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدَيْ عدل" 2/ 103 "لا وصية لوارث" 2/ 69 "لا يُختلى خلاها" 2/ 344 "لا يرث القاتل" 2/ 17-2/ 69

"لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" 2/ 68 "لا يُقتل مسلم بكافر" 1/ 82 "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" 2/ 77-202 "لا يلبس القميص ولا السراويلات ولا البرانس" 2/ 120 "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح" 1/ 610 "لا يؤمّن الرجلُ في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" 2/ 94

ثالثا: فهرس الآثار

ثالثا: فهرس الآثار أ- آثار الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم: أبو بكر الصديق: "أعطى الجدة السدس" 1/ 314 "أقول فيها برأيي فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان" 2/ 158 "إنما أسلموا لله وأجورهم عليه" 2/ 159-349 "سوّى بين الصحابة في العطاء" 2/ 159 عمر بن الخطاب: "أُذَكِّر اللهَ امرءًا سمع من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الجنين" 1/ 314 "اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور برأيك" 2/ 159 "اكتب: هذا ما رآه عمر فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمن عمر" 2/ 359 "إني لا أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم" 1/ 326 "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن" 2/ 161 "رجع عمر إلى قول معاذ في ترك رجم المرأة" 1/ 471 "رجع إلى حديث عبد الرحمن بن عوف في المجوس" 1/ 316 "ردَّ خبر فاطمة بنت قيس في السكنى والنفقة" 1/ 595 "عجبتُ مما عجبتَ منه" 2/ 118 "عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ لولا معاذ لهلك عمر" 1/ 471 "قدم عمر حديث حمل بن مالك في غرة الجنين" 1/ 373 "كان يرى إعتاق أم الوالد" 420

"كان لا يورّث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضبابي" 1/ 315 "كان يفاضل بين ديات الأصابع، ويقسّمها على قدر منافعها ثم رجع عن ذلك" 1/ 374 "لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان" 1/ 323 "لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره" 1/ 315 "ما لم تجد في السنة فاجتهد رأيك" 1/ 399 "لا أجعل من ترك داره وماله وهاجر إلى الله ورسوله كمن أسلم كرهًا" 2/ 159 "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت" 1/ 264 عثمان بن عفان: "اختلاف عثمان وعلى في الجمع بين الأختين بملك اليمين" 2/ 20 "أحلتهما آية وحرمتهما آية" 2/ 20 "أخذ بخبر فريعة بنت مالك في السكنى" 316 "إن نتبغ رأيك فرأي رشيد، وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي كان" 2/ 160 "لا شيء عليك إنما أنت مؤدب" 2/ 356 على بن أبي طالب: "اجتمع رأي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن وأنا الآن أرى بيعهن" 2/ 160 "إذا سكر هذي وإذا هذي افترى، فحُدوه حد المفتري" 2/ 160 "إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطآ، وإن يكونا ما اجتهدا فقدغشّاك، عليك الدية" 2/ 356 "ردّ خبر معقل بن سنان الأشجعي في بَرْوع بنت واشق" 1/ 323 "ضرب في الخمر أربعين" 1/ 420 "كان لا يقبل الخبر حتى يستحلف" 1/ 317 "كنت إذا سمعت من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- حديثًا نفعني الله بما شاء منه أن ينفعني، وإذا حدثني غيرُه استحلفته" 1/ 317 "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه" 2/ 162

أنس بن مالك: "سلوا مولانا الحسن فإنه غاب وحضرنا، وحفظ ونسينا" 1/ 400 "كنت أسقى أبا طلحة وأبا عبيدة وأبيّ بن كعب شرابًا من فضيخ" 1/ 318 البراء بن عازب: "ما كل ما حدثناكم به عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سمعناه منه غير أنّا لا نكذب" 1/ 364 زيد بن سهل-أبو طلحة- وأصحابه: "قبلوا خبر الواحد في تحريم الخمر من غير ماجعة" 1/ 357 عائشة - أم المؤمنين: "أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلا أن يتوب" 2/ 359 "أنكرت على زيد بن أرقم تعامله بمسألة العينة" 1/ 408 "إنما مثلك مثل الفروج سمع الديكة تصيح فصاح لصياحها" 1/ 398 "ردت حديث ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه" 1/ 325 "كانوا لا يقطعون في الشيء التافه" 1/ 286 عبد الرحمن بن صخر- أبو هريرة: "أنا مع ابن أخي" 1/ 401 عبد الله بن عباس: "ألا يتقي الله زيد؟! يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أب الأب أبًا! " 2/ 359 "إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم برأيه" 2/ 162 "إياكم والمقاييس؛ فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس" 2/ 163 "سل فلانة الأنصارية" 1/ 320 "كان رجلًا مهيبًا فهبته" 1/ 435 "كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-" 2/ 65 "لم حجبت الأم بالاثنين من الإخوة؟ " 2/ 33 "من شاء باهلته في العول" 2/ 359

عبد الله بن عمر: "رجع إلى حديث رافع في المخابرة" 1/ 320-2/ 43 "ردّ خبر أبي هريرة في أن من صلى على الميت فله قيراطان" 2/ 392 عبد الله بن مسعود: "إن حكمتم بالرأي أحللتم كثيرًا مما حرّمه الله" 2/ 162 "ذروني من أرأيت وأرأيت" 2/ 163 "قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساءً جهّالًا" 2/ 162 عثمان بن مظعون: "كذبت فإن نعيم الجنة لا يزول" 2/ 21 ب- آثار التابعين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم: إبراهيم النخعي: "إذا رويت عن عبد الله وأسندت فقد حدثني واحد، وإذا أرسلت فقد حدثني جماعة عنه" 1/ 367 الحسن البصري: "إذا أمرت بمعروف فكن من آخذ الناس به، وإذا نهيت عن منكر فكن من أترك الناس له وإلا هلكت" 2/ 55

رابعا: فهرس الأبيات الشعرية

رابعا: فهرس الأبيات الشعرية حرف الباء: وإذا تكون كريهة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب 1/ 240 حرف الدال: قلدوها تمائمًا خوف واشٍ وحاسد 2/ 380 وقفت فيها أصيلانًا اسائلها عيت جوابًا وما بالربع من أحد 2/ 86 إلا الأوراي لويا أبيتها والنوى كالحوض المظلومة الجلد 2/ 87 يكلفه القوم ما نابهم وإن كان أصغرهم مولدا 1/ 153 حرف الراء: لقد عثرت عثرة لا تنجبر سوف أليسُ بعدها أو أستمر أرفع من ذيلي ما كنت أجر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر 2/ 355 حرف السين: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيسُ 2/ 78 حرف العين: وقلِّدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا 2/ 381 حرف الفاء: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأي مختلف 2/ 106

ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل 2/ 21 - ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل 1/ 547 أنا الرجل الحامي الذّمار وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي 2/ 128 أهل الكلام وأهل الرأي قد جهلوا علم الحديث الذي ينجو به الرجل لو أنهم عرفوا الآثار ما انحرفوا عنها إلى غيرها لكنهم جهلوا 2/ 164 وجيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطل 1/ 507 أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكمًا بالحق قوالًا 2/ 91 حرف الميم: أمرتك أمرًا حازمًا فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادمًا 1/ 557 حرف النون: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا 1/ 124 وما أدري إذا يممت أرضًا أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني 2/ 106 حرف الهاء: إذا قاسها الآسي النِّطاسي أدبرت غثيثتها أو زاد وهيًا هزومها 2/ 140

خامسا: فهرس الأعلام

خامسًا: فهرس الأعلام 1 حرف الألف: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا: 1/ 449. إبراهيم بن الحارث بن عبادة بن الصامت: 2/ 56 إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان "أبو ثور": 2/ 48. إبراهيم بن السري بن سهل "الزجاج": 2/ 91 إبراهيم بن يزيد بن عمرو بن الأسود "النخعي": 1/ 367. إبراهيم بن يسار بن هانئ "النظام": 1/ 379 أحمد بن علي أبو بكر الرازي "الجصاص": 1/ 402 أحمد بن محمد بن حنبل "الإمام أحمد" أحمد بن نصر بن محمد الجزري: 1/ 134. أسامة بن زيد بن حارثة: 1/ 281 أسلم أو إبراهيم أبو رافع مولى العباس بن عبد المطلب: 2/ 394. الأسود بن يزيد بن قيس النخعي: 1/ 399 أشيم الضبابي: 1/ 315. امرؤ القيس بن حجر الكندي: 1/ 507 أنس بن مالك بن النضر: 1/ 318 أوس بن الصامت بن قيس الأنصاري: 2/ 38 حرف الباء: البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري: 1/ 364 أبو بردة: هانئ بن نيار: 1/ 596. البرمكي: عمر بن أحمد بن إبراهيم 2/ 271.

_ 1 اكتفينا بذكر اسم العلم في الصفحة التي ترجم له فيها مرتبًا ترتيبًا أبجديًّا مع إسقاط: "ابن، وأبو، وأم، ولام التعريف".

بروع بنت واشق الأشجعية: 1/ 323-2/ 158. بريرة- مولاة عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- 1/ 555. البستي: حمد بن محمد بن إبراهيم: 2/ 14. بكر بن محمد النسائي: 2/ 356. أبو بكرة: نفيع بن الحارث بن كلدة "أبو بكرة": 1/ 348 حرف التاء: تماضر بنت عمرو بن الحارث "الخنساء": 1/ 153. التميمي: عبد العزيز بن الحارث بن أسد: 1/ 132. حرف الثاء: الثلجي: محمد بن شجاع: 2/ 14. أبو ثور: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان: 2/ 48. حرف الجيم: جابر بن زيد الأزدي "أبو الشعثاء": 1/ 401. جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري: 1/ 261. الجاحظ: عمرو بن بحر بن محبوب: 2/ 350. الجبائي: محمد بن عبد الوهاب أبو علي: 1/ 328. جران العود: عامر بن الحارث بن كلفة: 2/ 87. الجزري: أحمد بن نصر بن محمد الجزري: 1/ 134. جندب بن جنادة بن سفيان، أبو ذر الغفاري: 2/ 119. ابن جني: عثمان بن جني النحوي 2/ 91. أبو جهل: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي: 1/ 169. حرف الحاء: حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي: 1/ 387. الحارث بن عمرو الثقفي: 2/ 169. الحباب بن المنذر بن الجموح: 2/ 345. الحسن بن حامد بن علي: 1/ 133. الحسن بن علي بن أبي طالب: 1/ 333. الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري التابعي: 1/ 400. الحسين بن باشر المخرمي: 2/ 388. الحسين بن علي بن أبي طالب: 1/ 333. حفصة بنت عمر بن الخطاب "أم المؤمنين": 1/ 593. حمد بن محمد بن إبراهيم البستي: 2/ 14.

حمل بن مالك بن النابغة الهذلي: 1/ 314. حرف الخاء: الخثعمية: 2/ 173. خداش بن بشر بن خالد التميمي: 2/ 140. الخرباق بن عمرو "ذو اليدين": 1/ 322. الخرقي عمر بن الحسين بن عبد الله: 2/ 370. خزيمة بن ثابت الأنصاري: 2/ 285. أبو الخطاب: محفوظ بن أحمد بن الحسن: 1/ 121. الخنساء: تماضر بنت عمرو: 1/ 153. حرف الدال: الدارقطني: علي بن عمر بن أحمد: 1/ 261. داود بن علي بن خلف الظاهري: 1/ 425. حرف الذال: أبو ذر: جندب بن جنادة بن سفيان: 2/ 119. ذكوان أبو صالح السمان المدني: 1/ 357. ذو اليدين: الخرباق بن عمرو: 1/ 322. حرف الراء: رافع بن خديج بن رافع الأنصاري: 1/ 285. أبو رافع: أسلم أو إبراهيم مولى العباس بن عبد المطلب: 2/ 394. ربيعة بن أبي عبد الرحمن المدني: 1/ 357. حرف الزاي: الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي: 1/ 394. الزجاج: إبراهيم بن السري بن سهل: 2/ 91. زيد بن أرقم الأنصاري: 1/ 408. زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري: 1/ 320. زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري: 1/ 318. زياد بن معاوية الذبياني: 2/ 86. حرف السين: سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي: 2/ 345. سعد بن مالك بن سنان أبو سعيد الخدري: 1/ 319. سعد بن محمد بن الحسن العوفي: 1/ 331. سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري: 2/ 340.

سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي: 1/ 399. أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري: 1/ 398. سنان بن مسلمة الجهني: 1/ 580. سهل بن أبي صالح السمان: 1/ 357. سيبويه: عمرو بن عثمان بن قنبر: 2/ 88. حرف الشين: شريح بن الحارث بن قيس الكندي القاضي: 1/ 398. أبو الشعثاء: جابر بن زيد الأزدي: 1/ 401. حرف الصاد: صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل: 2/ 56. صخر بن عمرو بن الحارث السلمي: 1/ 153. حرف الضاد: الضحاك بن سفيان بن عوف الكلابيك 1/ 315. ضمرة بن ضمرة بن جابر النهشلي: 1/ 240. حرف الطاء: الطبري: محمد بن جرير بن يزيد: 1/ 402. طلحة بن عبيد الله بن عثمان القرشي: 1/ 394. طلق بن علي بن طلق بن عمرو السحيمي: 1/ 272. حرف العين: عائشة بنت أبي بكر الصديق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: 1/ 187. عامر بن الحارث بن كلفة "جران العود": 2/ 87. عامر بن عبد الله بن الجراح "أبو عبيدة": 1/ 318. عبادة بن نسيّ الشامي: 2/ 170. العباس بن عبد المطلب: 1/ 393. عبد الرحمن بن صخر الدوسي "أبو هريرة": 1/ 272-401. عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري: 1/ 316. عبد الرحمن بن غنم الأشعري: 2/ 170. عبد العزيز بن جعفر بن أحمد "غلام الخلال": 1/ 534. عبد العزيز بن الحارث التميمي: 1/ 132. عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: 1/ 332. عبد الله بن الزبعري بن قيس السهمي: 2/ 18. عبد الله بن الزبير بن العوام: 1/ 332.

عبد الله بن الصامت الغفاري البصري: 2/ 119. عبد الله بن عثمان بن عامر "أبو بكر الصديق". عبد الله بن عباس بن عبد المطلب: 1/ 211. عبد الله بن عمر بن الخطاب: 1/ 262. عبد الله بن قيس بن سليم "أبو موسى الأشعري": 1/ 318. عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب: 1/ 203. عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: 2/ 88. عبد الله بن الحسن بن دلال الكرخي: 1/ 356. عبد الله بن الحسن العنبري: 2/ 351. عثمان بن جني الموصلي، أبو الفتح: 2/ 91. عثمان بن مظعون الجمحي: 2/ 21. عطاء بن أبي رباح القرشي: 2/ 85. عقبة بن عامر الجهني 2/ 340. ابن عقيل: علي بن عقيل بن محمد الحنبلي: 1/ 214. عكرمة بن عبد الله "مولى ابن عباس": 1/ 211 علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي التابعي: 1/ 399. علي بن أحمد بن مهدي "الدارقطني": 1/ 261. علي بن عقيل بن محمد الحنبلي: 1/ 214. علي بن فصال بن غالب المجاشعي النحوي: 2/ 93. عمر بن أحمد بن إبراهيم البرمكي: 2/ 271. عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي: 2/ 370. عمرو بن بحر بن محبوب الكناني "الجاحظ": 2/ 350. عمرو بن عثمان بن قنبر "سيبويه": 2/ 88. عمرو بن العاص بن وائل القرشي: 2/ 339. عمرو بن قيس بن أم مكتوم: 2/ 18. عمرو بن هشام بن المغيرة "أبو جهل": 1/ 169. عيسى بن أبان بن صدقة الحنفي: 2/ 48 حرف الغين: الغزالي: محمد بن محمد بن محمد أبو حامد غيلان بن سلمة الثقفي: 1/ 511. حرف الفاء: فاطمة الزهراء بنت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- 2/ 16.

فاطمة بنت قيس بن خالد: 1/ 595. فريعة بنت مالك بن سنان الخدرية: 1/ 316. ابن فصال النحوي: علي بن فصال بن غالب: 2/ 93. الفضل بن العباس بن عبد المطلب: 1/ 280. حرف القاف: ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: 2/ 88. قيس بن الحطيم بن عدي بن عمرو الخزري: 2/ 106. حرف اللام: لبيد بن ربيعة بن مالك العامري: 2/ 21. لقيظ بن يعمر بن خارجة الإيادي: 2/ 381. حرف الكاف: الكرخي: عبيد الله بن الحسن بن دلال: 1/ 356. حرف الميم: مالك بن أنس بن مالك الأصبحي. "الإمام مالك". ماعز بن مالك الأسلمي: 1/ 595. المثقب العبدي: 2/ 106. محفوظ بن أحمد بن الحسن "أبو الخطاب: 1/ 121. محمد بن إدريس الشافعي "الإمام الشافعي": 1/ 103. محمد بن إسماعيل القفال الشاشي: 2/ 52. محمد بن جرير بن يزيد الطبري: 1/ 402. محمد بن الحسين بن محمد الفراء "القاضي أبو يعلى": 1/ 122. محمد بن داود بن علي الظاهري: 2/ 31. محمد بن شجاع الثلجي: 2/ 14. محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي "أبو علي": 1/ 328. محمد بن عيسى بن سورة السلمي "الترمذي": 2/ 170. محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري: 1/ 314. مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري: 1/ 589. معاذ بن جبل الأنصاري: 1/ 372. معقل بن سنان الأشجعي: 1/ 223. المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي: 1/ 314. أبو موسى الأشعري: عبد الله بن قيس بن سليم: 1/ 318.

ميمونة بنت الحارث الهلالية "أم المؤمنين": 2/ 393. حرف النون: النظام: إبراهيم بن يسار بن هانئ: 1/ 379. النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري: 1/ 333. النعمان بن ثابت الكوفي "الإمام أبو حنيفة" 1/ 104. نقيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو الثقفي "أبو بكرة": 1/ 348. حرف الهاء: هانئ بن نيّار الأنصاري "أبو بردة": 1/ 596. أبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر الدوسي: 1/ 272-401. هلال بن أمية بن عامر الأنصاري: 2/ 38. همام بن غالب بن أبي صعصعة: 2/ 128. حرف الياء: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب "أبو يوسف": 1/ 351. يعقوب بن إبراهيم بن سطور "القاضي يعقوب": 1/ 473. يعلى بن أمية بن أبي عبيدة: 1/ 118.

سادسا: فهرس الفرق والطوائف والملل:

سادسًا: فهرس الفرق والطوائف والملل: الإمامية: 1/ 300. الأنصار: 1/ 318. أصحاب الحديث: 1/ 361. أهل حمص. أهل الظاهر. أهل العربية. أهل العرف: 1/ 545. أهل قباء: 1/ 318. أهل اللسان: 1/ 551. أهل اللغة: 1/ 557. أهل المدينة. التابعون. الجدليّون. الجهمية. الخلف. الخوارج: 1/ 411. الزنج: 1/ 540. السلف. السمنية: 1/ 288. السوفسطائية: 1/ 289. العرب. القدرية: 1/ 236-313. المجوس: 1/ 556. المرجئة: 1/ 330. المعتزلة: 1/ 105. النحويون. النصارى: 1/ 301. الواقفية: 1/ 134. اليهود: 1/ 377.

سابعا: فهرس المراجع:

سابعًا: فهرس المراجع: 1- الإبهاج في شرح المنهاج، لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 756هـ، أكمله ولده تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 771هـ، طبعة الكليات الأزهرية، ودار الكتب العلمية. تحقيق الدكتور شعبان محمد إسماعيل. 2- الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911هـ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة الهيئة المصرية العامّة للكتاب سنة 1975م. 3- أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، للدكتور مصطفى سعيد الخن، طبعة مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1392هـ/ 1972م. 4- أثر الأدلة المختلف فيها "مصادر التشريع التبعية" في الفقه الإسلامي، للدكتور مصطفى ديب البغا، طبعة دار الإمام البخاري بدمشق. 5- الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد على بن حزم الأندلسي الظاهري المتوفى سنة 456هـ، مطبعة العاصمة بالقاهرة، نشر زكريا علي يوسف.

6- الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين علي بن أبي علي بن محمد الآمدي المتوفى سنة 631هـ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت سنة 1400هـ/ 1980م. 7- أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي المتوفى سنة 370هـ، مطبعة الأوقاف الإسلامية في إستنابول سنة 1335هـ. 8- أحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ، تحقيق أستاذنا الشيخ عبد الغني عبد الخالق، طبعة مصر سنة 1371هـ/ 1952م. 9- أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي المتوفى سنة 543هـ، تحقيق علي محمد البجاوي، طبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة. 10- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للإمام محمد بن على الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ، تحقيق الدكتور شعبان إسماعيل. دار الكتبي بالقاهرة 1413هـ/ 1992م. ودار السلام بالقاهرة 1418هـ/ 1997م. 11- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي ببيروت سنة 1399هـ/ 1979م. 12- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر الأندلسي المتوفى سنة 463هـ، تحقيق علي محمد البجاوي مطبعة نهضة مصر بالفجالة. 13- أسد الغابة في معرفة الصحابةن لعز الدين علي بن محمد الشيباني.

المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة 630هـ، طبعة دار الشعب بالقاهرة سنة 1970م. 14- الإشارات في الأصول، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي المتوفى سنة 474هـ، الطبعة الرابعة بمطبعةالتليلي بتونس سنة 1368هـ. 15- الأشباه والنظائر، لزين الدين بن إبراهيم، المعروف بابن نجيم الحنفي المتوفى سنة 970هـ، تحقيق عبد العزيز الوكيل، طبعة مؤسسة الحلبي بالقاهرة سنة 1387هـ/ 1968م. 16- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بصمر سنة 1378هـ/ 1959م. 17- الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ: أحمد بن علي بن محمد المعروف بابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، مطبعة السعادة بمصر سنة 1328هـ. 18- أصول الشاشي، لنظام الدين أحمد بن محمد بن إسحاق الشاشي المتوفى سنة 344هـ، ومعه عمدة الحواشي للمولى محمد فيض الحسن الكنكوهي، طبعة دار الكتاب العربي في بيروت سنة 1402هـ/ 1982م. 19- أصول مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، مطبعة جامعة عين الشمس بالقاهرة سنة 1394هـ/ 1974م. 20- الاعتصام، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي المتوفى سنة 790هـ، المكتبة التجارية الكبرى بمصر.

21- الأعلام، لخير الدين الزركلي، الطبعة الثالثة في بيروت سنة 1389هـ/ 1969م. 22- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لشمس الدين أبي عبد الله بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ، بعناية طه عبد الرؤوف سعد، طبعة دار الجبل ببيروت سنة 1973م. 23- الأم، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ مطابع دار الشعب بالقاهرة سنة 1388هـ/ 1968م. 24- إنباه الرواة على أنباه النحاة، لجمال الدين على بن يوسف القفطي المتوفى سنة 646هـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطعبة دار الكتب المصرية سنة 1374هـ/ 1956م. 26- البداية والنهاية في التاريخ، للحافظ إسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير المتوفى سنة 774هـ، مطبعة السعادة بمصر سنة 1351هـ/ 1932م. 27- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ، الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1348هـ. 28- بذل المجهود في حل ألفاظ أبي داود، لخليل بن أحمد السهارنفوري المتوفى سنة 1346هـ، طبع دار الكتب العلمية بيروت.

29- البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الله الجويني المتوفى سنة 478هـ، تحقيق الدكتور عبد العظيم الديب، مطابع الدوحة في قطر سنة 1399هـ. 30- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911هـ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1384هـ/ 1965م. 31- تاج التراجم في طبقات الحنفية، لزين الدين قاسم بن قطلوبغا المتوفى سنة 879هـ، مطبعة العاني في بغداد سنة 1962م. 32- تاريخ بغداد، لأبي بكر أحمد بن علي، الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ، طبعة الخانجي بالقاهرة سنة 1349هـ/ 1931م. 33- تأسيس النظر، لأبي زيد عبيد الله بن عمر الدبوسي الحنفي المتوفى سنة 430هـ، طبعة دار الفكر سنة 1399هـ/ 1979م، وي آخره أصول الكرخي. 34- التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي الشيرازي المتوفى سنة 476هـ، تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو، طبعة دار الفكر بدمشق سنة 1400هـ/ 1980م. 35- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، تحقيق علي محمد البجاوي، طبعة الدار المصرية للتأليف والترجمة سنة 1966م. 36- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لعثمان بن علي الزيلعي المتوفى سنة 743هـ، المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1314هـ. 37- تخريج أحاديث أصول البزدوي، لزين الدين قاسم بن قطلوبغا.

المتوفى سنة 879هـ، طبعة مكتبة نور محمد بكراتشي. 38- تخريج أحاديث مختصر المنهاج، للحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة 804هـ، تحقيق صبحي السامرائي، مطبوع ضمن العدد الثاني من مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي، كلية الشريعة بمكة المكرمة سنة 1399هـ. 39- تخريج الفروع على الأصول، لشهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني الشافعي المتوفى سنة 656هـ، تحقيق الدكتور محمد أديب صالح، مطبعة جامعة دمشق سنة 1382هـ/ 1962م. 40- تذكرة الحفاظ، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748هـ، الطبعة الثانية بحيدر أباد الدكن بالهند 1375هـ/ 1955م. 41- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي المتوفى سنة 544هـ، تحقيق الدكتور أحمد بكير طبعة مكتبة الحياة ببيروت، ومكتبة الفكر بطرابلس ليبيا سنة 1387هـ/ 1967م. 42- ترتيب مسند الإمام الشافعي، لمحمد عابد السندي المتوفى سنة 1257هـ، مطبعة السعادة بمصر سنة 1370هـ/ 1951م. 43- التعريفات، لعلي بن محمد الشريف الجرجاني الحنفي المتوفى سنة 816هـ، طبعة الدار التونسية للنشر سنة 1971م. 44- تفسير ابن كثير = تفسير القرآن العظيم، لإسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير المتوفى سنة 774هـ. طبع دار الفكر، الطبعة الثانية سنة 1389هـ/ 1970م. 45- تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن

أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة 671هـ، طبعة دار الكتب المصرية سنة 1380هـ/ 1960م. 46- تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد أديب صالح، الطبعة الثالثة بالمكتب الإسلامي سنة 1404هـ/ 1984م. 47- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، للحافظ أحمد بن على المعروف بابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، تحقيق الدكتور شعبان محمد إسماعيل طبعة الكليات الأزهرية. 48- التلويح على التوضيح، لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة 792هـ، طبعة نور محمد، كراتشي سنة 1400هـ الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية بمصر سنة 1322هـ. 49- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، لجمال الدين عبد الرحيم ابن الحسن الإسنوي المتوفي سنة 772هـ، طبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق الدكتور محمد حسن هيتو سنة 1400هـ/ 1980م، الطبعة الثانية بمطبعة دار الإشاعة الإسلامية سنة 1387 المصورة عن طبعة المطبعة الماجدية بمكة المكرمة سنة 1353هـ. 50- التمهيد في أصول الفقه، للإمام محفوظ بن أحمد أبو الخطاب الحنبلي المتوفى سنة 510هـ، تحقيق الدكتور مفيد محمد أبو عمشة والدكتور محمد بن علي بن إبراهيم، طبع جامعة أم القرى 1406هـ 1985م. 51- تهذيب التهذيب، للحافظ أحمد بن علي المعروف بابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، طبعة حيدر أباد الدكن بالهند سنة 1326هـ.

52- التوضيح على التنقيح، لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المتوفى سنة 747هـ، ومعه حاشية الشريف الجرجاني المتوفى سنة 816هـ عليه، طبعة نور محمد كراتشي سنة 1400هـ، الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية بمصر سنة 1322هـ. 53- تيسير التحرير شرح كتاب التحرير، لكمال الدين، محمد بن عبد الواحد ابن الهمام المتوفى سنة861هـ لمحمد أمين، المعروف بأمير بادشاه الحنفي المتوفى حوالي987هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1350هـ. 54- جامع الأصول من أحاديث الرسول، لأبي السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري المتوفى سنة 606هـ، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1368هـ/ 1949م. 55- جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر القرطبي المتوفى سنة 463هـ، الطبعة الثانية بالقاهرة سنة 1388هـ/ 1968م. 56- جامع العلوم والحكم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1346هـ. 57- الجدل على طريقة الفقهاء، لأبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 513هـ، نشره المعهد الفرنسي بدمشق سنة 1967م بتحقيق جورج مقدسي. 58- جذوة المقتبس، لأبي عبد الله محمد بن فتوح بن عبد الله الحميدي المتوفى سنة 488هـ، طبعة الهيئة المصرية العامّة للكتاب بالقاهرة. 59- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، لشمس الدين

محمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية، المتوفى سنة 751هـ، طبعة دار القلم في بيروت سنة 1977م. 60- جمع الجوامع، لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 771هـ، مطبوع مع حاشية البناني على شرح المحلى عليه، دار إحياء الكتب العربية بمصر. 61- الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لعبد القادر بن محمد بن نصر القرشي المتوفى سنة 775هـ، طبعة حيدر أباد الدكن بالهند سنة 1332هـ. 62- حاشية البناني، عبد الرحمن بن جاد الله المتوفى سنة 1198هـ على شرح جلال الدين المحلى على جمع الجوامع، طبعة دار إحياء الكتب العربية لعيسي البابي الحلبي بمصر. 63- الحدود في الأصول، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي المتوفى سنة 474هـ، تحقيق الدكتور نزيه حماد، طبعة مؤسسة الزعبي ببيروت بسنة 1392هـ/ 1973م. 64- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911هـ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة عيسى البابي الحلبي بمصر سنة 1387هـ 1967م. 65- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني المتوفى سنة 430هـ، طبعة مصورة عن مطبعة السعادة بمصر سنة 1351هـ 1932م. 66- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لصفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري المتوفى بعد سنة 923هـ، تحقيق محمود عبد الوهاب فايد مطبعة الفجالة الجديدة بالقاهرة.

67- الدراية في تخريج أحاديث الهداية، للحافظ أحمد بن علي المعروف بابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، مطبعة المدني بالقاهرة سنة 1378هـ/ 1967م. 68- الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، لبرهان الدين إبراهيم بن على المعروف بابن فرحون اليعمري المالكي المتوفى سنة 799هـ، تحقيق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، طبع دار التراث للطبع والنشر بالقاهرة سنة 1394هـ/ 1974، الطبعة الأولى بالفحامين بمصر سنة 1351هـ. 69- ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي المتوفى سنة 748هـ طبعة إحياء التراث. 70- ذيل طبقات الحنابلة، لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795هـ، مطبعة السنة المحمدية سنة 1372هـ/ 1952م. 71- الردّ على الجهمية والزنادقة، للإمام أحمد بن حنبل الشيباني المتوفى سنة 241هـ، تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة، طبع دار اللواء بالرياض سنة 1397هـ/ 1977م. 72- ردّ المحتار على الدر المختار، لمحمد أمين المعروف بابن عابدين المتوفى سنة 1252هـ/ المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1272هـ. 73- رسائل ابن عابدين، للعلامة محمد أمين ابن عابدين المتوفى سنة 1252هـ الطبعة الأولى سنة 1325هـ. 74- الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، طبع مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1358هـ/ 1940م. 74- روضة الناظر وجنة المناظر، لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة

المقدسي المتوفي سنة 620هـ، ومعه نزهة الخاطر العاطر لابن بدران: عبد القادر بن أحمد المتوفى سنة 1346هـ، مكتبة المعارف بالرياض. 76- روضة الناظر وجنة المناظر، لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق الدكتور عبد العزيز السعيد، الطبعة الثانية لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1399هـ/ 1979م. 77- روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة المقدسي، تحقيق وتعليق الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، مكتبة الرشد بالرياض 1414هـ/ 1993م. 78- سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي، لمحمد بن عبد الرحمن المباكفوري المتوفى سنة 1353هـ، مطبعة الفجالة الجديدة بالقاهرة سنة 1387هـ/ 1967م. 79- سنن الدراقطني، للحافظ علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة 385هـ، دار المحاسن للطباعة بالقاهرة، سنة 1386هـ/ 1966. 80- سنن الدارمي، لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى سنة 255هـ، تحقيق محمد أحمد دهمان، طبعة دار الكتب العلمية في بيروت. 81- سنن أبي داود، للإمام سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275هـ، طبعة مصطفي البابي الحلبي بمصر سنة 1371هـ/ 1952م. 82- السنن الكبرى = سنن البيهقي، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي

البيهقي المتوفى سنة 458هـ، الطبعة الأولى بحيدر أباد الدكن بالهند سنة 1355هـ. 83- سنن ابن ماجة، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني المتوفى سنة 275هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر سنة 1372هـ/ 1952م. 84- سنن النسائي، لأحمد بن شعيب بن علي النسائي المتوفى سنة 303هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1383هـ/ 1964م. 85- سير أعلام النبلاء، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 748هـ، طبعة مؤسسة الرسالة سنة 1402هـ/ 1982م. 86- السيرة النبوية، لأبي محمد عبد الملك بن هشام الحميري المتوفى سنة 218هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1375هـ/ 1955م. 87- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ، طبعة القدسي بالقاهرة سنة 1350هـ. 88- شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول، لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684هـ، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، طبعة مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر سنة 1393هـ/ 1973م. 89- شرح شواهد المغني، لجلال الدين بن عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 911هـ، طبعة دار الحياة ببيروت سنة 1386هـ/ 1966.

90- شرح صحيح مسلم، لمحيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676هـ، المطبعة المصرية ومكتبتها بالقاهرة سنة 1349هـ. 91- شرح العبادي، أحمد بن قاسم العبادي الشافعي المتوفى سنة 992هـ، على شرح الجلال المحلي المتوفى سنة 846هـ على الورقات في الأصول، طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1356هـ/ 1937م، بهامش إرشاد الفحول. 92- شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، للقاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي المتوفى سنة 756هـ، وبهامشه حاشية التفتازاني المتوفى سنة 791هـ، وحاشية الشريف الجرجاني المتوفى سنة 816هـ عليه، طبعة مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة 1393هـ/ 1973م. 93- شرح الكافية الشافية، لجمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي المتوفى سنة 672هـ، تحقيق الدكتور عبد المنعم هريدي، طبعة دار المأمون للتراث بدمشق سنة 1402هـ/ 1982م. 94- شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير في أصول الفقه، للعلامة الشيخ محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي، المتوفى سنة 972هـ، طبعة جامعة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية السعودية. 95- شرح المحلي على جمع الجوامع، لجلال الدين محمد بن أحمد المحلي المتوفى سنة 846هـ، مطبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة، مطبوع مع حاشية البناني عليه. 96- شرح معاني الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي المتوفى سنة 231هـ، مطبعة الأنوار المحمدية بالقاهرة. 97- شرح مختصر الروضة لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي

المتوفى سنة 716هـ، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة 1409هـ. 98- شفاء الغليل في بيان الشبيه والمخيل ومسالك التعليل، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505هـ، تحقيق الدكتور حمد الكبيسي. مطبعة الإرشاد ببغداد سنة 1390هـ/ 1971م. 99- الصحاح، لإسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى في حدود سنة 400هـ، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، مطابع دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة 1377هـ. 100- صحيح البخاري، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 356هـ، طبعة دار الطباعة العامرة بإستنابول سنة 1315هـ. 101- صحيح البخاري بشرح الكرماني، محمد بن يوسف الكرماني المتوفى سنة 786هـ، المطبعة البهية المصرية سنة 1358هـ/ 1939م، الطبعة الثانية. 102- صحيح البخاري مع حاشية السندي، طبعة دار الشعب بالقاهرة. 103- صحيح ابن خزيمة، لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي المتوفى سنة 1311هـ، طبعة المكتب الإسلامي سنة 1390هـ، بتحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي. 104- صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري المتوفى سنة 261هـ، طبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1374هـ/ 1955م، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 105- صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لأحمد بن حمدان الحراني الحنبلي المتوفى سنة 695هـ، خرج أحاديثه وعلق عليه محمد

ناصر الدين الألباني الطبعة الثانية بالمكتب الإسلامي بدمشق سنة 1394هـ. 106- طبقات الحفاظ، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 911هـ، تحقيق علي محمد عمر، طبعة مكتبة وهبة بالقاهرة سنة 1393هـ/ 1973م. 107- طبقات الحنابلة، لأبي الحسين محمد بن أبي يعلى الفراء الحنبلي المتوفى سنة 526هـ، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1371هـ/ 1952م تحقيق محمد حامد الفقي. 108- طبقات ابن اسعد = الطبقات الكبرى، لأبي عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصري المتوفى سنة 230هـ، مطابع دار التحرير بالقاهرة سنة 1388هـ 1968م. 109- الطبقات السنية في تراجم الحنفية، لتقي الدين بن عبد القادر التميمي المتوفى سنة 1055هـ، تحقيق الدكتور عبد الفتاح الحلو، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة سنة 1390هـ. 110- طبقات الشافعية، لجمال الدين عبد الرحيم الإسنوي المتوفى سنة 772هـ، تحقيق الدكتور عبد الله الجبوري، الطبعة الأولى بمطبعة الإرشاد ببغداد سنة 1390هـ/ 1970م. 111- طبقات الشافعية، لتقي الدين أبي بكر بن أحمد بن محمد المعروف بابن قاضي شهبة الدمشقي المتوفى سنة 851هـ، تحقيق الدكتور عبد العليم خان، الطبعة الأولى بحيدر أباد الدكن بالهند سنة 1398هـ/ 1978م. 112- طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي

المتوفي سنة 771هـ، تحقيق الدكتور عبد الفتاح الحلو والدكتور محمود الطناحي، طبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1383هـ/ 1964م. 113- طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476هـ، طبعة بغداد سنة 1356هـ، طبعة دار الرائد العربي في بيروت سنة 1970م، بتحقيق الدكتور إحسان عباس. 114 طبقات المفسرين، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911هـ، طبعة لايدن سنة 1839م. 115- عارضة الأحوذي، للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المعافري الأندلسي المتوفى سنة 543هـ، طبعة مكتبة المعارف في بيروت. 116- العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458هـ، بتحقيق الدكتور أحمد سير المباركي، طبعة مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1400هـ/ 1980م. 117- العرف والعادة في رأي الفقهاء، لشيخنا الشيخ أحمد فهمي أبو سنة، مطبعة الأزهر بالقاهرة سنة 1947م. 118- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، لأبي الطيب تقي الدين محمد بن أحمد الحسني المكي الفاسي المتوفى سنة 832هـ، تحقيق فؤاد سيد، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة. 119- علم أصول الفقه، للشيخ عبد الوهاب خلاف المتوفي سنة 1956م، مطبعة النصر بالقاهرة سنة 1376هـ/ 1956م، الطبعة السابعة.

120- غاية النهاية في طبقات القراء، لشمس الدين محمد بن محمد الجزري المتوفى سنة 833هـ، مكتبة الخانجي بمصر سنة 1352هـ/ 1933م. 121- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن محمد المعروف بابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، المطبعة السلفية بالقاهرة. 122- فتح العزيز في شرح الوجيز، للرافعي المتوفى سنة 623هـ، مطبعة التضامن الأخوي بالقاهرة سنة 1347هـ، بهامش المجموع شرح المهذب. 123- فتح الغفار بشرح المنار، لزين الدين بن إبراهيم الشهير بابن نجيم المتوفى سنة 970هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1355هـ/ 1936م. 124- فتح القدير الجامع بين فنَّيْ الرواية والدراية من علم التفسير، للإمام محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ، الطبعة الثالثة بدار الفكر في بيروت، سنة 1393هـ/ 1973م. 125- الفتح المبين في طبقات الأصوليين، للشيخ عبد الله مصطفى المراغي، الطبعة الثانية في بيروت، سنة 1394هـ/ 1974م. 126- الفرق بين الفرق، لعبد القاهر بن طاهر البغدادي الإسفراييني المتوفى سنة 429هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني بالقاهرة. 127- الفروع، لشمس الدين محمد بن مفلح المقدسي المتوفى سنة 763هـ، ومعه تصحيح الفروع لعلي بن سليمان المرداوي المتوفى

سنة 885هـ، الطبعة الثانية بدار مصر للطباعة سنة 1379هـ/ 1960م. 128- الفروق، لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684هـ، الطبعة الأولى بمطبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر سنة 1347هـ. 129- الفقيه والمتفقه، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ، طبعة دار الكتب العلمية ببيروت سنة 1400هـ/ 1980م. 130- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي المتوفى سنة 1376هـ، نشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة سنة 1396هـ بعناية عبد العزيز القاري. 131- الفهرست، لأبي الفرج محمد بن إسحاق الوراق المعروف بابن النديم المتوفى سنة 380هـ، تحقيق رضا تجدد، طبعة طهران سنة 1391هـ/ 1971م. 132- الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لأبي الحسنات محمد بن عبد الحي اللكنوي المتوفى سنة 1304هـ، طبعة نور محمد بكراتشي سنة 1393هـ. 133- فوات الوفيات، لمحمد بن شاكر بن أحمد الكتبي المتوفي سنة 764هـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر سنة 1951م. 134 فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، لعبد العليّ محمد بن نظام الدين الأنصاري المتوفى سنة 1225هـ، المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1322هـ مطبوع بهامش المستصفى.

135- فيض القدير شرح الجامع الصغير، لمحمد بن عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة 1031هـ، مطبعة مصطفي محمد بالقاهرة سنة 1356هـ/ 1938م. 136- القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي المتوفى سنة 817هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1371هـ/ 1353هـ. 137- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لعز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي المتوفى سنة 660هـ، طبعة المكتبة الحسينية بالقاهرة سنة 1353هـ. 138- القواعد النورانية الفقهية، لأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1370هـ/ 1951م. 139- القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية، لأبي الحسن علي بن محمد بن عباس الحنبلي الشهير بابن اللحام المتوفى سنة 803هـ/ تحقيق حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1375هـ/ 1956م. 140- القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، للشوكاني، تحقيق عبد الرحمن عبد الخالق، طبعة دار القلم - الكويت. 141- القياس، لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية المتوفى سنة 728هـ، الطبعة الثالثة بالمطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1358هـ. 142- القياس الشرعي، لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي المتوفى سنة 436هـ، طبع المعهد العلمي الفرنسي بدمشق سنة 1384هـ/ 1964م، في آخر كتاب المعتمد للبصري.

143- الكافية في الجدل، لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني المتوفي سنة 478هـ، تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود مطبعة، ومكتبة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1399هـ/ 1979م. 144- كشاف اصطلاحات الفنون لمحمد أعلى بن علي التهانوي المتوفى سنة 1158هـ تصوير عن طبعة كلكتا بالهند سنة 1862هـ. 145 الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لجار الله محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1385هـ/ 1966م. 146- كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري المتوفى سنة 730هـ، مطبعة دار سعادات بإستنبول سنة 1308هـ. 147- كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة 1162هـ، طبعة القدسي بالقاهرة سنة 1352هـ. 148- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لمصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة وكاتب جلبي، طبعة إستنابول سنة 1351هـ. 149- الكفاية في علم الرواية، لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ، مطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1972م. 150- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، لمحمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة.

151- اللباب في تهذيب الأنساب، لعز الدين أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة 630هـ، طبعة دار صادر بيروت. 152- لسان العرب، لجمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري المتوفي سنة 711هـ، طبعة دار صادر بيروت سنة 1374هـ/ 1955م. 153- لسان الميزان، لأحمد بن علي المعروف بابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، طبعة حيدر أبادر الدكن بالهند سنة 1330هـ. 154- اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1358هـ/ 1939م. 155- المبدع في شرح المقنع، لبرهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح المتوفى سنة 884هـ، طبعة المكتب الإسلامي سنة 1400هـ. 156- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين علي بن أبي الهيثمي المتوفى سنة 807هـ، طبعة القدسي بالقاهرة سنة 1352هـ. 157- المجموع شرح المهذب، لمحيي الدين يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676هـ، مطبعة التضامن الأخوي بالقاهرة سنة 1347هـ. 158- مجموع الفتاوى، لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني المتوفى سنة 728هـ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي، الطبعة الأولي بالرياض سنة 1381هـ.

159- المحصول في علم الأصول، لفخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفي سنة 606هـ، تحقيق الدكتور طه جابر العلواني، مطابع الفرزدق بالرياض سنة 1399هـ/ 1979م. 160- مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي المتوفى بعد سنة 666هـ، الطبعة الثانية بالمطبعة الأميرية ببولاق مصر سنة 1369هـ/ 1950م. 161- مختصر ابن الحاجب = مختصر المنتهى، لجمال الدين عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب المتوفى سنة 646هـ، ومعه شرح العضد عليه، وحاشيتا التفتازاني والشريف الجرحاني على الشرح المذكور، طبعة مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة سنة 1393هـ/ 1973م. 162- مختصر المزني، لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المتوفى سنة 264هـ، طبعة كتاب الشعب بالقاهرة سنة 1388هـ/ 1968م على هامش الأم للشافعي. 163- مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر، للشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي المتوفى سنة 1393هـ. دار القلم بيروت 1391هـ. 164- المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405هـ، تصوير عن طبعة حيدر أباد الدكن بالهند سنة 1335هـ. 165- المستصفى من علم أصول الفقه، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505هـ، تحقيق الدكتور حمزة بن زهير حافظ. ط. السعودية.

166- مسند الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 243هـ، المطبعة الميمينة بالقاهرة سنة 1313هـ. 167- مسند الإمام أبي حنيفة المتوفى سنة 150هـ، تحقيق صفوت السقا، مطبعة الأصيل بحلب سنة 1382هـ/ 1962م. 168- المسودة في أصول الفقه لثلاثة أئمة من آل تيمية تتابعوا على تأليفها. 1- مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية المتوفى سنة 652هـ. 2- شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية المتوفى سنة 682هـ. 3- تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية المتوفى سنة 728هـ. جمعها وبيضها أحمد بن محمد بن أحمد الحراني الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة 745هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني بالقاهرة سنة 1384هـ/ 1964م. 169- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفى سنة 770هـ، المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1323هـ/ 1906م. 170- المصنف، لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211هـ، طبع المكتب الإسلامي ببيروت سنة 1403هـ/ 1983م، الطبعة الثانية. 171- المطلع على أبواب المقنع، لأبي عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي المتوفى سنة 709هـ، الطبعة الأولى للمكتب.

الإسلامي بدمشق سنة 1385هـ/ 1965م 172- المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي المتوفي سنة 436هـ، طبع المعهد الفرنسي بدمشق سنة 1384هـ/ 1964م. بتحقيق محمد حميد الله. 173- معجم الأدباء، لياقوت بن عبد الله الحموي المتوفى سنة 626هـ، طبعة الدكتور أحمد فريد الرفاعي، دار المأمون بالقاهرة سنة 1357هـ/ 1938م. 174- معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، طبعة دمشق من 1957م-1961م. 175- معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس المتوفي سنة 395هـ، تحقيق عبد السلام هارون، طبع دار الفكر ببيروت سنة 1399هـ/ 1989م، مصورة عن طبعة القاهرة سنة 1368م. 176- المعجم الوسيط، قام بإخراجه إبراهيم مصطفى، وأحمد حسن الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد علي النجار، مطابع دار المعارف بمصر سنة 400هـ-1980م. 177- المعونة في الجدل، لأبي إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476هـ، تحقيق الدكتور عبد العزيز العميرتي جمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت 1407هـ/ 1987م. 178- المغني في أصول الفقه، لجلال الدين عمر بن محمد الخبازي المتوفى سنة 691هـ، تحقيق الدكتور محمد مظهر بقا، طبعة مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى سنة 1403هـ. 179- المغني شرح مختصر الخرقي، لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن

قدامة المقدسي. تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر بالقاهرة، الطبعة الثانية 1413هـ/ 1992م. 180- مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، لأبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بالشريف التلمساني المتوفي سنة 771هـ، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، طبعة دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1403هـ/ 1983م. 181- المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصبهاني المتوفى سنة 502هـ، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1381هـ/ 1961م. 182- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح المتوفى سنة 642هـ، طبعة دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1398هـ/ 1978م. 183- الملل والنحل، لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1381هـ، 1961م. 184- مناقب الإمام أحمد بن حنبل، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ، تحقيق الدكتور عبد الله التركي، طبعة مكتبة الخانجي بمصر سنة 1399هـ/ 1979م. 185- مناهج العقول شرح منهاج الأصول، لمحمد بن الحسن البدخشي، مطبعة محمد علي صبيح بالقاهرة، بهامش نهاية السول. 186- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي

ابن الجوزي المتوفى سنة 597هـ، الطبعة الأولى بحيدر أباد الدكن سنة 1359هـ. 187- منتهى السول والأمل في علمَيْ الأصول والجدل، لأبي عمرو عثمان بن عمر المالكي المعروف بابن الحاجب المتوفى سنة 646هـ طبعة دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1405هـ/ 1985م. 188- المنخول من تعليقات الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505هـ، تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو، طبعة دار الفكر بدمشق سنة 1390هـ/ 1970م. 189- المنهاج في ترتيب الحجاج، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474هـ، طبعة باريس سنة 1987، تحقيق الدكتور عبد المجيد تركي. 190- المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، لمجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي المتوفى سنة 928هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبعة عالم الكتب في بيروت سنة 1403هـ/ 1983م. 191- المهذب، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1379هـ. 192- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة 897هـ، تحقيق محمد عبد الرزاق حمزة، المطبعة السلفية بمصر سنة 1351هـ. 193- الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى

اللخمي الشاطبي المتوفى سنة 790هـ، بعناية وتعليق الشيخ عبد الله دراز، طبعة المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 194- الموطأ، للإمام مالك بن أنس الأصبحي المتوفى سنة 179هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة سنة 1370هـ/ 1951م. 195- ميزان الأصول في نتائج العقول، لعلاء الدين السمرقندي، المتوفى سنة 539هـ، تحقيق الدكتور محمد زكي عبد البر، الطبعة الأولى سنة 1404هـ/ 1984م. 196- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 748هـ، تحقيق على محمد البجاوي، طبعة عيسى البابي الحلبي بمصر سنة 1382هـ/ 1963م. 197- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ليوسف بن تغري بردي الأتابكي المتوفى سنة 874هـ، طبعة دار الكتب المصرية سنة 1349هـ/ 1930م. 198- نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر، لعبد القادر بن أحمد بن مصطفى المعروف بابن بدران الدومي الدمشقي المتوفى سنة 1346هـ، المطبعة السلفية بمصر سنة 1342هـ. 199- نشر البنود على مراقي السعود، لعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي المالكي المتوفى في حدود 1233هـ، مطبعة فضالة بالمحمدية بالمغرب. 200- نصب الراية الأحاديث الهداية، لجمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي المتوفى سنة 762هـ، مطبعة دار المأمون بالقاهرة بعناية المجلس العلمي بالهند سنة 1357هـ/ 1938م.

201- نهاية السول شرح منهاج الأصول، لجمال الدين عبد الرحيم الإسنوي الشافعي المتوفى سنة 772هـ، مطبعة محمد على صبيح بالقاهرة. 202- النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين مبارك بن محمد بن الأثير الجزري المتوفى سنة 606هـ، تحقيق طاهر أحمد الزواوي ومحمود الطناحي، طبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1383هـ/ 1963م. 203- نيل الأوطار شرح منتفى الأخبار، لمحمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1391هـ/ 1971م. 204- هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل باشا البغدادي المتوفى سنة 1339هـ، طبعة إستانبول سنة 1951م. 205- الوافي بالوفيات، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة 764هـ، طبعة فرانز شتاينر في فسبادن بألمانيا سنة 1381هـ/ 1962م. 206- الوصول إلى الأصول، لأبي الفتح أحمد بن علي بن برهان البغدادي المتوفى سنة 518هـ، تحقيق الدكتور عبد الحميد أبو زنيد، مكتبة المعارف بالرياض سنة 1403هـ/ 1983م. 207- وفيات الأعيان وأنباء الزمان، لأبي العباس أحمد بن محمد المعروف بابن خلكان المتوفى سنة 681هـ، الطبعة الأولى بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بالقاهرة، سنة 1367هـ/ 1949م.

باب: بيان بالأخطاء المطبعية التي وقعت في كتاب

باب: بيان بالأخطاء المطبعية التي وقعت في كتاب ... بيان بالأخطاء المطبعية التي وقعت في كتاب "روضة الناظر" الجزء والصفحة السطر العبارة الخطأ العبارة الصحيحة 1/ 114 9 المدعي المدعى 1/ 115 14 المدعي المدعي 1/ 116 6، 7 قميا فيما 1/ 11717 مذهب ثالثمذهبًا ثالثًا 1/ 127 الدليل الأول الدليل الثالث 1/ 142 14 وجود لم وجد ولم 1/ 161 19 بدائها بأدائها 1/ 185 10 إذكر إذا كر 1/ 205 19 متتبعات متتابعات 1/ 268 4 التفاصل التفاضل 1/ 285 3 فكست فسكت 1/ 302 20 فهي فيه 1/ 341 2 وعدل ومعدّل 1/ 341 3 المتردد للتردد 1/ 344 13 عليهم عليه 1/ 373 قبل الأخير المنهاج المنتهى 1/ 382 22 سبيلم سبيلهم 1/ 386 22 عرم عمر 1/ 409 20 ذكر الذكر 1/ 412 الأخير كله كلها 1/ 430 الأخير الاجتماع الإجماع

الجزء والصفحة السطر العبارة الخطأ العبارة الصحيحة 1/ 441 21 يكون مستنده خبر لا يكون مستنده خبرًا 1/ 446 20 هما مما هو مما 1/ 455 24 والقضب والقصب 1/ 457 16 القدم القديم 1/ 458 13 حنيفا وأنا حنيفًا وما أنا 1/ 484 3 فإذا ثبت فإذا أثبت 1/ 494 8 إذا لا يلزم إذ لا يلزم 1/ 496 8 حدًا جدًّا 1/ 527 7 الؤاخذة به المؤاخذة به 1/ 554 3 حذّر الفتنة حذّر من الفتنة 1/ 594 10 حكي حكمي 1/ 602 1 فتمتنع الفرضية فتمتنع النية 1/ 603 14 لمصحلة لمصلحة 1/ 606 20 يواقعها يوقعها 2/ 40 18 بالخصيص بالتخصيص 2/ 50 13 الخصيص التخصيص 2/ 60 2 الخصيص التخصيص 2/ 66 13 جهال جهل 2/ 70 قبل الأخير في العدل في الرواية 2/ 110 18 العبارات العبادات 2/ 121 16 من التخصيص في التخصيص 2/ 135 21 في الرواية في رواية 2/ 140 5 أو زاد وازداد 2/ 141 21 أو نفيهما أو نفيه

الجزء والصفحة السطر العبارة الخطأ العبارة الصحيحة 2/ 158 17 مني فمني 2/ 158 19 لأستحي الله لأستحي من الله 2/ 174 الأخير فأقضي نحو فأقضي على نحو 2/ 187 14 توضح توضيح 2/ 191 22 العلية العلة 2/ 200 7 ماذ صنعت؟ ماذا صنعت؟ 2/ 207 الأخير ملائم له ملائم لها 2/ 213 17 هذي هدْي 2/ 213 17 فأرس فأرى 2/ 232 15 ليس نصًّا ليست نصًّا 2/ 274 10 على عتبار على اعتبار 2/ 276 17 ما ينتفي لا ينقض 2/ 283 15 علية علة 2/ 297 17 يعاقب يعاقبوا 2/ 308 7 انقاسم انقسام 2/ 324 3 سقط وقد يذكر في معرض كونه مانعًا للحكم في الفرع 2/ 329 7 مقصور مقصود 2/ 335 16 المنوسخ المنسوخ 2/ 338 18 بثوت ثبوت 2/ 386 16 للمستثنى للمستفتي

§1/1